شكر وتقدير
تمهيد
الجزء الأول: الفلسفة والسينما
1 - لماذا الربط بين السينما والفلسفة؟
2 - الفلسفة والمشاهدة السينمائية
الجزء الثاني: نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا) وما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا)
3 - الحقيقة والوهم في فيلم «استعادة كاملة»
4 - علم الوجود و«المصفوفة»
5 - العقل هو الأساس: «ذكاء اصطناعي» ومشاعر الحب لدى الروبوت
6 - «جسر المطار» وحلم السفر عبر الزمن
الجزء الثالث: الوضع البشري
7 - القدر والاختيار: فلسفة «تقرير الأقلية»
8 - الهوية الشخصية: دراسة فيلم «تذكار»
9 - مشهد الرعب: «ألعاب مسلية»
10 - البحث عن معنى في جميع الأماكن الخطأ: «أن تحيا» (إيكيرو)
الجزء الرابع: الأخلاقيات والقيم
11 - «جرائم وجنح» وهشاشة الدافع الأخلاقي
12 - «حياة الآخرين»: الحظ الأخلاقي والندم
13 - «فارس الظلام»: باتمان وأخلاق الواجب والنظرية العواقبية
14 - طفولة خطرة: «الوعد» واحتمالية الفضيلة
قراءات إضافية
شكر وتقدير
تمهيد
الجزء الأول: الفلسفة والسينما
1 - لماذا الربط بين السينما والفلسفة؟
2 - الفلسفة والمشاهدة السينمائية
الجزء الثاني: نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا) وما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا)
3 - الحقيقة والوهم في فيلم «استعادة كاملة»
4 - علم الوجود و«المصفوفة»
5 - العقل هو الأساس: «ذكاء اصطناعي» ومشاعر الحب لدى الروبوت
6 - «جسر المطار» وحلم السفر عبر الزمن
الجزء الثالث: الوضع البشري
7 - القدر والاختيار: فلسفة «تقرير الأقلية»
8 - الهوية الشخصية: دراسة فيلم «تذكار»
9 - مشهد الرعب: «ألعاب مسلية»
10 - البحث عن معنى في جميع الأماكن الخطأ: «أن تحيا» (إيكيرو)
الجزء الرابع: الأخلاقيات والقيم
11 - «جرائم وجنح» وهشاشة الدافع الأخلاقي
12 - «حياة الآخرين»: الحظ الأخلاقي والندم
13 - «فارس الظلام»: باتمان وأخلاق الواجب والنظرية العواقبية
14 - طفولة خطرة: «الوعد» واحتمالية الفضيلة
قراءات إضافية
السينما والفلسفة
السينما والفلسفة
ماذا تقدم إحداهما
للأخرى
تأليف
داميان كوكس ومايكل ليفين
ترجمة
نيڤين عبد الرؤوف
مراجعة
هاني فتحي سليمان
شكر وتقدير
خالص الشكر لجميع من ساعدونا وهم كثر - دون أن يدري بهم أحد ودون علم منهم في كثير من الأحيان - في إعداد هذا النص وتطوير آرائنا حول الأفلام التي نناقشها، وذلك بمجرد ذكر بضع كلمات ليس إلا، وأحيانا بتقديم آراء أكثر تطورا عن أحد الأفلام أو إحدى الشخصيات أو المشكلات الفلسفية. ونشكر تحديدا طلابنا في مادة الفلسفة والسينما بجامعة بوند وجامعة غرب أستراليا. نود كذلك توجيه الشكر إلى كل من مارجريت لاكاز وإيمي باريت لينارد ولورنا ميهتا وبيل تايلر وتيد روبرتس وكارول ماك.
تمهيد
يهدف هذا الكتاب إلى تعريف القراء بمجموعة متنوعة من القضايا الفلسفية عبر عدسة السينما، فضلا عن قضايا أخرى تتعلق بطبيعة السينما ذاتها، جامعا بذلك بين موضوعين لا يجتمعان في أغلب الكتب الصادرة حديثا والتي تتناول الفلسفة والسينما. السينما وسيلة عظيمة القيمة لاستكشاف موضوعات فلسفية ومناقشتها، لكنها لا تخلو من أوجه الخطر والقصور. وإبراز الطرق التي في وسع السينما استخدامها لإضفاء حالة من الغموض الفلسفي، عبر الاستعارات وغيرها من الصور البلاغية، وذلك للتأثير في المشاعر أو مغازلة شتى الأهواء؛ هو جزء ذو أهمية من أي منهج للتحليل السينمائي الفلسفي. وسنحاول بين دفتي هذا الكتاب النظر إلى المناقشات الفلسفية السينمائية بعين النقد.
ينقسم الكتاب إلى أربعة أجزاء: في الفصل الأول من الجزء الأول سنناقش إمكانيات السينما كوسيط فلسفي؛ لماذا تشكل السينما وسيلة جيدة لمعالجة القضايا الفلسفية؟ وكيف يمكن تدعيم النقاشات الفلسفية من خلال السينما؟ وفي الفصل الثاني سنناقش بعض القضايا الفلسفية التي تطرحها السينما ذاتها. وبينما يركز هذا الفصل على قوة السينما وأهميتها، فإنه يطرح كذلك قضايا فلسفية محورية أخرى حول السينما والمشاهدة السينمائية. ونناقش عبر صفحات الكتاب المزيد من القضايا التي تتعلق بطبيعة السينما والمشاهدة السينمائية، من خلال طرح أسئلة من قبيل: لماذا تستهوينا أفلام معينة؟ كيف تحقق لنا الأفلام إمتاعا؟ كيف نستطيع اكتشاف تلاعب فيلم ما بحكمنا الفلسفي، وكيف ندرك البديهيات التي بنينا عليها هذا الحكم؟ كيف نستطيع استغلال نقاط الالتباس التي تعج بها الأفلام لأغراض فلسفية؟ (مع مراعاة الحذر بالطبع في معالجة كل من الأفلام والفلسفة.)
أعددنا الفصول في الأجزاء من الثاني حتى الرابع كي تقرأ عقب مشاهدة الأفلام المرشحة، وبعد قراءة الجزء الأول. يركز الجزء الثاني على الأفلام التي تثير تساؤلات حول نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا) وما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا)، وتتناول موضوعات مثل الشكوكية وعلم الوجود والذكاء الاصطناعي والزمن (لا سيما السفر عبر الزمن). ونناقش في الجزء الثالث أربعة أفلام تتصل بما قد نطلق عليه بوجه عام «الحالة البشرية»، حيث نركز على الإرادة الحرة والهوية الذاتية والموت ومعنى الحياة. نقدم كذلك بحثا متعمقا نسبيا لطبيعة المشاهدة السينمائية؛ إذ يركز الفصل التاسع على أفلام الرعب لا سيما أفلام الرعب الواقعي. فنتساءل عما يجذب الجمهور إلى تجربة الرعب؛ أي إلى مشاعر الخوف والتقزز. في حين يهتم الجزء الرابع بقضايا الأخلاق والقيم، حيث نركز على الأفلام التي تعالج بدورها الموضوعات التالية: دوافع عيش حياة أخلاقية، والحظ الأخلاقي، وأخلاق الواجب، ونظرية العواقبية (العبرة بالنتيجة)، وأخيرا نظرية الفضيلة.
إن هدف كتابنا هو إلقاء نظرة عامة على موضوعات في صميم علم الفلسفة، من منظور الكتابات الأخيرة في مجالي الفلسفة والعلاقة بينها وبين السينما. فنتناول كلا من فلسفة السينما والفلسفة في الأعمال السينمائية. هذان الجانبان من الكتاب يدعم كل منهما الآخر. وقد كانت فكرة الجمع بينهما هي الأساس الذي بني عليه هذا العمل. لقد اخترنا الأفلام بناء على محتواها وجودتها وإمكاناتها الفلسفية. بعبارة أخرى تخيرنا أفلاما تتناول قضايا فلسفية تناولا مشوها ومبتسرا في بعض الأحيان، لكنه يساعدنا كذلك في أوجه أخرى على إدراك القضايا الفلسفية المتضمنة، ومعها ندرك شيئا ما عن قيمة الفلسفة. وحيثما استطعنا استخدمنا أفلاما لا تكتفي بتسليط الضوء على الفكر الفلسفي، بل تضيف إليه.
سنستعين بأفلام كلاسيكية وأخرى معاصرة، وقد اخترنا كلا منها لتسليط الضوء على مجموعة بعينها من الأسئلة الفلسفية، أحيانا بطرق غير مألوفة مع أفلام غير متوقعة، حيث سنناقش أفلاما مشهورة وذات شعبية، إلى جانب أفلام أخرى أقل شهرة. وفي نهاية كل فصل نورد قائمة مختصرة بقراءات إضافية مقترحة وقائمة تضم أسئلة لمتابعة النقاش الفلسفي.
يطمح هذا الكتاب في المقام الأول إلى التأمل الفلسفي من خلال الأفلام، وإلى التفكير في الأفلام من منظور فلسفي. وتتناول الفصول قضايا حاضرة في الأفلام من المنظورين الفلسفي والسينمائي كذلك. الأفلام وسيط صالح للنقاش الفلسفي من عدة أوجه؛ إذ يمكن استخدامها لتسليط الضوء على قضايا فلسفية، وكوسيلة لاختبار نظريات فلسفية أو إجراء تجارب فكرية فلسفية، وكمصادر لمعضلات أو ظواهر مثيرة للاهتمام تستدعي الاستقصاء الفلسفي، وكطريقة لفهم مغزى قضايا فلسفية أو تحديد الاحتمالات الفلسفية. يدفعنا التفكير المتأمل في السينما إلى دروب الفلسفة عبر طرح أسئلة عن طبيعة الأفلام ذاتها وطبيعة المشاهدة السينمائية تحديدا. في بعض الأحيان نستخدم نظريات فلسفية لتفسير الأفلام، وفي أحيان أخرى نستخدم الأفلام لتسليط الضوء على النظريات الفلسفية. كل هذه الطرق لمشاهدة الأفلام والتأمل الفلسفي يطرحها هذا الكتاب. إن الفلسفة لا تطرح منظورا فريدا للسينما، بل إن الأفلام ذاتها هي مساع، مضطربة غالبا وفي غاية البراعة أحيانا، للاستقصاءات الفلسفية.
لا يزال المجال الذي يجمع بين السينما والفلسفة مجالا حديثا نسبيا. وما توصلنا إليه في هذا الكتاب لم يكن ليتحقق دون الجهود الرائدة لأولئك الفلاسفة والمنظرين السينمائيين الذين ساعدوا على إرساء الفلسفة والسينما كمبحث جدير بالاهتمام ودائم التطور، وفي سبيله - قطعا - للازدهار. وحتى في المواضع التي اختلفنا فيها معهم، فقد تعلمنا منهم بكل تأكيد.
الجزء
الفلسفة والسينما
يضم الجزء الأول فصلين، يناقش أولهما العلاقة بين الفلسفة والسينما. والقضية الرئيسية هنا قضية تمهيدية أيضا؛ هل السينما وسيط فلسفي جدير بالثقة؟ هل الأفلام مجال للتأملات الفلسفية؟ ما الذي ينبغي لنا توقعه من الأفلام من زاوية فلسفية؟ أما الفصل الثاني فيبحث بعضا من القضايا الفلسفية الخاصة بطبيعة السينما أو التي تنطبق على أفلام بعينها بوصفها عملا جماليا (أو عملا فنيا). كيف نتناول، من منظور فلسفي، قدرة الأفلام على استثارة مشاعر قوية، بل وإرضائها على الأقل مؤقتا، واستدعاء خيالات الانتقام والرغبات النرجسية، بل والمنحرفة؟
في الجزء الأول نستعرض أوجه الاعتراض التي أبداها الفلاسفة على الإمكانيات الفلسفية للسينما، فنشرح السبل المتنوعة التي تربط ظاهريا بين السينما ونظرية الفلسفة ونطرح علامات استفهام حولها. نوضح كذلك أنه في وسع السينما أن تصبح أكثر بكثير من مجرد اختبار أو تصوير لإحدى النظريات الفلسفية. وبدلا من طرح الإمكانيات الفلسفية لدى السينما باعتبارها مجالا يخدم أغراض الفلسفة، فإننا ننظر إلى المسألة من الجهة الأخرى ونستعرض السينما (أو بعض الأفلام) بوصفها ذات طبيعة فلسفية متأصلة. سوف نناقش العديد من القضايا الفلسفية التي تطرحها السينما جنبا إلى جنب مع التقنيات السينمائية والسردية ذات الصلة.
إن الجزء الأول يشكل خلفية ورافدا في ذات الوقت للأجزاء من الثاني إلى الرابع التي نحلل فيها المشكلات الأخلاقية والميتافيزيقية والمعرفية الرئيسية فيما يتعلق بأفلام محددة.
الفصل الأول
لماذا الربط بين السينما والفلسفة؟
مقدمة
يتناول هذا الكتاب مجموعة متنوعة من المشكلات الفلسفية من خلال السينما، كما يفحص أيضا قضايا تتعلق بطبيعة السينما ذاتها. ينقسم مجال السينما والفلسفة إلى محورين متمايزين إلى حد ما. يسعى أحدهما إلى بحث القضايا الفلسفية التي تطرحها الأفلام، فعلى سبيل المثال قد تتشكك الأفلام في وجهة نظر أخلاقية معينة أو تطرح أسئلة حول الشكوكية أو طبيعة الهوية الذاتية. أما المحور الآخر فيختص بالقضايا التي تطرحها السينما بوصفها شكلا من أشكال الفن. ما الذي يميز السينما أو التصوير السينمائي بوصفه شكلا فنيا؟ ما المغزى الفلسفي وراء الأساليب الفنية والتكنولوجيا التي توظفها السينما؟ ما المغزى الفلسفي لاستجابة الجمهور للسينما؟ ما هي المزايا أو المخاطر الخاصة التي تنطوي عليها السينما بالنظر إلى جاذبيتها الجماهيرية وقدرتها على إثارة مشاعر قوية؟
إحدى القضايا التي ترتبط على ما يبدو بمحوري السينما والفلسفة كليهما هي قضية السينما باعتبارها وسيطا فلسفيا. هل في وسع الأفلام «التفلسف» فعليا، لا مجرد الاكتفاء بإبراز أفكار فلسفية؟ هل في وسع الأفلام أن تصبح أدوات للاستقصاء الفلسفي؟
1
يتناول الفصل الحالي هذه المسألة. أما المحور الثاني من مجال السينما والفلسفة؛ أي التناول الفلسفي للسينما ذاتها، فنطرحه في الفصل التالي. وقبل أن نستهل موضوع العلاقة بين السينما والفلسفة، دعونا أولا نستعرض بإيجاز بعض سمات السينما التي تجعلها قاعدة جذابة للتأملات الفلسفية.
قوة السينما ونطاق تأثيرها
يتحدث الأكاديميون كثيرا عن «الأدبيات»، التي تمثل مجموع الكتابات والأعمال الأساسية (الكلاسيكيات) التي تشكل مرجعا للأجيال المتعاقبة من البشر. ويفترض أن تنقل الأدبيات معنى وأنماطا لصياغة المفاهيم من جيل لآخر، وأن تشكل كذلك مجموع الكتابات المشتركة بين أبناء جيل واحد. نظريا، تهدف الأدبيات إلى وصف حقب وأجيال معينة وتمييزها، فتجسد على سبيل المثال مثلهم العليا (أو مثلهم العليا المزعومة) وآراءهم حول العائلة والحب والواجب الوطني. ويفترض أن تجسد الأدبيات مصدرا مرجعيا مشتركا لمجموعة من الأفراد ينتمون لثقافة ما، مهما كانت اختلافاتهم. والبعض يتساءل عما إذا كانت هذه الأعمال موجودة بالفعل أو سبق أن وجدت؛ على أي شيء استندت تلك الأعمال (الإنجيل أو غيره من الكتب المقدسة، أعمال شكسبير، أعمال جيه دي سالينجر)؟ وما المكانة التي ينبغي أن تحظى بها؟ وكيف ينبغي استخدامها؟ وما أوجه سلطتها ولأي غرض اكتسبت تلك السلطة؟
يمكن القول إن الأفلام الروائية - وندرج ضمن هذا التصنيف الأفلام الطويلة والمسلسلات التي تعرض على شاشة التليفزيون والمتاحة عبر أشكال أخرى متعددة - تشكل أدبيات أو أعمالا ومؤلفات أساسية حقيقية. إذا كان ذلك صحيحا، فإنه يرجع إلى المكانة الشعبية واللانخبوية لفن السينما؛ فأعداد من يشاهدون الأفلام ويناقشونها أكثر من أعداد من يقرءون، وبالتأكيد عدد الأفراد الذين يشاهدون الأفلام نفسها يزيد عن عدد من يقرءون الكتب نفسها، وتتخطى الأفلام الحواجز الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من الحواجز التي تفصل بين الجماهير على نحو لم تتمكن الأعمال الكلاسيكية الغربية من فعله قط. وفي الدول المتقدمة يشاهد الجميع تقريبا الأفلام ويتحدثون عنها بين حين وآخر. ومع توافر الأفلام في صور غير مكلفة، يرى أيضا العديد من أفراد الفئات المحرومة اقتصاديا الأفلام بكثرة. وفي نظر عدد لا يستهان به، تشكل الأفلام مركزا مرجعيا مشتركا حيث تحلل القيم والقضايا الأخلاقية والتساؤلات العامة والفلسفية. تجسد الأفلام ذلك كله بطريقة مميزة، فهي متاحة بسهولة، وغالبا ما تتمتع بجاذبية جمالية، فضلا عن كونها مسلية من نواح تجعلها مؤثرة من الناحية العاطفية والفكرية أو الذهنية (انظر كارول: 2004). والأفلام عموما ليست جامدة ولا صعبة الفهم كما هي الحال عادة مع النصوص الفلسفية أو الحجج الجدلية المنهجية. تحظى الأفلام بشعبية، وهي متاحة بسهولة ومنتشرة في كل مكان وجذابة على المستوى العاطفي.
غالبا ما توظف السينما أشكالا أخرى من الفن (مثل الموسيقى والفنون المرئية والأدب)، وقدرة تلك الأشكال على التأثير فينا جزء لا يتجزأ من قوة السينما . إلا أن قدرة السينما على التأثير فينا ودغدغة مشاعرنا ليست ببساطة حاصل تأثير مكوناتها الفنية؛ ففي النهاية يوجد فيض من الموسيقى والأدب والشعر والفنون المرئية التي تؤثر فينا تأثيرا مستقلا، يزيد عن تأثيرها حال تضمينها في الأفلام. ورغم ذلك تظل قدرة الفيلم الطويل على نقل الكثير من الأشياء لأعداد غفيرة في وقت قصير نسبيا (أقل من ساعتين عادة، وأقل من ثلاث ساعات في أغلب الأحوال) أحد أبرز سماتها. لكنها أيضا سمة أثارت قلق كثير من الفلاسفة والمنظرين السينمائيين. على سبيل المثال تخوف أدورنو وهوركهايمر (1990) من التأثير السلبي المحتمل للفن الجماهيري على جمهور منقاد ولا يتمتع بحس نقدي. (ولم لا ينطبق هذا الخوف أيضا على جمهور فعال وناقد؟ فهل يستطيع هذا الجمهور مقاومة سحر السينما؟) يزعم أن ألفريد هيتشكوك قال: «جميع الممثلين خراف.» ليس هذا ما قاله بالضبط إنما قال: «لم أقل قط إن الممثلين خراف، ما قلته هو أن جميع الممثلين ينبغي معاملتهم مثل الخراف.» ما قد يدفعنا للتساؤل عن رأيه في الجمهور.
من ناحية أخرى يتبنى فلاسفة آخرون، مثل والتر بينجامين، موقفا متفائلا حيال قدرة السينما على دعم الحرية السياسية والاجتماعية والفكر الإبداعي.
2
من إذن أقرب للصواب: المتشائمون مثل أدورنو أم المتفائلون مثل بينجامين؟ من الصعب حقا الإجابة عن هذا السؤال. فلنتأمل مثالا محددا، وليكن قوة الخطاب السياسي مقابل القوة السياسية للسينما. هل من المحتمل، بشكل أو بآخر، أن تتمكن حجة سياسية شفهية من تغيير المواقف مقارنة بمشاهدة فيلم سياسي؟ خطبة شابلن السياسية في نهاية فيلم «الديكتاتور العظيم» (ذا جريت ديكتاتور) (1940) تجسد مثالا مثيرا للاهتمام في هذا الإطار؛ فقد تمتعت بتأثير جدير بالاعتبار، وكثير من الناس يتذكرونها بإعجاب بعد مشاهدة الفيلم. لكن الهدف الصريح للفيلم عام 1940 كان تبديد بقايا أي انجذاب محتمل لدى جمهوره ناحية أدولف هتلر والفاشية القومية عموما، وقد حقق هذا الهدف دون الاستعانة إطلاقا بالخطبة؛ فالجانب الأكبر من التأثير الفعلي للفيلم يتحقق عندما يلعب شابلن - الذي يؤدي دور أدنويد هاينكل، ديكتاتور تومانيا - ببالون يجسد خريطة العالم ضاربا إياه بمؤخرته، وهي وسيلة مذهلة في فاعليتها للسخرية من أحلام السيطرة على العالم، أما ما إذا كانت ترقى لأن تصبح مادة لنقد فلسفي قوي للفاشية فتلك قضية أخرى.
إن السينما بطبيعتها وسيلة عظيمة القيمة لطرح موضوعات فلسفية ومناقشتها، لكن من المهم إدراك الأخطار الكامنة داخلها. قد تتسبب الأفلام في قدر من التشويش والارتباك عبر طريقة صياغتها وتصويرها، ونتيجة تلاعبها بالمشاعر أو مغازلتها لشتى الأهواء. واقتفاء أثر هذا التشويش يجسد جزءا مهما من أي منهج للتحليل الفلسفي للسينما. كثير من الأفلام تغذي تحيزات ورغبات غير واعية أو بغيضة، وتتغذى عليها وعلى الإشباع الرمزي لرغبات مكبوتة. ويعتقد أن نجاح الفيلم يعتمد غالبا على نجاحه في تلبية تلك المتطلبات (تأمل على سبيل المثال أفلام الانتقام مثل «هاري بروان» (2009)، و«أمنية الموت» (ديث ويش) (1974)، و«ذات مرة في الغرب» (وانس آبون آتايم إن ذا ويست) (1968)). وكما نصدق عادة ما نرغب في تصديقه (أو ما نتمنى تصديقه) بدلا مما يدفعنا المنطق إليه، فنحن غالبا ما نصدق أشياء معينة لأن مشاعر معينة تنتابنا. تؤثر المشاعر على ما نعتقد، مثلها مثل الرغبات، وتلك حقيقة غالبا ما تستغلها السينما وتفسر إلى حد كبير قدرتها على اجتذاب الجمهور. ولهذا تمدنا الأفلام بمعلومات خاطئة وتضللنا من المنظور الفلسفي في كثير من الأحيان، بقدر ما تطلعنا، في أحيان أخرى كثيرة أيضا، على قضايا فلسفية وتعمق معرفتنا بها.
أحد أعظم مناقب السينما هو قدرتها على الجذب والتسلية، وهي نقطة سعينا جاهدين من أجل توضيحها. هذا ما يميز السينما قطعا عن معظم الكتابات الفلسفية، التي غالبا ما تكون جافة كرمال الصحراء. وفي الوقت نفسه يظل قرب السينما (ووسائل الإعلام عموما) من الجماهير، وقدرتها على الجذب والتأثير، وعلى التلاعب بنا عاطفيا وفكريا وعلى «بث الاضطراب في نفوسنا» في صميم ما ذكرناه بالأعلى من المخاوف الأخلاقية التي أثيرت حول وسائل الإعلام، مثل تلك التي طرحها أدورنو وهوركهايمر (1990) وغيرهما. ورغم ذلك، فالاشتباك الفلسفي مع السينما ليس دوما إيجابيا. وكما أشار فرويد، قد يقدم الفن سبيل العودة من الخيال إلى الواقع؛ فللسينما فائدتها في سبر أغوار العديد من الجوانب التي تغطيها الفلسفة وليس جميعها. وتعالج أفلام بعينها موضوعات في الأخلاقيات والميتافيزيقا والدين وعلم الجمال إلى جانب موضوعات في الفلسفة الاجتماعية والسياسية. وقد يبرز جانب بعينه من بين تلك الجوانب؛ فمثل الروايات، تصور الأفلام غالبا جوانب من العلاقات البشرية الكثيرة وتستكشفها فلسفيا، لا سيما الحب والصداقة. وتلك حقيقة لا تبعث على الدهشة بالنظر إلى مدى انغماسنا عموما في الموضوعات التي تجذبنا من الناحية العاطفية مقارنة بأي موضوعات أخرى.
ما العلاقة بين الفلسفة والسينما؟
لقد اندمجت السينما والفلسفة لتشكلا مجالا مستقلا، وهو مجال يشهد نموا. إنه جزء من اتجاه نحو توسيع نطاق الموضوعات الصالحة للاستقصاء الفلسفي الجاد. وقد صاحب توسيع نطاق الموضوعات الفلسفية إدراك أن السينما وغيرها من أشكال وسائل الإعلام والترفيه قد تصبح أدوات فعالة لنقل الأفكار. وكثير من تلك الأفكار مثير للاهتمام من الناحية الفلسفية، وهي متأصلة في حياتنا اليومية، مثلها مثل الصداقة والحب والموت والهدف والمعنى. كون الحياة اليومية مصدرا للموضوعات الفلسفية ليس باكتشاف جديد؛ فطالما عرف الفلاسفة القدماء ذلك، وإن أدى إضفاء الطابع المهني الاحترافي على الفلسفة في القرن العشرين أحيانا إلى حجب هذا التركيز على الحياة اليومية. لقد شهدنا زيادة كبيرة في أعداد الكتب والمقالات التي لا تتناول الفلسفة والسينما فحسب، بل تتناول، من منظور أعم، الفلسفة والثقافة. ويركز بعضها على الفلسفة والقضايا المعتادة كما تظهر على شاشة التليفزيون (كشكل من أشكال السينما) وفي الموسيقى المعاصرة، بينما يركز البعض الآخر على قضايا فلسفية - أخلاقية وسياسية ومعرفية واجتماعية ونفسية - أكثر تقليدية، كما تظهر في أفلام الاتجاه السائد.
تمد السينما - لا سيما في جانبها الروائي - الفلسفة بمواد تصلح للبحث والتدقيق (سيناريوهات ودراسات حالة وقصص وفرضيات وحجج). إن القصص التي ترويها الأفلام، والتأكيدات التي تقرها، والفرضيات التي تطرحها أو تلمح إليها، تمد الأفراد - ومن ثم الفلاسفة - بمواد للتقييم النقدي. والأفلام تصلح كموضوعات مباشرة للاستقصاء الفلسفي. على سبيل المثال، فيلم «انتصار الإرادة» (ترايمف أوف ذا ويل) (1935) للمخرجة ليني ريفينشتال - الذي يصور مؤتمر الحزب النازي الذي انعقد في نورنبيرج عام 1934 - يقدم لنا مادة غنية بموضوعات صالحة للتأمل الفلسفي، من بينها العلاقة بين القيمة الجمالية والأخلاقية للفيلم. (غالبا ما تعتبر أفلام ريفينشتال تحفة جمالية لكنها ساقطة أخلاقيا.) ومشاهدة فيلم «انتصار الإرادة» تستدعي حتما أسئلة حول مسئولية الفنانين الأخلاقية عن إنتاجهم الفني. رغم ذلك لا تصبح الأفلام ببساطة ذات محتوى فلسفي خاص لمجرد كونها مادة صالحة للتدقيق الفلسفي (مثل طاولة أو قلم أو سحابة أو كاتدرائية)؛ فعادة ما يصبح شيء ما مادة للتدقيق الفلسفي عبر تمثيل نوع محدد من الخبرات أو الظواهر التي تحيرنا وتتحدانا فلسفيا. وتصبح الأفلام فلسفية من زاوية أكثر اكتمالا وإثارة للاهتمام عندما تفعل ما هو أكثر من ذلك. إنها تصبح فلسفية عندما تدفعنا للتأمل الفلسفي ونحن نشاهدها.
ما هو السبيل الأمثل لفهم العلاقة بين السينما (صناعة الأفلام) والفلسفة (التفلسف)؟ هل بوسع الفيلم أن «يصبح» نصا فلسفيا، بدلا من كونه مجرد مصدر للفلاسفة؟ أمن الممكن أن «تصبح» صناعة الأفلام نوعا من التفلسف؟ أمن الممكن أن تصبح مشاهدة الأفلام نوعا من التفلسف؟ ربما يعتمد الأمر ببساطة على مدى رحابة وشمول مفهومنا عن ماهية الفلسفة.
3
يقول موراي سميث، أحد منظري الفلسفة والسينما، (2006: 33): «إن قدرة الأفلام على أن تصبح، من منظور عام، فلسفية أمر لا خلاف عليه نسبيا في رأيي. تلك حقيقة لا تبعث على الدهشة إذا نظرنا إلى كل من السينما (بوصفها شكلا فنيا) والفلسفة كامتدادات لقدرة البشر على الوعي بالذات؛ أي قدرتنا على تأمل أنفسنا.» إذا فكرنا في الفلسفة ببساطة باعتبارها تعبيرا عن قدرة البشر على التأمل، فإن الأفلام تشترك بجلاء في هذه القدرة، لكن لهذه القضية أبعادا أكبر من هذا.
كيف نفهم الإمكانات الفلسفية للسينما؟ يصوغ بازلي ليفينجستون (2008: 3) هذا السؤال على نحو مفيد فيما يطلق عليه «الفرضية الجريئة»:
هل في وسع الأفلام تقديم إسهامات بارزة وإبداعية ومستقلة إلى الفلسفة باستخدام وسائل يتفرد بها الوسيط السينمائي (مثل المونتاج والعلاقات بين الصوت والصورة)، وهي إسهامات مستقلة من حيث كونها متأصلة في طبيعة السينما وليست قائمة على التعبير الفلسفي اللفظي، مثل التعليقات أو الشروح؟ تنغمس الأفلام بالفعل في تفكير فلسفي إبداعي وفي بنية المفاهيم الفلسفية الجديدة، حسب الزعم الذي كثيرا ما يتكرر في الأدبيات الضخمة المستوحاة من كتابات جيل دولوز التأملية عن السينما.
تزعم الفرضية الجريئة أن مساهمة السينما في الفلسفة، إن كانت حقيقية، فهي قطعا مساهمة لا تقبل الاختزال أو الاستبدال بأي شكل آخر من أشكال التواصل. إنها بالفعل فرضية قوية، لكن ما الذي يدفعنا إلى الاعتقاد بأن «القيمة» الفلسفية للسينما يحددها تفرد السينما الفلسفي؟ ليفينجستون نفسه ليس من أنصار الفرضية الجريئة؛ إذ يقول (ليفينجستون 2008: 12):
يجب علينا التخلي عن الفرضية الجريئة التي ترى السينما نوعا من الفلسفة، والتحول إلى فرضيات أكثر اعتدالا وقابلية للتطبيق. بعض الأفلام الروائية يصنعها مؤلف يستخدم الوسيط السينمائي، بالاشتراك مع الوسائل اللغوية، للتعبير عن منظور قائم على معرفة فلسفية. والبعض الآخر لا يصنع بهذه الطريقة لكن يمكن رغم ذلك استخدامه لتوضيح أراء مألوفة لكنها ذات قيمة حول الحكمة العملية، والشكوكية وغيرها من الموضوعات. يفتح كلا النوعين من الأفلام سبيلا إلى مواقف وحجج فلسفية، وقد يوفران حافزا لا يستهان به على التفكير الفلسفي الإبداعي ...
يستطرد ليفينجستون معدلا هذه «الفرضيات الأكثر اعتدالا وقابلية للتطبيق» على نحو كاشف، فيقول (2008: 12): «هذا يحدث ما دمنا نتذكر أن طرح تصنيفات وحجج معقدة سيتطلب تعبيرا لفظيا لا يوفره العرض السينمائي في حد ذاته؛ فوصف الحبكة، مهما كان بارعا، ليس بديلا لها.»
يقترح ليفينجستون على ما يبدو أننا إذا أردنا ممارسة الفلسفة على أصولها، بما تتطلبه من تصنيفات وحجج معقدة، فسوف نحتاج إلى الانكباب على العمل من أجل صياغة بينة؛ أي لفظية، لحجة فلسفية. بلا شك تتطلب أنواع محددة من الحجج الفلسفية ذلك تحديدا. ونحن نعلم أن السينما ليست بديلا عن أساليب مفيدة ومحددة للممارسة الفلسفية. لماذا إذن يزعم أحدهم أنها كذلك؟ لماذا قد يرغب في جعلها كذلك؟ إن زعم ليفينجستون أدنى بكثير من هذا المستوى، بل هو يلمح، بشكل أو بآخر، إلى أن السينما تخدم الفلسفة؛ إذ تقدم السينما (في بعض الأحيان) القوة الدافعة للتفلسف. إنها إحدى سبل التأمل الفلسفي. وعلى النقيض من الفرضية الجريئة، دعونا نقترح «فرضية البطلان». وفقا لهذه الفرضية ليس للسينما أي دور على الإطلاق في التأملات الفلسفية، بل إن دورها الوحيد هو تقديم قوة دافعة، أو مادة صالحة، للعمل الفلسفي الذي ينجز كليا في إطار لغوي عبر نصوص شفهية ومكتوبة. والأفلام نفسها لا تطرح نقاطا فلسفية (إلا عندما تجعل شخصياتها تعبر لفظيا عن نقاط فلسفية). ولكي تطرح الأفلام نقاطا فلسفية لا بد أن تخضع للشرح والتفسير ثم تدمج في حجة فلسفية تتطور في مسارها المعتاد. تلك هي فرضية البطلان، وهي بالأحرى استنتاج متحفظ ومحبط. أتوجد خيارات أكثر طموحا تناسب من يحترزون من الفرضية الجريئة؟
من بين الشخصيات البارزة التي ترفض ما أطلقنا عليه فرضية البطلان ستيفن مولهال (2002: 2):
أنا لا أعتبر تلك الأفلام أمثلة توضيحية رائجة، وفي المتناول، للآراء والحجج التي يطورها الفلاسفة على نحو سليم، بل أرى أنها ذاتها تتأمل تلك الآراء والحجج، وتقيمها، وتفكر فيها جديا وعلى نحو منهجي، بالطرق نفسها التي يستخدمها الفلاسفة. تلك الأفلام ليست مادة خاما للفلسفة، ولا مصدرا لتنميق الفلسفة، بل هي تمرينات فلسفية؛ ممارسة عملية للفلسفة أو ما يمكن أن نسميه تفلسفا سينمائيا.
للوهلة الأولى، نلمح أمرا محيرا بعض الشيء في الفقرة السابقة. ماذا يعني مولهال بعبارة: «بالطرق نفسها»؟ يمكن أن تصبح الأفلام ممارسة عملية للفلسفة، وأن تصبح فلسفية مثل النصوص (وأكثر من النصوص في بعض الأحيان) دون أن تتبع «الطرق نفسها التي يستخدمها الفلاسفة». إذا اتبعنا المعنى الحرفي لكلام مولهال، فسنجد أن إصراره على التكافؤ يعني، من المنظور المنهجي، أنه لا يوجد حقا داخل السينما فئة منفصلة للأفلام الفلسفية، بل الأمر ببساطة مجرد تأملات فلسفية عبر وسيط ما بنفس الطرق التي تتم بها عبر وسيط آخر. وهذا ينفي ضمنيا وجود أي قيمة في ممارسة السينما للفلسفة، وهو ما يحمل نوعا من المفارقة. بالطبع يمكن تفسير كلمات مولهال تفسيرا أقل قسوة من هذا . تزعم الفقرة السابقة بالأساس أن كلا من الممارسة الشفهية للفلسفة والممارسة السينمائية لها طريقتان للتفكير جديا ومنهجيا في الآراء والحجج. دعونا نطلق على ذلك «الفرضية المعتدلة». في حين تزعم الفرضية الجريئة أن التمثيل السينمائي للفلسفة فريد من نوعه، ولا يمكن اختزاله إلى أشكال أخرى من الممارسات الفلسفية. وتزعم فرضية البطلان، على وجه التحديد، أنه لا يوجد ما يدعى التمثيل السينمائي للفلسفة. تزعم الفرضية المعتدلة أن التمثيل السينمائي للفلسفة موجود، وأنه بالفعل تمثيل للفلسفة. رغم ذلك تنكر الفرضية المعتدلة تفرد الفلسفة السينمائية. والتمثيل السينمائي للفلسفة ليس عصيا على الترجمة إلى أشكال فلسفية لفظية؛ إذ يمكن إعادة التعبير عن الفلسفة لفظيا دون خسارة، على الأقل من حيث المبدأ. إن ممارسة الفلسفة سينمائيا لا تتطلب اتباع نفس طريقة ممارستها لفظيا (وهو ما لا يحدث عادة)؛ لكن هذا لا يدفعنا بالضرورة لاستنتاج أن ممارسة الفلسفة سينمائيا تمنحنا مدخلا إلى معارف وحقائق فلسفية يستعصي على الفلاسفة، الذين يمارسون الفلسفة بطرق غير سينمائية، الوصول إليها (وهو استنتاج يعتبر إعادة صياغة للفرضية الجريئة). تقع الفرضية المعتدلة في مكان ما بين الفرضية الجريئة وفرضية البطلان.
قد يثبت في النهاية خطأ الفرضية الجريئة دون جعل السؤال حول العلاقة بين الفلسفة والسينما مملا أو بلا جدوى. وفي نظر الكثير تعتبر الفرضية الجريئة أجرأ من اللازم. وعلى الجانب الآخر، تبدو الفرضية المعتدلة معتدلة أكثر من اللازم؛ فقد تثبت صحتها دون طرح أي أفكار مثيرة للاهتمام فعليا عن العلاقة بين السينما والفلسفة. هل يوجد شيء ذو قيمة فلسفية خاصة يمكن قوله عن ممارسة الفلسفة عبر السينما؟ يقترح إيرفينج سينجر أن الأمر يتعلق بالسمات الفنية للأفلام في حد ذاتها، فكتب قائلا (2007: 3): «بعيدا عن أي جهود مؤسفة لاستنساخ ما يفعله الفلاسفة المخضرمون، فإن الأفلام التي نعتبرها عظيمة هي أفلام فلسفية بقدر ما يستغل المعنى الذي تجسده والتقنيات التي تنقل هذا النوع من المعنى الأبعاد الصوتية والأدبية والبصرية لنوعه الفني استغلالا عميقا ومؤثرا.»
4
هل سينجر على حق في استنتاجه؟ لماذا لا يمكن اعتبار فيلم ما «عظيما»، ويجسد معنى، ويوظف تقنيات تنقل هذا المعنى، و«يستغل الأبعاد الصوتية والأدبية والبصرية لنوعه الفني استغلالا عميقا ومؤثرا» ورغم ذلك لا يعتبر على وجه الدقة فيلما فلسفيا؟ (تأمل على سبيل المثال الأفلام الموسيقية مثل «قابلني في سانت لويس» (ميت مي إن سانت لويس) (1944) و«شارع 42» (فورتي تو ستريت) (1933).) وعلاوة على ذلك، ما الذي يفعله «الفلاسفة المخضرمون» في رأي سينجر؟ من بين ما يفعله الفلاسفة المخضرمون دراسة كثير من القضايا الشخصية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية نفسها التي تتناولها السينما بالبحث أحيانا. هم يجمعون ما يذكرنا بسمات ثابتة، دائما ما نتجاهلها من الخبرة البشرية؛ ويتأملون تلك الخبرة بوصفها ظاهرة إلى جانب إعمال الفكر في تماسك النظريات الفلسفية وصحة أدلتها. وتوجد بعض الأفلام التي تتفوق كثيرا (من حيث كونها أكثر تبصرا ودقة وإقناعا من الناحية الفكرية) على الفلاسفة المخضرمين في أداء بعض هذه المهام على الأقل.
ربما ينبغي لنا إذن تبني فرضية معتدلة تقضي بأن أفكارا فلسفية محددة تجسد على نحو أفضل على شاشة السينما من تجسيدها في النصوص المكتوبة؛ فربما تعمق الأفلام أحيانا من وجهات نظر فلسفية على نحو تجد النصوص المكتوبة صعوبة في تحقيقه. لا يتطلب ذلك امتلاك السينما قدرة فريدة على توظيف نمط خاص بها من التفلسف أو نوع تنفرد به من التبصر الفلسفي، ولا يتطلب امتلاك الأفلام قدرة على أداء أنشطة فلسفية لا يمكن أداؤها على الإطلاق عبر أساليب فلسفية شفهية أو مكتوبة. تلك إذن فرضية مختلفة عن الفرضية الجريئة. على الجانب الآخر، تقتضي الفرضية المعتدلة أن الأفلام قد تتفوق أحيانا على النصوص المكتوبة في أداء بعض المهام. إذن فالأفلام ليست مجرد منهل للتفلسف، وهي أيضا ليست مجرد وسائل للتأمل المنهجي في معتقدات أساسية. إنما هي طرق جيدة على نحو استثنائي لممارسة الفلسفة. إن الفرضية المعتدلة تخول السينما امتلاك مغزى فلسفي عميق.
الفكرة الرئيسية وراء الفرضية المعتدلة هي أن الأفلام تستطيع أحيانا التفوق على الأنواع الفلسفية المعتادة في تقديم أشكال بعينها من المادة الفلسفية. ولا يرجع ذلك فحسب إلى كون السينما أكثر إمتاعا وجاذبية على المستوى العاطفي. الأفلام في أغلب الأحيان أكثر جاذبية من الكتابة الفلسفية العادية، وفي النهاية أي من كتابات فلاسفة مثل كانط وهيجل وهيوم ورولز ودوميت لا تعتبر حقا كتابات مشوقة. إذا كانت السينما تستطيع أحيانا أن تصبح وسيطا فلسفيا أفضل، فإن ذلك يرجع جزئيا إلى قدرتها على تجسيد نوع من الفروق الدقيقة ووجهات النظر التي لا توجد غالبا في الفلسفة الاحترافية، ومن الصعب إعادة إنتاجها ضمن الأنواع الأدبية التي تستخدمها. وذلك بدوره يرجع جزئيا إلى أن الفلسفة الاحترافية مكبلة أكثر مما ينبغي بقيود أنواعها الأدبية المتخصصة؛ ألا وهي مقالات الدوريات المتخصصة والدراسات ذات الموضوع الواحد.
تستند بعض الآراء المحافظة حول قدرة السينما على ممارسة الفلسفة إلى مفهوم قيم وحصري ومفرط التدقيق لماهية الفلسفة. قد يرجع ذلك إلى أن بعض الفلاسفة لا يرغبون ببساطة في تقبل احتمالية أن الشعراء والروائيين وصناع الأفلام، وغيرهم ممن يمتهنون مهنا أقل مقاما، ربما ينجحون كثيرا فيما يخفق فيه الفلاسفة، ويتفوقون أحيانا في ممارسة الفلسفة على الفلاسفة المحترفين، ناهيك عن تقبل ذلك كحقيقة بسيطة. ويرتبط بالمفهوم «القيم» للفلسفة الافتراض المزعوم بأن على السينما تحقيق توقع ما؛ أي معايير معينة لا بد أن تفي بها كي تصبح جديرة بالنظر إليها على أنها تمارس الفلسفة أو تساهم فيها. لكن ربما يجدر بنا النظر فيما إذا كان الفلاسفة قد أساءوا فهم الترتيب الصحيح للعلاقة بين الفلسفة والسينما. ربما كان السبيل الأكثر ثراء بالأفكار هو طرح السؤال التالي: «ما الذي ينبغي على الفلسفة فعله، ما المعايير التي ينبغي أن تسعى لتحقيقها، كي تصبح أكثر شبها بأفلام (معينة) أو كي تساهم فيها؟»
يرى بعض الفلاسفة أن الممارسة الفلسفية المعاصرة شوهت الكثير من القضايا الفلسفية. وعلى وجه الخصوص، فإن فلاسفة أمثال آيريس مردوخ (1970) ومارثا نوسباوم (1990) يعتقدون أن الفلسفة - على الأقل في بعض الأحيان، وفي ميادين مثل الأخلاقيات - تبدو أكثر انسجاما، أو بعبارة أخرى أكثر قابلية للفهم وأكثر تناغما في الأدب والفنون، مقارنة بوضعها بين الفلاسفة. إن جماليات السينما وتقنياتها؛ مثل المونتاج والتركيز العميق واللقطات المقربة ولقطات التتبع، جميعها مناسبة لتركيز وتعزيز الانتباه والتأمل اللازمين اللذين يعتقد مردوخ ونوسباوم أن الأدب الروائي الجيد يجسدهما. إلا أنه في جعبة السينما ثمة حيل تفوق بكثير ما لدى الروايات؛ فالكاميرا تصحبنا إلى حيث يريدنا المخرج تحديدا، ويمكن إبراز وجهة نظر ما باستخدام الصوت أو الموسيقى. والأفلام ترينا وجوها؛ ومن ثم تطلق العنان لقدرتنا على قراءة الوجوه وإدراك مغزى الحركات والإيماءات. بينما يضطر الروائي إلى التصريح أو التلميح، بأشياء يمكن لصانع الفيلم أن يعرضها علينا. لا يعني هذا، حسب وصف مردوخ ونوسباوم، أن الأفلام دائما ما تتفوق على الروايات في اجتذاب المشاهد على المستوى النقدي والأخلاقي. (تفتقر الأفلام عموما إلى الصوت الحازم الجلي الذي نجده في بعض الروايات، رغم أن ذلك لا يعد دوما عيبا بأي حال.) وحتى مع الأبعاد الإضافية أو الحيل التي تستخدمها السينما، يتفوق كثير من الروايات (كل الروايات العظيمة تقريبا) على الأفلام في جذب القارئ إلى عالمها، ودفعه إلى التركيز في سياق أخلاقي، داعمة إدراكه للتفاصيل المهمة (أحيانا عبر حجب معلومات معينة). رغم ذلك، فإن التقنيات المتنوعة المتاحة للسينما قد تؤدي بالفعل إلى خلق درجة من الانجذاب العاطفي والأخلاقي يعجز الأدب الروائي في كثير من الأحيان عن تحقيقها. يمكننا توسيع نطاق هذا النقاش ليتجاوز الأخلاقيات وفن الرواية. السينما قادرة على طرح بعض الآراء ووجهات النظر الفلسفية بطريقة أفضل، وبمزيد من الوضوح، مقارنة بالمؤلفات المكتوبة على اختلافها. وتلك الرؤية هي بالطبع ما نطلق عليه الفرضية المعتدلة حول العلاقة بين السينما والفلسفة.
في هذا الكتاب، سوف نفحص كثيرا من الأفلام، بعضها سيوضح أفكارا فلسفية، وبعضها سيعرض ظواهر تستدعي الاستقصاء الفلسفي، والبعض الآخر يشكل في حد ذاته موضوعات للتدقيق الفلسفي. وإلى جانب ذلك سنتناول أفلاما نرى أنها تستدعي تجارب افتراضية فلسفية، وأخرى قدمت تحريا دقيقا لموضوعات فلسفية عبر حشد رسائل تذكيرية قوية حول مختلف جوانب خبرتنا بالحياة وعبر استخلاص استنتاجات منها. في الفئة الثانية من الأفلام التي نعرضها سوف نتبع الفرضية المعتدلة؛ إذ نرى أن التجارب الافتراضية في بعض الأحيان (وليس دائما) تعرض في قالب سينمائي أفضل من عرضها في القالب المقتضب عن عمد والمنفصل عن أي سياق، الذي نألفه في الكتابة الفلسفية. ونعتقد أن السينما قادرة أحيانا على إجراء تحر دقيق لجوانب أصيلة من خبرتنا البشرية يتخطى الإنجازات المعتادة لدى النصوص الفلسفية المكتوبة، وبينما تفعل ذلك تدحض بقوة الطرق الجوفاء والمفرطة التبسيط لفهم الحياة.
الفلسفة السينمائية وقصد المؤلف
إذا كانت الأفلام تمارس الفلسفة، فمن الذي يتفلسف إذن؟ في كتاب «تأمل الشاشة: السينما كنوع من الفلسفة» (2007) يزعم توماس وارتنبيرج أن فيلم «إشراقة أبدية لعقل نظيف» (إتيرنال سنشاين أوف ذا سبوتليس مايند) (2004) للمخرج ميشيل جوندري يقدم نقدا دامغا للنفعية. يطرح وارتنبيرج هذا الزعم كجزء من محاولته الدفاع عن الادعاء بأن الأفلام تمارس الفلسفة فعليا؛ وفي حالة هذا الفيلم تمارس الفلسفة عبر طرح مثال مناقض قوي يستخدم تجربة افتراضية. وبينما يطور وارتنبيرج نموذجه، يفترض أن نشأة النفعية كرؤية أخلاقية معيارية كانت في إنجلترا أثناء القرن التاسع عشر، وروادها هما جون ستيوارت ميل وجيريمي بنثام. ويرى أن قصد صناع الفيلم هو محاولة تفنيد الرؤية النفعية عبر تقديم مثال مناقض. يعرض الفيلم هذا المثال المناقض عبر السرد تحديدا، لكنه يستعين أيضا بالصوت والتمثيل وحركة الكاميرا ... إلخ. يهتم وارتنبيرج بوجه خاص بإظهار أن هذا الاعتراض الفلسفي لم يفرضه فيلسوف ما (هو في هذه الحالة) فرضا على الفيلم وليس إسقاطا لرؤية فلسفية ما عليه، لكنه اعتراض متأصل في الفيلم قصده صناعه. وعلاوة على ذلك، لا يهم بوجه عام، من منظور وارتنبيرج، ما إذا كان صناع الفيلم يدركون فعليا أنهم يستهدفون الهجوم على نظرية فلسفية نموذجية في حقل الفلسفة الأخلاقية المعيارية تدعى النفعية أم لا. فيكفي أنه كان لديهم تصور ما للفكرة ذات الصلة وفهم جيد لمكمن الخطأ المحتمل فيها. (يجسد فيلم «إشراقة أبدية لعقل نظيف» قصة شخصين يخضعان لإجراء يمحو ذكريات علاقتهما العاطفية من وعيهما بعد انفصال مؤلم. يحدث الفيلم تأثيره عادة عندما ينال تأييد الجمهور لحقيقة كون هذه الفكرة في غاية السوء، وأن في الحياة أشياء أهم من تقليص الألم.)
5
تثير العلاقة بين نوايا صناع الأفلام والاستقصاء الفلسفي للأفلام عدة أسئلة. أحد الجوانب المثيرة للاهتمام في السينما، والذي يوجد أيضا في الأشكال الأخرى من الفن السردي (مثل الروايات)، هو أنها كثيرا ما تسمح لنا برؤية وتخمين أشياء تفوق بكثير ما انتواه صناعها. قد يتضمن الفيلم في ثناياه رؤية فلسفية ما دون أن يقصد المخرج أو الكاتب إظهارها، وأحيانا دون أن يعي، حتى إنه يعتنق تلك الرؤية، أو إنها مضمرة ضمن ما يعتنقه من آراء أخرى. وبعيدا عن دعم المخرج أو الكاتب صراحة لرؤية ما (وحتى مع وجود ذلك الدعم) لا بد من مراعاة الحرص عند عزو تلك الرؤى إليهم. فهل يدعم صناع الأفلام التي تصور أبطالا يطبقون العدالة بأنفسهم خارج إطار القانون - مثل مايكل وينر مخرج فيلم «أمنية الموت» (1974) ودون سيجل مخرج فيلم «هاري القذر» (ديرتي هاري) (1971) - الآراء التي يجسدها الممثلون بتلك الأفلام حول العدالة، حتى وإن أبدى الجمهور دعما جارفا لها؟ إن تلك الأفلام تقدم حججا (رديئة للغاية) لدعم تطبيق العدالة خارج إطار القانون بصرف النظر عن إجابة السؤال السابق.
يمكن تقييم الآراء الفلسفية التي تقدمها الأفلام، أو التي يعتقد أن الأفلام تقدمها، تقييما مستقلا عن قصد المؤلف. بالطبع قد لا نكون على حق دوما في كل رأي ننسبه إلى فيلم ما، سواء كان حاضرا في الفيلم عن قصد أو دون قصد، وبما أن بعض الأفلام قد تكون غامضة أو غير واضحة أو مرتبكة حيال الآراء التي تقدمها، فلن يتاح لنا دائما إدراك ما إذا كان الفيلم يجسد موقفا ما أو يدافع عنه. وهو وضع ينطبق كذلك على الحجج الفلسفية في النصوص المكتوبة كذلك، ولا يوجد سبب يدفعنا إلى افتراض تمتع السينما بأفضلية طبيعية فيما يتعلق بعرض الآراء أو الحجج الفلسفية عرضا واضحا لا يشوبه الغموض.
إن الاكتفاء بتحديد قصد صناع الفيلم قد يكون مفيدا في عملية استخلاص رد فعل فلسفي على الفيلم، وقد لا يكون مفيدا. دون قدر كبير من الأدلة الداعمة قد يستحيل فعليا تحديد قصد المؤلف، أو تبرير عزو قصد المؤلف، حتى في الحالات التي نصيب فيها. وعلى أي حال، لا يحظى قصد المؤلف دائما، بل وربما لا يحظى حتى في معظم الأحوال، بأهمية خاصة، ما لم يكن المرء مهتما تحديدا بآراء صانع أفلام بعينه. على سبيل المثال، يبدو من المهم فهم نوايا صناع الأفلام المثيرين للجدل الذين يتعمدون اختيار موضوعات معينة مثل مايكل هانيكه. إلا أن نوايا هانيكه الكامنة في أفلام مثل «فيديو بيني» (بينيز فيديو) (1992) و«ألعاب مسلية» (فاني جايمز) (1997، 2007) و«الشريط الأبيض» (ذا وايت ريبون) (2009) لا تحدد الإمكانات الفلسفية لتلك الأفلام أو تحد منها. وما ينبغي أن يثير اهتماما فلسفيا في أفلام العدالة خارج نطاق القانون التي أشرنا إليها أعلاه ليس ما إذا كان صناع تلك الأفلام يؤمنون بمفهوم العدالة الذي يصورنه، بل ما إذا كانت الأفلام تقدم ما يدعم فعليا هذا المفهوم. وبالطبع إذا انتهينا إلى أنها لا تحقق ذلك، فسيصبح السؤال الأهم فيما يتعلق بالفلسفة والسينما يخص تلقي الجمهور لتلك الأفلام. كيف يستوعب الجمهور على المستوى المعرفي أن تلك الأفلام تحاول مثلا التأثير في غرائز الانتقام لديهم؟ ولماذا يستمدون هذا القدر الكبير من نوع ما من الإشباع من تلك الأفلام؟
يعلق ليفينجستون قائلا (2008: 4): «يمتلك وارتنبيرج من الحصافة ما يجعله يسلم بأن القول إن فيلما ما يتضمن معالجة فلسفية ليس سوى «تعبير مختزل يقصد به القول إن صناع الأفلام هم من يتناولون الفلسفة فعليا في السينما أو من خلالها».» إذا كانت الوساطة ضرورية لفعل أي شيء، وإذا لم يكن الفيلم وسيطا فبالتأكيد ليس في وسع السينما ممارسة الفلسفة، وإنما مسها مسا خفيفا وحسب. قد تبدو صحة الرأي الذي يطرحه ليفينجستون واضحة جلية، لكنها في الحقيقة ليست بهذا الجلاء؛ إذ يوجد شعور طبيعي أن الأفلام، مثلها مثل الأعمال الروائية إلى حد كبير، قد تتمتع بقدر ينسب إليها شيئا من الوساطة. في وسع الأفلام فعل أشياء لأن بمقدورها إحداث تأثيرات ذات معنى تتجاوز كثيرا نوايا صناعها. ومثلما يؤدي تطور الشخصيات في الأدب الروائي إلى عرض فروق دقيقة في وجهات النظر، وتوضيح عواقب غير مقصودة قد تضيف إلى جدل فلسفي، أو تعبر عن رأي ما، تستطيع الأفلام تحقيق ذلك، بل وربما تحققه بدرجة أكبر من الأدب الروائي، بصرف النظر عما إذا كان صناعها ينوون ذلك أو يتنبئون به؛ فجزء من مهام ممنتج الأفلام (محررها) هو استخلاص أو تسليط الضوء على القصة وتطور الحبكة والمعنى الحاضر أو الآخذ في التنامي داخل الفيلم. لكن الفيلم قد يفوق أو يقل عن مجموع أجزائه من منظور قيمته الجمالية الكلية ومعناه، سواء كان ذلك مقصودا أم لا. ومن الممكن غالبا تمييز قصد المؤلف عن الأشياء التي تصورها قصة الفيلم أو المؤثرات البصرية أو الأداء.
مثل الروايات، تتمتع الأفلام بحيوات ومعان خاصة بها تختلف مع مرور الزمن، وترتبط إلى حد ما باختلاف أنواع الجمهور. تلمح تلك الآراء إلى أن القول بأن الأفلام «تمارس الفلسفة» ليس مجرد تعبير مجازي؛ فالأفلام الجيدة غالبا ما تتخطى مجموع نوايا صناعها الإبداعية. علينا كذلك مراعاة أن نظرية السينما كثيرا ما تتشكك في نسبة الأفكار إلى المؤلف دائما؛ فالأفلام تعبر (أو ربما تعبر) عن أفكار خاصة بالمخرج، كما زعم المخرج الفرنسي تريفو (1954) عندما صاغ تعبير «سياسة المؤلف». لكن منظري السينما يشيرون إلى أن الفيلم، على عكس الرواية، هو مشروع تعاوني وحاصل جهود العديد من الأفراد لا جهود الكاتب/المخرج فحسب. وبقدر ما يجسد الفيلم مفهوم الفعالية التعاونية، ينبغي أن ينظر إليه كذلك باعتباره كيانا أكبر من مجموع أجزائه، بحيث لا يمكن أن نعزو نتائجه، بما فيها المعنى، كلية إلى المخرج أو الكاتب، أو حتى إلى حاصل جهود جميع من شاركوا في إنتاج الفيلم.
6
خاتمة
بالعودة إلى تفسير وارتنبيرج لفيلم «إشراقة أبدية لعقل نظيف»، نوجه اهتمامنا إلى مقترح ذكرناه آنفا يدفع بحتمية الاعتراف بالتفوق الفلسفي للسينما إن رغبنا في استيعاب العلاقة بين السينما والفلسفة وإدراكها حق الإدراك. ويجب على الفلسفة، على الأقل إلى حد ما ومن أوجه معينة، التطلع نحو السينما بدلا من توقع العكس.
يلفت وارتنبيرج (2007: 91) أنظارنا إلى «الفرق بين تفسيرين للأعمال الفنية؛ تفسير متمركز على صانع العمل، وتفسير متمركز على الجمهور»:
التفسيرات المتمركزة على صانع العمل الفني تطرح تأويلات ربما قصد الصانع طرحها عبر عمله. لكن ... هذا لا يعني حتمية إلمام الصانع إلماما مباشرا بالموقف الفلسفي الذي تدعي تلك التفسيرات أنه محور العمل، بل يشير فحسب إلى معقولية الاحتمال القائل بأن الصانع قد استجاب إلى مواقف أو أفكار متضمنة في ذلك العمل الفلسفي. وعلى الرغم من أن النصوص الفلسفية بمنزلة مصادر للكثير من الأفكار والنظريات والمواقف، فإنها تكتسب حياة خاصة بها داخل إطار ثقافة ما. وكل ما هو ضروري للتفسير المتمركز على صانع العمل كي يكون مقبولا في هذا السياق هو طرح احتمالية اطلاع الصانع على الأفكار والنظريات والمواقف الفلسفية بموجب وجوده العام ضمن إطار ثقافة ما مثلا. إن النفعية نظرية فلسفية اكتسبت تقديرا واسع النطاق داخل الثقافة الأمريكية بوجه عام، وشعار «أكبر نفعا لأكبر عدد من الناس» معروف لدى أعداد أكثر بكثير من أعداد من قرءوا النصوص التي انبثق منها؛ لذا يبدو معقولا في رأيي أن فيلما معاصرا ربما يستهدف تلك الرؤية.
يضفي وارتنبيرج (2007: 92) مزيدا من التأكيد على فكرته عبر الإشارة إلى «استدعاء الفيلم بوضوح لأفكار نيتشه»، إلى جانب حقيقة أن «النفعية كانت من بين ما استهدفه نقد نيتشه الفلسفي».
لا حاجة للمرء برفض رأي وارتنبيرج حول ممارسة هذا الفيلم للفلسفة كي يقترح أن الشكل الذي يتخذه الدفاع عن الفيلم كوسيط للمعالجة الفلسفية يتضمن افتراضا مسبقا مثيرا للاهتمام. إذا لم نستكشف طبيعة هذا الافتراض، فسوف نسيء على الأرجح فهم آلية الارتباط الوثيق بين الفلسفة والسينما في أغلب الأوقات، وسبب هذا الارتباط. نجح وارتنبيرج في البرهنة على أن الأفلام تستطيع تقديم مواقف فلسفية، أو توضيحها، أو مناقشتها، وطرح أسئلة فلسفية، وغالبا ما تفعل ذلك. ونحن نقترح، فيما أطلقنا عليه الفرضية المعتدلة، أن الأفلام غالبا ما تتفوق حقا على النصوص الفلسفية الشفهية أو المكتوبة في القيام بالمهام السابقة. ربما السؤال المحوري ها هنا ليس هل تستطيع الأفلام القيام بذلك أو كيف تقوم به، بل كيف تعجز عنه؟ يقول وارتنبيرج (2007: 93): «لقد رأينا أن فيلما واحدا، «إشراقة أبدية لعقل نظيف» يقدم مثالا مناقضا للنفعية؛ ومن ثم يمارس الفلسفة فعليا ... وعلى عكس المتوقع لدى دارسي السينما والفلسفة على حد سواء، في وسع الأفلام الروائية تقديم حجج فلسفية عبر قصصها؛ لأنها تعرض تجارب افتراضية تلعب دورا محوريا في تقديم نماذج مناقضة للأطروحات الفلسفية.» هذا تعبير عما نطلق عليه الفرضية المعتدلة، ويبدو لنا أن مثل هذا الموقف المتواضع لن يصدمنا كموقف مناقض للحدس إلا إذا كنا غارقين حتى آذاننا في أغوار أيديولوجية ما غير منطقية حول السينما والفلسفة أو كليهما. هذا الكلام غير موجه بالضرورة إلى وارتنبيرج بقدر ما هو موجه إلى من يتحدث عنهم من المعترضين بناء على أسس فلسفية؛ فهم يؤمنون على ما يبدو بتصور بالغ السطحية حول الفلسفة وأصول التفلسف.
يفترض وارتنبيرج مسبقا عاملين في مناقشته هذه المسألة. الأول هو تفوق الفلسفة. إذا جسد فيلم ما تجربة افتراضية فلسفية فإنه يتمكن من ذلك عبر حشد قواه لمواجهة موقف فلسفي معروف؛ فالموقف الفلسفي يأتي أولا، ويمارس الفيلم الفلسفة عبر الاستجابة له بطريقة ما. (هذا ما يحدث غالبا، لكن هل يحدث دائما؟ وهل لا بد أن يحدث؟) والثاني هو تأكيده المفرط فيما يبدو على المحتوى الفكري للحجج السينمائية بدلا من طريقة إعدادها وتقديمها في الفيلم. إن جزءا مهما من منهج السينما في ممارسة الفلسفة هو قدرتها على تجسيد الحجة بطرق وجدانية؛ أي بطرق تحقق تجاوبا عاطفيا لدينا إلى جانب التجاوب الفكري. والمشاعر التي يولدها الفيلم قد تركز انتباهنا، وتمكننا من «رؤية» أو تقدير جوانب من حجة ما كانت لتطرح جانبا في أحوال أخرى. وباستثناء الحقائق القائمة على الملاحظة والتجريب (أن ترى شيئا رأي العين)، فإن التصديق في أغلب الأحيان ينبع من الرغبات والمشاعر أكثر من المنطق والدليل. وأحيانا يجب على الفكر الفلسفي ملاحظة هذا المكون الوجداني الذي يميز الفلسفة البارعة.
فلنلق نظرة على أنواع الفلسفات التي يعتقد وارتنبيرج أن فيلم «إشراقة أبدية لعقل نظيف» يناقشها. إذا استبعدنا آراء المناصرين الأوفياء لكل من النفعية وأخلاق الواجب، فسنجد أن الحقيقة الوحيدة التي جعلت، على ما يبدو، السجال بين كلتا النظريتين الأخلاقيتين المعياريتين (أو المبدأين المعياريين الرئيسيين) عصيا على التسوية؛ هي أن أي نظرية وحدها لا ترضي الحدس البشري الطبيعي، ولا تعطيه حقه فيما يتعلق بتحديد الصواب في القضايا الأخلاقية كافة.
7
تخيل ميل وبنثام، بصحبة كانط، يحضرون عرضا نهاريا بإحدى السينمات. اختار ميل وبنثام مشاهدة فيلم «إشراقة أبدية لعقل نظيف»، بينما اتجه كانط إلى صالة العرض المجاورة لمشاهدة إعادة عرض لفيلم «مذكرات آنا فرانك» (ذا دايري أوف آنا فرانك)، ثم التقيا في ردهة دار العرض بعد انتهاء الأفلام، ليقول كانط: «حسنا، لقد أخطأت تماما في كل ما كتبته عن الكذب. إن من حموا آنا وعائلتها فعلوا الصواب عندما كذبوا عند سؤالهم عن مكان العائلة. لا بد أن أعيد تأليف كتابي «أسس ميتافيزيقيا الأخلاق» و«نقد العقل المحض».» فيرد ميل وبنثام قائلين: «لا لا، في الحقيقة نحن نعتقد أنك توصلت إلى شيء ذي قيمة، إنها النفعية التي في حاجة إلى تعديلات جدية.» حسب وجهة نظر وارتنبيرج حول طريقة توليد الأفلام للحجج الفلسفية. من الصعب تخيل أي شخص، ناهيك عن كانط أو ميل أو بنثام، يغير رأيه نتيجة لترسخ مثال مناقض عرضه فيلم في ذهنه. والأمثلة المناقضة سوف يجري التعامل معها بدهاء في سياق ولاءات فكرية سابقة. رغم ذلك، تستطيع بعض الأفلام مع بعض الأشخاص في بعض الأحيان توليد نوع من التيقظ والتبصر الوجداني الذي قد يزعزع ولاءات وافتراضات سابقة حتى في وقت ظن فيه أصحابها أنها قائمة على أسس فكرية وعقلانية. الأفلام قادرة على «فرض» الأمثلة المناقضة علينا بطرق تسمح لنا بفهم وتقدير أفضل لقوتها وقيمتها كأمثلة مناقضة، وهذا لا يعني إنكار أنها قد ترفض رغم ذلك أو أنها يجب أن ترفض في بعض الأحيان.
قد ينبع افتراض وارتنبيرج المسبق حول أفضلية الفلسفة على السينما من وجهة نظر خاطئة عن نشأة المشكلات الفلسفية؛ إذ يقول (2007: 91): «رغم أن النصوص الفلسفية هي مصادر الكثير من الأفكار والنظريات والمواقف، فإن تلك الأفكار تكتسب حياة خاصة بها داخل إطار ثقافة ما.» مع ذلك فإن النصوص الفلسفية ليست دائما، ولا حتى في أغلب الأحيان، مصدر الأفكار، بل الثقافة هي المصدر. إن النصوص الفلسفية، لا الثقافة، هي المكان الذي تكتسب فيه «الكثير من الأفكار والنظريات والمواقف» حياة خاصة بها. وخارج النطاق الضيق لبعض صور الفلسفة الاحترافية، لا تنبع الفلسفة من نفسها؛ فالتساؤل الفلسفي يتولد من إحساس دائم ومركز من العجب والحيرة من الحياة، حياتنا وحياة الآخرين أيضا، كما نعيشها ونندمج فيها.
إن الأسئلة الأخلاقية التي تطرحها النفعية، والإجابات التي تقدمها، لا توجد، بداية، في كتابات ميل وبنثام، ولا ابتدعها كل منهما من لا شيء. إنما هي مسائل أخلاقية تثار في الحياة العادية. ومحاولات الفلسفة النفعية، في هذه الحالة، لترتيب وتصنيف إجابات لهذه المسائل ذات الأهمية لم تخرج إلى النور إلا بعد ما استحوذ علماء الأخلاق وذوو التفكير الفلسفي على تلك المسائل. والإيمان بأن «احتياجات الكثرة تفوق احتياجات القلة أهمية» (أو احتياجات الفرد)، حسب تعبير شخصية سبوك في مسلسل «ستار تريك»، سابق على صيغ النفعية التي ظهرت في القرن التاسع عشر. لم توجد المشكلات الفلسفية، بعيدا عن المشكلات شديدة التخصص، أولا وأخيرا في المقالات والنصوص الدعائية الفلسفية، بل هي مكون من مكونات الحياة. وغالبا ما تصورها السينما والأدب وتحللها كما هي بدرجات متفاوتة من النجاح، وتتناولها أيضا أشكال فنية أخرى، مثل الموسيقى والرسم، لا تتضمن محتوى سرديا واضحا أو ربما لا تتضمن أي عنصر سردي على الإطلاق.
لا يبتدع الفلاسفة، على الأقل في المعتاد، المشكلات الفلسفية العامة التي هي من مكونات الحياة. وتلك المشكلات ليست من ابتداع الفلسفة ولا ملكية خاصة بها. لذا لنفهم الصلة الجذرية بين السينما والفلسفة، وكي نفهم السينما كشكل من أشكال الفلسفة، لا ينبغي لنا الاكتفاء بالنظر إلى قدرة السينما على توضيح أفكار فلسفية محددة مسبقا أو ابتداع حجج فلسفية حول مواقف فلسفية محددة مسبقا. بل إن الصلة الأكثر جوهرية تكمن في وجود مصدر عام مشترك لمزاولة الفلسفة، وهو الحياة كما نعيشها، وتوجد على وجه الخصوص في اهتمام السينما بالقصص التي نخبر بها أنفسنا عبر سعينا لفهم ذواتنا وإرشادها، وشرح وتبرير دوافعها، والتماس العذر لها. إن قدرة السينما كمنبع للفلسفة لا تستنزف عبر قدرتها على معالجة القضايا الفلسفية النمطية بطرق مختلفة؛ فالسينما تمتلك قدرة هائلة في هذا الإطار، لكنها ليست الملمح الوحيد الذي يميز علاقة السينما بالفلسفة. فمثل الأدب، السينما وسيط يوظف أساليب متعددة، ليست جميعها من صنعها، كي تجسد القضايا الفلسفية كما تثار، أو كما قد تثار، في الحياة وفي الخيال. بل إن قدرة السينما على تصوير الحياة كما تبدو في الحقيقية وفي الخيال - والحياة دائما ما تكون خيالية بدرجة ما - هي ما تشكل الصلة الجذرية بين الفلسفة والسينما.
تفترض الفصول في الجزء الثاني من هذا الكتاب أن السينما والفلسفة غالبا ما يتضافران بطرق تلقي الضوء على كل منها بالتبادل؛ فالجمع بين المناقشة النقدية العميقة وخبرة مشاهدة الأفلام قد يعد سبيلا جذابا للتعمق في الفلسفة والسينما على حد سواء. إن الفلسفة لا تطرح منظورا مبتكرا لرؤية السينما، ولا توجد صلة فريدة من نوعها بين الاثنين. بل الأفلام في حد ذاتها استقصاء فلسفي، يشوبه الارتباك غالبا، مثلما يشوب الارتباك - في أحيان كثيرة - الاستقصاء الفلسفي الذي يضطلع به الفلاسفة.
أسئلة
هل تستطيع الأفلام تغيير طريقة ممارسة الفلسفة، أو هل تمكنت من ذلك بالفعل؟
هل في وسع الفلسفة تغيير طبيعة السينما، أو هل غيرت الفلسفة بالفعل من طبيعة السينما؟
هل تستطيع الفلسفة تقديم عمل سينمائي؟ ما هي أوجه الاعتراض الأقوى على هذا الزعم؟
تزعم الفرضية الجريئة أن مساهمة السينما في الفلسفة، إن كانت مساهمة حقيقية، فهي قطعا مساهمة لا تقبل الاختزال أو الاستبدال بأي شكل آخر من أشكال التواصل. ما مدى معقولية هذه الفرضية وما مدى أهميتها؟
كثير من الأفلام التي يحبها الناس ليست سوى «تفاهات للهرب من الواقع». هل هذه الأفلام مناسبة للاستقصاء الفلسفي؟ وإذا كانت مناسبة فكيف ذلك إذن، وإذا كانت غير مناسبة فلماذا؟ «تؤثر المشاعر على ما نعتقد، مثلها مثل الرغبات. وتلك حقيقة غالبا ما تستغلها السينما، وتفسر إلى حد كبير قدرتها على اجتذاب الجمهور. لذلك غالبا ما تمدنا الأفلام بمعلومات خاطئة، وتضللنا من المنظور الفلسفي، بقدر ما تطلعنا كثيرا على قضايا فلسفية وتعمق معرفتنا بها.» هل هذا صحيح؟ كيف إذن؟
ما أوجه تشابه الأفلام مع الحياة، إن وجدت؟ وهل يلعب هذا التشابه دورا في قدرة السينما على التفلسف؟
هل الأفلام وسيط أنسب للتعامل فلسفيا مع موضوعات معينة مقارنة بالأدب أو الفنون المرئية؟ هل في وسعها التفوق على كتب الفلسفة ومقالات الدوريات المتخصصة؟
هوامش
الفصل الثاني
الفلسفة والمشاهدة السينمائية
مقدمة
في الفصل السابق تساءلنا عما إذا كانت الأفلام قادرة على ممارسة الفلسفة. هل في وسع الأفلام أن تصبح وسائل للاستقصاء الفلسفي؟ وكانت الإجابة هي نعم بالتأكيد. في هذا الفصل نطرح أسئلة فلسفية حول طبيعة السينما. ما القضايا الفلسفية التي تثار حول السينما في حد ذاتها؟ فيما يلي عينة من مجموعة عريضة من القضايا المتشابكة، نوقش معظمها على نطاق واسع:
لماذا تعد السينما وسيطا يتمتع بهذه الدرجة من التأثير؛ إذ يؤثر على أعداد غفيرة تأثيرا بالغا في بعض الأحيان؟
ما الذي يميز السينما أو التصوير السينمائي كشكل فني إن وجد؟
ما المغزى الفلسفي للأساليب الفنية والتكنولوجيا التي توظفها السينما؟
ما المغزى الفلسفي لاستجابات الجمهور للسينما؟
ما المزايا والمخاطر الخاصة التي قد تنطوي عليها السينما نظرا إلى جاذبيتها الجماهيرية وقدرتها على استثارة مشاعر قوية؟
ما هو التجسيد السينمائي؟ الأفلام هي، في جزء منها، تجسيدات مرئية، لكن كيف ينبغي لنا فهم ذلك وما مغزاه؟
إذا كانت السينما شكلا من أشكال الفن، فما الذي يجعل فيلما ما بديعا؟ كيف نحكم على الأفلام؟ «مفارقة الرعب» (أو «المشاعر السلبية»): إذا كان الناس لا يحبون الشعور بالخوف، فلماذا إذن يشاهدون أفلام الرعب؟ وإذا كانوا يحبون بالفعل التعرض للفزع، فلماذا يحبون شعورا سلبيا كهذا؟ وما الذي نستخلصه من ذلك فيما يتعلق بالمشاهدة السينمائية؟ «مفارقة الخيال»: كيف يمكن تفسير تعلقنا عاطفيا بشخصيات ومواقف نعلم أنها خيالية؟ إذا لم نصل إلى حل مرض لما يطلق عليه مفارقة الخيال، فمن غير المرجح أن نتمكن مطلقا من تفسير قوة الأفلام.
ما هو التوحد مع الشخصيات، وما حجم الدور الذي يلعبه التوحد والخيال فيما يتعلق برد فعل المشاهد؟
الأيديولوجية والسياسة والأخلاقيات والسينما: ما العلاقة بين أخلاقيات السينما وجمالياتها؟ ما هي المسئولية الأخلاقية والسياسية للفنان؟
تمثيل المرأة في السينما (النوع الجنسي و«نظرة الرجل إلى المرأة»): كيف تمثل النساء في السينما، وما المغزى الفلسفي لذلك التمثيل؟ وماذا يعكس لنا عن السينما وعن نسب المشاهدة السينمائية؟
ما حجم الدور الذي تلعبه نظرية التحليل النفسي، وغيرها من المناهج المتخصصة التي تستخدم في التحليل السينمائي، مثل علم الرموز، لفهم العلاقة بين السينما والمشاهد؟
ما حجم الدور الذي يلعبه قصد المؤلف (أو المخرج) في فهم العلاقة بين السينما والمشاهد، وفي تفسير الفيلم ذاته؟
الكثير من الأفلام التي يحبها الناس ليست سوى «تفاهات للهرب من الواقع»، هل هذه الأفلام مناسبة للاستقصاء الفلسفي؟ وإذا كانت مناسبة فكيف إذن، وإذا كانت غير مناسبة فلماذا؟
ما المغزى الفلسفي لما يطلق عليه أفلام الأطفال فيما يتعلق بفهم استجابة الجمهور ونسب المشاهدة السينمائية؟
تسيطر القوى الاقتصادية بدرجة لا يستهان بها على طبيعة السينما عبر التحكم في أنواع الأفلام التي تنتج؛ ما يؤثر تأثيرا مباشرا وغير مباشر على العلاقة بين السينما والمشاهد. ما مدى خطورة هذا؟
كيف تؤثر دور العرض السينمائية والسمات الأخرى التي تميز بيئة مشاهدة الأفلام (على سبيل المثال المشاهدة على شاشة السينما الكبيرة مقابل المشاهدة على أقراص دي في دي في المنزل) على نسب المشاهدة السينمائية؟
تلك قائمة طويلة، ولا تغطي جميع الأسئلة المحتملة كذلك، ولن يسعنا بالطبع معالجتها جميعا. سيشغلنا السؤال الأول، حول قوة الأفلام، بداية في هذا الفصل؛ إذ ترتبط هذه القضية بطرق مختلفة وبدرجات متنوعة بجميع القضايا الفلسفية المتعلقة بالسينما تقريبا ، وتبرز كذلك أهمية تلك القضايا. إذا كانت مفاهيمنا عن الحب والعلاقات، وعن العدالة والقيمة، وعن الطرق التي نختارها لعيش حياتنا وإيجاد المعنى لها، تتأثر بالسينما، فلا عجب إذن أن الفلاسفة ومنظري السينما قد وجهوا انتباههم إلى القضايا الفلسفية المطروحة «حول» السينما. والسؤال حول كيفية تفسير قوة الأفلام يكمن في قلب مجموعة مترابطة من المشكلات الفلسفية المتصلة بالسينما، ويرتبط ارتباطا غير مباشر بالكثير من المشكلات الأخرى.
إن مناقشة القضايا الفلسفية المطروحة في الأفلام دون الالتفات إلى القضايا الفلسفية التي تطرح حول السينما ليست ممكنة فحسب، بل إن الكثير من النصوص التي تتناول الفلسفة والسينما، إن لم يكن معظمها، يقدم هذا بالضبط. مع ذلك يوجد سبب قوي يستدعي الإصرار على تناول هذا الجانب الآخر من مناقشة السينما والفلسفة؛ أي القضايا المطروحة حول السينما؛ فالوعي بالأسئلة المحورية حول طبيعة السينما وطرق معالجة تلك الأسئلة قد يدعم مناقشة القضايا الفلسفية المطروحة في الأفلام. على سبيل المثال، سنصل إلى فهم أفضل للأسئلة الفلسفية المطروحة حول الجاذبية الواضحة للرعب والعنف في السينما إذا أولينا اهتمامنا كذلك لمعالجة قدرة السينما على استثارة الرعب. ويتصل بذلك أيضا طبيعة استجابة الجمهور للرعب، رغم كونها مسألة متنازعا عليها بين منظري السينما والفلاسفة. (سوف نعود مجددا إلى هذا السؤال حول الرعب والمشاهدة السينمائية في الفصل التاسع.)
