Sinima Wa Falsafa
السينما والفلسفة: ماذا تقدم إحداهما للأخرى
Genres
التفسير الديكارتي
ربما تظن أن نيو لديه كل الحق في الغضب من الآلات، فهي في النهاية ظلت تخدعه طيلة الوقت كي يظن أنه يعيش في مدينة آمنة ونظيفة وجميلة عام 1999، ويعمل بوظيفة في مجال التطوير البرمجي. أما في الواقع، فهو لا يعيش في عام 1999، والعالم الحقيقي ليس جميلا ولا نظيفا، وهو لا يعمل مطور برمجيات، بل يعمل بطارية. يبدو أن نيو كان يحيا في وهم. هذا هو التفسير التشككي الرئيسي لفيلم «المصفوفة» - راجع مناقشتنا للشكوكية في الفصل الثالث - لكن له نتائج مهمة فيما يتعلق بعلم الوجود. وسوف نطلق عليه التفسير الديكارتي لسيناريو المصفوفة.
نطلق عليه هذا الاسم نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت الذي عاش في القرن السابع عشر. تخيل ديكارت في كتابه «تأملات في الفلسفة الأولى» مأزقا يذكرنا على نحو مخيف بسيناريو المصفوفة. إنه كان يبحث عن أساس مضمون على نحو مطلق لمعرفتنا بالعالم. أمن الممكن إيجاد مجموعة من المعتقدات تتجلى صحتها إلى حد لا يمكن معه لأي شخص عاقل وعقلاني إنكارها؟ وهل يمكننا استخدام هذه المجموعة من المعتقدات كأساس لفهمنا العلمي الأفضل للعالم؟ اعتقد ديكارت أن في وسعنا إيجاد تلك المجموعة من المعتقدات، ووضع منهجا لإيجادها، أطلق عليه «منهج الشك»، الذي يتبع آلية العمل التالية: إذا كان من المحتمل بأي حال من الأحوال أن يكون معتقد ما خاطئا، فلا يمكن أن يصبح أساسا مضمونا على نحو مطلق للمعرفة (لأنه غير مضمون كليا)؛ ومن ثم، علينا التحقق من معتقداتنا بانتظام قدر استطاعتنا، ورفض أي معتقد يحتمل خطؤه. وما دام يوجد احتمال ضئيل لخطأ معتقد ما، فسوف نتخلى عنه، ونرى بعد ذلك ما إذا كان ممكنا ممارسة الفلسفة بما تبقى لنا.
لا فائدة من التحقق من جميع معتقداتنا واحدا تلو الآخر (فذلك سيستغرق وقتا لا نهائيا). لذا استخدم ديكارت بعض الطرق المختصرة، وكان أقواها هو ما يطلق عليه «فرضية الشيطان الشرير». فيما يلي الكيفية التي وصف بها ديكارت (التأمل الأول، 1996) هذه الفرضية:
سوف أفترض ... أن شيطانا خبيثا ذا بأس ومكر عظيم قد كرس جل طاقته من أجل خداعي. وسأفترض أن السماء والهواء والأرض، والألوان والأشكال والأصوات، وسائر الأشياء الخارجية، ليست سوى أوهام وخيالات، تفتق عنها ذهنه لإعاقة قدرتي على الحكم. سأعتبر أني لا أملك يدين أو عينين أو جسدا أو دماء أو حواس، بل أعتقد - زيفا - أنني أمتلك هذه الأشياء جميعا.
تتيح لنا فرضية الشيطان الشرير استبعاد أي معتقد يحتمل ترسخه داخلنا على يد شيطان مخادع. وهو ما ينطبق على الكثير جدا من المعتقدات. رغم ذلك، عند تطبيق هذه الفرضية للمرة الأولى سيظل المعتقد الذي سأعجز عن استبعاده هو اعتقادي بأني موجود. إذا كنت أفكر في أني موجود، فأنا إذن موجود؛ فلا بد من وجود شخص ما يخوض عملية التفكير، وهذا الشخص هو أنا. أنا شيء مفكر. إذن اعتقادي بوجودي وبأني أفكر، يبقى بعد تطبيق منهج الشك (ما دمت أفكر بالطبع؛ إذا توقفت عن التفكير، سيصعب حينئذ التكهن بالنتيجة). هذا هو الأساس اليقيني المطلق لمعرفتنا بالعالم لدى ديكارت، لكنه بالطبع كان يأمل في تحقيق ما هو أكثر بكثير من مجرد إثبات وجوده؛ ففي النهاية كان ديكارت يأمل في دحض فرضية الشيطان الشرير ذاتها، وقد ظن أن في وسعه تحقيق ذلك عبر إثبات وجود إله خير غير مخادع، إله لن يتركنا حتما تحت رحمة الشيطان الشرير. (للاطلاع على رحلة ديكارت من «أنا أفكر إذن أنا موجود» إلى إثبات وجود الله، نوصي بقراءة متمعنة لكتاب «التأملات».)
