وظلت الجماهير تهتف باسمي وأنا في المخبأ، وفي الوقت ذاته واقف فوق المنصة ألقي خطبة العيد، ولا أحد يدرك وجودي في مكانين مختلفين في وقت واحد إلا زوجتي الشرعية ورئيس الأمن، وصواريخ العيد تفرقع والناس تهتف، ولا أحد يتصور أنني لست الإمام، وأنا نفسي لا أتصور وأظن أنني الإمام والزعيم. وأغمض عيني في راحة أستمتع بالزعامة دون أن أكون زعيما، وأتحرك بحرية دون أن أرتدي قميص الوقاية ودون أن أخشى الاغتيال؛ فأنا أعرف أنه قد تم اغتيالي من قبل، والأفضل أن أكون إماما مغتالا على ألا أكون إماما على الإطلاق، وأصبح اسمي الجديد الإمام الشهيد، وأكسبني اللقب قدسية أكبر؛ فأنا أكبر من الموت، وعلى العرش أجلس إلى الأبد، لا أخشى الأعداء ولا الأصدقاء، ولي قدرة على التحليق في الجو، والانتقال من العالم الأول إلى العالم الثاني والثالث، لا أخشى القوى العظمى ولا الصغرى، وأجلس مع أكبر زعيم واضعا ساقي اليمنى فوق اليسرى، وفي الصباح أشرب القهوة في أرض الشمال، وفي الظهيرة أتناول الغذاء مع أهل الجنوب، وفي المساء لي سهرتي الخاصة تحت الأرض مع «جواهر» في بيت السعادة، وإلى جواري صديق العمر نشرب نخب الحب والصداقة. أنعمت عليه باللقب، وله صفحة كاملة وصورة داخل برواز. وليلة الخميس من كل أسبوع نسهر حتى الفجر، نستعيد ذكريات الشباب. - فاكر يا وله البت اللي اغتصبناها سوا؟
وأقهقه بصوتي الجهوري ضاربا بكفي على فخذه، ويقهقه هو الآخر رافعا كفه ليضرب فخذي، ويتردد لحظة متذكرا أنه فخذ الإمام، وتظل يده معلقة في الهواء، وأقهقه مرة ثانية ضاربا بكفي على فخذه، متذكرا أنه كان في المدرسة يجلس إلى جواري داخل سرواله الغالي، يضربني بكفه من الخلف فوق الثقب المخبوء تحت يدي ، وأقهقه للمرة الثالثة وفوق فخذه المشدود كفخذ النمر أضربه وأنا أقول: فاكر يا وله اسم هذه البت؟ ويقول مقهقها كان اسمها «جواهر»، بيضاء كالقشدة، يشف بياضها من تحت الساق، وعيناها سوداوان واسعتان كعيون الحور. وينتقل عقلي على الفور من هذا العالم إلى العالم الآخر، وأرى الجنة ممتدة خضراء وأنا ممدود فوق السندس، ومن حولي الحوريات سابحات في النهر عاريات تحت الشمس، وفي الضوء أتعرف على ملامحهن وليس من بينهن وجه زوجتي الشرعية، ويرتفع صوتي وأنا أقهقه للمرة الرابعة أو الخامسة، وأضربه على فخذه المشدود متسائلا: كم للرجل المؤمن من حوريات؟ ويقول: سبعون أو سبعة وسبعون والله أعلم. وكم للزعيم المؤمن أو الإمام؟
وقهقه الكاتب الكبير وضرب رقما خياليا، لكن خيال الإمام كان أكبر، ثم سأله فجأة: وماذا عن زوجاتنا الشرعيات إذا دخلن الجنة معنا؟ وقال صديق العمر: زوجاتنا لن يدخلن الجنة. قلت: لكن إذا حدث ودخلت إحداهن؟ قال يستبدلها الله بحورية عذراء؛ فالجنة لن يكون بها زوجات شرعيات، وإلا فما الفرق بين الجنة والأرض؟!
