عندما كان هدف التربية يصلح لكل زمان ومكان، قال أجدادنا: «لولا المربي ما عرفت ربي.» فالرب كان هدف التربية في زمن الروح، أما في عصرنا هذا - عصر المادة - فهدف الرجل وطنه، والتربية التي تصلح له هي تطعيم وتلقيح، فالميول المكتسبة تطعم وتلقح بالميول الغريزية، والمربي الصحيح لا يخلق ميولا جديدة، بل ينمي الميول الغريزية أو يقاومها، فقصارى المربي أن يروض الشخص ليصلح للجري في الشوط المنتظر، إن الأخلاق الفاضلة تكتسب بممارستها وتعودها فتصير خلقا وسجية.
ولنستنر أخيرا بشيء من علم النفس: إن لمسنا جسدنا يختلف عن لمسنا للأجساد الأخرى، إذا لمسنا جسدنا أحدث هذا اللمس إحساسا مزدوجا؛ لأن اليد اللامسة تكون لامسة وملموسة، أو فاعلة ومنفعلة كما يعبر الاختصاصيون. فالمربي الوطني يكون إحساسه مزدوجا إن كانت عقيدته صادقة لا زندقة فيها، أما المفلوج فيفقد هذا الإحساس المزدوج، ويخال عضوه المريض ليس أحد أعضائه، فإذا شئنا أن نربي للوطن رجالا صالحين فلنقص المفلوجين ...
الدواء في الثكنة
عندما دخل علي المقدم زين الدين ومعه طبيب مصلحة التدريب الدكتور فؤاد أبو حمزة، تهللت لما عرفت أنهما قادمان بمهمة تربوية علمية، وهي التدريب العسكري في المدارس الثانوية، إن ما كان حبرا على ورق جاء من يصيره عملا نافعا مفيدا.
وعادت بي الذكرى إلى ما كتبت في نقاش حول التربية الوطنية، فقلت حينذاك: إن دواء الداء الذي نحن فيه ليس في المدرسة إنه في الثكنة العسكرية، فهي البوتقة التي تطبع أبناء الوطن على غرار واحد، فينسون نعراتهم وعنعناتهم.
ثم مرت الأيام، وأخيرا أقر التدريب العسكري في المدارس، فشكرنا وانتظرنا ساعة التنفيذ لنرى طلائع التجنيد الذي يرعب اسمه الكثيرين منا كأنه الغول الذي خوفونا به صغارا.
كان عهدا ومضى، كان ذلك يوم كان سيف اللبناني مخدته، يوم كان يقول ككل عربي: «أيقتلني والمشرفي مضاجعي؟» ولا ينكرون القول حين يقول.
كان عهدا ومضى، عهد الرجال القشمريين والأبطال المشمرين، وجاء دور بنطلون الشرلستون، عرض ساقه أربعون سنتيمترا، يلف سيقان الفتيان المرهرهة فوق مرمر المقاصف، كانت الشراويل الخشنة تمر بالقندول المعجرم مر الكرام، وصارت بذلات السموكن تترحم على طيلسان ابن حرب ...!
رحم الله عهد اللبادة والكوبران، والصدرية المزررة كأنها الدرع، وزنار الكشمير والعباءة المخططة!
ليس فيما أقول حطة من قدر النفوس والهمم، فالبلاد لا تزال تنجب الغطاريف، ولكن تربيتنا وأنظمتنا تخمد الهمم وتميت الإباء والشمم.
Unknown page