شاءت دول أوروبا السبع أن تسبغ ثوب حمايتها على لبنان، فوضعت له ذلك النظام المخنث المشلول، النظام الذي خنق الرجولة في صدور اللبنانيين فأصبحوا يرتعدون إذا ضجت الخيل والبارود. كان اللبناني يستقبل المنايا كالحات ولا يلاقي الهوان، فصار يؤثر العافية، اتكل على «الدول السبع» فعاش يأتيه رزقه رغدا، ولم يرحل لبغية المكارم، ولماذا لا يقعد الزبرقان وهو الطاعم الكاسي؟!
كثيرا ما سمعت: «هنيئا لمن له مرقد عنزة في لبنان»، إن هذا المرقد الذي تغنى به الشعراء قد صير اللبنانيين أعنزا ونعاجا، قتل الإباء وأخمد المروءات، فأصبحنا نغلق الباب ونعيا عن رد الجواب، وهل يعز وطن بلا جنود؟
أمنا شر العدو الطارق فتعادينا مللا ونحلا وأسرا وبيوتا، وتقسمت مدننا وقصباتنا حارات وأحياء، فصح فينا اليوم ما قاله شاعرنا في الأمس:
وأحيانا على بكر أخينا
إذا ما لم نجد إلا أخانا
رحم الله عهدا كان فيه اللبناني فلاحا ومحاربا في وقت معا، ينحت صخور جبله مسالما، ويهب للذود عن حوزته مهاجما!
كان يسوق ثيرانه إلى الحقل ليحرث أرض آبائه وأجداده، يعاونه بنوه وزوجه، كلهم عمال يدهم واحدة، حتى إذا داع دعا وسمع الصوت في الحقل لم يرجع إلى بيته، يلقي عن بقراته النير، ويسوقها إلى مراحها ابنه الصغير، وتمضي الأم لإعداد الزاد.
ها هو يستبدل المساس بالطبنجة والسيف والغدارة والقرابينة، وجراب البذار يصبح كنانة الفلاح البطل، وإلى أين؟ هو يلبي صوت الداعي ولا يدري، يمضي مسرعا ووجهته الصوب الذي طرح منه الصوت، لا يعنيه ماذا، كذا نشأ وتعود، وهكذا عاش كريما ومات عزيزا. «اطرح الصوت يا صبي.» هكذا يخاطب ابنه ورفيقه إلى المعمعة، لعل أحدا لم يسمع الصوت فيعتب علينا، ناد فيسمعوا ويجيئوا معنا، ناد يا ابني ناد، لا يبقى في بيته إلا الجبان والعاجز، أسرع يا ابني، عجل قبلما يفوت الفوت.
في ذلك الزمان كان لبنان أشم، وذلك العهد يعود إن عادت إليه الجندية ماحقة النعرات الطائفية، فلا يمحي تبلبلنا القومي ما لم تصهر نفوس أبنائنا في بوتقة واحدة هي بوتقة الجندية، وإلا بقينا نماذج وأشكالا تزدريها الأمم وتحتقرها الشعوب.
لا يرجى من المدارس أن تخلق للوطن رجالا، فمدارسنا كما هي حالها لا تخرج إلا كل مخنث رخو، إنها مضطربة الميول متعددة النزعات والأنظمة، في مناهجها سم ودسم. إن «ولدنا» عرضة لعوامل شتى مفسدة، أهمها البيت المستضعف والمدرسة المسترخية.
Unknown page