أول حروف الحب
لم يكن مسموحا أن نطل من النافذة، شرفات المستشفى الحربي تواجه نوافذ الممرضات. يطل رجال الجيش على البنات، والمبنى الضخم يحجب عنا ضوء الشمس، ومن فوق الجدار العالي يتسرب الشعاع الرفيع وأنا واقفة خلف النافذة، ومن خلفي أحس الأصابع الغليظة تشدني إلى الخلف؛ أصابع رئيسة الممرضات، متوسطة العمر قصيرة القامة، ترتدي طرحة بيضاء وثوبا طويلا أبيض كالراهبات، وجهها عريض أبيض ويداها سمينتان، فوق صدرها ثلاث نجوم ووسام البر والإحسان، قرص ذهبي على شكل النجمة، تشبكه بدبوس في الفستان. صدرها تحت الحرير ارتجاج بارز. ثديان سمينان يسبقانها في المشي، ومن الخلف يتأخر في السير ردفان كبيران. يهبط الردف الأيمن إذا ارتفع الأيسر، ويرتفع الأيسر بهبوط الثاني، كأنما كل نصف ليس في المكان الصحيح. وذراعاها حين تقف يلتصقان، وحين تمشي تحرك ذراعا واحدة، وتبقى الثانية ملتصقة بالجسم من الجانب، وفي النهار تطرقع فوق البلاط بكعبين رفيعين من النحاس. وفي الليل تمشي حافية على أطراف أصابعها بغير صوت، تمر على العنابر في الظلمة كالروح الضائعة بغير جسد، وحفيف ثوبها كصوت الهواء. وجهها ثابت بغير عضلات، وعيناها في كل اتجاه تتحركان، رماديتان مستديرتان، وفوق كل عين حاجب مرسوم بالقلم الرصاص على شكل قوس، وأنفها من الجانب مرفوع نحو السماء. تظهر وتختفي كروح من العالم الثاني، أو واحدة من الأحياء كانت أو ستكون في زمن آخر.
في الليل وأنا نائمة أرهف أذني لصوت الهواء، ألتقط حفيف الثوب ولمسة القدم للأرض غير المرئية، والمقبض يدور في الباب وحده تحركه الأرواح أو الشياطين، ثم أراها تدخل العنبر كالشبح الأبيض. تمر بين الأسرة تفتش على أحلام البنات. تدور عيناها فوق الرءوس النائمة مثل الكشافات، رأس واحد في السرير. تعد الرءوس على أصابعها كمن يعد رءوس الخرفان، فإن غاب رأس أو ظهر في السرير الواحد رأسان انطلقت زمارة الإنذار .
كنت في سريري، ونعمة الله في سريرها. عيناها مفتوحتان ليل نهار. وجهها يزداد شحوبا، وعيناها تزدادان سوادا واتساعا. إذا همست في أذنها بالليل لا ترد، وإذا مررت بشفتي فوق وجهها لا تتحرك عضلات الوجه. حوطتها بذراعي ونمت. وفي منتصف الليل فتحت عيني. كان سريرها خاليا، ومكانها إلى جواري خاويا. الممر الطويل مظلم وأنا أمشي فوق الجدران ولا أقع. من وراء الباب المغلق أسمع الأنين. أدفع الباب بيدي ولا أرى إلا البلاط. وفي الركن المظلم خلف الباب أجدها، متكورة حول نفسها كالجنين، ومن تحتها الخيط الأحمر. أصابعها بيضاء خالية من الدم، فوق الورق حروف سوداء، مكورة في يدها وأصابعها متقلصة كالحجر. لا أحد يستطيع أن يفتح يدها. ماذا كتبت في الورقة؟ سألتني الرئيسة ومن خلفها طابور الرجال يرتدون القبعات الرسمية، قلت: لا أعرف. قالوا: كيف لا تعرفين وهي معك الليل والنهار؟ قلت: كانت معي لكنها كانت تعيش في عالم آخر. قالوا: أي عالم هذا؟ قلت: لا أعرف، لم أذهب إليه بعد.
وفي الليل حين تتلاشى الوجوه ويكف الهواء عن الحفيف، أراها واقفة في الظلمة. أفتح أصابعها الحجرية وأستخرج الورقة. تحت ضوء القمر أرى حروفها فوق الورقة بالحبر الأسود.