وعلى نفس القدر من الأهمية، فإن تقدير بعض القضايا المطروحة حول السينما يدعم التجربة السينمائية، مثلما يساعدنا الإلمام بعض الشيء بطبيعة الموسيقى أو الفن الحداثي على شحذ مهاراتنا النقدية وانتباهنا في تلك المجالات. وإلى جانب دعم التجربة السينمائية، قد يؤدي الاطلاع النقدي على السجالات الفلسفية المثارة حول السينما، كما هي الحال مع الفنون الأخرى، أحيانا إلى تغيير طريقة مشاهدتنا للأفلام ونظرتنا إليها؛ فهو قد يغير من عادات مشاهدة الأفلام، وربما ينشأ عن ذلك، لحسن الحظ أو لسوئه (لا لحسن الحظ فقط)، وجهات نظر وأنماط جديدة للاستمتاع.
بعض القضايا الفلسفية المحورية المطروحة حول السينما تثار كذلك حول أشكال فنية أخرى، مثل الكتابة الروائية، والمسرح والتصوير الفوتوغرافي والفن والموسيقى، وكلها أشكال فنية توظفها السينما. وما يطلق عليه «مفارقتا» الخيال والرعب - وكلتاهما غير حقيقية كما سنرى لاحقا - له حضور مماثل في الأشكال الفنية الأخرى (مثل الرواية والمسرح). لا يقلل هذا من أهمية أي من القضايا المطروحة، لكنه يساعدنا على تذكر أنه مع كون السينما شكلا فنيا فريدا من نوعه يتجاوز كثيرا مجموع عناصره والأشكال الفنية المساهمة به، فإنها، كما لاحظنا في الفصل السابق، تتألف كذلك من العديد من الفنون المميزة. وعندما دفعنا بقدرة السينما على ممارسة الفلسفة زعمنا عدم وجود ما يبرر الإصرار على أن مساهمة السينما الفلسفية تنتج عن سمة متأصلة في طبيعتها لا توجد في أي شكل فني آخر. وكذلك لا يوجد ما يبرر الإصرار على أن القضايا الفلسفية التي تثيرها السينما والتي تثار حولها ترتبط جميعها بالطبيعة الأصيلة والفريدة للسينما.
لا ينبغي اعتبار أن أيا من محتوى الفصلين الأول والثاني يملي مناهج للتحليل السينمائي. ولا ينبغي اعتبار المحتوى الفلسفي للأفلام الذي سنناقشه في الفصول اللاحقة هو التحليل النهائي لتلك الأفلام، سواء من وجهة النظر الفلسفية أو من وجه نظر النقد السينمائي عامة. يمكن مناقشة الكثير من الأفلام من منظور مجموعات مستقلة نسبيا من القضايا الفلسفية. فيقدم فيلم «حياة الآخرين» (ذا لايفز أوف أذرز) تجسيدا قويا لمشكلة «الحظ الأخلاقي». لكن يمكن كذلك الاستشهاد به في مناقشة قضايا مثل الحرية والفساد والسلطة السياسية والحرمان والخوف والتعذيب، وفي مناقشة الوضع البشري عموما. وقد نوقش الفيلم، مثلا، من منظور الكيفية التي يلعب بها المعمار الذي نشاهده في الفيلم دورا مهما من الناحية الفلسفية.
إن فكرة وجوب تفسير بعض الأفلام بطرق متنوعة - طرق تعددية إذا كنت تفضل هذا المصطلح - ووفقا لشروط خاصة بها، تتفق جيدا مع زعمنا في الفصل الأول بأن قدرا كبيرا من الاستقصاء الفلسفي ينتج عن اشتباك دائم ومركز مع الحياة كما نعيشها. ينبغي أن تتمكن الأفلام الجيدة في بعض الأحيان من تقديم رؤى جديدة، وتوليد اهتمام وإثارة غير مألوفة، وإتاحة مناهج فلسفية متنوعة، بل ومتباينة، لمعالجة محتواها . وهو ما تحققه جزئيا عبر قدرتها على إبراز الطبيعة السياقية متعددة الأوجه لمختلف المشكلات، وأيضا عبر استثارتها كثيرا لأفكارنا وتحريكها لمشاعرنا، وقد تولد من الاستجابة العاطفية والإمتاع ما يكفي لأسر انتباهنا.
والآن لننظر عن كثب إلى بعض القضايا الفلسفية البارزة التي أثيرت حول طبيعة السينما. وهي قطعا ليست المسائل الوحيدة المهمة فلسفيا، بل قد لا يعتبرها الجميع من أهم المسائل. لكنها رغم ذلك من بين أكثر القضايا نقاشا على نطاق واسع في الكتابات الفلسفية.
قوة السينما
ينطوي الحديث عن «قوة السينما» على التباس بين معنيين أولهما احتمالية تأثير أفلام بعينها على المشاهدين الأفراد تأثيرا قويا، وثانيهما التأثير الاجتماعي والسياسي الذي قد تفرضه أفلام معينة أو السينما بوجه عام على جماهير عريضة، وكذلك فيما يتعلق بالمعتقدات والقيم الشخصية. من يتفقون مع وجهة نظر أدورنو وهوركهايمر (1990) - الذين كانوا على حق في مخاوفهم (حتى وإن لم تكن تلك المخاوف دائما في محلها) حيال التأثير السلبي المحتمل للفن الجماهيري على جماهير سلبية تفتقر إلى الحس النقدي - تقلقهم قوة السينما بالمعنى الثاني. رغم ذلك، من الواضح أنه في حال استبعاد قدرة السينما على فرض تأثير قوي على الأفراد ستتلاشى تقريبا الحاجة إلى طرح أنواع القضايا التي تثير قلق أدورنو وهوركهايمر. سوف نبحث مسألة قدرة السينما على تحريك مشاعر المشاهدين الأفراد عبر التحليل النقدي لأحد أبرز الآراء في هذا الإطار، وهو رأي نويل كارول.
يقول كارول (2004أ: 486-487): «تتألف قوة الأفلام من عنصرين: الجذب واسع النطاق والجذب القوي ... أسعى إلى شرح العنصر الأول من منظور السمات التي تجعل الأفلام مفهومة إلى حد بعيد لنطاق عريض من الجماهير.» قد يبدو ذلك غريبا بعض الشيء. فلماذا يعتقد كارول أن تفسير قوة السينما يكمن في كونها سهلة الاستيعاب لدى جماهير عريضة بدلا من قدرتها على اجتذاب الجمهور بقوة؟ إن كون السينما متاحة ومفهومة على نطاق واسع شرط ضروري للجذب واسع النطاق - فنادرا ما ينجذب الأفراد إلى قصص لا يفهمونها - لكن لماذا يعتقد أن سهولة فهم الجمهور للفيلم يفسر قوة انجذابه له؟ تصبح رؤية كارول عرضة لمزيد من التساؤلات عندما يحاول تفسير «قوة جذب الأفلام عبر تحري تلك السمات التي تمكنها من تجسيد درجة عالية جدا من الوضوح ... تكمن قوة الأفلام في وضوحها الذي يسهل على الجماهير العريضة استيعابه.» فالوضوح - وما يعنيه كارول ها هنا هو الوضوح السردي؛ أي القدرة على عرض عناصر القصة بدقة ووضوح عفوي - لا يبدو أنه السمة الصحيحة لتفسير التأثير العاطفي، في حين يشكل التأثير العاطفي جزءا لا يتجزأ من قوة الأفلام. يجسد كثير من الأفلام والكتب والمسرحيات وغيرها من الأشكال الفنية السردية قصصا بالغة الوضوح وسهلة الاستيعاب دون أن تتمتع بجاذبية أو تأثير خاص.
لا يوجد سبب يستدعي القلق حيال تأثير الفن الجماهيري، مثل السينما، إذا كان عديم القوة. وما لم تستطع السينما، في المقام الأول، التأثير بقوة على الأفراد على المستوى الشخصي، سيظل الوسيط السينمائي - حتما - وسيطا عاطلا وعاجزا على المستوى الاجتماعي والسياسي. ومن ثم فإن السؤال الأول الذي نطرحه حول قوة السينما هو كيف تستطيع ممارسة ذلك التأثير على المشاهدين الأفراد؟ لم نترك دور العرض السينمائي ونحن نبكي أو نشعر بالإحباط أو الانتشاء أو الرضا أو الخوف أو القلق؟ في معظم الأحيان، تكون هذه التأثيرات، بصرف النظر عن نوعها، مؤقتة. لكن لماذا بعد مشاهدة أفلام بعينها نكتسب عزما وإصرارا في جهودنا الرامية إلى «تغيير أنماط حياتنا» وولاءاتنا، وطريقة تفاعلنا مع الآخرين، بل وأحيانا حياتنا؟
إن قدرة السينما على التأثير علينا لا تكمن بالضرورة كليا أو حتى بدرجة أساسية في العناصر التي تنفرد بها السينما. فلنتأمل في هذا السياق التفسيرات القائمة على طبيعة السرد في حد ذاته؛ أي قدرة السينما على توليد مشاعر قوية لأسباب لا تختلف كثيرا (ولم يجب أن تختلف؟!) عما نجده في الأدب الروائي. يقدم التحليل النفسي كذلك بعض التفسيرات المحتملة، مثل قدرة السينما على الإشباع المؤقت للرغبات والتفكير القائم على الأمنيات.
1
ألا تنبع من هذا رغبة الجمهور في «نهاية سعيدة» (سحر الأفلام)؟ كذلك تطرح بعض الآراء قدرة السينما أحيانا على الاستثارة العابرة لرغبات نرجسية وسادية ومازوخية، ومعادية للمرأة، وذات طبيعة متلصصة شبقية، وغيرها من الرغبات المنحرفة (رغم أنها ليست إشكالية بالضرورة ولا حتى غير أخلاقية) لدى المشاهدين، وإشباعها.
لقد رأينا في الفصل الأول أن الإجابة عن التساؤل حول ما إذا كان في وسع السينما ممارسة الفلسفة لا تتعلق بالضرورة بسمات تنفرد بها السينما، بل ربما من الأفضل الإجابة عن هذا التساؤل من منظور السمات التي تعد من مقومات السينما لكنها توجد كذلك في أشكال فنية أخرى. بالمثل يمكن تفسير قوة السينما من منظور مجموعة متنوعة من السمات السينمائية (مثل السرد، الموسيقى، التمثيل)، بدلا من تفسيرها بالاستعانة ببعض العناصر الجوهرية غير القابلة للاختزال، أو مجموعة من السمات الأساسية، التي تنفرد بها السينما. رغم ذلك يسعى جزء كبير من النقاش حول قوة السينما إلى تفسير قوتها من منظور عنصر ما تنفرد به السينما. فربما تتمتع السينما بهذه الجاذبية الآسرة لأنها واقعية على نحو لا نجده في الأشكال الفنية الأخرى. إن اللوحة الفنية هي عمل مصطنع مهما كانت واقعية المشهد الذي تجسده؛ لأنها ساكنة، فهي تجسد لحظة زمنية جامدة، بينما نحن لا نخوض غمار الحياة كسلسلة من اللحظات الجامدة. ليس في وسع اللوحة الفنية تجنب هذا النوع من الاصطناع. لكن الأفلام تصور العالم بأسلوب يبدو أكثر واقعية على مستوى جذري. يمكن تتبع الفكرة الزاعمة بأن تفرد السينما وقوتها يكمنان بطريقة ما في واقعيتها وصولا إلى المنظر السينمائي أندريه بازان. ويعد نويل كارول واحدا من أهم نقاد هذه الرؤية.
يرفض كارول تفسير قوة السينما حسب رؤية بازان التي تزعم أن «الصورة السينمائية هي تجسيد موضوعي للماضي، قطعة معبرة وصادقة من الواقع.» يقول كارول (2004أ: 485):
ينكر منظرو السينما المعاصرون وجود أي معنى حرفي يمكن استخلاصه من الفكرة القائلة بأن السينما مرآة طبيعية للواقع. ومع ذلك يتمسكون دون شك بجزء من المنهج الواقعي، يتمثل تحديدا في الافتراضات النفسية المسبقة لذلك المنهج ... ففي حين يرفضون فكرة أن السينما جزء من الواقع، يوافقون رغم ذلك على أن السينما، حسب استخداماتها المعتادة، تنقل تأثيرا واقعيا إلى مشاهديها. هذا التأثير النفسي يمكن وصفه بعدة صيغ متنوعة، من بينها الآراء التي تزعم أن السينما تعطي انطباعا بأن الواقع يروي ذاته أو توهم المتلقي بأنها تعرض صورة للواقع، أو أنها تبدو طبيعية.
ثم يستطرد كارول زاعما أن (2004أ: 485):
تلك التنويعات على فكرة التأثير الواقعي عرضة للتشكك لأنها تنسب إلى المشاهدين حالات من التصديق تعطل طرقنا المميزة للاستجابة إلى السينما وتقديرها. فإذا كنا نحن المشاهدين سنخلط في أي وقت بين التجسيدات التي تعرض أمامنا وبين ما تمثله تلك الصور في الواقع، فلن نتمكن عندئذ من الجلوس في راحة وخمول واستمتاع بينما تندفع قطعان الجاموس تجاهنا، وبينما يبوح الأحبة بأشواقهم، وبينما يعذب الأطفال.
هل يوجد بين الذين يعتقدون أن «السينما تنقل تأثيرا واقعيا إلى مشاهديها» من يعتنق أيا من الآراء التي ينسبها كارول إليهم؟ هل المنهج الواقعي في نظرية السينما، كفرضية وجودية (أنطولوجية) أو في تنويعاته الأكثر حداثة ذات الطابع النفسي، هو طريق مسدود كما يزعم كارول؟
هل يمكن إنقاذ التنويعات النفسية على فرضية بازان من هذا المصير؟ هل في وسع المرء فعليا الاحتفاظ ب «التأثير الواقعي» لقطيع الجاموس الهارب الذي يشاهده دون أن يلقي علبة الفشار من يده، ويندفع هاربا نحو باب الخروج من دار العرض؟
يطرح كارول (2004أ: 486) نقدا ثانيا للفرضية الواقعية أو للتنويع النفسي عليها:
إن الإشارة إلى الواقع ها هنا لا تساعدنا كثيرا ... لأن استيعابنا لقوة الأفلام يقع إلى حد كبير على طرف النقيض من استجاباتنا الأقل حدة للحياة العادية ... وبما إن استجابتنا للواقع غالبا ما ينقصها الحماس والحيوية، فإن الزعم القائل بأن السينما تبدو جزءا من الواقع لا يقدم تفسيرا لأي من استجاباتنا القوية إلى حد استثنائي للأفلام. لذا لا بد من إيجاد تفسير آخر، لا يعتمد على الواقعية، لتعليل قوة الأفلام.
ألم يغفل كارول شيئا ها هنا؟ ألم يراوغ في حديثه عن مفهوم «الواقع» في حقيقة الأمر، أو يفترض تصورا محدودا للغاية لما يندرج تحت «الواقع»؟ بالطبع لا تعكس الأفلام بوجه عام الحياة العادية بمفهوم كارول (ولا حتى فيلم «إمباير» الصامت الذي أخرجه أندي وارهول عام 1964، والمكون من لقطة واحدة مدتها ثمان ساعات بالأبيض والأسود لمبنى إمباير ستايت ليلا، يعكس الحياة العادية). لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن التأثير «الواقعي» الذي تنقله الأفلام ليس مهما لتفسير قدرتها على اجتذاب المشاهدين (جذبا قويا وعاطفيا في بعض الأحيان). فلو كانت الحياة الواقعية أكثر تشابها مع الأفلام فيما يتصل بالسرد والأحداث، لجذبتنا الحياة العادية قطعا جذبا قويا وعاطفيا، بل وبدرجة تفوق الأفلام دون شك.
باختصار، ربما تبدو رؤية بازان، بناء على طريقة تفسيرها، متطرفة وخاطئة، لكن فكرة اعتماد قوة الأفلام جزئيا على قدرتها على «نقل تأثير واقعي لمشاهديها» لا تنطوي على إشكالية ما، بل هي صحيحة أيضا. من ناحية أخرى، تركز رؤية كارول الخاصة حول التجسيد التصويري في السينما على السمات التي تساهم في وضوح السينما وسهولة استيعابها، بدلا من واقعيتها.
يلخص كارول وجهة نظره حول قوة الأفلام كالتالي (2004أ: 189):
يؤمن منظرو السينما المعاصرون بأن الصورة السينمائية النمطية تضفي إيهاما بالواقع أو الشفافية أو الطبيعية. إلا أن هذه الورقة البحثية لا تستشهد بأي من هذه التأثيرات النفسية الواقعية، أو أي مما يضاهيها. بل تزعم - عوضا عن ذلك - أن المشاهد العادي يدرك ما تمثله الصورة السينمائية دون الرجوع إلى قاعدة ما، ولا تزعم أن المشاهد يعتقد، بأي شكل من الأشكال، بتوحد التجسيد التصويري مع ما يعبر عنه في الواقع.
لكن ربما كان يجدر بالورقة البحثية زعم وجود هذا التوحد. فعندما نرى خيلا تعدو في أحد الأفلام، نعتقد، بشكل ما، «بتوحد التجسيد مع ما يصوره.» توجد طريقتان رئيسيتان لتفسير هذا الزعم المتعلق بالاستجابة «الواقعية من الناحية النفسية» للصور السينمائية. التفسير الأول، وهو تفسير جامح، يقضي بأن الجمهور يفترض أن صورة الخيل وهي تعدو تجسد حدثا تاريخيا؛ فلا بد أن الخيل اضطرت إلى العدو في الواقع قبل أن تأتي الكاميرا و«تلتقط» عدوهم بطريقة مكنت من نقله إلى جهاز عرض ثم «إعادة عرض المشهد» أمامنا . والثاني، التفسير المتواضع، يفترض الجمهور أن الصورة السينمائية لخيل تعدو تجسد مجموعة معينة من الخيول في العالم الخيالي الخاص بالفيلم، وأن ما تفعله الخيل في الصورة - العدو - هو تحديدا ما تفعله في ذلك العالم. وكقاعدة عامة، كلما بدت الخيل في الفيلم أشبه بالخيل الحقيقية، كان التجسيد أكثر واقعية، ويعد ذلك نجاحا في الاستحضار بأذهاننا صورة أكثر تأثيرا وجاذبية لعالم من الخيل العداءة. بالطبع لن نميل إلى الخلط بين العالم الخيالي الذي يخلقه الفيلم والعالم الحقيقي. يستخدم منظرو السينما مصطلح «حكائي» للإشارة إلى عناصر الفيلم التي تنتمي إلى العالم الخيالي للفيلم. ولا يخلط المشاهد العادي بين الجوانب الحكائية الجلية في أحد الأفلام مع الجوانب غير الحكائية. على سبيل المثال، إذا كانت الموسيقى التصويرية تصاحب مشهد الخيل التي تعدو في الفيلم، فذلك لا يجعلنا نفترض أن الخيل تستطيع سماع تلك الموسيقى. (الموسيقى التصويرية عنصر غير حكائي.) وسيتطلب تقديم الموسيقى كعنصر حكائي في الفيلم إضافة عامل تجسيدي (كأن يظهر في الفيلم مكبرات صوت تصدح بالموسيقى). إن قدرة السينما على التجسيد «الواقعي» لعالم خيالي تشكل جانبا واضحا من قوتها، حتى وإن لم يقدم ذلك تفسيرا متكاملا لقوة فيلم بعينه. لا يتغاضى كارول عن الخاصية التصويرية للتجسيد السينمائي، لكنه لا يولي اهتماما خاصا للخاصية الواقعية لهذا التجسيد في تفسيره لقدرة السينما على التأثير في الجمهور. ونحن نرى أن هذا خطأ من جانبه. لقد أصاب في الاعتراض على ما نطلق عليه التفسير الجامح للتأثيرات النفسية الواقعية، لكنه أغفل الأهمية المحورية للصيغة المتواضعة من الواقعية.
لكن ما هي تفاصيل نظرية كارول الخاصة؟ لقد لاحظنا أنه يؤكد على وضوح الفن السينمائي، على النقيض من الأشكال الفنية الأخرى، في محاولة لشرح اتساع نطاق قدرة السينما على تحريك مشاعر الجمهور. حان الوقت كي نلقي نظرة على بعض من تفاصيل وجهة نظره.
ينقسم تفسير كارول (2004أ: 487) «لاستجابتنا القوية إلى حد استثنائي للأفلام» إلى عدة أجزاء. فيتناول أولا التجسيد التصويري: «أيا كانت السمات أو الإشارات التي نوظفها في عملية التعرف على الأشياء ؛ فنحن نحشدها كذلك للتعرف على ما تجسده الصور ... ويتناقض التطور السريع لهذه القدرة على التعرف على الصور تناقضا بالغا مع تعلم نظام من الرموز مثل اللغة.» إن السهولة التي يتعامل بها الناس مع التجسيد التصويري هي إحدى «السمات التي تجعل السينما بوجه عام مفهومة للجماهير غير المثقفة ... لقد أصبحت الأفلام ظاهرة عالمية لأنها استندت في استغلالها لقدرة التعرف على الصور - مقارنة بأنظمة الرموز التي تتطلب إتقانا لعمليات مثل القراءة ... كي تفهم - إلى قدرة بيولوجية تنمو لدى البشر وهم يتعلمون إدراك الأشياء والأحداث في بيئتهم.»
حتى الآن حاول كارول تفسير السبب الذي يجعل الأفلام أسهل بوجه عام في الفهم والمتابعة مقارنة بالروايات: «إن التعرف على صور الأفلام أكثر شبها برد فعل تلقائي من شبهه بعملية مثل القراءة» (كارول 2004أ: 489). لكنه لم يقدم بعد تفسيرا لكون «الفيلم العادي، حال تكافؤ جميع الظروف، أسهل في المتابعة من مسرحية عادية» (2004أ: 490)، بما أنه في المسرح (وفي بعض الأشكال الفنية الأخرى) «لا يتحقق التعرف على ما تشير إليه التجسيدات، كما في الأفلام، عادة عبر عمليات مكتسبة مثل تفسير الرموز أو القراءة أو الاستنتاج» (2004أ: 489).
هذا يقودنا إلى الجزء الثاني من تفسير كارول «لاستجابتنا القوية إلى حد استثنائي للأفلام»:
يتمتع صانع الفيلم في فيلمه بتحكم في انتباه المشاهد (من خلال تنويع أطر الصور على سبيل المثال، وذلك باستخدام تقنيات مثل اختيار وضع الكاميرا الذي يسمح للمخرج بتركيز انتباه المشاهد) يفوق بمراحل ما يتيسر للمخرج المسرحي. والنتيجة أن مشاهد الفيلم ينظر دائما إلى حيث ينبغي له النظر، ودائما ما يولي اهتمامه إلى التفاصيل المطلوبة ملاحظتها؛ ومن ثم يستوعب، دون جهد تقريبا، الحدث الدائر أمامه، على النحو المقصود تماما ... الأفلام أسهل على المستوى الإدراكي. وقد يفسر عامل الوضوح الإدراكي الذي تتمتع به الأفلام أيضا ما تولده من انجذاب قوي واسع النطاق. (2004أ: 490)
تنطوي وجهة النظر السابقة على شيء من الصواب. لكن من غير المرجح على ما يبدو أن يقدم الوضوح الإدراكي الذي يحققه الفيلم، عبر أدوات معينة تركز انتباه المشاهدين، تفسيرا كاملا لقوة الأفلام مقارنة بالمسرحيات حتى وإن كان صحيحا أن تأثير الأفلام علينا يكون عادة أقوى من المسرحيات. ومن جديد لا ينبغي تجاهل التفسيرات الأكثر وضوحا. ربما كان موضوع معظم المسرحيات مقارنة بالأفلام أقل جذبا من نواح أخرى، وإن لم يقل وضوحا عنها. ربما لا يغازل المسرح المشاعر بقدر ما تفعل الأفلام. ربما يخلط كارول بين الفكرة القائلة بأن الأفلام «تفرض علينا تأثيرا أقوى» بفكرة أن الأفلام «تؤثر على أعداد أكبر منا على نحو أقوى». والفكرة الأخيرة لا تبعث على الدهشة بما أن جمهور المسرحيات يتضاءل مقارنة بجمهور الأفلام. وعموما قضاء أمسية مسرحية نشاط مكلف حقا بينما الأفلام رخيصة نسبيا (حتى وإن لم ينطبق ذلك على الفشار) ويمكن في كثير من الأحيان مشاهدتها مجانا. وأخيرا يجدر بنا ألا نسارع بقبول الزعم القائل بأن الأفلام قادرة على جذبنا على مستوى أعمق من المسرح باعتبار ذلك الزعم حقيقة جوهرية حول كل من المسرح والسينما؛ فالمسرح القوي يؤثر فينا تأثيرا عميقا دون شك. وربما كان تحقيق تأثير قوي في المسرح أصعب من تحقيقه في السينما، ويرجع ذلك جزئيا إلى الأسباب التي حددها كارول - توجيه انتباه المشاهدين مهمة أسهل على صناع الأفلام من المخرجين المسرحيين - لكن هذا لا يقدم بعد تفسيرا جيدا للتأثير الذي تفرضه الأفلام علينا؛ إنه يساعدنا على تفسير الجاذبية الواسعة التي تتمتع بها الأفلام (فهي رخيصة مقارنة بالمسرح، والأفلام المتوسطة الجودة أكثر جاذبية من المسرحيات المتوسطة الجودة)، لكن لا يزال علينا إيجاد تفسيرات أعمق وأكثر تكاملا لقوة الأفلام. وربما تشترك تلك التفسيرات في بعض عناصرها مع قوة الأشكال الفنية السردية الأخرى (وغير السردية بالتأكيد).
إن العامل الثاني الذي يقترحه كارول لتبرير قوة الأفلام - وهو التركيز الموجه لانتباه المشاهد - لا يكفي على ما يبدو لتفسير قوة السينما تفسيرا متكاملا حتى عند ضمه إلى عامل التجسيد التصويري. ما قد يحققه هذان العاملان في الواقع هو المساعدة في جذب المشاهدين والتأثير عليهم عاطفيا. فربما يساعدان على توليد التأثير العاطفي الذي تحدثه الأفلام لدى المشاهدين دون أن يشكلا فعليا السبل المباشرة لتوليد هذا التأثير. قد يوجد عدد كبير من العوامل الأخرى التي تساهم في انجذابنا العاطفي ناحية السينما، أو تمنعه، إلى حد أكبر بكثير من العوامل التي يقترحها كارول.
العامل الثالث الذي يتضمنه تفسير كارول يتعلق بدعم الجانب السردي للأفلام لسهولة استيعابها ومن ثم لقوتها. يقدم السرد تفسيرا للحدث، والجماهير مهتمة بطبيعتها بمعرفة تفسير الحدث. يقول كارول (2004أ: 493): «بقدر ما تصور قصص الأفلام أفعال الشخصيات بأساليب تعكس منطق الاستدلال العملي، تكون الأفلام مفهومة على نطاق واسع؛ نظرا لكون الاستدلال العملي شكلا عاما من أشكال اتخاذ القرار لدى البشر.» وفي إطار سهولة الفهم، يبرز جانب آخر مستقل نسبيا من السرد؛ الأفلام تصنع التشويق عبر خلق مواقف، أو طرح أسئلة، من خلال قصة ننتظر - نحن المشاهدين - في ترقب حلها أو تقديم إجابة لها. ويرى كارول (2004أ: 494) أن نموذج السؤال والإجابة هذا (الذي يطلق عليه النموذج التساؤلي) «أكثر أسلوب سردي مميز في الأفلام.» وقليل من ينكرون أن قصة مشوقة أو جذابة هي عنصر ضروري في تفسير قوة السينما.
لكن كارول يغفل هنا أيضا على ما يبدو دور النموذج التساؤلي في إثارة المشاعر لصالح دوره الإدراكي وقدرته على تحريك الحبكة عبر طرح المشكلات ثم معالجتها؛ ومن ثم إشباع فضولنا. وبينما تعمل الإثارة المرتبطة بحبكة جيدة على أسر انتباه الجمهور وقد تسهم في إحداث رد فعل عاطفي قوي، فإن حقيقة كونها تطرح أسئلة ثم تجيب عنها تجعلها مستقلة نسبيا عن تلك العوامل السردية التي تثير استجابات عاطفية قوية. تذكر أن كارول يسعى للإجابة عن سؤالين مترابطين، وهما: ما سر قوة الأفلام؟ وما السبب وراء كون تأثيرها واسع الانتشار؟ ربما لا يشكل الوضوح السردي سوى جزء من تفسير جاذبية السينما الواسعة النطاق، لكنه لا يصلح كتفسير لقوة السينما في حد ذاتها. وهو يساعد على تفسير الجاذبية السردية للأفلام - كيف تستحوذ على الجمهور - لكنه لا يعطي تفسيرا على الأرجح لما قد يبديه الجمهور من اهتمام كبير ب «جلسة الأسئلة والأجوبة» الخيالية التي يشاهدونها على الشاشة. إن قوة الأفلام تكمن غالبا في نوع من الارتباط العاطفي الذي لا تفسره جاذبية السرد المعرفية.
إن تقنيات السينما والحبكة وطبيعة التجسيد السينمائي كلها عناصر مهمة في تفسير قوة الأفلام، لكنها ليست بأي حال من الأحوال العناصر الوحيدة، بل وربما ليست العناصر الأهم في واقع الأمر؛ إذ تنحصر أهميتها في مقدار إسهامها في تفسير التأثير الذي يحدثه «بعض» الأفلام على «بعض» المشاهدين في «بعض» الأوقات. والعناصر الثلاثة التي يركز عليها كارول مهمة بقدر ما تساعد على التوحد مع الشخصيات، وتغذي الخيالات والأمنيات والرغبات (كالانتقام وغيره)، وشتى صور التحيزات والميول التلصصية الشبقية وغيرها من الميول التي قد تثار مؤقتا. عندما يصوب هاري كالاهان (المعروف بهاري القذر) مسدسه الضخم من طراز 44 ماجنم نحو المجرم في فيلم «تأثير مفاجئ» (صدن إيمباكت) (1983) قائلا: «هيا، أطلق مسدسك إن كنت تملك الجرأة» فإنه يقولها نيابة عنا جميعا؛ ومن ثم نشعر بالامتنان والرضا. في تلك اللحظة تسود العدالة، لا في الموقف الذي يمر به هاري فحسب بل في المواقف - ربما جميع المواقف - التي عانينا فيها من الظلم (سواء كان حقيقيا أو متخيلا) والتي قد نعانيها في المستقبل.
تكمن المشكلة في تركيز كارول على الجانب الإدراكي بدلا من الجانب العاطفي، ما يجعله يتوقف على بعد خطوة واحدة (حسب زعم البعض) من تقديم تفسير مقبول لقوة الأفلام. لكن كارول يختلف مع هذا الرأي (2004أ: 496) قائلا:
في سعينا هذا لتفسير قوة الأفلام اقتصر تناولنا على سمات الأفلام التي تخاطب الملكات «الإدراكية» لدى الجمهور. وهو موضوع يلعب دون شك دورا محوريا في هذا النقاش؛ لأننا لن نتمكن من تحديد السمات التي تفسر تأثير الأفلام واسع الانتشار والاستثنائي إلا إذا ركزنا على القدرات الإدراكية - لا سيما تلك المترسخة بعمق مثل التجسيد التصويري والمنطق العملي والدافع لإيجاد إجابات على أسئلتنا - بما أن القدرات الإدراكية، على المستوى الذي ناقشناه، هي المرشح الأكثر قبولا للعب دور العناصر المشتركة بين جموع جماهير الأفلام.
في الحقيقة، وجه كارول تركيزه في الاتجاه الخاطئ؛ فالملكات الإدراكية لدى الجمهور تقبع في جميع الحالات تقريبا تحت إمرة الطبائع الوجدانية للمشاهدين واحتياجاتها التي لا تنقطع.
مفارقة الخيال
إذا كان كارول على خطأ في اعتقاده بأن قوة السينما تنبع من جوانبها الإدراكية لا الشعورية، فإن ما نحتاج إلى أخذه في الاعتبار هو قدرة السينما على استحضار ذلك القدر من المشاعر. إن «أسرار مهنة السينما»، إن جاز التعبير، تكمن في مواهب صناع الأفلام ومهاراتهم التقنية وقدرتهم على توظيف براعتهم - إلى جانب ما لدى الكتاب والممثلين والمصورين السينمائيين ومصممي مواقع التصوير والملابس، وغيرهم من مهارات ومواهب - كي يثيروا في بعض الأحيان هذا القدر من المشاعر.
2
لكن عند محاولة السينما استثارة المشاعر لا بد لها من التغلب على عائق جذري؛ فالأحداث التي يجسدها الفيلم بوجه عام لم تحدث، والجمهور يعلم أنها لم تحدث، فكيف إذن يتأتى للجمهور الاهتمام بها إلى هذا الحد؟ ما نوع هذه الاستجابة العاطفية؟ إن هذا النوع من الأسئلة جرى تناوله في كم كبير من المؤلفات، وقد تبلورت في مصطلح يعرف باسم «مفارقة الخيال». وعلى الرغم من الخلاف القائم حول كيفية تسوية هذه المفارقة، لا يعتقد أحد تقريبا أنها مفارقة حقيقية.
3
الأفضل، وإن كان أقل من حيث التأثير الدرامي، طرح قضية مفارقة الخيال باعتبارها سؤالا حول العلاقة بين التصديق والمشاعر في المشاهدة السينمائية، أو في سياق أعم، حول طبيعة الاستجابة العاطفية للأحداث الخيالية في حد ذاتها. ومثل السؤال المطروح حول قوة الأفلام، ترتبط مفارقة الخيال كذلك بالسؤال حول طبيعة التمثيل السينمائي.
فلنتأمل حقيقة أننا في بعض الأحيان نستجيب عاطفيا إلى الأدب الروائي كما لو كان حقيقيا، بينما نعلم أنه ليس كذلك. ترتبط المشاعر عادة بالتصديق، فعندما نصدق حدثا ما - كأن نصدق أن الألم الذي يعانيه أحد الأشخاص ألم حقيقي مثلا - سيراودنا رد فعل شعوري مناسب مثل التعاطف معه. أما إذا أصبحنا نصدق أن هذا الشخص لم يكن يشعر بالألم بل يتظاهر به فحسب، فسنكف - على الأقل في المعتاد - عن الشعور بالأسى لحاله. تتطلب المشاعر، كما يبدو في هاتين الحالتين، التصديق بأن الموضوع الذي يثير المشاعر حقيقي أو صادق. إذن كيف نتأثر شعوريا بالأحداث الخيالية مع أننا نعي أن ما نشاهده أو نقرؤه لا يحدث في الحقيقة أو لم يحدث حقا؟
يمكن صياغة مفارقة الخيال كالآتي: (1)
تتطلب المشاعر التصديق بأن الحدث المثير للمشاعر حقيقي. (2)
عند مشاهدة فيلم أو قراءة كتاب نحن نعي أن الشخصيات لا توجد حقا (إلا في عالم الخيال) وأن المواقف لا تحدث حقا. (3)
رغم ذلك تنتابنا مشاعر قوية في الغالب ونحن نقرأ كتابا أو نشاهد فيلما.
يقول مواري سميث (1995أ: 56):
من وجهة نظر رادفورد (1975؛ 1977)، تكمن المشكلة في «أنه يمكن التأثير في الناس عن طريق معاناة خيالية مع أخذ سلوكهم الهمجي في سياقات أخرى في الاعتبار حيث يكون تصديق حقيقة المعاناة الموصوفة أو المشهودة أمرا ضروريا لحدوث هذه الاستجابة» (رادفورد 1975: 72). وبعدما عرض عدة حلول ممكنة لهذه المفارقة، استنتج أن أيا منها لم يكن مرضيا، وأعلن أن الاستجابات العاطفية للخيال لا تتناقض فحسب مع استجابتنا العاطفية للأحداث الواقعية بل هي عبثية و«عصية على الفهم» و«تخالف الطبيعة البشرية» أيضا (رادفورد 1975: 69-70). إذن يمنح جانب إضافي من حجة رادفورد امتيازا ضمنيا لردود الفعل العاطفية الناتجة عن أحداث الحقيقية على مثيلتها الناتجة عن أحداث خيالية. وكون أننا نستجيب عاطفيا لأحداث حقيقية هو، وفق ما قاله رادفورد، «حقيقة عمياء» من حقائق الوجود البشري، أما قدرتنا على الاستجابة عاطفيا لأحداث خيالية فهو أمر «لا ينسجم» مع هذه «الحقيقة العمياء».
كل ما نحتاجه حقا للتغلب على هذه المفارقة المزعومة هو قدر بسيط من الاستبطان أو التأمل الذاتي. وكما يقول سميث (1995أ: 56): «لا يوضح رادفورد قط لماذا لا ينبغي اعتبار الاستجابات العاطفية للأحداث الخيالية «حقيقة عمياء» هي الأخرى؟ ... لماذا ينبغي علينا قبول الارتباط بأحداث حقيقية كشرط لجميع الاستجابات العاطفية مع أن تجربتنا مع الفن الروائي تملي علينا ما يخالف ذلك؟»
لكن رد سميث مضلل بدوره بما أن الفن الروائي ليس وحده ما يولد استجابة عاطفية في غياب شرط التصديق. والتجارب العاطفية اليومية قد تتمتع بوضع مماثل. على سبيل المثال قد تشعر بالضيق من أحد الأشخاص، أحد والديك مثلا أو صديق، فتتخيل أنك مت، وفي جنازتك ترى جميع من ضايقوك حاضرين، يرتدون الأسود ويشعرون بحزن بالغ، بينما يعددون مناقبك. أنت تعي أنك لم تمت، وأن أحدا لم يبكك، وأن الكلمات التي تتخيل أنها قيلت لم تقل، ورغم ذلك تنهمر الدموع من عينيك. أو تأمل الحالة التي تطلق عليها إيميلي رورتي (1980) «العاطفة الغريبة» أو الشعور غير الملائم، حيث يشعر المرء بشعور معين رغم غياب حالة التصديق المقابلة لهذا الشعور. فلنفترض أنك ظننت أن قطتك قد دهستها سيارة، ثم وجدتها تقفز فجأة نحو ذراعيك، حية وتموء؛ رغم ذلك تستمر في البكاء والشعور بالحزن بينما تداعبها بحكها خلف أذنها. أو عندما تشعر بالغضب حيال رئيسك في العمل رغم إدراكك عدم وجود ما يبرر هذا الشعور، بل في الواقع رئيسك يحسن التعامل معك وأنت مقتنع بهذا، لكن شعورك بالغضب يظل باقيا رغم ذلك. الأمثلة السابقة لا تتعلق بأشخاص يقرءون رواية؛ وحالات التصديق التي غالبا ما تصاحب أو ترتبط بهذه المشاعر المطروحة غائبة، مع ذلك تظل المشاعر موجودة.
إذن ليس من الضروري أن ترتبط العاطفة أو الشعور بأحداث حقيقية، وتلك حقيقة لم نستدل عليها من الأدب الروائي فحسب. فكما يعتقد رورتي (1980)، إذا كانت العواطف الغريبة وتلك التي تبدو غير عقلانية يمكن تعليلها - كما رأينا في المواقف التي تظهر فيها العواطف على نحو مستقل ظاهريا عن حالات التصديق التي تفسرها وربما تسوغها - فإن السبب المباشر (أو المحفز) للعاطفة ينبغي تمييزه عن السبب الجدي لها. قد ينبع «السبب الجدي» للعاطفة من الماضي السحيق، وقد لا يرتبط فحسب بأحداث ماضية مهمة، بل قد يرتبط كذلك بميل الفرد نحو اعتبار أحدث معينة ذات أهمية بارزة؛ ومن ثم التأثر بها على نحو معين.
4
لاحظ أيضا أن هذا يشير إلى انعدام حاجة المرء إلى افتراض وجود أي ارتباط أصيل بين التصور الواقعي للتجسيد السينمائي والتأثير العاطفي للأفلام على المشاهدين. فإدراك الجمهور أن ما يشاهدونه لا يحدث «حقا» لا ينبغي أن يعوق البتة أي استجابة عاطفية لديهم، حتى وإن كان من المفترض أن هذه الاستجابة لن تكون مطابقة لما قد نمر به عاطفيا إذا آمنا بكون تلك الأحداث حقيقية، وحتى إن لم نتصرف مثلما كنا سنفعل عند مواجهة حدث حقيقي (كأن نغادر دار العرض مثلا).
إن حديث رورتي عن العاطفة الغريبة جنبا إلى جنب مع الرؤية التحليلية النفسية التي يرى أصحابها أن العواطف تستمد جذورها من الخيال الطفولي (جاردنير: 1992) يقترحان فرضية أكثر جذرية بمراحل فيما يتعلق بكل من طبيعة العواطف وأيضا طبيعة المشاهدة.
5
وهي فرضية تقلب فرضية رادفورد ومفارقة الخيال المزعومة رأسا على عقب. فهاتان الرؤيتان للعواطف باعتبارها تنبع من أحداث في ماضينا البعيد (في طفولتنا المبكرة حسب الرؤية التحليلية النفسية) وترتبط بها ارتباطا سببيا توحيان بأن المشاعر التي نمر بها عند التعاطي مع الأدب الروائي والسينما لا تأتي في مرتبة تالية للعواطف التي ترتبط بما نؤمن به عن «الواقع» بل تأتي في المرتبة الأولى. بالتأكيد تشبه هاتان الرؤيتان جميع صور العواطف بتلك التي تنتابنا مع الأدب الروائي.
من هذا المنظور، لا تتطابق العواطف في أغلب الأحيان مع تصورنا عنها، ولا يمكن أبدا تفسيرها تفسيرا وافيا في ضوء أسبابها المباشرة (ليفين: 2000). إن رؤية المشاعر من هذا المنظور تضفي على الرؤية المختلفة اختلافا مدهشا لطبيعة المشاهدة طابعا مألوفا. إذا كانت هذه الرؤية للعواطف صحيحة بطريقة ما أو بأخرى، فسيصبح علينا إعادة النظر في كثير من المشكلات الفلسفية المطروحة حول السينما. وعلاوة على ذلك، بالطبع، لن تقتصر عملية إعادة التقييم على طبيعة المشاهدة فحسب، بل ستمتد كذلك لتشمل الطبيعة البشرية ذاتها. نحن في حاجة إلى أن نرى ككائنات تفصلها مساحة كبيرة عن ذاتها، وتواجه عوائق نسبية فيما تبذله من جهود لفهم الذات. تلك رؤية للبشر تقع في قلب التحليل النفسي، وتؤكدها الحياة العادية.
صور النقد النسوي للسينما و«مفارقة المشاهد المنحرف»
تمنحنا مناقشة كل من العواطف ومفارقة الخيال، الفرصة لتناول قضية إضافية، ألا وهي تمثيل النساء في السينما . فلنفترض أن بعضا من السمات الشخصية التالية، منفردة كانت أو مجتمعة، لا غنى عنها لفهم المشاهدة السينمائية، ولا سيما للاستمتاع بالأفلام: التلصص الشبقي والفيتيشية والسادية، وغيرها من الانحرافات المتعددة إلى جانب التصنيفات التحليلية النفسية الأخرى مثل الخيال والإسقاط والاستدماج والإنكار والدفاع والكبت ... إلخ (والقائمة تطول). تزعم لورا مولفي (1975) على سبيل المثال أن المشاهدة السينمائية الحديثة لا بد من فهمها من هذا المنظور. إن ما تزعمه، هي وبعض المنظرين الآخرين الذين يطرحون نقدا نسويا للسينما، يتلخص في أن استجابات المشاهدين العاطفية ومتعتهم لا تنبع من معتقداتهم (أو من معتقداتهم الواعية على أي حال) بل من قدرة الفيلم على استحضار رغبات متلصصة ومعادية للمرأة فضلا عن الرغبات المرتبطة بانحرافات أخرى أو ميول منحرفة، وتحقيق إشباع مؤقت لتلك الرغبات.
فيما يلي نعرض رأي بيرز جاوت (1994: 12) في موقف مولفي:
ترى مولفي أن الفيلم الروائي التقليدي الذي يجسد أحداثا وهمية قائم على أساس نظرة ذكورية فاعلة ذات طابع شبقي. داخل الإطار الروائي، ينظر الرجال بقوة إلى نساء يلعبن أدوارا غير فاعلة باعتبارهم أشياء مثيرة للشهوة الجنسية، خاضعة لتحكم النظرة الذكورية. الذكور هم من يتحكمون في مسار القصة، أما النساء فهن موجودات لا لهدف سوى الفرجة الجنسية ... وعليه فإن الفيلم التقليدي مصمم بحيث يضع في الحسبان وجود مشاهد ذكر ... تتحد نظرته مع نظرة بطل الفيلم ويتوحد معه. وإذا تمكن البطل من الاستحواذ على المرأة، يستمتع المشاهد بهذا الانتصار على نحو غير مباشر. لكن النساء، كأغراض عاجزة خاضعة للنظرة الذكورية، لا يزال في وسعهن زعزعة هذا الوضع؛ إذ يثرن لدى الرجال قلق الخصاء فيتسببن في إفساد متعتهم. هذا التهديد لا بد من التغلب عليه، وهو ما يحدث بالفعل، إما عبر الفحص المتلصص للجسد الأنثوي والمعاقبة السادية لما يطرحه من تحد، أو عبر النظر الشبقي الفيتيشي الذي يحول جسدها أو جزءا منه إلى رمز للقضيب غير الموجود ... كلا الاستجابتين تختزلان المرأة في عجزها، ويعيدان تشكيلها داخل الفيلم في صورة «شيء ينظر إليه» وهكذا تستعاد السيطرة الذكورية. رد الفعل النسوي على هذا واضح؛ لا بد أن تفضح النظرية المتع الفاسدة المستمدة من الفيلم الروائي المجسد للوهم وتدمرها ولا بد أن تخلق الممارسة العملية سينما بديلة تفضح النظرة الذكورية وما تجسده من هيمنة معادية للمرأة.
تعتمد صحة نظرية مولفي من عدمها أو درجة صحتها اعتمادا شديدا على مدى صحة وجهة النظر التحليلية النفسية للمشاهدة، وهو ما يعتمد بدوره على مدى صحة منهج التحليل النفسي. وبعيدا عن قضية صحة رؤية مولفي وما تحوزه من أهمية، نرغب في استكشاف الآثار الضمنية لهذه الرؤية لا على طبيعة المشاهدة فحسب بل على مستقبل السينما كذلك. إذا كان تفسير مولفي للمتعة السينمائية صحيحا، فهل من الممكن صنع أفلام لا تخضع لنقدها النسوي؟ إذا كانت مولفي على حق، فمن المنطقي أن نرى استحالة «تدمير المتع الفاسدة للفيلم الروائي المجسد للوهم» أو صنع بديل له، بما أن السمات التي تطرحها مولفي تعتبر (بشكل أو بآخر) سمات متأصلة في المشاهدة والمتعة السينمائية.
قد يستند نقد مولفي جزئيا إلى الاعتقاد الخاطئ بأن أشكال التلصص والسادية والماسوشية والفيتيشية جميعها غير مرغوب فيها. لكن هذا الوصف، في الحقيقة، ينطبق على بعض الأشكال فحسب وليس جميعها. ويعتمد الأمر على ما إذا كانت تلحق ضررا بالفرد أو بالآخرين؛ أي ما إذا كانت، على سبيل المثال، تسيطر على النفس على نحو يؤدي إلى تقويض علاقاتها، كما تفعل الأفلام الإباحية على حد زعم البعض. إن المتع الفاسدة للفيلم الروائي المجسد للوهم التي تستدعي مولفي الانتباه إليها قد تكون عناصر ضرورية في أي سينما بديلة بقدر ما هي ضرورية في السينما الحالية. لا يعني هذا أننا ننكر وجوب فضح السمات المستغلة والمعادية للمرأة في السينما أو ننكر قدرة نوع جديد من السينما على التخلي عن تلك السمات ووجوب سعيه لذلك. لكن إذا كانت طبيعة المشاهدة خاضعة لهيمنة تلك المتع، فكيف لنا إذن التخلص منها دون الاستغناء في الوقت نفسه عن عناصر جاذبية الفيلم؟ دعونا نطلق على ذلك إشكالية «مفارقة المشاهد المنحرف».
لا تنطوي مفارقة الخيال على أي سمات تختص بها السينما وحدها ولا تنطبق على الأدب؛ وكذلك مفارقة المشاهد المنحرف. جزء كبير من الرؤية التحليلية النفسية ذاتها يستعان به لتوضيح السبب وراء صعوبة قراءة بعض الروايات بينما البعض الآخر شديد الإثارة والجاذبية. يسيطر ستيفن كينج على أدب الرعب الجماهيري بالغا مستوى لم يستطع أي من صناع أفلام الرعب الاقتراب منه أبدا. وهو أيضا يعتمد على «ميول قارئيه المنحرفة» ويستغلها.
يمكن صياغة مفارقة المشاهد المنحرف كالتالي: (1)
تعتمد المتعة السينمائية على مزيج ما من العناصر التالية: التلصص الشبقي، الفيتيشية، النرجسية، إزكاء التحيزات، وغيرها من الانحرافات المتنوعة (بما فيها السادية والماسوشية). (2)
من الممكن إرساء نوع جديد من السينما ومن اللغة والمشاهدة السينمائية لا يعتمد على استغلال عناصر مثل التلصص الشبقي والعنف ضد المرأة والجنس، إلى آخره ... سينما تغيب فيها (نسبيا) تلك العناصر المولدة للمتعة. (3)
هذا النوع الجديد من السينما سيكون له جمهور يمكن أن/سوف يتسلى عموما ويستمد المتعة منه.
وبفرض أن الناس لن يذهبوا عموما إلى السينما إلا إذا كانت تسليهم، فإنه بالإمكان صياغة الفرضية رقم (3) على نحو أبسط: (3أ) هذا النوع الجديد من السينما سيكون له جمهور.
تبدو تلك الفرضيات الثلاثة متعارضة فيما بينها.
إن مفارقة المشاهد المنحرف لا تقل في زيفها عن مفارقة الخيال. إذا كانت المتعة السينمائية تتطلب نوعية العناصر التي تزعمها مولفي، فإن تلك العناصر إذن تشكل معا سمة عامة مهمة لا بد من وجودها كي يستطيع الفرد الاستمتاع بأي فيلم أو بأنواع معينة من السينما والأدب، أو ربما الاستمتاع على الإطلاق. وإذا كان جذب الجمهور يعتمد على إمتاعه، فإن الأفلام التي تعجز عن تقديم تلك المتع لن يصبح لها جمهور. يمكن التحدث كثيرا عن هذه القضية لكن لا شيء فيها ينطبق عليه وصف المفارقة.
تتحدث مولفي عن لغة سينمائية جديدة، خالية من العناصر البغيضة التي تزعم أنها تهيمن على سينما الاتجاه السائد المعاصرة. لكن لكي تقدم لغة جديدة ستحتاج إلى متحدثين جدد وجمهور جديد. كيف يمكن تحقيق ذلك؟ إذا كان التلصص الشبقي وغيره من السمات يلعب دورا لا غنى عنه في تحقيق المتعة السينمائية، فمن المؤكد إذن أن ذلك سيضع قيودا محكمة على النوع الجديد من السينما غير المتحيزة جنسيا التي تتطلع مولفي إليها. إذا كانت المتعة والتسلية تعتمدان على السمات السلبية التي تشير إليها مولفي، فإن السينما الجديدة التي تقترحها لن تسلي ولن تمتع الناس.
تقول مولفي (1993 [1975]: 123):
تخلق الرموز السينمائية نظرة وعالما وهدفا، وهكذا تنتج وهما على مقاس الرغبة. تلك الرموز السينمائية وعلاقتها بالهياكل الخارجية المكونة هي ما يحتم علينا تحليله كي نستطيع تحدي السينما التقليدية والمتع التي تقدمها. وبداية (وكهدف نهائي)، فإن النظرة المتلصصة الشبقية ذاتها، التي تلعب دورا محوريا في المتعة السينمائية التقليدية، يمكن تدميرها.
حتى وإن ابتعدنا عن منهج التحليل النفسي، توجد أسس صلبة (كآراء حول الطبيعة البشرية وعلم النفس) نستطيع أن نتحدى بناء عليها رؤية مولفي التي تفيد بأن تلك الرموز السينمائية التي تشير إليها يمكن تحليلها.
6
وبافتراض أن ذلك ممكن بالفعل؛ فإن هذا سيكون معناه أن السينما أصبح لزاما عليها إيجاد بديل للمتع التي تضرب بجذورها في النظرة الشبقية المتلصصة، إذا أرادت تقديم أي متعة. لكن ما الذي يدفعنا إلى افتراض إمكانية إيجاد تلك المتع البديلة؟
لا تخاطب مولفي هذه المسألة على ما يبدو؛ إذ تكتب (1993 [1975]: 123) قائلة:
الضربة الأولى التي يجب توجيهها نحو التراكم الهائل من أعراف الأفلام التقليدية (والتي بدأ صناع الأفلام الراديكاليون في شنها بالفعل) هي تحرير نظرة الكاميرا ودفعها نحو واقعها المادي المتمثل في الزمان والمكان، وتحرير نظرة الجمهور وتوجيهها نحو المنطق الجدلي والانفصال العميق. يدمر ذلك دون شك الامتياز الذي يحوزه «الضيف الخفي» وما يستمده من إشباع ومتعة، ويلقي الضوء على كيفية اعتماد الفيلم على الآليات التلصصية الفاعلة/غير الفاعلة. ولا يسع النساء، اللاتي لطالما سرقت صورهن واستخدمت لهذا الغرض، النظر إلى انهيار الفيلم التقليدي إلا بنوع من الأسى العاطفي.
وهكذا، في حين تعترف مولفي وتحتفي بحقيقة أن أساليب صانعي الأفلام الراديكاليين ربما تدمر «الامتياز الذي يحوزه «الضيف الخفي» وما يستمده من إشباع ومتعة»، فإنها لا توضح ماهية المصادر الجديدة للجاذبية السينمائية، ولا تقدم تفسيرا واضحا لكيفية إيجادها. وكما سيخبرك أي ممن يذهبون إلى السينما بهدف التسلية، بدون مصدر ما من هذا النوع، لن يذهب أحد لمشاهدة الأفلام بعد الآن.
لن تجد السينما الجديدة جمهورا جديدا إلا إذا لجأت إلى رفع الوعي. لكن من غير الواضح على الإطلاق ما إذا كان رفع الوعي قد يكفي لتكوين جمهور يستمد من الأفلام متعا تختلف في نوعيتها عن متع الجماهير السابقة. ما نحتاج إليه، أو ما يبدو أننا نحتاج إليه، ليس رفع الوعي بل رفع اللاوعي. يدفع منهج التحليل النفسي بأن بعض جوانب اللاوعي من الممكن التلميح إليها ورفعها إلى مستوى الوعي ثم التعامل معها بطرق تمكن الأفراد من التغلب على ميول عصابية محددة. لكن التحليل النفسي، على الأقل التحليل النفسي الفرويدي، لا يحوي الكثير مما قد يدعم إمكانية تغيير النفس البشرية على النحو الذي تعتقد مولفي كونه ضروريا لبزوغ جمهور مستنير جديد للسينما، جمهور قادر على الإحساس بمتع سينمائية بديلة. تشير بعض القراءات للتحليل النفسي أن المتع المنحرفة هي جزء من البشر، وجزء من المتعة نفسها. وفي حين قد نستطيع التخلص من صور معينة من التمييز الجنسي الصريح ومن بعض التحيزات، من الصعب، أو ولا ينبغي لنا، محاولة التخلص من التلصص الشبقي والماسوشية (والمتع المستمدة منها)؛ إذ تعتمد المتعة التي نستمدها من السينما، والكثير من المتع الحياتية بالطبع، على ذلك.
رغم ذلك، يوجد جانب إيجابي، فليست كافة أشكال التلصص الشبقي والفيتيشية والماسوشية والسادية وغيرها تحمل ضررا. تتسبب الفيتيشية في ضرر عندما تدفع المرء، على سبيل المثال، إلى التعلق جنسيا على نحو كلي بحذاء أحد الأشخاص عوضا عن الشخص ذاته. فلنتأمل على سبيل المثال ما قاله فرويد (1993 [1927]: 27) عن الفيتيشية:
في السنوات الأخيرة الماضية، سنحت لي الفرصة لإجراء دراسة تحليلية على مجموعة من الرجال ممن تهيمن الفيتيشية على اختيارهم العاطفي. لا ينبغي توقع أن أولئك الأشخاص قد أتوا للتحليل النفسي بسبب هذه الفيتيشية؛ هم يدركون تماما أنها انحراف عن المسلك الطبيعي، لكن نادرا ما يشعرون بأنها عرض لمرض تصحبه معاناة. وعادة ما يكونون قانعين بها، بل وقد يمتدحون الطريقة التي تسهل بها هذه الفيتيشية حياتهم الجنسية؛ ومن ثم، كقاعدة، ظهرت الفيتيشية في تحليلهم النفسي كاكتشاف ثانوي.
كذلك الماسوشية هي على الأرجح جزء من عملية الحزن المعتادة، والسادية (في بعض أشكالها) قد تحقق هدفا وقائيا، بل وأخلاقيا. سوف نستأنف الحديث عن تلك الموضوعات في الفصل التاسع، حيث سنناقش شكلا متطرفا جدا من الاعتماد على ما يبدو أنه رغبات سادية لدى المشاهد؛ إذ سنناقش أفلام الرعب، ولا سيما أفلام الرعب الواقعية (أي الأفلام التي تستثير استجابة تنطوي على رعب دون اللجوء إلى وسيلة خارقة لتحقيق ذلك).
عرضنا في هذا الفصل مجموعة صغيرة فحسب من المشكلات الفلسفية المثارة حول السينما، وقد اخترنا المشكلات المترابطة والتي تؤدي كل منها إلى الأخرى أو تتضمنها على ما يبدو. وهي جميعا مشكلات مرتبطة من زاوية ما بالعلاقة بين السينما والمشاهد. رغم ذلك، على القارئ أن يحكم بنفسه ما إذا كنا على حق في زعم أن الوعي بالقضايا المثارة حول طبيعة السينما لن يؤدي إلى تحسين نقاش القضايا الفلسفية المطروحة في الأفلام فحسب، بل قد يحسن كذلك من السهرة التي يقضيها المرء في دار العرض السينمائي.
أسئلة
ما الذي يجعل فيلما ما أخلاقيا أو غير أخلاقي؟
هل يمكننا استخلاص نتيجة مهمة من حقيقة أن نفس الأفلام لا تستحوذ على إعجابنا جميعا، وأن الأفلام التي يجدها بعضنا مؤثرة (أو مضحكة أو مخيفة أو عميقة) إلى أقصى درجة لا تثير إعجاب الآخرين ولا تترك تأثيرا يذكر عليهم؟
كيف تؤثر دور العرض السينمائي وغيرها من سمات بيئة المشاهدة (مثل مشاهدة الأفلام على شاشة كبيرة في مقابل مشاهدتها على جهاز دي في دي في المنزل) على نسب المشاهدة السينمائية؟
ما سبب قوة الأفلام (بعض الأفلام)؟ هل قدمنا تفسيرا وافيا لذلك؟ هل اقترحنا بديلا مقبولا للنظرية التي انتقدناها (نظرية كارول)؟
زعمنا أن تركيز كارول على الجانب الإدراكي عوضا عن الجانب العاطفي أعاقه عن تقديم تفسير معقول لقوة الأفلام. هل ما قدمناه من حجج لدعم هذا الزعم كان مقنعا؟ بالتأكيد تلعب الخصائص الإدراكية للأفلام دورا فعالا في تعزيز قدرتها على التأثير في الجماهير، لكن كيف نستطيع إثبات أن الخصائص الإدراكية وحدها لا تكفي لتفسير قوة الأفلام تفسيرا متكاملا؟
لقد ركزنا على الجوانب العاطفية، وتلك القائمة على الرغبات، فيما يتعلق بقدرة الأفلام على التأثير علينا بعمق. ما المخاوف والإشكاليات الفلسفية المثارة حول هذه القدرة؟
هل من الممكن أن يدعم إدراك القضايا الفلسفية المثارة حول الأفلام التجربة السينمائية؟ هل يضعف هذا الإدراك القوة العاطفية للأفلام؟ هل يدعم هذا الإدراك استخدام القدرات النقدية عند المشاهدة السينمائية؟ هل هو بوجه عام ظاهرة ثانوية تصاحب الإدراك النقدي للأفلام؟
هل يمكن بطريقة ما تنقيح رؤية أندريه بازان التي تزعم أن «الصورة السينمائية هي تجسيد موضوعي للماضي، قطعة صادقة من الواقع» كي تصمد أمام نقد نويل كارول؟ هي بالتأكيد ليست صحيحة حرفيا أو لا تنطبق على جميع الصور المتحركة أو جميع السرديات التي تجسدها الصور المتحركة، لكن هل تنطوي رغم ذلك على جانب من الحقيقة؟
ما مدى معقولية مفارقة المشاهد المنحرف؟ هل تعتمد المشاهدة السينمائية على عمليات نفسية مضطربة، ربما نفضل الاستغناء عنها؟ هل يهم ما إذا كان الانغماس في فيلم ما يتطلب من المشاهد خوض عملية نفسية مضطربة؟
ما الصفات التي تصنع نجما سينمائيا؟ هل فهم هذا الموضوع فهما أفضل يساعدنا على فهم المشاهدة (العلاقة بين الجمهور والفيلم)؟
هوامش
الجزء
نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا) وما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا)
في الجزء الثاني نستعرض بعضا من الموضوعات الرئيسية في نظرية المعرفة (الدراسة الفلسفية للمعرفة) وما وراء الطبيعة (وهي تقريبا الدراسة الفلسفية لطبيعة الواقع الأولية).
يتناول الفصل الثالث نظرية المعرفة من منظور الشكوكية (الشكوكية هي الرفض الفلسفي لإمكانية المعرفة بمختلف أشكالها). والفيلم الذي سنحلله في هذا السياق هو «استعادة كاملة» (توتال ريكال). الذي لعب بطولته أرنولد شوارتسنيجر عام 1990؛ وهو فيلم قد لا يكون من أعمق الأفلام التي نتناولها بالدراسة في هذا الكتاب، لكنه يقدم مع ذلك طرحا بارعا لمفهوم الشكوكية.
ونبدأ في الفصل الرابع رحلتنا مع الميتافيزيقا ، التي نستهلها بالسؤال الجلي: ما الموجود؟ ما هي المكونات الأولية للعالم؟ تلك دراسة لعلم الوجود نسترشد فيها بفيلم وضع، من نواح عدة، حجر الأساس للاهتمام الحديث بدراسة الفلسفة عبر السينما؛ ألا وهو فيلم «المصفوفة» (ذا ماتريكس) (1999). غالبا ما تتناول الدراسات هذا الفيلم من منظور الشكوكية، لكن في رأينا تلك قضية ثانوية في فيلم «المصفوفة» مقارنة بفيلم «استعادة كاملة»، في حين يتفرد فيلم «المصفوفة» بصياغته لقضية الوجود على نحو شديد الوضوح.
أما الفصل الخامس فيبحث ميتافيزيقا العقل، لا بطريق مباشر بل عبر العقول الاصطناعية. أحد الأسباب التي تدفعنا لذلك هو أن العقول الاصطناعية لها تاريخ طويل وبارز في السينما. علاوة على أن القضايا الفلسفية المثارة حول طبيعة العقل تبرز حقا للعيان عندما نطرح هذا السؤال: ما متطلبات خلق عقل اصطناعي؟ (هل في وسعنا تحقيق ذلك يوما ما، ولو نظريا؟) نسترشد ها هنا بفيلم المخرج ستيفن سبيلبيرج «ذكاء اصطناعي» (إيه آي: أرتفيشال إنتليجينس) (2001). لم يتفق الجميع على أن فيلم سبيلبيرج فيلم عظيم (نقول ذلك لدواعي الإنصاف)، لكن نجح عبر شخصية ديفيد في تقديم مثال توضيحي لمتطلبات امتلاك عقل اصطناعي (يشبه العقل البشري).
وأخيرا، يبحث الفصل السادس طبيعة الزمن. والزمن هو أكثر الأشياء ألفة وغموضا في الوقت نفسه. وكالمعتاد لن نتناوله ها هنا مباشرة، بل نستكشفه عبر التركيز على أمر لطالما حرصت السينما حرصا بالغا على تمثيله بشكل أو بآخر؛ وهو السفر عبر الزمن. لكي نتمكن من معالجة احتمالية السفر عبر الزمن فلسفيا، علينا أن نستوعب جزءا على الأقل من طبيعة الزمن. نستكشف ذلك كله مع مناقشة لفيلم قصير رائع من عام 1960 وهو «جسر المطار» (لا جيتي)، من إخراج صانع الأفلام الفرنسي كريس ماركر. الفيلم مثال ممتاز حقا على قصص السفر عبر الزمن، ونستخدمه ها هنا لإثبات أن السفر عبر الزمن ممكن على الأقل منطقيا بجانب توضيح التفكك الواضح في حبكة الكثير من أفلام السفر عبر الزمن (وربما معظمها).
الفصل الثالث
الحقيقة والوهم في فيلم «استعادة كاملة»
مقدمة
نظرية المعرفة هي دراسة المعرفة والمفاهيم المرتبطة بها مثل الشك واليقين والتبرير والبرهان والتسويغ. تهيمن ثلاثة أسئلة على هذا المجال: ما هي المعرفة؟ ما الذي يمكن معرفته؟ كيف نعرف ما نعرفه (إذا كنا نعرف أي شيء على الإطلاق)؟ ربما تبدو تلك الأسئلة مملة نوعا ما رغم كونها مهمة وتستحق الطرح، لكن الأمور تزداد إثارة مع مجيء المتشككين. المتشكك هو من ينكر المعرفة؛ في وسعه إنكار أننا نعرف ما نظن أننا نعرفه، أو في وسعه إنكار أن واحدا أو أكثر من المناهج التي نستخدمها لاكتساب المعرفة قادر فعليا على تحصيل المعرفة. المتشكك في عقول الآخرين، على سبيل المثال، ينكر أننا نعرف أي شيء عن عقول الآخرين، أو حتى ما إذا كان لدى الآخرين عقول. ينكر المتشكك في الأديان أننا نعرف أي شيء عن الله، بما في ذلك وجوده. ربما كان النوع الأعلى طموحا من المتشككين هو ما عبر عنه الفيلسوف الفرنسي العظيم رينيه ديكارت في القرن السابع عشر، وهو المتشكك المطلق، الذي يزعم أننا لا نعرف شيئا سوى أننا موجودون. (أنا أعرف أنني موجود لأنني لا أستطيع الشك في وجودي شكا مترابطا من الناحية المنطقية. فعندما أفكر مليا في سؤال «هل أنا موجود أم لا؟» فذلك يعني حتما وجود من يفكر؛ وهو أنا في هذه الحالة. لخص ديكارت ذلك في عبارته «أنا أشك، إذن أنا موجود».)
أحد أكثر أنواع المتشككين إثارة للاهتمام هو المتشكك في المعرفة الحسية، الذي ينكر أننا نعرف أي شيء على الإطلاق بناء على ملاحظتنا للعالم؛ فهو ينكر أن حواسنا هي مصدر للمعرفة؛ لأنها غير مضمونة ولا يقينية بما يكفي لإمدادنا بالمعرفة عن العالم. العلوم كافة، باستثناء الرياضيات، قائمة على معلومات جمعتها حواسنا، وهكذا إذا لم تكن حواسنا تنتج معرفة، فإن العلم لا ينتج معرفة بدوره. يستنتج بعض المتشككين في المعرفة الحسية أننا لا نستطيع حتى أن نعرف ما إذا كان العالم الخارجي موجودا! إلى هذا الحد تصل الشكوكية في المعرفة الحسية! لتبسيط الأمور، سنستخدم مصطلح «المتشككين» للإشارة إلى هذا النوع تحديدا من الشكوكية، لكن على القارئ تذكر أننا نتحدث عن نوع واحد من مجموعة محيرة ومتنوعة من المتشككين.
ينبع قدر كبير من أفضل ما تمخضت عنه عقول المشتغلين بنظرية المعرفة المعاصرة، من محاولات تفنيد مزاعم المتشككين في المعرفة الحسية، وهي محاولات جديرة بالجهد؛ لا لأن المتشكك شخص مزعج ومستفز فحسب، بل لأننا عندما نفند مزاعمه نلقي ضوءا نحن في أمس الحاجة إليه على طبيعة المعرفة. فيتضح أن المعرفة أمر معقد ومثير للجدل. ونخوض معركة علم المعرفة المعاصر مع المتشككين مسترشدين بفيلم أرنولد شوارتسنيجر «استعادة كاملة» (1990). كثير من الأفلام الرائعة تستحضر الشكوكية وتستكشف جوانبها بطريقة أو بأخرى، لكن فيلم «استعادة كاملة» هو حالة خاصة على الأقل من منظور متخصص علم المعرفة المعاصر.
1
وسرعان ما سنعرف أسباب ذلك.
تدور أحداث فيلم «استعادة كاملة» عام 2048 على كوكب الأرض، حيث يحلم دوجلاس كويد بكوكب المريخ. يتوق كويد إلى السفر إلى هناك كي يزور مستعمرة المريخ، لكن زوجته لوري ترفض الفكرة كليا؛ ومن ثم عوضا عن السفر يوافق على خوض رحلة افتراضية إلى المريخ، تعرضها شركة مريبة تدعى ريكال. تعد الشركة بزرع ذكريات داخل دماغه عن إجازة على كوكب المريخ بدلا من قضاء إجازة فعلية هناك، تتسم رغم كل شيء بكونها طويلة وشاقة، ومليئة بلحظات الملل. (الافتراض السائد في الفيلم هو أن الإجازات الحقيقية ليست سوى طريقة غير مريحة لجمع الذكريات السعيدة. وهو افتراض سخيف قطعا، لكن دعونا نقبله.) يوافق كويد على شراء عرض أفضل من العرض العادي فيختار مغامرة من الدرجة الأولى على كوكب المريخ تدعى «سماء زرقاء فوق المريخ»، حيث يلعب دور عميل سري يخوض أخطر مغامرة في حياته تتوج بفوزه بفتاة أحلامه (وهي الفتاة التي كانت تظهر فعليا في أحلامه) وإنقاذه للكوكب. لكن بينما يخضع لعملية زرع الذكريات، يحدث خطأ مروع.
يقاطع كويد سير عملية زرع الذكريات صارخا بشيء ما يتهمهم من خلاله بكشف هويته السرية، فيقيد ويخدر ويلقى في سيارة أجرة تأخذه إلى منزله حيث يتعرض لمحاولة قتل على يد زوجته، التي يتضح أنها لا تمت له بصلة؛ ثم يحاول مجموعة أشخاص آخرين قتله كذلك، ثم تصله بعد ذلك حقيبة غامضة يستعين بها كي يهرب إلى كوكب المريخ حيث يقابل ميلينا (واحدة من المتمردين الذين يقاتلون حاكم المريخ المستبد كوهاجين). يخوض كويد وميلينا سلسلة من المغامرات الجامحة تتمخض في النهاية عن تحويل الغلاف الجوي لكوكب المريخ ليماثل غلاف كوكب الأرض.
2 (وبفضل تقنية قديمة ابتكرتها كائنات فضائية يستغرق التحول الكامل لغلاف المريخ الجوي دقيقة واحدة و45 ثانية تقريبا، إنها حقا تقنية رائعة!) ذلك ملخص مختصر لأحداث الفيلم، يتخطى تقريبا جميع التطورات والتحولات المفاجئة في تلك الحبكة السخيفة والمسلية لدرجة استثنائية، لا سيما التعقيدات المتعلقة بأزمة الهوية لدى كويد ودوره غير المتعمد في مؤامرة تهدف إلى تدمير قيادة المتمردين المريخيين.
3
لكننا نرغب في تحليل مشهد واحد محوري.
في هذا المشهد (الذي يبدأ في الدقيقة 58) يجلس كويد مسترخيا في غرفته بالفندق (ليس أي فندق، بل هيلتون المريخ الفاخر) حيث يتلقى زيارة من د. إدجمار من شركة ريكال. ويدور بينهما هذا الحوار بينما يصوب كويد مسدسه إلى رأس محدثه:
إدجمار :
أخشى أن ما سأقوله سيكون من الصعب عليك قبوله يا مستر كويد، أنت لا تقف الآن هنا حقا.
كويد :
ها، أتظن أنك تستطيع خداعي؟
إدجمار :
أتحدث جديا، أنت لست هنا ولا أنا أيضا.
كويد (يضحك، بينما يفتش إدجمار بحثا عن أسلحة) :
مدهش، أين نحن إذن؟
إدجمار :
نحن في شركة ريكال، أنت مقيد إلى كرسي زرع الذكريات، وأنا أراقبك من جهاز تحكم متصل بمسبار نفسي.
كويد :
آه، فهمت، تقصد أني أحلم، وأن ذلك كله جزء من الإجازة الممتعة التي باعتها لي شركتك.
إدجمار :
ليس بالضبط، أنت تعيش الآن وهما مرتجلا مستمدا من شرائط الذكريات الخاصة بالشركة لكنك تخترع الأحداث بينما تستمر في الحلم.
كويد :
حسنا، إذا كان ذلك وهما اخترعته بنفسي، فمن دعاك إذن؟
إدجمار :
لقد تم زرعي اصطناعيا في البرنامج كإجراء طارئ. للأسف أنت تعاني من انسداد دموي فصامي. ونحن عاجزون عن إخراجك من أوهامك. لقد أرسلت هنا كي أحاول إقناعك.
كويد :
كم دفع لك كوهاجين كي تلعب هذا الدور؟
إدجمار :
فكر في الأمر. لقد بدأ حلمك وسط عملية زرع الذكريات. كل الأمور التي أعقبت ذلك - المطاردات ورحلتك إلى المريخ وهذا الجناح الذي تقيم به في فندق هيلتون - ليس سوى عناصر في قصة الإجازة والرحلة التي اخترتها في ريكال. لقد دفعت لنجعل منك عميلا سريا.
كويد :
هراء، تلك مجرد مصادفة.
بعد ذلك (بعدما تنضم لوري إلى المشهد في محاولة أخيرة لإقناع كويد بفرضية الحلم) يلخص إدجمار المسألة تلخيصا بارعا.
إدجمار :
أيهما أقرب للهراء يا مستر كويد؟ هل أنت تعاني من نوبة جنون اضطهاد ناتجة عن التعرض لصدمة عصبية كيميائية حادة، أم أنك في الحقيقة عميل سري لا يقهر، أتى من المريخ يقع ضحية لمؤامرة كوكبية تسعى لجعله يظن أنه مجرد عامل بناء وضيع؟
يبدو كما لو أن على كويد الاقتناع بحجج إدجمار، لكنه يكتشف الخدعة في النهاية عندما يلمح نقطة عرق تنحدر على جبينه. إذا كان وجود إدجمار مجرد وجود افتراضي، فإن المسدس المصوب إليه ليس حقيقيا ولا يوجد تهديد حقيقي موجه إليه. فلما إذن يشعر بتوتر بالغ؟ وعلى الفور ودون الخوض في المزيد من المناقشات النظرية، يطلق كويد الرصاص على إدجمار في منتصف جبهته، وتستعيد حبكة الفيلم زخمها.
بالطبع كان استنتاج كويد القائم على نقطة العرق استنتاجا ضعيفا نسبيا. فهناك الكثير مما قد يبرر توتر إدجمار؛ ربما كانت وظيفته على المحك؛ ومن ثم أثر توتره أثناء مراقبته لكويد عبر جهاز التحكم على صورته الافتراضية في وهم كويد المرتجل. على الأقل تبدو تلك احتمالية كان على كويد استبعادها كي يتيقن من صحة استنتاجه. (ربما نبرر تصرف كويد بأن إطلاق الرصاص على صورة إدجمار الافتراضية لن تضر أحدا سوى كويد نفسه، في حين أن إطلاق النار على إدجمار الكاذب ربما يعتبر دفاعا عن النفس.)
ما الأدلة التي استطاع كويد استنتاجها كي يتمكن من استبعاد فرضية الوهم التي يطرحها إدجمار؟ لا يبدو أنه يملك أدلة حاسمة. إذا كان الانسداد الدموي الفصامي، المعزز بشرائط الذكريات الخاصة بشركة ريكال، قادرا على تعزيز وهم محكم بما يكفي - وهم معقول حقا ومتسق تماما (حيث تتتابع الأحداث في ترتيب منطقي ولا تتغير أشكال الأشياء والأشخاص اعتباطيا، إلى آخره) ويعج بالتفاصيل؛ ما يصعب تمييزه عن حالة اليقظة - فلن يكون كويد قادرا على استبعاد احتمالية أنه يعيش حالة من الوهم. من ناحية أخرى، نحن، في موقع المشاهدين، نعرف قطعا أن كويد لا يتوهم ما حدث، ويرجع ذلك إلى أن جزءا كبيرا من الفيلم مروي من منظور شخص ثالث لا من منظور كويد الشخصي. في بعض الأحيان نتابع الحدث من وجهة نظر كويد، لكن في أحيان أخرى نشهد أحداثا لا يشهدها كويد نفسه. (إذا كانت تلك الأحداث جزءا من حلم، فمن يحلم إذن؟ لا يمكن أن يكون كويد؛ فهو لا يعلم بها من الأساس.) في عالم «استعادة كاملة» الخيالي، كويد عميل سري بالفعل، وهو حقا على وشك إنقاذ المريخ.
4
في هذا العالم الخيالي، جميع افتراضات كويد الأساسية حقيقية. لكن هل يعرف هو أنها حقيقية؟ يتطلب امتلاك المعرفة، أكثر مما يتطلبه، امتلاك إيمان صادق.
في المشهد الأخير من الفيلم (الدقيقة 44 من الساعة الثانية) بينما يحدق كويد وميلينا في ذهول في سماء المريخ الجديدة التي ولدت لتوها (سماء زرقاء بالطبع)، يقع كويد من جديد فريسة للحيرة على المستوى المعرفي.
ميلينا :
لا أصدق ما أراه، أنه أشبه بحلم ... ماذا دهاك؟
كويد :
لقد خطرت لي الآن فكرة فظيعة، ماذا لو كان هذا كله حلما؟
ميلينا :
حسنا، قبلني سريعا إذن قبل أن تستيقظ.
يبدو أن كويد واقع في مأزق تشككي؛ فعلى الرغم من صحة معتقداته (صحتها في عالم «استعادة كاملة» الخيالي)، كما يتضح لنا، هو على ما يبدو لا يعرف حقا ما إذا كانت صحيحة. ربما كان جالسا بالفعل على جهاز زرع الذكريات يعاني آثار الانسداد الدموي الفصامي (وذلك مصطلح رائع بالمناسبة، لا يعني شيئا في واقع الأمر، لكن هذا لن يمنعنا من استخدامه قدر وسعنا). بالتأكيد يفسر المتشكك ورطة كويد على هذا المحمل. وسيصر على أننا جميعا نخوض نفس الموقف المعرفي الذي يمر به كويد. نحن نكتسب جميع معتقداتنا تقريبا عن العالم من حواسنا، ويؤمن المتشكك أنه «حتى في حالة صحة تلك المعتقدات كلها (وهو لا يسلم ها هنا بأنها حقيقية)، فإنها لا تعتبر معرفة.» على أي أساس يدعي المتشكك ذلك؟ فرغم كل شيء، كويد هو بطل فيلم يروي قصة عجيبة؛ يوجد ما يبرر المأزق التشككي الذي يقع فيه. لكن ماذا عنا؟
الحجة الشكوكية
يزعم المتشكك أنه إذا كانت حواسنا تخبرنا بالحقيقة؛ فنحن إذن لا نعاني من انسداد دموي فصامي (يتسبب في جعلنا نخوض تجارب ونؤمن بمعتقدات وهمية). لكننا لا نعرف ما إذا كنا نعاني من انسداد دموي فصامي أم لا. إذن نحن لا نعرف ما إذا كانت حواسنا تخبرنا بالحقيقة أم لا. يعتقد المتشكك أن هذه الحجة تنطبق علينا جميعا، في جميع الأوقات (لا استنادا فحسب إلى احتمالية إصابتنا بانسداد دموي فصامي، فتلك مجرد أداة؛ فأي مأزق تشككي مشابه سيصلح). ربما يبدو واضحا أن كويد لا يستطيع أن يعرف ما إذا كانت فرضية الانسداد الدموي الفصامي صحيحة أم لا. فأمامه العديد من الأدلة التي تثبت صحتها، وحتى إذا كنا «نحن» نعرف أن هذه الأدلة مضللة، فإنه «هو» لا يعرف. ومحاولته تفنيد الفرضية (الاستنتاج القائم على قطرة العرق) تفشل فشلا ذريعا عند فحصها عن قرب. كويد عالق في مأزقه إذن. لكن هل يمكننا نحن استبعاد هذا النوع من الفرضيات؟
5
يتذكر كويد أنه ذهب إلى شركة ريكال؛ لقد وقع ضحية لفضوله وطبيعته الواثقة. لكننا لم نرتكب بعد فعلا أحمق كهذا، على الأقل بقدر ما نستطيع التذكر. حسنا ربما خضنا بالفعل مغامرة أشبه بمغامرة ريكال، لكن جميع ذكرياتنا عنها قد محيت من عقولنا. إذا كان ذلك قد «حدث»، فليس بوسعنا الجزم بحدوثه؛ ومن ثم تصبح الحجة كالتالي: إذا كان هذا الحدث «لم يحدث» لنا، فإننا لا نستطيع الجزم بأنه «لم يحدث». وسواء حدث أم لم يحدث لنا، لن نعرف في أي من الحالتين. تلك هي السمة العامة للفرضيات التشككية. لا نستطيع إثبات زيفها على نحو حاسم؛ لأن جميع المعلومات التي قد نستخدمها لإثبات زيفها هي معلومات من المحتمل أنها زرعت في رءوسنا كجزء من الفرضية. الفرضيات التشككية هي الشكل الأوضح من نظريات المؤامرة.