يبدو سيناريو «المصفوفة» نسخة محدثة من فرضية الشيطان الشرير التي اقترحها ديكارت؛ فكما جاء على لسان مورفيس، أحد شخصيات الفيلم، المصفوفة: «هي عالم أسدل أمام عينيك ليعميك عن الحقيقة» (الدقيقة 28، الثانية 17). لكن بدلا من الشيطان الشرير، يقدم الفيلم ذاتا شريرة وشخصية «المعماري» المبهمة في دور صناع المصفوفة. وفي حين لا يقدم ديكارت تفسيرا لكيفية تمكن الشيطان الشرير من غرس الأفكار الخاطئة داخلنا، يجسد لنا الفيلم طريقة عمل «المعماري»؛ ألا وهي البرمجة الحاسوبية. حسب التفسير الديكارتي لسيناريو المصفوفة، لا تختلف النتيجة النهائية عن نتيجة فرضية الشيطان الشرير. المصفوفة هي عالم من الوهم يغرس معتقدات خاطئة في أذهان ضحاياه، وإذا كان التفسير الديكارتي صحيحا، يصبح الموقف السليم الذي ينبغي اتخاذه حيال الأشياء التي نختبرها داخل المصفوفة موقفا إقصائيا. قد يعتقد الناس داخل المصفوفة أنهم يعملون في ناطحة سحاب، ويعتقدون أنهم يستطيعون رؤيتها، في حين أنها غير موجودة. في عالم الواقع لا يوجد ذلك الشيء المصنوع من الصلب والخرسانة الذي يعلو ثمانين دورا ويطلق عليه ناطحة سحاب. والاعتقاد بوجود شيء كهذا ليس سوى اعتقاد خاطئ. ينطبق هذا عموما على معظم معتقدات الأفراد داخل المصفوفة حول بيئتهم؛ هي معتقدات خاطئة تماما، وما يصفونه بأنه موجود، غير موجود ببساطة. إن حكما يلتزم - عن حق - بقواعد علم الوجود سوف يستبعد سائر الحديث عن ناطحات السحاب وما شابه ذلك من حديث. (الإشكالية الفلسفية لدى سكان المصفوفة بالطبع هي أن لا سبيل أمامهم للوصول إلى حكم يلتزم عن حق بقواعد علم الوجود، إلا إذا غادروا المصفوفة ورجعوا إلى صحراء الواقع.)
التفسير الواقعي
هل التفسير الديكارتي صحيح؟ يغازل صناع الفيلم التفسير الديكارتي في عدة أجزاء. على سبيل المثال نجد نيو يقول (الدقيقة 8 من الساعة الثانية): «لدي ذكريات عن حياتي (يقصد حياته داخل المصفوفة). لم يحدث أي منها.» رغم ذلك يعجز الفيلم ذاته عن حسم السؤال الذي نطرحه. نحن نبحث عن تفسير فلسفي لما يجسده الفيلم، وليس تفسيرا لما قصد صناع الفيلم أن يجسده. لذا دعونا نتأمل تجربة نيو ومعتقداته عبر تسليط مزيد من الضوء الفلسفي عليها. قبل أن يتناول نيو الحبة الحمراء ويغادر المصفوفة، ما المعتقدات العادية التي كان يعتنقها واتضح خطؤها؟ قبل أن يتناول الحبة، كان يعتقد أنه واقع في مشكلة مع رئيسه في العمل. وكان لديه بالفعل مشكلة مع رئيسه في العمل؛ يواجه نيو مشكلات في المصفوفة مع رئيسه في العمل داخل المصفوفة. وهي ليست بمشكلة هينة؛ فإذا فصل من وظيفته ولم يعد قادرا على سد رمقه، فلن يهم حينها كثيرا ما إذا كان تعرض للفصل من عمله داخل المصفوفة فحسب أو أنه لا يشعر إلا بالجوع داخلها؛ فالجوع داخل المصفوفة شعور جدي. إن مفتاح فهم التفكير داخل المصفوفة هو تأمل مضمون المعتقدات. ما الذي تتمركز حوله معتقدات المرء؟ كيف تكتسب المعتقدات مضمونها؟ من أين يأتي هذا المضمون؟ الإجابة الأكثر منطقية عن هذا السؤال الأخير هي أن المعتقدات تكتسب مضمونها من البيئة التي يتفاعل معها أصحاب المعتقدات. إذا قال نيو قبل تناول الحبة بحسن نية: «هذه ملعقة»، فهو يتحدث عن الملاعق التي تفاعل معها في بيئته. هو لا يحاول الإشارة إلى الملاعق خارج المصفوفة، كالأدوات البدائية التي قد تجدها في مدينة زيون.
4
Unknown page