الزوجة الشرعية لا تدخل الجنة
الهتاف يدوي في أذني، وفوق رأسي عرش السماء، وتحت قدمي عرش الأرض، وحولي الحراسة مشددة. أعدائي كثيرون يتطلعون للعرش، وأصدقائي قليلون ينتهزون فرصة موتي. عن يميني رئيس الأمن يتربص بي أكثر من الأعداء، وعن يساري كاتبي الكبير. عينه اليمنى على رئيس حزب الشيطان، وعينه اليسرى على زوجتي الشرعية. وهي واقفة في شرفة الحريم من حولها الزوجات المثاليات والأمهات الشهيدات، والهتاف يدوي في أذنيها وصواريخ العيد وطلقات الرصاص. ترى وجهي يسقط من فوق جسدي لكنها تظل واقفة. عينها اليمنى على العرش، وعينها اليسرى على صديق العمر.
منذ الطفولة وأنا أضمر له الحقد. يسبقني في امتحانات آخر العام ولا تروقه إلا فتاة أحلامي. يكتب لها الشعر ورسائل الحب وأنا لا أكاد أفك الخط. منحته لقب الكاتب الكبير، وصفحة كاملة في جريدة الصباح، وصورة داخل برواز يبتسم فيها للبنات، ومع ذلك لا يكف، لا يهدأ والنار في قلبه منذ الطفولة لا تبرد، وهو واقف إلى جواري يسمع الدوي، ويرى رأسه يهبط من السماء إلى الأرض، والقيامة تقوم وهو واقف ثابت في مكانه كأبي الهول، ويختفي الأصدقاء والأعداء ولا أرى إلا وجوه رجال غرباء. يقتربون مني وأنا أخفي وجهي في الأرض. لم ألتق بأي واحد منهم وجها لوجه. يعرفون وجهي من الصورة فوق طوابع البريد والدمغة. أحدهم يقلب رأسي من فوق الأرض وينظر إلى وجهي، يقول لهم: ليس هو الوجه الذي عرفناه. قالوا: وجه من إذن؟ قال: لا أعرف، الله أعلم!
في عيونهم بدا وجهي أكثر رهبة من وجه الإمام، أكثر عظمة من أن يكون وجه إنسان، أبيض البشرة بغير دم، وعظام الرأس صخرية ثابتة. سرت القشعريرة في أجسادهم وسجدوا خاشعين، هتفوا: إنه الله. واقترب أحدهم مني أكثر، ورأى وجهي داكن السمرة بلون الأرض، فابتعد يجري صائحا: إنه الشيطان. وتبعه الآخرون يجرون هاربين. داس أحدهم وهو يجري على يدي، وداس آخر على الوسام بجوار قدمي اليمنى، وأخفيت وجهي في الأرض حتى لا يراني أحد، ثم أحسست بيد ناعمة فوق رأسي، ورأيت وجوها أعرفها. وحين رفعوا وجهي إلى أعلى ونظروا في الملامح، لم يتعرف واحد منهم على وجهي، وهمس صوت ناعم مألوف يشبه صوت رئيس الأمن أو صوت زوجتي الشرعية: ليس هو. وهتف صوت آخر يشبه صوت كاتبي الكبير أو معارضي الشرعي: أنقذه الله؛ فالله معه. ورأيت زوجتي تترك شرفة الحريم بخطوات ثابتة وجأش كالأسد، وحين اختفت عن العيون بدأت تجري على كعبيها الرفيعين حتى غرفة النوم.
كانت الستائر مسدلة وجثتي فوق السرير، ومن حولي أبنائي الشرعيون وغير الشرعيين، ووزير الصحة يرش فوق جثماني محلولا مطهرا يمنع العفن، وفي الغرفة المجاورة أعواني في حزب الله يتقاسمون الميراث. ودخلت زوجتي الشرعية، وسقطت عيناها على الفور فوق وجه ابنتي غير الشرعية الواقفة إلى جواري، وعن يمينها أمها «جواهر»، وعن يسارها زوجتي القديمة، وانقلب الجو الذي كان صافيا، ويدي كانت في يد ابنتي الناعمة أقبلها وألثمها، ورأيت زوجتي الشرعية تنقض كالنمر واختفت الوجوه من حولي إلا وجهها. وفي المخبأ تحت الأرض في حديقة القصر، خبأت جسدي بعد أن خلعت عني ملابسي الرسمية، وجردت جيوبي من الفكة، ونزعت من أصابعي خواتم الزواج والعرش.
Unknown page