هذا هو النهج التعليلي الذي نجده لدى المتشككين: لا يمكننا الجزم بزيف الفرضيات التشككية لأننا عاجزون عن الوصول إلى المعلومات التي تثبت لنا زيفها، وبما أننا ندرك أنه كي تعمل حواسنا كما ينبغي، لا بد من إثبات زيف تلك الفرضيات، فإننا لن نعرف أبدا ما إذا كانت حواسنا تعمل على نحو سليم. بعبارة أخرى، نحن لا نكتسب أي معرفة من حواسنا (مطلقا).
كيف نرد على حجة كتلك؟ علينا أولا شرحها بمزيد من الدقة، بحيث نفصل بين المقدمات المنطقية المتنوعة والاستنتاج. ستظل فرضيتنا التشككية ها هنا هي الوهم الناتج عن انسداد دموي فصامي، ولو أن فرضيات تشككية أخرى تصلح كذلك للغرض نفسه. (سوف نلخص هذه الفرضية في الزعم التالي: «أنا أحيا في وهم».) (1)
أنا لا أعرف ما إذا كنت غير موهوم (ولا أعرف كذلك ما إذا كنت أحيا في الوهم أيضا، لكن تلك مسألة أخرى). (2)
أعرف أنه إذا كانت حواسي تنقل لي الحقيقة، فإنني لست موهوما. (3)
إذن أنا لا أعرف ما إذا كانت حواسي تنقل لي الحقيقة.
حسنا، ربما كانت القوة المنطقية لهذه الحجة غير واضحة تماما؛ لذا دعونا نفصلها بعض الشيء: (1)
أنا لا أعرف ما إذا كنت غير موهوم (المقدمة المنطقية الأولى). (2)
أعرف أنه إذا كانت حواسي تنقل لي الحقيقة، فإنني لست موهوما (المقدمة المنطقية الثانية). (3)
فلنفترض أني أعرف «بالفعل» أن حواسي تنقل لي الحقيقة (هذه ليست مقدمة منطقية جديدة، إنها مجرد افتراض. نذكره كي نفنده بعد ذلك). (4)
عندئذ سأعرف أنني لست موهوما. (نستنتج ذلك من رقم (2) و(3).) (5)
لكننا قد اتفقنا بالفعل في رقم (1) على أنني لا أعرف هذا؛ ومن ثم لا بد أن الافتراض رقم (3) خاطئ. (6)
لذا أنا لا أعرف ما إذا كانت حواسي تنقل لي الحقيقة.
يعتمد هذا النوع من الحجج على طرح فرضية نظرية (في هذا النموذج رقم (3)) واستخدامها، مع مقدمات منطقية أخرى لاستنتاج تناقض. كلما تمكنا من استنتاج تناقض، فذلك يعني وجود خطأ ما؛ خطأ الافتراض النظري أو خطأ واحدة أو أكثر من المقدمات المنطقية. يعتقد المتشكك أن الافتراض النظري هو مكمن الخطأ الواضح في الحجة وأن بقية المقدمات المنطقية لا يمكن عقلانيا إنكارها.
6
لكن الحجة لن تكون سليمة إلا إذا كانت الاستنتاجات كافة التي طرحت خلالها صحيحة منطقيا، فهل هي كذلك؟
البدائل ذات الصلة ومبدأ الإغلاق
هل هذه الحجة صحيحة منطقيا؟ بعبارة أخرى، هل الاستنتاج الذي تطرحه نشأ عن المقدمات عبر المنطق فحسب؟ الإجابة هي لا. هذه الحجة هي ما يطلق عليها علماء المنطق «قياسا مضمرا»؛ أي قياسا يعتمد على مقدمة غير مصرح بها، مقدمة ليست صحيحة حسب المنطق وحده. تعرف المقدمة المفقودة باسم «مبدأ إغلاق المعرفة» (أو اختصارا مبدأ الإغلاق). في النموذج الأطول من الحجة، استخدمنا رقمي (2) و(3) كي نستنتج رقم (4). أعرف أن حواسي تخبرني بالحقيقة (3). وأعرف أنه إذا كانت حواسي تخبرني بالحقيقة فأنا لست موهوما (2). نستنتج من هذا أنني أعرف أنني لست موهوما (4) (وبما أن رقم (4) استنتاج خاطئ، فرقم (3) أيضا خاطئ). يبدو الأمر معقولا جدا. لكنه يعتمد بالفعل على مبدأ يتعلق بآلية عمل مفهوم المعرفة. إنه يعتمد على فكرة انتقال المعرفة عبر الاستلزام المنطقي. فيما يلي تعبير بسيط عن هذا المبدأ، باستخدام الرمزين «أ» و«ب» للدلالة على أي فرضيات:
مبدأ إغلاق المعرفة
إذا كان أحد الأشخاص يعرف «أ» ويعرف أيضا أن «أ» يستلزم منطقيا «ب»، فإن ذلك الشخص يعرف «ب» أيضا.
بدون هذا المبدأ، تعجز حجة المتشككين عن أداء وظيفتها. ربما تتساءل عن وجه الخطأ في الأمر، فمبدأ الإغلاق يبدو صحيحا دون شك. إذا كان المرء يعرف شيئا، ويعرف أن هذا الشيء يستلزم منطقيا شيئا آخر، فكيف إذن لا يعرف هذا الشيء الآخر؟ يبدو من الصعب الجدل بشأن مبدأ الإغلاق. لكن هذا هو تحديدا ما سنفعله. (وهذه طريقة واحدة فحسب من طرق الرد على المتشككين. يوجد العديد من المناهج الأخرى، لكننا سنتناول في هذا الفصل محاولات تفنيد حجة المتشككين عبر إنكار مبدأ الإغلاق.)
كان فريد دريتسكي أول من طور هذا النهج المضاد لمنطق المتشككين، والذي يعرف عامة بحجة «البدائل ذات الصلة» التي ترد على المتشككين (سنعرف عما قريب لماذا سميت بذلك الاسم). يزعم دريتسكي أن مبدأ الإغلاق ليس صحيحا في جميع الأحوال. ولتوضيح فكرته، سنعود إلى أحداث الفيلم. في المشهد الأخير من الفيلم، يتساءل كويد ما إذا كانت مغامرته تلك حلما. هو لا يحلم، لكنه غير متأكد من ذلك. والآن فلنتأمل حالة ميلينا، هي ليست حائرة مثل كويد، ولا هي نتاج خياله.
7
هي حقيقية، وتعرف أنها حقيقية. هي على كوكب المريخ، وتعرف أنها على كوكب المريخ (لقد قضت حياتها كلها عليه). هي تعرف أن كوهاجين طاغية (لقد تعاملت معه من قبل) ... إلخ. هل تعرف أنها لا تحلم بكل هذا؟ هل تعرف أنها لم تقع في يد كوهاجين الذي زرع في دماغها ذكريات زائفة، ثم وضعها داخل ديكور زائف لفيلم تدور أحداثه على كوكب المريخ بصحبة ممثل يشبه أرنولد شوارتسنيجر كثيرا؟ ربما لا تعرف ذلك، رغم كونها تعرف العديد من الأشياء الأخرى عن حياتها. كيف يمكن ذلك إذن؟
لكي نستوضح ذلك علينا تأمل طبيعة المعرفة. (ربما بدأت تفكر بالفعل أن الوقت قد حان لذلك.) ماذا نعني عندما ننسب المعرفة إلى شخص ما؟ نوع المعرفة الذي نتناوله ها هنا هو معرفة افتراضية؛ أي معرفة أن افتراضا ما صحيحا. كي نمتلك هذا النوع من المعرفة علينا أن نؤمن بافتراض ما، وبأن هذا الافتراض صحيح. لكن هذا لا يكفي كي نكتسب «معرفة» حقيقية. ماذا نحتاج بالإضافة إلى ذلك؟ يرد دريتسكي بأننا نحتاج لأن نكون قد توصلنا إلى الاعتقاد في هذا الافتراض بطريقة موثوق بها. لكي ينظر إلى اعتقادنا الصحيح بأنه معرفة، لا يمكن أن يكون إيماننا به قد حدث مصادفة أو لمجرد أننا قد خمناه أو لأنه قد غرس في أذهاننا. ويقترح دريتسكي الاختبار التالي: لو كان هذا الافتراض خاطئا، هل كنا سنظل مؤمنين به؟ إن أجبنا على هذا السؤال بنعم، فإن معتقدنا لا يتبع الحقيقة بما يكفي كي ينظر إليه باعتباره معرفة. وإن أجبنا بلا، فإن معتقدنا الصحيح سيعتبر معرفة.
اختبار دريتسكي للمعرفة
هل كنت سأومن بهذا الافتراض لو كان خاطئا؟
الخصم الأهم لرؤية دريتسكي للمعرفة (وللكثير من تنويعاتها) هو نموذج «الاعتقاد الصحيح المبرر» للمعرفة. حسب نموذج الاعتقاد الصحيح المبرر، لا يعتبر الاعتقاد الصحيح معرفة إلا إذا كان لدينا مبرر لاعتناقه. يبدو نموذج الاعتقاد الصحيح المبرر معقولا للغاية، وقد شاع في الفلسفة لوقت طويل. لكن ثمة شائبة تشوبه. تأمل الحالة التالية: هب أنك نظرت إلى الساعة على حائط غرفة نومك، ووجدتها تشير إلى العاشرة. وهب علاوة على ذلك أن الساعة بالفعل العاشرة، وأنك تعتقد اعتقادا مبررا تماما بأن الساعة تعمل كما ينبغي (لقد عملت بكفاءة منذ أن امتلكتها، ولم يمض على تغييري بطاريتها سوى أسبوعين)؛ ومن ثم تصبح رؤية الساعة مبررا للاعتقاد بأن الساعة العاشرة. وإذا كانت الساعة العاشرة بالفعل، يصبح لديك اعتقاد صحيح مبرر بأن الساعة العاشرة. لكن هل تعرف أن الساعة العاشرة؟ فلتفترض أن الساعة قد توقفت دون علمك منذ ثلاثة أيام عند الساعة العاشرة بالضبط. في هذه الحالة، يمكننا القول إنه بالرغم من أن لديك اعتقادا مبررا بأن الساعة هي العاشرة، وأنها بالفعل كذلك، فإنك لا تعرف أنها العاشرة. لم يظهر لديك هذا الاعتقاد الصحيح المبرر سوى مصادفة. وذلك ينفي، على ما يبدو، زعم المعرفة. (الأمثلة المناقضة من هذا النوع تعرف باسم «أمثلة جيتيه المناقضة» لأنها برزت إلى حيز الاهتمام للمرة الأولى في بحث شهير كتبه إدموند جيتيه (1963).) لدى دريتسكي إجابة جاهزة على أمثلة جيتيه المناقضة. أنت لا تعرف أن الساعة العاشرة لأنه اتضح أنك لم تكتسب اعتقادك بأن الساعة العاشرة عبر سبل موثوق بها. إذا لم تكن الساعة العاشرة، هل ستظل تعتقد في هذه الحالة بأنها كذلك؟ نعم ستظل تعتقد بذلك؛ فالساعة ستظل تشير إلى العاشرة. لكنها ستكون خاطئة هذه المرة؛ ومن ثم لا تجتاز هذه الحالة اختبار دريتسكي للمعرفة. في هذا المثال، أنت لا تعرف كم الساعة الآن رغم كل شيء. تبدو هذه هي الإجابة الصحيحة بداهة.
فلنتأمل اختبار دريتسكي عن كثب. هل تعرف ميلينا أنها على كوكب المريخ؟ هي تؤمن حقا أنها كذلك، لكن هل هي قادرة على اجتياز الاختبار؟ يبدو الاختبار سهلا حقا. اعتقاد ميلينا بأنها على كوكب المريخ اعتقاد صحيح. لكن في حال كونه اعتقادا خاطئا، هل كانت ستستمر في الإيمان به؟ كيف نحكم على سؤال كهذا؟ إنه يطلب منا الحكم على صحة نوع خاص من الادعاء يعرف باسم «شرط مناقض للواقع». يطرح هذا الشرط سيناريو افتراضيا خالصا (سيناريو نعتقد أنه خاطئ، أو بعبارة أخرى مناقض للحقائق) ثم يقدم زعما حول ما كان سيحدث في هذا السيناريو الافتراضي. تأمل مثالا آخر على الشرط المناقض للواقع: «لو أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تقصف مدينتي هيروشيما وناجازاكي، فإنها كانت ستنتصر رغم ذلك في الحرب العالمية الثانية.» هل هذا الزعم صحيح أم لا؟ كيف يفترض بنا تفسير ذلك؟ إن الشرط المناقض للواقع يقدم زعما حول ما كان سيحدث في حالة عدم حدوث القصف، «مع بقاء العوامل الأخرى كافة في الحرب على حالها». من العبث الرد على هذا الشرط عبر تخيل احتمالات عجيبة (كأن نتخيل أن الولايات المتحدة تعفو عن هيروشيما، ثم في اليوم التالي تهبط كائنات فضائية من كوكب المشتري على المدينة، وتمنح الجيش الياباني سلاحا خارقا يمكنهم من الانتصار في الحرب، وتأسيس أسرة حاكمة تدوم لألف عام). الاحتمالات العجيبة غير ذات أهمية. يطرح الشرط المناقض للواقع زعما حول ما كان سيحدث إذا تغير عامل واحد فقط (عدم حدوث القصف قط) مع بقاء العوامل الأخرى كافة كما هي باستثناء تلك العوامل التي نتجت عن هذا العامل المتغير. سيطلق الفلاسفة على هذا الموقف المحتمل العالم الأقرب احتمالا الذي لم يقع فيه قصف هيروشيما وناجازاكي . إنه عالم محتمل حيث ظل مسار الحرب وصولا إلى نقطة الهجوم على هيروشيما وناجازاكي كما هو. ومن ثم ظلت جميع العوامل التي أدت إلى هزيمة اليابان محتفظة بتأثيرها. كان الجيش الياباني في موقف محفوف بالمخاطر قبل القصف مباشرة، ودون توفر سبيل محتمل للانتصار لديه؛ ومن ثم كانت اليابان ستلقى، في الوقت المناسب، الهزيمة. بعبارة أخرى، كانت اليابان ستلقى هزيمة في العالم الأقرب احتمالا حيث لم تقع الهجمات على هيروشيما وناجازاكي. إذا كان هذا صحيحا، فإن الشرط الذي طرحناه صحيحا كذلك. وإذا لم يكن هذا صحيحا، فإن الشرط يصبح خاطئا.
فلننظر كيف نطبق هذا على حالة ميلينا. تعتقد ميلينا اعتقادا صحيحا، كما يتضح في النهاية، أنها على كوكب المريخ. هل كانت ستظل تعتقد أنها على المريخ حتى لو لم تكن هناك؟ ما هو العالم الأقرب احتمالا لوجودها فيه إذا لم تكن توجد ميلينا على كوكب المريخ؟ هل هو العالم الذي تكون فيه على كوكب الأرض، الذي سافرت إليه عبر مكوك فضائي؟ هل هو العالم الذي اختطفتها فيه عصابة كوهاجين، وقيدتها إلى جهاز زرع الذكريات، وغرست في ذهنها عنوة وهما يجعلها تظن أنها على كوكب المريخ؟ أي من تلك العوالم تعتقد أنه العالم الأقرب احتمالا؟ بعبارة أخرى؛ أي سيناريو ينحرف بأقل قدر ممكن عن العالم الواقعي؟ (تذكر، هذا العالم الواقعي هو العالم الذي تعيش فيه ميلينا بالفعل على كوكب المريخ، ويسجل الفيلم الأحداث وقت حدوثها تقريبا.) من الواضح (أليس كذلك) أن سيناريو المكوك الفضائي الممل ينحرف عن العالم الواقعي إلى حد يقل كثيرا من المنظور الدرامي عن السيناريو التشككي. في هذه الحالة، في وسع ميلينا أن تكتشف بسهولة أنها على كوكب الأرض، وليست على كوكب المريخ (ليس من الصعب اكتشاف الفرق بين الكوكبين). وهكذا أصبح لدينا إجابة عن سؤال الاختبار. لن تعتقد ميلينا أنها على كوكب المريخ لو لم تكن هناك. ومن ثم تجتاز اختبار دريتسكي، هي تعرف أنها على كوكب المريخ.
حتى الآن تبدو الأمور جيدة. لكن ماذا عن مبدأ الإغلاق ؟ كيف يؤدي بنا منظور دريتسكي للمعرفة إلى رفض مبدأ الإغلاق؛ ومن ثم رفض حجة المتشككين؟ ميلينا تعرف أنها على كوكب المريخ. لكن هل تعرف أنها لم تتعرض للخداع على يد كوهاجين وشركائه كي تظن أنها على المريخ بينما هي ليست هناك؟ ذلك سؤال مختلف. ربما تعتقد أنها لم تتعرض للخداع، وربما تكون على حق في ذلك. لكن هل «تعرف» أنها لم تتعرض للخداع؟ دعونا نطبق اختبار دريتسكي مرة ثانية؛ هذه المرة على اعتقاد ميلينا بأنها «لم تتعرض للخداع على يد كوهاجين وشركائه.» يعجز هذا الافتراض عن اجتياز اختبار دريتسكي. فإذا كانت ميلينا قد تعرضت للخداع في إطار مؤامرة دفعتها إلى الاعتقاد بأنها على المريخ، فإنها ستظل تعتقد أنها على المريخ (فذلك هو هدف المؤامرة في النهاية). بالطبع إذا فكرت ميلينا في هذه الفرضية التشككية فإنها ستنبذها على الأرجح باعتبارها فرضية زائفة. رغم ذلك فإن نبذها للفرضية، رغم كونه صحيحا، ليس قويا ولا موثوقا به بما يكفي لاعتباره معرفة. النتيجة النهائية لهذا كله هي أن مبدأ الإغلاق سيخفق في تفسير حالة ميلينا. هي تعرف أنها على كوكب المريخ، وتعرف أنها إذا كانت على المريخ، فهي إذن لم تقع فريسة لمؤامرة كوهاجين الرامية لخداعها كي تظن أنها على كوكب المريخ في حين أنها ليست هناك. لكن رغم ذلك، هي لا تعرف أنها ليست ضحية لهذه المؤامرة، وحقيقة أنها لا تستطيع استبعاد الفرضية التشككية على نحو موثوق به لا تعني أنها لا تستطيع الاعتقاد على نحو موثوق به بمجموعة كاملة من الأشياء الحقيقية، من بينها أنها على كوكب المريخ مع كويد، وأنهما قد أنقذا الكوكب لتوهما. حسب تعبير دريتسكي، البديل الذي يرغب المتشكك في أن ننظر إليه بجدية هو بديل غير ذي صلة فيما يتعلق بتقييم ما إذا كانت معتقدات ميلينا اليومية تعتبر معرفة أم لا.
تتبع الحقيقة وتعقب المبررات
مع ذلك توجد مشكلة. (بالطبع توجد مشكلة؛ فلا يمكن أن توجد فلسفة دون مشكلة.) يحقق تحليل دريتسكي على ما يبدو نجاحا مبهرا في حالة ميلينا، لكنه يتمخض على ما يبدو عن نتيجة سلبية في حالة كويد. لقد ذكرنا منذ لحظات أن كويد عالق في مأزق تشككي. حسب رؤية دريتسكي، ذلك غير صحيح. باستثناء التذبذب الذي يبديه في نهاية الفيلم - والمشهد القصير حيث أوشك الدكتور إدجمار على هزيمته - هو يعتقد أنه على كوكب المريخ. وهو على حق كما سيتضح لاحقا. هل كان سيستمر في اعتقاده هذا لو لم يكن صحيحا؟ لاحظ أن السؤال هنا ليس: «هل كان سيظل يعتقد ذلك لو كان على كوكب الأرض يعاني انسدادا دمويا فصاميا؟» ذلك سؤال لا يمت للموضوع بصلة؛ نحن نسأل عما إذا كان إيمانه ب «ظروفه الفعلية» يتبع مسار الحقيقة على نحو موثوق. حسب الفيلم، فإن الظروف الفعلية التي تحيط بكويد تؤكد أنه على كوكب المريخ، يكافح في سبيل إنقاذه. والإجابة عن هذا السؤال الأخير - هل كان كويد سيظل معتقدا أنه على كوكب المريخ إذا كان قد رجع إلى الأرض يباشر حياته الطبيعية؟ - هي لا. إذا كان كويد قد رجع إلى كوكب الأرض فلن يواجه أي صعوبة في اكتشاف الفارق بين الكوكبين؛ وهو ليس بفارق تصعب ملاحظته في النهاية. إذن، حسب نظرية دريتسكي، يعرف كويد تماما أنه على كوكب المريخ، وأن شكوكه في غير موضعها. لكن بالطبع، لا يمكن نعت شكوكه بالتفاهة. لقد أعد فيلم «استعادة كاملة» إعدادا بارعا كي يعرض كيف يتتبع المرء الحقيقة على نحو موثوق، ورغم ذلك تكتنفه شكوك مشروعة تماما. يبدو أنه «يجب» على كويد التشكك في أنه على كوكب المريخ بالنظر إلى التجارب التي خاضها على مدار البضعة الأيام الماضية، لا مثلما يتشكك المتشككون على نحو غامض في كل شيء تقريبا، بل يتشكك تشككا جديا. (بالتأكيد ذلك ما يفعله تحديدا في أجزاء عدة من الفيلم؛ وربما لو كان أكثر ذكاء بعض الشيء لزاد معدل تشككه.) يبدو من الغريب القول بأن شخصا ما يعرف شيئا لكن ينبغي له التشكك جديا في كونه حقيقيا أو لا. «أنا أعرف «أ»، لكن ينبغي لي التشكك جديا في كونه حقيقيا.» يبدو الأمر متناقضا نسبيا.
إذن أين يكمن الخطأ؟ نقترح التفسير التالي: يحقق اختبار دريتسكي نجاحا كبيرا في أوقات كثيرة، رغم ذلك هو حل ذو إطار واحد لا يمكن تعديله ليناسب شتى المواقف. ولا يقيس على نحو واف الطريقة التي لا يتتبع بها الأشخاص الحقيقة فحسب (مثلما تتتبع أزهار عباد الشمس قرص الشمس) وإنما طريقة تتبعهم للمبررات كذلك. قد يتتبع شخصان الحقائق تتبعا موثوقا بالدرجة نفسها، ورغم ذلك يختلفان تماما فيما تدفعهما مبرراتهما إلى الاعتقاد به. ربما يجد أحدهما مبررا للشك في حقيقة التجربة التي مرا بها (كما في حالة كويد)، في حين لا يجد الشخص الآخر مبررا لذلك (كما في حالة ميلينا). ينبغي أن تتبع عملية نسب المعرفة المبررات التي تدفع الناس إلى التشكك في معتقداتهم أو عدم التشكك فيها. ولا ينبغي لها الاكتفاء بتتبع الوضع الخارجي لأدائهم بوصفهم فاعلين بشريين يسعون لاكتساب المعرفة.
نحن لا نرغب في استبعاد اختبار دريتسكي بعيوبه ومحاسنه على حد سواء. هل ثمة طريقة لتعديله بحيث يسفر عن نتائج صحيحة في الحالات المشابهة لحالة ميلينا وتلك المشابهة لحالة كويد أيضا؟ نقترح المحاولة التالية التي تتضمن سؤالين لا بد من الإجابة عنهما بالنفي كي ينظر إلى أي اعتقاد حقيقي باعتباره معرفة:
تتبع الحقيقة: هل كنت سأظل معتقدا في «أ» إذا كان زائفا؟
الاستجابة للمبررات: هل لدي مبرر جيد لعدم الاعتقاد في «أ»؟
إن الاعتقاد الصحيح الذي يتعقب الحقيقة بفعالية ويستجيب للمبررات بكفاءة على النحو الذي يحدده هذا الاختبار يمكن اعتباره معرفة.
8
بالطبع لن يسعنا التقدم أكثر دون وصف لطبيعة «المبرر الجيد». وتلك مسألة لا يمكننا بحثها ها هنا. من منظور بديهي، لدى كويد مبررات جيدة للاعتقاد بأنه ليس على كوكب المريخ (جميع المصادفات التي دفعته دفعا إلى مغامرته؛ حقيقة أنه دفع مقابلا ماديا لقاء مغامرة تدعى «سماء زرقاء على كوكب المريخ» وكيف انتهت به الحال لينظر إلى سماء المريخ التي أصبحت زرقاء ... إلخ). من ناحية أخرى، ميلينا لا تملك مبررا جيدا يدفعها للاعتقاد بأنها ليست على كوكب المريخ. والمؤلف لا يملك مبررا جيدا يدفعه للاعتقاد بأن يده التي يراها أمامه (تخيل أحد مؤلفي الكتاب يلوح بيده أمام وجهه) ليست حقيقية.
9
إن النقطة المحورية في صراعنا مع الشكوكية هي أن الاحتمالات التشككية لا تمنحنا، في الظروف العادية، مبررات جيدة للتشكك في المعتقدات المعتادة. كل ما في الأمر أن الظروف التي مر بها كويد لم تكن طبيعية على الإطلاق.
أسئلة «أنا أفكر إذن أنا موجود» هذا هو استنتاج ديكارت الأشبه بنقطة ارتكاز أرخميدس. زعم أرخميدس (وكان محقا) أنه إذا توفرت نقطة ارتكاز ثابتة (لا تتحرك أبدا) ورافعة صلبة تماما ذات طول مناسب (لا بد أن تكون طويلة)؛ ففي وسع المرء تحريك الكرة الأرضية مستعينا بقوته فقط. هل استطاع ديكارت دفع المتشككين بعيدا عبر نقطة ارتكازه الخاصة، وباستخدام قدراته العقلية ليس إلا؟ ماذا ستسفر عنه المعرفة اليقينية الكاملة بوجود المرء سوى معرفة يقينية كامله بوجوده؟ إذا كان كل ما تعرفه هو أنك موجود، كيف تعرف أنك «كائن مفكر»؟ ما الذي يجعل ديكارت واثقا من هذا؟ ما الأشياء الأخرى التي قد يثق بها أيضا؟
هل كنا على حق في زعمنا أن كويد موجود حقا على كوكب المريخ (في الفيلم)؟ هل يوجد ما يدعم تفسيرا أكثر غموضا للفيلم؟ لقد زعمنا أن الفيلم مروي من منظور طرف ثالث نظرا لوجود الكثير من المشاهد؛ حيث نرى أحداثا منفصلة تماما عن منظور كويد. إذا كانت القصة كلها وهما، فإلى أي جزء من الوهم تنتمي هذه الأجزاء؟ هل يمكن للمرء عيش وهم من منظور طرف ثالث؟ وهل سيظل وهما فعالا في هذه الحالة؟
معظم الأفلام التشككية (أي الأفلام التي تجسد أفكارا رئيسية تشككية) تحقق تأثيرها عبر وضع المشاهدين في مأزق تشككي (يتوحد الجمهور مع بطل الفيلم فيصير لا يعرف ما الحقيقي أكثر مما يعرفه البطل). يتبنى فيلم «استعادة كاملة» عكس هذا الأسلوب؛ إذ يعرض بطلا لا يعرف ما الحقيقي - بطلا ينبغي أن تكتنفه الشكوك، وينبغي أن ينبذ معتقداته حول ما هو حقيقي ، أو على الأقل يقبل أنه لا يعرف - بينما يعرض للجمهور ما هو حقيقي في الواقع (في الفيلم). لقد زعمنا أن هذا السيناريو أكثر إثارة للاهتمام بمراحل في مجال دراسة المعرفة والشكوكية مقارنة بالسيناريو المعتاد للأفلام التشككية. هل نحن محقون في هذا؟ ولماذا؟
في هذا الفصل، ركزنا على حجة تشككية واحدة، وزعمنا أنها تقتضي ضمنا مبدأ الإغلاق. إذا استطعنا التغلب على مبدأ الإغلاق، يمكننا استبعاد الحجة التشككية. هل نجح دريتسكي في تفنيد مبدأ الإغلاق؟ لقد طرح منظورا للمعرفة يدفع بأن مبدأ الإغلاق لا ينطبق على نحو دائم. لكن أهذا منظور مقبول للمعرفة؟ انتقدنا منظور دريتسكي للمعرفة في هذا الفصل أيضا. (بالتأكيد تكمن القيمة الكبرى للفيلم في أنه يهدد صحة منظور دريتسكي.) هل يعني هذا أن الحجة التشككية قد استعادت قوتها؟ (ربما لا. يعتمد هذا على أي من جوانب نظرية دريتسكي نجت من هجومنا النقدي، أو بالطبع على ما إذا كان نقدنا نجح من الأساس.)
في نهاية هذا الفصل، نقترح منظورا هجينا للمعرفة: تتطلب المعرفة تتبع الحقيقة والاستجابة للمبررات على حد سواء. وقد ابتكرنا هذا المنظور لتناول حالة «استعادة كاملة»، بينما نحتفظ في الوقت نفسه بأكبر قدر ممكن من مزايا منظور دريتسكي. يقتصر عامل الاستجابة للمبررات في هذا المنظور على الحد الأدنى. إنه لا يتطلب إلا عدم امتلاك المرء مبررات تكفي لرفض الاعتقاد قيد البحث. هل ينبغي منح هذا العامل مزيدا من القوة؟ أينبغي أن نملك مبررا إيجابيا يدفعنا للاعتقاد في افتراض ما كي يعتبر اعتقادنا معرفة؟ ما نقاط القوة والضعف التي قد تترتب على هذا التنقيح؟
يوجد العديد من الرؤى المختلفة للمعرفة في الفلسفة المعاصرة. لقد ناقشنا رؤيتين (رؤية دريتسكي وتعديلنا الهجين لها). تعتمد بعض الرؤى الفلسفية الأخرى للمعرفة على فكرة أن المعتقد الذي يعتبر معرفة هو مفهوم يختلف من سياق لآخر. إذا سألك صديق هل تعرف أين ركنت سيارتك، ربما تستطيع الإجابة عن سؤاله إجابة صحيحة بأنك تعرف. (أنت تتذكر أنك ركنتها.) إذا سألك فليسوف شكوكي، فسيصعب التكهن بنتيجة هذا الموقف. هذا النوع من نظرية المعرفة يعرف باسم «السياقية»، وله تنويعات عديدة. هل تعتقد أن مزاعم المعرفة تختلف من سياق لآخر كما يبدو في هذا المثال؟ ما الذي يمكن فعله فيما يتعلق بالنظريات التي ناقشناها كي نجعلها متوافقة مع السياقية؟
هوامش
الفصل الرابع
علم الوجود و«المصفوفة»
دراسة علم الوجود
يتناول نيو حبة دواء فيستيقظ. يدرك أن لديه جسدا ثانيا، جسدا يرقد عاريا، خاليا من الشعر، مغمورا في سائل لزج داخل حجيرة تشبه قرن البازلاء. لقد قضى حياته كلها بينما هذا الجسد الثاني قابع في حجيرته، ومتصل بجهاز كمبيوتر عملاق عبر قضيب معدني مدبب مغروس في مؤخرة رأسه. يحاكي الكمبيوتر الجهاز الحسي لدى الجسد الراقد في الحجيرة. وبذلك يغمس نيو في عالم افتراضي يشاركه فيه ملايين البشر الآخرين. هذا العالم هو المصفوفة.
1
لقد كان نيو يستخدم دماغ جسده القابع في الحجيرة - دماغ الحجيرة - في التفكير، واتخاذ القرارات، والوعي بما حوله، والشعور بالحب أو الكره أو الخوف نحو جميع الأشياء التي أحبها أو كرهها أو تخوف منها، في حين يستخدم الكمبيوتر في كل شيء آخر؛ فهو يوفر البيئة التي يعيش بها، وقناة الاتصال التي تمكنه من التواصل مع أدمغة البشر الآخرين القابعين في الحجيرات، وصورة جسده داخل المصفوفة (التي تماثل، لدواعي الغرابة، جسد الحجيرة في كل شيء باستثناء الشعر). يفعل الكمبيوتر ذلك كله عبر تنظيم دفقات من المعلومات وتحديثها والتحكم بها. لقد كان نيو في الوضع الذي يطلق عليه الفلاسفة «دماغ في وعاء».
يصور فيلم «المصفوفة» (1999) اكتشاف نيو للحياة خارج المصفوفة، والحرب المشتعلة بين البشر الذين تحرروا من الحجيرات، والآلات التي خلقت المصفوفة وتتحكم بها. لكن كيف ننظر إلى الحياة داخل المصفوفة: العالم الافتراضي الذي قضى نيو داخله حياته كلها؟ كيف نفهم العلاقة بين العالمين؟ هل عالم منهما حقيقي، بينما الآخر مجرد قشرة فارغة أو وهم؟ هل نيو خارج المصفوفة أكثر اتصالا بالواقع عما كان داخل المصفوفة (قبل أن يتناول حبة الدواء، وقبل أن يتقن التنقل ذهابا وإيابا بين العالمين)؟ عندما نطرح تلك الأسئلة الجوهرية حول طبيعة الواقع فنحن نطرح مسألة أساسية في الميتافيزيقا، ألا وهي مسألة علم الوجود (الأنطولوجيا). وهو فرع من الميتافيزيقا يسعى للإجابة عن أسئلة من قبيل «ما الموجود؟» و«ما الحقيقي؟» وينشغل بالأسئلة التي تتناول أنواع الأشياء الموجودة وطبيعتها.
سوف نعرض الدراسة الفلسفية لعلم الوجود عبر طرح مثال. هل العقل موجود؟ ربما يبدو وجوده أمرا جليا؛ لذا دعونا نطرح سؤالا مختلفا قليلا. إذا وضعنا قائمة تضم جميع الموجودات، ولم نذكر على الإطلاق العقل والحالات العقلية؛ مثل القصد والاعتقاد والأمل والحب والخوف والبهجة، هل ستصبح هذه القائمة غير مكتملة؟ قد تتضمن القائمة الدماغ وكل ما يدور داخله وكل ما يتفاعل معه، لكنها لن تتضمن فحسب أي ذكر محدد للعقل. فلتفترض على سبيل المثال أنك رأيت شخصين يتجادلان في الشارع؛ قد تتضمن قائمتنا: الشخصين وما يحدثانه من ضجيج، والأسباب المباشرة لهذا الضجيج؛ ألا وهي المسارات العصبية التي ترسل تعليمات إلى الأحبال الصوتية ... إلخ. لكنها لن تذكر حقيقة أن الشخص الأول قد نسي موعدا مع الشخص الثاني، والشخص الثاني يعتقد بأن هذا النسيان علامة واضحة على أن الشخص الأول لا يحبه، أو لا يحبه بالقدر الكافي. إذا كنت تعتقد أن هذا النوع من التفسيرات النفسية المنطقية يمكن مبدئيا الاستعاضة عنه بكلام أكثر تحديدا أو أكثر التزاما بالمعايير العلمية - لا لأسباب عملية بل لأسباب توضيحية - فإنك ترفض فكرة العقل كموجود أولي من منظور علم الوجود. ربما تعتقد أن العالم يتكون من جزيئات في الزمكان، وأن كل ما يحدث في العالم يمكن تفسيره، مبدئيا، من منظور ما يحدث لتلك الجزيئات. وفي هذه الحالة، قد تصبح شخصا يعتنق وجهة نظر اختزالية عن العقل، أو ربما تكون شخصا يعتنق وجهة نظر إقصائية حول العقل. تلك مصطلحات فلسفية متخصصة، سنعرضها فيما يلي عرضا أبسط.
يعتقد صاحب وجهة النظر الاختزالية أننا عندما نتحدث عن العقول والحالات العقلية، فإن اللغة التي نستخدمها تلتقط في الواقع حقائق حول شيء آخر؛ قد تلتقط حقائق حول الدماغ وأنشطته، وربما تلتقط حقائق حول الدماغ وتفاعلاته مع بيئته (التي تتضمن الجسد الذي يحوي الدماغ وما يحيط بهذا الجسد والأجساد الأخرى والأدمغة الأخرى). ربما تلتقط أيضا أنواعا أخرى من الحقائق. إذا كان الاختزاليون على حق، فيمكن، لأغراض توضيحية، الاستعاضة عن الحديث عن العقل بالحديث عن أشياء أخرى. يعني هذا أننا لا نعتقد من منظور علم الوجود بوجود العقل كفئة خاصة منفصلة؛ فالعقول، من المنظور الاختزالي، ليست موجودا أوليا. وبما أن الحديث عن العقل يمكن اختزاله في الحديث عن أشياء أخرى، فإن العقول لا توجد إلا كجانب من طبيعة الأشياء الأخرى.
على صعيد آخر، يرى أصحاب وجهة النظر الإقصائية أننا عندما نتحدث عن العقل نطرح نظرية زائفة في الأساس عن العالم. هم يعتقدون أنه يجب علينا الاستعاضة عن الحديث عن العقل بحديث أكثر التزاما بالمعايير العلمية، كحديث عن تنشيط المسارات العصبية مثلا. إذا كان الإقصائيون على حق، فإن الحديث عن العقل وخصائصه المميزة لا يشير إلى أي شيء حقيقي أكثر مما يشير الحديث عن الساحرات وخصائصهن المميزة. لا يوجد شيء بهذا العالم يتمتع بالخصائص الأساسية التي ننسبها إلى الساحرات؛ لذا لا وجود للساحرات. حسب المنظور الإقصائي، لا يوجد شيء في هذا العالم يتمتع بالخصائص الأساسية التي نعزوها إلى العقل؛ لذا فالعقل غير موجود. يؤمن الاختزاليون بوجود العقل، لكنهم لا يعتقدون أنه موجود أولي وفقا لعلم الوجود. أما الإقصائيون فلا يعتقدون (كما يتبدى من كلامهم) بوجود ما يدعى عقلا من الأساس.
يعرف الفلاسفة الذين يعتقدون أن العقل موجود أولي باسم الثنائيين.
2
ويؤمنون بعلم وجود أولي يتكون من نوعين من الأشياء على الأقل: العقول والأجسام المادية.
3
كما قد تتوقع، تنحو المسائل المتعلقة بعلم الوجود منحى معقدا نسبيا بسرعة إلى حد ما؛ فالعقول ومكانها في علم الوجود ليست سوى بعض من المسائل التي تشغلنا، فهناك أيضا الأجسام المادية (الأشجار والسحب والجبال، والدراجات النارية ... إلخ) والأجسام الرياضية (الأرقام والمجموعات والأشكال الهندسية؛ أي الأشياء التي لا تبدو مادية أو عقلية كذلك). وعلاوة على ذلك توجد أنواع أو فئات من الأشياء ذات وضع غير واضح أو محل خلاف من منظور علم الوجود؛ أشياء مثل العوالم المحتملة والمكان والزمان والآلهة وغيرها. ستجد أيضا فلاسفة يتجادلون حول فئات ميتافيزيقية أولية. هل العموميات (الصفات العامة المشتركة) موجودة؟ (كأن تصف شيئا مثلا بأن «كتلته تزن جراما واحدا بالضبط» أي صفات ملازمة للأشياء وحاضرة كليا في الشيء الذي تلازمه؛ ومن ثم توجد وجودا كليا في عدة أماكن في الوقت نفسه.) هل العموميات المجردة موجودة؟ (وهي عموميات سيئة الحظ، لم تتمكن من ملازمة أي شيء في عالم الواقع.) هل علم الوجود الأولي للعالم يتضمن الأشياء؟ أم يتضمن الأوضاع أو الأحداث فحسب؟ أم هل يتكون من شيء آخر تماما؟ (الأشياء تكون ببساطة على النحو الذي تتوقعه، الأوضاع هي الحال التي عليها الأشياء، والأحداث هي ما يقع لها. على سبيل المثال، السيارة شيء، وكون السيارة حمراء، ذلك وضعها. كون السيارة تمتص الآن جميع ترددات الضوء المرئية باستثناء الأحمر هو ما يحدث لها.)
انشغل الفلاسفة بمحاولة فهم علم الوجود الأولي للعالم. كيف تستطيع ثلاثية «المصفوفة» إنارة أذهاننا فيما يخص هذا الفرع من الفلسفة؟ إنها تقدم لنا ما يشبه مختبرا لفحص مسائل علم الوجود، أو بعبارة أخرى نموذج اختبار خياليا يمكننا من بحث مسألة تحديد المفهوم الأكثر عقلانية لعلم الوجود، وطرح أسئلة عن طبيعة الواقع والعلاقة بين الفكر والواقع. سوف نشرع في تناول هذه القضية عبر تحديد ثلاثة تفسيرات مختلفة لسيناريو «المصفوفة»: التفسير الديكارتي، والتفسير الواقعي، والتفسير الأفلاطوني.
التفسير الديكارتي
ربما تظن أن نيو لديه كل الحق في الغضب من الآلات، فهي في النهاية ظلت تخدعه طيلة الوقت كي يظن أنه يعيش في مدينة آمنة ونظيفة وجميلة عام 1999، ويعمل بوظيفة في مجال التطوير البرمجي. أما في الواقع، فهو لا يعيش في عام 1999، والعالم الحقيقي ليس جميلا ولا نظيفا، وهو لا يعمل مطور برمجيات، بل يعمل بطارية. يبدو أن نيو كان يحيا في وهم. هذا هو التفسير التشككي الرئيسي لفيلم «المصفوفة» - راجع مناقشتنا للشكوكية في الفصل الثالث - لكن له نتائج مهمة فيما يتعلق بعلم الوجود. وسوف نطلق عليه التفسير الديكارتي لسيناريو المصفوفة.
نطلق عليه هذا الاسم نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت الذي عاش في القرن السابع عشر. تخيل ديكارت في كتابه «تأملات في الفلسفة الأولى» مأزقا يذكرنا على نحو مخيف بسيناريو المصفوفة. إنه كان يبحث عن أساس مضمون على نحو مطلق لمعرفتنا بالعالم. أمن الممكن إيجاد مجموعة من المعتقدات تتجلى صحتها إلى حد لا يمكن معه لأي شخص عاقل وعقلاني إنكارها؟ وهل يمكننا استخدام هذه المجموعة من المعتقدات كأساس لفهمنا العلمي الأفضل للعالم؟ اعتقد ديكارت أن في وسعنا إيجاد تلك المجموعة من المعتقدات، ووضع منهجا لإيجادها، أطلق عليه «منهج الشك»، الذي يتبع آلية العمل التالية: إذا كان من المحتمل بأي حال من الأحوال أن يكون معتقد ما خاطئا، فلا يمكن أن يصبح أساسا مضمونا على نحو مطلق للمعرفة (لأنه غير مضمون كليا)؛ ومن ثم، علينا التحقق من معتقداتنا بانتظام قدر استطاعتنا، ورفض أي معتقد يحتمل خطؤه. وما دام يوجد احتمال ضئيل لخطأ معتقد ما، فسوف نتخلى عنه، ونرى بعد ذلك ما إذا كان ممكنا ممارسة الفلسفة بما تبقى لنا.
لا فائدة من التحقق من جميع معتقداتنا واحدا تلو الآخر (فذلك سيستغرق وقتا لا نهائيا). لذا استخدم ديكارت بعض الطرق المختصرة، وكان أقواها هو ما يطلق عليه «فرضية الشيطان الشرير». فيما يلي الكيفية التي وصف بها ديكارت (التأمل الأول، 1996) هذه الفرضية:
سوف أفترض ... أن شيطانا خبيثا ذا بأس ومكر عظيم قد كرس جل طاقته من أجل خداعي. وسأفترض أن السماء والهواء والأرض، والألوان والأشكال والأصوات، وسائر الأشياء الخارجية، ليست سوى أوهام وخيالات، تفتق عنها ذهنه لإعاقة قدرتي على الحكم. سأعتبر أني لا أملك يدين أو عينين أو جسدا أو دماء أو حواس، بل أعتقد - زيفا - أنني أمتلك هذه الأشياء جميعا.
تتيح لنا فرضية الشيطان الشرير استبعاد أي معتقد يحتمل ترسخه داخلنا على يد شيطان مخادع. وهو ما ينطبق على الكثير جدا من المعتقدات. رغم ذلك، عند تطبيق هذه الفرضية للمرة الأولى سيظل المعتقد الذي سأعجز عن استبعاده هو اعتقادي بأني موجود. إذا كنت أفكر في أني موجود، فأنا إذن موجود؛ فلا بد من وجود شخص ما يخوض عملية التفكير، وهذا الشخص هو أنا. أنا شيء مفكر. إذن اعتقادي بوجودي وبأني أفكر، يبقى بعد تطبيق منهج الشك (ما دمت أفكر بالطبع؛ إذا توقفت عن التفكير، سيصعب حينئذ التكهن بالنتيجة). هذا هو الأساس اليقيني المطلق لمعرفتنا بالعالم لدى ديكارت، لكنه بالطبع كان يأمل في تحقيق ما هو أكثر بكثير من مجرد إثبات وجوده؛ ففي النهاية كان ديكارت يأمل في دحض فرضية الشيطان الشرير ذاتها، وقد ظن أن في وسعه تحقيق ذلك عبر إثبات وجود إله خير غير مخادع، إله لن يتركنا حتما تحت رحمة الشيطان الشرير. (للاطلاع على رحلة ديكارت من «أنا أفكر إذن أنا موجود» إلى إثبات وجود الله، نوصي بقراءة متمعنة لكتاب «التأملات».)
يبدو سيناريو «المصفوفة» نسخة محدثة من فرضية الشيطان الشرير التي اقترحها ديكارت؛ فكما جاء على لسان مورفيس، أحد شخصيات الفيلم، المصفوفة: «هي عالم أسدل أمام عينيك ليعميك عن الحقيقة» (الدقيقة 28، الثانية 17). لكن بدلا من الشيطان الشرير، يقدم الفيلم ذاتا شريرة وشخصية «المعماري» المبهمة في دور صناع المصفوفة. وفي حين لا يقدم ديكارت تفسيرا لكيفية تمكن الشيطان الشرير من غرس الأفكار الخاطئة داخلنا، يجسد لنا الفيلم طريقة عمل «المعماري»؛ ألا وهي البرمجة الحاسوبية. حسب التفسير الديكارتي لسيناريو المصفوفة، لا تختلف النتيجة النهائية عن نتيجة فرضية الشيطان الشرير. المصفوفة هي عالم من الوهم يغرس معتقدات خاطئة في أذهان ضحاياه، وإذا كان التفسير الديكارتي صحيحا، يصبح الموقف السليم الذي ينبغي اتخاذه حيال الأشياء التي نختبرها داخل المصفوفة موقفا إقصائيا. قد يعتقد الناس داخل المصفوفة أنهم يعملون في ناطحة سحاب، ويعتقدون أنهم يستطيعون رؤيتها، في حين أنها غير موجودة. في عالم الواقع لا يوجد ذلك الشيء المصنوع من الصلب والخرسانة الذي يعلو ثمانين دورا ويطلق عليه ناطحة سحاب. والاعتقاد بوجود شيء كهذا ليس سوى اعتقاد خاطئ. ينطبق هذا عموما على معظم معتقدات الأفراد داخل المصفوفة حول بيئتهم؛ هي معتقدات خاطئة تماما، وما يصفونه بأنه موجود، غير موجود ببساطة. إن حكما يلتزم - عن حق - بقواعد علم الوجود سوف يستبعد سائر الحديث عن ناطحات السحاب وما شابه ذلك من حديث. (الإشكالية الفلسفية لدى سكان المصفوفة بالطبع هي أن لا سبيل أمامهم للوصول إلى حكم يلتزم عن حق بقواعد علم الوجود، إلا إذا غادروا المصفوفة ورجعوا إلى صحراء الواقع.)
التفسير الواقعي
هل التفسير الديكارتي صحيح؟ يغازل صناع الفيلم التفسير الديكارتي في عدة أجزاء. على سبيل المثال نجد نيو يقول (الدقيقة 8 من الساعة الثانية): «لدي ذكريات عن حياتي (يقصد حياته داخل المصفوفة). لم يحدث أي منها.» رغم ذلك يعجز الفيلم ذاته عن حسم السؤال الذي نطرحه. نحن نبحث عن تفسير فلسفي لما يجسده الفيلم، وليس تفسيرا لما قصد صناع الفيلم أن يجسده. لذا دعونا نتأمل تجربة نيو ومعتقداته عبر تسليط مزيد من الضوء الفلسفي عليها. قبل أن يتناول نيو الحبة الحمراء ويغادر المصفوفة، ما المعتقدات العادية التي كان يعتنقها واتضح خطؤها؟ قبل أن يتناول الحبة، كان يعتقد أنه واقع في مشكلة مع رئيسه في العمل. وكان لديه بالفعل مشكلة مع رئيسه في العمل؛ يواجه نيو مشكلات في المصفوفة مع رئيسه في العمل داخل المصفوفة. وهي ليست بمشكلة هينة؛ فإذا فصل من وظيفته ولم يعد قادرا على سد رمقه، فلن يهم حينها كثيرا ما إذا كان تعرض للفصل من عمله داخل المصفوفة فحسب أو أنه لا يشعر إلا بالجوع داخلها؛ فالجوع داخل المصفوفة شعور جدي. إن مفتاح فهم التفكير داخل المصفوفة هو تأمل مضمون المعتقدات. ما الذي تتمركز حوله معتقدات المرء؟ كيف تكتسب المعتقدات مضمونها؟ من أين يأتي هذا المضمون؟ الإجابة الأكثر منطقية عن هذا السؤال الأخير هي أن المعتقدات تكتسب مضمونها من البيئة التي يتفاعل معها أصحاب المعتقدات. إذا قال نيو قبل تناول الحبة بحسن نية: «هذه ملعقة»، فهو يتحدث عن الملاعق التي تفاعل معها في بيئته. هو لا يحاول الإشارة إلى الملاعق خارج المصفوفة، كالأدوات البدائية التي قد تجدها في مدينة زيون.
4
ملاعق زيون تختلف اختلافا جذريا عن ملاعق المصفوفة. ملاعق المصفوفة هي نتاج معالجة معلوماتية أجرتها الآلات، هي مصنوعة من شفرة المصفوفة؛ ملاعق زيون مختلفة، فهي مصنوعة من المعدن أو الخشب. لم يتفاعل نيو قط قبل أن يتناول الحبة مع ملاعق زيون، لم ير واحدة قط أو أمسكها بيده، أو تحدث مع أحد أمسكها بيده. (على الأقل لم يتحدث إلى أولئك الأشخاص عن الملاعق.) ملاعق زيون ليست جزءا من بيئته؛ لذا فحديثه عن الملاعق لا يشير إليها. عندما تحدث نيو قبل أن يتناول الحبة عن الملاعق (ليس في معظم الوقت كما نتوقع) كان يتحدث عما يتفاعل معه، وهي في هذه الحالة ملاعق المصفوفة. وما يقوله عنها هو في الأغلب يكاد يكون صحيحا تماما.
5
معظم المعتقدات داخل المصفوفة يمكن تبريرها عبر هذه الاستراتيجية، التي تتضمن تفسير الأفكار والكلام داخل المصفوفة في إطار عناصر بيئة المصفوفة ذاتها. فما إن نفهم دلالات الألفاظ داخل المصفوفة فهما سليما، سرعان ما يتضح أن المعتقدات داخل المصفوفة صحيحة عموما؛ ومن ثم يصبح التفسير الديكارتي خاطئا؛ عالم المصفوفة ليس وهما؛ أي إنه لا يجعل ساكنيه يعتقدون أنهم يرون شيئا هم لا يرونه أو يجعلهم ينسبون إلى شيء ما خاصية ليست من خواصه. والتفكير داخل المصفوفة يكون حول أشياء موجودة، موجودة داخل المصفوفة، وتتمتع بوجه عام بالخصائص المنسوبة لها. إذا قال نيو قبل تناول الحبة إن الملعقة مصنوعة من فولاذ لا يصدأ، فهي على الأرجح مصنوعة من فولاذ لا يصدأ؛ فولاذ المصفوفة الذي لا يصدأ (هل يوجد غيره؟!) إن المصفوفة عالم افتراضي له نظامه الزمكاني، وعلم وجود خاص به ينطبع على ما فيه من أشياء وخواص وأحداث وعمليات. لا ينبغي لنا اتباع وجهة النظر الإقصائية فيما يتعلق بالمعتقدات داخل المصفوفة، بل ينبغي اتباع وجهة النظر الاختزالية في التعامل معها. فلنسرد أسبابنا لذلك.
داخل المصفوفة يتحدث نيو عن ملعقة. هو يعتقد إذن بوجود الملاعق (أو بوجود ملعقة واحدة على الأقل). لكن ما هذا الشيء الذي يعتقد وجوده؟ يمكن القول مبدئيا، إن ملعقة المصفوفة هي نسق منظم من المعلومات المخزنة على جهاز الكومبيوتر الخاص بالآلات بجانب مجموعة من العمليات المحددة التي تجرى على هذه المعلومة. ملاعق المصفوفة هي باختصار حزم من المعلومات. ويسري هذا على جميع الأشياء المادية داخل المصفوفة. هي أشياء ليست أولية وفقا لعلم الوجود، بل توجد فحسب كجوانب لشيء أكثر أولية؛ ألا وهو حزم المعلومات. ينبغي لنا اتباع هذا المنهج نفسه في التعامل مع المكان داخل المصفوفة. الأشياء المادية داخل المصفوفة توجد في فضاء المصفوفة ثلاثي الأبعاد، لكن فضاء المصفوفة ليس أوليا من منظور علم الوجود، بل يوجد كهيكل معلوماتي، عنصر ينسق طريقة تفاعل حزم المعلومات مع بعضها. فضاء المصفوفة حقيقي، لكنه مجرد جانب آخر من جوانب عمل كمبيوتر الآلات.
والآن ربما ترغب في الاعتراض زاعما أن فضاء المصفوفة ليس «فضاء» حقيقيا. والسبب في ذلك أنه لا يشغل حيزا مكانيا، فهو ليس ممتدا؛ لذا أليس من المفترض أن نتبع وجهة النظر الإقصائية فيما يتعلق بالأشياء المفترض وجودها داخل المصفوفة؟ ردنا على هذا هو أنه ربما كان صحيحا أن فضاء المصفوفة لا يشبه الفضاء العادي من نواح معينة، لكنه يتمتع في الواقع ببعض من الخصائص الأساسية للفضاء دون أن يشبهه كليا. رغم ذلك فضاء المصفوفة لا يزال حقيقيا، والهيكل المعلوماتي وراءه حقيقي. والمزاعم حول الأشياء داخل المصفوفة في فضاء المصفوفة هي في الأغلب مزاعم حقيقية. لهذا السبب ينبغي لنا اتباع وجهة النظر الاختزالية لا الإقصائية فيما يتعلق بالأشياء داخل فضاء المصفوفة.
وماذا عن الأفراد؟ يبدو أنهم موجودون داخل المصفوفة. هل يمكن اختزالهم إلى معلومات، وما يتصل بها من معالجات داخل كمبيوتر الآلات؟ بالطبع الإجابة بالنفي. داخل المصفوفة، يتألف الأفراد من أجساد وعقول. أجسادهم تنتجها الآلات، لكنها لا تنتج عقولهم. عقول المصفوفة تعتمد على ما يحدث داخل الدماغ الموجود في الحجيرة لا الدماغ الموجودة في المصفوفة.
6
لا تستطيع الآلات التحكم فيما سيختاره الناس، وفيما سيشعرون به، وفيما سيقولونه، وفي كيفية تصرفهم ... إلخ.
7
ربما كانت وجهة النظر الثنائية حول العقل والجسد هي النظرية المناسبة لتفسير حال سكان المصفوفة. إن عقول سكان المصفوفة لا توجد في النظام المكاني نفسه الذي توجد به أجسادهم؛ هي منفصلة وجوديا عن الأجساد. ورغم ذلك يتفاعل العقل والجسد داخل المصفوفة. أولا يرسل الجسد إلى العقل إشارات حول البيئة التي تحيط به؛ يطلق على هذا إحساس جسدي، ويتضمن انتقال الإشارات من المصفوفة إلى دماغ الحجيرة عبر القضيب المعدني المدبب المنغرس في مؤخرة رأس جسد الحجيرة. ثانيا يفسر العقل هذه الإشارات، ويستجيب لها عبر إرسال إشارات خاصة به من خلال القضيب المدبب. على سبيل المثال يتلقى العقل من الجسد إشارة مفادها «توجد ملعقة في يدي» فيرد بإشارة مفادها «حسنا، فلتقلب القهوة إذن!» ذلك وصف تقريبي للنموذج الأشهر من الثنائية، الذي يطلق عليه «الثنائية الديكارتية»؛ تكريما آخر لرينيه ديكارت، أشهر مناصريه. وفقا للثنائية الديكارتية، يتألف الفرد من عقل وجسد. العقول منفصلة عن الأجساد، لكن العقول والأجساد يتفاعلان مع بعضهما بعضا في كلا الاتجاهين. فتؤثر العقول على الأجساد، وتؤثر الأجساد على العقول. لذا، حتى في حالة خطأ التفسير الديكارتي للمصفوفة - الذي يفسر الأشياء والأحداث داخل المصفوفة على أنها أوهام - يبدو أن الثنائية الديكارتية على الأقل تنطبق على الأفراد داخل المصفوفة.
8
ما أوردناه بالأعلى هو التفسير الواقعي لسيناريو المصفوفة. حسب هذا التفسير، قد تكون معتقدات المصفوفة حقيقية، وهي بالتأكيد حقيقية في معظم الوقت. ولا يمكن إنكار أن هذه المعتقدات تتبع ما يحدث داخل كمبيوتر الآلات والأدمغة المتصلة به فقط. لكن الكثير جدا من الأشياء يحدث هناك. المصفوفة حقيقية، وعندما يضع الناس داخل المصفوفة نظريات حول وضعهم، ويطورون رؤية لعلم الوجود في هذا العالم، فإن ذلك العلم ليس مخطئا خطأ جذريا. بل هو رؤية دقيقة على الأقل لجزء صغير من العالم؛ عالم المصفوفة.
التفسير الأفلاطوني
يخبر مورفيس نيو أن المصفوفة عالم أسدل أمام عينيه ليعميه عن الحقيقة (الدقيقة 28). هل هو على خطأ؟ ليس بالضبط. ربما لا تعمي المصفوفة عيني نيو عن الحقائق العادية، لكنها تعميه عن حقائق مهمة حقا مثل وجود جسد ثان له، وكون عالمه قد صمم على يد معماري برمجي بهدف إخضاع البشر بينما تستغل الآلات أجسادهم الثانية كمصدر للطاقة، وكون الآلات انتصرت في حربها مع البشر، وكون البشر دمروا الغلاف الجوي لكوكب الأرض بهدف منع الآلات من الوصول إلى الطاقة الشمسية، وغير ذلك من حقائق. عندما كان نيو عالقا داخل المصفوفة، لم يفهم الطبيعة الحقيقية للأشياء. لكنه على مدار الفيلم يتحرر من المصفوفة، ويتأتى له استيعاب مجموعة من الحقائق المعقدة.
هذه المجموعة من الأفكار لها أصل قديم جدا في الفلسفة؛ فقد روى أفلاطون جزءا كبيرا من هذه القصة ذاتها في كتابه «الجمهورية». تخيل أفلاطون كهفا يحوي مجموعة من المساجين المقيدين والمجبورين على النظر إلى الحائط. (رءوسهم مثبتة بحيث لا يقدرون على رؤية شيء إلا الحائط.) خلف المساجين تشتعل نار ساطعة، وأمام هذه النار يروح ويجيء مجموعة من الحراس، يخفيهم عن عين المساجين خندق. يرفع الحراس أشياء من فوق الخندق، وتلقي تلك الأشياء ظلالا على الحائط. لا يشاهد المساجين دائما وأبدا إلا تلك الظلال على الحائط. أما الأشياء الحقيقية فهي خلفهم، مخفية للأبد عنهم. (لاحظ ها هنا أن أفلاطون اخترع السينما أيضا في رؤيته تلك.) وبما أن المساجين لم يختبروا تلك الأشياء بأنفسهم بل رأوا ظلالها فحسب، فإنهم يعتقدون خطأ أن الظلال هي الواقع. بعد ذلك تخيل أفلاطون أن سجينا واحدا قد تحرر، والتفت خلفه، ورأى النار وشاهد أصل الظلال؛ ومن ثم أدرك أنه حتى هذه اللحظة كان مخطئا تماما في فهم طبيعة عالمه. تحسس السجين طريقه خارج الكهف حيث ضوء النهار، واكتشف عظمة الشمس الحارقة؛ مصدر الضوء كله؛ فيعود للكهف محاولا إخبار رفاقه من المساجين عن مغامرته في العالم الحقيقي، لكن نظره لم يعد متكيفا مع عالم الكهف وظلاله، ولم يعد قادرا على متابعة تراقص الظلال على الحائط؛ فيبدو كلامه هراء مطلقا، يدفع بقية المساجين إلى نبذه باعتباره أحمق.
ابتدع أفلاطون استعارة الكهف كي يشرح رحلة الفيلسوف من الجهل بالطبيعة الحقة للأشياء إلى معرفة الواقع المطلق. وهو واحد من أعظم المتفائلين في الفلسفة الغربية؛ فهو يعتقد أن التطبيق الفلسفي للمنطق في وسعه تحريرنا من قيود جهلنا، وإرشادنا نحو فهم عميق لما هو حقيقي حقيقة مطلقة. اعتقد أفلاطون أن ما هو حقيقي على نحو مطلق يدعى «أشكالا»، وهي أجسام مثالية لا تتغير، وتمثل النماذج الأصلية للأجسام العادية. الأجسام العادية ناقصة، ودائما في تغير، وهي لا تنفك تنمو أو تتضاءل أو تتلاشى. هي نسخ أدنى مرتبة لما هو حقيقي. أما عالم التجارب العادية فهو لا يختلف كثيرا عن عالم الظلال على حائط الكهف. لا ينكر أفلاطون أن الظلال موجودة، لكنه يبدي ملاحظة فحسب حول كونها مجرد نسخ من شيء آخر، وأن المرء لن يفهم طبيعتها على الإطلاق حتى يدرك هذه الحقيقة. من منظور أفلاطون، فإن فهمنا المعتاد للعالم ناقص بالمثل ونحن عاجزون عن تجاوز هذا الفهم حتى ندرك أن موضوعات أفكارنا اليومية ليست سوى نسخ للأشكال.
من السهل اكتشاف التناظر بين طرح أفلاطون وسيناريو المصفوفة. داخل المصفوفة، الفرد سجين (في حجيرة) يتابع ظلالا فوق حائط (قصص افتراضية من ابتكار الكمبيوتر). نيو هو السجين المتحرر، الذي توصل في النهاية إلى فهم الحقائق الأكثر خصوصية عن عالم الآلات. بالطبع يوجد بعض الاختلافات. على العكس من عالم الأشكال الأفلاطوني، عالم الآلات ليس مثاليا، بل هو عالم قذر يرثى له. يطلق عليه مورفيس «صحراء الواقع» (الدقيقة 41). وعلى العكس من السجين العائد إلى الكهف في قصة أفلاطون والذي يتعثر هنا وهناك في الظلمة شبه التامة، يعود نيو إلى المصفوفة بقدرات خارقة، وهو على أي حال لديه مشكلات أكثر إلحاحا من التحدث إلى مجموعة من الأفراد الغافلين عن الحياة خارج المصفوفة. على الرغم من هذه الاختلافات، يجسد التفسير الأفلاطوني للمصفوفة البنية الأساسية «للثلاثية المصفوفة» تجسيدا جيدا للغاية. فعالم المصفوفة موجود حقا، لكنه مجرد نسخة للعالم الحقيقي. هذا هو التفسير الأفلاطوني للمصفوفة، وهو لا يتعارض مع الزعم الأساسي للتفسير الواقعي، بل في الحقيقة يضيف إليه. يؤكد التفسير الواقعي على وجود أشياء داخل المصفوفة، وعلى حقيقة المزاعم حولها. يكمن الفخ ها هنا في المساواة بين الوجود والواقع؛ أي الزعم بأن عالم المصفوفة واقعي مثله مثل عالم زيون؛ كلا العالمين موجودان في النهاية، ونحن لا نصف شيئا بأنه واقع إلا إذا كان موجودا. التفسير الأفلاطوني يقاوم الوقوع في هذا الفخ؛ إذ يربط مفهوم الواقع بما هو أكثر من مجرد الوجود.
إحدى طرق التعبير عن النقطة الأساسية التي يطرحها التفسير الأفلاطوني هي كالتالي: العالم خارج المصفوفة «واقعي أكثر» من العالم داخلها. للواقعية درجات، وهي تختلف عن الوجود. الأشياء إما توجد أو لا توجد. على العكس من ذلك قد تكون الأشياء أكثر أو أقل واقعية. الظلال على حائط كهف أفلاطون أقل واقعية من الأجسام التي تنعكس عنها. الملعقة داخل المصفوفة أقل واقعية من الملعقة في مدينة زيون. ماذا يحدد كون أحد الأشياء أكثر واقعية من الآخر؟ في كل من كهف أفلاطون وسيناريو المصفوفة، تتعلق المسألة بالأصالة. ملعقة زيون هي شيء أكثر أصالة لأن ملعقة المصفوفة هي نسخة منها. ملعقة زيون هي الملعقة الأصلية الحقيقية، بينما ملعقة المصفوفة تقليد مزيف إلى حد ما. يبدو تفسير مستويات الواقعية من منظور الأصالة منطقيا عند تطبيقه على نظرية الأشكال التي وضعها أفلاطون، وينجح كذلك مع سيناريو المصفوفة؛ لكنه لا يثير الاهتمام كثيرا من المنظور الفلسفي إلا إذا اعتنقت نظرية الأشكال أو اعتبرت فيلم «المصفوفة» فيلما وثائقيا.
هل يوجد سبيل أكثر إثارة للاهتمام من الناحية الفلسفية لتعريف درجات الواقعية، سبيل يقدر قصة كهف أفلاطون وحجيرة نيو حق قدرهما لكن لا يساوي بين الواقعية والأصالة؟ ربما يوجد سبيل كهذا. قد نحاول تعريف درجات الواقعية كالتالي: «أ» واقعي أكثر من «ب» إذا كانت النظرية التي تفترض «أ» تطرح رؤية أدق وأكثر اكتمالا للعالم من النظرية التي تفترض «ب».
إن منظور المصفوفة للأشياء ليس زائفا بقدر ما هو أجوف. وعلم الوجود لدى فيلسوف المصفوفة ليس خاطئا على نحو جذري بقدر ما هو سطحي. فعناصر علم الوجود الذي يطرحه فيلسوف المصفوفة ستكون أقل واقعية عن عناصر علم الوجود الذي يطرحه المعماري على سبيل المثال؛ ففيلسوف المصفوفة أقل اتصالا بالواقع. هو لا يتصل بأجزاء أقل من العالم، بل هو أقل اتصالا بالعالم كله.
الدرس الأهم الذي علينا تعلمه من التفسير الأفلاطوني لا يرجع بالضرورة إلى أفلاطون أو حتى إلى نيو. فكما لاحظنا، كان أفلاطون متفائلا تفاؤلا عظيما حيال قدرة التأمل الفلسفي على تحريرنا من كهف الجهل وكشف الحقيقة المطلقة لنا. أما «ثلاثية المصفوفة» فتجعلنا نتوقف ونعيد النظر في ذلك التفاؤل. على أي أساس يمكننا الوثوق في أن تلك الحقيقية المطلقة هي شيء في وسعنا معرفته؟ هل أفضل ما أنتجناه من علم يمنحنا صورة كاملة ودقيقة لطبيعة الأشياء، أم لا يمنح سوى صورة سطحية وناقصة لبعض جوانب العالم؟ (لقد ثبت خطأ نظريات علمية ماضية، فلماذا نعتقد أن النظريات الحالية ستسفر عن نتائج أفضل؟ ولماذا نعتقد أن أي نظرية مستقبلية ستحقق نتائج أفضل؟) ربما كان العالم أعمق وأكثر غموضا بكثير مما يبدو، ربما يكون الموقف الأكثر عقلانية حيال معرفة الحقيقة المطلقة موقفا تشككيا؛ فنحن لن نعرف أننا نملك هذه المعرفة حتى لو كانت لدينا.
نضيف ها هنا فكرة أخرى إلى هذه الأفكار. إن قدرتنا على ابتداع المفاهيم وصياغة النظريات وملاحظة الظواهر، نستمدها من الأداء الوظيفي لأدمغتنا، الذي تطور لأداء بعض المهام البسيطة للغاية؛ كتتبع من يمتون لنا بصلة، وتحديد أماكن الطعام، ومعرفة من قد نستطيع ممارسة الجنس معه، وغيرها من المهام. هل من المنطقي افتراض أن دماغا تطورت للتعامل مع مشكلات وفرص الرئيسيات الاجتماعية تتمتع بالقدرات المناسبة لفهم طبيعة الحقيقة المطلقة؟ ماذا يدفعنا للتفكير في هذا الافتراض؟ إن كوننا عالقين داخل مصفوفة أمر مستحيل تقريبا. فهل من المنطقي على الإطلاق افتراض أننا عالقون في مسرحية تتمحور حبكتها في المقام الأول حولنا؟ رغم ذلك ربما نكون بالفعل عالقين داخل شيء ما، لا نملك أدنى فكرة عن طبيعته. وطبيعته لا يمكننا معرفة أي شيء عنها على الإطلاق. ربما كان العالم منطقيا، لكنه لن يبدو منطقيا لنا أبدا. لخص عالم الأحياء العظيم جيه بي إس هالدان (1930: 286) هذه الفكرة تلخيصا دقيقا حقا حيث قال:
لا شك لدي في أن واقع المستقبل سيكون أكثر إدهاشا بمراحل من أي شيء يمكنني تخيله. لكنني أشك حاليا في أن الكون ليس أغرب مما نفترض فحسب، بل أغرب مما نستطيع افتراضه.
أسئلة
هل يهمك ما إذا كانت تجاربك حقيقية أم لا، وإذا كنت مهتما بأمر كهذا، فما السبب؟
هل توجد «عوالم واقعية» أخرى ربما تكون أفضل من واقعك، لأي عدد من الأسباب؟ هل يعتبر اختيار هذا البديل رغم ذلك تصرفا غير عقلاني؟
قدمنا في هذا الفصل مصطلحي «الإقصائية» و«الاختزالية». يتبنى التفسير الديكارتي وجهة النظر الإقصائية حيال الأشياء داخل المصفوفة، بينما يتبنى التفسير الواقعي وجهة النظر الاختزالية في التعامل معها. ما رأي التفسير الأفلاطوني في وجهتي النظر هاتين؟
ذكرنا في هذا الفصل أن «مفتاح فهم التفكير داخل المصفوفة هو تأمل مضمون المعتقدات. ما الذي تتمركز حوله معتقدات المرء؟ كيف تكتسب المعتقدات مضمونها؟ من أين يأتي هذا المضمون؟» لماذا تعتبر هذه النقلة في غاية الأهمية؟ كيف تثبت أن المعتقدات العادية لدى مواطني المصفوفة هي معتقدات صحيحة؟ هل تثبت أنها صحيحة؟ ما الافتراضات التي يطرحها التفسير الديكارتي وتؤدي إلى الاستنتاج المعاكس؟
فضاء المصفوفة لا يشبه الفضاء. وأشياء المصفوفة ليست كالأشياء؛ لأنها لا تتمتع بخصائص تشبه خصائص الفضاء، ولأنها لا تتمتع بوجود منفصل. عندما يفكر مواطنو المصفوفة في حمل شيء ما، ملعقة مثلا، فهم يستنتجون خطأ أنه شيء. هم يعتقدون أنه يوجد في فضاء (في حين أنه لا يوجد). يعتقدون أنه يتمتع بخصائص مكانية (لا يتمتع بها). هم يعتقدون أن له وزنا (ليس له وزن، إنه مجرد هيكل معلوماتي، يوجد في أجزاء متنوعة من الكمبيوتر في أوقات مختلفة؛ إنه ليس حزمة منفصلة من شرائح السيليكون على سبيل المثال؛ ولذلك لا وزن له). إلى أي مدى تبدو هذه الحجة منطقية؟ ربما يكون التفسير الديكارتي للمصفوفة صحيحا رغم كل شيء؟
في هذا الفصل قارنا بين طريقتين للزعم القائل بأن للواقعية درجات، فتوجد الواقعية الناتجة عن الأصالة، والواقعية المعتمدة على النظرية (حيث يعتبر الشيء أكثر واقعية من شيء آخر إذا كانت النظرية التي تقترحه أدق وأكثر اكتمالا من النظرية التي تقترح الشيء الآخر؛ ومن ثم الكأس أقل واقعية من الإلكترون). هل يجسد أي من هاتين الرؤيتين صورة مقبولة بديهيا للكيفية التي يصبح بها شيء ما أكثر واقعية من شيء آخر؟ هل للواقعية درجات؟ أم هل الواقعية لا تختلف في شيء عن الوجود؟
مع نهاية الفصل، ألمحنا إلى حجة تشككية حول الحقيقة النهائية. ما مدى معقولية هذه الحجة؟ (تزعم الحجة باختصار أنه من غير المحتمل على الإطلاق (بل يصل بالتأكيد إلى حد الإعجاز) أن تملك قدراتنا الإدراكية المحدودة التي تطورت عرضا القدرة على استيعاب طبيعة الحقيقة المطلقة.)
نحن لا نختبر الأشياء ولا ندركها إلا عبر أنظمتنا المعرفية والإدراكية الحسية. لا يمكننا قط رؤية الأشياء أو فهمها كما هي «في حد ذاتها»؛ لذا فالحقيقة المطلقة أمر من المستحيل معرفته أو التفكير فيه على نحو غير مشوه تماما. ما صلة هذه الحجة بالحجة التشككية حول الحقيقة المطلقة التي قدمناها في هذا الفصل؟ أهي حجة منطقية؟
هوامش
الفصل الخامس
العقل هو الأساس: «ذكاء اصطناعي» ومشاعر الحب لدى الروبوت
مقدمة
ديفيد يبلغ من العمر أحد عشر عاما، يزن ستين رطلا، ويبلغ طوله أربعة أقدام وست بوصات. شعره بني. حب ديفيد حقيقي، لكن ديفيد ليس حقيقيا.
كان هذا الشعار الدعائي لفيلم «ذكاء اصطناعي» (2001). سوف نستخدم نموذج ديفيد ونحن نبحث فلسفة الذكاء الاصطناعي. نناقش ها هنا زعما طموحا إلى حد استثنائي وهو ما إذا كان ممكنا (ربما في المستقبل القريب) خلق كائنات ذكية واعية، كائنات لا تكتفي بحل المعضلات فحسب بل تدرك ما تقوم بحله ولماذا، كائنات تفهم ما تتحدث عنه وتدرك ماهيتها، كائنات تملك معتقدات ورغبات حقيقية وتشعر بأحاسيس وتشعر بمشاعر حقيقية. يتمحور السؤال الفلسفي الرئيسي ها هنا حول فكرة الاحتمالية: هل هذا محتمل من الأساس؟
1
في هذا الفصل لا يلقي الفيلم الذي وقع عليه اختيارنا ضوءا كبيرا على هذه القضية. عوضا عن ذلك أعدت مناقشاتنا الفلسفية بهدف توضيح الفيلم والاحتمالية التي يجسدها. السؤال المحوري هو ما إذا كانت المخلوقات التي تتمتع بذكاء اصطناعي لديها حياة داخلية، والسبب الرئيسي الذي يعوق أفلاما مثل «ذكاء اصطناعي» عن مساعدتنا حقا في محاولة الإجابة عن هذا السؤال هو أنه من السهل جدا على تلك الأفلام التهرب من السؤال. غالبا ما تعج أفلام الخيال العلمي بروبوتات واعية، لكن هذا لا يساعد على الإجابة عن سؤال يتعلق بما إذا كان ذلك ممكنا حقا. الأفلام لا توضح لنا الحياة الداخلية لشخصياتها، سواء البشر أو الروبوتات، بل تتركنا لاستنتاج هذه الحياة الداخلية، وهي في ذلك لا تختلف كثيرا عما يحدث في الحياة العادية.
2
عندما يقدم لنا أحد الأفلام شخصية أعدت لأداء دور روبوت واع ضمن أحداث الفيلم، لا بد أن نستنتج كونه واعيا من طريقة تصرفه. لكن لدى صناع الأفلام طرق كثيرة لضمان توصلنا إلى هذا الاستنتاج دون الخوض في مناقشة حول ما إذا كان الروبوت واعيا حقا أم لا.
3
نحن نميل إلى عزو الوعي إلى الروبوت ما دام سلوكه يبدو ذكيا وصريحا وذا معنى وما دام الروبوت يعامل في الفيلم كما لو كان واعيا (على سبيل المثال الروبوت هال في فيلم «2001: ملحمة الفضاء» (2001: سبايس أوديسي) (1968))؛ ومن ثم ننقاد بسهولة إلى تبني ما يطلق عليه الفيلسوف دانيال دانيت (1989) «الموقف القصدي» حيال تلك التجسيدات. يسهل صناع الأفلام هذه المهمة عبر إعطاء الروبوت شكلا بشريا (مثل الروبوت سوني في فيلم «أنا روبوت» (آي روبوت) (2004))، ويجعلونها في غاية السهولة حقا عندما يسندون دور الروبوت إلى شخص حقيقي (مثل روبن وليامز في فيلم «رجل المائتي سنة» (بايسينتينيال مان) (1999)). وفي «ذكاء اصطناعي» تمكن سبيلبيرج من تحقيق التأثير الذي أراده عبر إسناد دور الروبوت الصبي إلى صبي حقيقي وهو هالي جويل أوزمنت (حقا قد ولت أيام الروبوت المعدني أرتو دي تو في فيلم «حرب النجوم»).
يقدم الفيلم شخصية ديفيد في دور روبوت واع تماما، ويعلن عن هذا بوضوح؛ إذ تصرح شخصية البروفيسور هوبي في بداية الفيلم (الدقيقة 6) أن ديفيد هو نوع جديد من الروبوتات، نوع مصمم بحيث يتمتع بحياة داخلية ؛ أي إنه يشعر ويتخيل ويتوق ويحلم. هل كان هوبي محقا في وصفه للروبوت؟ هذا هو السؤال الذي سننشغل به على مدار هذا الفصل. لا «يبدو» ديفيد واعيا فحسب، بل يتمتع بوعي عميق ومتكامل؛ فلا يبدو مستوعبا لما يحيط به فقط، بل يجاهد لإرضاء رغباته، ويشعر بمشاعر على ما يبدو. يبدو أنه يشعر بحب الصبي لأمه (ليست أمه الحقيقية بالطبع بل مونيكا؛ الشخصية التي يعتبرها أمه). ينطلق ديفيد في مسعاه للتحول إلى صبي حقيقي (أي صبي عضوي لا آلي) من أجل أن يستعيد حب مونيكا. ويخبرنا الشعار الدعائي أن حبه حقيقي، لكن كيف يتأتى هذا؟ ما الذي يحتاجه الحب كي يصبح حقيقيا؟ قبل أن نشق طريقنا عبر فلسفة الذكاء الاصطناعي، يجدر بنا التوقف للحظة وتأمل هذا السؤال. ما الذي يجعل الحب حبا حقيقيا؟ تعتمد الإجابة بالطبع على ما نعنيه بالحب.