خيانة مشروعة
منذ ماتت أختي بالحب تذكرت أنني لم أر وجه أمي منذ ولدتني، والجدة العجوز نناديها ستنا الحاجة. نتجمع حولها في بيت الأطفال تحكي لنا عن أرواح الجان. جنية البحر تمشي في الليل على حافة البحر. رأسها امرأة، وذيلها سمكة. يتحول الرجل بين يديها إلى مخلوق آخر، تسحره أو تسخطه فيصبح قرموط سمك أو عجلا صغيرا أو خروفا. يمأمئ بصوت خافت ويتمسح بساق امرأة أخرى قادرة على السحر، تفك طلسم المرأة الأولى وتعيده بشرا. يصبح رجلا من جديد. يسير مختالا برجولته ناسيا المرأة التي خلقته. يسعى إلى امرأة أخرى تسخطه من جديد قردا أو جروا صغيرا مقطوع الذنب. يمسح برأسه بين قدمي امرأة جديدة ساحرة. وتدور حكايات ستنا الحاجة، الليلة وراء الليلة، ألف ليلة وليلة تذوب البداية في النهاية كما يذوب النهار في الليل، وصوتها لا ينقطع، وحكاياتها لا تنتهي حتى تبدأ من جديد، تخشى الانقطاع، كأنما انقطاع الحكاية يعني انقطاع حياتها مثل شهرزاد . من هي شهرزاد يا ستي الحاجة؟ وتبدأ الحكاية من جديد. ترك الزوج امرأته إلى امرأة أخرى، وحين عاد وجد امرأته بين أحضان العبد الأسود. قتل الزوجة وأقسم أن يقتل كل ليلة عذراء. كان الزوج أبيض البشرة من سلالة الملوك يجلس على عرش الأرض، وفي كل ليلة يمتطي سيفه ويسأل الله: كيف تفضل المرأة عبدا أسود على الملك شهريار؟ ويأتيه صوت من أعماقه يشبه صوت أبيه: لأن النساء خائنات بالطبيعة مثل أمهن حواء.
وقاطعتها وهي لا تكف عن الحكاية: لكن الملك كان يخون الملكة مع جارية سوداء. وقالت: وما له يا بت؟ خيانة الرجل مشروعة بأمر الله، لكن خيانة المرأة من الشيطان.
تساءلت وأنا طفلة: لماذا كانت بشرة الملوك دائما بيضاء، وبشرة العبيد سوداء؟ كانت بشرتي سمراء، فهل أنا من سلالة العبيد؟ بصقت ستي الحاجة في فتحة جلبابها وصاحت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الشر بره وبعيد، أنت من سلالة الأسياد.
منذ فتحت عيني على الحياة في بيت الأطفال وأنا أسمعهم ينادونني بنت الله، ومنذ ماتت ستي الحاجة وأنا أنظر إلى بشرتي السمراء في المرآة، وفي أحلامي أرى وجه أبي أبيض كوجه الملك شهريار. من أين جاءتني البشرة القاتمة؟ هل خانت أمي أبي مع عبد أسود؟ هل أنا بنت الشيطان ولست بنت الله؟
وأرى نفسي أجري هاربة في الظلمة وليس معي إلا كلبي مرزوق، ومن خلفي رجال كثيرون يجرون ورائي فوق رءوسهم قبعات عسكرية، ومن خلفهم كلاب تلهث، وأكاد أفلت حين أصعد الهضبة بين البحر والنهر. يملأ صدري هواء المكان. في صدري حنين منذ الطفولة لهذا الهواء ورائحة أمي قبل أن تموت، وقدم أبي محفور فوق المكان قبل أن يهرب. كان يمكن أن أفلت منهم وأنجو، لكني تذكرت وتوقفت، وفي الوقفة أصابتني الطفلة في ظهري. كانوا يضربون من الخلف وأبدا لا يواجهونني وجها لوجه، وقبل أن أنسى الحروف وتتلاشى الذاكرة سمعتهم يقولون: ثمرة الخطيئة، ولمن يقتلها جائزة في الدنيا والجنة في الآخرة.
وكل شيء بغتة
Unknown page