قدما،
1
والذين ابتدعوا فن الضرب والقسمة، لا يستحقون اسم «العلماء»، وأنهم لم يكونوا إلا أصحاب تجارب موروثة، شكلت مجموعة من القواعد والخبرات العملية التي استعانوا بها في تحقيق هذه الإنجازات. ومن الظلم أن نأبى اسم «العلم» على تلك المعلومات الفلكية الرائعة التي توصل إليها هؤلاء القدماء، وعلى الكشوف الرياضية الهامة التي كانت ضرورية من أجل إجراء الحسابات الفلكية وغيرها من الأغراض. ومن قصر النظر أن نتصور أن تلك المعلومات الكيميائية العظيمة - التي أتاحت للمصريين القدماء أن يصبغوا أنسجة ملابسهم وحوائط مبانيهم بألوان ما يزال بعضها زاهيا حتى اليوم، أو التي مكنتهم من تحنيط جثث ظلت سليمة لمدة تقرب من الأربعة آلاف عام - لا تستحق اسم «العلم التجريبي»، وقل مثل هذا عن مجالات كثيرة لا بد أن هذه الحضارات قد جمعت فيها بين الخبرة العملية والمعلومات النظرية، كالطب وصناعة العقاقير والهيدروليكا (الري والسدود والخزانات ... إلخ).
وإذن، فلم تكن نشأة العلم يونانية خالصة، ولم يبدأ اليونانيون في استكشاف ميادين العلم من فراغ كامل، بل إن الأرض كانت ممهدة لهم في بلاد الشرق التي كانت تجمعهم بها صلات تجارية وحربية وثقافية، والتي كانت أقرب البلاد جغرافيا إليهم، وإذا كانت الحلقة المباشرة - فيما يتعلق بانتقال العلوم الأساسية من البلاد الشرقية إلى اليونانيين - هي حلقة مفقودة، فإن المنطق والتاريخ والكشوف المتتابعة تؤكد لنا أنها لا بد كانت موجودة.
على أن هذا لا يعني على الإطلاق أننا ننكر فضل اليونانيين في ظهور العلم. والحق أن الاعتقاد بضرورة وجود أصل واحد للمعرفة العلمية وتصور واحد يرجع إليه الفضل في ظهورها ربما كان عادة أوروبية سيئة ينبغي التخلص منها؛ فإصرارنا على تأكيد أهمية الدور الذي أسهمت به حضارات الشرق القديم لا يعني أبدا أن اليونانيين كانوا مجرد ناقلين، أو أنهم لم يأتوا في ميدان العلم بجديد، وليس هناك على الإطلاق ما يمنع من وجود أصول متعددة أسهم كل منها في ظهور مفهوم معين من مفاهيم العلم، أو جانب معين من جوانبه، مع اعترافنا بأن لكل من هذه الأصول - في ميدانه الخاص - فضلا يستحيل إنكاره.
ذلك لأن الاعتقاد بأن للعلم أصلا واحدا، يفترض أنه كان هناك شيء محدد المعالم اسمه «العلم» ظهر منذ أقدم الحضارات الإنسانية، وهذا افتراض لا يقوم على أساس؛ إذ إن معنى العلم نفسه قد استغرق وقتا طويلا جدا كيما يتبلور. وربما كان عمر «العلم» - بمفهومنا الحالي لهذا اللفظ - لا يزيد على أربعمائة سنة، ولكن هذا لا يعني أن كل ما سبق ذلك لم يكن «علما»، بل لقد كان العلم في طريقه إلى التشكل والتحدد، وكان كل عصر يضيف إليه عناصر، ويحذف منه عناصر أخرى؛ فلقد كان من الطبيعي أن يختلط العلم - في مراحله الأولى - بعناصر غريبة عنه كالأساطير والشعر والعقائد القديمة والرغبات والأماني البشرية، وعلى رأسها رغبة الإنسان في أن يعيش في عالم يتسم بالنظام والجمال ويكون متعاطفا معه. ولم يكن من الممكن في تلك العهود القديمة أن يضع العقل البشري حدا فاصلا بين ما هو علم وما ليس بعلم. بل إن كل هذه العناصر كانت تمتزج في وحدة واحدة يستحيل التمييز فيها بين ما هو أصلي وما هو دخيل، وفي كل مرحلة جديدة من مراحل تقدم العلم كانت البشرية تتوصل إلى بعض العناصر الغريبة التي تشوه بناء العلم فتستبعدها، وتضيف عناصر أخرى كانت مفقودة في المراحل السابقة.