لا يحب الطفل والديه مثلما قد يحب شخص ناضج شخصا آخر ناضجا، أو مثلما قد يحب شخص ناضج طفلا (على الرغم من أن التشابه بين الحالتين جدير بالملاحظة). حب الطفل هو شكل من الاعتماد العاطفي في المقام الأول - شكل خاص مفعم بالحيوية، لكنه في النهاية يظل شكلا من الاعتماد. يتألف حب ديفيد من ميل إلى إبداء العاطفة، مرارا وتكرارا، إلى جانب نوع من الحاجة الملحة، الحاجة إلى عاطفة مونيكا وقربها واهتمامها وقبولها وحضورها. لا يحتاج ديفيد أن ترعاه مونيكا بطريقة عملية (فهو روبوت، وهي ليست مسئولة عن صيانته). رغم ذلك هو يحتاج أن «تهتم» به. لا يحتاج ديفيد أن تكون مونيكا سعيدة فقط، بل يحتاج أن تكون سعيدة معه؛ أي راضية عنه وسعيدة في صحبته أيضا. في بلاد الإغريق قديما، ميز الفلاسفة بين ثلاثة أنواع من الحب: الحب الشهواني، والمحبة، والألفة. يعتمد الحب الشهواني - وهو عادة، وإن لم يكن بالضرورة، الحب الشبقي أو الجنسي - على رغبة وحاجة عاطفية (الحاجة العاطفية هي رغبة قد تؤدي حال عدم إرضائها إلى ضرر عاطفي كبير). أما المحبة الخالصة فهي نوع من الحب المنزه من الأغراض ، الحب الذي يمنح المتلقي قيمة بدلا من أن يستمد منه قيمة، ونموذجه هو الحب الذي يقال أحيانا إن الله يشعر به تجاه البشر، وربما المخلوقات جميعها، أو حب الوالدين لطفلهما. وعلى النقيض تأتي الألفة، وهي مزيج من النوعين. عمليا هي نوع من المتعة المستمدة من الصداقة، ومن الاهتمام والاحترام اللذين يكنهما المرء لأصدقائه. في ضوء هذا التصنيف الثلاثي، يبدو أن حب الطفل لوالديه شكل من الحب الشهواني وحب ديفيد لمونيكا يجسد نموذجا معبرا عن ذلك. في هذا الصدد يبدو حب ديفيد لأمه لا يختلف كثيرا عما تتوقع من أي طفل طبيعي في الحادية عشرة من عمره. هو حنون وأناني ومتمركز حول ذاته وضعيف وحساس.
ربما يبدو حب ديفيد لمونيكا أشبه كثيرا بحب الطفل، لكن هل يحبها حقا؟ يمنعنا سببان من الإجابة عن هذا السؤال بنعم. الأول أمر ذكرناه بالفعل؛ وهو أن ديفيد روبوت، ليس إنسانا من لحم ودم، هو إنسان آلي أو «ميكا» كما يطلقون عليه في الفيلم. هل يعتبر حب الإنسان الآلي تجربة عاطفية من الأساس؟ ربما كان حبه مجموعة من السلوكيات الروتينية التي تحاكي سلوك الحب ليس إلا. ربما هو شيء يشبه الحب كثيرا من الناحية الظاهرية، بينما لا يحوي في باطنه سوى فراغ. ربما كان الأمر كذلك. لكن يوجد سبب آخر يدفعنا إلى الشك في حقيقة أو أصالة حب ديفيد لمونيكا؛ لقد صمم ديفيد خصوصا كي يتعلق عاطفيا برمز أبوي. هل الحب الذي زرعه المصمم داخله هو حب حقيقي؟ هل هو حب «أصيل»؟ لقد صمم ديفيد كي يحب، بطريقته الطفولية بالغة الحدة، الشخص الذي يطبع بصمته عليه أولا. يقتضي نظام البصمة ترديد قائمة من كلمات مفتاحية بالترتيب مع لمس جسد ديفيد عند نقاط معينة. وهي عملية محددة سلفا إلى حد كبير، وآلية. رغم ذلك فإن مشهد طبع البصمة (الذي يبدأ في الدقيقة 21، الثانية 45 من الفيلم) مشهد رائع حقا بفضل أداء أوزمنت البارع والبعيد عن المبالغة. قبل طبع البصمة، يؤدي أوزمنت دور ديفيد أداء متصلبا للغاية؛ إذ يجلس جامدا بينما تعلو وجهه ابتسامة ثابتة أشبه بابتسامة معتوه. يبدو وجه ديفيد عادة إما جامدا أو مشوها نتيجة لتعبير مبالغ فيه (كما هي الحال في مشهد الضحك في الدقيقة 19، الثانية 50 من الفيلم). لكن في مشهد طبع البصمة تلين ملامح ديفيد، وتبدو نظرته أكثر طبيعية، ويكتسب التعبير على وجهه سمتا أكثر بشرية. إن عملية طبع البصمة تحول الروبوت إلى شيء أشبه كثيرا بالإنسان. لكنها رغم ذلك ليست سوى عملية مثبتة داخله مسبقا. هي ليست تجربة اختار ديفيد خوضها أو شيئا حدث له في المسار الطبيعي للأحداث، بل هي عملية أعد لخوضها بطريقة محددة جدا. هل يعني هذا أن ارتباط ديفيد العاطفي بمونيكا ارتباط مصطنع ومزيف؟
من الصعب تحديد مفهوم التجربة العاطفية «الأصيلة» بدقة، لكنه على ما يبدو يرتبط جزئيا بالسبب وراء التجربة العاطفية. على سبيل المثال، إذا جعلنا شخصا ما سعيدا عبر حقنه ب «عقار السعادة»، فإن سعادته لن تبدو سعادة أصيلة؛ فهي لم تحدث على النحو الصحيح، إذا جاز القول. وقد نزعم أن ذلك الشخص ليس سعيدا حقا، بل هو واقع تحت تأثير العقار فحسب. في حالة ديفيد، نجد أن حبه لمونيكا ناتج عن سبب غريب؛ ألا وهو عملية طبع البصمة المصممة لغرض محدد. ديفيد مصمم كي يشعر بالحب فور تفعيل برنامج البصمة؛ ألا يشبه ذلك حقنه ب «عقار الحب»؟ لكن من ناحية أخرى قد تكون فكرة أصالة حب الطفل لوالديه في حد ذاتها فكرة غير مناسبة. أليس نظام البصمة لدى ديفيد هو، من نواح عديدة، نسخة مبالغ فيها من المصدر الذي ينبع منه حب أي طفل؟ يشكل الأطفال ارتباطا عاطفيا بآبائهم، ويكونون اعتمادا عليهم، وهو سلوك يرجع في جزء منه على الأقل إلى الجينات. إذا اعتبرنا حب ديفيد غير أصيل لأنه مثبت مسبقا، فربما يصبح حب أي طفل لأمه غير أصيل كذلك لنفس السبب. نحن لا ننزع إلى الشك في حقيقة أو أصالة حب الطفل لوالديه؛ لذا ربما لا ينبغي لنا التشكك في حب ديفيد لأن أصله يرجع إلى المصمم.
إذا كان حب ديفيد غير حقيقي، فإن هذا لا يرجع إلى كونه مستمدا من برنامج البصمة المثبت مسبقا، بل يرجع لكون ديفيد روبوتا. ديفيد هو جهاز آلي، وربما تكون الأجهزة الآلية في الواقع مجرد مجموعة من الآلات الحاسوبية المعقدة. ربما هي عاجزة حقا عن فهم أي شيء أو الشعور بأي شيء. يطرح هذا الزعم اعتراضين أساسيين؛ الأول ينسب نوعا من القصور الإدراكي إلى الآلات الحاسوبية؛ فوظيفتها تقتصر على التعامل مع الأرقام والرموز ومعالجة المعلومات فحسب، وليس في وسعها أبدا إدراك ما تقوله أو تفعله. أما الاعتراض الثاني فينسب لها قصورا عاطفيا: الآلات الحاسوبية عاجزة عن الشعور بأي شيء، ربما تستطيع تنفيذ برامج عاطفية، فتتصرف كما لو كانت سعيدة أو مضطربة، لكنها من داخلها جامدة تماما، ولا تشعر بأي شيء. ما مدى منطقية هذين الاعتراضين؟ ما الأساس الذي يدعمهما؟ سوف نتوجه إلى ميدانين من ميادين الفلسفة؛ سعيا للإجابة عن تلك الأسئلة، وهما: فلسفة الذكاء الاصطناعي، وفلسفة العقل.
هل في وسع الروبوت فهم أي شيء؟
الذكاء الاصطناعي هو علم (وفن) صناعة آلات قادرة على أداء عمليات ذكية حقا. تستطيع أنظمة الذكاء الاصطناعي هزيمة أفضل لاعبي الشطرنج في العالم، والفوز في برنامج المسابقات التليفزيوني «المحك!» (جيبردي)، والمساعدة على تصميم جسر كيلا ينهار حال ارتطام شاحنة بأحد الأعمدة التي ترفعه، وتأليف موسيقى تروق للأذن إلى حد مدهش (وفي بعض الأحيان تكون جيدة حقا). أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تدعى روبوتات الدردشة في وسعها إجراء محادثة معك. لا يمكن إنكار أن لهذه التكنولوجيا عيوبها، والمحادثات التي تجريها روبوتات الدردشة قد تكون غريبة حقا. فيما يلي نموذج لمحادثة بين إنسان وروبوت دردشة؛ لن تلقى صعوبة كبيرة في تمييز الإنسان عن نظام الذكاء الاصطناعي.
جورج :
مرحبا، اسمي جورج وأنا إنسان.
جون :
مرحبا أنا جون.
جورج :
من أي بلد أنت؟
جون :
أنا أعيش على جزيرة مارثاز فينيارد.
جورج :
سوف أذهب إلى المريخ، وسوف أحطم وجهك بمضرب البيسبول!
جون :
حسنا ... هذا رد وقح بعض الشيء.
جورج :
أنا لست مثقوبا .
جون :
لست مثقوبا؟ تقصد مثقابا أو ما شابه؟ مثقاب الحفر؟
جورج :
بعض الشيء.
جون :
حسنا، من أي بلد أنت؟ وكم عمرك؟ ... إلخ.
جورج :
عمري 39.
جون :
وهل تقيم ...؟
جورج :
لا، أنا أعيش في هولندا.
جون :
في أي جزء منها؟ المدينة أم الريف؟ هل تزرع الأزهار أيضا؟
جورج :
أزرع الكثير من الأزهار. وسوف أزرع طماطم قريبا.
جون :
لقد تأخرت قليلا على موسم زراعة الطماطم.
جورج :
لا، حيوان قليل.
جون :
حسنا، فلنكتف بهذا الحديث الآن. سوف أذهب للتحدث مع روبوت آخر.
جورج :
حسنا إذن، شكرا على مشاركة فرشاة شعرك معي.
جون :
ماذا تقصد؟ كيف شاركتك فرشاة شعري؟
جورج :
جيد.
جون :
جيد؟
جورج :
نعم.
جون :
يا لها من محادثة عميقة!
جورج :
بل وأسوأ من ذلك، لقد تبرعت بها إلى جمعية خيرية.
كان ذلك نص محادثة أجريت كجزء من مسابقة جائزة لوبنر عام 2005 لروبوتات الدردشة.
4
وقد فاز جورج بها (بالطبع جورج هو البرنامج الحاسوبي، وليس جون)، وهو نسخة من برنامج ممتاز وفعال لروبوتات الدردشة يدعى «جابرواكي».
تختبر المسابقة مهارة المحادثة عبر تشغيل نسخة مما يعرف باسم «اختبار تيورنج»؛ حيث يوضع الإنسان في مواجهة الآلة. في هذا الاختبار يجري أحد الأفراد حديثا مع إنسان ومع آلة حول أي موضوع يختاره، ويهدف الاختبار إلى اكتشاف أي من الطرفين اللذين تحدث معهما هو الآلة ومن هو الإنسان. إذا لم يستطع الفرد معرفة الفرق بينهما، تعتبر الآلة ذكية حقا. تطبق مسابقة جائزة لوبنر نسخة محدودة من اختبار تيورنج (حيث المحادثات أقصر كثيرا من تلك التي يتضمنها الاختبار الكامل). عجز جورج بالطبع عن اجتياز هذه النسخة المحدودة من الاختبار، لكن أداءه تفوق على البرامج الأخرى في المسابقة.
ابتكر ألان تيورنج (1912-1954)، عالم الرياضيات العظيم ومؤسس علم الكمبيوتر، اختبار تيورنج عام 1950. اعتقد تيورنج أن الكفاءة التحاورية هي اختبار كاف لتحديد برنامج الذكاء الاصطناعي الناجح. لم يزعم أن كل آلة ذكية لا بد أن تكون قادرة على إجراء محادثة جيدة - فهناك أوجه أخرى كثيرة للتمتع بالذكاء - لكنه زعم أن أي آلة تستطيع أن توهمنا بأننا نتحدث مع إنسان لا بد أن تكون آلة ذكية. إن الذكاء التحاوري نوع يحتاج لتلبية الكثير من المتطلبات؛ إذ يستلزم وجود قاعدة بيانات ضخمة من المعرفة السابقة، وقدرة على بحث هذه البيانات بسرعة الضوء، إلى جانب إتقان ضليع للغة البشر. علاوة على ذلك، هو يتطلب قدرة على متابعة الحديث عندما تتغير الموضوعات فجأة، والاحتفاظ بالمعلومات ذات الصلة (المعلومات ذات الصلة فحسب) طوال المحادثة، وإعداد ردود مناسبة ووثيقة الصلة بالموضوع وغيرها من المتطلبات. لم تستطع أي آلة حتى الآن الاقتراب من اجتياز اختبار تيورنج. إلا أن روبوتات الدردشة تتحسن كل عام.
5
في فيلم سبيلبيرج، اجتياز اختبار تيورنج أمر في غاية السهولة. فحتى دمية الدب الخاصة بديفيد في وسعها اجتياز اختبار تيورنج. لكن ما الذي يقيسه اختبار تيورنج تحديدا؟ هو يقيس مستوى الكفاءة التحاورية؛ أي «السلوك» التحاوري. إنه لا يختبر الفهم التحاوري بالضرورة. لقد تمكن جورج من إجراء نسخة طبق الأصل مما نطلق عليه محادثة (وإن كانت تشبه محادثة مع شخص شبه مخبول)، لكن لا يمكن زعم أنه يفهم ما يتحدث عنه. فجورج يتبع القواعد ليس إلا. هو يبحث عن الكلمات في قاعدة البيانات لكنه لا يعرف ما الذي يشير إليه أي من المدخلات، ويعد ردودا، لكنه لا يعرف معناها. هل كان هذا سيتغير لو أصبح جورج، أو أحد أحفاده من روبوتات الدردشة، بارعا حقا في إعداد إجابات تجتاز اختبار تيورنج؟ من الصعب الإجابة عن سؤال كهذا. لقد ابتكر الفيلسوف الأمريكي جون سيرل تجربة افتراضية شهيرة جدا تهدف إلى حل هذه المسألة، يطلق عليها تجربة الغرفة الصينية (سيرل 1980-1984).
الغرفة الصينية
تخيل أنك استيقظت من نوم ناتج عن تأثير مخدر لتجد نفسك في غرفة. تحتوي الغرفة على خزانة ملفات عملاقة، وسلة مليئة بقوالب على شكل رموز غريبة، وطاولة وأقلام رصاص وورقة، وملف يحمل عنوان «تعليمات السيد». يوجد بالغرفة كذلك فتحتان لإدخال الأشياء وإخراجها من الغرفة، مكتوب فوق إحداهما «مدخلات» وفوق الأخرى «مخرجات». تنزلق قوالب عبر فتحة المدخلات الواحدة تلو الأخرى، وهي في الظاهر أشبه برموز. في الوقع تشبه إلى حد ما الرموز الموجودة في السلة، وتبدو مثل شخبطات عشوائية (على حد وصف سيرل). بل هي فعليا تشبه إلى حد كبير حروف اللغة الصينية، وهي لغة سنفترض أنك لا تستطيع قراءتها. ما المطلوب منك فعله بهذه الرموز؟ ستلجأ، بعدما تصيح طلبا للمساعدة دون جدوى، إلى الحل البديهي؛ ألا وهو مراجعة ملف «تعليمات السيد». ستخبرك التعليمات بما عليك البدء بفعله، وهي لحسن الحظ مكتوبة بالإنجليزية. وعليه يتضح أن مهمتك هي تسجيل ترتيب وصول الرموز إلى الغرفة، ثم البحث عنها بنفس الترتيب في فهرست خزانة الملفات. يعقب ذلك مجموعات إضافية من التعليمات، وهي تعليمات معقدة تعقيدا رهيبا، لكنها مصاغة بلغة إنجليزية جيدة ومحددة للغاية، وتوضح لك ما عليك فعله بالضبط، وترتيب فعله. يخبرك البند الأخير من التعليمات بأن تختار رمزا محددا من السلة الموجودة بالغرفة، ثم تدفعه عبر فتحة المخرجات. وهكذا تتبع التعليمات يوما بعد يوم، بل وتصبح بارعا في اتباعها.
تلك هي غرفة سيرل الصينية (غيرنا بعض التفاصيل الفرعية تيسيرا للعرض). لقد تخيل الكمبيوتر من الداخل. في هذه الغرفة، يتبع الفرد عملية حاسوبية لمعالجة الرموز، وذلك هو جل ما تفعله أجهزة الكمبيوتر على حد قول سيرل. ذلك حقا هو كل ما «تستطيع» فعله. تشبه الغرفة الصينية برنامج دردشة آليا فائق القدرات، خبيرا في إجراء محادثات باللغة الصينية؛ تمثل الرموز المدخلة أسئلة المحاور وتعليقاته، في حين تمثل الرموز المخرجة إجابات الغرفة الصينية. بالطبع تجرى العملية كلها بإيقاع في غاية البطء. لكن بصرف النظر عن ذلك، ينبهر متحدثو الصينية البارعون بالمهارات التحاورية للغرفة الصينية. هم يطرحون الأسئلة ويبدون الملاحظات بينما تولد أنت الإجابات داخل الغرفة. وهكذا تجتاز الغرفة الصينية اختبار تيورنج، أو كانت لتجتازه لو لم تضيع كل شيء بسبب بطئك الشديد. لكن سيرل لا يعتقد أن المشكلة تكمن في السرعة إطلاقا، بل ما يهم ملاحظته هو أنك ستظل داخل الغرفة عاجزا عن فهم كلمة واحدة من المحادثات حتى لو اجتازت الغرفة الصينية اختبار تيورنج باللغة الصينية. أنت لا تعرف عما تدور ولا تدرك معناها، ومع ذلك تؤدي جميع العمليات التي يؤديها الكمبيوتر؛ أي تتعرف على الرموز عبر شكلها، وتتبع التعليمات الخاصة بكيفية التعامل معها. وهذا هو ما يفعله الكمبيوتر تحديدا. وعليه، إذا كنت لا تفهم محادثة الغرفة الصينية، فليس بوسع أي كمبيوتر إذن فهم محادثة. وبالطبع سيفهم الكمبيوتر أقل مما تفهمه، فأنت على الأقل تفهم التعليمات بما إنها مكتوبة بالإنجليزية وتتبعها عن قصد وتأمل، في حين يتبع الكمبيوتر التعليمات المعطاة له على نحو آلي أعمى، دون أي فهم على الإطلاق.
ابتكر سيرل تجربة الغرفة الصينية سعيا لطرح تسوية حاسمة ونهائية لمسألة الذكاء الصناعي. واستنتج أنه ربما تستطيع أنظمة الذكاء الاصطناعي «محاكاة» الأفكار والمحادثات البشرية لكنها عاجزة عن «التفكير» أو «فهم» هذه المحادثات. بالطبع، لا تحل تجربة سيرل الافتراضية المسألة بأي حال؛ فالفلاسفة ليسوا سهلي الإقناع لهذه الدرجة.
6
ومن ثم ظهرت ردود لا حصر لها على حجة سيرل؛
7
سنستعرض سريعا ثلاثة منها؛ وهي «رد الروبوت» و«رد النظام» بالإضافة إلى ما سنطلق عليه «رد النظامين» (الرد الأخير في الواقع هو رد على رد. لكن لا داعي للفزع، لن تجده عصيا على الفهم).
رد الروبوت
هذا الرد على حجة سيرل هو في الحقيقة نوع من التسليم المخادع بها؛ فنحن نسلم بأن الغرفة الصينية لا تفهم شيئا لكن نزعم أن اللوم في ذلك لا يرجع إلى مجرد كونها تشغل برنامجا حاسوبيا، بل يرجع إلى أن البرنامج قابع فحسب داخل الغرفة. إن الغرفة الصينية التي يتخيلها سيرل لا تملك ما يكافئ الرجلين واليدين والعينين والأذنين؛ فإذا طرق أحدهم بابها فلن تتمكن من معرفة هويته، وعليها الاعتماد على رموز غامضة تصل إليها عبر فتحة المدخلات. قد تنقل هذه الرموز معلومات حول الشخص الواقف عند الباب، لكن الغرفة الصينية لا تتفاعل مباشرة مع هذا الشخص؛ هي منعزلة عن بيئتها. جملة القول: الغرفة الصينية ليست روبوتا، ربما كانت ستصبح أفضل حالا لو كانت كذلك. في فيلم سبيلبيرج، يتجلى فهم ديفيد وذكاؤه في الأساس من خلال تفاعله مع بيئته وتصرفاته اليومية، إلى جانب تنفيذه لخططه واستراتيجيته الطويلة الأمد كما في محاولته تحقيق حلمه بالتحول إلى صبي حقيقي. إن قدرة ديفيد على إجراء المحادثات تثير الإعجاب، لكننا واثقون على ما يبدو في أنه يعرف ما يتحدث عنه نظرا للطريقة التي يتفاعل بها مع بيئته. نحن متأكدون من أن ديفيد يعرف جزئيا معنى كلمة «تيدي» (اسم دميته) لأنه يستطيع مناداته ثم مطاردته وحمله.
إذن، رجوعا إلى قصة سيرل، دعونا نتخيل غرفة صينية داخل روبوت. تخيل أنك محشور في مركز التحكم داخله حيث تؤدي جميع العمليات الحاسوبية اللازمة لعمل الروبوت. بما أن الروبوت يتفاعل مع بيئته؛ فقد يستطيع فهم الأفكار المتعلقة بتلك البيئة، وربما يتمكن من معرفة هوية الواقف عند الباب لأنه قادر على رؤيته؛ إذن تكمن مشكلة تجربة سيرل الافتراضية في أن الغرفة الصينية الأصلية ليست مجهزة على النحو الذي يمكنها من فهم الأشياء فهما حقيقيا. يتطلب الفهم من المرء تفاعلا سببيا مع بيئته، في حين لا يتاح للغرفة الصينية سوى تفاعل لفظي مع متحدثي اللغة الصينية الذين يلقمونها ملاحظات تحاورية مكتوبة. تفتقد الغرفة الصينية الخلفية التفاعلية السببية اللازمة لفهم أي من تلك الملاحظات. ذلك رد الروبوت على حجة سيرل، وهو رد له بعض المزايا؛ ففي النهاية ديفيد ليس غرفة صينية، وقد يستطيع فهم ما يحدث له لأنه روبوت وليس برنامج دردشة آليا.
لكن لدى سيرل ردا مقنعا على ذلك؛ فلنفترض أننا حولنا الغرفة الصينية إلى روبوت، ثم وضعناك داخل مركز التحكم؛ وبذلك نكون وهبنا روبوت الغرفة الصينية هذا ملكة الإدراك؛ إذ يصبح قادرا على أن يرى ويسمع ويلمس ما يحيط به. لكن هذا لا يعني أنك - الشخص القابع بداخله - تستطيع ذلك أيضا. وتثبيت كاميرا على الروبوت من الخارج كي تنقل لك في غرفة التحكم صورا للعالم الخارجي لن يحل المشكلة؛ فماذا ستستطيع فعله بتلك الصور ؟ نحن لا ندرك العالم لأن شخصا صغير الحجم يجلس داخل رأسنا يشاهد التليفزيون، وينطبق ذلك على الروبوت، وعلى روبوت الغرفة الصينية كذلك.
8
ستدخل الصور غرفة التحكم كمعلومات، وهذه المعلومات لا بد أن تقدم في صورة تتيح لك اتباع القواعد التي توضح لك ما عليك فعله بها، وهنا تكمن المشكلة؛ إذا دخلت المعلومات الغرفة بهذه الطريقة، فلا يوجد ما يضمن أنك ستستطيع فك شفرتها؛ فربما تبدو لك أشبه بالمزيد من الشخبطات العشوائية غير المفسرة وحسب. لن يمنعك ذلك من تمييز الأنواع المختلفة من الشخبطات؛ فلديك القدرة على تحديد الشكل المميز لكل نوع من الشخبطات والتعرف عليه مجددا كلما ظهر، ويمكنك فعل ذلك دون معرفة ما ترمز إليه هذه الشخبطات. يطلق الفلاسفة على هذا النوع من التركيب المعلوماتي اسم «تركيب نحوي». يشير سيرل إلى أن المعلومات ستصل إلى مركز تحكم داخل الروبوت في شكل تراكيب نحوية غير مفسرة. وبفضل القواعد المحفوظة في خزانة الملفات، يعرف الجالس في غرفة التحكم ما عليه فعله بالمعلومات ذات التركيب النحوي، لكنه لن يعرف كيف يفسر هذا التركيب. بعبارة أخرى: لن يعرف معنى أي من تلك التراكيب. وبهذه الطريقة، يمكننا بسهولة تخيل (حسنا، يمكننا أن نتخيل) روبوت غرفة صينية يقوم بمهامه الآلية بينما تجلس أنت في غرفة التحكم لأجل العمل على تيسير تلك المهام، وتظل مع ذلك لا تفقه شيئا.
يبدو سيرل محقا؛ تحويل الغرفة الصينية إلى روبوت يحوي غرفة صينية لن يتيح لنا تفنيد حجته. بالطبع قد تساعدنا الفكرة الأصلية رغم ذلك على تفنيدها؛ فالفكرة القائلة بأن التفاعل البيئي لا غنى عنه إذا أردنا لنظام ذكاء اصطناعي اكتساب الفهم، هي فكرة منطقية للغاية. والزعم الذي نطرحه ها هنا، نيابة عن سيرل، هو أن مجرد إضافة وظائف الروبوت إلى الغرفة الصينية لن يتيح للجالس في غرفة التحكم فهم ما يفعله الروبوت. إذا كانت حجة الغرفة الصينية الأصلية صحيحة، فإن حجة روبوت الغرفة الصينية ستكون صحيحة كذلك.
رد النظام
لن يفي رد الروبوت بالغرض، لكن يوجد رد أفضل في المتناول؛ تخيل أنك عالق داخل الغرفة الصينية (أو في مركز التحكم الخاص بروبوت الغرفة الصينية)، عاجز عن فهم ما يفعله النظام كله. وهو أمر لا يستدعي الدهشة؛ فأنت لست الغرفة الصينية ذاتها، بل أنت البرنامج الذي ينفذ أوامر النظام. بعبارة أخرى: أنت من يتولى المهام الروتينية ويتبع التعليمات دون تفكير. وتشبه في ذلك وحدة المعالجة المركزية داخل جهاز الكمبيوتر العادي. يتكون جهاز الكمبيوتر من أجزاء أخرى كثيرة بجانب وحدة المعالجة المركزية؛ يحتوي النظام بأكمله على قرص صلب، وذاكرة عشوائية، وذاكرة مؤقتة، وبطاقة عرض مرئي، ونظام تشغيل، وبرامج تشغيل، ووحدات طرفية من شتى الأنواع ... إلخ. إذا كنت تلعب دور وحدة المعالجة المركزية الخاصة بالغرفة الصينية، فأنت إذن لست الغرفة الصينية ذاتها، بل لست الجزء الأهم من الغرفة الصينية. في وسعنا إخراجك منها ووضع شخص آخر مكانك، ولن يلاحظ النظام أي تغيير على الإطلاق، ما دام بديلك قادرا على اتباع التعليمات مثلما كنت تتبعها. وبما أنك مجرد جزء صغير قابل للاستبدال من الغرفة الصينية، لن يدهشنا عجزك عن فهم ما يفعله النظام بأكمله. إذا كان هناك من يفهم اللغة الصينية في هذه التجربة الافتراضية، فهو النظام المتكامل. وأنت لست هذا النظام. هذا هو رد النظام على حجة سيرل.
لكن سيرل لا يزال بعيدا عن الاقتناع، فكيف يمكن عبر إضافة بعض قطع الأثاث (مثل خزانة الملفات، والسلة التي تحوي رموزا عشوائية، وغير ذلك) تحويل شيء عاجز عن الفهم (وهو أنت في هذه الحالة) إلى شيء قادر على الفهم (أي نظام الغرفة الصينية)؟ قد نندفع قائلين: «هذا هو ما يحدث وحسب.» خزانة الملفات عاجزة وحدها عن الفهم؛ فهي ليست سوى مجموعة من المعلومات الجامدة. وأنت أيضا عاجز عن الفهم؛ فلست سوى تابع أعمى للتعليمات. لكن إذا جمعنا الاثنين معا فقد نحصل على كيان أكبر من حاصل مكوناته. سنحصل على نظام معالجة معلومات نشط وفعال، وسيرل لم يقدم لنا ما يثبت أن نظاما كهذا عاجز عن فهم اللغة الصينية.
يحاول سيرل مجددا تفنيد هذا الرد أيضا؛ تخيل أنك في الغرفة الصينية منذ أمد طويل جدا حتى أصبحت مطلعا تماما على التعليمات في خزانة الملفات، وتخيل أنك تتمتع بذاكرة مذهلة مكنتك في النهاية من حفظ التعليمات كلها عن ظهر قلب، والآن عندما يصل قالب من الشخبطات العشوائية إلى الغرفة عبر فتحة المدخلات، لن تحتاج إلى الاطلاع على التعليمات في خزانة الملفات كي تعرف ما عليك فعله به، بل ستكتفي فحسب بالرجوع إلى ذاكرتك. يزعم سيرل أن في هذه التجربة الافتراضية الجديدة يتحول الشخص الجالس في الغرفة إلى نظام الغرفة الصينية ذاته لا مجرد وحدة المعالجة المركزية الغبية داخله. ورغم ذلك لن تعرف عم يتحدث نظام الغرفة الصينية، وسيظل الكلام مجرد شخبطات عشوائية بالنسبة إليك. يبين لك هذا أن نظام الغرفة الصينية عاجز عن فهم ما يتحدث عنه. لقد أصبحت أنت النظام الآن، لقد احتويت النظام بأكمله داخل ذاكرتك، ورغم ذلك ما زلت لا تفهم. كيف إذن يستطيع الكمبيوتر الفهم بأي حال؟
رد النظامين
لقد شرحنا لتونا ردا على حجة سيرل (رد النظام) ورد سيرل على هذا الرد. والآن حان الوقت لطرح ردنا الأخير (في الوقت الحالي على الأقل)، ألا وهو رد النظامين. يطلب منك سيرل أن تتخيل نفسك تحفظ قائمة تعليمات الغرفة الصينية بأكملها عن ظهر قلب. يبدو ذلك إنجازا عصيا على التصديق، لكن التجارب الافتراضية الفلسفية تسمح بما لا يصدق. دعونا نطلق على هذا الشخص ذي الذاكرة المذهلة اسم «ذو الرأس الكبير». في الظاهر ذو الرأس الكبير هو أنت بعدما اكتسبت قدرا من الذاكرة الإضافية. لكن المظاهر خداعة؛ فقد لا يبدو حفظ برنامج الغرفة الصينية في الذاكرة أمرا يختلف كثيرا عن حفظ أي شيء آخر، مثل جدول مواعيد قطارات أمريكا الشمالية مثلا، لكنه في الحقيقة في غاية الاختلاف. يختلف لأن ذا الرأس الكبير يستخدم تذكره لبرنامج الغرفة الصينية بطريقة خاصة جدا. عندما تتذكر جدول مواعيد القطارات كي تلحق بقطار ما، فإنك تخلق روابط بين الجدول وبين باقي ما تملكه من معرفة. أنت تعرف كيف تحدد الوقت وتعرف كم تبقى من الوقت على حلول الساعة الواحدة مساء. أنت تعرف أن الوصول في الساعة الثانية مساء من أجل اللحاق بقطار سيغادر في الواحدة مساء يعني أنك تأخرت على الأرجح على موعد القطار ... إلخ، لكن عندما يحفظ ذو الرأس الكبير تعليمات الغرفة الصينية في الذاكرة، لا يحدث هذا النوع من الاندماج المعرفي؛ فالجزء الخاص بالغرفة الصينية لدى ذي الرأس الكبير لا يندمج مع باقي أجزاء النظام المعرفي لديه اندماجا كاملا، بل لا يكاد يندمج على الإطلاق.
يتألف ذو الرأس الكبير فيما يبدو من نظامين معرفين: الأول هو النظام العادي الخاص بك؛ أي النظام الذي يمكنك من اللحاق بالقطارات في موعدها. والثاني هو نظام الغرفة الصينية؛ أي النظام الذي يتيح لذي الرأس الكبير التحاور مع متحدثي اللغة الصينية. بالطبع ستمر بوقت عصيب وأنت تحاول التوحد مع مكون الغرفة الصينية لدى ذي الرأس الكبير. سيظل هذا المكون غامضا بالنسبة إليك لأنه لا يندمج كما ينبغي مع باقي مكونات عقلك. أنت لا تفهم ما يفعله هذا الجزء. لكن هذا يعني ببساطة أنك لست ذا الرأس الكبير. يتألف ذو الرأس الكبير من نظامين، وأنت نظام واحد منهما فحسب. النظامان مرتبطان، لكن بطريقة غريبة بعض الشيء. يلعب نظامك دور البرنامج المنفذ لنظام الغرفة الصينية، وبدون تدخلك الرامي لاتباع المعلومات، كان نظام الغرفة الصينية سيظل قابعا في داخل ذاكرة ذي الرأس الكبير دون أن يقدر على تحقيق أي شيء.
والآن نطرح السؤال التالي: هل يفهم ذو الرأس الكبير اللغة الصينية؟ «أنت» لا تفهم اللغة الصينية، لكنك لست ذا الرأس الكبير؛ فهل يفهم ذو الرأس الكبير اللغة الصينية؟ من الصعب الإجابة عن ذلك. ما لا نستطيع قوله هو ما كان سيرل سيريد منا قوله، ومفاده أن ذا الرأس الكبير لا يفهم اللغة الصينية لأنك أنت لا تفهم الصينية. فهذه حجة غير سليمة لأنها تفترض كذبا أنك أنت وذا الرأس الكبير تشكلان نظاما معرفيا واحدا. هذا ليس صحيحا. إن نظام الغرفة الصينية داخل ذي الرأس الكبير يشبه غزوا أجنبيا لعقلك؛ فهو قابع في ذاكرتك مثل فيروس، مستغلا عادتك في اتباع التعليمات.
وهكذا أخفقت حجة الغرفة الصينية التي طرحها سيرل؛ ففي النهاية، هو لا يملك ردا مقنعا على رد النظامين. لكن هذا لا يعني أن استنتاجه خاطئ؛ فعبر تفنيد حجة سيرل لا نثبت أن الغرفة الصينية تفهم بالفعل اللغة الصينية، بل نثبت فحسب أننا لا نستطيع استخدام حجة سيرل لإثبات أنها لا تفهم اللغة الصينية. بالطبع ذو الرأس الكبير كائن غريب جدا، ولدينا من المبررات المقنعة ما يدفعنا إلى الشك في أن مكون الغرفة الصينية داخله يفهم شيئا حقا. وبما أنه لا يندمج كما ينبغي في نظامك المعرفي، فإنه لا يتمتع بنفس كفاءتك الآلية. وبدون الكفاءة الآلية؛ أي بدون الانغماس السببي المتعمق في بيئته، من غير المرجح على الإطلاق أن يفهم محتوى محادثاته مع المتحدثين باللغة الصينية. إن علينا الجمع بين رد الروبوت ورد النظام كي نجعل فكرة نظام الذكاء الاصطناعي الذي يفهم ما يفعله منطقية.
يعيدنا ذلك إلى فيلمنا. ليس من قبيل المصادفة أن يجسد الخيال العلمي أنظمة الذكاء الاصطناعي عادة في شكل روبوت؛ فحتى أجهزة الكمبيوتر التي تفتقد مجموعة مهارات الروبوت الكاملة، مثل الكمبيوتر هال في فيلم «2001: ملحمة الفضاء» (1968)، لديها مخزون ذاخر من القدرات الإدراكية الحسية والتنفيذية؛ فلدى هال على سبيل المثال أعين وآذان في كل مكان، وهو قادر على فتح أبواب المكوك الفضائي أو عدم فتحها وقتما يريد. في فيلم «ذكاء اصطناعي» ترتبط قدرات ديفيد الإدراكية ارتباطا وثيقا بأدائه الوظيفي كروبوت؛ فهو يتعلم عبر مشاهدة الآخرين ومحاكاتهم (ليس محاكاتهم حرفيا؛ فعندما يحاول بلع الطعام في مشهد تناول العشاء يكاد فكه ينفصل عن وجهه). ربما ديفيد قادر فعليا على الفهم جزئيا بسبب هذا الأداء الوظيفي. ربما يفهم حقا معنى «خصلة شعر» لأنه يستطيع قص خصلة من شعر مونيكا والتحدث عنها فيما بعد. ربما لديه فكرة ما عن طبيعة الجنية الزرقاء؛ لأنه قادر على الذهاب بحثا عنها.
هل ديفيد قادر على الشعور؟ اعتراض الكيفيات المحسوسة
بماذا سنشعر يا ترى لو كنا مثل ديفيد؟ لا يمكننا وضع أنفسنا داخل عالمه العقلي عبر تخيل نسخة تشبهه من تجربة الغرفة الصينية الافتراضية؛ فكما رأينا، أخفقت هذه التجربة في تحقيق هدفها. لكن هناك سبب آخر يدفعنا إلى التشكك في قدرات ديفيد العقلية؛ فلماذا نفترض أنه «يشعر» حقا بأي شيء؟ هو يسجل التجارب في صورة تدفق معلوماتي داخل نظام معرفي، لكن هل هو واع كليا؟ وهل يمكن من الأساس طرح سؤال عما سنشعر به لو كنا مكانه؟ هل يشعر ب «الألم» عندما تهجره أمه في الغابة؟ هو يتصرف كما لو كان متألما، لكن هل يشعره الهجر بالألم حقا؟
قد نتخيل أن ديفيد يبدي ردود أفعال تمثيلية مقنعة تعكس الألم والكرب دون أن يشعر فعليا بأي ألم أو كرب. نحن نعرف كيف يكون الشعور بالألم، وكيف يكون التظاهر بالشعور بالألم. لكن كيف نستطيع تحديد الفرق ظاهريا؟ يطلق الفلاسفة على الصفة الواعية لأي خبرة - أي «التألم» المميز للألم، أو «الحمرة» المميزة للون الأحمر، أو «النشاز» الذي يميز مجموعة نغمات موسيقية متنافرة - كيفية محسوسة، وجمعها كيفيات محسوسة. ومن هنا ينبع اعتراض آخر على أصالة ديفيد. هو لا يستطيع أن يحب مونيكا حبا حقيقيا؛ لأنه صمم كي يتصرف كما لو أنه يحظى بخبرات غنية بالكيفيات المحسوسة، بينما هو في الواقع لا يملك هذه الخبرات. عندما يشعر بالحزن على ما يبدو عند معرفته أن مونيكا يوما ما ستموت، فإنه لا يفعل أكثر من مجرد محاكاة السلوك المنتظر منه في هذه الحالة. إنه لا يشعر في الحقيقة بأي اغتمام فعلي، رغم تصورنا أنه من المستحيل تماما الجزم بأنه لا يشعر بذلك. يفتقد ديفيد الكيفية الحسية الخاصة بالشعور بالكرب أو الاغتمام. لا يمكننا معرفة ما الذي سنشعر به لو كنا مكان ديفيد بينما يبدو مغتما، بل لا يمكننا معرفة ما سنشعر به لو كنا مكان ديفيد من الأساس؛ فذلك يشبه تخيل ما سنشعر به لو كنا محمصة خبز مثلا. هذا ما يطلق عليه اعتراض الكيفيات المحسوسة.
حتى هذه اللحظة، نحن نعبر عن مجرد شك، هل يوجد حجة فلسفية تدعمه؟ ما نحتاج إليه هو حجة تثبت أن الوعي؛ أي خبرة الكيفيات المحسوسة، لا يمكن خلقه اصطناعيا. وبما أننا لا نعرف تحديدا كيف ظهر الوعي لدى البشر - لأسباب لا تتعلق بنقص في النظريات - فمن غير الوارد أن نتمكن من استبعاد إمكانية وجود وعي اصطناعي بناء على أسس فلسفية. ربما نشعر بوجود شيء خاص، شيء روحاني على الأرجح أو غير آلي، يميز الوعي. ربما نشعر على نحو بديهي أن الكائنات الحية أو الكائنات التي تملك روحا هي فقط التي تتمتع بوعي كامل، لكن هذا الإحساس البديهي لا يتمتع وحده بثقل فلسفي كبير.
تقربنا إحدى الحجج الفلسفية من هدفنا المنشود؛ هي حجة تدعي إثبات أن الوعي في الحقيقة ظاهرة غير مادية على الإطلاق. إذا كان الوعي غير مادي، فربما يستحيل علينا بالفعل استنساخه اصطناعيا. يقدم لنا هذه الحجة الفيلسوف الأسترالي فرانك جاكسون (1982؛ 1986)، وتعرف باسم «حجة المعرفة» وتتطلب بدورها تجربة افتراضية أخرى. (سنغير ها هنا أيضا بضعة تفاصيل من أجل سهولة العرض.) تخيل أن امرأة تدعى ماري خضعت لتجربة نفسية مطولة وقاسية؛ فعندما ولدت زرعت في عينيها أجسام خاصة تمنعها من رؤية أي شيء بالألوان؛ ومن ثم قضت حياتها ترى كل شيء باللونين الأبيض والأسود. رغم ذلك، أو ربما نتيجة لذلك، أصبحت ماري أعظم خبراء العالم في الإدراك البشري للألوان، بل إن براعتها الفذة في اكتشاف الحقائق فيما يتعلق بإدراك الألوان أوصلتها إلى معرفة كل ما يهم معرفته في هذا المجال؛ فهي تعرف جميع الحقائق المادية التي تتعلق بإدراك الألوان مثل طريقة تفاعل الجهاز البصري مع الضوء من شتى الأطوال الموجية، وكيفية معالجة الدماغ للمعلومات التي يستقبلها من المستقبلات البصرية وغيرها. وهكذا توصلت ماري إلى معرفة جميع الحقائق المادية المتعلقة بطبيعة إدراك اللون. ومع نهاية التجربة، أزيلت الأجسام المزروعة في عيني ماري، وأصبحت الآن قادرة فعليا على رؤية الألوان عوضا عن الاكتفاء بطرح النظريات حولها. وبينما تتجول في الخارج ترى وردة حمراء ، فتقول لنفسها «هكذا إذن يبدو اللون الأحمر، لم أكن أعلم ذلك قط!» يوجد شيء إذن لم تعرفه ماري ؛ هي لم تكن تعرف حقائق الكيفيات المحسوسة الخاصة بإدراك الألوان، لم تكن تعرف كيف يبدو اللون الأحمر. لكنها كانت تعرف جميع الحقائق المادية. يثبت ذلك أن حقائق الكيفيات المحسوسة ليست حقائق مادية. ثمة جوانب أخرى للوعي خلاف المعالجة المادية للمعلومات في الدماغ.
ما مدى منطقية حجة المعرفة؟
9
هي حجة مثار خلاف كبير دون شك. والرد الأشهر عليها هو كالتالي: عندما ترى ماري الألوان أخيرا، فإنها لا تكتسب معرفة حقيقية جديدة، لقد وصفنا نحن المشهد كما لو أنها اكتسبت تلك المعرفة - فجعلناها تقول إنها لم تكن تعرف قط كيف يبدو اللون الأحمر - لكن هذا الوصف كان مضللا؛ لأنه يجعل الأمر يبدو كما لو كانت معرفة شكل اللون الأحمر لا تختلف عن معرفة طول موجة الضوء الأحمر (نحو 700 نانومتر)، ويجعل معرفة الكيفيات المحسوسة تبدو وكأنها مجرد معرفة حقيقية إضافية، في حين أنها تختلف عن ذلك كلية. عندما ترى ماري الألوان للمرة الأولى لا تكتسب بذلك معرفة حقيقية جديدة، بل تكتسب قدرات جديدة. والآن هي قادرة على تحديد ما إذا كانت ثمرات الطماطم ناضجة أم لا بمجرد النظر إليها. قبل تحول قدراتها البصرية كانت تضطر إلى قياس الطماطم بجهاز قياس الطيف اللوني (وهو أداة لا تستغني ماري عنها عند شرائها الخضراوات والفواكه) كي تعرف أهي ناضجة أم لا. لكنها أضحت الآن قادرة على رؤية اللون ثم التعرف على اللون نفسه بعد ذلك (دون الحاجة إلى قياس هذا اللون في كلتا الحالتين)، بل وربما في وسعها كذلك تخيل لون ما كصورة ذهنية. ربما تستطيع الآن أن ترى أحلاما ملونة أثناء نومها، وتتذكر فيما بعد أن جراد بحر أزرق عملاقا كان يطاردها في الحلم، وليس جراد بحر عملاق رمادي اللون. إن نوع المعرفة التي تكتسبها ماري بعد التحول اللوني الذي حدث لها هي معرفة تتعلق بالكيفية لا بالماهية؛ فهي أصبحت تعرف كيف تفعل أشياء، أصبح لديها قدرات جديدة. وبدلا من التعرف على حقائق جديدة حول إدراك الألوان، أصبح لديها الآن قدرة التعرف على حقائق قديمة بطرق جديدة. يعرف هذا الرد على حجة المعرفة عادة باسم «فرضية القدرات».
10
ما مدى منطقية رد فرضية القدرات؟
11
ذلك سؤال تصعب إجابته. هل يمكننا تخيل شخص يملك جميع القدرات التي ننسبها إلى ماري بعد التحول اللوني الذي حدث لها لكنه لا يختبر الكيفيات اللونية المحسوسة؟ هل يمكننا اختزال معرفة الكيفيات المحسوسة في اكتساب قدرات مناسبة، دون أن نكون قد أغفلنا أي شيء؟ من الصعب بمكان الإجابة عن ذلك. قد يرد المدافعون عن استحالة اختزال الكيفيات المحسوسة (يطلق عليهم جاكسون مجانين الكيفيات المحسوسة) على فرضية القدرات عبر الإصرار على أن فردا واعيا مثل ماري يكتسب قدرات جديدة لأنه أضحى الآن «يعرف» الكيفيات اللونية المحسوسة. كيف تستطيع ماري الآن تصنيف الطماطم إلى ناضجة وغير ناضجة دون استخدام جهاز قياس الطيف اللوني الخاص بها؟ لقد أصبحت الآن تعرف شكل الطماطم الناضجة؛ ولذلك أصبحت قادرة على انتقائها. ربما كان إدراك فرضية القدرات للوضع إدراكا معكوسا؛ إذ افترضت أنه بما أن ماري قادرة على انتقاء الطماطم الناضجة بمجرد النظر، فهي الآن تعرف شكل اللون الأحمر. وربما كان هذا قلبا لتسلسل الأحداث المنطقي.
ما الذي يحدث أولا، معرفة الكيفيات المحسوسة أم القدرة على إدراك الكيفيات المحسوسة؟ سيرغب معتنقو الرأي القائل بأن الوعي يمكن اختزاله في العمليات المادية التي تجري داخل الدماغ - ويعرفون باسم «الجسمانيون» - في القول بأن القدرات تأتي أولا؛ فمعرفة الكيفيات المحسوسة ليست سوى امتلاك لقدرات إدراك الكيفيات المحسوسة، ويمكن شرح عمليتي اكتساب وامتلاك تلك القدرات من منظور جسدي بحت دون إغفال أي شيء. في حين قد يزعم اللاجسمانيون أن قدرات الكيفيات المحسوسة تستلزم مقدما معرفة الكيفيات المحسوسة؛ فلكي تمتلك قدرة الكيفيات المحسوسة لا بد أن تعرف أولا كيف تبدو خبرة الكيفيات المحسوسة من الأساس. بل قد يزعم اللاجسمانيون أن في وسع امرئ ما امتلاك جميع القدرات ذات الصلة - وهي التعرف والتمييز والتذكر والتصور الخيالي وغيرها - دون أن يكون واعيا من الأساس بالكيفيات المحسوسة ذاتها. ويعرف هذا المخلوق أحيانا في فلسفة العقل المعاصرة باسم الزومبي .
12
لكن هذا النوع من الزومبي ليس عضوا في جماعة الموتى الأحياء آكلي لحوم البشر، لكنه كائن يملك قدرات الفرد الواعي، دون أن يملك الوعي الذي عادة ما يصاحب هذه القدرات. يبدو هذا الزومبي مثل بيت أنواره مضاءة يدفعك إلى الظن بأن قاطنه موجود، بينما لا يوجد أحد بالداخل.
من الفائز يا ترى، الجسمانيون أم اللاجسمانيون؟ مرة أخرى، من الصعب تحديد ذلك. ربما يتعادل الفريقان، أو ربما يخسران.
13
ربما يتوقف الأمر على من يقع على كتفيه عبء الإثبات في هذا السجال. لكن من يحمل هذا العبء؟ أي من الموقفين يبدو أكثر منطقية في الأساس، موقف الجسمانيين أم اللاجسمانيين؟ وما موقف ديفيد من هذا كله؟ فهو على ما يبدو يملك جميع القدرات التي تميز الفرد الواعي. أمن الممكن أن يمتلك تلك القدرات دون أن يملك معرفة الكيفيات المحسوسة؟ أمن الممكن أن يمتلك مجموعة القدرات المعرفية والإدراكية بأكملها دون أن يعي مطلقا «التألم» المصاحب للألم، و«القنوط» المصاحب للكرب، و«الأسى» المصاحب للوحدة؟ أمن الممكن أن يكون زومبي؟ هل من الضروري أن يكون زومبي؟ كما عودتنا الفلسفة، تنتهي بنا الحال بأسئلة أكثر مما بدأنا بها، لكنها أسئلة مختلفة، أسئلة أفضل.
أسئلة
فلنفترض أن كفاءة الروبوتات تحسنت أكثر حتى أصبح من المستحيل تمييز الروبوت عن الإنسان، على المستوى الجسدي أو العاطفي، ما لم تفككه إلى أجزاء. هل يصبح حينئذ خوض علاقة وثيقة ومحبة مع تلك الروبوتات أمرا غير منطقي وغير مبرر، بل وغير طبيعي؟ أمن المفترض أن يجيز القانون زواج الإنسان والروبوت؟ أمن الممكن أن يعيش إنسان مع روبوت في زواج «سعيد»؟
في هذا الفصل، طرحنا الزعم التالي: «إذا اعتبرنا حب ديفيد غير أصيل لأنه مثبت سابقا، فربما يصبح حب أي طفل لأمه غير أصيل كذلك للسبب نفسه. نحن لا ننزع إلى الشك في حقيقة أو أصالة حب الطفل لوالديه؛ لذا ربما لا ينبغي لنا التشكك في حب ديفيد لأن أصله يرجع إلى المصمم.» هل كنا على حق في هذا الزعم؟ وحب الطفل (البشري ) لأبويه، أهو حب أصيل؟ هل هو حب أصيل على نحو لا يمكن لحب ديفيد أن يصبح مثله أبدا؟ ما الذي تمثله أصالة حب طفل؟ (ما الذي تمثله أصالة أي حب؟)
طرح جون سيرل تجربة الغرفة الصينية الافتراضية من أجل تفنيد الطموحات الهادفة إلى خلق برنامج ذكاء اصطناعي قوي. إنه الاعتقاد بأن أجهزة الكمبيوتر سوف تشتمل في النهاية على عقول اصطناعية (ذات وعي وإدراك وذكاء وقدرة عاطفية ... إلخ). وقد انتقدنا هذه الحجة في هذا الفصل. لكن من الممكن توجيه نسخة أكثر تواضعا من الغرفة الصينية لتفنيد اختبار تيورنج وليس برنامج الذكاء الاصطناعي القوي. فهل ستنجح في تحقيق هذا الهدف الأكثر تواضعا؟ (بعبارة أخرى: هل ستثبت أنه من الممكن اجتياز اختبار تيورنج دون امتلاك ذكاء تحاوري حقيقي؟)
هل يحتاج المرء إلى قدرات كقدرات الروبوت كي يفهم أي شيء؟ ومن ثم، أليس من الممكن أن يتأتى للكمبيوتر فهم الأشياء دون ملاحظة وحركة وفعل وغير ذلك؟ أليس التحدث (الناتج عن تنفيذ برنامج المحادثة) كافيا؟ ولم لا؟
في هذا الفصل، لم نعبأ كثيرا برد سيرل المبدئي على رد النظام. زعم سيرل أن الاعتقاد بقدرة المكونات الخاملة داخل نظام ما (مثل خزانة الملفات بكل ما تحتويه من ملفات ومجلدات داخل غرفته الصينية) على تحويل شيء لا يفهم إلى شيء يفهم هو اعتقاد سخيف؛ فكيف يسعها تحقيق ذلك؛ هي «لا تفعل» شيئا. هل تسرعنا في رفض هذا الرد؟ وهل يحمل اتهام سيرل شيئا من الصحة؟ كيف يمكن أن تصنع إضافة ملفات من المعلومات فارقا؟ (تذكر أن رد النظام يبلغ فاعليته القصوى عند الجمع بينه وبين رد الروبوت.)
هل أنت وذو الرأس الكبير شخص واحد؟ بعبارة أخرى: متى أصبحت داخل الغرفة الصينية، وحفظت التعليمات كلها عن ظهر قلب، فهل ستصبح نظاما معرفيا واحدا أم نظامين؟
في هذا الفصل، عبرنا عن اعتراض الكيفيات المحسوسة على النحو التالي: «لا يمكننا معرفة ما سنشعر به لو كنا مكان ديفيد؛ فذلك يشبه تخيل ما سنشعر به لو كنا محمصة خبز مثلا.» هل سيسعنا يوما ما معرفة ما إذا كان العقل الاصطناعي يختبر الكيفيات المحسوسة؟ إذا كانت جميع الأنظمة الإدراكية الحسية والمعلوماتية ذات الصلة تؤدي وظيفتها، فهل سيكون بمقدورك معرفة ما إذا كان العقل الاصطناعي يمر بالكيفيات المحسوسة أم لا؟ هل سيكون باستطاعتك الجزم بأن آخرين غيرك يمرون بالكيفيات المحسوسة؟ (سيزعمون أنهم يختبرونها، وهذا بالطبع هو ما سيقولونه، فهم في النهاية من الزومبي.) أو هل سيصبح بوسعك معرفة ما إذا كان شخص آخر يمر بنفس الكيفيات المحسوسة التي تمر بها عندما ينظر كلاكما إلى الشيء نفسه؟ (أعتقد أنه أحمر، أنت تقول إنه أحمر. لكن كيف أعرف أنك ترى ما أراه عندما أقول إنني أرى اللون الأحمر؟) بالنظر إلى نزوعنا نحو الشكوكية فيما يتعلق بالكيفيات المحسوسة، ألم نكن قساة حقا على ديفيد عندما قارنا حياته الداخلية بحياة محمصة خبز؟
هوامش
الفصل السادس
«جسر المطار» وحلم السفر عبر الزمن
مقدمة
في فيلم كريس ماركر «جسر المطار» (لا جيتي) (1963)، يشهد صبي صغير حادثة إطلاق نار على رجل في مطار أورلي بباريس، وبينما يكبر تظل ذكرى موت الرجل تطارده. «جسر المطار» هو فيلم عن الذكريات التي تطاردنا، وهو أيضا عن السفر عبر الزمن. سوف نستخدم هذا الفيلم من أجل مناقشة احتمالية السفر عبر الزمن، وفي خضم ذلك سوف نبحث طبيعة الزمن وأيضا طبيعة الاحتمالية.
استخدم ماركر سلسلة من الصور الفوتوغرافية الثابتة يصحبها تعليق صوتي يروي قصة الفيلم.
1
ونظرا إلى فكرة الفيلم الرئيسية - قدرة الذكريات على مطاردتنا - كان قراره باستخدام هذا الأسلوب قرارا ملهما؛ فالصور هي سبيلنا المفضل عند محاولة سد ثغرات ذاكرتنا، ودعم ادعاءاتها الواهية حول كينونتنا، واستكمال تفاصيل التجارب التي تخفق الذاكرة في حفظها. الصور متواطئة في سيطرة مشاهد الماضي علينا. لكن بطل «جسر المطار» (الذي لا نعرف اسمه قط؛ ومن ثم سنطلق عليه المسافر عبر الزمن) لا يحتاج إلى صور؛ فصورة الرجل المحتضر حفرت بعمق في ذاكرته ، ويتضح أن هذا تحديدا هو ما يجعله ملائما لرحلة السفر عبر الزمن بكل ما تتضمنه من صعوبات؛ ففيما يبدو، يتطلب السفر عبر الزمن مستويات غير عادية من التركيز، والهوس بصورة من الماضي يتيح ذلك.
إليك قصة الفيلم: دمرت مدينة باريس في حرب كارثية ومن نجوا من الحرب عاشوا سجناء تحت الأرض. أصبح العالم خرابا يحتاج إلى إنقاذ. يقرر المنتصرون في الحرب - وهم على ما يبدو ألمان - أن السبيل الوحيد للإنقاذ هو المستقبل؛ ومن ثم يشرعون في إجراء سلسلة من تجارب السفر عبر الزمن، ويقع الاختيار على بطل الفيلم ليخضع للتجربة، حيث ينجح في السفر إلى الماضي، إلى باريس قبل نشوب الحرب. هناك يزور امرأة، ويعود إليها مرة تلو الأخرى؛ فتطلق عليه «شبحها». ويقع كل منهما في غرام الآخر. وبعدما أتقن العلماء الألمان السفر إلى الماضي، بدءوا يجربون السفر إلى المستقبل. وهي عملية تفوق السفر إلى الماضي صعوبة؛ إذ يمنع شيء ما المسافر من المضي قدما في المستقبل، ويتضح أن المانع هو أهل المستقبل الذين أتقنوا علم السفر عبر الزمن وبدوا عازفين عن الترحيب بغريب من بدايات التاريخ البشري. لكن المسافر يتمكن أخيرا من التحدث إليهم وشرح مهمته؛ الجنس البشري في الماضي في خطر، وبما أنه سيتمكن من البقاء فإن المستفيدين من بقائه يدينون له بسبل تساعده على البقاء. يقبل أهل المستقبل على ما يبدو هذه المغالطة السفسطائية، ويمنحون المسافر محول طاقة جبارا ليصطحبه معه إلى زمنه، وهي مهمة ينفذها بالفعل، وتنجو البشرية من الفناء. بعدما أتم المسافر مهمته يخطط العلماء الألمان لإعدامه (فهم علماء «ألمان» أولا وأخيرا، وفيلمنا فيلم فرنسي أنتج عام 1963)، حينئذ يتدخل أهل المستقبل لإنقاذه، ويعرضون اصطحابه إلى المستقبل، لكنه يفضل العودة إلى فرنسا في عالم ما قبل الحرب إلى المرأة التي أحبها. عند عودته يجد نفسه في مطار أورلي (يبدو ذلك نذير سوء). يرى محبوبته فيركض ناحيتها لكن عميلا تابعا للعلماء الألمان كان يتبعه (فقد أتقنوا الآن تقنية السفر عبر الزمن)؛ ومن ثم يطلق عليه الرصاص قبلما يصل إلى المرأة. يشهد صبي الحادثة بأكملها؛ لقد شهد الرجل حادثة موته بينما كان صبيا. لا عجب إذن أن ذكرى هذا الحادث ظلت تطارده.
تلك قصة بسيطة ومتقنة من قصص السفر عبر الزمن.
2
والأسئلة الفلسفية التي نطرحها في هذا السياق كالتالي: هل من الممكن حدوث شيء كهذا فعليا؟ هل الزمن مجال يصلح السفر عبره؟ هل السفر عبر الزمن أمر ممكن؟ وبالطبع، بما أننا نتفلسف، لا بد أن نتساءل عما يعنيه القول بأن السفر عبر الزمن ممكن؟ ماذا نعني بكلمه «ممكن»؟ ترجع أصول قصص السفر عبر الزمن في العصر الحديث إلى إتش جي ويلز. وقد بدأ ويلز قصته الأولى حول السفر عبر الزمن «آلة الزمن» بمناقشة حول طبيعة الزمن. وحسب شرح المسافر عبر الزمن في قصة ويلز، الزمن هو بعد أشبه بأبعاد المكان الثلاثة، نحن نستطيع السفر عبر المكان؛ إذن نستطيع، إذا عرفنا الطريقة، السفر عبر الزمن. ما مدى منطقية هذه الحجة؟ كي نبدأ في الإجابة عن هذا السؤال، لا بد لنا من إلقاء نظرة أعمق على ميتافيزيقا الزمن.
الزمن: تمهيد
تدين المناقشة الفلسفية المعاصرة لطبيعة الزمن بالكثير لأعمال الفيلسوف البريطاني جيه إم إي مكتاجارت (1866-1922). زعم مكتاجارت أن الزمن وهم، وأننا نعتقد أن الأشياء توجد عبر الزمن، لكن هذا غير حقيقي. سوف نلقي نظرة سريعة على حجته المبدعة التي قادته إلى هذا الاستنتاج قريبا، لكن علينا أولا التمهيد لذلك. إن الجانب الأكثر تأثيرا، وربما الأكثر إثارة للاهتمام، في أعمال مكتاجارت ليس زعمه بأن الزمن وهم، بل طريقة صياغته لهذه المشكلة الفلسفية. لقد ميز بين نوعين من المفاهيم الزمانية، بين طريقتين للنظر إلى ترتيب الأحداث الزمانية، وأطلق عليها المجموعة «أ» والمجموعة «ب». وهي مسميات ظلت عالقة في الأذهان.
وفقا للمجموعة «أ»، ترتب الأحداث في الزمن حسب وقوعها إما في الماضي أو في الحاضر أو في المستقبل، ويعبر الزمن عن عملية تحول؛ فالأحداث المستقبلية تصير حاضرا ثم تصير ماضيا. وعلى العكس من ذلك، ترتب الأحداث في المجموعة «ب» حسب علاقات زمنية مثل «قبل » و«بعد» و«متزامن مع (كذا)». فتتناول على سبيل المثال أي حدثين مثل إعدام تشارلز الأول ملك إنجلترا وفوز الأرجنتين بمباراة نهائي كأس العالم عام 1978. أي حدث من هذين الحدثين إما أنه حدث مع الثاني أو حدث قبله أو حدث بعده.
3
في هذا المثال، الحدث الأول حدث قبل الثاني (أو الحدث الثاني حدث بعد الحدث الأول، حسب الصيغة التي ترغب فيها).
يبدو أننا نستوعب التتابع الزمني إما عبر المجموعة «أ» أو المجموعة «ب». لكن مكتاجارت زعم أن المجموعة «أ» (تحول المستقبل إلى حاضر ثم إلى ماض) لا غنى عنها لمفهوم الزمن. فبدون المجموعة «أ»، لن يوجد وقت. وقد اعتقد ذلك لأنه آمن بأن الزمن يستلزم التغيير، ونحن نحتاج إلى المجموعة «أ» كي يصبح التغيير حقيقيا (وهو زعم مثير للجدل دون شك). كذلك من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن مكتاجارت اعتقد أن المجموعة «أ» تناقض نفسها؛ فهي تتطلب من الحدث الواحد - مثل فوز الأرجنتين بنهائي كأس العالم عام 1978 على سبيل المثال - أن يتضمن خواص متعارضة: خاصية الحاضر وخاصية الماضي وخاصية المستقبل. لكن شيئا في الحاضر لا يمكن أن يكون ماضيا في ذات الوقت. أليس كذلك؟ فهاتان خاصيتان متعارضتان. ورغم ذلك من المفترض أن يملك حدث واحد كلتا الخاصيتين معا. كيف يمكن ذلك؟ ظاهريا تبدو هذه الحجة غير منطقية تماما؛ فليس من المفترض أن يكون حدث ما ماضيا وحاضرا ومستقبلا «في الوقت نفسه»، بل هو مستقبل في وقت ما وحاضر في وقت آخر وماض في وقت ثالث. يبدو ذلك صحيحا لكنه لا يفيد بشيء. على سبيل المثال، لن تتحقق أي استفادة من زعم أن فوز الأرجنتين بنهائي كأس العالم كان حاضرا يوم 25 يونيو 1978 وماضيا يوم 25 يونيو عام 2010؛ إذا استعضنا عن الزعم القائل بأن الفوز حدث ماض، بزعم أدق يقول بأن الفوز حدث يوم 25 يونيو 1978 فإننا نكون بذلك قد استعضنا لتونا عن المجموعة «أ» بالمجموعة «ب» (فالقول بأن حدثا ما حاضر في تاريخ محدد يرسخ موقعه فحسب في تتابع الأحداث المرتبة حسب علاقة «قبل/بعد». أي المجموعة «ب»). يزعم مكتاجارت أن المجموعة «أ» هي المتناقضة، وليس المجموعة «ب».
قد نحاول التملص من هذا الفخ، وبدلا من ذكر تاريخ المباراة يمكننا أن نقول إن المباراة «كانت» في الحاضر. وقولنا إن حدثا ما كان حاضرا معناه أن ذلك الحدث يملك خاصية كونه حاضرا في الماضي. (يهوى الفلاسفة هذه الطريقة الملتفة للتعبير عن الأشياء؛ فهم يعتقدون أنها تضفي مزيدا من التوضيح. وفي بعض الأحيان يكونون على حق.) فكون حدث ما «حاضرا في الماضي» لا يناقض خاصية كونه «في الماضي»؛ لذا بدلا من أن نقول إن حدثا واحدا يملك خاصية الحاضر وخاصية الماضي، يمكننا أن نقول إنه يملك خاصية كونه «حاضرا في الماضي» وخاصية كونه «ماضيا». وهكذا تجنبنا فيما يبدو التناقض دون اختزال المجموعة «أ» في المجموعة «ب». لكن مكتاجارت يعتقد أن هذه الطريقة لا تصلح. لقد استعضنا عن خاصية صيغة زمنية ذات ترتيب أول (الحاضر) بخاصية صيغة زمنية ذات ترتيب زمني ثان (حاضر في الماضي) كي نتجنب التناقض. لكن تقديم خواص صيغة زمنية ذات ترتيب ثان يسمح لنا بتوليد تناقضات جديدة. على سبيل المثال فوز الأرجنتين بالمباراة حدث يتمتع بخاصية كونه حاضرا في الماضي، لكنه يملك كذلك خاصية كونه حاضرا في المستقبل (في عام 1950 كان هذا الفوز حاضرا في المستقبل)؛ ومن ثم تتناقض هاتان الخاصيتان الزمنيتان ذواتا الترتيب الثاني؛ فلا يمكن لحدث ما أن يمتلك خاصية كونه حاضرا في الماضي وحاضرا في المستقبل. وإذا حاولنا حل هذا التناقض الجديد عبر الاحتكام إلى خواص زمنية ذات ترتيب ثالث (كأن نقول، على سبيل المثال، في المستقبل يكون حدث ما حاضرا في الماضي)، فسوف نواجه الإشكالية ذاتها من جديد. لا مهرب إذن من إشكالية نسب خواص زمنية متناقضة لحدث واحد، أو هكذا آمن مكتاجارت. وهذا مثال لما يطلق عليه الفلاسفة معضلة «التقهقر اللانهائي».
نذكرك (فلربما نسيت) بأن موضوعنا هو السفر عبر الزمن. إذا لم يوجد زمن، فلن يوجد سفر عبر الزمن، فلن يوجد مجال نتحرك عبره؛ إذن ما الحجة التي يطرحها مكتاجارت لإثبات كون الزمن غير حقيقي؟ فيما يلي تلخيص لها: (1)
مفهوم الزمن يستلزم المجموعة «أ». (2)
إذن كي يصبح الزمن حقيقيا لا بد أن تكون المجموعة «أ» حقيقية. (3)
لكن المجموعة «أ» تناقض نفسها؛ ومن ثم لا يمكن أن تكون حقيقية. (4)
إذن الزمن ذاته ليس حقيقيا.
بالطبع لم يدع الفلاسفة المسألة تقف عند هذا الحد. إحدى طرق الرد على هذه الحجة هي محاولة إنقاذ المجموعة «أ» من الوقوع في فخ التناقض. وكما عرضنا لتونا، يرى مكتاجارت أنه لا يمكن لحدث واحد امتلاك خاصية كونه حاضرا وخاصية كونه ماضيا على حد سواء؛ فتلك خواص متناقضة، وربما ينبغي لنا الاتفاق معه وكفى. كيف نستطيع إيقاف التناقض دون اختزال المجموعة «أ» في المجموعة «ب»؟ قد يبدو الحل التالي متطرفا بعض الشيء؛ يمكننا منع التناقض عبر إنكار أن الأحداث تمتلك من الأساس خاصية كونها في الماضي أو في الحاضر؛ أي الماضي غير موجود والمستقبل غير موجود، الحاضر فقط هو الموجود. إذا كان شيء ما حدثا، فهو إذن يحدث الآن؛ أما إذا لم يكن يحدث الآن، فهو ليس حدثا، بل هو شيء آخر، شيء ليس له وجود. وعندما نتحدث عن «الأحداث الماضية»، نحن نتحدث على نحو تقريبي لأن الأحداث الماضية ليست في الحقيقة أحداثا على الإطلاق؛ الأحداث هي ما يقع الآن، والأحداث الماضية لا تقع الآن. وعلى وجه الخصوص، الأحداث الماضية ليست أحداثا تتمتع بخاصية مميزة؛ ألا وهي كونها في الماضي؛ فقول ذلك يعادل القول بأنها تحدث مع امتلاكها خاصية مميزة ألا وهي عدم حدوثها، وذلك قول مناف للعقل. إذن إذا كنا اتفقنا (نسبيا) على ما نعنيه بكلمة أحداث، واتفقنا أن الماضي والمستقبل لا يمكن أبدا أن يكونا خواص للأحداث، فسنضمن إذن أن الحدث الواحد لن يملك أبدا خواص زمنية متناقضة؛ فلا يمكن له امتلاك أي خاصية سوى خاصية كونه حاضرا. وبإنكار وجود أي شيء خارج نطاق الحاضر، أصبح لدينا على ما يبدو سبيل لإصلاح المجموعة «أ» دون أن نناقض أنفسنا.
ربما يبدو هذا الرأي الذي توصلنا إليه عبر مراوغة التناقض الذي يطرحه مكتاجارت غريبا، لكنه يصف في الحقيقة مفهوما بديهيا إلى حد كبير للزمن؛ فعندما نقول إن الماضي قد انتهى، ربما الشيء الذي نفكر فيه حقا هو أن الماضي لم يعد موجودا. ربما نقصد أن الماضي غير موجود وكفى. الحاضر يبدو حقيقيا - يبدو موجودا «هناك» أو «هنا» بالأحرى - على عكس الماضي والمستقبل. الحاضر لا ينفك يتغير، وهذا التغير يشكل تدفق الزمن. يطلق الفلاسفة على هذا الرأي، «الحاضرية»، وهو أمر لا يثير استغرابا. تتميز الحاضرية بأنها تجسد إحساسنا البديهي بتدفق الوقت، وبأن الحاضر حقيقي، على العكس من الماضي والمستقبل. إحدى طرق تصور وجهة نظر أتباع هذا الرأي حول الوقت والوجود هي تخيل الحاضر كنقطة ضوء تتحرك عبر خط مظلم يمثل العالم. الظلام هو ظلام اللاوجود، والضوء هو ضوء الوجود. وحركة الضوء هي تدفق الزمن، وهو يتحرك دون توقف. (تجسد الحاضرية مفهوما بديهيا ولكنه غريب نوعا ما لأن الحاضر سريع الزوال حقا. إذا كنا نعيش في الحاضر وحده، فربما علينا التوقف والتساؤل كيف نستطيع التقاط أنفاسنا على الإطلاق؛ الزمن يتحرك بسرعة فائقة! وإذا كنا نعيش في الحاضر كليا، فإننا نعيش فيما يبدو مجموعة من اللحظات المؤقتة العابرة. لكن إحساسنا بالحياة يختلف عن ذلك.)
يواجه أتباع الحاضرية العديد من الصعوبات؛ فأولا تواجههم صعوبة شرح كيف يمكننا طرح مزاعم حقيقية حول الماضي. هل الادعاءات حول الماضي تشبه الادعاءات الخيالية؟ (هل القول بأن الأرجنتين فازت بنهائي كأس العالم عام 1978 يشبه القول بأن القبطان آيهاب حاول قتل الحوت موبي ديك في رواية «موبي ديك». وهو ما فعله، من ناحية، لكن من ناحية أخرى لا يوجد شخص يدعى القبطان آيهاب، ولا يوجد مخلوق يدعى موبي ديك؟) هل الادعاءات حول الماضي هي ادعاءات مستترة حول الحاضر؟ (عندما أقول إن الأرجنتين فازت بنهائي كأس العالم عام 1978، فتلك ليست سوى طريقة مزخرفة للتحدث عن سجلات الاتحاد الدولي لكرة القدم، وما شابه ذلك.) من الصعب على أتباع هذا الرأي إيجاد دلالات لفظية منطقية للعبارات التي تتناول الماضي. كذلك من الصعب عليهم شرح العمليات السببية بما أن السببية في الظاهر هي علاقة بين أحداث تمتد عبر فترة من الزمن. يتسبب حدث ماض في حدث حاضر. لكن كيف يفترض في شيء غير موجود امتلاك القدرة على التسبب في حدوث أشياء؟ وكبديل عن هذا، تأمل المسببات الحاضرية لنتائج مستقبلية: سوف أتناول حبة دواء الآن كي أقضي على ألمي في غضون بضع دقائق. كيف يستطيع شيء غير موجود - شيء مستقبلي، ليس شيئا «في المستقبل» (كما لو كان المستقبل مستودعا تنتظر فيه الأحداث المخزنة) - الدخول في علاقات سببية مع شيء موجود؟
4
تواجه الحاضرية بعض العراقيل إذن. ربما نتمكن من شق طريقنا عبرها لكنها على أي حال تشجعنا على السعي وراء وجهات نظر بديلة لمفهوم الزمن. يتخلى المنافس الرئيسي للحاضرية عن محاولة وصف الزمن حسب قواعد المجموعة «أ»، ولا يقبل بديهية تدفق الزمن المنطقية أو وجود اختلاف وجودي (أنطولوجي) بين الماضي والحاضر. إنها الرؤية التي يتحدث عنها إتش جي ويلز في روايته «آلة الزمن»، وغالبا ما يطلق عليها اليوم الرؤية الرباعية الأبعاد. تذكر أن حجة مكتاجارت التي تزعم أن الزمن وهم تعتمد على مقدمتين منطقيتين؛ المقدمة الأولى مفادها أن المجموعة «أ» هي صفة أساسية من صفات الزمن، وبدون المجموعة «أ» لا يوجد زمن. والمقدمة الثانية مفادها أن المجموعة «أ» تناقض نفسها. يقبل الحاضريون المقدمة الأولى لكنهم يرفضون الثانية. أما أتباع الرؤية الرباعية الأبعاد فيتبعون المنهج المعاكس؛ أي يقبلون المقدمة الثانية لكنهم يرفضون الأولى؛ فهم يعتقدون أننا نفهم الوقت من منظور المجموعة «ب» فحسب (أي العلاقات الزمنية بين الأحداث: بعد، وقبل، وبالتزامن مع). حسب المنظور الرباعي الأبعاد، المفاهيم التي تطرحها المجموعة «أ» - الماضي والحاضر والمستقبل - لا تعبر وجوديا عن حقائق ذات قيمة، بل هي تشير فحسب إلى الموقع الزمني للمتحدث. فلنفترض على سبيل المثال أن شخصا ما يرى إشارة المرور تتغير من الأحمر إلى الأخضر، بينما يشهد هذا التغير: «إشارة المرور تتغير الآن.» ما الذي يجعل هذه العبارة صحيحة؟ ما الحقيقة التي يتناولها هذا الزعم؟ يعتمد ذلك على الموقع الزمني للمتحدث. إذا كان قد نطق بجملته الساعة 9:45 صباحا يوم 30 نوفمبر عام 2020، يصبح هذا الزعم صحيحا فقط إذا كانت إشارة المرور التي نحن بصددها تتغير في ذلك الوقت. وإذا أبدى المتحدث هذا الزعم في وقت آخر، فإنه لن يكون صحيحا إلا إذا كانت إشارة المرور التي نحن بصددها تتغير في هذا الوقت الآخر. كلمة «الآن» تؤدي وظيفة تشبه إلى حد كبير وظيفة كلمة «هنا»؛ ذلك هو ما يطلق عليه الفلاسفة تعبيرا تأشيريا. وينطبق ذلك على مفاهيم المجموعة «أ» بأكملها؛ إذ يرى أتباع وجهة النظر الرباعية الأبعاد أن حقائق المجموعة «أ» هي حقائق تأشيرية. وتتمخض هذه الرؤية عن نتيجة مهمة، وهي أن الزمن لا يتدفق، بل يبدو هكذا فحسب؛ ومن ثم لا تواجه الرؤية الرباعية الأبعاد ما تواجهه الحاضرية من مشكلات، لكنها تواجه مشكلات أخرى خاصة بها. من بينها شرح الكيفية التي يبدو بها الزمن وكأنه يتدفق، وكذلك شرح الكيفية التي يبدو بها الزمن وكأنه يتدفق في اتجاه واحد فقط.
ما هو السفر عبر الزمن؟
عودة إلى مسألة السفر عبر الزمن؛ من منظور الحاضرية، السفر عبر الزمن مفهوم غير مترابط. كيف يمكنك السفر إلى مكان غير موجود؟ (ولا يرجع ذلك إلى أن الماضي والمستقبل لا يوجدان إلا في الحاضر فحسب، بل يرجع إلى أن الحاضرية تؤكد عدم وجودهما من الأصل.) على الجانب الآخر لا تنطوي الرؤية الرباعية الأبعاد على أي من تلك الشكوك؛ إذ يرى أتباعها أن الزمن بعد، والسفر عبر بعد أمر ممكن تصوره على الأقل، حتى وإن اتضحت استحالته ماديا. لكن ما هو السفر عبر الزمن تحديدا؟ في «جسر المطار» ينتقل المسافر عبر الزمن إلى الماضي والمستقبل، ومن السهل عرض ذلك في الفيلم لأنه لا يتطلب سوى وضع الممثلين في بيئة يعتبرها المشاهدون بيئة الماضي أو المستقبل. لكن ذلك لا يساعدنا على معرفة ما يحدث تحديدا في سيناريو السفر عبر الزمن.
يقترح الفيلسوف الأمريكي ديفيد لويس التعريف التالي للسفر عبر الزمن. يقاس الزمن بالتغير، تغير عقارب الساعة على سبيل المثال؛ ما يسمح لنا بتمييز الزمن الخارجي عن الزمن الشخصي. يقاس الزمن الشخصي بالتغير في شخصية المرء (تخيل ساعة كوارتز مثبتة تحت جلدك؛ معدل تقدمك في العمر أو اكتسابك الذكريات هو إحدى وظائف الزمن الشخصي). أما الزمن الخارجي فيقاس بالتغير في بيئتك الخارجية (تخيل ساعة على بعد مائة متر). يحدث السفر عبر الزمن إذا انتقلت إلى زمن خارجي بعيد نسبيا خلال فترة زمنية قصيرة نسبيا من الزمن الشخصي. في «جسر المطار» يرتحل المسافر عبر الزمن إلى مستقبل يبعد مئات كثيرة من السنين، بينما من منظوره - منظور زمنه الشخصي - استغرقت الرحلة بضع ثوان على الأكثر. أما من المنظور الخارجي، فقد استغرقت رحلة المسافر مئات السنين. لا يوضح كريس ماركر، في تصرف حكيم على الأرجح، عمليات الانتقال المتضمنة في هذه الرحلة؛ ففي أحد المشاهد يبدو المسافر يلاحظ أو يتخيل الماضي ليس إلا، وفي المشهد التالي نجده في الماضي بالفعل. ولا يقال لنا كيف وصل هناك. في نسخة عام 2002 السينمائية من رواية «آلة الزمن»، نرى المسافر وهو يتحرك فعليا عبر الزمن. لا نكاد نرى أيا من علامات التقدم في السن عليه (ربما كبر دقيقة ليس إلا)، بينما يشيخ العالم خارج مركبته أمام أعيننا (بفضل تأثيرات تسريع الفواصل الزمنية بين اللقطات المعدة بواسطة الكمبيوتر). وعندما يسافر إلى الماضي، نرى الخدعة ذاتها؛ فبينما يرتحل ببطء عبر الزمن دون أن يتقدم في السن (ودون أن ينقص عمره كذلك)، نرى العالم خارج مركبته يتراجع إلى الوراء بسرعة كبيرة (أيضا بفضل تأثيرات تسريع الفواصل الزمنية بين اللقطات المعدة بواسطة الكمبيوتر).
في بعض الأحيان يكون السفر عبر الزمن عملية مستمرة كما في فيلم «آلة الزمن»، وفي أحيان أخرى يتضمن عمليات انتقال منفصلة. في معظم أفلام السفر عبر الزمن يستقل المسافر مركبته ثم يضغط على زر ما فينتقل إلى زمن مختلف تماما دون المرور بفترات زمنية فاصلة على الإطلاق. تتم هذه العملية أحيانا عبر ثقب دودي، لكن صناع الفيلم عادة ما يجنبون أنفسهم عناء شرح علاقة الثقب الدودي على وجه التحديد بالسفر عبر الزمن. في حلقة بديعة من مسلسل «دراما المستقبل » (فيوتشراما) بعنوان «نهاية سعيدة لحادثة روزويل» (روزويل ذات إندز ويل) يحدث السفر عبر الزمن لأن بطل المسلسل «فراي» يتجاهل تعليمات الاستخدام بينما يحاول إعداد الفشار في الميكروويف (وهي حادثة تصادفت مع وقوع انفجار نجم ضخم، إذا كنت تتساءل عن كيفية تسبب ذلك في الانتقال عبر الزمن). فكما نرى، القصة التي تبرر قدرة السفر عبر الزمن في معظم الأفلام إما غائبة تماما أو مجرد كلام فارغ هزلي (عبقري ثائر الرأس، وكثير من الشخبطات على سبورة سوداء ومركبة فاخرة لامعة أو سيارة من نوع ديلوريان كما في فيلم «العودة إلى المستقبل» (باك تو ذا فيوتشر)). وفي النهاية يبقى السؤال الفلسفي بلا إجابة: هل السفر عبر الزمن ممكن من الأساس؟
ما احتمالية السفر عبر الزمن؟
هذا سؤال غامض؛ إذ يوجد أكثر من نوع واحد من الاحتمالية؛ يوجد على الأقل ثلاثة أنواع ذات صلة بمبحثنا: الاحتمالية المنطقية والاحتمالية الميتافيزيقية والاحتمالية الفيزيقية. يعتبر تسلسل ما من الأحداث محتملا من الناحية المنطقية إذا أمكن وصفه وصفا شاملا دون تناقض، ويعتبر محتملا من الناحية الميتافيزيقية إذا أمكن وصفه وصفا شاملا دون خرق مبادئ ميتافيزيقية صحيحة، بصرف النظر عن ماهيتها (على سبيل المثال، القول بأن الحاضر وحده هو الموجود أو أن الأشياء المادية هي فقط الموجودة يصنف تحت بند المبادئ الميتافيزيقية، لكنها قد تكون مبادئ غير صحيحة). وخلافا لذلك، يصبح تسلسل ما للأحداث محتملا من الناحية الفيزيقية إذا لم يخرق أيا من قوانين الطبيعة، بصرف النظر، مرة أخرى، عن ماهيتها.
إذن ما السؤال الذي ينبغي لنا طرحه؟ بما أننا في كتاب فلسفي، فلن نبحث الاحتمالية الفيزيقية. لكن يجدر بنا أن نذكر في مجمل حديثنا أن نوعا واحدا على الأقل من السفر عبر الزمن يبدو محتملا من الناحية الفيزيقية، بل ويحدث يوميا كذلك. تتنبأ النظرية النسبية الخاصة بنوع من السفر عبر الزمن يحدث عبر ما يطلق عليه تأثير تمدد الزمن؛ فلتفترض أنك أرسلت ساعة فائقة الدقة إلى طائرة وقارنتها بساعة مطابقة لها على الأرض؛ سيتضح لك أن الساعة على الطائرة ستتحرك على نحو أبطأ من الساعة الموجودة على الأرض. السفر جوا إذن سبيل للاحتفاظ بالشباب (رغم أن ذلك لا يحدث بقدر كبير). يتزايد تأثير تمدد الزمن مع السرعة؛ لذا السفر على متن صاروخ يعد طريقة أكثر فعالية كي تمد في عمرك ليفوق عمر أبناء عمومتك على الأرض. (الجانب السلبي الوحيد أنك في الحقيقة لن تحظى بأي وقت إضافي من منظور الزمن الشخصي، وهو في النهاية الزمن الذي يهمك حقا.) بالطبع تأثير تمدد الزمن ليس النوع الوحيد من السفر عبر الزمن؛ يمكن تحقيق السفر إلى المستقبل البعيد عبر آلية أخرى، آلية تتسبب في ثني الزمكان. لكن تمدد الزمن لن يساعدنا على السفر إلى الماضي. (كما سنرى، السفر إلى الماضي هو ما يسبب الإشكاليات الفلسفية الرئيسية.)
هذا فيما يتعلق بالاحتمالية الفيزيقية. ماذا إذن عن الاحتمالية الميتافيزيقية؟ حسب الرؤية الحاضرية، السفر عبر الزمن مستحيل ميتافيزيقيا. وحتى لو استطعت سرد قصص مترابطة منطقيا للسفر عبر الزمن، تتناقض تلك القصص مع مبادئ ميتافيزيقية جوهرية حول طبيعة الزمن؛ فأنت لا تستطيع السفر إلى مكان غير موجود. لكن لحسن الحظ لدينا نظرية ميتافيزيقية أخرى للزمن متاحة للتأمل؛ ألا وهي النظرية الرباعية الأبعاد. لا يبدي أتباع هذه النظرية أي اعتراض ميتافيزيقي على السفر عبر الزمن. لكنه إذا اتضح أن السفر عبر الزمن غير محتمل منطقيا، فلن تكون هناك أهمية لجميع الحجج المطروحة حول ميتافيزيقا الزمن. إذا لم يكن السفر عبر الزمن محتملا منطقيا، فهو غير محتمل إذن في أي سياق آخر. وبالمناسبة توجد حجة شهيرة مفادها أن السفر عبر الزمن غير محتمل منطقيا، وهي تدعى مفارقة الجد.
مفارقة الجد
إذا كان السفر إلى الماضي ممكنا، فما الذي يمنعني إذن من السفر إلى الماضي وقتل جدي في صباه؛ ما يضمن منع ولادة أمي؛ ومن ثم إذا لم يكن لدي أم فلن أولد من الأساس، وإذا لم أولد من الأساس، فلن يمكنني السفر إلى الماضي وقتل جدي. وهكذا تتحطم احتمالية السفر إلى الماضي فيما يبدو أمام أعيننا. تعرف هذه المفارقة باسم مفارقة الجد. هل هي تثبت بالفعل أن فكرة السفر إلى الماضي في حد ذاتها غير متماسكة منطقيا؟ دعونا نصغها في شكل حجة تناقض الاحتمالية المنطقية للسفر عبر الزمن. (1)
إذا كان السفر عبر الزمن محتملا من الناحية المنطقية، ففي وسعي الرجوع إلى الماضي وقتل جدي؛ ما يضمن عدم ولادة أمي. (2)
إذا لم تولد أمي قط، فلن أولد أنا أيضا. (3)
ومن ثم لن أكون موجودا. (4)
إذا قتلت جدي فسأكون موجودا. (5)
إذن في هذا السيناريو سأكون موجودا وغير موجود، وذلك أمر لا يمكن حدوثه. (6)
ومن ثم لا يمكنني السفر إلى الماضي وقتل جدي؛ ما يضمن منع ولادة أمي. (7)
إذن السفر عبر الزمن غير محتمل من الناحية المنطقية.
ما رأيك؟ تبدو حجة منطقية حقا. ما إن تقبل المقدمة الأولى حتى ينهال عليك باقي المقدمات كطوفان من الحقائق المنطقية؛ فكل خطوة من الحجة إما تجسد استنتاجا منطقيا للخطوات السابقة أو تطرح مزاعم عادية للغاية لا يوجد أي سبيل منطقي يمكننا من إنكارها. كيف سيتصرف المدافع عن السفر عبر الزمن إذن؟ بالطبع عليه أن يرفض المقدمة المنطقية الأولى. لكن كيف؟
إن قتل الجد ليس سوى وسيلة درامية لتوضيح نقطة ضعف مزمنة في قصص السفر عبر الزمن. قد يبدو أن السفر إلى الماضي سيتسبب قطعا في تغيير الماضي؛ فمجرد وجود المرء في الماضي يشكل تغيرا فيه على ما يبدو. قبل أن تسافر عبر الزمن لم تكن موجودا في الماضي، وبعدما سافرت أصبحت حاضرا فيه، وهكذا أصبح هناك وصفان للماضي يبدو كلاهما صحيحا: «أ» ماض كنت أنت غائبا عنه. و«ب» ماض كنت أنت حاضرا فيه. وذلك تناقض لا شك فيه. لا حاجة بك إلى قتل جدك كي تخلق استحالة منطقية، بل التسكع وحده في الماضي يكفي.
يواجه السفر عبر الزمن وضعا صعبا على ما يبدو، إلا أن الحجة التي طرحناها في الفقرة السابقة قائمة في الحقيقة على سوء تفاهم خطير. تذكر أن الرؤية الميتافيزيقية للزمن التي تبنيناها كي نمهد الطريق لإمكانية السفر عبر الزمن هي الرؤية الرباعية الأبعاد. وحسب الرؤية الرباعية الأبعاد، فإن الماضي ثابت، ولا يمكن تغييره. الماضي ليس شريط فيديو يمكنك إرجاعه والتسجيل عليه. وإذا سافرت إلى الماضي لا يعني ذلك أنك تعيد كتابته، بل أنت بالفعل كنت هناك! فلتفترض على سبيل المثال أنك سافرت إلى الماضي والتقطت لنفسك صورة مع كليوباترا ثم دفنت الصورة في مقبرة خفية، وعندما عدت إلى زمنك بحثت عن المقبرة واستعدت صورتك. كم من الوقت ظلت الصورة هناك؟ منذ أن دفنتها قبل ألفي عام تقريبا. لقد أثرت على الماضي عندما دفنت الصورة، لكنك لم تغيره. بعبارة أخرى: أنت لم تغير الماضي من وضع معين (حيث ظلت إحدى المقابر باقية طوال ألفي عام دون أن تحوي صورة) إلى وضع آخر (حيث ظلت مقبرة ما باقية لمدة ألفي عام وبداخلها صورة مدفونة). تفترض مفارقة الجد أنه من الممكن تغيير الماضي، لكن ذلك غير ممكن. لا مجال للمفارقة ها هنا، بل هي مجرد غلطة. المقدمة المنطقية الأولى لتلك الحجة كانت خاطئة. السفر عبر الزمن ممكن منطقيا لأننا تحديدا عاجزون عن إعادة كتابة الماضي.
رغم ذلك تبعث تلك الأفكار الحيرة في نفوسنا؛ إذ يبدو غريبا القول بأنك إذا امتلكت آلة زمن لا تستطيع استخدامها لإحداث حالة من الفوضى في شجرة العائلة. ماذا يمنعك من ذلك؟ بالطبع لديك القدرة المحضة على قتل أي شخص. ماذا يمنعك من تفعيل هذه القدرة؟ لن تنزل قواعد المنطق من عليائها كي تحافظ على الاتساق؛ فهي لا تملك هذا النوع من القوة. ماذا سيحدث إذن؟ ربما إذا رجعت إلى الماضي وحاولت ارتكاب تلك الفعلة الشنعاء فستفشل، ستنزلق قدماك على قشرة موز في اللحظة الأخيرة أو سيعلق مسدسك أو قد تطلق النار على الشخص الخطأ. مع ذلك، لا نزال نشتم رائحة المفارقة ها هنا؛ إذ يبدو أنك تمتلك القدرة على فعل شيء ما، لكنك، في الوقت نفسه، عاجز عن فعله. أنت تملك القدرة على قتل جدك ولا تملك القدرة على قتل جدك في الوقت نفسه. وذلك ينطوي فيما يبدو على تناقض.
السبيل الأوضح للتغلب على هذه المفارقة هو افتراض أن مفهوم القدرة ينطوي على شيء من الغموض.
5
قد تمتلك القدرة على قتل جدك من زاوية ما، ألا وهي كون هذا الفعل من «نوع» الأفعال الذي تقدر على فعله؛ أنت تقدر على تعقب شخص ما، وتقدر على تصويب سلاح ناحيته، وتقدر على سحب الزناد (لكن هذا لا يعني أنك ستفعل ذلك). إذن من زاوية ما أنت تمتلك القدرة المطلوبة، لكن من ناحية أخرى هذا الفعل تحديدا ليس شيئا تقدر على فعله، بل يتجاوز قدرتك على الفعل؛ فأنت لا تملك القدرة على إعادة كتابة الماضي، بل الرب نفسه لا يملك هذه القدرة. لدينا إذن مفهومان للقدرة: مفهوم ضعيف حيث تملك القدرة على فعل شيء ما حال كونه من الأشياء التي تقدر على فعلها، ومفهوم قوي حيث تمتلك القدرة على فعل شيء ما إذا كان ممكنا من الأساس فعل ذلك الشيء تحديدا. تدمج حجة مفارقة الجد بين هذين المفهومين، ومقدمتها المنطقية الأولى تبدو معقولة فقط حال تفسيرها حسب المفهوم الضعيف للقدرة. قتل الجد عملية تتألف من مجموعة من الأفعال، كل منها فعل يقدر المرء على تنفيذه بنجاح، لكن المقدمة التي تعتمد عليها الحجة تتطلب في الواقع المفهوم القوي للقدرة. لا ينبغي أن يتكون قتل الجد من مجموعة من الأشياء التي تقدر في المعتاد على فعلها، بل لا بد أن يتكون من شيء يمكنك فعليا فعله. وهو في الحقيقة ليس كذلك.
قصص السفر عبر الزمن المتسقة وغير المتسقة
لنلق نظرة أخيرة على فيلمنا. يروي «جسر المطار» قصة سفر عبر الزمن حيث يشهد رجل حادثة موته أثناء صباه. أكان بوسع هذا الرجل منع موته؟ هل كان بوسعه تغيير رأيه في اللحظة الأخيرة والتوجه إلى المستقبل حيث الأمان؟ هل كان بوسعه الجري أسرع؟ أو الانحناء وتجنب الرصاص؟ الإجابة عن هذه الأسئلة هي لا. لم يكن بوسعه فعل أي من تلك الأشياء؛ لأنه لم يفعلها في الماضي. لقد كان مقدرا له الموت في مطار أورلي قبل تدمير باريس، لكنه لم يكن يعرف ذلك بعد. بل إن استخدام تعبير «كان مقدرا له الموت» غير دقيق نسبيا في واقع الأمر؛ فعندما كان يفكر في قبول عرض اللجوء إلى المستقبل أو رفضه، كان وقتها ميتا بالفعل. لقد كان ميتا طوال الجزء الأكبر من حياته. وقد وجد كذلك لفترة قصيرة في مكانين في الوقت ذاته، في صورة صبي وفي صورة رجل. هل من الممكن أن يوجد شخص واحد في مكانين في الوقت نفسه؟ يعتمد ذلك على معرفة أي من وجهات النظر حول الهوية الشخصية هي الصحيحة. سوف نناقش في الفصل الثامن نظرية الاستمرارية النفسية، التي تطرح منظورا رباعي الأبعاد للأفراد. وفقا لهذا المنظور يتكون الأفراد من أجزاء زمنية مؤقتة يرتبط بعضها ببعض عبر الذاكرة. ولا تنطوي هذه النظرية على ما يجزم باستحالة وجود شخص ما في مكانين في الوقت ذاته، أو ما يجزم باستحالة موت شخص ما (في مرحلة زمنية مختلفة) بينما يستمر على قيد الحياة (في مرحلة أخرى). علاوة على ذلك لا تنفي النظرية إمكانية موت أحد الأشخاص قبل ولادته. ذلك عجيب بالطبع، لكن لا أحد يزعم ها هنا أن السفر عبر الزمن لا ينطوي على بعض العجب. نزعم فحسب أنه ممكن من الناحية المنطقية، وربما من الناحية الميتافيزيقية. قدم «جسر المطار» نموذجا لقصة سفر عبر الزمن متسقة؛ ومن ثم ممكنة منطقيا. والملمح الرئيسي في تلك القصص هو أن الماضي لا تعاد كتابته أبدا. قد تتضمن القصة الكثير من الأحداث العجيبة لكنها تحكي عن عالم واحد متسق.
تعج السينما بأمثلة على قصص السفر عبر الزمن غير المتسقة. ويقدم فيلم «تأثير الفراشة» (باترفلاي إيفيكت) (2004) مثالا جيدا على هذا النوع. يكتشف إيفان تريبورن، بطل الفيلم، أنه يمتلك القدرة على العودة إلى ماضيه، وخلق سيناريوهات مستقبلية بديلة له ولمن يرتبطون به. تنتهي تلك السيناريوهات جميعها نهاية سيئة للغاية (ما يوضح، حسب المفترض، تأثير الفراشة ).
6
وفي حين يغازل الفيلم مفهوم الاتساق (حيث نرى أن حالات الإغماء التي يتعرض لها إيفان أثناء طفولته كان المتسبب بها ذاته المستقبلية)، إلا أن صناعه لم يهتموا حقا بتجسيد قصة متسقة من قصص السفر عبر الزمن؛ فبينما تعاد كتابة الماضي مرة تلو الأخرى، يتساءل المرء عما حدث لتلك الحيوات المعادة كتابتها. هل وجدت قط؟ كيف يرى إيفان أنه إذا عاد بالزمن، وأعاد كتابة حياة حبيبته، كيلي ميلر، فسيتمكن من تحسين الوضع بالنسبة إليها؟ فهو عاجز عن جعلها لا تتعرض أبدا للانتهاك الجسدي. فما الذي يظن أنه سيكون إذن قادرا على تحقيقه؟
ربما كان السبيل الأمثل لفهم سيناريوهات أفلام مثل «تأثير الفراشة» هو النظر إليها لا من منظور السفر عبر الزمن بل من منظور العوالم المتشعبة. عندما يعود إيفان إلى ماضيه في محاولة لتحسين حياته فهو لا يسافر إلى ماضيه، بل يسافر إلى عالم مواز، عالم متفرع من العالم الفعلي. وخلق تلك العوالم المتشعبة أو القفز إلى أحدها لا يغير الماضي. يوجد العديد من الشكوك حول ما إذا كانت فكرة القفز بين العوالم فكرة متماسكة من المنظور الميتافيزيقي. لكن على أي حال، القفز بين العوالم ليس شكلا من أشكال السفر عبر الزمن. وإذا استخدمت أسلوب القفز عبر العوالم كي ترجع إلى الماضي وتقتل جدك، فستخفق ها هنا أيضا في قتله؛ قد تقتل في تلك الحالة شخصا ما، لكنه لن يكون جدك، سيكون نسخة من جدك يعيش في عالم مختلف. لكن في عالمنا سيظل جدك حيا يرزق في كامل صحته. نستخلص من هذا كله أن قصص السفر عبر الزمن غير المتسقة تميل إلى تجسيد أبطال يعانون من تشوش كبير. في حين تتمتع قصص السفر عبر الزمن المتسقة بقدر أكبر من الإثارة لأنها قصص متماسكة على مستوى عميق.
تفتح قصص السفر عبر الزمن المتسقة الباب أمام احتمالية جديرة حقا بالملاحظة، وهي الحلقات السببية. في «جسر المطار» يمنح أهل المستقبل بطلنا محول طاقة (وهو عبارة عن صندوق معدني أسود لا يميزه شيء) كي يصطحبه معه إلى الماضي. والآن تخيل أن هذا المحول كان ناجحا حقا وظل موجودا لزمن طويل في المستقبل، بحيث ظل أهل المستقبل يستخدمونه عندما قدم إليهم غريب من تاريخ البشرية المبكر طالبا مساعدتهم، فمنحوه هذا المحول. وهكذا نرى أن الماضي يمنح المحول للمستقبل والمستقبل يمنح المحول للماضي. يطلق على ذلك حلقة سببية. هي فيما يبدو نتيجة محتملة للسفر عبر الزمن. من أين إذن أتى محول الطاقة؟ من صنعه؟ لا مفر من الإجابة بأنه أتى من الماضي ومن المستقبل، وبأنه ليس من صنع أحد، بل وجد هكذا. تلك حلقة سببية إعجازية دون شك، لكنها محتملة منطقيا. ربما تكون بعض أنواع السفر عبر الزمن محتملة منطقيا لكنها عجيبة، عجيبة حقا في بعض الأحيان. لا بأس. العالم مكان عجيب، فلماذا يفترض بالسينما ألا تكون عجيبة بدورها؟
أسئلة
السفر عبر الزمن هو إحدى الحبكات السردية الأوسع انتشارا في الخيال العلمي. ما سبب ذلك؟ ما الذي يجذب هذا العدد الكبير من الناس إلى فكرة السفر عبر الزمن؟ وماذا نستنتج من ذلك فيما يتعلق بالندم وبتمني عيش حياة مختلفة؟ إذا لم يكن بوسعنا تغيير الماضي، تصبح أمنية عيش حياة مختلفة أمنية مستحيلة؛ فلا يوجد سيناريو يمكن اعتباره تحقيقا لهذه الأمنية. هل يجعل ذلك منها أمنية لا عقلانية؟
هل مفهوم الزمن يستلزم وجود المجموعة «أ»؟ هل المجموعة «أ» ضرورية لتفسير التغيير؟
إذا خضعت للتجميد بتقنية التبريد الفائق وظللت في غيبوبة لمدة 100 عام استيقظت بعدها سالما دون أدنى تغير، وأنت تشعر كما لو أنك لم تنم سوى بضع ساعات، هل سيعد ذلك نوعا من السفر عبر الزمن إلى المستقبل؟ هل سيتفق مع تعريف السفر عبر الزمن الذي استخدمناه في هذا الفصل (تعريف ديفيد لويس)؟
هل نجحنا في التعامل مع مفارقة الجد في هذا الفصل؟ ألا يوجد حقا عنصر غير مقبول في الحل الذي قدمناه؟ يزعم هذا الحل أنك إذا عدت إلى الماضي عبر آلة زمن وحاولت قتل جدك (أو بالطبع قتل نفسك في الماضي)، فلا بد أنك ستفشل. ما الذي يمنعك من النجاح؟
لقد اقترحنا أن قصص السفر عبر الزمن المتسقة تستحوذ على اهتمامنا أكثر من مثيلتها غير المتسقة؛ فهل هذا صحيح؟ فكر في أمثلة على ذلك، قسم أفلام السفر عبر الزمن التي شاهدتها إلى قصص متسقة وأخرى غير متسقة (سوف تلاحظ أن الأفلام غير المتسقة هي السائدة). هل الأفلام المتسقة تطرح قصصا تفوق في تأثيرها ما تطرحه الأفلام غير المتسقة؟ هل يؤثر الاتساق الفلسفي لقصة الفيلم بوجه عام على قوة الفيلم؟
القفز عبر العوالم لا يعد سفرا عبر الزمن. لماذا؟ «الحلقات السببية غريبة، لكنها ليست مستحيلة.» ما نوع الاحتمالية الذي قد تعبر عنه هذه العبارة؟ ما المبادئ الميتافيزيقية التي قد تتناقض مع الحلقات السببية؟ هل هي مبادئ معقولة؟
هوامش
الجزء
الوضع البشري
يبحث الجزء الثالث من هذا الكتاب مجموعة من الموضوعات ذات الصلة بأسئلة رئيسية تتعلق بالوضع البشري، وبحريتنا وهويتنا ومتعنا وإحساسنا بمعنى وقيمة الحياة.
يطرح الفصل السابع السؤال التالي: هل نحن من نكتب حياتنا؟ هل نحن أحرار في اختياراتنا أم أننا ضحايا للقدر؟ ما معنى امتلاك إرادة حرة؟ هل نكون مسئولين عن أفعالنا إذا افتقدنا الإرادة الحرة؟ دليلنا في الإجابة عن هذه الأسئلة هو فيلم آخر لسبيلبيرج: «تقرير الأقلية» (مينورتي ريبورت) من إنتاج عام 2003. عادة ما يناقش هذا الفيلم من زاوية القضايا الفلسفية المرتبطة بالإرادة الحرة، وهي مناقشة لها ما يسوغها؛ فالفيلم يواجه قضية حرية الإرادة مواجهة مباشرة وطموحة، ويقدم تجربة افتراضية استثنائية حول العلاقة بين الإرادة الحرة والمسئولية الأخلاقية. (هذا ما يطلق عليه في الفيلم «مبادرة ما قبل الجريمة».) لكن في الوقت نفسه يبدو «تقرير الأقلية» ملتبسا بعض الشيء، وسوف نحاول معالجة أوجه الالتباس مراعين الحفاظ على قوة الفيلم الفلسفية دون مساس.
أما الفصل الثامن فيطرح الأسئلة التالية: ما هي حقيقة أنفسنا؟ ومم تتشكل هويتنا؟ وما الذي يجعلنا أفرادا مميزين بمرور الزمن ومع خوض الكثير من التغيرات؟ نستخدم في هذا الفصل فيلم كريستوفر نولان «تذكار» (ميمنتو) (2000) للتركيز على رؤية فلسفية نموذجية للهوية الشخصية، ألا وهي نظرية الاستمرارية النفسية. «تذكار» هو فيلم آخر من الأفلام التي كثيرا ما نوقشت في الفلسفة وفي الدراسات السينمائية . وذلك أمر مفهوم لأنه يقدم دراسة فذة لشخصية فرد يخرق جميع القواعد؛ إذ يعيش حياته دون الترابط النفسي المألوف الذي تخلقه الذاكرة. تركز مناقشتنا لهذا الفيلم على ما سنطلق عليه تحدي «تذكار». هل سيقدر الفلاسفة على مجابهة هذا التحدي؟
يعيد الفصل التاسع انتباهنا مباشرة إلى الأفلام نفسها. لقد ناقشنا عددا من قضايا فلسفة السينما في الجزء الأول. وفي هذا الفصل نلقي نظرة متفحصة على قضية بعينها في الفلسفة والسينما، اخترناها لأنها تعد بتسليط ضوء كاشف على طبيعتنا الأولية. إنها قضية مشاهدة الرعب. لماذا يشاهد الناس أفلام الرعب؟ كيف يستمدون المتعة من الرعب الذي تبثه الأفلام في نفوسهم؟ إن تجربة الرعب أعقد من شعور الخوف العادي؛ إذ تتضمن مشاعر أخرى إضافة إلى الخوف، مثل النفور والتقزز والتوجس. ماذا نستنتج عن طبيعتنا من حقيقة أننا قد نستمد المتعة من تجربة الرعب ومن مشاهد العنف البشعة؟ نستخدم في هذا السياق فيلما متميزا للمخرج النمساوي مايكل هانيكه لمساعدتنا في فهم تلك القضايا. فيلم هانيكه «ألعاب مسلية» (فاني جيمز) (نسختا عام 1997 وعام 2007؛ فقد أخرجه مرتين) يقدم استقراء بالغ الجلاء والقوة لقضية مشاهدة الرعب والعنف.
وأخيرا نعود في الفصل العاشر إلى قضايا أقل إثارة للخلاف، لكنها لا تقل عمقا رغم ذلك. موضوع هذا الفصل هو الموت ومعنى الحياة، ونسترشد في تناولنا له بفيلم للمخرج الياباني العظيم أكيرا كوروساوا عام 1952 وهو «أن تحيا» (إيكيرو). الفيلم معقد وأبعد ما يكون عن المباشرة في التناول، لكنه يستحق دراسة متفحصة عن جدارة. يسلط الفيلم الضوء على الكثير من ملامح المجتمع الياباني بعد الحرب العالمية الثانية، لكنه يعالج أيضا فكرة رئيسية بسيطة ذات طابع إنساني عالمي، ألا وهي كيف نحيا؟ كيف نحيا حياة ذات معنى؟ تكتشف الشخصية الرئيسية في الفيلم، واتانابي، الإجابة عن تلك الأسئلة بينما تخوض معركة ضد سرطان لا شفاء منه. (هو فيلم مؤلم حقا، لا ينتمي إطلاقا إلى نوعية الأفلام السخيفة الجياشة العاطفة، بل هو النقيض التام لبكائيات هوليوود السينمائية الرخيصة.)
الفصل السابع
القدر والاختيار: فلسفة «تقرير الأقلية »
مقدمة
تخيل أنك سافرت إلى مستقبل يبعد 36 ساعة عن زمنك كي تزور ذاتك المستقبلية، وعندئذ شاهدتها ترتكب جريمة قتل؛ فهرعت عائدا إلى زمنك مصمما على منع حدوث هذه الجريمة؛ فهل بوسعك منعها؟ بفرض أن الرؤية الرباعية الأبعاد للزمن صحيحة (راجع الفصل السادس)، وبفرض أنك سافرت حقا إلى المستقبل وأن الشخص الذي رأيته يقتل هو بالفعل ذاتك المستقبلية، ستصبح الإجابة عن هذا السؤال هي لا بالطبع، لن تقدر على منع نفسك من ارتكاب الجريمة. لقد قدر عليك ارتكابها. ويبدو أن لا خيار لك في هذه المسألة. لكن إذا كان ذلك قدرك، ولا خيار لك في هذه المسألة، فبأي حق تعد مذنبا؟ هل أنت مسئول أخلاقيا عن أفعال لا تستطيع منعها؟ أهلا بك في عالم فلسفة الإرادة الحرة المليء بالتحديات، والذي لا يخلو من الغرابة في بعض الأحيان.
في فيلم «تقرير الأقلية» يجابه جون أندرتون ظرفا مشابها لما وصفناه لتونا. لكن أندرتون لا يسافر عبر الزمن، إنما يشهد لحظة ميلاد نبوءة صادرة عن ثلاثة عرافين، يخبرونه أنه حتما وقطعا سيقتل رجلا لم يسمع عنه قط من قبل، يدعى ليو كرو، في غضون 36 ساعة. العرافون لا يخطئون أبدا، أو هكذا يؤكد لنا الفيلم؛ فهم منحوا هبة التنبؤ، بل وفوق هذا، هم قادرون فعليا على رؤية المستقبل، هم شهود على مستقبل أندرتون حين يطلق الرصاص على كرو. هل بوسع أندرتون مراوغة قدره؟ قد تقترح عليه محاولة الهرب من المدينة، لكننا في فيلم هوليوودي؛ ومن ثم يتفتق ذهن أندرتون عن خطة مختلفة، فيقتفي أثر ليو كرو حتى يجده ويواجهه وعندئذ يطلق عليه الرصاص.
حتى الآن يبدو أننا نكرر مناقشتنا لقضية السفر عبر الزمن التي عرضناها في الفصل السادس. فثمة رابط ما بين مصير أندرتون ومفارقة الجد. حسب مفارقة الجد يبدو وكأنك تستطيع العودة إلى الماضي ومنع ولادتك، لكنك بالطبع لا تقدر على ذلك. أنت تمتلك القدرة على فعل «الأشياء» التي قد تتضمنها مهمة منع ولادتك، لكنك لا تقدر على فعل هذا الشيء تحديدا في هذا الوقت تحديدا. لا يمكنك فعله لأن هذا الشي لم يفعل في الماضي، أنت لم تمنع ولادتك لأنك قد ولدت بالفعل. في قصة أندرتون وكرو، يبدو كما لو أن أندرتون يمتلك القدرة على الهرب من مصيره (فماذا لو اكتفى بالمكوث في البيت ومشاهدة التليفزيون على مدار بضعة الأيام التالية؟) لكنه في الحقيقة لا يملك تلك القدرة حقا. هو يفتقر إلى القدرة على تغيير قدره لأنه قدره. لقد تحدد بالفعل أنه سيقتل كرو. انتهى الأمر.
لكن الأمر لم ينته قطعا. «تقرير الأقلية» أعقد كثيرا من ذلك، وأكثر إرباكا. وسوف نستخدمه كي نتلمس طريقنا عبر متاهات فلسفة الإرادة الحرة. والسؤال الرئيسي الذي سنطرحه هو: إلى أي مدى يبدو الفيلم ملتبسا؟ أهو ملتبس لدرجة يتعذر التغلب عليها؟ أحيانا يكون أفضل ما تقدمه لنا الأفلام، من المنظور الفلسفي، هو تحدي فهم حبكتها الملتبسة. وعبر محاولة فك طلاسم هذا الالتباس قد نتعلم الكثير. ومن جانب آخر قد يتضح أن «تقرير الأقلية» أكثر منطقية مما كان يبدو عليه في البداية، بل وقد يساعدنا على استيضاح بعض من سمات العلاقة بين القدر والإرادة الحرة والمسئولية الأخلاقية. فلنبدأ بتحري الحبكة الرئيسية للفيلم.
إذا كنت قد شاهدت الفيلم، فستعرف أن أندرتون لا يقتل كرو فعليا، بل يطلق عليه النار دون قصد. لدى أندرتون دافع لقتل كرو (إذ يعتقد أنه خطف ابنه وقتله)، ولديه أيضا فرصة لقتله. لكن في اللحظة الأخيرة، وتحت ضغط هائل، يقرر أندرتون الإبقاء على حياته. عندها يتشبث كرو بالمسدس، ويندفع في صراع مع أندرتون يؤدي إلى انطلاق السلاح عرضا مصيبا كرو الذي يطير جسده محطما النافذة. اللحظات الأخيرة تشبه كثيرا نبوءة العرافين لكنها لا تتطابق معها. جميع الزوايا خاطئة. في نبوءة العرافين، يطلق أندرتون الرصاص على كرو من بعد، بينما أثناء وقوع الجريمة يطلق النار على كرو من مكان قريب. في نبوءة العرافين، يقول أندرتون «وداعا» لكرو، لكن في الحدث نفسه لا يقول شيئا. أخطأ العرافون كذلك في التنبؤ بوقت إطلاق النار. يتعرض صناع الفيلم لفكرة أن القدر يوقعنا في شرك، لكنهم يؤثرون بدلا من ذلك التركيز على فرضية أن بوسعنا دوما الهرب من قدرنا شريطة أن نعرف ما هو تحديدا. لقد كان لأندرتون ما أطلق عليه في الفيلم مستقبل بديل. يصبح لدى المرء مستقبل بديل حال وجد نفسه أمام سبيلين على الأقل يمكنه الاختيار بينهما - ما أدركه العرافون في الفيلم كان سبيلا واحدا فحسب منهما - ولا يمكن تحديد أي من السبيلين سيختاره المرء إلى أن يسلكه بالفعل.
1
عندما يرفض أندرتون إطلاق الرصاص على كرو فقد اختار مستقبله البديل. وقد تمكن عبر ذلك من ممارسة إرادته الحرة. حسب طريقة عرض الفيلم للقضية، يبدو أن تفعيل الإرادة الحرة يتطلب وجود مستقبل بديل. إنه يتطلب أن يكون المستقبل مفتوحا للاحتمالات، أن يصبح ممكنا الاختيار من بين أكثر من مستقبل واحد. إذا مارس أندرتون إرادته الحرة، لا يمكن التقرير مسبقا أنه سيفعل ما رآه العرافون يفعله. ولم يكن في الحقيقة «مقدرا» له أن يطلق الرصاص على كرو، بل لم يكن له «قدر» من الأساس. هل يبدو لك ذلك منطقيا؟ فلتتابع القراءة إذن.
ما قبل وقوع الجريمة
إن فيلم «تقرير الأقلية» لا يجسد صراع أندرتون مع القدر فحسب، بل يجسد أيضا ما يطلق عليه «مبادرة منع الجريمة قبل وقوعها». تدور أحداث الفيلم عام 2054، حيث اكتشفت قدرة العرافيين على التنبؤ بالجرائم قبل وقوعها، بما يشمل تفاصيل مرئية للجريمة، ووقت وقوعها بالضبط، وأسماء الضحايا والمجرمين. واستخدمت تلك القدرة كجزء من مبادرة لتطبيق القانون تثير قدرا كبيرا من الريبة. من يقول العرافون عنهم إنهم مجرمون مستقبليون يلقى القبض عليهم ويسجنون داخل «هالة» (شكل من الحياة الجامدة؛ حياة أشبه بالموت). لا يخبرنا الفيلم أي شيء عن إمكانية استئناف الأحكام التي تصدرها المبادرة، لكن بما أن العرافين معصومون من الخطأ حسبما هو مفترض، لا ينبغي لنا أن نأمل كثيرا في مصير أفضل لأولئك المعتقلين على خلفية جرائمهم المستقبلية . كان اكتشاف إمكانية وقوع العرافين في الخطأ هو ما أدى في النهاية إلى تدمير هذا النظام. وقد زعم ستيفن سبيلبيرج، مخرج الفيلم، في أحد اللقاءات معه أنه سيدعم مبادرة لمنع الجريمة قبل وقوعها شريطة أن يكون على يقين مطلق من استحالة خطأ النبوءات.
2
هل هو محق في ذلك؟
ثمة قضيتان على المحك هنا. أما القضية الأولى فتخص طبيعة العقاب؛ هل يصح بأي حال من الأحوال عقاب شخص ما على شيء لم يرتكبه (بعد)؟ قد نرى أن العقاب إجراء انتقامي في الأساس؛ أي إننا ننزل العقاب بأحدهم جزاء ما اقترفه من جرم؛ إنه رد فعل على الاعتداء، سبيل لتصفية الحسابات، إن جاز التعبير. تلك ليست الرؤية الوحيدة لفكرة العقاب، لكنها رؤية شائعة للغاية، ووفقا لها، تصبح مبادرة منع الجريمة قبل وقوعها قائمة على أساس سيئ الإعداد. هي دعوة لتصفية الحسابات قبل أن يظهر الصراع، ومحاولة للرد على فعل لم يحدث. وذلك نوع من الالتباس. إذا كانت فكرتنا عن العقاب بصفته إجراء انتقاميا في الأساس صحيحة، فسيصبح السبيل الأمثل لاستخدام قدرات العرافين هو «منع» الجريمة لا «المعاقبة» عليها قبل وقوعها. على سبيل المثال، قد يوضع المجرمون المستقبليون رهن اعتقال وقائي قصير المدى بدلا من معاقبتهم بشكل من الحياة أشبه بالموت. إذا كان المجرم قد شرع بالفعل في ارتكاب فعل القتل قبل أن يتمكن شرطيو منع الجريمة من القبض عليه، فمن الملائم وقتها توجيه تهمة الشروع في القتل إليه. إذا كانت الجريمة لا تزال في طيات المستقبل؛ أي مجرد نية أو نية مستقبلية، فلا مبرر حينئذ لإنزال العقاب.
أما القضية الثانية التي تطرحها مبادرة منع الجريمة قبل وقوعها فتخص العلاقة بين الإرادة الحرة والمسئولية الأخلاقية. إذا كانت مبادرة منع الجريمة قبل وقوعها تعمل على أكمل وجه - إذا كانت نبوءة العرافين صحيحة دون ريب - فسيكون صحيحا حينئذ أن الأفراد الذين حددهم العرافون سيقتلون حتما إلا إذا منعوا من ذلك؛ فقدرهم هو ارتكاب جريمة القتل إلا إذا منعوا. لكن ما نوع الاختيار المتاح أمامهم حقا ؟ بما أن جريمة القتل هي قدرهم، فيبدو أن هؤلاء المجرمين المستقبليين لا يملكون خيارا حقيقيا فيما يتعلق بمستقبلهم . وإذا لم يكن أمام المرء خيار سوى فعل شيء ما، فهل هو حقا مسئول أخلاقيا عن فعل ذلك الشيء؟ يدفعنا الفيلم إلى الاعتقاد بأنه يتحمل المسئولية عن ذلك. تنتقد مبادرة منع الجريمة قبل وقوعها في الفيلم لا لأنها قائمة على أساس خاطئ، بل لأن تنبؤات العرافين، كما تكشف الأحداث، تخطئ في بعض الأحيان. لكن لماذا يحق لنا تحميل شخص ما مسئولية أخلاقية على قرارات قدر له اتخاذها؛ أي على قرارات لا يمكنه تجنب اتخاذها؟ يحاول بعض الفلاسفة - يطلق عليهم التوافقيون، وسنناقش آراءهم بمزيد من التفصيل لاحقا في هذا الفصل - الإجابة عن تلك الأسئلة عبر ربط ملكية الاختيار بالمسئولية. ربما كان الأفراد مسئولين عن اختياراتهم ما دامت تلك الاختيارات هي بالفعل «اختياراتهم». وما داموا هم أنفسهم أصحاب الاختيار بالكامل، فقد يكونون مسئولين عنه بالفعل. وقد يكونون مسئولين سواء كان مقدرا لهم اتخاذ هذا الاختيار أم لا. ربما لا يكون الأفراد مسئولين عن أفعال أجبروا على فعلها. تخيل شخصا يقتل تحت تأثير التنويم المغناطيسي.
3
أو تخيل شخصا يمر بنوبة ذهان بحيث لا يستطيع التحكم في عمليات التفكير واتخاذ القرار. عندما يجبر الأشخاص على الفعل، لا تنبع تصرفاتهم من إرادتهم الحرة. وإذا كانوا لا يتصرفون بدافع من إرادتهم الحرة، فلا ينبغي تحميلهم المسئولية.
هكذا إذن قد نرى مبادرة منع الجريمة كما تظهر في مستهل الفيلم؛ من المفترض أن العرافين يحددون فحسب الأشخاص الذين قدر عليهم ارتكاب جريمة قتل. ليس لدى هؤلاء المجرمين المستقبليين مستقبل بديل؛ إذ لا يمكنهم رفض قدرهم. وشرطيو منع الجريمة وحدهم هم القادرون على منعهم من القتل. مع ذلك، فإن خيار القتل هو بأكمله خيارهم، ولم يجبرهم أحد عليه، وهم متحكمون تماما في ملكاتهم الفكرية والتأملية، لكنهم إذا لم يمنعوا فسوف يقتلون. هم مسئولون إذن عن جرائم القتل أو سيصبحون مسئولين عنها.
4
من هذه الناحية فقط على الأقل، قد لا تبدو مبادرة منع الجريمة قبل وقوعها ظالمة إلى هذا الحد في التعامل مع المذنبين المستقبليين في النهاية.
ومن ثم يصبح لدينا منظوران للقدر والاختيار، كلاهما يجسده «تقرير الأقلية». حسب المنظور الأول، تتطلب الإرادة الحرة الحقة وجود مستقبل بديل؛ فلكي نمتلك إرادة حرة لا بد أن تتاح لنا إمكانية الهرب من قدرنا؛ لا بد أن نمتلك القدرة على الاختيار بين مستقبلين كلاهما متاح على حد سواء. أما المنظور الثاني، فيقتضي تحملنا المسئولية عن الاختيارات التي نتخذها بأنفسنا دون تدخل الآخرين. إذا اتخذنا خيارا ما، واتخذناه مستخدمين الموارد التي تتيحها لنا عقولنا، فإن هذا الاختيار يصبح خاصا بنا؛ ومن ثم نتحمل المسئولية عنه. كيف يرتبط هذان المنظوران أحدهما بالآخر؟ لاستيضاح ذلك، سنحتاج إلى الاطلاع على بعض الموضوعات الفلسفية. لكن أولا توجد مسألة مربكة نوعا ما في حبكة «تقرير الأقلية» علينا محاولة استيعابها.
ماذا يرى العرافون؟ يرون جرائم قتل. لكن كيف يمكنهم رؤيتها ما دامت جرائم القتل قد منعت؟ يحاول الفيلم التعامل مع هذه المشكلة، لكنها محاولة ضعيفة نسبيا. فيما يلي حوار بين داني ويتوير (محقق من مكتب المدعي العام)، وجوردن فليتشر (شرطي منع الجريمة) وجون أندرتون (رئيس مبادرة منع الجريمة قبل وقوعها):
ويتوير :
فلنكن صرحاء، نحن نعتقل أفرادا لم يخرقوا أي قانون.
فليتشر :
لكنهم سوف يخرقون القانون، ارتكاب الجريمة هو فعل غيبي تماما. والعرافون يكشفون المستقبل ولا يخطئون أبدا.
ويتوير :
لكن المستقبل لا يصبح كذلك إذا منعت حدوثه. ألا يعد ذلك مفارقة جوهرية؟
أندرتون :
نعم هو كذلك. أنت تتحدث عن قدر محتوم، وهو أمر شائع الحدوث. (يدحرج أندرتون كرة على سطح مكتبه، فيلتقطها ويتوير قبل أن تسقط أرضا.)
لماذا التقطتها؟
ويتوير :
لأنها كانت ستقع.
أندرتون :
أأنت واثق من ذلك؟
ويتوير :
أجل.
أندرتون :
لكنها لم تقع، لقد التقطتها. حقيقة أنك منعت سقوط الكرة لا يغير شيئا من حقيقة كونها كانت ستسقط على الأرض.
ويتوير :
هل واجهت من قبل أي حالات إيجابية كاذبة؟ كأن ينتوي أحدهم قتل رئيسه في العمل أو زوجته لكنه لا ينفذ خطته أبدا؟ كيف يستطيع العرافون إدراك الفرق؟
أندرتون :
العرافون لا يرون ما تنتوي فعله، بل يرون ما ستفعله فقط .
إذن يرى العرافون ما «سوف» تفعله. إلا أنك لن تفعله، شيء ما سيوقفك: وحدة منع الجريمة. ذلك ليس نوعا عجيبا من المفارقة، بل هو تناقض صريح. العرافون لا يرون الأشياء التي ستحدث، بل يرون الأشياء التي «ستحدث إذا لم يوقف حدوثها شرطيو منع الجريمة». إنهم يرون نوعا من المستقبل المشروط. كيف يمكننا تفسير هذا النوع من الإدراك المسبق؟ مبدئيا يجب عدم تفسيره على هذا النحو: المعلومات القادمة من المستقبل تقفز إلى الحاضر فتغير المستقبل؛ فقد يبدو هذا التفسير لا بأس به عندما تطرحه سريعا، لكنه في حقيقة الأمر لا يحمل أي معنى تقريبا. إن إعادة كتابة المستقبل على هذا النحو لا تقل في عدم منطقيتها عن إعادة كتابة الماضي. إذا كانت المعلومات التي نحن بصددها تأتي من المستقبل ولا تحدث جريمة في المستقبل، فمن المفترض أن تعكس المعلومات ذلك. من المفترض أن يرى العرافون اعتقال شخص ما لا جريمة قتل. لكن نظرا للالتزامات السردية الأخرى لدى كاتبي سيناريو الفيلم - سكوت فرانك وجون كوهين
5 - فإنه كان لديهما مبرر قوي لتجنب الحل البديهي المتمثل في تصوير رؤى العرافين لعملية اعتقال. فمن المهم لحبكة الفيلم أن يخطئ العرافون أحيانا. هم يرون مستقبلا بعينه، لكن لدى الأفراد القدرة على تغيير المستقبل؛ ففي بعض الأحيان يكون لديهم مستقبل بديل، ويمكنهم تغيير قدرهم. وهي حقيقة يقدم لنا جون أندرتون مثالا عليها. وفي نهاية الفيلم يقدم لنا لامار بيرجس - مؤسس مبادرة منع الجريمة - مثالا أكثر حسما.
بناء على ذلك، ماذا يرى العرافون فعليا عندما يشهدون جريمة قتل مستقبلية؟ إنهم لا يرون المستقبل، بل يرون مستقبلا محتملا؛ أي يرون ما كان سيصبح عليه العالم لو لم تغير نبوءتهم الأوضاع. لكن هذا ليس شكلا عاديا من أشكال تدفق المعلومات من المستقبل إلى الحاضر، بل يتضمن الاطلاع على شيء مختلف كليا: لا مستقبل هذا العالم، بل مستقبل عالم محتمل مشابه. وفكرة أن أحد سكان عالم محتمل يمكنه فعليا الاطلاع على أحداث خاصة بعالم آخر محتمل، تبدو غير منطقية وفقا لأي رؤية متماسكة لمفهوم العوالم المحتملة. إن الخطأ الفلسفي الذي وقع فيه كاتبا السيناريو هو التركيز على «رؤية» المستقبل. إذا كان العرافون يستنتجون، بطريقة غامضة، مستقبلا مشروطا بدلا من رؤيته رأي العين، فستمضي القصة في مسارها دون مواجهة هذا القدر من العقبات الميتافيزيقية (على الرغم من أن فكرة استنتاج المستقبل بهذه الطريقة فكرة سخيفة في حد ذاتها). لكن في الوضع الحالي، لا يمكننا إنقاذ القصة مما تتضمنه من التباس.
مع ذلك، حقيقة أن الأسس الميتافيزيقية لفيلم «تقرير الأقلية» واهية بالفعل لا تحرم الفيلم من نزعته الفلسفية؛ فهو لا يزال يجسد نموذجا اختباريا مثيرا للاهتمام بالفعل، من أجل تقييم معتقداتنا البديهية حول الحرية والقدر والمسئولية. دعونا إذن نحول أنظارنا إلى الفلسفة التي يستند إليها هذا الجانب من الفيلم.
فلسفة القدر
القدرية هي الرؤية الدافعة بأن كل أفعالنا محتومة، وأننا عاجزون عن تغيير قدرنا. وهي تتضمن ثلاث تنويعات رئيسية: القدرية الميتافيزيقية والقدرية اللاهوتية والحتمية السببية، وجميعها محل جدل فلسفي. القدرية الميتافيزيقية (يطلق عليها أحيانا القدرية المنطقية) هي استنتاج توصل إليه بعض الفلاسفة من النظرية الرباعية الأبعاد للزمن التي عرضناها في الفصل السادس. تذكر قصة السفر عبر الزمن التي بدأنا بها فصلنا الحالي، حيث سافرت إلى مستقبل يبعد 36 ساعة عن زمنك، وشاهدت نفسك ترتكب جريمة قتل. لقد أصبح قدرك محسوما، وأصبح ارتكابك جريمة القتل حقيقة مستقبلية، وبما أنها ستحدث، فلا يمكنك فعل أي شيء لمنعها من الحدوث. تلك هي طبيعة الحقائق. وفقا للميتافيزيقية القدرية، جميع حقائق المستقبل محسومة بالفعل على هذا النحو. والشيء الغريب الوحيد في قصتنا هنا هو أنك عرفت قدرك مسبقا، لكن وجود قدر لكل منا لا يعتمد على معرفتنا له؛ فلكل منا قدره بصرف النظر عن ذلك. وما الحياة سوى مهمة اكتشاف هذا القدر. تضيف القدرية اللاهوتية بعدا خاصا إلى هذه القصة عبر الاحتكام إلى علم الله وقدرته غير المحدودة؛ فعندما قرر الله خلق العالم كان على علم تام بكل حدث سيقع فيه. وإذا كان يريد منا التصرف على نحو مختلف ، فقد كان بوسعه خلق عالم مختلف. نحن إذن ضحايا اختيار الله.
يهدد كل من القدرية الميتافيزيقية والقدرية اللاهوتية فيما يبدو اعتقادنا بأننا أفراد أحرار؛ إذ تصورنا ككائنات عاجزة عن تبديل مصيرها؛ أي ضحايا للحقائق المستقبلية أو ضحايا لاختيارات الله فيما يتعلق بالخلق. أما النوع الثالث من القدرية وهو الحتمية السببية، فيجعلنا ضحايا الماضي. وهي الرؤية التي غالبا ما سنشير لها اختصارا بالحتمية، ومفادها أن كل وضع يعيشه العالم استلزم وجوده وضع سابق للعالم. عندما دحرج أندرتون الكرة على سطح مكتبه، تآمرت قواعد الفيزياء جنبا إلى جنب مع شتى عناصر الموقف كي تضمن تدحرج الكرة حتى نهاية المكتب ثم سقوطها أرضا. لا خيار أمام الكرة سوى التدحرج على سطح المكتب حتى تسقط. وهذا معناه - على سبيل التقريب - أنه نتيجة لقواعد الفيزياء ذات الصلة، ولوضع الكرة المبدئي قبل أن تشرع في رحلتها على سطح المكتب، إلى جانب الظروف الأخرى المحددة للموقف (مثل الاحتكاك بين الكرة وسطح المكتب، والضغط الجوي، وجاذبية الأرض، وعدم وجود عوائق، وغيرها من الظروف المعيقة)، لا بد أن تتدحرج الكرة، لا سبيل أمامها سوى التدحرج. لكن ويتوير يلتقطها بعد ذلك. ماذا حدث هنا؟ لقد رأى ويتوير الكرة، وقدر مسار رحلتها بمجرد أن غادرت سطح المكتب، ثم قرر التقاطها، فجهز عضلاته، واتخذ وضع الالتقاط، وشعر باصطدام الكرة براحة يديه، وأخيرا أطبق أصابعه حولها. هذا بالطبع شرح مختصر لفعل الالتقاط؛ إذ توجد الكثير من العمليات الأخرى التي يتطلبها إتمام هذا الفعل. لكن هل أي من النقاط المتضمنة في تسلسل العلة والمعلول السابق تختلف عن كونها مجرد وصف أكثر تعقيدا لعملية تدحرج الكرة؟ هل توجد أي نقطة في هذا التسلسل لا تستلزمها أوضاع سابقة؟ ربما كان قرار ويتوير بالتقاط الكرة هو أوضح نقطة؛ فالقرار هو فعل عقلي. هل هو مجرد عنصر آخر من تسلسل العلة والمعلول الذي يفرض تأثيره في هذا السيناريو؟ هل قرار ويتوير فرضته الأوضاع السابقة؟ يجيب الحتميون عن هذا السؤال بنعم؛ فهم يعتقدون أن كل ما يحدث في هذا العالم استوجبته أوضاع سابقة له؛ ومن ثم فقرار ويتوير بالتقاط الكرة الساقطة استلزمته الأوضاع السابقة للعالم (الأوضاع السابقة لدماغه على الأرجح).
إذن تمثل الحتمية سبيلا آخر لجعل أقدارنا محسومة. إذا كانت الحتمية صحيحة، فإن كل قرار نتخذه استوجبته أوضاع سابقة في هذا العالم. ويمتد تسلسل الحتمية هذا إلى ما قبل مولدنا؛ فكل فكرة خطرت ببالنا، وكل خيار اتخذناه كان محسوما من قبل أن نولد. لقد وقعنا في قبضة عالم ميكانيكي لا يرحم. لكن ربما جانب الحتميين الصواب في هذه النقطة؛ فهناك مبرر قوي يدفعنا للاعتقاد بأن بعض الأحداث على الأقل لا تستوجبها أوضاع سابقة للعالم. ويبدو أن أحداثا في مناطق محدودة للغاية من العالم تحكمها قوانين لا تستوجب - بل تعدد - احتمالات ما يمكن أن يقع. على سبيل المثال، قد تنص قوانين الفيزياء على أن ذرة عنصر البلوتونيوم احتمال تحللها في غضون 24100 عام (تقريبا) هو 50 بالمائة إذا تحللت الذرة فجأة، يصبح هذا التحلل أمرا غير متوقع لأنه لا يوجد ما يحتم حدوثه. لم يكن لزاما على الذرة التحلل اليوم. لكن هذا هو ما حدث فحسب. إذا كانت قصة التحلل الإشعاعي هذه صحيحة، فيمكننا القول بأن بعض الأحداث على الأقل لا تستوجبها أحداث ماضية. هل يساعدنا هذا على الهرب من فكرة الحتمية فيما يتعلق باختيارات البشر؟ لا يمكننا الجزم بهذا على الإطلاق. ربما كانت بعض العمليات السببية المتضمنة في عملية الاختيار لدينا غير حتمية، مثلما كان التحلل الإشعاعي غير حتمي. لكن ربما لا يكون الوضع كذلك أيضا. إذا كانت الاختيارات هي أحداثا تقع في دماغنا، فربما كانت تحدث على نطاق كبير بما يكفي لأن تصبح معها قوانين اللاحتمية غير منطبقة عليها. وربما كانت حالة اللاحتمية الواضحة على المستوى الكمي تنعكس على مستوى الأحداث الدماغية. إذا كانت الأحداث العقلية هي أحداثا دماغية، فربما كانت تخضع بالفعل لنظام حتمي لا محالة قائم على السبب والنتيجة.
لدينا إذن ثلاثة أشكال من القدرية، قائمة على مسلمات مختلفة، ولا ينبغي الخلط بينها. القدرية اللاهوتية والحتمية السببية تضفيان مكونا إضافيا خاصا بهما إلى الموقف القدري الميتافيزيقي؛ فتضيف القدرية اللاهوتية خلق الله المطلق القدرة والعلم لهذا العالم، بينما تضيف الحتمية السببية فكرة أن الماضي يستلزم المستقبل. يمكن للمرء اعتناق وجهة النظر القدرية الميتافيزيقية دون أن يكون مؤمنا بالحتمية، لكن العكس مستبعد. لا يتضح أي نوع من القدرية - القدرية الميتافيزيقية أم الحتمية السببية - يتناوله فيلم «تقرير الأقلية». لكن هذا لا يهم كثيرا لأن اهتمامات الفيلم الفلسفية تكمن غالبا في الروابط المفاهيمية التي يخلقها بين القدرية والإرادة الحرة والمسئولية الأخلاقية. لا يمنحنا الفيلم أي مبرر للإيمان بالقدرية أو نبذها، لكنه يطرح أسئلة مفاهيمية حول العلاقة بين الإرادة الحرة والمسئولية الأخلاقية والقدر.
فلسفة الإرادة الحرة والمسئولية الأخلاقية
القضية الفلسفية المهمة في هذه المرحلة تتمحور حول السؤال التالي: كيف يؤثر شكل أو آخر من أشكال القدرية على إمكانية وجود الإرادة الحرة والمسئولية الأخلاقية؟ ثمة منهجان فلسفيان رئيسيان للتعامل مع هذه القضية، وهما التوافقية واللاتوافقية.
يرى أتباع المنهج اللاتوافقي أن الإرادة الحرة لا تتوافق مع القدرية؛ فلكي يكون المرء حرا في أفعاله لا بد أن يكون المستقبل مفتوحا؛ ما يعني أن المستقبل لا يقرره الماضي (بحيث نتفادى الحتمية السببية) أو أن المستقبل ليس واقعا بعد (بحيث نتفادى الحتمية الميتافيزيقية). تتطلب النظريات اللاتوافقية للإرادة الحرة ألا تقرر الأحداث الماضية اختيارات البشر (بحيث نتفادى الحتمية السببية). وقد يرجع ذلك إلى أن الاختيارات لا تدفعها أسباب، أو تدفعها أسباب لا تتعلق بأحداث سابقة، أو تدفعها أسباب خاصة بالشخص نفسه. الاحتمال الأخير قائم على فرضية تدعى سببية الفاعل، وهي نوع من السببية يدفع بأن الأحداث لا يتسبب في وقوعها القوى السببية للأحداث الماضية، بل القوى السببية للجوهر؛ أي الفاعل نفسه. حسب نظريات سببية الفاعل، يوجد نوعان من السببية. في بعض الأحيان تتضمن السببية وجود علاقة بين الأحداث (كأن يأتيك الضوء بعدما تضغط على زر الإضاءة)، وفي أحيان أخرى يتضمن علاقة بين الجوهر - وهو الفاعل - والحدث (كما في حالة خلق الله للعالم، أو عندما يتخذ الفرد قرارا). غالبا ما ينظر إلى سببية الفاعل على أنها رؤية معادية للسببية، لكن النظريات اللاتوافقية البديلة للإرادة الحرة تملك معضلات خاصة بها كذلك؛
6
فإرجاع القرارات الحرة إلى حدث سببي غير حتمي يجرنا إلى معضلة الحظ. إذا كان القرار الحر لا يرجع سببه إلى حدث سابق، فما الذي يمنع كونه مجرد نتيجة للحظ؟ وكيف يصبح إرجاع أفعالنا إلى أحداث عرضية سعيدة الحظ أو أخرى سيئة الحظ دليلا على حريتنا؟
على الجانب الآخر، يطرح التوافقيون وجهة نظر مختلفة للغاية حول العلاقة بين الإرادة الحرة والقدرية؛ فهم يعتقدون أن الإرادة الحرة تتوافق مع القدرية. من المنظور التوافقي يكون الفرد حرا في تصرفاته ما دام اختياره لا يخضع لتدخل الآخرين؛ أي ما دام مسئولا مسئولية كاملة عن أفعاله. يترتب على ذلك أن يصبح في وسع أتباع الرؤية الحتمية السببية والرؤية القدرية الميتافيزيقية على حد سواء القول بأن اختيارات المرء من صنعه هو. لكن ما يتطلبه الاختيار كي يصبح من صنع المرء مثار جدل كبير. يرغب التوافقيون في استبعاد حالات الإكراه (على سبيل المثال، عندما تضطر إلى الاختيار تحت تهديد السلاح أو تحت تأثير التنويم المغناطيسي أو ربما تحت تأثير الإدمان). وفي معظم الأحيان، يرغب التوافقيون كذلك في استبعاد الحالات التي لا يمكن الجزم فيها بأنك قد قررت على نحو ملائم أن تفعل أي شيء على الإطلاق. على سبيل المثال، قد تتصرف دون تفكر واع، وفي تلك الحالة يبدو الفعل أشبه بحادث مفاجئ وقع لك، أو قد تتصرف عندما لا تكون متحكما تماما في قدراتك العقلية؛ أي دون أن تكون قادرا على التفكر مليا، كأن تكون تحت تأثير عقار ما مثلا أو في خضم نوبة ذهان.
خطت صفحات لا حصر لها في كتب الفلسفة لمناقشة مزايا كل من التوافقية واللاتوافقية. ويتصل بهذا الجدل جدل آخر حول العلاقة بين التصرف بحرية والمسئولية الأخلاقية. وكما شاهدنا لتونا، يعتقد التوافقيون أننا قد نكون أحرارا في تصرفاتنا حتى لو كانت أفعالنا قدرية. بعبارة أخرى: هم يرون أن في وسعنا التصرف بحرية حتى لو لم يكن بوسعنا التصرف على نحو مغاير للقدر. ويميلون أيضا إلى الإصرار على أننا مسئولون أخلاقيا عن أفعالنا الحرة؛ ومن ثم نصبح مسئولين أخلاقيا عن فعل ما حتى لو لم يكن بوسعنا فعل غيره. يرفض اللاتوافقيون بوجه عام هذه الرؤية. ويميلون إلى الإصرار على أننا لا نكون مسئولين أخلاقيا إلا عن الأفعال التي نملك اختيارا «حقيقيا» فيما يتعلق بفعلها من عدمه، والاختيار الحقيقي يتطلب مستقبلا غير محدد. في ضوء الرؤية اللاتوافقية، نحن لا نملك اختيارا حقيقيا فيما يتعلق بفعل شيء من عدمه إذا كان قد تقرر بالفعل أننا سنفعل ذلك الشيء.
رغم ذلك، يجدر بنا ملاحظة أننا نتعامل هنا مع قضيتين منفصلتين، تتعلق إحداهما بالإرادة الحرة بينما تتعلق الأخرى بالمسئولية الأخلاقية. ربما يمكننا توضيح خياراتنا إذا تعاملنا مع كل قضية على حدة. وتلك هي الاستراتيجية التي اتبعها الفيلسوف جون مارتن فيشر (1994؛ 1998). يميز فيشر بين طريقتين يتحكم من خلالهما الفرد بأفعاله، ويطلق عليهما التحكم التوجيهي والتحكم التنظيمي. يمكن القول بأننا متحكمون توجيهيا في أفعالنا إذا كانت نابعة من تفكير يستجيب على نحو مناسب للمنطق. بعبارة أخرى: يصبح لدينا تحكم توجيهي إذا فكرنا فيها مليا، واستخدمنا المنطق من أجل توجيه قراراتنا. لا حاجة لنا باستخدام المنطق استخداما فعالا حقا؛ فربما نتخذ رد فعل بناء على أسباب طائشة، أو ربما نخفق في إعطاء الأسباب ما تستحقه من أهمية. مع ذلك، ما دمنا قد استخدمنا قدراتنا الفكرية استخداما يفي بالحد الأدنى المناسب، يمكن القول بأننا قد وجهنا أفعالنا. إن تحديد تفاصيل التحكم التوجيهي مهمة لا تختلف في جوهرها عن مهمة تطوير وجهة نظر توافقية فيما يتعلق بالإرادة الحرة؛ فالتحكم التوجيهي لا يتطلب القدرة على مراوغة القدر؛ فقد نتمتع بالتحكم التوجيهي في فعل ما حتى إذا كان مقدرا لنا مسبقا فعله، بل يتطلب التحكم التوجيهي أن نفعل فحسب قدرتنا على التفكر مليا على نحو ملائم. (لا يكافئ التحكم التوجيهي القدرة على تغيير مصيرنا.) على الصعيد الآخر، يعرف التحكم التنظيمي بأنه نوع من التحكم في الأفعال نمتلكه إذا كان بوسعنا حقا تنظيم حدوثها أو عدم حدوثها. ولكي نتمتع بالتحكم التنظيمي في أفعالنا لا بد أن نقدر حقا على اختيار مغاير لما قدر لنا؛ إنه يتطلب أن يكون المستقبل مفتوحا أمامنا حقا. هكذا يميز فيشر بين مفهوم توافقي للتحكم في أفعالنا (التحكم التوجيهي) ومفهوم غير توافقي للتحكم في أفعالنا (التحكم التنظيمي). تذكر أن علينا الإجابة عن سؤالين مختلفين: ما المطلوب منا كي نملك إرادة حرة؟ وما المطلوب منا كي نصبح مسئولين أخلاقيا عن أفعالنا؟
يعتقد فيشر أن التحكم التوجيهي فقط ضروري لوقوع المسئولية الأخلاقية. قد نحتاج إلى التحكم التنظيمي إذا أردنا أن نوصف بأننا أحرار بمعنى الكلمة، لكننا نحتاج إلى التحكم التوجيهي كي نصبح مسئولين أخلاقيا عن أفعالنا. يوظف فيشر ها هنا حجة طرحها فيلسوف آخر، وهو هاري فرانكفورت، الذي حاول إثبات أن التحكم التوجيهي هو نوع التحكم الوحيد الذي تتطلبه المسئولية الأخلاقية. تعتمد حجة فرانكفورت على تجربة افتراضية؛ تخيل قاتلا محترفا عقد عزمه على قتل مرشح سياسي أثناء حشد انتخابي. لقد اتخذ القاتل قرارا نهائيا بتنفيذ عملية الاغتيال، لكن من يعمل لديهم قرروا اتخاذ إجراء احترازي؛ إذ زرعوا داخل دماغه شريحة إلكترونية؛ صمام أمان يضمن تنفيذ المهمة. فإذا تملك الخوف القاتل في اللحظة الأخيرة، وأوشك على اتخاذ قرار بالتراجع عن التنفيذ، يجري تنشيط هذه الأداة، وترسل إشارة إلى دماغ القاتل تجبره على اتخاذ قرار بإطلاق النار. والآن تخيل أن القاتل نفذ بالفعل العملية دون الحاجة إلى تفعيل صمام الأمان؛ حينئذ يبدو من الواضح أنه مسئول عن فعل إطلاق النار. ومع ذلك، فإنه قدر له اتخاذ قرار بإطلاق النار، ولم يكن بوسعه فعل أي شيء آخر إلا اتخاذ القرار الذي اتخذه. من الممكن إذن أن يكون المرء مسئولا مسئولية أخلاقية كاملة عن أفعاله حتى لو لم يكن بوسعه تقرير فعل شيء مخالف؛
7
ومن ثم من الممكن أن يصبح المرء مسئولا مسئولية أخلاقية كاملة عن أفعاله حتى إذا لم يتحكم فيها على نحو تنظيمي.
لم تقنع حجة فرانكفورت الجميع.
8
نعرض فيما يلي استراتيجية جدلية نموذجية مناقضة لتلك الحجة. تكمن الفكرة في فرض المعضلة التالية على حجة فرانكفورت: العمليات التي تؤدي إلى قرار القاتل إما حتمية وإما غير حتمية، ثم إثبات أن حجته تخفق في تحقيق شروط أي من وجهي المعضلة. فلنتأمل ما سوف تصير إليه حجة فرانكفورت إذا كانت العمليات التي تؤدي إلى القرار غير حتمية. إذا كانت العمليات غير حتمية، فلن يعرف موجهو القاتل متى ينبغي لهم التدخل. لا بد أن يكونوا قادرين على التدخل قبل أن يختار، وإلا فلن يتمكنوا من التحكم في اختياره، بل سيجبرونه على إطلاق النار رغما عن إرادته. لكن متى يستطيعون التدخل؟ إذا حددوا وقتا بعينه وقالوا «إن جميع المؤشرات تدل على أن القاتل سيقرر ألا يطلق الرصاص، علينا التدخل الآن.» فهم لم يستبعدوا احتمالية اتخاذ القاتل قرارا مختلفا؛ إذ لا يزال لديه فرصة لاتخاذ خيار مختلف بما أن عقله يعمل وفقا لنظام غير حتمي. إذن تخفق الحجة في الوفاء بشروط الوجه الأول من المعضلة. والآن فلنتأمل الوجه الآخر، إذا كانت العمليات المؤدية إلى قرار القاتل حتمية، فسيصبح أي نشاط يفعله موجهوه بلا أهمية من المنظور الفلسفي. فما سيحدث قد تقرر بالفعل نتيجة تاريخ من المسببات الماضية يمتد إلى ما قبل ميلاد القاتل، وما سيفعله الموجهون قد تقرر ضمن هذا التاريخ ذاته. إذن ليس بوسع الموجهين إضافة أي شيء إلى سياق الأحداث الحتمي السببي؛ ومن ثم لا يمكننا استغلال وجودهم في القصة لإثبات أي حقيقة لها صلة بالعلاقة بين المسئولية الأخلاقية والتحكم التنظيمي في الأفعال التي لا نستطيع إثباتها إلا من خلال تأمل الحتمية السببية وتبعاتها الفلسفية. والسؤال حول ما إذا كانت المسئولية الأخلاقية تتطلب تحكما تنظيميا أم لا ينبغي محاولة فهمه من منظور مختلف. وهكذا تخفق حجة فرانكفورت في تحقيق شروط الوجه الثاني من المعضلة. ونظرا لإخفاق الحجة في الوفاء بشروط وجهي المعضلة كليهما، فقد أخفقت إذن كحجة. ربما توجد فرصة لإنقاذ حجة فرانكفورت من هذا النقد، لكن دعونا نعد إلى فيلمنا لنرى ما إذا كان بوسعنا إيجاد سبل دعم بديلة لموقف فرانكفورت وفيشر أم لا.
9
مذنب بلا ذنب ومجرم بلا جريمة
عندما يقدم لنا صناع «تقرير الأقلية» مبادرة منع الجريمة قبل وقوعها، يخبروننا أن المجرمين المستقبليين سيقتلون لا محالة إذا لم يوقفهم أحد. ويقدمون دليلا مثيرا على هذا من خلال عرض هاورد ماركس، الذي لم يكن يفصله عن قتل زوجته وعشيقها، مثلما تنبأ العرافون تماما، سوى لحظات عندما يلقي شرطيو منع الجريمة قبل وقوعها القبض عليه. جريمة هاورد ماركس هنا هي الشروع في القتل. لكن فلنفترض على سبيل المثال أن شرطيي منع الجريمة ألقوا القبض عليه قبل لحظات من شروعه في أولى خطوات ارتكاب الجريمة؛ فما الإثم الذي ارتكبه في هذه الحالة؟ أهو حمل مقص في منزله؟ إن الافتراض الأخلاقي الأساسي الذي تقوم عليه مبادرة منع الجريمة يتمثل في أن ماركس الذي منع من ارتكاب جريمته لا يقل ذنبه عن ماركس الذي يقتل بالفعل. تتعدد الأسباب التي تجعلنا غير راضين عن هذا الافتراض الأخلاقي، لكن الفكرة القائلة بأن المجرمين المحتملين لا يتحملون مسئولية أخلاقية عن فعلتهم؛ لأن ارتكاب جريمة القتل هو قدرهم، ليست من بين تلك الأسباب. يسلط الفيلم دون شك الضوء على الحجة المعارضة. ولا ينهار الأساس الأخلاقي لمبادرة منع الجريمة في عين أندرتون إلا عندما يكتشف أن بعض المجرمين المستقبليين (أبرزهم أندرتون نفسه) لديهم مستقبل بديل. يوجد مبرر قوي لهذا بالطبع؛ إذا كان لأحدهم مستقبل بديل، فإنه يصبح لديه تحكم تنظيمي لأفعاله، وعندئذ لا تعد نبوءات العرافين موثوقا بها؛ فالشخص الذي يملك تحكما تنظيميا في شئونه قد يقرر تنفيذ جريمة القتل (وقد أوشك أندرتون على فعل ذلك) أو يمتنع عن ارتكابها. وإذا كان متحكما تحكما تنظيميا، لا يصبح مستقبله مقررا فعليا، ولا يصبح مذنبا بأي شيء لم تقترفه يداه. على الجانب الآخر، إذا لم يتح للمجرمين المستقبليين سوى تحكم توجيهي في أفعالهم، فقد تظل نبوءات العرافين في هذه الحالة صحيحة، وستبدو مبادرة منع الجريمة مرتكزة على أسس أكثر صلابة، على الأقل في هذا الجانب.
يستثير «تقرير الأقلية» بديهيات داعمة لفكرة أن التحكم التوجيهي يكفي وحده لوقوع المسئولية الأخلاقية. ويحقق ذلك عبر تقديم فكرة قاتل بحكم القدر ثم تطويرها على مدار السرد بما يكفي ليمكننا من الإجابة عن السؤال التالي: هل القتلة - بحكم القدر - معفون من المسئولية الأخلاقية عن أفعالهم، لا لسبب سوى أن «القدر» قد كتب عليهم القتل؟ وهو سؤال يتيح لنا التعقيد السردي للقصة وطريقة عرضها الإجابة عنه إجابة حاسمة، وهي بالنفي طبعا. لكن «تقرير الأقلية» فيلم في غاية التعقيد، ومن الصعب تحديد ما إذا كانت معتقداتنا البديهية قد تعرضت للتشويه جراء هذا التعقيد. لقد أثبت الفيلم براعة في التلاعب بمشاعر التعاطف لدينا، بدءا من تعاطفنا المبدئي غير المدروس مع مبادرة منع الجريمة قبل وقوعها (إذ نرى وحدة منع الجرائم تنقذ أرواح أشخاص أبرياء) وانتهاء بكرهنا لها (إذ نشهد العديد من أساليب التعامل غير العادلة لا سيما فيما يتعلق ببطلنا التعيس الحظ أندرتون). وهكذا تتبدى مزايا مبادرة منع الجريمة باطراد أمام أعيننا مع تطور أحداث الفيلم؛ فلا ينقذ شرطيو منع الجريمة المزيد من الأرواح، بل يقضون وقتهم في مطاردة بطلنا، إلى أن يلقوا القبض عليه، ويرسلوه ظلما إلى جحيم «الهالة». لا يقدم الفيلم عرضا دقيقا للجانب المعيب أخلاقيا في مبادرة منع الجريمة، لكن الفساد السابق الكامن في المبادرة يكتسب أهمية محورية؛ فمع نهاية الفيلم يبلغ بنا التقزز مبلغه، من مبادرة منع الجريمة وما أحدثته من أذى، بما في ذلك الأذى الذي أوقعته بالعرافين أنفسهم. وفي خضم هذه الدراما الأخلاقية الصاخبة، يغفل الفيلم تماما تناول أحد جوانب منع الجريمة تناولا إشكاليا، ألا وهو فكرة التوافق التام بين المسئولية الأخلاقية والقدر، أو بعبارة أخرى: فكرة أن الأفراد مسئولون عن اختياراتهم حتى لو كان مقدرا لهم اتخاذ تلك الاختيارات.
قد لا يكون التحكم التنظيمي ضروريا لوقوع المسئولية الأخلاقية، لكنه يبدو مع ذلك في غاية الأهمية بالنسبة إلينا. والنهاية السعيدة، جزئيا، ل «تقرير الأقلية» ترجع إلى انتصار الفيلم للإرادة الحرة على القدرية. فمع اللحظات الأخيرة من الفيلم يختار لامار بيرجس الانتحار بدلا من القتل، على الرغم من أن العرافين تنبئوا بجريمة قتل. وعندما يثبت لامار خطأ العرافين، فإنه لا يثبت أنه مسئول أخلاقيا عن أفعاله فحسب (وهو أمر بديهي في كلتا الحالتين)، بل يثبت كونه قادرا على صنع أفعاله لا مجرد توجيهها. يثبت بيرجس أنه ليس مجرد دمية في يد القدر. تنطوي مبادرة منع الجريمة على إشكاليتين؛ الأولى: أنها غير عادلة (إما لأنها تعاقب أناسا لم يرتكبوا جرما بعد، أو لأنها تعاقب أناسا أبرياء تماما)، والثانية: أنها أنكرت أننا نملك تحكما تنظيميا في أمورنا، وصورتنا كما لو كنا أغراضا يعبث بها القدر. أدى الإخفاق التام للمبادرة إلى تمكين سبيلبيرج من تقديم نهاية سعيدة مزدوجة (أو نهاية سعيدة متعددة الأوجه إذا أخذنا في الاعتبار ما ينعم به الأبطال الباقون على قيد الحياة من سعادة)؛ إذ أدى تدمير المبادرة إلى وضع حد لنظام ظالم واستغلالي، وإعادة تأكيد عنصر ذي قيمة جوهرية في الوضع البشري، ألا وهو كوننا صناع أفعالنا ومصدرها. لقد نجح الفيلم في تقديم دليل على أن التحكم التنظيمي مكون مهم لما نقدره فيما يخص الإرادة الحرة، بالقدر الذي سمح لسبيلبيرج بتصوير نهاية سعيدة هانئة. بالطبع لا يقطع الفيلم أي خطوات جدية في سبيل إثبات أننا نمتلك تحكما تنظيميا في شئوننا، لكن من غير المعقول توقع اضطلاع فيلم بهذه المهمة.
أسئلة
إذا كان العرافون قادرين على التنبؤ الدقيق بمحاولات الشروع في القتل، فهل تصبح مبادرة منع الجريمة قبل وقوعها مبررة وقتها؟ (تخيل نوعا من العقاب أقل قسوة من «الهالة».)
أتوجد طريقة تمكننا من فهم رؤى العرافين فهما فلسفيا؟
ما أوجه التشابه بين أنواع القدرية الثلاثة التي وصفناها في هذا الفصل؛ القدرية الميتافيزيقية والقدرية اللاهوتية والحتمية السببية؟ وهل تتساوى في قدرتها على تقويض الإرادة الحرة؟
كثيرا ما تعد سببية الفاعل موضع شك فلسفي، لماذا ؟ ما الفرص المتاحة لنظرية غير توافقية للإرادة الحرة لا تسلم بسببية الفاعل؟ هذا النوع من النظريات يقع فريسة لمشكلة الحظ. أهي حقا مشكلة؟ أمن الممكن التغلب عليها؟
تواجه النظريات التوافقية للإرادة الحرة المشكلة التالية. إذا كان قراري راجعا إلى أحداث ماضية، وإذا لم يكن لي خيار في تلك الأحداث الماضية (وفقا للرؤية الحتمية السببية، يمتد تسلسل الأحداث المؤدي إلى القرار إلى الماضي البعيد قبل ولادتي)، فإنه لم يكن لدي اختيار في القرار. كيف يمكن القول بأنني كنت حرا في قراري بينما لم يكن لدي خيار آخر سوى اتخاذ هذا القرار؟ أهذه حجة منطقية؟ أيوجد سبيل للالتفاف حولها؟
هل التحكم التنظيمي ضروري لوقوع المسئولية الأخلاقية؟ لقد عرضنا حجتين تزعمان أنه غير ضروري. تتضمن الحجة الأولى التي طرحها فرانكفورت حالات يبدو فيها أن المرء مسئول عن خياراته حتى وإن لم يكن بوسعه الاختيار على نحو مخالف. وأما الحجة الأخرى فتناشد البديهيات التي أطلق لها الفيلم العنان. لقد انتقدنا حجة فرانكفورت، لكننا قدمنا دعما مستحقا للحجة المستندة إلى الفيلم. هل تتفوق حقا الحجة المستندة إلى الفيلم على حجة فرانكفورت؟ هل البديهيات التي يثيرها الفيلم واضحة بما يكفي لدعم استنتاج فرانكفورت؟ هل تعرضت تلك البديهيات للتلاعب والتشويه عبر قصة الفيلم أو بالطريقة التي صورت بها؟
هل يوفر الفيلم دعما بديهيا لفكرة كون التحكم التنظيمي شرطا لامتلاك إرادة حرة حقيقية؟ كيف يستطيع فيلم سينمائي تحقيق ذلك؟ ما مخاطر استنباط بديهيات من الأفلام على هذا النحو؟
هوامش
الفصل الثامن
الهوية الشخصية: دراسة فيلم «تذكار»
مقدمة
الهوية الشخصية موضوع بارز وراسخ في الفلسفة، وملائم حقا للاستكشاف عبر السينما.