وليتذكر القارئ ما قلناه في مستهل هذا الفصل من أن العرض الذي سنقدمه لمراحل تطور العلم هو ذاته عرض لتطور «معنى» العلم، فإذا لم يكن العلم قد تحددت معالمه، وإذا لم يكن شكلا من أشكال النشاط العقلي الإنساني - خلال تاريخه الطويل - فلن يكون من حقنا عندئذ أن نقول: إن حضارة معينة هي التي يرجع إليها الفضل في ظهور العلم، بل إن كل ما يمكننا أن نقوله هو أن هذه الحضارة يرجع إليها الفضل في إضافة عنصر هام إلى مفهوم العلم، واستبعاد عناصر ضارة من هذا المفهوم. فإذا كان هذا هو الوضع الصحيح للمسألة فلن يكون هناك ما يحول دون نسبة الفضل في ظهور العلم إلى عدة حضارات متلاحقة، أدى كل منها دوره في تشكيل معنى العلم خلال مراحل التاريخ.
فما الذي أضافه اليونانيون إذن إلى العلم؟ وما هي العناصر التي كانت متداخلة فيه من قبل، والتي أدركوا أن من الواجب تحرير العلم وتخليصه منها؟
لو نظرنا إلى الإنجازات العملية التي حققها اليونانيون وإلى الآثار المادية التي خلفوها، لما وجدناها تمتاز كثيرا عن تلك التي تركتها لنا الحضارات الشرقية الأقدم منهم عهدا؛ فهم من هذه الناحية لم يكونوا أكثر تفوقا من غيرهم، ولكن أعظم إنجازاتهم كانت في الناحية النظرية؛ أي في المعارف العلمية بمعناها «العقلي» البحت؛ فقد كانت لدى اليونانيين قدرة هائلة على التعميم، جعلتهم لا يهتمون بالأمثلة الجزئية لأية ظاهرة، وإنما يركزون على أعم جوانبها، أو على قانونها العام؛ فهم - على سبيل المثال - لا يبحثون في خصائص ذلك المربع الذي يكونه سقف بيت معين أو حقل مزروع، بل كان ما يهمهم هو خصائص «المربع» بوجه عام؛ أي المربع في ذاته، بغض النظر عن الجزئيات التي يتحقق فيها، بل حتى ولو لم يكن متحققا في الواقع على الإطلاق.
وهكذا توصل اليونانيون إلى سمة عظيمة الأهمية من سمات العلم هي «العمومية والشمول»، وقد عبر أرسطو عن هذه السمة بوضوح في عبارته المشهورة: «لا علم إلا بما هو عام»، ولا شك في أن هذه السمة لا زالت ملازمة للعلم حتى يومنا هذا، وإن كنا نقبلها اليوم بتحفظات معينة لا يتسع المجال هنا للحديث عنها. فمنذ العصر اليوناني أصبحنا ندرك أن العلم لا يتعلق بدراسة حالات فردية لذاتها، وإنما ينبغي أن نجعل هذه الحالات وسيلة للانتقال إلى كشف الخصائص العامة «للنوع» بأكمله، أو للاهتداء إلى «القانون» الشامل الذي يسري على كل الأفراد. وعلى حين أن هذه السمة تبدو اليوم في نظرنا أمرا مألوفا، فإنها قد احتاجت إلى وقت طويل حتى استقرت دعائمها عند مفكري اليونان وعلمائهم، الذين أصروا عليها في كل ما كتبوا، ونجحوا في فرضها على الأذهان منذ ذلك الحين.
Unknown page