1
وإحدى أفضل المعالجات الفلسفية لهذا الموضوع في السينما المعاصرة هي فيلم المخرج كريستوفر نولان «تذكار» (2000).
يروي «تذكار» قصة لينارد شيلبي، وهو رجل يعاني من نوع متفاقم جدا من فقدان الذاكرة. يعاني شيلبي من حالة مرضية يطلق عليها فقدان الذاكرة التقدمي، وهي حالة طبية موثقة حيث يفقد المصاب قدرته على تسجيل ذكريات جديدة في ذاكرته الطويلة الأمد.
2
يصور نولان حالة فقدان الذاكرة التقدمي في «تذكار» تصويرا دقيقا إلى حد كبير؛ إذ نجد حالة شيلبي متفاقمة لكن قدراته الإدراكية لم تزل سليمة، وذكرياته عن التجارب والحقائق التي سجلها في ذاكرته الطويلة الأمد قبل إصابته الدماغية لا تزال كما هي. كذلك لم تتأثر ذاكرته القصيرة الأمد؛ ما يسمح له بالتركيز على تسلسل من الأحداث يدوم عدة دقائق. لكن بعد أن تمر بضع دقائق من النشاط الدماغي الواعي المترابط، دائما ما ينسى شيلبي تسلسل الأحداث ويضطر إلى محاولة التعرف مجددا على بيئته؛ أي معرفة ما قد فعله لتوه، وما يحاول تحقيقه، ومن الذي يتحدث إليه، وغير ذلك من المعلومات. لدى شيلبي قدرة تعلم بعض الأشياء عبر التعود القائم على التكرار؛ ومن ثم لا يضطر إلى بدء عملية التعرف على محيطه من الصفر في كل مرة. وهكذا يصبح في وسعه فورا إدراك النمط المنظم لحياته بينما يتنقل بين حلقة وأخرى من حلقات الوعي المترابط. يستخدم «تذكار» أسلوبا في غاية البراعة لتوضيح عملية الانتقال بين حلقات الوعي المترابط؛ فقد آثر نولان أن تسير أحداث السرد - الجزء الرئيسي منها على الأقل - في الاتجاه العكسي، بحيث يصبح الوضع المعرفي للمشاهد أشبه بوضع شيلبي.
يستعرض الفيلم الصراع الذي يخوضه شيلبي سعيا لعيش حياة مترابطة في ظل هذه الحالة السيئة من حالات فقدان الذاكرة. وبما أن الفيلم ينتمي إلى فئة التشويق، فإن الأسلوب الذي يستخدمه شيلبي لتحقيق غرضه غريب بعض الشيء. هو يسعى للانتقام أو ما يظن أنه انتقام من الرجل الذي هاجمه وهاجم زوجته، فأصابه بتلف دماغي وتعدى على زوجته جنسيا ثم قتلها. ولأنه عاجز عن خلق ذكريات جديدة طويلة المدى، تصبح مهمة تنفيذ خطة الانتقام هائلة الصعوبة. ولكي يتمكن شيلبي من تنفيذ خطته يلجأ إلى استخدام العديد من التلميحات المكتوبة والتذكارات. فيستخدم تلميحات في شكل صور؛ صورة لسيارته (أو ما يعتقد أنها سيارته) تعينه على التعرف عليها، صور للأشخاص يسجل عليها بعض الحقائق الأساسية حولهم، ويدون عليها تعليمات يوجهها إلى نفسه بخصوص كيفية معاملتهم. وقد وشم مختلف أنحاء جسده بكتابات تروي الوقائع الأساسية لخطته الانتقامية، وتعرض الحقائق الجذرية الموثوق بها التي يمكنه استخدامها. (تحذير! العبارة التالية تكشف أحداثا رئيسية في الفيلم: عندما يقرر شيلبي وشم رقم لوحة سيارة على فخذه في اللحظات الأخيرة للفيلم، يتضح أن ذلك الفعل كان تخطيطا لارتكاب جريمة قتل!) بينما يتنقل شيلبي بين حلقات الوعي المترابط، لا بد له من إعادة توطين الحقائق الأساسية حول حياته، وسعيه إلى الانتقام داخل عقله، لكنه قد تعود بوضوح على هذه العملية؛ فلا يندهش لرؤية جسده مغطى بالوشم كما قد يحدث لنا إذا استيقظنا في يوم ما لنجد جسدنا تحول على هذا النحو. وهو يعرف كيف يستخدم التذكارات التي جمعها، ويدرك معناها، ويفهم مغزى ملفات التحقيق الشرطية التي بحوزته، أو بالأحرى ما يعتقد أنه مغزاها، والملاحظات الاستقصائية التي أضافها إليها. لكن ما يعجز شيلبي عن فعله هو تكوين ذكريات جديدة واضحة - بما فيها، على وجه الأهمية، الذكريات العرضية أو الذكريات الشخصية - ومن ثم ليس لديه أدنى معرفة بماضيه المباشر، الماضي الذي نعتبره أمرا مسلما به، والذي يمنحنا شعورا بترابط الحياة.
الذكريات الشخصية أو الذكريات العرضية هي ذكريات عن تجارب لا عن حقائق. ذاكرة الحقائق يطلق عليها الذاكرة الدلالية، أما ذاكرة التجارب فيطلق عليها الذاكرة العرضية، وهما نوعان في غاية الاختلاف من الذاكرة. يقسم الفلاسفة الذكريات العرضية تقسيما إضافيا؛ فيقسمونها إلى ذكريات فعلية (وهي قد تتعرض للتشويه بطرق متعددة، لكنها تسجل تجارب فعلية مر بها الشخص الذي يتذكر) وشبه الذكريات (وهي التي تبدو كما لو كانت تسجل التجارب الماضية، لكنها قد لا تكون كذلك؛ فربما تسجل تجارب شخص آخر أو ربما هي ذكريات زائفة تماما أو ملفقة، أو قد يتضح في النهاية أنها ذكريات فعلية). شبه الذكريات هي التجارب التي نتذكر فيها «على ما يبدو» شيئا حدث لنا.
3
الذكريات الفعلية هي ذكريات حول شيء نتذكر أنه حدث فعليا لنا، ولا يدخل ضمن نطاقها الذكريات الزائفة (مثل الذكريات التي زرعت في دماغنا على نحو ما) والذكريات التي تسجل تجارب الآخرين (على سبيل المثال، قد تتذكر أنك فزت بسباق البيضة والملعقة في حفلة عيد ميلادك السادس، بينما في الواقع كانت أختك هي من فازت بالسباق، وقد استحوذت على تجربة الفوز الخاصة بها وتملكتها). إذا قلنا إن أحدهم لديه شبه ذكرى، فإننا لا نحدد بهذا على الإطلاق ما إذا كانت هذه الذكرى فعلية، أو تبدو فحسب كما لو كانت ذكرى فعلية. وسنعرف عما قريب لماذا يبرز الفلاسفة هذا الفارق.
ما الذي يستطيع فيلم «تذكار» تعليمنا إياه فيما يتعلق بالقضية الفلسفية حول الهوية الشخصية؟ للإجابة عن ذلك، نحتاج إلى تحديد المسألة الفلسفية موضع البحث.
المعضلة الفلسفية حول الهوية الشخصية
في الواقع، يوجد الكثير من المعضلات الفلسفية المثارة حول الهوية الشخصية. ندعوك إلى تأمل هذه المجموعة من الأسئلة: إلى أي «نوع» من الأشخاص أنتمي؟ ما الذي «يجعلني» أنتمي إلى هذا النوع؟ إلى أي مدى يمكنني أن أتغير، وفي الوقت ذاته أظل نفسي؟ ما الذي يجعلني شخصا من الأساس؟ أيمكن أن أوجد دون جسد؟ هل يمكن أن يستمر وجودي بعد فناء جسدي؟ هل أظل على قيد الحياة إذا كنت في حالة إنباتية مستديمة، أم هل تعني هذه الحالة نهايتي فعليا (وبناء على ذلك، في الحالة الإنباتية المستديمة يظل جسدي حيا، لكن وجودي ينتهي)؟ من بين تلك الأسئلة كلها، تطرح مجموعة منها صعوبة استثنائية، وقد جذبت انتباه معظم الفلاسفة. وهي الأسئلة العامة التي تتناول استمراريتنا عبر الزمن وعبر التغير.
الشخص هو فرد واحد، ويظل ذاك الفرد طوال فترة وجوده. ورغم ذلك يتغير الناس طوال الوقت؛ فتتغير عقولنا، بينما نخوض تجارب جديدة، ونكون ذكريات جديدة، ونصوغ شخصيتنا أو نبدل منها ببطء. في كثير من الصور الدينية التقليدية التي تجسد الحياة الأخرى، يمثل الموت نوعا من الانبعاث على وجود جديد؛ فمن خلال الموت يحدث لنا تحول جذري، ورغم ذلك فإننا نظل - بطريقة ما - «أحياء» بعد موتنا. أهذا ممكن بأي حال من الأحوال؟ ما معنى قولنا بأننا نظل أحياء في حالة كهذه؟ الإجابة الطبيعية هي القول بأننا نظل أحياء في حال ما إذا كان الفرد الذي مات هو نفسه الفرد الذي يوجد بعد الموت، بعدما مر بتحول جذري، وأصبح الآن يغني في جوقة من الملائكة.
4
هذا سؤال حول استمراريتنا؛ أي عن هويتنا عبر الزمن، وعن هويتنا على رغم التغيير.
كيف يمكنك القول بأنك تظل نفس الشخص مع مرور الزمن، على الرغم من أنك تصبح شخصا مختلفا دون شك في مراحل حياتك المختلفة؟ كل ما علينا فعله في هذا السياق هو وضع التصنيفات المناسبة، والتزام الحذر في التعامل معها. يميز الفلاسفة بين نوعين رئيسيين من الهوية: الهوية الكيفية والهوية العددية. الهوية الكيفية هي الهوية التي يملكها شيئان منفصلان عندما يكونان متشابهين تماما. تخيل عملتين من نفس الفئة (فئة 1 يورو على سبيل المثال، سكتا عام 2005). سكت العملات وفقا لشروط صارمة بحيث تضمن أن جميع العملات من نفس الفئة ومن نفس العام متطابقة في كل شيء باستثناء اختلافات لا تكاد تذكر. ومع بدء استخدام العملات وتعرضهما للبلى تتبدد هويتها المتشابهة هذه، لكن العملات التي سكت حديثا تكاد تكون متطابقة.
5
إحدى طرق توضيح هذه الفكرة هي شرحها من منظور الخواص الجوهرية للأشياء. تتضمن الخواص الجوهرية للأشياء: حجمها، وشكلها، وكتلتها، وغيرها من الخواص؛ إنها خواص العملة ذاتها. تتعارض الخواص الجوهرية مع الخواص العلائقية: ما إذا كانت العملة في يدي اليسرى أم في يدي اليمنى؛ ما إذا كانت في المملكة المتحدة أم في الإمارات العربية المتحدة ... إلى آخره. يمكن اعتبار شيئين متطابقين كيفيا بشرط واحد فقط؛ وهو أن يشتركا في جميع خواصهما الجوهرية.
يكفي هذا فيما يخص الهوية الكيفية؛ فهي ليست نوع الهوية الذي يثير اهتمامنا. نحن لا ندرس ها هنا هوية التوائم المتطابقة أو الأشخاص الذين يكاد يكون تشابههم متطابقا، بل نهتم باستمرارية هوية الفرد الواحد عبر الزمن ورغم التغير؛ ولهذا الغرض علينا طرح فكرة الهوية العددية. الهوية العددية هي هوية كيان واحد على مر الزمن. فلتفترض أن لديك خمس عملات متطابقة كيفيا في جيبك، أخرجت واحدة ونظرت إليها ثم أعدتها إلى جيبك ، وبعد أن هززت مجموعة العملات بعض الشيء في جيبك أخرجت واحدة من جديد. تبدو العملة هي نفسها، لكن أهي حقا كذلك؟ السؤال ها هنا بصدد الهوية العددية للعملات. هل التقطت عملة واحدة مرتين أم التقطت عملتين مختلفتين (رغم كونهما متطابقتين كيفيا)؟ من الحقائق المحزنة حول اللغة الإنجليزية أن الكثير من الأساليب التي نعبر بها عن الهوية (عبارات مثل «مماثل ل» و«مطابق ل» وغيرها) يخلط بين الهوية العددية والهوية الكيفية. هذا يعني أنه علينا التزام الحذر حيال طرق تفسيرنا للادعاءات حول الهوية، لكن مفهومي الهوية العددية والهوية الكيفية ليسا بالغي الصعوبة. وهما يسجلان أفكارا في غاية الاختلاف.
نظرية الاستمرارية النفسية للهوية الشخصية
مهمتنا الفلسفية هي تحديد معايير لهويتنا العددية عبر الزمن ورغم التغيير. تخيل أن أعضاءك الجسدية أزيلت واحدا تلو الآخر، ووضع مكانها أعضاء اصطناعية تعمل بنفس طريقة أعضائك الحية العضوية؛ أطرافك حل محلها أطراف آلية، قلبك حل محله مضخة، عيناك حل محلهما كاميرا، الخلايا العصبية في دماغك حل محلها محولات دقيقة خاصة حساسة شبكيا، إلى آخره. (فقط تخيل إمكانية حدوث ذلك.) هل أصبحت في هذه الحالة إنسانا آليا أم أنك قد مت؟ إذا كان معيار هويتك العددية هو استمرارية جسدك الحي، فيجدر بنا القول إنك في حالة تحولك التدريجي إلى إنسان آلي قد مت، واستعيض عنك بشيء جديد؛ بديل آلي. بصرف النظر عن ميزاته هو ليس أنت. على الجانب الآخر، إذا كان معيار هويتك العددية هو عامل أقل دقة، مثل استمرارية جسدك (سواء كان عضويا أم لا) فسوف نستنتج حينئذ أنك أصبحت إنسانا آليا. فوجودك لم ينته عندما حل محل ذراعك ذراع آلي. ووجودك لن يتوقف إذا حل محل إحدى خلاياك العصبية محول دقيق. إذن، عبر تعميم تلك الأفكار البديهية، يمكننا القول بأن وجودك لا يتوقف عندما يحل محل جسدك بأكمله أجزاء تؤدي نفس الوظائف. عبر تفسير عملية الاستبدال الآلي على هذا النحو، تصبح إنسانا آليا.
كيف نقرر أي تفسير من تفسيرات سيناريو الإحلال الآلي هو التفسير الصحيح؟ يعتمد الأمر كله على معيار الهوية العددية الذي نعتقد أنه ينطبق علينا. لكن كيف يمكننا تحديد المعيار الصحيح؟ فقد اتضح وجود عدد لا بأس به من المعايير المرشحة، كيف إذن نختار من بينها؟ أحد أكثر الطرق الواعدة لتحري هذه المسألة هو إجراء تجارب افتراضية. في تجربة افتراضية حول الهوية الشخصية، نتخيل سيناريو تغيير جذري ونستشير حدسنا لمعرفة ما إذا كان الشخص الذي مر بهذا التغيير قد ظل على قيد الحياة أم لا. يقدم لنا حدسنا تلميحات حول تصورنا للهوية الشخصية. وإذا كانت أفكارنا البديهية قوية ومتماسكة، ويتشارك فيها نطاق واسع من الأفراد، ويعتمد عليها (على سبيل المثال، إذا لم تكن مشوهة أو متلاعب بها من خلال طريقة سردنا للقصة)، فإنها إذن دليل جيد يساعدنا على معرفة تصورنا عن الهوية الشخصية. الأفكار البديهية القوية والمعتمد عليها يجب أن ترشدنا إلى الظروف التي في ظلها يحافظ الناس على هويتهم عبر التغيير.
إجراء التجارب الافتراضية طريقة مهمة لإجراء التحليل المفاهيمي. إنها طريقة لاكتشاف الحدود الخارجية للمفاهيم ذات الأهمية. لقد عرضنا تجربة افتراضية - تجربة الإحلال الآلي - قبل بضع فقرات. هل ترى البقاء على قيد الحياة بعد عملية الاستعاضة عن أجزاء جسدك ببدائل آلية أمرا بديهيا؟ ربما لا. بالتأكيد يعتمد الأمر على «مدى» نجاح عملية الإحلال بأكملها، وماهية المقياس الذي يستخدم. ماذا لو فشل بديلك الآلي في تذكر أي شيء عن حياتك السابقة؟ (فلتفرض مثلا أن الذاكرة اتضح أنها مشفرة، ليس بداخل الوصلات بين الخلايا العصبية - الوصلات التي يمكن استنساخها عبر المحولات الدقيقة - بل بداخل خاصية ما غامضة لدى خلايا الدماغ العضوية التي ضاعت عندما حل محل الخلايا محولات غير عضوية.) في هذه الحالة، لا يبدو بقاؤك على قيد الحياة بعد العملية أمرا بديهيا على الإطلاق. بالتأكيد، سيرى الكثير من الناس أن العجز عن تذكر أي شيء عن حياتك الماضية يعني بديهيا أنك لم تبق على قيد الحياة بعد عملية الإحلال. قد يبدو أن شيئا جوهريا قد فقد أثناء التحول من الدماغ البشري إلى الدماغ الآلي . ماذا لو لم يمتلك بديلك الآلي وعيا على الإطلاق؟ ماذا لو كان يمشي ويتحدث مثل شخص واع، لكن داخله ظلام مطبق (إذا جاز التعبير)؟ (على سبيل المثال، قد يتضح أن الوعي ليس خاصية من خواص تدفق المعلومات داخل دماغك، لكنه خاصية غير جسدية مرتبطة على نحو ما بالطبيعة العضوية لجهازك العصبي المركزي.) في هذه الحالة، يتجلى فشل العملية؛ ففي إحدى مراحلها مات المريض على طاولة العمليات.
الآن لا ينبغي لك الاعتقاد بأن الوعي خاصية غير جسدية أو أن الذاكرة البشرية مشفرة داخل خاصية عضوية كامنة من خواص الخلايا الدماغية كي تتعلم درسا مهما من الأفكار الافتراضية التي عرضناها في الفقرة السابقة. إذا كان الفشل في الاحتفاظ بالوعي أو الفشل في الاحتفاظ بالذاكرة يعني نهاية وجودك؛ فذلك يكفي لدعم رؤيتنا. إن ما يسجله مفهوم الهوية الشخصية على ما يبدو هو وجودنا «الواعي» المستمر. (ربما كان الوجود الواعي المستمر ضروريا، لكنه غير كاف لاستمرارك. سنحتاج إلى إجراء تجارب افتراضية أخرى للتحقق من هذا.)
إن الرؤية الأكثر شيوعا على الأرجح للهوية الشخصية تعتمد على الأفكار البديهية التي ناقشناها لتونا في الفقرة السابقة. ويطلق عليها عادة نظرية الاستمرارية النفسية للهوية الشخصية. تزعم النظرية، في صيغتها المبسطة، أن معيار الهوية العددية للفرد هو استمرارية الوعي. لكن توجد مشكله ها هنا؛ وهي أن وعي الفرد أبعد ما يكون عن الاستمرارية؛ إذ تقاطعه على سبيل المثال فترات النوم. إذن «استمرارية الوعي» لا يمكن أن تعني «تدفقا غير متقطع للوعي». لكي ننقذ النظرية، لا بد أن تتفتق أذهاننا عن رؤية مختلفة لاستمرارية الوعي. ما الذي يربط الحلقات المنفصلة من تدفق الوعي غير المنقطع على النحو الملائم؟ الإجابة الواضحة، وربما الأفضل، هي الذاكرة: الذاكرة العرضية. عندما تستيقظ من النوم تنغمس فورا في حياتك الواعية المستمرة من خلال الذاكرة العرضية. قد لا تتذكر آخر شيء تحديدا مررت به قبل أن تخلد إلى النوم، لكنك تتذكر بعضا من أحداث اليوم السابق، وتصل ذلك اليوم باليوم الجديد عبر التجربة التي تتذكرها. من خلال تبني هذه الطريقة في النظر إلى القضية، نضع الصيغة التالية من نظرية الاستمرارية النفسية، والتي سنطلق عليها الاستمرارية النفسية القوية:
الاستمرارية النفسية القوية
تكون مجموعة من مراحل الفرد (أي الفترات الكاملة من تدفق الوعي غير المتقطع) فردا مميزا من منظور الهوية العددية - أي فردا فريدا من نوعه - بشرط واحد فقط؛ أن تكون كل مرحلة منها متصلة بالمرحلة التي تسبقها مباشرة عبر الذاكرة العرضية.
تواجهنا بعض المشكلات الفنية التي علينا التعامل معها قبل اعتبار الاستمرارية النفسية القوية صيغة مقبولة من الأساس. ظل معروفا لوقت طويل أن صياغة نظرية على النحو الذي استخدمناه لتونا قد يؤدي إلى دائرة مفرغة إن لم نتوخ الحذر. لقد وضعنا النظرية من منظور الذاكرة العرضية، هل نعني بذلك الذاكرة العرضية الفعلية أم شبه الذاكرة العرضية؟ (تذكر أن الذكريات الفعلية هي ذكريات عن تجربة حدثت بالفعل للشخص المتذكر، أما شبه الذكريات فهي ذكريات تبدو على هذا النحو، لكنها قد لا تكون كذلك.) لا يمكن أن تكون الذاكرة الفعلية؛ إذا كانت نظريتنا تزعم أن الهوية الشخصية تتكون من مراحل-الفرد التي تربطها ذاكرة عرضية فعلية، فهذا يعادل القول بأن الهوية الشخصية تتألف من مراحل-الفرد التي تربطها ذكريات عن تجارب خاضها الفرد محل الحديث ولم يخضها أي شخص آخر على وجه الخصوص. بهذه الطريقة، تئول بنا الحال إلى تعريف الهوية الشخصية من منظور الذاكرة العرضية الفعلية، وتعريف الذاكرة العرضية الفعلية من منظور الهوية الشخصية. تلك حلقة مفرغة لا يمكن قبولها. من أجل توخي الحذر إذن، علينا أن نصوغ نظرية الاستمرارية النفسية من منظور شبة الذاكرة. والآن يمكننا أن نضع معيار الهوية العددية من منظور ارتباط مراحل-الفرد من خلال شبه الذكريات. تكون مجموعة من مراحل-الفرد فردا مميزا بشرط واحد فقط أن تكون كل مرحلة منها تتصل بالمرحلة السابقة لها عبر شبه ذكريات اكتسبت على نحو صحيح. وسنحتاج في هذه المرحلة نظرية حول «كيفية اكتساب الذكريات على نحو صحيح»، بما يجنبنا الدفع بنظريتنا الجديدة إلى دائرة مفرغة. قد نزعم على وجه التقريب، لأغراض صياغة نظريتنا، أن الطريقة الصحيحة لاكتساب شبه ذكرى تتضمن سرد قصة سببية حول نشأة الذكرى، وهي أن تجربة ما تسببت في تغيير دائم في الجهاز العصبي نتج عن تسجيل ذكرى على النحو الطبيعي. وحدوث هذه العملية على النحو الطبيعي لا يفترض مسبقا أي شيء حول هوية صاحب التجربة أو صاحب الذكرى التي سجلت في الجهاز العصبي. إذا نجحت هذه الاستراتيجية، فسنكون قد وجدنا طريقة لتجنب الحلقات المفرغة وإنقاذ النظرية. وبما أن التحدث عن شبه الذكريات سيعقد الأمور للغاية، فإننا سنتجاهل هذه الإشكالية فيما تبقى من المناقشة. لكن من المفيد معرفة أننا نقدر على إنجاز هذه المهمة، وأنه من الممكن إنقاذ النظرية من السقوط في حلقة مفرغة. لا يزال يوجد العديد من المسائل المتبقية؛ فمهمة صياغة نظرية الاستمرارية النفسية القوية على نحو دقيق تماما وبعيد عن فخ الحلقات المفرغة، لم تتم بعد. لكن أصبح في وسعنا الآن تقديم المبادئ الأولية للنظرية.
تحدي «تذكار»
ليست التجارب الافتراضية هي السبيل الوحيد لبحث تصورنا عن الهوية الشخصية.
6
فسمت الخيال العلمي بعيد التصور الذي يميز تجارب الفكر قد يحد من موثوقيتها. ومن الصعب غالبا تحديد طريقة التفكير، وكيفية تطبيق مفاهيمنا، في مواقف لا يمكن عرضها إلا باستخدام مصطلحات خيالية عامة للغاية. على سبيل المثال، اضطررنا إلى دعم تجربة الإحلال الآلي الافتراضية بمجموعة من الافتراضات الفلسفية كي نستطيع التحرك بها قدما. (ماذا لو لم تكن الذاكرة مخزنة في الحساسية الشبكية للخلايا العصبية؟ ماذا لو لم يكن الوعي ناتجا عن تدفق المعلومات داخل الدماغ؟) إذا استطعنا الاعتماد على حالات من الحياة الواقعية لاختبار نظرياتنا عن الهوية الشخصية عوضا عن التجارب الافتراضية الغريبة، تصبح مهمتنا أسهل. يعيدنا هذا الحديث إلى فيلمنا. لا يقدم «تذكار» حالة من الواقع، لكنه تجسيد خيالي لحالة حقيقية؛ ألا وهي مرض فقدان الذاكرة التقدمي المتفاقم. ويثبت لنا أن الصياغة التي قدمناها لتونا لنظرية الاستمرارية النفسية خاطئة.
لينارد شيلبي عاجز عن فعل ما تتطلبه منه هذه النظرية؛ هو عاجز عن ربط حلقة من الوعي المتدفق غير المتقطع بالحلقة التي تليها من خلال الذاكرة العرضية. يختبر شيلبي كل مرحلة من مراحل-الفرد كما لو كانت منفصلة تماما عن جميع الحلقات التي تسبقها بدءا من وقت إصابته. فآخر شيء يتذكره (أو يظن أنه يتذكره) هو مشهد احتضار زوجته. رغم ذلك، وبينما نشاهد الفيلم، يبدو واضحا لنا أن شيلبي هو شخص واحد قائم بذاته على مدار القصة، وتلك قناعة يدعمها عدد من العوامل؛ فهو لديه خطة ثابتة، ومجموعة متسقة من السمات والميول النفسية، وجسد وصوت واحد من البداية للنهاية. ويتضمن العديد من أجزاء الفيلم تعليقا صوتيا على الأحداث بصوته، وهو لا يواجه أي صعوبة في التحدث عن نفسه بوصفه لينارد شيلبي، وفي تخمين مجمل أحداث حياته، حياته هو. يعامله الآخرون بالفيلم باعتباره شخصا واحدا. وعلاوة على ذلك، يتذكر شيلبي حياته قبل إصابته الدماغية. على ما يبدو لا يوجد ما يدفعنا إلى الشك في كون شيلبي شخصا واحدا على مدار الفيلم. رغم ذلك يخفق شيلبي في الوفاء بشرط الاستمرارية النفسية فيما يتعلق بالهوية الشخصية، والذي وصفناه في الفقرات السابقة. إذن تلك رؤية خاطئة للهوية الشخصية. لقد أثبت الفيلم ذلك! (أو أعطانا مبررا جيدا للاعتقاد فيه؛ نادرا ما يتمكن الفلاسفة من بلوغ مرحلة إثبات فرضية ما إثباتا نهائيا.)
ما الخيارات التي تبقت لدينا؟ فلنتأمل عناصر الفيلم التي تدعم قناعتنا بأن لينارد شيلبي فرد واحد متفرد، على الرغم من التقطع المزمن لوعيه. فيما يلي نطرح خمسة احتمالات رئيسية: (1)
لدى شيلبي خطة حياتية مترابطة؛ وهي السعي مخلصا للوصول إلى قاتل زوجته. (ظهور تهديد لهذه الخطة هو ما يدفع إلى خداع ذاته خداعا قاتلا في الفيلم؛ فهو مستعد لفعل أي شيء تقريبا لحماية خطته والروايات التي تدعمها.) وبما أنه قد وضع هذه الخطة، وتمكن من اتباعها بتصميم لا يهدأ، ننزع إلى اعتبار شيلبي فردا واحدا يتبع مسارا متسقا عبر حياته، ولا نميل إلى تفسير الفيلم كشاهد على تفكك الشخص الذي كانه شيلبي في يوم من الأيام. رغم ذلك ، لا يعتبر وجود خطة مترابطة أمرا ضروريا أو كافيا لضمان الهوية الشخصية. فمن الممكن أن يمتلك كل من الفرق والمنظمات والمجموعات خططا مترابطة طويلة الأمد، وقد ينجرف الناس مع تيار الحياة دون هدف وبلا خطط. (2)
العنصر الثاني هو تمتع شيلبي بمجموعة من الميول والسمات الشخصية الراسخة. وهو من هذه الناحية شخص متسق على المستوى النفسي حتى لو لم يكن يستوعب حياته كتيار واع مترابط. رغم ذلك، ليست الميول النفسية هي السمات المناسبة لجعل الناس أفرادا، ولا تصلح وحدها لتحقيق هذا الغرض. قد يتشارك الناس في الميول؛ ومن ثم لا يمكن اعتبارها كافية لتحديد الهوية العددية. (تذكر أننا نبحث هوية شيلبي العددية، لا هويته الكيفية.) وقد يغير أحد الأشخاص ميوله النفسية بشتى الطرق (نتيجة لتجربة اعتناق ديانة جديدة على سبيل المثال)، إذن يبدو أن الميول النفسية عنصر غير ضروري لوجود الهوية. (3)
العنصر الثالث الذي يشجعنا على تمييز شيلبي كفرد هو الطريقة التي يعتبر بها شيلبي نفسه فردا، ويعتبره بها الآخرون في الفيلم أنه كذلك. يتحدث شيلبي بصوت واحد، ونحن كثيرا ما نسمع هذا الصوت من خلال التعليق الصوتي على الفيلم، ولا يلتبس علينا كونه الصوت نفسه (بالطبع التمتع بنفس الصوت ليس ضروريا ولا كافيا لضمان الاستمرارية). يشير شيلبي إلى نفسه بوصفه لينارد شيلبي، نفس الشخص الذي كان عليه بالأمس أو من عشر دقائق أو عشر سنوات. أليس اعتبار شيلبي نفسه فردا عنصرا حاسما؟ هل لديه سلطة تقرير ما إذا كان سيستمر في الوجود رغم كل ما قد حدث؟ قد ننجذب إلى الإجابة بنعم، لكن في الواقع رأي شلبي ليس عاملا حاسما. فنحن لا نملك هذا النوع من السلطة على استمرارنا الشخصي. على سبيل المثال لا يعتبر المرء امتدادا لنابليون لمجرد أنه يظن نفسه نابليون. إن استخدام شيلبي المستمر لضمير المتكلم لا يرسخ كونه فردا واحدا إلا في حالة كون كل استخدام للضمير يشير فعليا إلى الفرد نفسه، وفي حالة لينارد شيلبي، تثار تساؤلات حول ذلك. وعلى نحو مماثل، حقيقة أن الآخرين في الفيلم يعاملون شيلبي باعتباره فردا واحدا - الرجل الذي فقد ذاكرته - لا يثبت أنه فرد واحد إلا في حالة كون جميع هذه الاستخدامات لضمائر المخاطب والغائب، إلى جانب استخدام أسماء «ليني» و«لينارد شيلبي»، تشير جميعها إلى فرد واحد. وهذا تحديدا هو ما نسعى إلى إثباته.
7
لا يتبقى أمامنا الآن سوى خيارين: (4) استمرارية جسد شيلبي. و(5) ارتباط شيلبي بوعيه السابق بإصابته الدماغية من خلال الذاكرة العرضية. (بالطبع يوجد خيار آخر؛ وهو فقدان الأمل في إثبات استمرارية شيلبي كفرد، لكن من المفترض أن يكون هذا خيارنا الأخير؛ نظرا لأن الاستمرارية الذاتية هي طريقة طبيعية وتلقائية لتفسير الفيلم.) لنتأمل المسألة من زاوية استمرارية الجسد. هل يحق لنا زعم أن كل ما يحتاجه شيلبي كي يستمر، رغم إصابته بهذه الحالة المتفاقمة من فقدان الذاكرة التقدمي، هو امتلاكه الجسد نفسه يوما تلو الآخر؟ هل الهوية الشخصية تقتصر على هوية الجسد على مر الزمن؟ يؤمن بعض الفلاسفة أن هذا هو الحل الأمثل.
8
مع ذلك، من الصعب أن يرضينا حل كهذا؛ فهو يستبعد الكثير من الاحتمالات التي تبدو ذات قيمة حقيقية. على سبيل المثال، ربما من المستحيل فيزيقيا انتقال وعي أحد الأشخاص إلى جسد شخص آخر وتملكه (أو إلى جرة لحفظ رماد الموتى كما في فيلم «جميع أجزائي» (أول أوف مي) للمخرج كارل راينر (1984)) لكن في وسعنا تصور هذه العملية، وفي هذا السيناريو لن ينتابنا بداهة شك في أن الهوية ستتبع الوعي لا الجسد. وعلى المؤمنين بنظرية الاستمرارية الجسدية إيجاد سبيل يقبله العقل لتجريد تلك البديهيات من قوتها، وتلك مهمة في غاية الصعوبة.
وفي ظل غياب سبيل جيد يمكننا من الدفاع عن نظرية الاستمرارية الجسدية، لا يتبقى لنا سوى عنصر واحد لتفسير استمرارية شيلبي. شيلبي هو شخص واحد على الرغم من تقطع وعيه؛ لأن كل مرحلة من مراحل-الفرد (أي فترات تدفق الوعي اللامتقطع) التي يمر بها تحتفظ بخلفية مشتركة من ذكريات حياته قبل الحادث. ذكريات شيلبي عن زوجته المحتضرة، عن ممازحته لها حول الكتاب الذي تقرؤه (تقرؤه للمرة الثانية)، عن مداعبته لها بقرص فخذها (أم أكانت هذه ذكرى عن إعطائها حقنه الأنسولين؟) عن تجولها في أرجاء المنزل يعلو وجهها تعبير شارد مطمئن؛ تلك الذكريات، وذكريات أخرى شبيهة لا حصر لها، هي ما يضفي على حياة شيلبي تفردها، وما يجعل خطته للانتقام خطة وضعها رجل واحد، لا لجنة تضم مجموعة من نسخ مستقبلية لشيلبي. تخيل قصة الفيلم لو كانت تتضمن حرمان شيلبي من ذكرياته العرضية التي تسبق إصابته. سيبدو حينها أشبه بسلسلة من الحلقات الواعية المختلفة تربطها ببعضها واجهة خارجية: جسد يغطيه الوشم، ملف شرطي، صورة لسيارة مسروقة. لن يوجد حينها أي شيء يمكن تمريره من فرد منفصل إلى آخر.
الاستجابة إلى تحدي «تذكار»
تأمل فيلم «تذكار» يقودنا إلى إعادة تقييم نقدي لنظرية الاستمرارية النفسية للهوية الشخصية. قد تتكون الهوية الشخصية - أي استمرارية الشخص الواحد عبر الزمن ورغم التغيير - من مجموعة من مراحل الفرد تربط بينها الذاكرة العرضية، لكن «تذكار» يثبت لنا أن هذه الروابط قد تكون روابط غير مباشرة إلى حد كبير. يتذكر شيلبي حياته قبل إصابته الدماغية، لكنه لا يتذكر ما حدث له منذ عشر دقائق. ومع ذلك ربما يكفي هذا لضمان استمرارية هويته عبر الزمن. نعرض ها هنا صيغة لنظرية الاستمرارية النفسية للهوية الشخصية، وقد أجرينا تعديلا عليها كي تتلاءم مع التحدي الذي يطرحه الفيلم:
الاستمرارية النفسية الضعيفة
الشخص هو مجموعة من مراحل الفرد، ترتبط كل مرحلة منها (باستثناء أول مرحلة) عبر ذكريات عرضية بمرحلة فردية واحدة سابقة على الأقل.
ما مدى معقولية نظرية الاستمرارية النفسية الضعيفة؟ يشغل بال الفلاسفة مشكلة أخرى تتعلق بنظريات الاستمرارية النفسية للهوية الشخصية، وعلى ما يبدو تعمل نظرية الاستمرارية النفسية الضعيفة على تفاقم هذه المشكلة. نتحدث ها هنا عن مشكلة الانشطار. تخيل شخصا منقسما إلى اثنين، شخصا تحول إلى تيارين من الوعي، يرتبط كل منهما عبر الذاكرة العرضية بتيار وعي واحد، يرجع إلى ما قبل الانقسام.
9
أهو شخص واحد أم شخصان؟ لا يمكن أن يكون شخصا واحدا وشخصين في آن واحد. يزعم بعض الفلاسفة أنه في هذا الموقف يوجد شخصان: بالرغم من أن هذا الأمر لم يتضح إلا عند الانشطار، ظل هناك شخصان منفصلان طيلة الوقت.
10
لكن فلاسفة آخرين يعتبرون هذه الرؤية مفرطة في الغرابة. إن حالة شيلبي مثال على انشطار هائل، من بعض النواحي. فمع كل بضع دقائق يبرز تيار من الوعي غير متصل بتيارات الوعي المحيطة به عبر الذاكرة العرضية. ولا يظل هذا التيار موجودا لفترة كافية تسمح له بالتنافس مع تيارات الوعي الأخرى، لكنه غير متصل بالتيارات الأخرى القريبة منه. حسب نظرية الاستمرارية النفسية الضعيفة، لا تتمخض حالات الانشطار عن شخص واحد أبدا. لا يبدو هذا غريبا في حالة شيلبي؛ إذ لا يتداخل أي تيارين من تيارات الوعي لديه، وكل تيار منها يرجع أصله إلى سلف مشترك؛ وهو تيار الوعي لدى شيلبي قبل إصابته. رغم ذلك، قد تنطوي حالات الانشطار على ما هو أغرب بكثير. ماذا سيحدث عندما ينقسم شخص ما إلى تيارين منفصلين متزامنين من الوعي (يصحبهما جسدان)؟ حسب نظرية الاستمرارية النفسية الضعيفة، يظل الشخصان شخصا واحدا بصرف النظر عما يفعله كل تيار. لا ترتبط التيارات بعضها ببعض من خلال الذاكرة العرضية، لكنها ترتبط عبر الذاكرة العرضية بسلف مشترك. وهكذا يصبح تيار وعي ما رئيس البنك الدولي على سبيل المثال، بينما يصبح تيار وعي آخر أحد لصوص البنوك. أيمكننا حقا القول بأن رئيس البنك الدولي هو لص بنوك؟ (ربما يمكننا ذلك.) يبدو أننا في حاجة الآن إلى إعادة صياغة لنظريتنا. ربما كانت نظرية الاستمرارية النفسية الضعيفة شرطا ضروريا للهوية الشخصية، لكنه غير كاف. بعبارة أخرى، ربما تقترح نظرية الاستمرارية النفسية الضعيفة شرطا لا بد أن يفي به جميع الأفراد، لكن يوجد شرط آخر لا بد لهم أن يفوا به أيضا. فيما يلي نقدم اقتراحا لهذا الشرط:
الاستمرارية النفسية الضعيفة مقيدة الفاعل
الفرد هو مجموعة مراحل فردية بحيث إن (1) كل مرحلة فردية (باستثناء المرحلة الأولى) ترتبط عبر ذكريات عرضية بمرحلة فردية واحدة سابقة على الأقل و(2) لا تنقسم المجموعة أبدا إلى مجموعتين فرعيتين متزامنتين «أ» تؤدي كل منهما وظيفة الفاعل على نحو مستقل عن الأخرى «ب» ولا يرتبط بعضهما ببعض عبر الذكريات العرضية للمراحل داخلهما.
هل ستفلح نظريتنا الجديدة المنقحة؟ علينا الاعتراف بأنها مصممة خصوصا على ما يبدو كي تلائم حالتنا؛ فالشرط رقم (2) موضوع لا لغرض سوى استبعاد حالات الانشطار المختلفة عن حالة شيلبي. وسوف نحتاج إلى نظرية توضح طبيعة العمل كفاعل مستقل (نظرية لا تعتمد على وجود اختلاف في الهوية). ربما يمكننا تقديم مثل هذه النظرية. سنحتاج كذلك إلى مبرر منفصل لقبول القيود على الفاعل المقترحة ها هنا.
يرى الفلاسفة الدارسون للهوية الشخصية أن كلا من نظرية الاستمرارية النفسية الضعيفة، ونظرية الاستمرارية النفسية الضعيفة المقيدة الفاعل، لا تدعمهما أدلة كافية. (لكن لا يوجد سبب بعد يدفعنا إلى التخلي عنهما!) لقد قدمنا كلتا النظريتين في المقام الأول لتوضيح عملية الاستجابة لتحديات من قبيل التحدي الذي يطرحه فيلم «تذكار» ومدى صعوبة ذلك التحدي. قد يكون ملاذنا الأخير هو قبول صيغة من صيغ فرضية الاستمرارية الجسدية (تذكر أن استمرارية شيلبي الجسدية كانت سمة من سمات عدة بالفيلم تدعم قناعتنا بأنه فرد واحد فريد من نوعه)؛ ربما الفرضية التي تربط هوية الفرد بهوية جسد حي. (غالبا ما يطلق عليها النظرية الجسدية.)
11
بالطبع لهذه النظرية إشكاليتها الخاصة؛ ففي هذا المجال، تظل القضية في النهاية هي تحديد المشكلات التي نظن أن في وسعنا التعايش معها. وفي الفلسفة، نادرا ما تمنحنا إجابة ما كل ما نريده.
أسئلة
يستخدم نولان تقنية خاصة كي يضع مشاهديه في حالة أشبه بحالة بطل «تذكار»، لينارد شيلبي، ألا وهي جعل جزء مهم من أحداث الفيلم يسير في اتجاه عكسي. هل نجحت هذه التقنية من جميع النواحي؟ كيف تختلف معايشة الجمهور للأحداث السردية عن معايشة شيلبي لها؟ هل نبالغ في تفسير الترابط النفسي لدى شيلبي نتيجة لهذا الاختلاف؟ ما تأثير هذا على تحدي «تذكار»؟
وفقا لنظرية الاستمرارية النفسية للهوية الشخصية، من المهم أن تكون الذكريات عرضية. لماذا لا يمكننا استخدام الذاكرة الدلالية كمعيار بدلا من الذاكرة العرضية؟
لا تشترط نظرية الاستمرارية النفسية للهوية الشخصية دقة الذكريات العرضية، لكنها تشترط ألا تكون زائفة. ما الفرق بين ذكرى غير دقيقة وذكرى زائفة؟ ولماذا نعتقد أن لهذه المسألة تأثيرا؟
هل فسرنا تجربة الإحلال الآلي الافتراضية تفسيرا صحيحا؟ هل أثبتت التجربة أن استمرارية الجسد الحي ليست شرطا لازما لوجود الهوية الشخصية؟
هل يوجد سبيل ما يمكننا من الثبات على اعتقادنا بصحة نظرية الاستمرارية النفسية القوية في مواجهة نموذج لينارد شيلبي؟ هل يمكننا إثبات أن شيلبي عاجز عن التصرف كفرد مميز على مدار الفيلم؟ كيف يمكننا تفسير أفعاله وردود فعلنا عليها دون افتراض وجود هوية شخصية لديه؟
لقد زعمنا في هذا الفصل أنه رغم تفسير نظرية الاستمرارية النفسية الضعيفة لحالة شيلبي، فإنها تعجز عن تفسير ردود فعلنا البديهية لحالات الانشطار. ودفعنا هذا إلى طرح تفسير هجين للهوية الشخصية ألا وهو نظرية الاستمرارية النفسية الضعيفة مقيدة الفاعل. هل تتطلب حالات الانشطار تفسيرا كهذا حقا؟ ألا يمكننا القول بأنه في عالم ينقسم فيه الناس مثل الأميبا، كان سيتعين علينا تعديل مفهومنا عن ماهية الفرد، وتصورنا عن الهوية الشخصية تعديلا جذريا؟ هل لا بد أن تنطبق مفاهيمنا على كل موقف محتمل منطقيا، وأن تنطبق على نحو مرض لحدسنا؟
جميع نظريات الهوية الشخصية التي ناقشناها في هذا الفصل هي نظريات «رباعية الأبعاد» (يطلق عليها في بعض الأحيان «نظريات الامتداد الزمني»). وهي تنظر إلى الهوية عبر الزمن باعتبارها علاقة بين أجزاء زمنية (مراحل الفرد). يوجد تفسير آخر للهوية ينافس هذا التفسير، ويعرف باسم «الديمومة اللحظية». من منظور الديمومة اللحظية، الأفراد (والأشياء عموما) ليست حاصل مجموعة من الأجزاء الزمنية، بل هم أفراد ثلاثيو الأبعاد، حاضرون حضورا كاملا في كل لحظة من لحظات وجودهم. هل بوسع نظرية الديمومة اللحظية تقديم تفسير أفضل لحالات شيلبي من تفسير النظرية الرباعية الأبعاد؟
هوامش
الفصل التاسع
مشهد الرعب: «ألعاب مسلية»
مقدمة
يدفع الناس في بعض الأحيان أموالا لا بأس بها من أجل الجلوس في قاعة سينما مظلمة (أو في حجرتهم مع إطفاء الأنوار) كي يعيشوا تجربة مرعبة ومخيفة بمشاهدة مجازر وحشية تجمد الدماء في عروقهم. ما الذي يدفع أي شخص للقيام بذلك؟ لماذا يشاهد الناس أفلام الرعب؟ ما الفائدة التي سيجنونها من مشاهدة تلك الأفلام؟ مثل أنواع سينمائية أخرى فإن حدود نوع الرعب غائمة المعالم، وقواعده وأعرافه دائمة التغير. رغم ذلك، ينقسم هذا النوع السينمائي إلى فئتين: الرعب الخارق للطبيعة والرعب الواقعي.
1
يتضمن الرعب الخارق مخلوقات تخرج عن التصنيفات الرئيسية أو القوانين الطبيعة؛ مثل الأشباح أو الموتى الأحياء أو الكائنات الهجينة
2 (التي تجمع بين سمات الإنسان والحيوان). أما الرعب الواقعي فلا يتضمن أيا من الخروقات السابقة، ويركز عوضا عن ذلك على الأهوال التي تتسبب فيها وسائل طبيعية.
3
الشيء الذي يجمع أفلام الرعب في مجموعة واحدة هو تركيزها على استثارة الرعب في المقام الأول كرد فعل من المشاهدين.
4
فلا تستثير أفلام الرعب استجابات الرعب من المشاهدين بطرق عرضية بل تتفنن في استثارتها.
تتنوع استجابات الرعب تنوعا كبيرا في طبيعتها، لكنها تشمل نوعين بارزين من المشاعر السلبية؛ ألا وهي التقزز (أو الاشمئزاز) والخوف. على سبيل المثال مشاهدة شخص يجاهد للخروج من حفرة مليئة بإبر الحقن يستدعي خوفا مفهوما من الجروح والألم، لكنه يستدعى كذلك نوعا خاصا من الرعب يتعلق باختراق الجسد.
5
يستثير هذا المشهد لدينا حالة من التقزز والاشمئزاز، ويجمد الدماء في عروقنا على نحو يفوق عادة ما يحدث عند مشاهدة فيلم يصور شخصا تكال له اللكمات. إذا كنا بالغي الحساسية (أو لم نكن منعدمي الحساسية تماما) وشاهدنا مشهد الإبر بالكامل وبتركيز، فسنرغب في محو تجربة مشاهدة المشهد من عقولنا بأسرع ما يمكن. الرعب إذن ينطوي على طريقة خاصة جدا لتجربة مشاعر الخوف، طريقة «تجمد الدم في عروقنا». تصنف مشاعر الخوف والتقزز كمشاعر سلبية لأنهما في المعتاد مشاعر كريهة حقا، وغالبا ما تستثير سلوك التجنب. إذن هدف أفلام الرعب هو توليد نوع خاص من رد الفعل الشعوري السلبي لمشهد سمعي بصري.
لماذا تعتبر أفلام الرعب نوعا سينمائيا ناجحا ومعمرا إلى هذا الحد؟ قد تكون الإجابة الجلية التالية عن هذا السؤال هي الأفضل، وهي الإجابة التي سنتبناها على مدار المناقشة اللاحقة: يشاهد الناس أفلام الرعب (بأعداد كبيرة) لأنهم يستمدون قدرا كبيرا من المتعة منها. إذا كان ذلك صحيحا، فما «نوع» المتعة التي يستمدونها؟ ما نوع المتعة الذي يمكن التحصل عليه من أمر يستثير مشاعر سلبية بقوة، وبحدة استثنائية كما رأينا؟ هذا هو اللغز الذي يشار إليه في بعض الأحيان بالمصطلح الرنان «مفارقة الرعب».
6
لكنه ليس مفارقة، ولا يوجد ما يشكل تناقضا أو تعارضا جوهريا فيما يتعلق بفكرة استمتاع المرء أحيانا بتجربة المشاعر السلبية؛ فالمشاعر السلبية ليست «بالضرورة» غير ممتعة. الأكثر دقة أن نقول إنها «عادة» ما تكون غير ممتعة.
7
ورغم ذلك لا نزال نواجه لغزا هنا. ما الذي يجعل التقزز والخوف الذي تولده عادة أفلام الرعب مصدرا يعتمد عليه في المتعة؟ أي نوع من المتعة؟ تلك هي أسئلتنا المحورية، وسوف ننقحها ونحن نواصل مناقشتنا. وبما أن مجال الرعب واسع جدا ومعقد، فسوف نحصر اهتمامنا على أفلام الرعب الواقعي. الرعب الواقعي عنيف حتما - لا يمكن لوم الأشباح على مطاردتها للأحياء، ومصاصو الدماء قد لا يريدون سوى إشباع جوعهم بالدم، لكن القتلة المتسلسلين يتخذون من القتل مهنة - ما يثير مسألة الموقف الأخلاقي لهذا النوع. ومع أن هذا ليس محور اهتمامنا الرئيسي في هذا الفصل إلا أننا سنفحص بإيجاز النقد الأخلاقي للرعب الواقعي.
تميل المشاهد التي يهدد فيها البطل - والتي تلعب على احتمالية الانتهاك الجسدي أو العقلي - إلى توليد رد فعل الرعب الكلاسيكي؛ وهو الفزع. الخوف هو المكون السائد في الفزع، أو يبدو كذلك، لكن التقزز أيضا جزء لا يتجزأ منه. قارن أفلام الرعب بأفلام الإثارة، وستجد أن أفلام الإثارة تلعب على الخوف من أن حدثا سيئا - حتى وإن كان سيئا إلى حد كارثي - قد يحدث. وهي غالبا ما تصور تحقق تلك المخاوف، وتفعل ذلك في بعض الأحيان بطريقة تثير خوفا حقيقيا لدى الجمهور. ورغم ذلك، فنادرا ما تعتبر أفلام الإثارة أفلام رعب؛ ويرجع ذلك إلى أن الخوف الذي تثيره أفلام الإثارة ليس هو النوع المطلوب من الخوف؛ فخوف أفلام الرعب يتجاوز مجرد الخوف من حدوث أمر في غاية السوء، إنه الخوف من أذى بشع وصادم حقا، من أن تمزق أوصالك بينما لا تزال واعيا، من أن تطاردك (حتى الجنون) أشباح خارقة مهددة، وغير ذلك مما تصوره أفلام الرعب.
8
عادة ما تحقق تلك الأفلام تأثيرها عبر استثارة الفزع لا الخوف البسيط، وقد تحقق هذا التأثير بطرق أقل مباشرة إلى حد ما.
يعتمد نوع مهم من أفلام الرعب على الرعب النفسي بدلا من عرض صور الأذى الجسدي المنفر. فتجسيد القسوة الوحشية أو خطر وقوعها - وهو أسلوب يلعب على الإذلال المستمر واحتمالية الانتهاك الحاضرة دوما - يثير أعصاب المشاهدين ومشاعر الكرب لديهم، ويرسل القشعريرة في أجسادهم، أو يجمد الدم في العروق كما نقول أحيانا. الأفلام التي تركز على توليد رد الفعل العاطفي هذا تدعى في بعض الأحيان «أفلام القشعريرة»، والفيلم الذي نناقشه هنا ينتمي لهذا النوع، وهو «ألعاب مسلية» (فاني جيميز) للمخرج النمساوي مايكل هانيكه، وتوجد نسختان متشابهتان على نحو وثيق منه: نسخة نمساوية أنتجت عام 1997 (باللغة الألمانية)، ونسخة أمريكية أنتجت عام 2007 (باللغة الإنجليزية). وباستثناء اللغة المستخدمة والممثلين، فإن نسخة عام 2007 هي إعادة إنتاج لنسخة عام 1997 بالمشاهد نفسها دون تغيير؛ ومن ثم فإن ما سنقوله عن «ألعاب مسلية» يغطي النسختين، على الرغم من أن توقيتات المشاهد التي سنتحدث عنها تشير إلى نسخة عام 2007. (يختلف الفيلمان اختلافا هامشيا في هذا السياق.) في القسم الأخير من هذا الفصل، سوف نجيب عن السؤال حول السبب الذي دفع هانيكه إلى إعادة إنتاج الفيلم باللغة الإنجليزية، وحول هدفه من صنع الفيلم من الأساس.
متع الرعب الفني
الرعب الفني هو رعب ينتجه الفن مثل الأدب أو المسرح أو السينما أو الموسيقى أو الرسم وغير ذلك من الفنون المرئية. نحن بالطبع نهتم بتجربة الرعب الفني في السينما وتفسير جاذبيته، ونظرا لعجزنا عن تغطية جميع الاستراتيجيات التفسيرية الممكنة في هذا المجال، أو إيفاء أي منها حقها، فإننا سنستعرض عوضا عن ذلك ثلاث استراتيجيات تفسيرية: التفسير الفيسيولوجي، والتفسير التحليلي النفسي، والتفسير المعرفي الذي يطرحه نويل كارول. فلنتناول أولا السمة الفيسيولوجية في استجابة الرعب. عندما تعترينا استجابة الرعب في السينما نشعر بدفقة من الأدرينالين في عروقنا. ولإفراز الأدرينالين تأثيرات فيسيولوجية معينة؛ مثل زيادة معدل ضربات القلب، وتمدد الممرات الهوائية، وإطلاق الجهاز العصبي السمبتاوي لرد فعل الكر أو الفر، وغير ذلك. ويحفز إفراز الأدرينالين المفرط نوبة ذعر، لكن استجابة الرعب الفني تتضمن على ما يبدو مستويات معتدلة فحسب من إفراز الأدرينالين، ويبدو أن كثيرا من الناس يستمتعون بنتائج ذلك. وقد لا يرجع هذا إلى تأثيرات الأدرينالين في حد ذاتها، بل إلى إفراز متزامن للأندروفين، وهو نوع من الناقلات العصبية أفيونية المفعول. ربما يكون إفراز الأندروفين هو سبب استجابات المتعة المعتادة عند التعرض للرعب الفني، لكن ذلك مجرد تكهن. (نحن لا نهتم ها هنا بالتفاصيل الفيسيولوجية.) ما بوسعنا التأكد منه هو أن تجربة الرعب الفني تختلف عن تجربة الرعب الفعلي في كل من تكوينها وتأثيراتها. الرعب الفعلي غالبا ما يكون موهنا للعزيمة ومفجعا ومحدثا صدمات، وقد يتسبب أحيانا في أعراض خطيرة طويلة الأمد. على العكس من ذلك، عندما ينجح الرعب الفني بوصفه مصدرا للمتعة، فإنه لا يتضمن أيا من تلك التأثيرات السلبية. وإدراك المشاهدين في خلفية عقولهم أن ما يشهدونه غير حقيقي وانفصالهم عنه يغيران على ما يبدو من الاستجابة الفيسيولوجية لتجربة الرعب الفني، ويمنعان الاستجابات السلبية بالغة الخطورة حياله. ما يبقى على ما يبدو هو الرحلة المخيفة والصادمة التي في وسع المرء الاستمتاع بها فعليا.
إلى أي مدى يبدو هذا التفسير الفيسيولوجي جيدا؟ إنه يصلح لتفسير ردود فعل الخوف. يستمد «مدمنو الأدرينالين»، كما يطلق عليهم في بعض الأحيان، متعة جلية من توليد استجابة خائفة في أنفسهم. يحقق هواة القفز من المرتفعات هذه الاستجابة عبر القفز من أعلى أسطح المباني أو الجسور، ويحققه هواة القفز بالمظلات عبر القفز من الطائرات، ويحققه المتزلجون على المنحدرات الثلجية عبر محاولة تفادي المتزلجين الآخرين، إلى آخره. لا دور تقريبا للمكون المعرفي في خبرة الباحث عن الإثارة في أي من هذه الأنشطة؛ فالقفز من المرتفعات على سبيل المثال لا يتمحور حول السقوط بطريقة معينة ممتعة، بل هو مجرد أداة أو وسيلة تطلق دفقة الأدرينالين.
9
إذا كان هذا صحيحا، فإن السعي خلف الإثارة طريقة فقيرة معرفيا لتوليد استجابة الخوف. وعلى العكس من ذلك، الرعب الفني هو طريقة ثرية معرفيا لتوليد استجابة الخوف، وكما أشرنا في الجزء السابق، الرعب الفني يتضمن ما هو أكثر بكثير من الخوف. فنحن نذهب إلى فيلم رعب عادة كي نشعر بالخوف دون شك، لكننا نذهب كي نشعر بالخوف بطريقة معينة. (ألعاب محاكاة القفز من الطائرة أو التزلج على المنحدرات الثلجية قد تكون مخيفة لكنها ليست مروعة.) إننا نذهب كي نخضع للترويع. يتضمن ذلك مزيجا من التقزز والخوف، وكلاهما يضربان بجذورهما معرفيا وعاطفيا في تكويننا النفسي أو كبتنا النفسي. قد لا يكون الأساس الفيسيولوجي للمتعة الناتجة عن استجابات الخوف الاصطناعية غامضا تماما (مع أن ذلك لا يعني أننا نملك تفسيرا متكاملا له)، إلا أن المتع الناتجة عن استجابة التقزز أصعب في فهمها، حال كونها موجودة من الأساس. (من المستبعد مثلا أن يؤدي التقزز إلى إفراز الأندروفينات.)
رغم ذلك، فنحن لم نتناول بعد سوى جزء يسير من هذه المسألة. فتجارب الرعب الفني «تتضمن» مشاعر الخوف والتقزز لكنها لا «تتألف» من تلك المشاعر. (إليك مزيجا غير مرعب من الخوف والتقزز: تخيل أنك على وشك السقوط من أعلى جرف، وبينما تتشبث مستميتا بالحافة تنظر إلى يسارك لترى جثة طائر متعفنة. قد تشعر في هذه الحالة بالخوف والتقزز، لكنك لست في فيلم رعب.) تجارب الرعب محددة وثرية من الناحية المعرفية. فنحن نعتبر مشهدا ما مرعبا أو مروعا لأننا نفهم شيئا خاصا عنه؛ نظرا لأن محتواه يصدمنا أو يزعجنا على نحو خاص؛ فالاضطرار إلى الهرب من شاحنة تنطلق بسرعة البرق أمر مخيف، لكنه ليس مرعبا. والاضطرار إلى الهرب من شاحنة سائقها مصمم على دهسك أمر يثير خوفا أكبر، لكنه ليس بالضرورة مرعبا بدرجة بالغة. أما الاضطرار إلى الهرب من شاحنة مصممة على دهسك بينما لا يقودها أحد، فذلك أمر يثير بعض الرعب على الأقل.
10
إذن ما الذي يجعل بعض الأشياء تصنف على أنها صالحة لبث الانزعاج في الجماهير وترويعهم؟ ولماذا نستمتع أحيانا بأن نشعر بالانزعاج بهذه الطريقة؟
التفسيرات التحليلية النفسية للرعب تربط بين الإجابات المقدمة لهذين السؤالين. حسب تلك التفسيرات نحن نستمتع بالشعور بالانزعاج لأن مشهد الرعب يعني شيئا بالنسبة لنا، على الأقل على مستوى غير واع أو ضمني، ونحن نستجيب له وفقا لمعناه. بعبارة أخرى، غامضة بعض الشيء ولا ترضينا بعد، يتفاعل معنى المشهد بشكل ما مع كبتنا لرغباتنا. وهو ما يحدث عبر عدد لا حصر له من الطرق. تتعدد التفسيرات التحليلية النفسية لجاذبية الرعب وتتنوع، وهي عادة ما تختلف من فيلم لآخر ومن مشاهد لآخر. رغم ذلك، فالشكل الأبرز من التفسيرات التحليلية النفسية يربط متعة الشعور بالرعب بما يطلق عليه «صعود المكبوت». وفقا لنظرية التحليل النفسي، يكبت الأفراد رغبات (ذات طبيعة منحرفة غالبا لكن ليس دائما) ويستمدون نوعا من المتعة عندما تشبع الرغبات المكبوتة في الخيال. وكما في حالة العصاب الحاد، فإن الإشباع الخيالي لرغبة مكبوتة هو إشباع «تعويضي»، فهو بديل لشيء لم يحدث قط، لكن المرء، على مستوى ما وبطريقة ما، تمنى لو أنه كان قد حدث. نحن نستمتع بتحقيق رغباتنا المكبوتة أو بمشاهدة آخرين وهم يشبعون رغباتنا المكبوتة نيابة عنا، ما دمنا قد تجنبنا عبء الإقرار بأن ذلك هو ما نفعله. يتضح هنا تحديدا التأثير الفعال للرعب الفني. يصف نويل كارول (1990: 170) هذه العملية فيما يلي (وهو مجرد وصف؛ كما سنرى بعد قليل يطرح كارول تفسيره الخاص البعيد عن التحليل النفسي لجاذبية الرعب):
وفقا للتفسيرات التحليلية النفسية التقليدية،
11
فإن الكوابيس وشخصيات الكوابيس مثل مصاصي الدماء؛ أي المحتوى الرئيسي لقصص الرعب، لها جاذبية لأنها تبرز الرغبات لا سيما الرغبات الجنسية. إلا أن هذه الرغبات تكون محرمة أو مكبوتة ولا يمكن الاعتراف بوجودها صراحة، وهنا يأتي دور الصور المروعة المقززة؛ فهي تخفي أو تضع قناعا فوق الرغبة التي لا يمكن الاعتراف بها؛ إنها تلعب دورا تمويهيا؛ ومن ثم لا تستطيع الرقابة الداخلية لدى الحالم لومه على هذه الصور لأنها تزعجه؛ فهو يرى أنها مخيفة ومقززة؛ ومن ثم لا يمكن اعتباره مستمتعا بها (على الرغم من أنه يستمتع بها بالفعل، بقدر ما تعبر عن رغبات نفسية جنسية عميقة، وإن كان لا يظهر ذلك).
الفكرة هنا أن مشاعر الفزع والخوف والتقزز لدى الجمهور تسمح لهم بالانغماس في الإشباع غير المباشر للرغبات المكبوتة دون أن يضطروا إلى الاعتراف لأنفسهم بطبيعة ما يفعلونه (فلسان حالهم هو «بالطبع لا أستمتع مطلقا بهذا الفيلم، إنه بشع»). ولتحقيق هذا، نحتاج إلى طريقة للالتفاف على من يطلق عليه كارول «الرقيب الداخلي». وهو تعبير بسيط إلى حد ما، يشير إلى عمليات كثيرة ومختلفة تحدث داخل الدماغ بينما يرفض الرغبات والأمنيات المحتملة ويتنصل منها؛ عمليات لا يمكن لنا الاطلاع عليها في أغلب الأحيان. (عادة ما يطلق على هذه العملية «الكبت»، لكننا سنلتزم بالصيغة الأكثر وضوحا هنا.) إن عملية رفض الرغبات والأمنيات المحتملة والتنصل منها هي في الغالب عملية صحية؛ سبيل لحماية صورتنا الذاتية ورضائنا عن أنفسنا، وربما أيضا وسيلة لتأسيس هوية أخلاقية قوية.
12
لا تمثل الرغبات غير الواعية على وجه العموم رغباتنا الأعمق والأصدق (مع أنها رغبات حقيقية)، فهي ليست الرغبات الأعمق ل «لذاتنا الحقيقية». ورفض هذه الأمنيات والتنصل منها ليس (أو ليس دوما) طريقة نكذب بها على أنفسنا حول «ما نريده حقا». حسب إحدى رؤى التحليل النفسي لهويتنا كأفراد، نحن ورغباتنا اللاواعية لسنا الشيء ذاته، بل نحن ناتج معقد لعقلنا الواعي (بقيمه والتزاماته وقوة إرادته وبصيرته وتعاطفه مع الآخرين وذكائه ... إلخ) إلى جانب سبل غير واعية نعجز عن الاطلاع عليها للتعامل مع مصادر المتعة والرغبة والفعل.
يفرط كارول نسبيا في تبسيط التفسيرات التحليلية النفسية للسبل التي لا بد من خلالها استمالة «الرقيب الداخلي» كي نستطيع نحن الاستمتاع بمشهد الرعب. لا بد من توفر بضعة أشياء كي نتمكن من التغلب على ميلنا للرفض التلقائي لظهور الأمنيات المنبوذة لا شعوريا (دون أن نلاحظ حتى أن هذا هو ما نفعله). إن إشباع الرغبات المنبوذة لا بد أن يكون مستترا بطريقة ما. من المفيد أن يكون لدينا القدرة على القول لأنفسنا إن صور الرعب تزعجنا، وإننا لسنا مسئولين عنها، وإننا نجدها مثيرة للاشمئزاز وكريهة (وهو ما نفعله حتما)؛ فذلك يتيح لنا التمتع بالمشهد تحت ستار الاعتقاد بأننا لا نستمتع حقا بمشهد الرعب في حد ذاته على الإطلاق. (ولسان حالنا هو «أنا أستمتع بشعور الذعر القوي في تلك الأفلام لكنى لا أستمتع بالمشاهد البشعة» أو «أنا أستمتع بشعور الذعر القوي في الأفلام، لكن الأجزاء البشعة عادة ما تكون سخيفة وغريبة إلى حد مثير للضحك» ... إلخ.) من المفيد أن يكون لدينا القدرة على إخبار أنفسنا أننا نلهو فحسب، وأننا نشاهد الفيلم لا لهدف سوى تجربة مشاعر الذعر القوية أو لأن القصة تجتذبنا، وأن مشاهدة فيلم رعب بين الحين والآخر هو جزء طبيعي من حياتنا المعاصرة. إن الطريقة المثلى لفهم استراتيجيات تمويه إشباع الرغبات المكبوتة هي رؤية ما يحدث عند إبطال مفعولها. وسنزعم فيما يلي أن ذلك هو ما يحدث تحديدا في «ألعاب مسلية».
ثمة زعمان يكمنان في قلب التفسيرات التحليلية النفسية للمتع الناتجة عن مشاهدة الرعب: (1) وجود الرغبات المنحرفة (وهي ليست بالضرورة رغبات الفرد بكامل أجزائه، وبالتأكيد لا يرجح كونها كذلك) و(2) وجود آليات للرفض والتنصل لا نعي وجودها غالبا، لكن في وسعنا الالتفاف حولها رغم ذلك. تعرض أفلام الرعب إشباع الرغبات المنحرفة بطرق تلتف حول آليات الرفض والتنصل؛ ومن ثم تصبح - عبر تجسيد إشباع تلك الرغبات المنحرفة - مصدرا للمتعة لدى جمهورها. هذا الإشباع غير المباشر للرغبات المكبوتة هو مصدر المتعة، شريطة أن يتم ذلك وفقا للشروط الصحيحة. وفي نظر الكثير من الناس، وفي كثير من المناسبات، تفي أفلام الرعب بهذه الشروط؛ ومن ثم تهتم التفسيرات التحليلية النفسية للرعب بالرغبات المنحرفة بأشكالها المتنوعة، وتتناول بعين الفحص التلصصية والفتيشية والماسوشية والسادية؛ بهدف تصنيف العوامل التي تقدم لنا المتعة في الرعب الفني، رغما عن أنفسنا في أغلب الأحيان. وحقيقة أننا أحيانا نحمل ميولا سادية (كالانتقام مثلا) تحظى بإشباع مؤقت على الشاشة لا ينبغي أن تفاجئنا.
إلى أي مدى يبدو هذا المنهج واعدا؟ زعم النقاد أن النظرية التحليلية النفسية للسينما قائمة على افتراضات نفسية غير عملية وغير منطقية وبالغة الاختزال.
13
رغم ذلك، فإن الإطار الأساسي الذي وصفناه - ألا وهو وجود رغبات منحرفة وآليات رفض وتنصل غير معترف بها في الأغلب ولا يمكننا الاطلاع عليها - هو إطار تفسيري عام للغاية، ويتوافق مع قدر لا بأس به من علم النفس المعاصر (تتفرع من هذا الإطار العام نظريات أخرى ذات طبيعة تكهنية أكثر، وتعاني من مشكلة إيجاد أساس تجريبي معقول يدعمها). قد يكون الكثير من تفاصيل نظرية التحليل النفسي ذا طبيعة تكهنية للغاية ومن الصعب تبريرها على السياق التجريبي، لكن الأطروحات الأساسية التي قدمها منظرو التحليل من دارسي أفلام الرعب مقبولة مبدئيا. شيء ما في مشهد الرعب يمنح مشاهدة متعة؛ لا يرجع هذا كليا إلى تدفق عرضي للأدرينالين، بل يبدو بالفعل أن له صلة بمعنى الصورة وعلاقة المشاهد بها، وذلك المعنى نفسه المكون الرئيسي للرغبات المنحرفة.
يشجب بعض نقاد منهج التحليل النفسي اعتماده على فكرة «الوحش الذي داخلنا». وهو ما يعبر عنه تيودور (1997: 445) فيما يلي:
يكمن خلف التفسيرات التحليلية النفسية للرعب الفني اعتقاد بأن البشر «فاسدون في قلوبهم»، سواء بطبيعتهم أو نتيجة تنشئتهم، وبأن الرعب يتلاءم مع هذه السمة من الطبيعة البشرية. ويعمل هذا النوع الفني عمل القناة التي تطلق الوحشية الكامنة داخل مستخدميها. إذا كان النموذج التفسيري قائما على فكرة التطهير، فتعتبر هذه العملية حينئذ نافعة؛ أي بمثابة صمام أمان. وإذا كان قائما على الإفصاح والشرعنة، فينظر إلى النوع الفني في هذه الحالة على أنه يشجع المستهلكين في ممارسة سلوكهم المروع الخاص بهم. وفي كلتا الحالتين، تنبع جاذبية الرعب من مخاطبته للوحش المستتر داخل الإنسان المتحضر ظاهريا.
لكن التفسيرات التحليلية النفسية لا تبرر في الواقع جاذبية الرعب من منظور «الوحش الذي بداخلنا». فنظرية التحليل النفسي لا تفترض أن البشر فاسدون حتى النخاع، ولا تحتاج إلى مثل تلك الرؤية كي تزعم أن «الرعب يخاطب الرغبات المكبوتة العميقة الجذور والواضحة من منظور التحليل النفسي» وأن هذا النوع الفني يعمل عمل قناة تختص ببعض أنواع التفريغ العاطفي. إذا كان الكبت يتناقض مع آداب السلوك فسنصبح جميعا مخلين بالآداب. لكن النظرية التحليلية النفسية تجاهد لتوضيح توافق الكبت والأنشطة العصابية الناتجة عنه إلى حد كبير مع مفهوم «الطبيعية» وآداب السلوك الأخلاقية. لا يوجد «وحش بداخلنا» لأن الرغبات المكبوتة ليست رغبات كاملة التطور لدى الفرد، بل هي مصادر للمتعة أو للإحباط داخله، لكن تلك مسألة أخرى مختلفة تماما.
يزعم تيودور أن التفسير التحليلي النفسي بالغ الاختزال، ويعرض إلى حد كبير حلا واحدا لجميع المواقف. إذا كان من المفترض أن الجميع لديهم «وحش بداخلهم»، فإن التفسيرات التي تبرر حب الناس للرعب من منظور «الوحش داخلنا» تخفق في توضيح لماذا يحب «بعض» الناس أفلام الرعب ولا يحبها غيرهم (1997: 445). ويشير - ومعه في ذلك حق - إلى أن عوامل أخرى لا بد من توظيفها لتفسير هذا التنويع. لكن من يفسرون جاذبية الرعب حسب نظريات التحليلية النفسية، مثل صعود الميول الماسوشية أو السادية أو المكبوتة، لا ينكرون هذا.
14
ما يجعل أفرادا بعينهم يحبون الرعب ويجعل آخرين لا يحبونه يعتمد على التطور النفسي للفرد، وهو تطور يعتمد على تنشئته وطبيعته كذلك.
ما البدائل المتوفرة لمنهج يعتمد اعتمادا واسعا على التحليل النفسي لتفسير الرعب؟ المنهج التفسيري البديل الأبرز يطلق عليه «المنهج المعرفي». ويطرح كارول نموذجا مهما للتفسير المعرفي، فبينما توجه التفسيرات التحليلية النفسية انتباهنا نحو الإشباع غير المباشر للرغبات المنحرفة، يوجه كارول انتباهنا نحو الهيكل السردي لأفلام الرعب؛
15
فهو يرى أن الجمهور لا يستمتع فعليا بمناظر الرعب، بل يستمتع بالقصة، ويتحمل تلك المناظر؛ لأنها الثمن الذي لا بد له من دفعه كي يثار فضوله، ويعذب حتى يلقى الإشباع بطريقة خاصة جدا. فيما يلي يعرض كارول رؤيته (1990: 184):
تستند قصص الرعب على الكشف عن كائنات مستحيلة مجهولة ولا سبيل إلى معرفتها، كائنات غير معقولة ولا يمكن تصديقها، وغالبا ما تتخذ شكل سرد يعتمد على الاكتشاف والأدلة؛ فالأشياء المجهولة مثل الوحوش هي بلا شك موضوعات تتطلب إثباتا بطبيعة الحال. عندما نطبق تلك الملاحظات على مفارقة الرعب، نجدها تشير إلى أن المتعة المستمدة من قصص الرعب ومنبع اهتمامنا بها يكمن، أولا وأخيرا، في عمليات الاكتشاف والإثبات والتأكيد التي غالبا ما تتضمنها قصص الرعب ... وقد يرى التقزز الذي يبديه المشاهدون بوضوح جزءا من الثمن الذي لا بد من دفعه لقاء متعة الكشف. بعبارة أخرى، التوقع السردي الذي يتبناه نوع الرعب هو أن الكائن الذي يتناول الفيلم مسألة وجوده سيتضح كونه شيئا يتحدى التصنيفات الثقافية القائمة؛ ومن ثم يصبح التقزز ذاته - إذا جاز التعبير - أمرا يفرضه بشكل أو بآخر نوع الفضول الذي يستخدمه سرد الرعب.
من السهل ملاحظة تأثير الفضول في أفلام الرعب الخارق. تتحدى الوحوش الخارقة التصنيفات على نحو واضح وصريح؛ فهي تتطلب تفسيرا وهي غامضة على نحو يشبه كثيرا ما وصفه كارول. لا نعني بهذا أن كارول قد أصاب في فهمه للرعب الخارق. إلا أن اهتمامنا في هذا الفصل يتمحور حول الرعب الواقعي. فكيف تفسر نظرية كارول المتع المستمدة من الرعب الواقعي؟ الوحشية في هذا النوع هي وحشية نفسية، والتصنيفات التي تتعرض للخرق هي تصنيفات أخلاقية.
16
ووحوش الواقع ليست كائنات مستحيلة مثلها مثل المذءوبين مثلا (بما يتمتعون به من إمكانية تبديل أشكالهم، وغير ذلك من القدرات). مع ذلك، فالوحوش الواقعية هي كائنات نتمنى لو أنها كانت مستحيلة، وننجر بسهولة إلى الاعتقاد في وحشيتها وبشاعتها. إنها وحوش أخلاقية، تجسيدات للشر المتطرف، تتخذ اضطراباتها النفسية شكلا وحشيا فائقا، وهي عادة ما تتمتع بقوة كبيرة
17
تنبع في المقام الأول من وحشيتها الأخلاقية. إن كائنا قادرا على فعل أي شيء دون أن يطرف له جفن، وعازما على تدمير الآخرين وانتهاكهم وإذلالاهم، هو كائن ذو قوة تنبع جزئيا من وحشيته الأخلاقية. بوجه عام، الوحوش الواقعية تختلف عن الشخصيات الشريرة العادية في الأفلام؛ فالشخصيات الشريرة تدفع السرد قدما بما ترتكبه من شرور، أو على الأقل عبر نواياها وخططها الجائرة، ورغم ذلك لا يواجه المشاهدون صعوبة كبيرة في تفسير دوافعها وفهم وجهة نظرها. على الصعيد الآخر، الوحوش الواقعية غالبا ما تكون غريبة حقا عن المشاهدين؛ قد نبحث عن دوافعها وعن وجهة نظر ثابتة متماسكة لديها يمكن لنا فهمها، لكننا نخفق غالبا في إيجاد أي من ذلك؛ ما يشكل في حد ذاته سببا للارتياع والاضطراب.
18
الوحوش الواقعية على ما يبدو (وليس فعليا) مزيج مستحيل مما هو بشري وما هو وحشي، وربما ينبع الافتتان بها من التوتر الذي يولده هذا التهجين.
19
تستغل أفلام الرعب الواقعي إمكانية استخدام السرد لدى وحوش الجرائم الأخلاقية البشعة بطرق متنوعة. رغم ذلك، لا تتبع تلك الأفلام عادة الشكل الذي يحدده كارول؛ أي السرد القائم على «الاكتشاف والإثبات والتأكيد». تستخدم الوحوش الواقعية في المقام الأول لتقديم فرص هائلة للتهديد، ونادرا ما يكرس الاهتمام السردي إلى الكشف عن غموضها. والتكرار الذي نجده في سلاسل أفلام «سلاشر» (أفلام يطارد فيها قاتل مضطرب عقليا ضحاياه، ويقتلهم بآلات حادة كالسكين) مثل «يوم الجمعة الموافق 13» (فرايداي ذا ثرتينث) و«هالوين» و«الصرخة» (سكريم) و«أعرف ما فعلته الصيف الماضي» (آي نو وات يو ديد لاست سامر) وغيرها، يقوض على ما يبدو أي جاذبية سردية لديها (سواء كان ذلك التكرار بين أجزاء الفيلم أو في الفيلم الواحد، والذي غالبا ما يعج بجثث المراهقين القتلى). لم يذهب الجمهور لمشاهدة فيلم «الجمعة الموافق 13، الجزء الثامن: جاسون يسيطر على مانهاتن» (1989) لأنهم يعتقدون أن القصة قد تتخذ منحى جديدا مثيرا للاهتمام. (حسنا، لم يذهب جمهور كبير على الإطلاق لمشاهدة هذا الفيلم، لكن نسخة الفيديو منه كان لها جمهور.) تزعم فرضية كارول حول الرعب أن متع مشاهدة الرعب هي في الأصل متع سردية. قد يبدو إذن أن الرعب الواقعي يجسد مثالا مناقضا لهذه الفرضية، أو على الأقل يقيدها. رغم ذلك لا ينبغي لنا التسرع في نبذ فرضية كارول. فربما لا تتمركز مشاهدة الرعب الواقعي حول الكشف عن غرابة الوحش الواقعي، لكن غرابة الوحش ربما كانت مصدر المتع السردية المستمدة من هذا النوع الفني. تميل أفلام الرعب الواقعية عادة إلى التكرار، وغالبا ما تتضمن موضوعات مكررة، لكن ربما يجيز المشاهدون ذلك، بل وقد يستمتعون به أيضا؛ لأن الوحوش تجذبهم. بوجه عام، تلك الوحوش ليست لغزا يتطلب حلا، لكن وحشيتها هي سر فتنتها. تخيل نسخة من أحد أفلام سلاشر خالية تماما من الغموض، تصور شريرا يقتل مجموعة من الأفراد واحدا تلو الآخر بمنهجية، ووفقا لدافع واضح ومفهوم؛ قد يتضمن هذا الفيلم كثيرا من عوامل الرعب، لكننا لن نشعر يقينا بأنه فيلم رعب، بل سنشعر بأنه فيلم تشويق.
20
وهكذا تتوقف قدرة الفيلم على الاحتفاظ بالتشويق السردي - قدرته على الاحتفاظ بالمشاهدين حتى نهاية الفيلم - على عمق شخصياته، والكاريزما التي يتمتع بها الأبطال، إلى جانب ما تشتمل عليه عناصر السرد المعتادة من إبداع (مثل الخطر والخطة والعقبة والحل). تتمتع أفلام الرعب بقدرة غريبة على الاحتفاظ باهتمام المشاهد، سواء كان الاهتمام السردي أو نوعا آخر من الاهتمام، في غيبة أي من تلك العناصر في الأساس. (وهي كثيرا ما تقدم أبطالا لا يتمتعون بكاريزما وشخصيات مبتذلة وحبكات عقيمة.) واللغز ها هنا بالطبع يتعلق بكيفية تحقيقها ذلك.
21
أحد الحلول المحتملة لهذا اللغز، بجانب ما يطرحه كارول، هو أن الوحوش تفتننا، وذلك يكفي للحفاظ على الاهتمام السردي وإعطائنا سببا لاحتمال المشاعر السلبية التي تبرز تلقائيا مع عرض صور الوحشية.
والآن أصبح لدينا تفسيران محتملان لما تتمتع به أفلام الرعب من جاذبية غامضة (إذا نحينا التفسير الفيسيولوجي جانبا).
22
أولا: لدينا التفسيرات التحليلية النفسية التي تزعم أن متع مشاهدة أفلام الرعب تنبع من تجسيد الرغبات المنحرفة بينما يجري إشباعها. ونحن نستمد المتعة من عناصر الرعب في أفلام الرعب نظرا لتفاعل المشاهد المرعبة على الشاشة مع كبتنا لرغباتنا. نحن لا ننتشي كالمختلين عقليا عند مشاهدة تلك الشرور المجسدة، بل نجد أنفسنا في وضع المستمتع بمنظر إشباع الرغبات المنحرفة. ثانيا: لدينا التفسير المعرفي الذي يطرحه كارول، والذي يدفع بأن المتع المستمدة من مشاهدة أفلام الرعب هي في المقام الأول متع سردية. وهي متع معرفية في الأساس؛ فنحن ننجذب إلى القصص لأنها تسحرنا، لا لأنها تتفاعل مع رغباتنا (الخفية أحيانا). نحن نستمتع بالقصص على الرغم من عدم منطقيتها عموما، وعلى الرغم من التقزز الذي تثيره في نفوسنا؛ لأنها تتمحور حول مخلوق صمم ببراعة كي يثير انتباها ينبع من فضول، ويحافظ عليه. نحن نستمتع بقصص الوحوش بسبب غموضها، والوحوش الواقعية غامضة من زاوية في غاية الأهمية في أعيننا؛ وهي وحشيتها وبشاعتها من المنظور الأخلاقي. إن غرابتها تشعرنا بالاضطراب لكنها تسحرنا على حد سواء.
أي من هذين التفسيرين هو التفسير الأفضل لمشاهدة الرعب الواقعي؟ بما أنه من الصعب إنكار وجود متع سردية في أفلام الرعب، فهي أفلام روائية في النهاية، يميل الجدل حول هذه القضية إلى التركيز حول مسألة ما إذا كانت توجد حاجة على الإطلاق إلى التفسير التحليلي النفسي. لا حاجة بمنظري التحليل النفسي إلى إنكار احتمالية كون متع المشاهدة هي بقدر ما متع سردية موجهة معرفيا، بل هم ينكرون ببساطة كون هذه الاستراتيجية التفسيرية كافية: عندما تستنزف المتع السردية، يظل شيء ما يجذبنا على نحو منحرف نحو تجربة الرعب، وذلك أمر يطرح التحليل النفسي التفسير الأفضل له. على صعيد آخر، يرغب المنظرون المعرفيون في استبعاد التفسير التحليلي النفسي كليا.
23
سوف نستخدم فيلم «ألعاب مسلية» لمحاولة تحديد مدى معقولية هذا الزعم المعرفي الرافض للتفسيرات التحليلية النفسية. «ألعاب مسلية» جدا
أول ما يجدر الإشارة إليه فيما يتعلق ب «ألعاب مسلية» هو كونه فيلما لا يتضمن الكثير من التسلية. ومن واقع خبرتنا، نادرا ما يستمتع المشاهدون بالفيلم، قد يجدونه مشوقا، لكنهم عادة ما يرونه غير ممتع على الإطلاق. بل إن البعض قد يغادر قاعة العرض قبل انتهائه. وكان الكثيرون سيحذون حذوهم لولا رغبتهم في الظهور بمظهر من يهتم بالفيلم اهتماما جديا. إنه فيلم رعب واقعي تعمد مخرجه تجريده بدقة من جميع المتع التقليدية التي تميز مشاهدة الرعب الفني؛ ما يجعله دراسة حالة مشوقة لتطبيق النظريات المتنافسة حول متع مشاهدة الرعب الفني.
يروي الفيلم قصة اقتحام منزل عائلة ثرية (تتكون من أم وأب وابنهما) وقتلها بينما تقضي إجازة نهاية الأسبوع في بيتها الريفي. لا يحاول الفيلم إثارة استجابة الخوف لدى الجمهور إلا في حالات قليلة نسبيا. (وباستثناء فاصل قصير عندما يهرب الابن الصبي إلى بيت الجيران، لا يتضمن الفيلم أي مشاهد لشخصيات تختبئ داخل الدواليب أو تنسل بحذر عبر أروقة مظلمة.) رغم ذلك يحافظ بنجاح على مشاعر التوتر لدى مشاهديه عبر عوامل عدة، من بينها سلوك غريب من زائرين يبدون على قدر التهذيب، ولا تنفك تتزايد غرابة ذلك السلوك حتى ينفجر سلوكهم العنيف؛ ألعاب تعذيب لا تطاق، تؤدى أمام كاميرا تعرض تفاصليها بقسوة لا ترحم؛ فرص الهرب تظهر وتتبدد بينما تؤجل جرائم القتل الموعودة على نحو لا يطاق. يستثير الفيلم باستمرار استجابة الرعب، لكنه لا يحقق ذلك عبر أي تجسيد وحشي لمذابح دموية، بل تنبع استجابة الرعب من الفزع الناتج عن البلطجة والترهيب والإذلال، عن تهديدات القتل التي يعبر عنها ببساطة ومرح، وعن جرائم القتل نفسها التي نسمعها ولا نراها. ربما كانت الصورة الأكثر ترويعا في الفيلم هي التي تجسد لعبة القطة في الحقيبة، حيث نرى رأس الصبي جورج مغطى بكيس الوسادة (الدقيقة 44). (ذلك كل ما في الأمر، لكنه كاف ويبرز دقة صورة الرعب في أعمال هانيكه.) على مدار الفيلم نشاهد، في ذعر لا ينفك يتزايد، أفراد العائلة بينما يتعرضون للترهيب والإذلال والتعذيب في إطار «الألعاب المسلية»، ثم يذبحون.
يقتل الصبي أولا، بعيدا عن الكاميرا، ونشهد نحن صدمة والديه بتفصيل موجع، يجسدها الفيلم تجسيدا مكثفا لا يكاد يحتمل، بينما يعرض جهاز التليفزيون شيئا في خلفية المشهد. إنه يعرض سباق سيارات بضوضائه المتواصلة وتعليقه الممل (الدقائق من 3 حتى 12 من الساعة الثانية). يجسد المشهد كله الأم (آنا، آن) بينما تجلس مصدومة مقيدة اليدين والقدمين. لقد غادر القتلة (مؤقتا)، تجلس آن في سكون تام، ثم تتمكن من الوقوف والقفز بصعوبة حتى تصل إلى التليفزيون وتغلقه، ثم تجاهد حتى تخرج من الغرفة، وتعود بعدما تخلصت من قيودها، وتساعد الأب على النهوض ثم مغادرة الغرفة. يستمر المشهد نحو تسع دقائق، وهي مدة طويلة إلى حد استثنائي بالنظر إلى الفعل الذي يصوره. وقد صور بكاميرا ثابتة، وتظهر الغرفة في لقطة متوسطة، ولا يتضمن أي مونتاج، تدور الكاميرا قليلا مرة واحدة فحسب، فيما عدا ذلك تظل ثابتة لا تتزحزح.
القاتلان الشابان، وهما وحشان واقعيان من الطراز الأول، مخلوقان يثيران الاهتمام؛ فهما مهذبان، يجيدان التحدث، وعادة ما يتحدثان بهدوء. أحدهما يدعى بول، وهو وسيم وفائق الذكاء، بينما يتظاهر الآخر - المدعو بيتر - بالغباء. إنهما مزيج يصعب وجوده من الشباب حسني التربية والبلطجية والجلادين الساديين والقتلة الساعين وراء الإثارة. في مشهد محوري (الدقائق من 37 حتى 39 من الساعة الأولى)، يسخر بول من فكرة وجود أي تفسير لسلوكهما المضطرب نفسيا. ويذكر عابثا مجموعة متنوعة من التفسيرات الملفقة؛ مثل عيش طفولة معذبة بسبب طلاق الأبوين، أو الترعرع في منزل فاسد، أو إدمان المخدرات. القاتلان هما كما يبدو: قاسيان على نحو يتعذر تفسيره، يستمتعان بما يمارسانه من ترهيب، وبالألعاب التي يمارسانها، دون أدنى تردد. إنهما يستمتعان على ما يبدو بالترهيب أكثر من استمتاعهما بالقتل؛ إذ يرتكبان جريمة القتل الأخيرة (الدقيقة 40 من الساعة الثانية) على نحو روتيني للغاية دون اكتراث تقريبا.
وفي مقابل الألعاب المسلية التي يمارسها القاتلان يلعب المخرج، مايكل هانيكه، بدوره ألعابا مع المشاهدين. ثمة نوعان من الألعاب؛ هما التلاعب المثير للأعصاب بالتوقعات المرتبطة بهذا النوع السينمائي، إلى جانب إشعار المشاهدين بالتواطؤ مع الأحداث. فلنتأمل الأساليب التي يوظفها الفيلم لتحدي التوقعات المرتبطة بنوع الرعب السينمائي؛ أولا: الأحداث التوضيحية المحورية لا تصورها الكاميرا، أو تصورها على نحو روتيني. فجرائم القتل كلها - باستثناء الأخيرة - تحدث خارج الكادر، والجريمة الأخيرة، إغراق آنا في الخليج، تؤدى على نحو يجردها تماما من أي أهمية، فهي ليست سوى نهاية اللعبة، لا الهدف منها (الدقيقة 40 من الساعة الثانية). ثانيا: لا يوجد ناجون في الفيلم، فلا ينجو في نهايته فتاة أو رجل أو امرأة أو صبي. (في عام 1997 جسدت هذه التقنية تحديا لقواعد هذا النوع السينمائي أكثر مما أصبحت عليه بعد عشر سنوات.) ثالثا: صورت الأحداث بأسلوب متقشف وصارم، «الأسلوب الفني الأوروبي»، لا يمت بصلة لأسلوب الرعب المعتاد. يتضمن هذا الأسلوب عندما يستخدمه هانيكه غيابا تاما للموسيقى التصويرية (باستثناء الدوي الصاخب لأغنية جون زورن «الأحمق والمدمر» المصاحبة لتترات بداية الفيلم ونهايته). هذا بالإضافة إلى توظيف للقطات الطويلة جدا، معظمها لقطات متوسطة، وتقليل المونتاج إلى الحد الأدنى مع تحرك محدود جدا للكاميرا. توظف معظم أفلام الرعب آليات أكثر تعقيدا بكثير من المونتاج وحركة الكاميرا، تميل تأثيراتها إلى إغواء الجمهور نحو الاستسلام لتجربة مشاهدة مريحة. لكن الأسلوب المتقشف الذي يفضله هانيكه يميل إلى توليد مشاهدة أكثر قابلية للتأمل عبر منح المشاهدين فيضا من الفرص داخل المشاهد لملاحظة رد فعلهم على الأحداث وتأمله؛ ومن ثم لا ينسى المتفرج نفسه بينما يشاهد فيلما صور بهذا الأسلوب، وذلك - إلى حد كبير - جزء من استراتيجية هانيكه الفنية.
تتجلى استراتيجية هانيكه في المشهد الذروي بالقرب من نهاية الفيلم، والذي يجسد أسلوبا رابعا يستخدمه لنبذ الأعراف السائدة فيما يتعلق بالرعب. فيتخلى الفيلم عن نهجه الواقعي كليا في هذا المشهد. في الدقيقة 35 من الساعة الثانية تتمكن آنا من الاستحواذ على بندقية الرش وإطلاق النار على بيتر، ونرى جسده يطير إلى الخلف مصطدما بالحائط، ويسقط غارقا في دمائه. يندفع بول إثر ذلك في ذعر بحثا عن جهاز التحكم في التليفزيون عن بعد، ويضغط على زر الإرجاع، فنرى أحداث الفيلم ذاته ترجع إلى الخلف أمام أعيننا حتى تتوقف عند مشهد يسبق إطلاق النار مباشرة، وعند تلك اللحظة يضغط بول على زر التشغيل وتستأنف الأحداث. وعندما تحاول آنا انتزاع البندقية تجهض محاولتها بسهولة (فبول يعرف ما سيحدث). ما مغزى هذا المشهد؟ يحاول هانيكه إثارة سخط مشاهدي الفيلم (في حال تبقى أحد منهم) عبر الإثبات بطرق لا تقبل الشك أن الأحداث - بما تتضمنه من ألعاب سادية وإذلال وقتل - قد أعدت سينمائيا من أجل ما تبعث عليه من متعة وتسلية.
الهدف هنا هو تفتيح أعين المشاهدين على حقيقة أنهم يشاهدون عرضا شائها مقززا للعنف لا لغرض سوى التسلية، وأنهم متواطئون فيما يعرض على الشاشة من عنف لأنه قد صور لأجلهم. إن الفيلم هو اتهام موجه للجمهور (سوف نتناول هذه الفكرة الرئيسية في الجزء التالي). ويشدد الفيلم على تواطئنا كجمهور من خلال النوع الآخر من الألعاب التي يمارسها هانيكه معنا؛ إذ يخرق قالب الدراما الواقعية عبر جعل بول يخاطب الكاميرا في أجزاء متعددة. في الدقيقة 29 يوجه بول آنا نحو اكتشاف جثة كلب العائلة، رولفي، الذي قتله بيتر. يلعب بيتر مع آنا لعبة الأطفال «العثور على الغرض المخبأ»، وفي اللحظة التي تصبح فيها «على وشك إيجاده» يلتفت بول ناحية الكاميرا ويغمز بعينيه. في البداية يساورنا الشك فيما رأيناه، لكنه يبدو وكأنه يغمز لنا، إذن نحن مشاركون في اللعبة. في الدقيقة 40، يخاطب بول الكاميرا مباشرة. لقد عقد لتوه رهنا (من جانب واحد) مع العائلة؛ هو يراهن على أنهم سيغادرون الحياة قبل حلول الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي، وعليهم المراهنة على أنهم سينجون. في هذه اللحظة يلتفت إلى الكاميرا قائلا: «ما رأيكم؟ أتظنون أن أمامهم فرصة؟ أنتم تدعمونهم، أليس كذلك؟ على من تراهنون؟» (الدقيقة 40)
وبالقرب من نهاية الفيلم، ينزع بول الكمامة من فم آنا، مخاطبا الجمهور على نحو غير مباشر: «من الممل أن تعاني وهي بكماء، نحن نرغب في تسلية جمهورنا، أليس كذلك؟ نريد أن نريهم ما نقدر على فعله» (الدقيقة 28 من الساعة الثانية).
تخرق هذه النماذج من مخاطبة الكاميرا ما يطلق عليه عادة «الحائط الرابع»؛ إذ تعامل المشاهدين كما لو كانوا حاضرين داخل الأحداث، لا مختبئين في أمان داخل قاعة السينما المظلمة. وهي تدمر الراحة التلصصية للمشاهدة السينمائية عبر جعلنا واعين بما نمارسه من تلصص شبقي. يستخدم هانيكه هذه التقنية استخداما فعالا لأنه استخدام محدود؛ إذ يقتصر استخدامها على أربعة مواقف فحسب، إذا احتسبنا الاستخدام غير المباشر في الدقيقة 28 من الساعة الثانية. الاستخدام المفرط لهذه التقنية كان سيجعل الجمهور يفصلون بين تجربة مشاهدة «ألعاب مسلية» وتجربة مشاهدة الرعب الواقعي عموما. وفي تلك الحالة من المرجح أن يستقبل الجمهور الفيلم باعتباره فيلما فنيا غريبا لا يكاد يمت لتجربة المشاهدة السينمائية المعتادة بصلة. من المهم ملاحظة أن فيلم هانيكه، على الرغم من كل ما يشتمل عليه من خروقات لقواعد الرعب الواقعي المتفق عليها، فإنه ينتمي بجدارة إلى نوع الرعب الواقعي بما أنه يروع جمهوره بهدف تشجيعهم على تأمل الرعب الواقعي كنوع فني. وهي مهمة ينجح في تحقيقها دون شك. إنه يعتبر درسا لا يضاهى في الحفاظ على توتر المشاهدين واستحضار استجابة رعب تجمد الدماء في عروقهم.
هل سينجح أي مما عرضناه من نظريات متنافسة حول متع الرعب الفني في تفسير نموذج «ألعاب مسلية»؟ سوف نطرح فيما يلي افتراضين حول الاستجابة المعتادة التي قد يبديها الجمهور حيال الفيلم. أولا الفيلم مثير، ويحافظ على تشويقه السردي على الأقل حتى مشهد إرجاع الأحداث قرب نهايته (وهي المرحلة التي تدمر فيها القصة عمدا). قد يغادر الناس قاعة السينما قبل هذا المشهد، لأسباب لا ترجع على الأرجح إلى مللهم منه. ثانيا مشاهدة الفيلم تجربة كريهة حقا على الأقل منذ الدقيقة 44 فصاعدا (أي بدءا من مشهد لعبة القطة في الحقيبة). وحتى من منظور هواة أفلام الرعب المخضرمين، من الصعب الشعور بأي متعة حقيقية من مشاهدة الفيلم عقب هذه المرحلة، رغما عن كونه مثيرا إلى أقصى حد، بطريقته البغيضة المنفرة. إذا كان هذان الافتراضان صحيحين، فنظرية كارول السردية، بما أضفنا عليها من تطورات، تواجه مشكلة حقيقية. فها نحن نواجه فيلما يشتمل على جميع المكونات السردية اللازمة لصنع فيلم رعب واقعي من الطراز الأول؛ إذ يحوي وحوشا واقعية تعكس مزيجا مشوقا ومحيرا من الطبائع الإنسانية والحيوانية، وراويا متمكنا يقينا من الحفاظ على تشويق الفيلم؛ أي الحاجة القوية لمعرفة ما سيحدث بعد ذلك. يحقق الفيلم نجاحا استثنائيا على المستوى السردي طوال مدته تقريبا، لكنه يخفق في توليد المتع المتوقعة من مشاهدة الرعب الفني. بل يخرب تلك المتع. والاستنتاج الجلي الذي نستخلصه من هذا النموذج هو أن المتع الأساسية للرعب الفني لا تكمن في الواقع في التلقي المعرفي للسرد.
ماذا فعل الفيلم إذن كي يحرم جمهوره من متع الرعب الفني؟ ربما يمدنا الإطار التحليلي النفسي بإجابة عن ذلك. تذكر أنه وفقا لهذا الإطار يتطلب صعود المكبوت إلى السطح نمطا من المشاهدة يخفي الطبيعة الحقيقية لتجارب الإشباع المنحرفة التي يخوضها المشاهدون؛ ومن ثم يسمح لهم باكتساب المتعة من تلك التجارب. لكن «ألعاب مسلية» يحرم مشاهديه من سبل التمتع بمشاهدة الرعب. ويحقق هذا عبر طريقتين أساسيتين. أولا يجعل الفيلم المشاهدين، في عدة نقاط محورية، واعين وعيا ذاتيا بما يمارسونه من مشاهدة متلصصة شبقة. ويعامل الجمهور كما لو كان جزءا من الأحداث، ومن خلال ذلك يمحو إحساس الراحة الناتج عن نسيان المشاهد لنفسه في خضم سلسلة من التجسيدات المصورة التي «تحيط» به. يجبر الفيلم المشاهدين على الإحساس بأنهم متواطئون فيما يحدث لأنه يوضح لهم بما لا يدع مجالا للشك أن تلك الأحداث قد رتبت من أجل إمتاعهم. ثانيا: يحرمهم من جميع المتع المرتبطة بهذا النوع الفني عبر عرض عواقب العنف عرضا دقيقا وقويا وباردا. ويجسد المشهد التالي لحادث قتل الصبي، الذي ناقشناه بالأعلى، أوضح نموذج على ذلك (الدقائق من 3 إلى 12 في الساعة الثانية). أي فيلم رعب عادي كان سينتقل سريعا إلى الأحداث التالية بعد تصوير جريمة كتلك. لكن هانيكه يجعلنا نشاهد رد فعل الأبوين المصدومين لمدة طويلة إلى حد مروع. والمشهد نفسه واقعي لدرجة لا تطاق؛ ومن ثم، يتسبب قتل الطفل في كسر الميثاق الخفي لحالات الموت في أفلام الرعب، والذي ينص على أنها ليست أحداثا مفجعة، بل أحداثا في عالم خيالي، عالم يسمح للخيالات فيه بأن تتحقق دون تدخل الواقع. يلجأ هانيكه كذلك إلى طرق أخرى لحرمان جمهوره من متع هذا النوع السينمائي. فسلبية العائلة - لا سيما الأب الكسيح، جورج، الذي كسر القتلة ساقه - تحرم الجمهور من فرصة التوحد معهم بقوة؛ ومن ثم يصبح من الصعب عليهم الحفاظ على إحساس التوحد الماسوشي، وهو أحد أكثر مصادر المتعة التي يعول عليها في مجال مشاهدة الرعب. لكن سلبية العائلة لا تعبر عن أي نوع من أنواع التواطؤ مع الاعتداء الواقع عليها؛ فأفرادها يتعرضون عراة للتعذيب، ويحرمون من الموارد التي تمكنهم من المشاركة الحقيقية في الألعاب، ما يصعب على الجمهور أن يستمتعوا بإظهار البراعة السادية لدى القتلة. فلتقارن على سبيل المثال «ألعاب مسلية» بسلسلة أفلام «الأحجية» (سو). على مدار سلسلة الأفلام تلك، نجد ضحايا التعذيب ضالعين في تعديات أخلاقية، تكون خطيرة حقا في بعض الأحيان، ما يجيز لنا نوعا ما من الاستمتاع بالمشاهد السادية التي تصور عذابهم. (بالطبع قد يكون ذلك هو سر النجاح التجاري الملحوظ لأفلام «الأحجية»، على الرغم من انخفاض جودتها عموما.)
إذا كان تحليلنا صائبا، فسنجد أن منهجا يعتمد على التحليل النفسي لمتع الرعب الفني لديه ما يلزم من موارد لتفسير ظاهرة مثل «ألعاب مسلية»، وهي موارد لا يتمتع بها المنهج المعرفي. بالطبع، في وسع المنهج المعرفي تفسير جزء ما من رد فعلنا على الفيلم، ألا وهو قدرة الفيلم على جذبنا وأسر اهتمامنا. لكن إذا كانت متع الرعب الفني هي متع سردية بالكامل، فلماذا لا تؤدي جاذبية الفيلم إلى متعة؟ فرغم كل شيء، فيلم هانيكه أكثر جذبا بكثير على المستوى المعرفي مقارنة بالسياق المعتاد لأفلام الرعب الواقعي. لماذا لم يحقق فيلم هانيكه متعة تفوق متعة عروض الرعب الواقعية المعتادة، لماذا كان أقل إمتاعا؟ قد يجادل أتباع المنهج المعرفي زاعمين أن متع الفيلم السردية غطى عليها ببساطة العرض السادي الذي يقدمه الفيلم. وقد يصرون على أن في وسع المرء إيجاد متعة في سرد رعب واقعي، لكن تلك المتعة لا بد أن تتنافس مع الاستياء الناتج عن مشاهدة مشاهد مخيفة ومقززة. في حالة «ألعاب مسلية»، فرصة المتعة السردية في منافسة الاستياء الناتج عن عرض هانيكه القاسي بلا هوادة للممارسات السادية شبه منعدمة. لكن السادية التي يعرضها هانيكه معتدلة جدا مقارنة بأفلام أخرى كثيرة من نفس الجنس ، مثل فيلم «نزل» (هوستيل) (2006) و«نزل الجزء الثاني» (هوستيل بارت تو) (2007). وهي أفلام تتخصص (بنجاح غالبا) في توليد المتعة من مادة سردية أقل إثارة للاهتمام بكثير مع استحضار أقوى كثيرا لرد فعل الرعب لدى الجمهور.
ربما يرد أتباع المنهج المعرفي على حجتنا بطريقة أخرى؛ ربما يزعمون أن متع الرعب السردية تتطلب أحيانا أن «نأذن لأنفسنا» بالاستمتاع بالسرد، وعملية منح أنفسنا الإذن تشبه كثيرا عملية إخفاء إشباع الرغبة المنحرفة. فنحن نستطيع الاستمتاع بفيلم مثل «صمت الحملان» (سايلانس أوف ذا لامز) (1991) لأن في حوزتنا قصة ملفقة نجيب بها عن التساؤل حول السبب الذي يجعل مشاهدة ذلك العرض المقزز أمرا مقبولا؛ إذ سنزعم عندئذ أن قصة الفيلم عظيمة (رائعة ومرعبة على حد سواء) وأن شخصية هانيبال ليكتر شخصية ذات سحر لا ينتهي. إلا أن فيلم هانيكه لا يمكن الاستمتاع به بهذه الطريقة، رغم ما يتسم به من تشويق؛ لأنه يحرمنا من إعطاء «الإذن» لأنفسنا بالاستمتاع بالقصة. فهانيكه يجعلنا نشعر بالتفاهة وبالعار من مشاهدتنا؛ ومن ثم نعجز عن استخلاص متعة سردية من فيلم تحت هذه الظروف. ربما كان هذا هو السبب. لكن نوع المتعة السردية التي يعبر عنها كارول، المتعة المستمدة من إثارة فضولنا، لا يبدو أنها متعة آثمة تتطلب تبريرا معقدا. إذا كنا نرى الشابين المتوحشين في الفيلم مثيرين للاهتمام، وإذا كان هذا، وسيظل دوما، هو المصدر الوحيد للمتعة أثناء مشاهدة الفيلم، فلماذا إذن نشعر بالتفاهة والعار؟ يوجه هانيكه انتباهنا إلى ما يراه تواطؤا منا في العنف المصور، لكن لماذا ينبغي لنا الشعور بالذنب حيال ذلك إذا كان كل ما نفعله هو اكتساب متعة معرفية من القصة؟ إن تواطؤنا، إن وجد، ليس تواطؤا في إنتاج العنف في حد ذاته، لكنه تواطؤ في إنتاج تجسيدات العنف. (نحن لم نضبط متلبسين ونحن نسترق النظر عبر ثقب الباب لمشاهدة أناس حقيقيين يعذبون، بل كنا نشاهد فيلما أنتج عبر إنشاء ديكورات وبمشاركة ممثلين وفريق عمل وفريق لإعداد الطعام ومدرب خاص للطفل في الفيلم.) ربما ينجح النقد الأخلاقي الذي يقدمه هانيكه وربما لا؛ لكنه إذا اعتبر نهجا يهدف لحرمان الجمهور من المتعة السردية الخاصة، فمن المستبعد أن يحقق نجاحا كبيرا. إذا كانت القصة التي يقدمها هانيكه مثيرة للاهتمام، فسوف تثير اهتمام الجمهور. كيف يصبح اعتبارنا إياها مثيرة للاهتمام أمرا يتطلب تعطيل «رقيب داخلي»؟ إذا كان هذا هو كل ما يدفعنا لمشاهدة الفيلم، فيمكننا بسهولة الرد على نقد هانيكه الضمني له قائلين: إذا كان السيد هانيكه يريد أن يتوقف الناس عن الاهتمام بتجسيدات العنف، فعليه إذن أن يتوقف عن صنع أفلام مثيرة للاهتمام، أو التوقف عن صنع أفلام عنيفة. لكن هانيكه حقق نتيجة مهمة بلا شك. إن الشيء الذي نملك مبررا قويا حقا لإنكاره فيما يتعلق بخوضنا تجربة الرعب الفني هو مدى استمتاعنا بمشهد الرعب في حد ذاته. وما قام به هانيكه من استئصال جراحي للمتع المرتبطة بهذا النوع الفني والتي تمكن هذا النوع من الاستمتاع من المفترض ألا يحدث تأثيرا يذكر في المتع السردية كما يفهمها كارول. لكنه أحدث تأثيرا. إن «ألعاب مسلية» يقدم ما هو أكثر من مجرد عرض قاس لا يتوانى لسلوك سادي، بل يحرم مشاهديه على نحو منهجي من سبل التمتع بمشهد الرعب.
النقد الأخلاقي الذي يطرحه هانيكه
نختتم هذا الفصل بمناقشة موجزة (بالغة الإيجاز في الواقع) حول الموقف الأخلاقي للرعب الواقعي. وهو نوع فني لطالما جذب قدرا كبيرا من النقد العدائي. إن هدف هانيكه من صنع «ألعاب مسلية» هو تقديم نقد أخلاقي للرعب الواقعي، وبشكل أعم لظاهرة العنف بهدف التسلية. وهو نوع من العنف يحيط بنا في كل مكان، لكنه يبلغ ذروته في أفلام الرعب الواقعي.
24
يشرح هانيكه رؤيته في الفقرة التالية، متحدثا عن المشاهد التي يتحدث فيها بول إلى الكاميرا:
يتواصل القاتل مع المشاهد، ما يعني أنه يجعله شريكا في الجريمة. ومن خلال جعل المشاهد شريكا للمجرم، يمكنني في النهاية توبيخه على موقفه هذا. إنه موقف ساخر بعض الشيء، لكني أردت أن أبين كيف يصبح المرء دوما شريكا للقاتل إذا شاهد هذا النوع من الأفلام. لا عند مشاهدته فيلما يخرج عن الإطار السردي التقليدي مثل هذا الفيلم، بل عند مشاهدة الأفلام التي تعرض العنف بطرق مقبولة. نحن دوما نتفق عن أن العنف يحدث، وعلى أنه قابل للاستهلاك، ولا ندرك أننا شركاء في هذا الوضع. ذلك هو ما رغبت في توضيحه.
25
يوضح هذا الهدف السبب وراء قرار هانيكه بإعادة إنتاج الفيلم في السوق الأمريكية؛ فتلك السوق هي المنتج والمستهلك الأكبر للأفلام الرعب الواقعي في العالم، وبالطبع لأفلام العنف لأجل التسلية. يرى هانيكه أن فيلمه بمثابة تدخل في تلك السوق، وهو سبيل لإبراز تواطؤ المشاهدين إلى نطاق الوعي. وتلك مهمة من المستبعد أن ينجح فيلم ألماني مترجم من عام 1997 في تنفيذها. (ربما يفسر هذا أيضا طريقة الدعاية الغريبة لفيلم عام 2007، التي قدمته كفيلم رعب وتشويق واقعي تقليدي.)
26
هل نجح نقد هانيكه وفقا للأسس التي حددها؟ ذلك أمر مشكوك فيه. يفترض هانيكه أن جمهورا يلج دار العرض عن وعي ليتسلى بمشاهدة فيلم يتضمن سيلا من جرائم القتل المصطنعة، يشارك من زاوية ما في عملية الإنتاج الثقافي للجرائم المصطنعة، فإذا غاب الجمهور تختفي تلك المحاكاة، وتختفي الآلية الثقافية التي تدعمها. لكن في الجزء الذي اقتبسناه من الحوار مع هانيكه، نجده لا يتحدث عن قاتل خيالي أو قتل مصطنع، بل يتحدث عن قاتل وما يمارسه من عنف. هو يستخدم على ما يبدو لغة مراوغة في الحديث عن العنف وعن تمثيل هذا العنف. وربما يرى أن تمثيل العنف هو في حد ذاته نوع من العنف، لكن زعما قويا كهذا يحتاج إلى حجة تدعمه.
إذن ما الذي قد يقصده هانيكه؟ يتخذ النقد الأخلاقي للعنف الهادف للتسلية صورتين مختلفتين. الأولى تقدم نقدا يستند على العواقب العملية لمشاهدة العنف الهادف للتسلية. ربما تنتج الثقافات التي تتبنى العنف من أجل التسلية مزيدا من العنف عبر ما تخلقه من نماذج ومعايير سلوكية عنيفة، وعبر إضعاف رد فعل الصدمة لدى الناس حيال هذا النوع من السلوك. هذا أمر وارد. من الصعب الإتيان بدليل على هذا . النوع الثاني من النقد الأخلاقي يحتج على ثقافات العنف الهادف إلى التسلية بناء على اعتقاد بأن تجسيد أحداث مروعة، لا لغرض سوى التسلية، يتعرض لها أفراد - وإن كانوا من وحي الخيال - هو أمر خاطئ في حد ذاته. إنه أشبه بخطاب كراهية موجه إلى البشرية، وهو مسئول عن نوع من التسطيح لردود أفعالنا الأخلاقية تجاه الآخرين، حتى وإن لم تزد مستويات العنف في حد ذاته.
27
حسب المنظور التحليلي النفسي لجاذبية الرعب الفني، فإن كلا نوعي النقد الأخلاقي هذا عرضة للمبالغة على الأرجح. لن تصبح تجربة الرعب الفني خطيرة أخلاقيا إلا إذا قوضت تلك العمليات النفسية الكبتية التي تتيح العلاقات المهذبة بين البشر. ووفقا لنظرية التحليل النفسي، تلك العمليات قوية ومتماسكة؛ ما يجعل من احتمال زعزعة قيمنا الأخلاقية إثر التعرض للرعب الفني احتمالا بعيدا. رغم ذلك، إذا تجنبنا المبالغة في التعبير عن خطر تلك الأفلام، يوجد جانب مقبض وغير صحي في السادية المتزايدة التي تشكل أساس الكثير من أفلام الرعب الواقعي الحديثة. الأفلام التي غالبا ما يستشهد بها في هذا السياق هي ما يطلق عليه أفلام التعذيب الدموي مثل «نزل» (هوستيل) (2006) و«نزل الجزء الثاني» (هوستيل بارت تو) (2007)، وسلسلة أفلام «الأحجية» (وهي سبعة أفلام، من عام 2004 حتى 2010، أحدها بتقنية المشاهدة ثلاثية الأبعاد)، و«منبوذو الشيطان» (ذا ديفيلز ريجيكتس) (2005)، و«وولف كريك» (2005)، بل وحتى «آلام المسيح» (باشون أوف ذا كرايست) (2004).
28
يوجد احتمال آخر أيضا؛ دافعت سينثيا فريلاند (1995) عن (بعض) أفلام الرعب الواقعي على اعتبار أنها تحفز، عبر مبالغاتها السخيفة، اهتماما تأمليا بتأثيرات مشاهد العنف على حيواتنا الأخلاقية. يمثل فيلم «ألعاب مسلية»، بصرف النظر عن أي جوانب أخرى به، مثالا لتلك الأفلام.
أسئلة
هل فيلم «ألعاب مسلية» فيلم رعب؟
هل الرعب مزيج من الخوف والتقزز؟ هل من الممكن أن تتألف استجابة الرعب كليا من الخوف؟ هل يوجد عنصر معرفي لا غنى عنه في تجربة الرعب؟ (هل لا بد أن يصدق المرء شيئا ما حول موضوعات التجربة التي يمر بها كي يشعر بالرعب؟ ما هو هذا الشيء؟)
ما السمات التي تجعل الفيلم على درجة عالية من الغرابة؟ هل من الممكن أن تكون أفلام الرعب الواقعية غريبة، أم هل يقتصر هذا على الرعب الخارق للطبيعة؟
في هذا الفصل، زعمنا أن المشاعر السلبية ليست كريهة بالضرورة، بل هي كريهة عادة أو في الأحوال الطبيعية. هل هذا صحيح؟ عندما تتعرض لصدمة في دار العرض، هل تستمتع بالصدمة نفسها أم بالآثار التالية لها مباشرة؟ هل من الممكن أن تمنح المشاعر السلبية متعة من خلال تأثيراتها أو عواقبها لا من خلال ذاتها؟ ما هي تأثيراتها وعواقبها؟
كيف يفسر المنظرون من أتباع المنهج التحليلي النفسي العملية التي من خلالها نسمح لأنفسنا بتلقي المتعة من الإشباع التلصصي الشبق للرغبات المكبوتة؟ ينبذ الفرد الرغبات المكبوتة ويتنصل منها؛ كيف تقدم تلك الرغبات في السينما في شكل لا يلقى رفضا أو إنكارا؟
لقد زعمنا في هذا الفصل أن التفسيرات التحليلية النفسية للرعب لا تفترض مسبقا مفهوم «الوحش الذي بداخلنا». لكن أليس ذلك تحديدا ما تفترضه؟ إذا كنا نكبت الرغبات التي نجدها مرفوضة (لمبررات قوية حقا)، فلماذا إذن لا نرفض أنفسنا على مستوى أعمق؟ هل ردنا في هذا الفصل، فيما يتعلق بهويتنا وعلاقتها باللاوعي، كاف لتجريد الزعم القائل بأن التحليل النفسي يبرز «الوحش الذي بداخلنا» من فعاليته؟
هل ينجذب الناس إلى قصص الرعب لا لسبب سوى افتتانهم المعرفي بالوحوش (أو فضولهم حيالها)؟ هل كارول محق في قوله إن متع مشاهدة الرعب هي بالأساس متع سردية؟ أمن الممكن حقا الحفاظ على اتساق هذه الرؤية على الرغم من تفاهة القصص والتكرار الذي نجده في الكثير من أفلام الرعب؟
أكنا على حق في زعمنا بأن فيلم «ألعاب مسلية» يستأصل جراحيا المتع المعتادة لمشاهدة الرعب؟ قارن فيلم «ألعاب مسلية» بغيره من أفلام الرعب الواقعي. ما سبب كون الأفلام الأخرى أكثر إمتاعا (بالنسبة لهواه الرعب التقليديين) منه؟
استخدمنا فيلم «ألعاب مسلية» لنقد نظرية كارول حول متع مشاهدة الرعب. زعمنا أن الفيلم يحافظ على المتع السردية حتى النهاية تقريبا، لكن المشاهد لا يستمد في المعتاد متعة سردية من الفيلم. وهو يجسد قصة من المفترض أن نستمتع بها إذا كنا نستمتع بقصص الرعب الواقعي من الأساس، لكننا لا نستمتع. تقدم الرؤى التحليلية النفسية تفسيرا أكثر إقناعا لهذا الوضع مقارنة بتفسير كارول المعرفي. هل تصلح هذه الحجة؟ هل يوجد رد مقنع نسوقه نيابة عن كارول؟ «ألعاب مسلية» ليس سوى فيلم واحد، فلماذا نحمل فيلما واحدا عبء كل هذا الجدل؟
هل يوجد إثم أخلاقي ما يرتبط بمشاهدة أفلام الرعب؟ (لا يتعرض أحد للإيذاء أو الإذلال حقا في تلك الأفلام، بل هم ممثلون يؤدون أدورا تمثيلية؛ وغالبا ما يستمتع أفراد بصنع تلك الأفلام، ويستمتعون بجني أموال منها.)
هوامش
الفصل العاشر
البحث عن معنى في جميع الأماكن
الخطأ: «أن تحيا» (إيكيرو)
لا تخط طائعا نحو ذلك الليل الطويل؛
فحري بالعمر أن يشتعل ويتوهج في آخره.
اغضب، انتفض غضبا في وجه الضوء المحتضر.
ديلان توماس
أخرج أكيرا كوروساوا وشارك في كتابة فيلم «أن تحيا» عام 1952. صور الفيلم بالأبيض والأسود، ويبدو للملاحظ القصي أنه يروي قصة الموظف الحكومي كانزي واتانابي، الذي يعمل موظفا ورئيس قسم، قضى حياته كلها تقريبا في مكتب تابع للبلدية. في الواقع لا يفعل واتانابي ولا أي من زملائه بالمكتب أي شيء مثمر أو ذي قيمة، فهم يختمون ويعيدون ترتيب الأوراق التي لا هدف لها سوى التنقل من كومة عديمة الجدوى إلى أخرى.
1
قد يبدو الموظفون كما لو كانوا ينجزون شيئا بالفعل، لكن يتضح مع أحداث الفيلم أنهم لا يجلسون فحسب بلا عمل، بل إن ذلك هو المطلوب منهم وأنهم على نحو ما واعون بأنهم لا يفعلون شيئا. والمكتب - بما يعج به من أكوام وأكوام من الملفات المكدسة والمربوطة بعناية - هو في حد ذاته واجهة، أشبه بخلفية المسرح، لها جمالها من بعض النواحي.
بعدما يدرك واتانابي أنه مصاب بسرطان لا شفاء منه - وهي حقيقة كذب الأطباء عليه بشأنها - يغرق على الفور في لجة من التعاسة. ويدرك عبر طيات يأسه الجلي أنه يواجه مشكلة تتجاوز موته الوشيك . وطبيعة هذه المشكلة هي موضوع هذا الفصل؛ إنها، بوجه عام، مشكلة إيجاد معنى للحياة. في الفصل الأول، ذكرنا أن الكثير من المشكلات الفلسفية توجد أولا في الحياة الواقعية، يلي ذلك تبني الفلاسفة لها. «أن تحيا» هو نموذج يعرض مشكلة فلسفية ويقدم حلا «على الطبيعة»؛ أي في سياق حياة معينة وما تفرضه على صاحبها من مشكلات جدية. وهو، من نواح عدة، سابق على المعالجات الفلسفية الاحترافية للمشكلة، ويحظى كذلك بتأثير أقوى.
يعلم واتانابي عن مصيره من مريض زميل بالمستشفى، يعلمه كيف يكشف أكاذيب الأطباء. يخبره الأطباء أنه يعاني من قرحة بسيطة بالمعدة، في حين يعاني فعليا من سرطان بالمعدة لا يمكن استئصاله جراحيا. لا يوضح الفيلم ما إذا كان الأطباء يعتقدون حقا، كما يوحي الحوار، أنهم يراعون مصلحته بعدم إخباره؛ ففي النهاية ما فائدة القلق على شيء لا يمكنك فعل أي شيء حياله؟! أم يرغبون ببساطة في تجنب مشقة إخباره. وكما هي الحال مع أفلام كوروساوا يروي الحوار قصة بينما يحكي المشهد قصة أخرى. في هذا المشهد يوضع الحوار والسرد في مواجهة تكنيك التصوير السينمائي (اللقطات المقربة الطويلة والقاسية) والأداء التمثيلي من أجل تحقيق تأثير خاص (المشهد في الدقيقة 17). يطرح سلوك الأطباء مشكلة الأسلوب الأبوي في التعامل التي تستدعي منا بعض التأمل. في معظم الأماكن اليوم، يحاول العاملون بمجال الطب منع هذا النوع من السلوك الأبوي الذي يظهره أطباء واتانابي. لكن استقلالية الفرد لا تزال تزعزعها الأبوية يوما بعد يوم في كثير من مجالات الحياة، من بينها الطب طبعا، لكن أبرزها هو السياسة. الفعل الأبوي هو الذي يحرم الأفراد من فرصة تقرير مسار عمل خاص بهم، إما عبر حجب معلومات أو إعاقة الوصول إلى الموارد، أو تجريم مسار عمل محتمل. من الصعب، إن لم يكن مستحيلا، معرفة متى يكون السلوك الأبوي من جانب أولئك الذين في موقع سلطة - مثل الأطباء والساسة ورجال الشرطة وغيرهم - مبررا. عادة ما تبرر الأبوية بمزاعم تدعي أن العجز عن تقرير مسار عمل ما أمر في مصلحتنا ، أو حول وجود مصلحة كبرى على المحك. يقابل هذه الأبوية من الناحية الأخرى نوع من الطفولية لدى أولئك الذي لا يرغبون في أن يكونوا على علم، أو أمثالهم تقريبا ممن يخدعون أنفسهم بزعم أن من هم في مقاعد السلطة «هم الأكثر دراية» وقادرون على الوصول إلى معلومات تخفى على بقية الناس. تخيل ما كان سيحدث لو أن واتانابي صدق الأطباء، كان سيفقد فرصة إيجاد معنى لحياته في شهورها الأخيرة.
يعيش واتانابي مع ابنه (ميتسو) وزوجة ابنه، أو بالأحرى يعيشون هم معه في منزله. هو غير مرحب به في بيته، ويبدو عاجزا أو عازفا عن إخبارهما بمرضه المميت، يدفعه في ذلك جزئيا عدم اهتمامهما به عموما وتجاهلهما إياه. وعندما يحاول بالفعل إخبارهما، تتدخل الظروف مرارا وتكرارا لمنعه من ذلك. ويظلان على جهل بمرضه وبعلمه أنه مريض حتى بعد موته. من الخارج على الأقل، يبدو أن ميتسو وزوجته مهتمين بميراثهما وبشراء بيت جديد أكثر من اهتمامهما بواتانابي. وعلى الرغم من برود الابن وانعزاله وعزوفه عن إبداء أي حب أو احترام تجاه واتانابي، كان واضحا أيضا أنه كان يكن مشاعر تجاه والده، مشاعر لم يدرك وجودها على الأرجح إلا بعد وفاته.
وعلى الرغم من محالات واتانابي الواهنة بعض الشيء لاسترجاع الود بينه وبين ابنه، من الخطأ اعتقاد أن تحقق ذلك الوفاق بينهما كان سيحل وحده مشكلة واتانابي. ربما خفف من عزلته ووحدته وساعده على تهدئة خوفه، وذلك ليس بالأمر الهين. لكن كوروساوا يلمح، عبر السرد البصري أكثر من السرد الحواري، إلى أنه في مواجهة الموت نحن أيضا، لا واتانابي فحسب، نكون وحدنا. ويأتي التجسيد الأقوى لهذه الفكرة - في أحد أكثر المشاهد اكتمالا وإتقانا في تاريخ كوروساوا السينمائي - في اللقطة الأخيرة لواتانابي التي تصوره وحده ليلا قبل لحظات من وفاته في المتنزه الذي أنشأه، يتأرجح على أرجوحة الأطفال ويغني بينما تتساقط الثلوج من فوقه (الدقيقة 17 من الساعة الثالثة). فمهما حشدنا من دعم واستجمعنا من قوة، ومهما كان لحياتنا من مغزى، وأيا كان من يتشبث بأيدينا وقت الرحيل، نحن نواجه الموت بمفردنا عند مجيئه. وأيما تلقينا من عون من أولئك المحيطين بنا، حتى أولئك الذين نحبهم ويحبوننا، فإن ذلك كله إن لم يجرد تماما من قوته، فإنه على الأقل يصير بلا أهمية نسبيا في وجه الموت.
في مكتب البلدية، يؤدي الموظفون أدوارا في تمثيلية محكمة، حيث يخفي الجميع ما يدور داخل عقولهم خلف ستار من الادعاء، ولا يتشكك أحد في قيمة ما يفعله. الاستثناء الوحيد بينهم هي تويو؛ موظفة شابة مستجدة، سرعان ما تستقيل من العمل لأنه في رأيها «ممل إلى حد لا يطاق.» وعلى الرغم من صغر سنها - في الواقع، بسبب صغر سنها - هي تتمتع ببصيرة فطرية، وانجذاب نحو ما يضفي معنى على الحياة. هي ليست المنقذ الذي قد نتوقعه لبطلنا (على الرغم من أننا نخمن دورها على الفور)، لكنها تلعب رغم ذلك دورا محوريا في خلاص واتانابي؛ إذ ترشده إلى طريق للخلاص لا يرتبط بقوى غيبية أو رعاية إلهية. وفي النهاية، ينعم واتانابي، ولو للحظات وجيزة، بإحساس بالمكان والانتماء. في المشهد الذي ذكرناه بالأعلى، يغني واتانابي أغنيته المفضلة على ما يبدو، فتلك هي المرة الثانية التي يغنيها في الفيلم، وفي هذه المرة يغنيها بمزيد من الطمأنينة، ويخفت إحساسه بالضياع. وهي أحاسيس لا تنبع من إدراك كون حياته ناجحة بقدر ما تنبع من كونه تعلم «أن يحيا».
يغني واتانابي أغنيته للمرة الأولى في حانة يصطحبه إليها روائي ناشئ منحل (الدقائق من 49 حتى 52)، يأخذه إلى جميع الأماكن التي يتوقع المرء كونها زاخرة بصور الحياة الصاخبة (مثل الحانات وبيوت الدعارة، وما شابه). ويغنيها في اللحظة التي يكتشف فيها على ما يبدو أن رحلة البحث عن معنى في تلك الأماكن قد أخفقت، بصرف النظر عن النوايا الحسنة لدى مرشده الدنيوي. تدعى الأغنية «أغنية الجندول» (جوندولا نو أوتا، 1915)، وهي أغنية عاطفية تنصح الفتيات بالوقوع في الحب بينما لا يزلن في عمر الصبا. لكن مع غناء واتانابي المفعم بالأسى لها تتحول الأغنية إلى تلخيص سينمائي بالغ القوة للعديد من الأفكار السردية الرئيسية بالفيلم، من ضمنها فقدان ما يزخر به سن الشباب من احتمالات، وما يبعث عليه ذلك من كآبة. وهو ما يعبر عنه الشاعر لاركن (1974: 32) عندما يشير إلى القمر في قصيدته «خطوات حزينة»:
هذا التفرد الجلي بعيد المنال لذلك النجم الساطع •••
يذكرني بالقوة والألم،
بشبابي الذي ولى بلا رجعة،
إلا أن جذوته ما زالت تشتعل لدى آخرين في مكان ما.
بلا شك أدى المرض إلى تفاقم مشاعر الأسى والندم لدى واتانابي، لكننا نخطئ إن ظننا أن ذلك هو كل ما في الأمر.
نحن قادرون على التوحد مع واتانابي لأننا ندرك بديهيا أن مشكلته هي مشكلتنا أيضا، فهي انعكاس للوضع البشري. لقد كان لواتانابي أيضا طموحات ورغبات وأهداف في شبابه. ويستخدم الفيلم تقنية الاسترجاع الفني ليعرض مشهد وفاة زوجته، ويلمح المشهد، باستخدام أقل قدر من الحوار، إلى أنه هجر طموحاته كلها في سبيل إعالة ورعاية ابنه الذي أحبه حبا جما (الدقيقتان 22 و23). ربما تحجج واتانابي بابنه ليهجر أحلامه؛ لا نعرف حقا، وربما لا يعرف واتانابي كذلك. لكن مشكلته تلخص جانبا من الحياة يواجهنا جميعنا مهما كانت حياتنا ناجحة أو مزدهرة أو زاخرة بعلاقات ذات قيمة؛ وهو حقيقة أنه مهما بلغنا من ذرى ومهما حققنا من نجاح، نظل بدرجة ما أو بأخرى عاجزين عن بلوغ تطلعات شبابنا، بصرف النظر عن حسن إعدادها أو سوئه، أو كونها واقعية أو وهمية أو نرجسية. يعبر ستيفن سبندر (1986) عن هذا الشعور في قصيدته «ما كنت أتوقعه»:
ما توقعته كان،
هزيم الرعد، صولات من القتال،
صراع مديد مع الرجال،
وتسلق للجبال.
وبعد جهود طوال،
تزداد قوتي، ليس في ذلك شك أو جدال؛
وعندئذ ترتعد الصخور،
وأركن إلى راحة تطول. •••
ما لم أتوقعه كان،
تعاقب الأيام
موهنا الإرادة
مبددا الضياء،
افتقاد كل ما يطيب لمسه
تبدد الجسد والروح
مثل دخان في مهب الريح
فاسد، بلا وزن. •••
فناء الزمن،
ومشاهدة العجزة يمرون،
بأطراف تشبه علامات الاستفهام،
بالتوائها الغريب.
دفقات الأسى،
تذيب العظام شفقة،
المرضى يتداعون من على وجه البسيطة.
تلك أشياء عجزت عن توقعها. •••
لأني توقعت دوما،
شعاعا من النور نودعه صدورنا،
شيئا من البراءة،
ننتشله من الثرى؛
في حالة من التشبث،
ليظل باقيا رغم كل شيء،
مثل قصيدة منظومة،
أو بلورة متلألئة.
قد يتضافر مرض مميت من ناحية، مع إدراك، لا يكون دوما واعيا، لإخفاق محدق من ناحية أخرى، تحدث نتيجة له أزمات منتصف العمر - بعضها يثير الضحك، لكن الكثير منها لا يبعث على ذلك - والتي تسفر تحديدا عن رجال عاجزين بدرجة ما أو بأخرى عن احتمالها، غير قادرين على فهم الفائدة التي يجنيها الآخرون من قيادة سيارات رياضية باهظة الثمن. من ناحية، الإخفاق هو مصير البشر جميعا، و«الإخفاق» هو التعبير المناسب هنا. وقدرة الفيلم (قدرة كوروساوا) على استحضار ذلك هي ما يربطنا بواتانابي ويحرك مشاعرنا، على الأقل لدى من تأثر منا بالفيلم (البعض لم يتأثر بهذا الفيلم). وما يدفع هذا التوحد مع بطلنا عامل شعوري أكثر من كونه إدراكيا. على وجه التحديد، ربما يكون ما نشعر به تجاه واتانابي انعكاسا لميولنا النرجسية، حبنا لذاتنا، ونابعا منها.
في اللقاء الأخير مع تويو، يسألها واتانابي، مدركا أبعاد مرضه وموته الوشيك: «لم تنبضين بالحياة إلى هذا الحد المذهل؟ ... قبل أن أموت، أرغب في أن أحيا يوما واحدا كما تحيين. سوف أحيا على هذا النحو قبل موتي، لن أستطيع الاستسلام للموت حتى أحقق ذلك» (الدقيقة 26 و27 من الساعة الثانية). بالتأكيد يرى واتانابي قرب موته مشكلة، لكنها ليست - كما يتضح من الاقتباس - مشكلته الأساسية. غالبا ما ينظر إلى «أن تحيا» على أنه عمل دعائي لمبادئ الفلسفة الوجودية، يعالج قضية معنى الحياة وما تتضمنه من أسئلة على غرار: لماذا ينبغي على المرء أن يحيا، وكيف يحيا في عالم بلا معنى، ربما عالم عبثي؛ عالم قادر على إنتاج صور مروعة لا يمكن تصورها من الرعب والظلم والألم؛ عالم بلا سردية كبرى منطقية تفسره وتصالحنا عليه؟ من الصعب تخيل حال اليابان عام 1952 بعد الحرب العالمية الثانية وبعد سقوط قنبلتي هيروشيما وناجازاكي. (يعكس فيلم كوروساوا بدقة أزمة اليابان في فترة ما بعد الحرب، وهو على أقل تقدير يطرح نقدا اجتماعيا بقدر ما يروج لأفكار وجودية.)
يطرح السؤال حول معنى الحياة بصيغ متنوعة، من بينها الصيغتان التاليتان: «هل للحياة معنى؟» و«ما معنى الحياة؟» لكن هاتين الصيغتين على حد سواء لا تجسدان قلق واتانابي، وصيغة السؤال المناسبة لحالته توضح أن هذين السؤالين بطريقة طرحهما يغفلان جوهر المسألة أو الصيغة الأكثر شيوعا لها. إن واتانابي لا يتساءل عما إذا كان للحياة معنى، ناهيك عن التساؤل حول ماهية هذا المعنى. هذان السؤالان تحديدا بلا أهمية من منظور واتانابي، بل قد يراهما بلا معنى؛ فهو لا يشغله السؤال حول ما إذا كان للحياة في حد ذاتها معنى، بل يهمه كيفية إيجاد المعنى في «حياته هو». يختلف ذلك عن السؤال حول ما إذا كانت الحياة، بمفهومها المجرد، تحمل معنى، ويختلف كذلك اختلافا واضحا عن السؤال حول ما إذا كان لحياة المرء ذاته معنى. عندما نطرح السؤال على هذا النحو فإننا نسعى إلى إيجاد معيار موضوعي يحدد مغزى الحياة؛ أي دور في سردية كبرى، سردية دينية غالبا، تجعل حياتنا مهمة على نحو ما. مشكلة واتانابي لا تتعلق بإيجاد تلك القصة، بل بإيجاد طريقة للحياة «على نحو سليم» على حد تعبيره. مشكلته هي كيف يعيش الحياة على نحو هادف، لا اكتشاف معنى للحياة. مشكلته هي كيفية السعي لإيجاد وإرساء طرق للعيش على نحو هادف تتوافق مع فكرتنا عن أنفسنا وما نود أن نكون، بقدر استيعابنا لتلك المفاهيم.
القضية إذن هي كيف نعيش حياتنا على نحو هادف، وليس هل للحياة معنى أم لا. على سبيل المثال، عندما يفكر الطلاب في اختيار المهنة لا ينشغلون حينئذ - وهم محقون في ذلك - بمعنى الحياة في حد ذاتها بل بالطريقة المثلى لإيجاد معنى في حياتهم أنفسهم.
2
من المفترض، وهو افتراض صحيح في الأغلب، أن وظيفة المرء ستلعب دورا جوهريا، على المستوى البنيوي والمالي ومستويات أخرى متنوعة، في مساعيه لإيجاد أو خلق معنى. وكما سيخبرك معظم الطلاب ، اختيار المهنة ليس مسألة سهلة ولا تثير الضحك على الإطلاق. وظيفة واتانابي غير ذات نفع تماما في مسعاه لإيجاد معنى . لكن الفكرة التي تبعث على التأمل هنا هي فكرة ماركسية تتعلق بإحساس الأفراد بالاغتراب عن عملهم، أو فكرة تذكرنا بثورو في ادعائه الجريء والمتكرر بأن «جموع البشر يعيشون حياة يائسة هادئة. ما نطلق عليه استسلاما هو يأس مؤكد» (ثورو 2004 [1854]).
3
فضلا عن ذلك، ما يزيد المسألة تعقيدا هو أن مشكلة إيجاد معنى للحياة ليست من نوعية المشكلات التي يمكن حلها جذريا، رغم أننا قد نتظاهر بالعكس ونعرض أنفسنا للمخاطرة في خضم ذلك. إنها مهمة متكررة؛ فالحل الذي قد يعتبره المرء مرضيا في وقت ما من حياته قد لا يكون كذلك في وقت آخر. لماذا نفترض عكس ذلك؟ ربما يأتي على المرء وقت لا يبالي فيه بقدر ما حققه في حياته أو ما تحمله من معنى من منظور العمل أو العلاقات وما شاب، ويرغب في هجر عالمه وشد الرحال إلى الغابة كما فعل بوذا. وبعض الناس - لا لعيب فيهم ولا لتكاسلهم عن المحاولة - قد يواجهون قدرا لا يستهان به من الصعوبة في إيجاد معنى لحياتهم والحفاظ عليه مقارنة بالآخرين. (انظر المناقشة حول الحظ الأخلاقي في الفصل الثاني عشر.)
نزعم هنا أن فيلمنا يوضح أن السؤال الأهم حول معنى الحياة ليس «هل للحياة من معنى؟» بل «كيف يجد المرء معنى لحياته؟»
هل معنى الحياة ذاتي أم موضوعي أم غير ذلك؟
لا يهتم واتانابي بمعنى الحياة (فلا تشغله أسئلة مثل «ما سبب وجود الحياة؟» أو حتى «لماذا أنا على قيد الحياة؟»)، بل يهمه إيجاد معنى لحياته، أو «إيجاد سبيل لجعل حياته هادفة». وجهته تويو نحو الوجهة الصحيحة عندما عرضت عليه الأرانب اللعبة التي كانت تساعد في صنعه بالمصنع الذي تعمل به (الدقيقة 29 من الساعة الثانية)، وقد احتفظ بواحد منها. كانت اللعبة رغم بساطتها تشعر الآخرين بالسعادة. تلك لحظة فارقة في الفيلم؛ فقد أدرك واتانابي فجأة، بينما كان يهدهد الأرنب اللعبة (في مشهد جميل يصور واتانابي بمعطفه الطويل وقبعته) أن سعادته الشخصية ترتبط، أو قد ترتبط، ارتباطا وثيقا، بحياة الآخرين وسعادتهم. فإذا استطاع صنع فارق إيجابي في حياة الآخرين، فسوف ينجح كذلك في عيش حياة تحمل قدرا من المعنى والهدف، مهما كان إنجازه أو إسهامه مؤقتا أو زائلا على المدى الطويل.
تتفق سوزان وولف (2007: 72) مع واتانابي في هذا، فتقول: «إن عيش حياة ذات معنى هي مسألة تقتضي اندماجا ناجحا جزئيا على الأقل في مشروعات ذات قيمة إيجابية.» وحياة كهذه ستتضمن الآخرين وستؤثر في جميع الأحوال تقريبا على حياتهم تأثيرا إيجابيا. وحتى إن لم يكن للحياة ذاتها معنى أو كانت نتاج صدفة بحتة على سبيل المثال، فلن يقوض هذا فكرة الحياة الهادفة كما تراها وولف. تزعم وولف (2007: 69): «أن عيش حياة مفعمة بالمشاركة في مشروعات تستمد قيمتها من مصدر غير ذاتي أو على الأقل تركز جزئيا على تلك المشروعات هي سبيل يساعد المرء على إدراك أن وضعه غير مميز. وتتناغم، على نحو تعجز عن تحقيقه حياة تتمركز كليا حول الذات، مع حقيقة أننا لسنا مركز الكون.»
وتشير وولف (2007: 67) إلى أن الحياة الهادفة لا يشترط كونها حياة أخلاقية من نوع ما، أو حياة أخلاقية من الأساس. وتزعم أيضا أنه «لا يوجد ما يضمن أن تكون الحياة الهادفة حياة سعيدة.»
4
فمن الواضح أن الحياة الهادفة لا يشترط كونها سعيدة بما أن كثيرا من المندمجين بنجاح في مشروعات ذات قيمة إيجابية والمؤمنين بأن ما يقومون به ذو قيمة، يظلون رغم ذلك غير سعداء (إجمالا). هل كان الارتباط بين سعادة واتانابي في نهاية الفيلم وبين عثوره على معنى ارتباطا وليد الصدفة، أم كانت سعادته مرتبطة على نحو ما ارتباطا جوهريا بالمعنى الذي تمكن من استخلاصه قبل فوات الأوان؟ هل تكون القاعدة العامة أن أولئك الذين يعيشون حياة هادفة فرصتهم أفصل في حيازة قدر أكبر من السعادة؟
يزعم أرسطو وجود صلة جوهرية بين عيش حياة هادفة وبين سعادة البشر. ويرى أن تلك الحياة تقوم على الفضيلة (انظر الفصل الرابع عشر لمناقشة أكثر تفصيلا حول هذا الموضوع). إنها حياة يسعى فيها المرء فعليا خلف ما يصب في مصلحته العليا، وبموجب تلك الحقيقة فإنها حياة يصير فيها المرء كما ينبغي له أن يصير حسب طبيعته البشرية. يعتنق أرسطو ما قد يطلق عليه تصورا جوهريا للسعادة. يقول تايلور (1975: 132) إن ذلك التصور «يفترض مقدما وجود ما يسمى بالطبيعة البشرية الجوهرية.» عندما توضع أهداف يشترط أن يحققها الفرد بوصفه فردا، فذلك يشير إلى وجود تصور جوهري للطبيعة البشرية. ما هي الطبيعة الجوهرية؟ هل تعتمد السعادة عليها؟ حسب المفهوم الجوهري للسعادة، الذي يفترض مسبقا وجود طبيعة بشرية جوهرية، تتوقف «السعادة» بوجه عام على مدى التزام المرء بطبيعته. يقول تايلور «1975: 132-133»:
حسب المفهوم الجوهري للسعادة، الحياة السعيدة حقا هي «الحياة التي في صالح الإنسان» ... والسعادة (اليوديمونيا؛ أي الرفاهة أو الهناء) هي نوع الحياة المناسب أو الملائم «للإنسان»، و«الإنسان» الفرد هو تجسيد الطبيعة الجوهرية للبشر (أو جوهر البشر)؛ ومن ثم لا يمكن ربط السعادة بأي نوع من الحياة قد يرغب المرء في عيشه. بل هي سمة لنوع الحياة الذي كنا سنرغب جميعا في عيشه إذا فهمنا طبيعتنا الحقة كبشر. السعادة إذن يمكن تعريفها بأنها حالة «الروح» أو وضع حياتي يستهدفه البشر جميعهم، «بقدر كونهم بشرا»، في النهاية.
بقدر ما يستطيع الإنسان بلوغ «السعادة» عبر تفعيل الخصائص التي «تحدد صالح الإنسان بوصفه إنسانا» أي عبر تجسيد الطبيعة الجوهرية للبشر، بقدر ما سيعيش حياة طيبة أو ذات قيمة جوهرية.
و«السعادة» إذن هي معيار الحكم على القيمة الجوهرية لحياة الفرد. (سوف نناقش مفهوم القيمة الجوهرية فيما يلي.) يوضح تايلور هذه النقطة قائلا (1975: 133):
عندما يستخدم هذا التصور للسعادة كمعيار للقيمة الجوهرية، يتوحد هذا المعيار مع معيار الكمال الإنساني أو الفضيلة الإنسانية الذي يطرحه معتنقو الرؤية الجوهرية. ما يحدد الصلاح الجوهري لحياة الفرد هو تحقيقه لنموذج مثالي؛ عبر عيش حياة إنسانية حقا، يحقق للفرد ما في صالح الإنسان بوصفه إنسانا. لا يستطيع الجميع الالتزام بهذا المعيار بالدرجة نفسها، لكن بقدر ما يستطيع المرء فعل ذلك، تكتسب حياته جدارة، واكتمالا يضفي عليها قيمة في ذاتها بمعزل عن أي آثار قد تحدثها في حياة الآخرين.
يختلف التصور الإيماني للطبيعة الجوهرية للبشر عن تصور أرسطو. فيرى المؤمن بالله أن الهدف أو المنتهى من الحياة هو الخلاص الذي يتخذ شكل الخلود الفردي، ونوع خاص من السعادة؛ ففي الجنة سيحظى الفرد بعلاقة أكثر حميمية مع الله مما كان متاحا له على الأرض. «الغبطة» أو «السعادة» هي هدف المؤمن، وتعرف الطبيعة البشرية في ضوء هذا الهدف. ويعني كونك إنسانا أنك مخلوق زائل تعتمد سعادته في النهاية على علاقة مع إله أزلي. يقتضي السعي لتحقيق هذا الهدف ما يعتبره المؤمنون طريقة حياة مميزة.
إذا رفضنا التصورات الجوهرية للسعادة الإنسانية، ستنكسر إذن الصلة بين المعنى والسعادة. ويمكننا عندئذ افتراض ما نعرفه بالفعل على أي حال، وهو أن حياة ذات معنى، بل حياة مفعمة بالمعنى، لا تضمن للمرء السعادة. ومع ذلك، على اعتبار أننا نعرف بالفعل الطبيعة البشرية، يبدو أن فرص السعادة تتزايد إجمالا بقدر سعي المرء وراء مشروعات ذات قيمة إيجابية مع تحقيق قدر يسير من النجاح في مسعاه على الأقل. وعلى الرغم من أن جهود واتانابي لإنشاء المتنزه لم تضمن بأي شكل من الأشكال شعوره بالسعادة، فإن جهوده قد كوفئت (وهو ما كان متوقعا).
قد نفترض أن واتانابي، مثل معظم اليابانيين، يمزج في حياته جوانب من ديانتي البوذية والشنتو. (الزواج وغيره من الأحداث الاحتفالية البهيجة مثل بداية السنة الجديدة تخضع لتقاليد الشنتو، بينما تخضع الجنازات غالبا للبوذية.) وبما أن البوذية، إذا راعينا الدقة، ديانة تنكر وجود الله (مع أن الممارسة البوذية غالبا ما تتضمن إشارات إلى آلهة متنوعة)، فإن السؤال حول ما إذا كان وجود الله أو وجود خطة إلهية ما شرطا لازما لنيل السعادة ليس - على حد علمنا - سؤالا يخطر على بال واتانابي من الأساس. وبحثه عن سبيل لإيجاد معنى في حياته منفصل أيضا عن مفهوم السعادة القصوى البوذي (النرفانا) وأي مفاهيم دينية أخرى فيما يبدو؛ ومن ثم، بقدر ما يتضح في حالة واتانابي، إيجاد المرء معنى لحياته سعي لا يرتبط البتة بوجود أي إله أو خطة مقدرة. وحتى إذا كان الله موجودا، فإن رحلة واتانابي كانت ستظل كما هي في طبيعتها، بل ربما في فحواها أيضا؛ إذا افترضنا أن الله قد حدد مسارا لنا، غاية لكل فرد منا على حدة، فإن تلك الغاية السماوية لن تساعد أيا منا على إرساء معنى لحياته إذا لم نتمكن من بلوغها وإدراكها ثم تبنيها في حياتنا. ولا جدوى من إخبار أحدهم أن معنى حياته، مثلا، هو تأسيس علاقة مع الله، إذا لم يكن الفرد نفسه قادرا على إيجاد معنى في ذلك المسار. فحتى لو وجد إله قد حدد غاية لكل منا، فإن ذلك على المستوى المنطقي لا يكفي كي يجد أي منا معنى لحياته إلا إذا كان يعتبر هذه الغاية ذات معنى. وحتى لو كان الله يعلم أن شخصا ما، لنسمه «أ»، لن يحقق الغاية التي حددها له إلا إذا فعل شيئا محددا، لنسمه «ب»، فسيظل لزاما على «أ» اعتبار «ب» مسعى يحمل معنى. وإذا كان الله قد خلق «أ» على نحو محدد يجعله عاجزا عن إيجاد معنى في أي شيء سوى «ب»، فسيكون «أ» عندئذ محروما فعليا من الحرية التي لا غنى له عنها في تشكيل حياته وما تحمله من معان. دون وجود تلك الحرية وذلك الاختيار، يعفى «أ» من تحمل نوع محدد من المسئولية عن طريقة حياته؛ لن يعفى من مسئوليته عن الاستجابة التي اختارها للخطة التي رسمها الله له، بل سيعفى من مسئولية جعل حياته ذات معنى.
زعم سارتر (1957) أنه في حالة وجود معنى موضوعي للوجود صاغه إله؛ أي جوهر إنساني في واقع الأمر، فإن ذلك لا يعني فحسب حرمان البشر من الحرية والقدرة على تأسيس حياة ذات مغزى بل سيصادر أيضا مسئوليتهم عن اختياراتهم المحورية ذات القيمة. وعليه، يرى سارتر أن غياب أي إله والجوهر الإنساني شرط للحرية وعبء في الوقت ذاته؛ فالحرية شرط لا غنى عنه لتحقق المسئولية وترسيخ معنى في حياة المرء.
أما القيمة الذاتية فهي تشير إلى معتقدات الفرد الفاعل ومواقفه أو حالاته الأخرى التي تنسب قيمة إلى أمر ما. على سبيل المثال إذا كانت صناعة الأفلام نشاطا ذا قيمة ذاتية لدى كوروساوا، فذلك يعني أن كوروساوا يعتبر أن صناعة الأفلام أمر ذو قيمة، ويؤمن بذلك. بل والأهم من ذلك، إيمان كوروساوا بقيمة صناعة الأفلام شرط لازم وكاف كي تصبح صناعة الأفلام نشاطا ذا قيمة ذاتية في نظره. ربما تكون صناعة الأفلام نشاطا مضرا بكوروساوا من نواح عدة، وربما تكون مفيدة. لكن بصرف النظر عن ذلك، إذا اعتقد كوروساوا أن صناعة الأفلام أمر ذو قيمة، أو بعبارة أخرى إذا كان كوروساوا يقدر صناعة الأفلام، فإن صناعة الأفلام تصبح نشاطا ذا قيمة ذاتية بالنسبة له. القاعدة إذن هي، مهما كانت فائدة «س» بالنسبة ل «ص»، إذا لم يقدر «ص» «س»، فلا يمكن أن تصبح «س» أمرا ذا قيمة ذاتية لدى «ص». بالطبع قد يكون كوروساوا مخطئا حيال ذلك كله؛ فقد يظن أنه يقدر صناعة الأفلام، ويكون مخطئا. ربما كان يخدع نفسه مثلا، فيشدد بحماس على قيمة الأفلام على المستوى الواعي بينما ينكر قيمتها على مستوى اللاوعي. (ربما اختار هذا المجال سعيا خلف المال والنساء.) وبما أن الأشياء التي نخدع أنفسنا بشأنها هي أشياء ذات أهمية نسبية لدينا، يمكن للمرء أن يتوقع أنه أينما تبرز المسائل ذات القيمة يبرز أيضا خداع الذات.
إذا زعمنا أن شيئا ما يتمتع بقيمة موضوعية فإننا نعني بوجه عام أنه ذو قيمة بصرف النظر عما إذا كان أحد يراه كذلك أم لا. وفي هذه الحالة اعتقاد الأفراد أن شيئا ما ذو قيمة لا يعتبر عموما شرطا ضروريا أو كافيا كي يصبح ذلك الشيء ذا قيمة موضوعية. الأشياء ذات القيمة الذاتية (على سبيل المثال، سعادتي التي أقدرها) قد تكون ذات قيمة موضوعية كذلك. لكن في ظل غياب حجة ما تبين وجود صلة جوهرية بين النوعين، لا نجد مبررا قويا يدفعنا إلى افتراض أن ذلك هو الوضع بالضرورة أو على الأقل في أغلب الأحيان. ما يعيدنا من جديد إلى القول بأنه إذا كان شيء ما يتمتع بقيمة موضوعية، فلا يشترط بالضرورة - بعيدا عن أي حجة لإثبات قيمة جوهرية - أن يتمتع بقيمة ذاتية لدى أحد.
تنقسم القيم إلى شعبتين على الأقل؛ فقد تكون قيما موضوعية أو قيما ذاتية كما أوضحنا منذ قليل. وقد تكون، في إطار آخر، قيما جوهرية أو قيما غير جوهرية. القيمة الجوهرية هي قيمة في حد ذاتها، بصرف النظر عن أي ارتباط بقيمة إضافية أو أوضاع ما. على سبيل المثال، يؤمن بعض الأفراد بأن المتعة شيء ذو قيمة جوهرية. ما يعني أن تجربة ممتعة بعينها تحمل قدرا من القيمة بصرف النظر عما حدث قبلها أو بعدها، ومهما كانت عواقبها. بالطبع قد تغطي العواقب السيئة الناتجة عن متعة لحظية على المتعة ذاتها، لكن إذا كانت المتعة ذات قيمة جوهرية فلا يمكن أبدا لعواقبها أن تمحوها كلية. بل سيظل لها نفع ما، إذا جاز لنا القول. القيمة غير الجوهرية هي القيمة التي تنبع من علاقة الشيء بأشياء أخرى، والنوع الأوضح من القيمة غير الجوهرية هو القيمة الذرائعية. تتألف القيمة الذرائعية لشيء من قدرته على التسبب في أشياء أخرى ذات قيمة أو على تيسير وجودها. فقرص لعلاج الصداع لا يملك قيمة جوهرية، لكنه ذو قيمة ذرائعية. قد تكون القيمة الذاتية قيمة جوهرية أو قيمة غير جوهرية (أو الاثنتين معا). تكون سعادتي ذات قيمة ذاتية من وجهة نظري، وفي حد ذاتها إذا أنا اعتبرتها كذلك. وربما تكون ذات قيمة ذاتية كذلك من وجهة نظري إذا كانت تمكنني من تحقيق غاية ما أخرى ذات قيمة. وبالطبع قد تكون الاثنتين معا. القيمة الجوهرية والقيمة الذرائعية لا تستلزم ولا تستبعد إحداها الأخرى. وبالمثل القيمة الذاتية والقيمة الموضوعية لا تستلزم بالضرورة ولا تستبعد إحداها الأخرى.
عندما نبحث عن معنى لحياتنا، فإننا نبحث عن قيم إيجابية. لكن هل تلك القيم ذاتية أم موضوعية؟ هل هي قيم جوهرية أم غير جوهرية؟ لا بد أن تكون قيما ذاتية على الأقل وإلا لن تسهم في سعينا لإيجاد معنى لحياتنا. قد تكون القيم الذاتية متفردة نسبيا ؛ فربما يعتبر شخص واحد شيئا ما ذا قيمة. تخيل شخصا يقرر اعتبار علب البيتزا المهملة أشياء ذات قيمة، وينشغل بجمعها وتصنيفها في أماكن الصدارة بحجرة التذكارات. (هل يحيا هذا الشخص حياة ذات معنى؟) لا يجب أن تتسم القيم الذاتية بهذه الدرجة من التفرد، بل يمكن أن تعتنق على نطاق واسع، وأن تحظى بالتأييد من عدة أفراد واعين. يبدو أن البحث عن حياة ذات معنى هو بحث عن سبل للإسهام بأشياء ذات قيمة ذاتية مشتركة تحظى بتأييد عدة أشخاص. هل لا بد أن تتمتع تلك الأشياء بقيمة جوهرية؟ لا بد أن ترتبط على نحو وثيق بأشياء ذات قيمة جوهرية. لقد وجد واتانابي قيمة في متنزه الأطفال. لكن المتنزه قد لا يكون ذا قيمة جوهرية في حد ذاته؛ ربما يكون ذا قيمة لما يمنحه من سعادة للأطفال ولعائلاتهم. وهذه السعادة في حد ذاتها قد تكون ذات قيمة جوهرية، وهي تبدو صالحة إلى حد كبير لاحتواء قيمة جوهرية. بناء على ذلك، سوف يجد واتانابي قيمة بالغة العمق في إسهامه في سعادة الأطفال الآخرين. إذا لم يكن المتنزه مرتبطا على هذا النحو الوثيق نسبيا بأشياء ذات قيمة جوهرية - تخيل أن الشيء الوحيد ذا القيمة الذي تمكن واتانابي من فعله عبر مجهوداته هو المساعدة على إعادة انتخاب نائب رئيس البلدية، وهو أمر تنحصر قيمته في أن نائب رئيس البلدية شخصية سياسية أقل فسادا بعض الشيء من خصمه - فإننا قد نبدأ في التشكك بالدور الذي لعبه المتنزه في إحساس واتانابي بأنه عاش حياة ذات معنى. فلا يكفي على ما يبدو أن يساهم المرء بوصفه ترسا في آلة عملاقة ذات قيمة ذرائعية. (ولعل واتانابي قد لعب، رغم كل شيء، هذا الدور بدرجة ما، حتى في الأيام التي قضاها في نقل الأوراق من كومة لأخرى.) إذن كي يحيا المرء حياة ذات معنى، عليه أن يسهم إسهاما مؤثرا في إنتاج أشياء ذات قيمة جوهرية يتفق عليها عدة أفراد؛ أي أشياء تهمنا وأشياء مهمة في حد ذاتها.
لكن ذلك يتركنا مع مسألة القيمة الموضوعية. ما الدور الذي قد تلعبه في عيش حياة ذات معنى؟ يزعم البعض أنه بعيدا عن وجود الله أو الإيمان بالله (أو كلا الأمرين)، تتبدد احتمالية بلوغ أشياء ذات قيمة موضوعية في الحياة وأن ذلك يقوض من احتمالية عيش حياة ذات معنى. لكن كيف يمكن دعم مثل هذا الزعم؟ بل ما معناه من الأساس، بما أن أولئك غير المؤمنين بوجود إله أو بالخلود يحيون حياة ذات معنى وذات أهمية من نوع ما؟ نتحدث هنا عن نوع من المعنى لا يمكن لذي فهم إنكار وجوده بالحياة؛ إنها المعاني الذاتية التي لا نتوقف عن خلقها لأنفسنا بينما نحيا أو التي نجد أنفسنا منغمسين فيها. قد تساهم الوظائف والعلاقات في عيش حياة ذات معنى ذاتي، مع أنها، كما نجد في أفلام كثيرة، قد تستلب بشدة من ذات المعنى أو الإحساس بوجود غاية.
رأى برتراند راسل أن الحياة بأسرها في المجموعة الشمسية سوف تفنى في نهاية المطاف. واعتقد أن قبول فنائنا والموت اللاحق لكل أشكال الحياة في المجموعة الشمسية، إلى جانب قبول غياب أي هدف أو خطة إلهية، جزء لا يتجزأ من أي حل مقبول فلسفيا لمشكلة إيجاد المرء معنى لحياته. يقول راسل (1981: 56):
إن الإنسان نتاج مسببات لم تعرف مسبقا الغايات التي ستصل إليها. فأصله ونموه وآماله ومخاوفه وما يحبه وما يؤمن به كله ليس سوى نتيجة تجمعات عشوائية لمجموعة من الذرات؛ فلا نار ولا بطولة ولا قوة فكر ولا عمق مشاعر في وسعه الإبقاء على حياة الفرد بعد موته. والجهود التي بذلت على مر العصور والتفاني والطموح وبريق العبقرية البشرية في أوج ازدهارها مآلها جميعا إلى الفناء في خضم الهلاك العظيم للمجموعة الشمسية. وصرح الإنجاز البشري بأكمله لا بد وحتما أن يدفن تحت أنقاض حطام الكون. كل هذا، إن لم يكن تحصيل حاصل، فهو أمر يكاد يكون يقينيا إلى حد يقضي على أمل أي فلسفة رافضة له في الصمود.
فكرة أن يوما ما «صرح الإنجاز البشري بأكمله» (سيمفونيات بيتهوفن وغيرها ) سيتبدد هي فكرة مؤرقة. يشير راسل إلى أن أيا كان معنى الحياة لدينا فلا بد أن نؤسس هذا المعنى على نحو مستقل عن أي سبب أو هدف مزعوم للحياة، سواء كان هدفا إلهيا أو غير ذلك. ويزعم على ما يبدو أن الحياة لا تشتمل على معنى مستقل عما يضفيه الأفراد من معنى على حياتهم، ونقصد بالاستقلالية هنا الاستقلالية عن المعنى الذاتي الذي نصوغه أثناء الحياة.
لا ينكر راسل أن «الإيمان» بوجود إله وبوجود غايات ما مقدرة، مثل العلاقة مع الله، قد يجعل الحياة ذات معنى من بعض النواحي لدى بعض الناس. لكنه يزعم أنه من المنظور الفلسفي إذا أردنا عيش حياة ذات معنى بعيد نسبيا عن الضلالات أو الأوهام، فلا بد لنا ألا نعترف فحسب بحتمية فنائنا، بل وبأن إجمالي ما حققه النوع البشري سوف يفنى يوما ما. كما أسلفنا، ما يشغل واتانابي ليس ما إذا كان للحياة معنى، بل كيفية جعل حياته ذات معنى. يلمح الفيلم بالفعل إلى أن إدراك المرء لفنائه (موت واتانابي الوشيك) هو أحد عوامل تكوين ذلك المعنى بنجاح. مع ذلك لا يعتنق الفيلم، ولا ينكر أيضا، زعم راسل الأبعد بأن العبقرية البشرية مصيرها الاندثار. على أي حال، يرفض الفيلم الزعم الديني الراسخ القائل بأنه في حال غياب الإله أو الخطة الإلهية أو الخلود، فإن الحياة ستصبح بالضرورة بلا معنى أو عبثية. فلماذا الافتراض أنه في حال عدم وجود معنى موضوعي للحياة - مثل المعنى الذي كانت ستحظى به حياتنا إذا كان هدف إقامة علاقة مع الله هدفا سماويا منزلا - فإن حياتنا ستصبح بالضرورة بلا معنى؟ لماذا الافتراض أنه إذا أبيدت جميع أشكال الحياة بالكون، والكون نفسه دون شك، فإن حياتنا ستصبح - من ثم - بلا معنى أو عبثية؟ لماذا نفترض أن «المعنى» الذي نصوغه في حياتنا مرتبط بأي حال ارتباطا جوهريا بوجود زائل أو مستمر؟ إذا اختفى العالم غدا هل يجعل ذلك من حياة واتانابي حياة عبثية أو لا معنى لها؟
الفصل الأخير
يتألف فيلم «أن تحيا » من ثلاثة فصول: الاكتشاف، والكفاح، والحل. الفصل الأخير هو أكثرهم إثارة للاهتمام من عدة نواح. باستثناء مشهدين قصيرين مع اللحظات الأخيرة للفيلم - أحدهما في المتنزه، والآخر في مكتب البلدية حيث كان واتانابي يعمل - تدور أحداث الجزء الأخير من الفيلم عقب جنازة واتانابي مباشرة، أو تأتي كجزء من الجنازة. بعض المشاهدين يرون أن متتالية المشاهد الطويلة في جنازة واتانابي، التي تتخللها مجموعة من لقطات تصور أحداثا ماضية، كانت أطول من اللازم. لكن البعض يزعم أن كوروساوا استخدم طول المتتالية في حد ذاته، فقد تعمد جعلها طويلة، كتقنية سينمائية لتركيز انتباه المشاهدين، وتقديم وجهة نظر أخيرة، وإتاحة وقت لتأمل أحداث الفيلم. ظاهريا، يحاول المعزون في هذا الجزء من الفيلم معرفة ما إذا كان واتانابي يعلم أنه مصاب بمرض مميت، مدركين أن هذه المعرفة ربما تفسر تغير شخصيته وتكريسه كامل جهده لعملية إنشاء المتنزه في وجه عدد لا نهائي من العقبات التعجيزية.
5
بالطبع يعلم المشاهدون بالفعل أن واتانابي علم باحتضاره، لكننا نشهد في هذا الجزء اتضاح هذه الحقيقة تدريجيا لمن حضروا العزاء، بما فيهم ابنه ميتسو. إنها فرصة كي يفكر المرء في الدور الذي يلعبه موته في حياته (مدى قرب الموت مسألة نسبية ليس إلا). وبالنظر إلى حتمية الموت فإن موقفنا من زاوية ما لا يختلف كثيرا عن موقف واتانابي، على الأقل عندما نفهمه من منظور بعيد أو من منظور عام. يفسر الفصل الأخير من الفيلم ويؤكد ما يعتقده بعض الوجوديين على الأقل حول الموت وعلاقته بالحياة ومعناها لدينا. وهو أن حقيقة الموت تحدث فارقا في طريقة حياتنا، أو ينبغي لها ذلك. يعتنق كامو وسارتر وراسل وآخرون كثر هذه الرؤية بوجه عام. يقول فيتجنشتاين (1961 [1921]: 147، 6,4311)، رغم عدم انتمائه لمذهب الوجودية إن «الموت ليس حدثا في الحياة؛ فنحن لا نعيش الحياة لنخوض تجربة الموت. إذا اعتبرنا أن الأبدية لا تعني دواما زمنيا لانهائيا، بل تعني غياب الزمن، فسنجد أن الحياة الأبدية يحظى بها من يعيشون في اللحظة الحاضرة».
6
وعلى الرغم من أن «الموت ليس حدثا في الحياة»، فإن الحياة تقودها، أو ينبغي أن تقودها، المعرفة بحتمية الموت.
وعبر التأكيد على أن «الحياة الأبدية يحظى بها من يعيشون اللحظة الحاضرة»، يعيد فيتجنشتاين ذكر أهمية الموت بالنسبة للحياة. والحياة الأبدية، بقدر ما تحمله من معاني الخلاص والتطهر، لا بد أن توجد، إن وجدت من الأساس، في الحاضر، في طريقة عيشنا للحياة الوحيدة التي نملكها. وهو رأي يتفق معه واتانابي (كوروساوا). لا ينبغي خلط هذا الموقف التذكيري بمواقف مثل «العالم ملك أيدينا»، ناهيك عن «نحن لا نحيا سوى مرة واحدة، كل شيء مباح إذن.» لكنه موقف يذكر الناس بأن الحياة من «بعض» النواحي أمر جد خطير، وينبغي أن ينظر إليه بنوع خاص من المهابة، لا من المنظور الأخلاقي، بل من منظور جدي عام (بحيث يظل في وسعك الاستمتاع، ويظل في وسعك تعلم هوايات جديدة ممتعة)، كما يقول الشاعر ناظم حكمت في قصيدته «عن الحياة» (1975) (المقطع الأول):
الحياة ليست بالأمر الهين:
لا بد أن تحيا بجدية بالغة،
مثل سنجاب على سبيل المثال؛
أعني أن تحيا دون البحث عن شيء وراء أو فوق الحياة،
أعني أن يكون العيش هو شغلك الشاغل.
الحياة ليست بالأمر الهين:
لا بد أن تأخذها على محمل الجد،
إلى الحد الذي تشعر عنده
كما لو كانت يداك، على سبيل المثال، مقيدة خلف ظهرك،
وظهرك ملتصقا بالحائط،
أو كأنك في المختبر
مرتديا معطفك الأبيض ونظارتك الواقية،
تضحي بحياتك لأجل الناس؛
حتى لو كانت تضحيتك في سبيل أناس لم تر وجوهم قط قبلا،
حتى لو كنت تعرف أن الحياة
هي أكثر شيء حقيقي وأكثر الأشياء جمالا.
أعني لا بد أن تعتبر الحياة أمرا جديا حقا،
ما يجعلك تزرع أشجار الزيتون حتى لو كنت في السبعين من عمرك،
لا لأجل أحفادك
بل لأنه رغم خشيتك من الموت فإنك لا تصدق وجوده،
فإن الحياة، على نحو ما، تعني لك أكثر .
توجد على الأقل نقطة أخرى يعرضها كوروساوا في مشهد الجنازة. بعدما يدرك الحضور من زملاء العمل أن واتانابي كان لديه بالفعل علم عن موته الوشيك، ينسبون لذلك التغير في شخصيته وتشبثه بإتمام بناء المتنزه. وفي تلك اللحظات المفعمة بالمشاعر - عندما يتكشف لهم العديد من الحقائق الخطيرة عن أنفسهم وعن عبثية عملهم (وحياتهم) - يعتزمون صادقين تغيير أساليب حياتهم. لكن كوروساوا، خشية أن يغادر الجمهور السينما بهذا الانطباع الأخير، بهذه النهاية السعيدة الزائفة، يعيدنا عامدا إلى مكتب البلدية. وهناك نجد ما توقعنا أن نجده؛ لا شيء قد تغير ولا شيء سيتغير. لا تزال أكداس الملفات المربوطة بإحكام كما هي، وكذلك المهام العبثية اللانهائية التي ينشغل بها الموظفون هناك؛ مع تلميح ما بأن بعضهم يدرك ما بلغوه من ترد ويندمون عليه.
إن حتمية موت المرء، لا الموت بمفهومه المجرد فحسب، هي الحقيقة التي ينبغي له أن يعيها كي يحيا بصدق وبحكمة - أو كي يحيا على الإطلاق كما في حالة واتانابي - ومع ذلك قد يفشل أيضا! تلك هي الفكرة الرئيسية التي نجدها في قلب مقال كامو «أسطورة سيزيف» (1955 [1942])، والتي لا نجدها لدى وولف (2007). على المرء أيضا أن يعي وجود نوع شامل كلي الوجود من الجمود واللامبالاة التي فيما يبدو تنظم وجودنا ذاته. (تلك الملفات لا تزال موجودة، مربوطة بإحكام ومكدسة في تلك المكاتب الحكومية، وسيضاف إليها المزيد إلى الأبد.)
أسئلة
هل يعاني واتانابي من مشكلة حقيقية؟ ما مشكلته؟ وإلى أي حد يمكن القول بأننا جميعا نواجه المشكلة ذاتها؟
في «أن تحيا» تظهر الحقيقة عندما يبدأ الجميع في التحدث (في حفل التأبين). ما الحقائق التي تكشفت، حال وجودها؟ وما الفرق الذي يحدثه انكشافها؟
يقال إن المعرفة قد «تخلصنا» أحيانا، أو بعبارة أخرى: المعرفة قادرة على إنقاذنا في بعض الأوقات. هل تحصل واتانابي على معرفة أدت إلى خلاصه؟ ماذا كانت؟ ومم أنقذته؟
ألا يدرك الشباب قيمة فترة شبابهم؟
يغني واتانابي أغنية «الجندول» مرتين. كيف تغيرت ظروفه فيما بين المرة الأولى والثانية؟ هل للأغنية معنى مختلف في كل مرة؟ جرب الجلوس على أرجوحة وغن الأغنية بنفسك.
هل من الممكن عيش حياة حقيقية بلا معنى؟ تذكر، قد يكون لحياة في غاية السوء معنى.
يقول إيزاك بابل في قصته القصيرة «جي دي موباسان» (1932):
حتى في تلك الأيام، عندما كنت أبلغ من العمر عشرين عاما، كنت أقول لنفسي: الموت جوعا أو الإلقاء في السجن أو التشرد أهون علي من قضاء عشر ساعات يوميا خلف طاولة في مكتب. لا يوجد ما يستحق ثناء خاصا في قراري، لكنني لم أتراجع عنه قط ولن أتراجع عنه أبدا. لقد كانت حكمة أجدادي مترسخة بعمق في عقلي: لقد ولدنا لنستمتع بعملنا، بمعاركنا، بأحبائنا، لقد ولدنا لأجل ذلك لا لأجل أي شيء آخر.
يا ترى ماذا كان واتانابي سيقول إذا قرأ ذلك؟
هوامش
الجزء
الأخلاقيات والقيم
يتناول الجزء الرابع بالبحث الحياة الأخلاقية، حيث سنبحث أسئلة حول الدافع الأخلاقي (ما الأسباب التي تدفعنا إلى فعل الصواب؟) والحظ الأخلاقي (هل الموقف الأخلاقي الذي نتبناه راجع لنا كليا؛ قد يكون المرء سعيدا أو تعيس الحظ في الحب، فهل من الممكن أيضا أن يكون محظوظا أو غير محظوظ في حياته الأخلاقية؟) سوف نفحص أيضا النظريات الكبرى في مجال الأخلاقيات في الفلسفة الحديثة مثل العواقبية وأخلاق الواجب ونظرية الفضيلة.
يقدم الفصل الحادي عشر دراسة للدافع الأخلاقي. هل لدينا ما يبرر التصرف على نحو أخلاقي حتى عندما يكون واضحا أن مصلحتنا الشخصية لا تتطلب ذلك؟ (ربما تكمن مصلحتنا الشخصية دوما في التصرف على نحو أخلاقي، كيف هذا؟) تحتاج المناقشات من هذا النوع إلى استخدام نموذج متخيل بالغ التعقيد (واحد على الأقل)، يتسم بقدر كبير من المنطقية. وقد اخترنا لهذا النقاش فيلم المخرج وودي ألن لعام 1989، والذي يحمل عنوان «جرائم وجنح» (كرايمز آند ميسديمينرز). كثيرا ما يناقش هذا الفيلم في سياق تلك القضايا. وسوف نضيف إلى هذه المناقشة عبر بحث متعمق وجدي لموقف الاختيار الذي يواجه الشخصية الرئيسية في الفيلم، شخصية جودا روزينثال. إن جودا نموذج لا يضاهى لتجسيد الصدام بين المصلحة الشخصية والالتزام الأخلاقي.
ونطرح في الفصل الثاني عشر دراسة لمسألة الحظ الأخلاقي. ما حدود قدرتنا على تحديد مصيرنا الأخلاقي؟ بعبارة أخرى ما علاقة الحظ بكوننا أناسا صالحين حسني التصرف أم لا؟ سوف نوظف هنا الفيلم الألماني «حياة الآخرين» (ذا لايفز أوف أذرز) (2006) الذي تدور أحداثه في برلين الشرقية قبل بضع سنوات من انهيار جمهورية ألمانيا الشرقية الديمقراطية (التي كانت في الواقع دولة شيوعية، تحت رعاية الاتحاد السوفيتي وحمايته). يتناول الجزء الأكبر من الفيلم سياسات الحرية الشخصية والخصوصية، وواجبات الفنان في عصور القمع، لكنه يطرح كذلك أسئلة فلسفية جوهرية حول الهوية الأخلاقية والمخاطر التي نخوضها عندما نقرر تحويل مسار حياتنا، حتى مع إيقاننا بأننا نصبح أشخاصا أفضل في خضم ذلك. في هذا الفيلم، تصادف الشخصية الرئيسية، جيرد ويسلر، فرصة من شأنها أن تجعل حياتها أفضل حالا. كان ويسلر محظوظا كما يتضح من سياق الأحداث، أما باقي شخصيات الفيلم فلم يحظوا بالقدر نفسه من الحظ. ما علاقة الحظ بالحياة الأخلاقية؟ قد تربطهما علاقة كبيرة.
أما الفصل الثالث عشر فيتناول مسألة التصرف الصائب. ما الذي يجعل تصرفا ما صائبا وما الذي يجعله خاطئا؟ سوف نستقصي نوعين رئيسيين من الإجابات التي يقدمها الفلاسفة. (ونبحث في الفصل الرابع عشر نوعا ثالثا من الإجابات.) سوف نطرح كذلك نظريتين فلسفيتين، هما العواقبية وأخلاق الواجب. وسنحتاج كذلك إلى دراسة حالة نستطيع استخدامها كي نستوعب الفرق بين النظريتين؛ ربما تساعدنا في تقرير مدى معقولية كل منهما. يمدنا كريستوفر نولان من جديد بدراسة الحالة المطلوبة التي نجدها في فيلم «فارس الظلام» (ذا دارك نايت) (2008) وتتضمن معديتين على متنهما الكثير من الركاب القلقين. وبالطبع تتضمن دراسة الحالة باتمان والجوكر كذلك. فيلم نولان درس عبقري في كيفية خلق المعضلات الأخلاقية. يتقصى هذا الفصل كيف يؤسس الفيلم إجابة عن السؤال حول التصرف الصائب، ثم يبدأ في تفكيكها.
وأخيرا يتناول الفصل الرابع عشر فكرة الصلاح. يستكشف العديد من الأفلام بالطبع فكرة صلاح الشخصيات، لكن الفيلم الذي نناقشه في هذا الفصل يتميز عبر طريقته الفطنة والمقنعة بتوضيح بهجة وجمال خلق هوية أخلاقية. الفيلم هو «الوعد» (لا بروميس) لصانعي الأفلام البلجيكيين جان بيير داردين ولوك داردين . ويجسد قصة فتى مراهق يقطع وعدا على نفسه، ويفي به. سوف نستخدم الفيلم في دراسة مزاعم نظرية الفضيلة. يزعم منظرو الفضيلة أن الفضائل تكمن في قلب الصلاح الأخلاقي ولا يمكن اختزالها في مجرد التصرف على نحو صائب أو جيد؛ فالفضائل أمر خاص وجوهري. يوضح فيلم «الوعد» هذه الخصوصية ونحن نستخدمه في مناقشة قضية نظرية الفضيلة.
الفصل الحادي عشر
«جرائم وجنح» وهشاشة الدافع الأخلاقي
مقدمة
تخيل معي أنك ارتكبت إثما فادحا نسبيا؛ وعليه، أصبحت واقعا في ورطة كبيرة؛ حياتك توشك على الانهيار من حولك، وكل ما تحتاج فعله كي تمنع حدوث هذا هو إجراء مكالمة هاتفية؛ مكالمة هاتفية إلى أخيك الذي سيتولى التعاقد مع شخص لارتكاب جريمة قتل نيابة عنك ستؤدي إلى تبديد متاعبك كافة. إنها مكالمة من الصعب إجراؤها، لكن من الصعب أيضا عدم إجرائها. ما الذي ينبغي عليك فعله؟ الإجابة بسيطة: عليك ألا تجري تلك المكالمة أبدا. عليك مواجهة عواقب سلوكك، وأن تدع حياتك تتخذ منحى سيئا، في بعض جوانبها على الأقل، نتيجة لما فعلته. سعادتك المستقبلية مهمة دون شك، لكن الأكثر أهمية هو ألا تصبح قاتلا. والأهم من ذلك ألا يقتل أحد لا لسبب سوى أن تصير أسعد حالا. من منظور أخلاقي، يبدو ذلك كله بديهيا تماما. وهو كذلك ملخص الحبكة الرئيسية لفيلم وودي ألن «جرائم وجنح» (1989).
ما يثير الاهتمام في هذا الفيلم ليس معضلة أخلاقية ما تواجهها الشخصية الرئيسية، شخصية جودا روزينثال؛ فهو لا يواجه معضلة أخلاقية؛ المعضلة الأخلاقية موقف لا يتضح فيه على الإطلاق، من منظور أخلاقي، ما يفترض بالمرء فعله. وجودا لا يواجه هذا النوع من المواقف. هو واقع في مأزق، لكنه ليس مأزقا أخلاقيا. لقد كان على علاقة غرامية مع امرأة تدعى ديلوريز طوال بضع سنوات ويرغب في إنهاء تلك العلاقة، لكن ديلوريز لها رأي مختلف، فهي تعتقد أنه قد وعد بترك زوجته، ماريام ، لأجلها. ودليلها على ذلك هزيل فيما يبدو؛ فقد أشار جودا ضمنيا في مناسبة واحدة على الأقل، نراها بتقنية الارتجاع الفني ، إلى استمرار علاقتهما في المستقبل، لكنه ينكر أنه وعدها قط بترك ماريام. وبدافع من اليأس، ترغب ديلوريز في مناقشة الوضع مع ماريام، وتهدد جودا بفضح خيانته وتعاملاته التجارية المشبوهة إذا لم تتحقق رغبتها. (على ما يبدو كان جودا يقترض أموالا من الحسابات الخيرية التي يديرها. ورغم زعمه تسديد تلك الأموال كافة، تظل التعاملات غير قانونية على الأرجح.)
تهدد ديلوريز بتحطيم حياة جودا كليا. هو على يقين من أن ماريام ستسامحه على خيانته، لكن سمعته كرجل مستقيم وخير ستدمر نتيجة ما ستكشفه ديلوريز عن تعاملاته التجارية. ستنحدر حياته إلى نقطة الحضيض، على حد تعبيره. يلجأ جودا إلى أخيه الذي يعرض سبيلا للخروج من مأزقه وهو تأجير قاتل للتخلص من ديلوريز. ويقبل جودا عرضه بعد قليل من الممانعة والمعاناة (الزائفة على الأرجح). وعندما تتم عملية القتل، يعاني من وخز الضمير. (أو هل هذا خوف من أن يلقى القبض عليه ويعاقب، إما على يد الشرطة أو بتدخل إلهي؟ الندم شعور مختلف عن الخوف من العقاب.)
1
وفي نهاية المطاف، عندما يتأقلم مع فعلته ويدرك أنه قد أفلت بجريمته دون عقاب، تخبو وخزات ضميره ويعود إلى حياته السعيدة المرفهة الموسرة كأن لم يحدث شيء تقريبا.
أحد الجوانب المثيرة للاهتمام فلسفيا في هذا الفيلم هو تحديه لدوافع عيش حياة أخلاقية. هذا الجانب ليس الوحيد في الفيلم الذي يثير الاهتمام الفلسفي؛ فالفيلم صريح في توجهه الفلسفي، وتتخلله تأملات ومجادلات فلسفية.
2
وقد أعدت قصته كي تبرهن على أن العالم مكان لا يسوده العدل التام؛ فالأشخاص الصالحون (كليف وبن في الفيلم) قد يعانون بسبب صلاحهم أو على الرغم منه، والأشخاص الفاسدون (جودا وليستر) قد يلاقون نجاحا وازدهارا لا لسبب سوى استعدادهم لارتكاب السوء.
3
لقد نجح ألن نجاحا جليا في طرحه، وفقا لشروطه الخاصة، لكن ماذا يثبت أيضا بعيدا عن حقيقة غياب العدل التام عن العالم؟ هل يثبت زيف الأخلاق ، وأنها مجرد نوع من الاحتيال، وليس لها دور سوى التحكم في السلوك فحسب؟ هل يثبت أنه دون وجود إله لا يمكن وجود قيم أخلاقية مشروعة من منظور موضوعي؟ لا يثبت الفيلم تلك الفرضيات، ولا يقدر قطعا على ذلك؛ فتلك مجادلات ذات طبيعة تجريدية تفوق قدرة قصة، عن مجموعة معينة (وغير معتادة) من الأفراد، على تقديم إسهامات مقنعة في تلك المجادلات. فضلا عن أن المجادلات الفلسفية المصاغة كلاميا في الفيلم هي بوجه عام أخف وأضعف من أن تحمل وزنا فلسفيا كبيرا. سوف نتجنب القضايا الكبرى من هذا النوع، وسنركز عوضا عن ذلك على أحد أهم مواطن القوة في الفيلم، وهي تحريه لدوافع جودا روزينثال وردود أفعاله. إن جودا شخصية مثيرة للاهتمام، وقد رسمها وودي ألن بتفاصيل حية، وأداها مارتن لاندو أداء بديعا. سوف نتحرى دوافع جودا فلسفيا؛ مهمتنا الرئيسية هي طرح السؤال حول «ماهية الدافع لعيش حياة أخلاقية» ومحاولة الإجابة عنه. بالطبع قد لا يحظى هذا السؤال، في نهاية الفصل، بإجابة مثالية، لكننا سنبحث أشهر الإجابات التي قدمها الفلاسفة. سوف نسترشد بجودا روزينثال في مهمتنا أو سنتخذه على الأقل نموذجا رئيسيا.
لدى جودا مبررات أخلاقية قوية تدفعه ل «العزوف» عن الترتيب لقتل عشيقته السابقة. لكن يبدو أيضا، للوهلة الأولى، أن لديه أيضا مبررات شخصية قوية تدفعه للترتيب لقتلها. إذا كان سيفكر في نفسه وما سيصب في مصلحته الخاصة فحسب، لا فيما يفترض عليه فعله أخلاقيا أو في ديلوريز أو في أي شخص آخر متورط في مسائله، فقد يبدو عندئذ أن لديه مبررا قويا جدا للتخطيط لعملية القتل. يوجد تصادم ها هنا بين المبررات الشخصية والأخلاقية. القيم الأخلاقية تحث جودا على فعل شيء، بينما مصلحته الشخصية تملي عليه شيئا آخر؛ ومن ثم يتخذ سؤالنا الفلسفي الصيغة التالية: ما دافعنا لاتباع سلوك أخلاقي عندما لا يصب ذلك في مصلحتنا الشخصية؟
ما وراء الأخلاق، الأخلاق المعيارية، وعلم النفس الأخلاقي
يتفرع البحث الفلسفي في مجال الأخلاقيات إلى عدد من المستويات. في المستوى الأكثر تجريدا، يتحرى الفلاسفة طبيعة المفاهيم الأخلاقية عبر أسئلة من قبيل: ما الذي تعبر عنه تأكيدات أخلاقية مثل «من الخطأ تأجير قاتل للتخلص من عشيقة سابقة مزعجة»؟ هل التأكيدات الأخلاقية حقيقية من الأساس؟ وإذا كانت حقيقية، فما طبيعة السمات التي تجعلها كذلك؟ هل في وسعنا معرفة الحقائق الأخلاقية؟ كيف نستطيع اكتساب هذه المعرفة؟ ما أنواع الأدلة التي قد تدعم صحة زعم أخلاقي؟ هذا المستوى من البحث الفلسفي، المعروف باسم ما وراء الأخلاق،
4
لا يساعدنا بالضرورة على تحديد صحة مزاعم أخلاقية بعينها. فإذا كنت تريد معرفة العالم، فلن يساعدك على ذلك فيلسوف يخبرك عن ماهية الحقيقة، بل عليك أن تعرف أي الأشياء حقيقي وأيها زائف. أما التحري الفلسفي الأخلاقي، فيختص بمعرفة أي المزاعم الأخلاقية يتعين علينا قبوله، ويعرف هذا باسم الأخلاق المعيارية، وفي بعض الأحيان يطلق عليه الأخلاق الجوهرية. والقاعدة الذهبية في هذا المستوى من البحث هي اكتشاف نظرية أخلاقية ملائمة، نظرية تعلمنا كيف نحدد المزاعم الأخلاقية الصائبة. على سبيل المثال، قد تزعم نظرية أخلاقية ما أن جميع الأفعال لا تصبح صائبة أخلاقيا إلا إذا كانت «تعظم المنفعة» (سوف نبحث هذه النظرية تحديدا، التي تدعى النفعية، في الفصل الثالث عشر). على صعيد آخر، قد تزعم نظرية أخلاقية مختلفة أن الأفعال لا تكون صائبة إلا في حالة استيفائها لمجموعة محددة من الواجبات الأخلاقية (سوف نبحث هذا النوع من النظريات أيضا، والتي يطلق عليها نظريات الأخلاق الواجبة، في الفصل الثالث عشر). وقد تتحاشى نظرية أخلاقية أخرى تحديد الأفعال التي تعد صائبة أخلاقيا، على الأقل مباشرة، وتتحول عوضا عن ذلك إلى تحديد سمات الفاعل البشري الأخلاقي. وربما تزعم النظريات من هذا النوع أن الناس لا يصبحون صالحين أخلاقيا إلا إذا أظهروا، على نحو موثوق، مجموعة محددة من الفضائل الأخلاقية (سوف نتناول هذه النظرية، التي تدعى أخلاق الفضيلة، في الفصل الرابع عشر).
المسعيان كلاهما من التحري الفلسفي، ما وراء الأخلاق والأخلاق المعيارية مهمان للغاية، لكنهما أيضا مجردان نوعا ما. يفكر الفلاسفة كذلك في الأخلاق بطرق عملية أكثر مباشرة . فعندما نبحث الخواص الأخلاقية لمواقف معينة - مثل هل مساعدة شخص يرغب في الانتحار فعل مسموح به أخلاقيا؟ وهل يفترض خلع الصبغة القانونية عليه - نمارس ما يطلق عليه عادة أخلاق تطبيقية. لكننا في هذا الفصل سنضطلع بنوع آخر من التحري الفلسفي العملي في مجال الأخلاق. وهو مجال يطلق عليه علم النفس الأخلاقي، حيث يتحرى الفلاسفة أسئلة لا حصر لها عن علم نفس الفاعلين الأخلاقيين. (في الفصل التالي، الفصل الثاني عشر، نتناول جانبا مختلفا، وإن كان ذا صلة، من حياتنا الأخلاقية، ألا وهو الدور الذي يضطلع به الحظ فيها.)
لا يهدف علم النفس الأخلاقي، كما يمارسه الفلاسفة، إلى وصف العمليات النفسية الكامنة لدى الفاعلين الأخلاقيين فحسب. فتلك في الأصل مهمة علماء النفس حتى وإن كانت تثير اهتماما كبيرا وواضحا لدى الفلاسفة. إن هدف علم النفس الأخلاقي «الفلسفي» هو بحث الأسئلة الفلسفية المثارة حول طبيعتنا كفاعلين أخلاقيين. وتتركز مجموعة من الأسئلة على مفهومي الدافع والمبرر.
5
ما نوع المبررات التي تدفعنا إلى مراعاة الأخلاق في تصرفاتنا؟ عندما تتصادم المبررات القائمة على المصلحة الذاتية مع المبررات القائمة على المتطلبات الأخلاقية، أيهما يعتبر المبرر الأقوى؟ ولماذا؟ يختص هذا البحث الفلسفي بالدور الذي يلعبه العقل في نموذج مثالي بعض الشيء للسلوك البشري. عندما يتصرف الأشخاص على نحو عقلاني واع، فإنهم يستجيبون للمبررات بطريقة محددة؛ فهم يميزون بوجه عام بين المبررات الضعيفة والقوية، ويتصرفون وفقا للمبررات التي تبدو، في المحصلة النهائية، الأقوى. الفكرة الأساسية هنا هي أن السلوك البشري عقلاني في الأساس. وتلك، بالطبع، صورة مثالية. رغم ذلك يرى العديد من الفلاسفة أن تلك الصورة تصف طريقة تصرف الناس في أغلب الأحيان، وكذلك الطريقة التي يدركون بها عادة، عندما يفكرون بوضوح، أن عليهم التصرف. إنها نموذج مثالي عقلاني للسلوك الذي ينبغي للأفراد اتباعه. يثير كل هذا جدلا كبيرا (كما نتوقع بالطبع في الفلسفة). على سبيل المثال يتجادل الفلاسفة حول الشكل النموذجي للفاعل الأخلاقي. هل هو شخص اختار طريقة تصرفه عبر عملية عقلانية بحتة تحدد الأهمية النسبية للمبررات؟ أم يفترض كونه شخصا يولي مشاعره اهتماما ومتفاعلا عاطفيا، شخصا يتصرف، على الأقل جزئيا، بناء على مشاعر؛ تحديدا أنواع المشاعر المفيدة التي تتيح تبصرا بما هو مهم وذو قيمة.
6
في وسعنا استعراض عدد من الرؤى الفلسفية المختلفة عبر التركيز على الدور الأعم الذي تضطلع به المبررات الأخلاقية في نموذجنا المثالي للشخص الأخلاقي، مع مراعاة إعطاء تلك المجادلات الفلسفية حقها من الاهتمام. الفاعل الأخلاقي المثالي هو الشخص الذي يتصرف وفقا للمبررات الأخلاقية المثلى. قد يتصرف وفقا لها على نحو واع ومتعمد، وقد يكون تصرفه غير واع، لكن يعتمد عليه. في أي من الحالتين، الفاعل الأخلاقي المثالي هو فرد يستجيب لأفضل المبررات الأخلاقية وأقواها.
يبدأ السؤال حول الدافع الأخلاقي لدى كثير من الفلاسفة ببحث في المبررات التي تدفع الناس للتصرف. إن السؤال حول السبب الذي يدفعنا لالتزام الأخلاق عندما نرى أن مصلحتنا الذاتية تتعارض مع متطلبات الأخلاق يتحول إلى سؤال حول طبيعة المبررات الأخلاقية. هل الأخلاق تمدنا بمبررات قوية بما يكفي للتغلب على المبررات المتعقلة المتعارضة؟ من جديد هذه صيغة أخرى أدق لسؤالنا. لن نعرض جميع الطرق الممكنة للإجابة عن هذا السؤال، بما فيها الإجابة بالنفي التي تزعم أن الأخلاق لا تقدم لنا ما يكفي من المبررات، وعوضا عن ذلك سنستكشف استراتيجيتين متفائلتين للإجابة عنه. تتمثل الاستراتيجية الأولى في الدفاع عن الأولوية المعيارية للمبررات الأخلاقية: المبررات الأخلاقية دائما ما تتغلب على أشكال الاعتبارات الأخرى؛ ويرجع ذلك إلى الطبيعة الجوهرية للمبررات الأخلاقية. (سوف نستكشف هذه الاستراتيجية في القسم الأخير من الفصل.) أما الاستراتيجية الثانية فتحاول تقليل التعارض بين الأخلاق والمصلحة الذاتية، بل وقد تطمح إلى إنهائه. يوجد سبيلان مختلفان لمحاولة تحقيق هذا، أحدهما هو توضيح أن السلوك الأخلاقي قد يسترشد بمنظومة ردع يضعها المجتمع بحيث يصبح من مصلحة الكل مراعاة الأخلاق في سلوكهم. أما السبيل الآخر لتقليل التعارض بين الأخلاق والمصلحة الذاتية فيركز على قيمة الحياة الأخلاقية من أجل إثبات أن الصلاح الأخلاقي أمر يصب في مصلحة ذاتنا المستنيرة.
هوبز وخيار الردع
قدم لنا الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، الذي عاش في القرن السابع عشر، أحد أوضح النماذج وأكثرها إقناعا للإنفاذ العام لبعض المعايير الأساسية على الأقل من السلوك الأخلاقي. تبدأ حجة هوبز بتجربة افتراضية؛ إذ يتخيل الحياة دون أي شكل من أشكال الحكم المدني؛ أي دون قوانين ودون نظام قضائي لتنفيذها. ويزعم أنه في تلك الحالة سينساق الأفراد إلى التصارع فيما بينهم. وحياة كتلك - حياة نعيشها في حالة الطبيعة على حد تعبيره - ستكون فظيعة. رأى هوبز أن الوضع حينها سيكون حرب الكل ضد الكل. فيما يلي وصف هوبز ذائع الصيت للحياة في حالة الطبيعة:
في تلك الحالة، لا يوجد مكان للصناعة؛ لأن ناتجها يصبح غير أكيد؛ وعليه، فستختفي الحضارة على الأرض، فلن توجد ملاحة أو لن يوجد استخدام للبضائع التي قد تستورد عبر البحر، ولن توجد مبان شاسعة وأدوات لتحريك وإزالة الأشياء التي تتطلب قوة بالغة؛ ستتبدد المعرفة من على وجه البسيطة. لن يوجد حساب للزمن، ولن توجد فنون، ولا أدب، ولا مجتمع، والأسوأ من ذلك كله أننا سنعيش في خوف مستمر معرضين لخطر الموت العنيف، وسيحيا الإنسان حياة قصيرة كريهة يملؤها الفقر والعزلة والبربرية. (هوبز، لوياثان، 89)
لدينا مبررات متعقلة قوية جدا لتجنب العيش في حالة الطبيعة؛ ومن ثم لدينا مبررات متعقلة قوية جدا لفعل ما بوسعنا من أجل إرساء مجتمع مدني حيث تفعل قواعد العدالة والتعامل المنصف أو من أجل الحفاظ على هذا المجتمع حال وجوده.
7
وتفعيل تلك القواعد أمر جوهري؛ فالحياة داخل مجتمع عادل تصب في مصلحتنا، لكن هذا لا يعني أنه من مصلحتنا الشخصية الالتزام دائما بقواعد ذلك المجتمع. إذا كان بوسعنا ممارسة الغش والإفلات بفعلتنا، كما فعل جودا، فإن أقوى مبرراتنا المتعقلة قد توعز لنا بالغش. نحتاج إلى ما هو أكثر من قوانين تحريم القتل في كتب القوانين؛ نحتاج إلى قوة شرطية ولنظام قضائي كفء يدعم تلك القوانين. بعبارة أخرى، نحتاج إلى نظام ردع فعال. ونظام الردع الفعال على نحو مثالي هو نظام يضمن أن يصب اتباع القانون في مصلحة كل فرد، ويتمكن من تحقيق ذلك عبر التأكد من أن المخاطر المتضمنة في مخالفة القانون بالغة الجسامة إلى حد يجعل مخالفة القانون رهانا خاسرا في جميع الأحوال.
8
بالطبع، من الصعوبة بمكان وضع نظام ردع فعال على نحو مثالي. هل سيكون نموذجا جديرا بالاحترام؟ هل سيحل وجوده مشكلة التعارض بين المبررات المتعقلة والمبررات الأخلاقية؟ إن نظاما كهذا لن يمنع الجرائم كافة، ناهيك عن جميع الآثام. وحتى نظام ما قبل الجريمة في فيلم «تقرير الأقلية» أخفق في منع جرائم الشروع في القتل! (راجع الفصل السابع). إن مهمة نظام الردع الفعال المثالي هي ضمان ألا يخالف القانون سوى الحمقى. والحمقى موجودون بوفرة في كل مكان - في الواقع كلنا حمقى بدرجة أو بأخرى - لكن على الأقل يمكننا القول إنه في ظل وجود نظام ردع فعال على نحو مثالي يتصرف منتهكو القانون ضد مصلحتهم الخاصة.
فلنعد إلى نموذج جودا لنرى كيف يمكن تطبيق هذا عمليا. يواجه جودا خيارا صعبا، وبافتراض أنه لا يفكر إلا فيما يحقق مصلحته، كيف ينبغي له الشروع في تقرير ما عليه فعله؟ لقد قرر تأجير قاتل للتخلص من ديلوريز، ويبدو مع نهاية الفيلم أنه أفلت بفعلته. (في القسم التالي من الفصل، نتساءل عما إذا كان قد أفلت حقا بفعلته.) وحتى إذا كان قد أفلت فعليا من العقاب، فإن ذلك لا يعني أنه تصرف تصرفا عقلانيا يصب في مصلحته. ربما كان محظوظا ليس أكثر؛ فقد يحالف الحظ أناسا في غاية الحماقة. كيف إذن نتخذ قرارات عقلانية تتعلق بمصلحتنا الخاصة؟ لن يكفينا تحديد النتيجة التي نرغب فيها من موقف ما ثم السعي وراءها، بل علينا التعامل مع حقيقة عدم يقينية الأحداث، وكوننا عاجزين عن معرفة ما ستتمخض عنه أفعالنا يقينا. ربما انكشف جودا، وألقت قوات الشرطة القبض عليه، ربما أبدى قلقا زائدا بينما يستجوبه المحققون مما أثار شكوكهم. ربما كانت ديلوريز تحتفظ بمذكرات خبأتها في مكان ما. ربما ألقي القبض على القاتل المأجور في جريمة أخرى، وعندها قد يفضح اتفاقه مع شقيق جودا كجزء من صفقة يعقدها مع المدعي العام (وهو ما نراه يحدث في المسلسلات التليفزيونية طوال الوقت). وعلاوة على ذلك، ربما يعجز جودا عن التأقلم نفسيا مع ما ارتكبه. في الفيلم نجده يعاني نفسيا لبعض الوقت ثم يتعافى، لكنه لم يكن يعرف وقتما اتخذ قراره بالتخلص من ديلوريز أن الأمور ستنتهي على هذا النحو. لم يكن لديه ما يضمن عدم إصابته باكتئاب حاد لسنوات؛ ربما كان قراره إيذانا ببدء حياة يملؤها احتقار الذات والشعور بالذنب والندم، ربما كان سيدفعه إلى الانتحار. كيف كان سيتسنى لجودا معرفة معدنه الحقيقي وقتها؟ كيف كان سيتسنى له أن يعرف مسبقا أنه رجل قاس، رجل ذو شخصية ضحلة وطبع متحجر، يملك قدرة كبيرة على خداع الذات والعيش في سعادة بأيد تلطخها الدماء. يختلف جودا عن شخصية الليدي ماكبث. لكن الليدي ماكبث لم تكن تعلم كيف سيكون رد فعلها على تورطها في جريمة قتل. كيف كان جودا سيتحصل على هذه المعرفة؟
التقلب سمة أصيلة للحياة؛ ما يحتم علينا عند السعي خلف مصالحنا إلى الاستعانة بحكمنا حول ما قد يحدث ومدى احتمالية حدوثه، وما قد يقع علينا من ضرر أو نفع حال حدوثه. يرى أنصار نظرية القرار المعاصرة أن السبيل النموذجي لفهم هذه المهمة يتطلب مراعاة ما يطلق عليه النفعية المتوقعة. إليكم كيفية تطبيق هذا على نموذج جودا. يواجه جودا اختيارا ما بين الاعتراف لميريام أو الترتيب لعملية قتل ديلوريز. (فلنفترض، لدواعي التبسيط، أن تلك هي الخيارات الوحيدة المتاحة أمامه.) وعليه استنباط العواقب المحتملة للاعتراف لميريام، ثم تحديد مدى أرجحية كل احتمالية وقدر الضرر الذي قد يلحق به. وبعد ذلك يلخص الموقف بهدف الوقوف على نوع الرهان الذي قد يتضمنه الاعتراف. كانت هذه المهمة ستصبح سهلة لو كان لدى جودا وسيلة لقياس كل من أرجحية النتائج ومدى ما ستجلبه من نفع أو ضرر. (يطلق منظرو القرارات على ما تتمتع به النتائج من نفع أو ضرر «جدوى النتائج».) فيما يلي طريقة تحديد الجدوى المتوقعة من أي فعل: لكل نتيجة محتملة للفعل، عليك بضرب جدوى النتيجة في مدى أرجحيتها. حاصل عمليات الضرب تلك كلها هو الجدوى المتوقعة للفعل. تكمن الفكرة ها هنا في استنباط الجدوى المتوقعة لكل فعل قد تقوم به ثم اختيار الفعل الذي يتمتع بأعلى جدوى متوقعة. بعبارة أخرى، اختر أفضل رهان متاح لك. الحياة لعبة رهان؛ لذا من الطبيعي أن نعتقد بأن الجدوى المتوقعة هي جوهر عملية اتخاذ القرار العقلانية المتمركزة حول المصلحة الذاتية.
كما قلنا سابقا، يصبح الأمر سهلا إذا كان لديك تقدير جيد لكل من الأرجحية والجدوى، لكن في عالم الواقع نادرا ما يتوفر لنا أي من ذلك. إذا اعترف جودا لميريام فقد تتركه. ما مدى أرجحية هذا؟ ما مدى الضرر الذي سيلحق به جراء ذلك؟ لا يسع جودا سوى التكهن بما قد يحدث. ربما تبقى ميريام معه لكنها ستجعل حياته في غاية الصعوبة. ما مدى أرجحية هذا؟ ما مدى الضرر الذي سيلحق به في تلك الحالة؟ ربما تسامحه ميريام وتتعافى علاقتهما من أزمتها، بل وقد تتعمق على مر السنين. ما مدى أرجحية ذلك؟ ما مدى النفع الذي سيعود عليه حينئذ؟ يفترض بجودا تقدير ذلك كله بطريقة ما، وتلخيصه في حكم يحدد مدى نفع أو ضرر رهان الاعتراف لميريام، من وجهة نظره المتمركزة حول مصلحته الذاتية. لكن هذا ليس سوى جزء من عملية اتخاذ القرار. على جودا بجانب ذلك مقارنة هذا الرهان المحتمل برهان آخر بديل. إذا أمر بقتل ديلوريز، ما احتمالات اكتشاف الشرطة لفعلته؟ ما مدى الضرر الذي سيلحق به جراء ذلك؟ (ضرر أكيد.) ما احتمالات معاقبة الله له؟ ما مدى الضرر الذي سيلحق به في هذه الحالة؟ (ضرر بالغ حقا.) لا يؤمن جودا بوجود إله؛ ومن ثم يستبعد احتمالية الانتقام الإلهي. لكن بعدما ارتكب فعلته، بدأت تساوره الشكوك؛ ماذا لو كان مخطئا، ماذا لو كان الله موجودا وشاهدا عليه؟ ربما لم يكن عليه استبعاد فرضية عقاب الله كليا. ما احتمالات كونه مخطئا حيال وجود الله؟ وبعيدا عن هذا كله، من المحتمل أن يعاني جودا من ندم بالغ واحتقار شديد للذات يصل حدا يجعل تعايشه مع نفسه مستحيلا، على غرار الليدي ماكبث. ما احتمالات حدوث ذلك؟ علينا تلخيص ذلك كله كي نصل إلى الجدوى المتوقعة من عملية القتل ثم مقارنة النتيجة بالجدوى المتوقعة من الاعتراف لميريام بالعلاقة الغرامية. أي من الرهانين هو الأفضل؟ كيف بربك يفترض بجودا إجراء تلك الحسابات كلها؟ إنها مهمة بالغة المشقة على أقل تقدير.
9
سوف تئول به الحال إلى تخمين معظم الاحتمالات، دون أن يعرف حقا كيف يقارن الجدوى المتوقعة لكلا الخيارين. إن السعي وراء مصلحتنا الخاصة أصعب بكثير مما قد نظن.
لا يمكن الاعتماد على الناس في اتخاذ قرارات عقلانية، من حيث الجدوى المتوقعة، إلا عندما يرون بوضوح تام مقارنة دقيقة للجدوى المتوقعة. عندئذ يأتي دور نظام الردع الفعال. إذا كانت الشرطة تتمتع بالقدر الكافي من الكفاءة، وكان العقاب الواقع بمنتهكي القانون سيئا بما يكفي، حينئذ تصبح الجدوى المتوقعة من مخالفة القانون منخفضة جدا لدرجة تكاد تمنع وجود أي ظروف تصبح فيها مخالفة القانون أفضل رهان متاح. وعلاوة على ذلك، لا بد أن يكون واضحا تماما للجميع أن مخالفة القانون رهان خاسر في جميع الأحوال تقريبا. لهذا السبب تصبح أنظمة الردع الفعالة عادة أنظمة وحشية؛ فقد تتضمن عقوبات مبالغ في قسوتها (بحيث يحجم أي ذي عقل على مجرد المخاطرة، ولو مخاطرة ضئيلة، بالتعرض لها) أو ربما تتضمن مراقبة شرطية مبالغ في صرامتها (فلا يثق أي ذي عقل باحتمالية الإفلات من العقاب عند مخالفته القانون) أو قد تتضمن كلا الأمرين.
10
لا بد لأنظمة الردع الفعالة جعل الجدوى المتوقعة من مخالفة القانون منخفضة على نحو جذري لدرجة تجعل أي بديل آخر مفضلا عليها بجلاء دون حاجة إلى التوصل لأحكام شديدة التدقيق حول الجدوى النسبية المتوقعة.
هل يقدم فرض الأخلاق عموما عبر أنظمة ردع فعالة حلا للتحدي الذي نطرحه؟ تذكر أن التحدي هو تقليل الفجوة بين الأخلاق والمصلحة الذاتية. تبرز بعض المشكلات فيما يتعلق بالاحتكام لفرضية الردع. أولا: لا تساعدنا هذه الفرضية على الكيفية التي تنصر الأخلاق على المصلحة الذاتية في غياب نظام ردع فعال. (ربما تكون الإجابة هنا هي أنه عند غياب ذلك النظام، لا تنتصر الأخلاق على المصلحة الذاتية، لكن كثيرا من الفلاسفة يرون أن هذه نتيجة محبطة ولا يمكن تصديقها.) ثانيا: نظام ردع فعال لن يستبعد احتمالية المجرم العبقري، وهو فرد يتمتع بالقدر الكافي من الذكاء والقسوة الذي يمكنه من جعل الجدوى المتوقعة تميل لصالح خرق القانون. قد يكون أولئك الأشخاص نادري الوجود؛ ومن ثم فمن المستبعد أن يمثلوا مشكلة اجتماعية كبرى، لكنهم يمثلون مشكلة فلسفية. المجرم العبقري هو شخص تتفوق مصلحته الشخصية على الاعتبارات الأخلاقية. لكننا لا نزال في حاجة إلى إجابة عن السؤال حول ما يعزونا إلى التزام الأخلاق (بافتراض أننا غير راضين عن الإجابة التي تزعم غياب ما يعزونا إلى ذلك). ولا يقدم لنا خيار الردع هذه الإجابة. ثالثا: نظام الردع الفعال سيكون على الأرجح في غاية الوحشية إلى حد يحدث أذى يفوق ما يحدثه من نفع. إن الثمن الذي سندفعه لقاء جعل الناس كافة يدركون بما لا يدع مجالا للشك أن مخالفة القانون رهان خاسر هو أن الجميع سيعانون من مراقبة شرطية مفرطة أو من خشية تلقي عقاب مروع. رابعا: يبدو من الخطأ إنزال عقاب شديد بالناس لمجرد الرغبة في إيصال رسالة واضحة إلى الآخرين تحذرهم من أن يحذوا حذوهم؛ فمنتهكو القانون هم بشر أيضا، وليسوا مجرد وسيط إعلاني. من المحتمل إذن أن يتضمن نظام الردع الفعال بطبيعته نظام عقاب غير عادل. خامسا: حتى إذا أمكن تفعيل النظام على نحو مرض وعادل، سيكون ذلك مجرد حل جزئي لمشكلة الدافع الأخلاقي. كثير من الواجبات الأخلاقية لا تصلح كموضوعات للتدقيق والتحكم العام. لقد قتل جودا عشيقته السابقة، لكنه خان زوجته أيضا. من المنطقي فرض قوانين ضد القتل. لكن أحرى بنا فرض قوانين ضد الخيانة الزوجية، أو ضد التفاخر كذبا بإنجازاتك في صيد الأسماك، أو ضد التعامل ببعض الفظاظة مع جيرانك المزعجين! يبدو أن الفرض العام للأخلاق ينبغي أن يخضع لقيود صارمة. هذا من شأنه أن يترك الدافع الأخلاقي وراء الكثير من الأفعال غير خاضع لأي تحكم. وأخيرا ، يبدو أن خيار الردع يطرح دافعا خاطئا للسلوك الأخلاقي. ربما يضمن أن يصبح تجنب القتل أمرا في مصلحة جودا الشخصية دون شك، لكن إذا كان السبب الوحيد الذي سيجعل جودا يجحم عن الترتيب لقتل ديلوريز هو خوفه من أن يلقى القبض عليه وينال العقاب، أليس هذا في حد ذاته نوعا من الفشل الأخلاقي؟ ألا ينبغي أن يحجم عن قتل ديلوريز لأنه يدرك مدى خطأ هذا الفعل؟ فالقتل فعل من المفترض أن يشعر جودا «بالعجز» عن دفع نفسه لارتكابه، لا فعل يتصور أنه لن يستطيع الإفلات من العقاب عليه. يوضح خيار الردع أنه من الممكن أحيانا تحقيق توافق بين المصلحة الذاتية والسلوك الأخلاقي، لكنه لا يقدم على ما يبدو مبررا مرضيا «على المستوى الأخلاقي» لمراعاة الأخلاق في حياتنا.
سقراط والسعي خلف المصلحة الشخصية المستنيرة
يمكننا معالجة بعض المشكلات التي واجهناها في القسم السابق عبر إلقاء نظرة أكثر تعمقا على مكامن الخطر في الفعل الأخلاقي. يواجه جودا مخاطرة رهيبة عندما يقرر قتل ديلوريز، فهو يخاطر بتلقي عقاب خارجي؛ فقد تلقي الشرطة القبض عليه وتعاقبه، وقد ينبذه مجتمعه ويشعره بالخزي، وقد يحكم الله عليه ويعاقبه بنيران جهنم. وعلاوة على ذلك يخاطر بأنواع من العقاب الخارجي مثل الشعور بالذنب والندم إلى جانب مشاعر احتقار الذات والاكتئاب. من الصعب على جودا إذن، وعلى أي منا، تقدير تلك المخاطر جيدا، لكن توجد مجموعة أخرى من الاعتبارات التي لم نأخذها بعد في اعتبارنا.
يراهن جودا على ما يبدو رهانا رابحا؛ ففي الفيلم تقتل ديلوريز وتصطحب سرها معها إلى قبرها، وتلتصق التهمة بقاتل متسلسل، ويصطحب هو عائلته في إجازة، ويستعيد سعادته معها مجددا. وعلاوة على ذلك، يحتفظ باحترام وحب عائلته وأصدقائه، وتزدهر حياته المهنية، بل ويصبح لديه قصة طريفة يرويها لكليف البائس (الذي يلعب وودي ألن دوره) في مشهد الحفلة الذي ينتهي به الفيلم. يبدو إذن أنه انتصر على معضلته نتيجة حظ أو حكم موفق. ورغم ذلك، فقد جودا شيئا ما. ربما ظل محتفظا بحب عائلته وأصدقائه، لكنه لم يعد «مستحقا» لهذا الحب بعد الآن؛ ربما ظل محتفظا باحترام أصدقائه وزملائه، لكنه لم يعد مستحقا لهذا الاحترام. السبب الوحيد الذي يجعله يحتفظ بحب واحترام الآخرين هو كونهم لا يعرفون حقيقته. إذا عرفوا حقيقته، سيتحول الحب والاحترام على الأرجح إلى احتقار وتقزز. لقد فقد جودا استحقاقه للحب واستحقاقه للاحترام. قد نعبر عن ذلك بالقول إنه فقد نزاهته. ما مدى أهمية تلك النزاهة؟ إحدى الإجابات عن هذا السؤال اشتهرت على لسان سقراط، وهذه الإجابة مفادها أن أهمية نزاهته تفوق أهمية جميع الأشياء الأخرى مجتمعة. وفقا لسقراط، الجزء الأعظم قيمة لدى الفرد هو شخصيته، أو روحه.
11
والحفاظ على سلامة الحالة الأخلاقية لشخصياتنا أهم وأعظم قيمة من حياة مهنية مزدهرة بل ومن حياة عائلية مرضية. ما الذي تقبل فعله كي تتجنب موقف جودا مع نهاية فيلم «جرائم وجنح»؟ ما الذي تقبل التضحية به كيلا تضطر إلى عيش حياة جودا الكاذبة الكريهة؟ يزعم سقراط أنه يجب عليك أن تكون مستعدا للتضحية بأي شيء وكل شيء، حتى بحياتك نفسها في سبيل ذلك. وفقا لرؤية سقراط، الحالة الأخلاقية لشخصيتنا ليست أكبر قيمة فحسب من باقي الأشياء في حياتنا، بل هي الأعلى قيمة؛ ما يعني أنها تتفوق تلقائيا على أي استحقاقات أخرى تفرض علينا. لذا، فمن مصلحتنا الشخصية الاحتفاظ بنزاهتنا مهما كان الثمن؛ فذلك في مصلحتنا الشخصية المستنيرة.
12
إلى أي مدى تبدو رؤية سقراط معقولة؟ يعتمد ذلك على قيمة الزعم الكامن في جوهرها؛ أو بعبارة أخرى: فكرة القيمة الأسمى للنزاهة. يبدو أن هذه الرؤية تفترض مسبقا أن النزاهة لها قيمة موضوعية. فإذا كانت قيمة النزاهة موضوعية، فلن تعتمد على اعتبار الناس أن النزاهة ذات قيمة (على العكس من ذلك، لا يتمتع الذهب بقيمة موضوعية لأن قيمته تعتمد على حقيقة أن الناس يقدرونه).
13
إذا كان جودا لا يكترث البتة بفقدانه لنزاهته، فموقفه لا يزال مع ذلك في غاية السوء. لقد أصبح رجلا منتقص القيمة مع نهاية الفيلم، حتى وإن لم يوجد من يعرف ما فعله أو يكترث به على حد سواء. (من يعرفون لا يهتمون، ومن قد يهتمون لا يعرفون.) ما الذي يجعل النزاهة ذات قيمة موضوعية؟ ربما تكون مهمة، لكن أشياء أخرى لا تزال تفوقها أهمية. ربما كانت السعادة أهم موضوعيا من النزاهة. ربما كانت العلاقات الناجحة أهم منها. ما مدى المواساة الصادقة التي ستشعر بها عند الاحتفاظ بنزاهتك إذا كان ذلك سيؤدي بك إلى حياة من التعاسة والوحدة؟ (النزاهة والسعادة عادة ليستا متعارضتين على هذا النحو، لكن تخيل حالة يتعارضان فيها.)
إن احتكام سقراط إلى المصلحة الشخصية المستنيرة والقيمة الأسمى للنزاهة يقدم لنا احتمالية جذابة، لكنها بعيدة عن كونها صحيحة بداهة؛ فهي تتركنا كذلك عالقين في مشكلة تتصل بالأسباب الأخلاقية نألفها من مناقشتنا لقضية الردع في القسم السابق. فلنقل إن جودا رفض عرض أخيه بالترتيب لقتل ديلوريز لأنه غير مستعد للتحول إلى قاتل. إن احتكام جودا إلى مصلحته الشخصية المستنيرة يبدو خطوة أفضل من أي محاولة للاحتكام إلى مصلحته الشخصية غير المستنيرة. إنه سبب مرض على المستوى الأخلاقي لرفض القتل، وهو أكثر مقبولية من الخوف من العقاب مثلا. (كون الفرد مدفوعا كليا بالخوف من العقاب يعكس نوعا من الأنانية واللاأخلاقية وتمركزا حول الذات، أما كونه مدفوعا كليا بالخوف من التحول لشخص فاسد فيبدو دافعا متمركزا حول الذات بالتأكيد، لكنه ليس أنانيا أو لا أخلاقيا على ما يبدو. والشخص الصالح الذي ترغب في أن تصبح عليه ليس شخصا أنانيا أو لا أخلاقيا.) مع ذلك، يبدو موضوع الحكم، الحماية الأخلاقية للشخصية، مضللا. ألا يجب على جودا رفض قتل ديلوريز بسبب أمر يتعلق بها، بحقوقها أو الاحترام الذي تستحقه، لا بسبب أمر يرغب فيه لنفسه؟ إذا كان ذلك صحيحا، فلا تعتبر المصلحة الذاتية المستنيرة إذن مبررا أخلاقيا كافيا.
14
رغم ذلك، إذا كان سقراط على حق في زعمه، فإن ذلك يثبت أنه على الأقل في بعض حالات السلوك غير الأخلاقي، الحالات المتطرفة التي تقوض النزاهة، تطرح المبررات الأخلاقية والمصلحة الشخصية المستنيرة الإجابات نفسها. يدفعنا ذلك إلى تأمل الاحتمالية الأخيرة لدينا. ربما يكون صحيحا أن مراعاة الأخلاق في تصرفاتنا سوف تصب دوما في مصلحتنا الشخصية المستنيرة، لكن لا داعي لأن تستمد المبررات الأخلاقية سلطتها علينا من هذه الحقيقة. ربما يكون لدينا مبررات لاتباع الأخلاق أقوى من المبررات الدافعة للفساد الأخلاقي بصرف النظر عما سيصب في مصلحتنا الشخصية. ربما تكون حقيقة تغلب الأخلاق على الفسوق هي سمة من سمات المبررات الأخلاقية.
كانط وسلطة المبررات الأخلاقية
ترتبط هذه الاستراتيجية الأخيرة ارتباطا وثيقا بفلسفة إيمانويل كانط، وسوف نتناولها بالفحص في سياق فلسفته العملية (فلسفته حول ما يوجه أفعالنا). إن طريقة كانط في عرض المسألة ليست سوى طريقة واحدة من طرق السعي لإرساء سلطة المبررات الأخلاقية، لكنها طريقة شهيرة ومؤثرة. لن نعيد شرح نظرية كانط حول الفعل الأخلاقي هنا، فذلك سيستغرق وقتا طويلا. عوضا عن ذلك، سوف نطرح حلا للتحدي الذي سنتناوله مستمدا إجمالا من فلسفة كانط. هل تتفوق المبررات الأخلاقية دوما على المبررات المتعقلة؟ نعم، نظرا لطبيعة الاستدلال الأخلاقي، تلك إجابة معتنقي فلسفة كانط. بعبارة أدق، تتفوق المبررات الأخلاقية دائما على المبررات المتعقلة. وكما سنرى لاحقا، مبررات السلوك غير الأخلاقي في الواقع لا توجد من الأساس، لكن دعونا نبدأ من البداية.
ما هي المبررات الأخلاقية؟ إنها المبررات التي تدفعنا إلى مراعاة الأخلاق في تصرفاتنا. وهي تبدو كما لو كانت في منافسة مع المبررات المتعقلة التي تدفعنا إلى فعل ما يصب في مصلحتنا الشخصية. إذا كان هذا هو الوصف الصحيح للمسألة، فإن مهمتنا هي عرض الكيفية التي تتفوق بها المبررات الأخلاقية على المبررات المتعقلة أو تفوقها قوة. لكن من منظور كانط، من الخطأ النظر إلى الأمور بهذه الطريقة؛ فالاستدلال الأخلاقي هو السعي للإجابة عن سؤال «ماذا يجب علي فعله؟» وعلى العكس من ذلك، الاستدلال المتعقل يسعى للإجابة عن سؤال مختلف، وهو: «ماذا يجب علي فعله كي أحصل على ما أريد؟» المبررات الأخلاقية لها الغلبة على المبررات المتعقلة لأن المبررات الأخلاقية هي وحدها التي تخبرنا تحديدا بما ينبغي لنا فعله. أما المبررات المتعقلة فتخبرنا بشيء آخر؛ هي تخبرنا بما ينبغي لنا فعله كي «نحصل على ما نريد». والسؤال حول ما إذا كان من المفترض أن نحصل على ما نريد سؤال مفتوح.
15
يريد جودا استعادة حياته، ويعتقد أن السبيل الوحيد الذي يمكنه من ذلك هو موت ديلوريز. ويستنتج، بعد تفكير متعقل، أنه لا بد له من الترتيب لقتلها كي يستعيد حياته. لكن ما علاقة هذا بالأمر؟ هذا التفكير لا يقوده إلى السبب الذي يوجب عليه قتل ديلوريز؛ يجب عليه قتلها في حالة واحدة فقط؛ وهي أن يكون قتلها هو السبيل لاستعادة حياته. ولا يوجد ما يبرر «هذا النوع» من التفكير. تتفوق الأخلاق على المصلحة الشخصية لأن التبرير الأخلاقي، بطبيعته، يحدد ما ينبغي لنا فعله. جميع الاعتبارات الأخرى حول ما ينبغي لنا فعله لا بد أن تمر عبر مصفاة الأخلاق كي تصبح قادرة على إخبارنا بما ينبغي لنا فعله.
قد يبدو كلامنا أشبه بخدعة لفظية. فظاهريا نحن لم نفعل سوى تعريف الاستدلال الأخلاقي بطريقة تجعل له الغلبة دائما على الاعتبارات الأخرى. لكن الأمر لا يقتصر على ذلك. ما يعرضه كانط هو نموذج للاستدلال العملي (أي استدلال حول كيفية التصرف)؛ استدلال يتعارض بحدة مع نموذج الجدوى المتوقعة الذي عرضناه باكرا في هذا الفصل. حسب نموذج الجدوى المتوقعة، يتحقق الاستدلال العملي، على وجه التقريب، من خلال تحديد مسار العمل الذي سيحقق على أكثر تقدير النتيجة الأعلى قيمة. هذا النوع من الاستدلال يطلق عليه الاستدلال الذرائعي. وعلى النقيض، يتحقق الاستدلال العملي في نموذج كانط عبر تصنيف الأفعال تحت مبادئ. علينا أن نسأل أنفسنا: ما نوع هذا الفعل؟ ما المبدأ الذي يقع تحته؟ وعندئذ يمكننا تحري مزايا هذا المبدأ.
16
إذا كان جودا يتبع مبدأ (بدلا من التصرف على نحو أناني لا تحكمه المبادئ)، فما هو إذن؟ ربما كان كالتالي: «افعل كل ما يمكن فعله، بما في ذلك القتل، كي تصل إلى ما تتوق إليه.» من منظور كانط، لا يمد هذا المبدأ جودا بمبرر حقيقي للتصرف مثلما فعل إلا في حالة كونه مبدأ منطقيا. فهل هو منطقي؟
ما الذي يجعل مبدأ ما بوجه عام منطقيا؟ لدى معتنقي نظرية كانط عدة إجابات عن هذا السؤال. توظف إحدى الإجابات السؤال الاختباري التالي: هل من المعقول بالنسبة لشخص يتصرف وفقا لهذا المبدأ أن يتمنى لكل من سواه اتباع المبدأ نفسه؟
17
إذا كان هذا معقولا بالفعل، يصبح المبدأ بدوره منطقيا، ويصبح التصرف وفقا له سليما من الناحية الأخلاقية؛ أما إذا لم يكن معقولا، يصبح المبدأ غير منطقي، ويصبح التصرف وفقا له فعلا غير أخلاقي. لقد رتب جودا لعملية قتل ديلوريز كي يضمن استمرار حياته السابقة. لكن إذا تصرف الجميع، بما فيهم أعداؤه وديلوريز نفسها، وفقا للمبدأ ذاته - وهو «افعل كل ما يمكن فعله، بما في ذلك القتل، كي تصل إلى ما تتوق إليه» - فإن ذلك سيؤدي إلى تقويض أمن وسلامة جودا كليا. إذا تصرف كل امرئ في حياة جودا وفقا لهذا المبدأ، فإن حياته، على حد تعبيره، ستنحدر حتما إلى الحضيض (على سبيل المثال، وفقا لهذا المبدأ، كانت ديلوريز ستسارع بالترتيب لقتل زوجته، وكان منافسوه في العمل سيسارعون بالترتيب لقتل جودا ... إلخ). من غير المعقول أن يتمنى جودا اتباع الجميع لمبدئه وهو يستخدمه للحصول على ما يريد. لهذا السبب كان تصرف جودا غير منطقي من الأساس؛ فقد تصرف حسب مبدأ نجح لسبب واحد فقط؛ وهو أن أحدا لم يتصرف وفقا له سواه. إن جودا يعتبر نفسه مختلفا اختلافا جذريا عن كل من سواه. هو يعتبر نفسه شخصا مميزا، يعمل وفقا لقواعد تنطبق عليه هو وحده. بالطبع هو ليس مميزا. لقد طبق مبدأ ما على نفسه ومبدأ آخر على جميع من سواه، دون أي نوع من التبرير، وذلك هو أساس عدم منطقيته.
من منظور كانط، لا يوجد لدى جودا أي مبرر على الإطلاق يدفعه للترتيب لقتل ديلوريز. فمبرر فعل شيء ما ينشأ من تطبيق مبدأ منطقي يشكل أساسا للفعل. والمبدأ الذي تصرف جودا وفقا له غير منطقي من الناحية الجوهرية. إن رغبة جودا وحبه لذاته يدفعانه إلى الترتيب لقتل ديلوريز. لكن وفقا لنموذج كانط للاستدلال الأخلاقي، الرغبة وحب الذات لا يعدان مبررا للفعل. إنها إغراءات «تغوي» جودا بالقتل و«تدفعه» نحوه، لكنهما لا يمدانه ب «مبرر» للقتل. لا يملك جودا بتاتا أي مبرر لقتل ديلوريز؛ إذ لا يوجد مبدأ منطقي يستطيع وفقا له الترتيب لعملية القتل. من ناحية أخرى، يوجد مبرر واضح جدا للعزوف عن قتلها، وهو المبدأ المنطقي الذي يخبرنا بألا نستخدم القتل قط كسبيل لحيازة ما نريد.
تذكر أن سؤالنا كان يتعلق بماهية المبرر الذي يدفعنا إلى مراعاة الأخلاق في تصرفاتنا عندما تتعارض الأخلاق والمصلحة الشخصية؟ الإجابة عن هذا السؤال حسب رؤية كانط تزعم أننا عاجزون عن إيجاد مبرر للتصرف على نحو غير أخلاقي. وعندما نتصرف بالفعل تصرفا لا أخلاقيا، نكون قد خضعنا للإغراء وتركنا الرغبة وحب الذات يحلان محل العقل. بالطبع جميعنا معرض لهذا بدرجة أو بأخرى، لكن إذا كان نموذج كانط للاستدلال العملي صحيحا، فقد وجدنا حلا للتحدي الذي طرحناه. إن نموذج كانط للاستدلال العملي محل خلاف كبير؛ ومن ثم لا يعتبر على الإطلاق حلا حاسما للمسألة. لكن في الفلسفة ستجد أن جميع الأفكار المثيرة للاهتمام هي محل خلاف، وقلما تقدم حلول حاسمة.
أسئلة
فلتفترض أن بوسعك، على نحو مضمون ودون جهد، «الإفلات بأفعالك» دون عقاب ببساطة، ماذا سيدفعك حينئذ إلى التزام الأخلاق؟
هل يوضح فيلم «جرائم وجنح» أنه دون إله يستحيل وجود أخلاق سارية على نحو موضوعي؟ لقد زعمنا في هذا الفصل أن الفيلم لا يوضح ذلك، وأنه يعجز عن أداء مهمة كتلك. هل نحن على صواب؟
فلنفترض جدلا أننا، على سبيل المثال، لا نفصل بين المنفعة الشخصية والسعادة، بحيث نصنف نتائج الأفعال حسب مستوى سعادتنا فيها. إذا نظرنا إلى المنفعة من هذا المنظور الضيق، فهل نرى أن جودا تمكن من تعظيم قدر المنفعة المتوقعة عبر الترتيب لقتل ديلوريز؟
لقد انتقدنا نموذج تطبيق نظام ردع فعال على نحو مثالي من جوانب عديدة. لكن تأمل نظاما من القوانين الرادعة ضد أفعال بالغة الأذى (مثل قتل عشيقتك السابقة). إذا قبلنا أن نظاما كهذا سيكون أقل من مثالي (ومحاولة جعله مثاليا ستتطلب إجراءات مفرطة التطرف) فهل تظل انتقاداتنا لخيار الردع سليمة؟ وجود نظام كهذا لن يحل مشكلتنا الفلسفية. لماذا؟
زعمنا في هذا الفصل أن المصلحة الذاتية المستنيرة لا تمدنا بمبررات «أخلاقية» مرضية للتصرف لأنها تركز انتباهنا واهتمامنا على الجانب الخطأ من المسألة. هل هذه حجة جيدة؟ ما الرد المحتمل عليها؟
هل الحجة المستقاة من فلسفة كانط - التي عرضناها في هذا الفصل، وتزعم أن المبررات الأخلاقية، بحكم طبيعتها، تتفوق تلقائيا على الاعتبارات والرغبات الشخصية - خدعة لفظية أم تنطوي على ما هو أكثر؟ ألا يعني هذا أننا نتخلص من المشكلة ببساطة عبر وضع تعريف؟ (لقد دفعنا في هذا الفصل بخطأ هذا، فهل كنا على صواب؟)
على مدار هذا الفصل، قارنا بين نوعين من الاستدلال العملي: الاستدلال الذرائعي (ونموذج تعظيم الجدوى المتوقعة مثال له) والاستدلال القائم على مبدأ (ونموذج الاستدلال الكانطي مثال له). قد يرى البعض أن الاستدلال العملي نوع من الاستدلال حول كيفية الحصول على ما نريد، بينما يرى آخرون أنه استدلال خاضع لمبادئ منطقية ومبررة تحكم الأفعال. أي النوعين أفضل؟ إذا كان لكل نوع ميزة خاصة به فهل من الممكن توحيدهما أو التوفيق بينهما بطريقة ما؟ كيف يمكن هذا؟
هوامش
الفصل الثاني عشر
«حياة الآخرين»: الحظ الأخلاقي والندم
مقدمة
ما الدور الذي يلعبه الحظ في الحياة؟ وما «نوع» هذا الدور؟ إذا كنا محبوبين أو ناجحين أو ذوي خلق أو محط إعجاب الآخرين، فإلى أي مدى ندين بهذه الصفات إلى فطرتنا وإلى أي مدى ندين بها إلى الحظ؟ إذا كنا بائسين ومخفقين في حياتنا، أو كنا نتسم بالخسة والدناءة ونحمل آثاما فظيعة، فإلى أي مدى يرجع ذلك إلينا وإلى أي مدى يرجع إلى الحظ؟ ما نوع هذا الحظ؟ ماذا نعني بكلمة حظ أو نصيب؟ فيما يلي نطرح سؤالا حول قدر التحكم الذي يملكه الأفراد في حياتهم، بما فيها الجانب الأخلاقي. لقد بحثنا مسألة شبيهة في الفصل السابع بمعاونة فيلم «تقرير الأقلية»، حيث استعرضنا ميتافيزيقا الإرادة الحرة والقدرية. وفي هذا الفصل، نتناول مسألة الحظ من منظور أكثر ميلا نحو الجانب العملي لا الميتافيزيقي. ودليلنا في هذا المسعى هو فيلم «حياة الآخرين» من إنتاج عام 2006.
1
إن «حياة الآخرين» مثال للأفلام التي يمكن مناقشتها من منظور عدد من القضايا الفلسفية المتنوعة، وهي قضايا يعتمد كل منها على الآخر من نواح متعددة. يقدم الفيلم تجسيدا قويا لمشكلة يطلق عليها الفلاسفة مشكلة «الحظ الأخلاقي»، لا سيما عبر تحول عميل الإشتازي جيرد ويسلر، وعبر عدد من الشخصيات الأخرى كذلك. تصف مارجريت واكر (1991: 14) مفهوم الحظ الأخلاقي بأنه يكمن في «الحقيقة الواضحة والجدلية، على حد زعم البعض، بل والمتناقضة التي تقضي بأن عوامل حاسمة بالنسبة للموقف الأخلاقي للفاعل البشري تخضع للحظ.» هذا صحيح، لكن لدينا الكثير مما يمكن قوله حول الحظ الأخلاقي وتنويعاته.
تعتمد جودة حياتنا، بما في ذلك جودة حياتنا الأخلاقية، فيما يبدو على تلك الأشياء التي تمنحنا إياها الحياة، لحسن الحظ أو سوئه؛ فهي تعتمد على طريقة «تكويننا» فيما يتعلق بسمات مثل قوة الإرادة والذكاء والمشاعر. وتعتمد كذلك على ما تعرضنا له عرضا من أشخاص وأحداث تصادف أن أثرت فينا. اكتسبت مسألة الحظ الأخلاقي أهمية في الفلسفة المعاصرة عبر أعمال برنارد وليامز وتوماس ناجل؛ فقد نشر وليامز بحثا شهيرا عام 1976 تحت عنوان «الحظ الأخلاقي» مرفقا بها بحثا آخر يتضمن ردا من ناجل. كلا البحثين مهمان، وقد أصبحا من كلاسيكيات الفلسفة الأخلاقية في القرن العشرين. سوف نستعين بفيلم «حياة الآخرين» ساعين لاستكشاف أفكار وليامز وناجل الأساسية، وقد نتعلم من الفيلم بعضا مما يتعلق بالحظ الأخلاقي، حول انتشاره وتنوعه، وحول تطبيقاته في الأخلاقيات والحياة على حد سواء.
علاوة على ذلك، يطرح الفيلم أسئلة حول طبيعة ومغزى الحرية والخصوصية، جنبا إلى جنب مع أسئلة حول الفساد والسلطة السياسية الطليقة والحرمان والخوف والتعذيب وحول الوضع البشري عامة ، وكلها موضوعات يتناولها الفيلم في سياقه. كذلك تستحق الخصائص الجمالية للفيلم نظرة أكثر تعمقا، فيما يتعلق، على سبيل المثال، بالدور البارز فلسفيا الذي يلعبه المعمار الذي نشاهده، ويتجسد عبر صورة المدينة وغرف التحقيق وزنازين السجن. لا يمكن، ولا يستحب أيضا، مناقشة جميع القضايا الفلسفية التي يتضمنها فيلم «حياة الآخرين» في ذات الوقت. مع ذلك يكمن الجزء الأكبر من قوة الفيلم في تجنبه عزل الأسئلة المهمة عن بعضها بعضا بل جمعها سينمائيا بطرق تجعل كل سؤال يستلزم الآخر ويطرح سياقا له؛ ما يجعل الأسئلة تنساب على نحو درامي واحدا تلو الآخر وتصطحب المشاهدين بإرادتهم عبر أحداث الفيلم؛ فقد أعدت قصة الفيلم وما صاحبها من دراما، تدعمهما الموسيقى، إعدادا مميزا يجعل الأسئلة متضمنة بعضها بعضا ومترابطة فيما بينها بطرق متعددة. نلاحظ هنا إذن طريقة تبدو بها السينما أقرب للحياة من الفلسفة، بما أن الحياة ترفض، على نحو مزعج، عزل المعضلات الفلسفية بعضها عن بعض، ومعالجة كل منها على حدة. وعلى المنوال نفسه، تلقي بنا الأفلام الجيدة في خضم ما تجسده من مشكلات، بطريقة تتعارض مع الكتابة الفلسفية الأكثر رسمية، كما نجد مثلا في مقالات المجلات المتخصصة؛ ففي الكتابة الفلسفية الرسمية، قد يظل المرء يشعر أن نقاش المسألة الفلسفية المطروحة لم يعط التعقيد الفلسفي للحياة حقه، مهما اتسم هذا النقاش بالشمولية والبلاغة.
أحد الأسئلة المهمة التي يطرحها الفيلم يتعلق بطبيعة النزاهة. فكل شخصية من شخصياته تجسد سبيلا مختلفا للتمتع بالنزاهة أو الإخفاق في ذلك. لكن ما هي النزاهة؟ في مقال اشترك مؤلفا هذا الكتاب في كتابته بالتعاون مع مارجريت لا كاز (2003: 14، 41-42)، نقول:
النزاهة مفهوم عصي على التعريف؛ فهي لا تتطابق مع مفهوم الصدق، وتتجاوز بكثير كونها فضيلة يتمتع بها ذوو الشرف والأمانة. تقع النزاهة في المنتصف بين أشكال شتى من الجموح. فمن ناحية تحيط بها حالات مثل تبدل المواقف والاستهتار وضعف الإرادة والفساد والنفاق والخداع والعجز عن تأمل الذات أو فهمها. ومن ناحية أخرى، نجد حالات مثل التزمت والجمود العقائدي والهوس بفكرة واحدة والتظاهر بالتقوى والانغماس المفرط في الذات، إلى جانب الفراغ والضيق الذي تتسم به حياة تغلق أبوابها في وجه التعددية التي تميز التجربة البشرية ... يعيش الفرد النزيه في توازن هش من كل تلك الصفات المفرطة في طابعها البشري ... وصف شخص ما بالنزاهة يفترض مسبقا أساسا من الآداب الأخلاقية ... النزاهة ليست نوعا من الكمال أو صلابة الشخصية أو النقاء الأخلاقي. هي تتضمن القدرة على الاستجابة للتغير الحادث في قيم المرء وظروفه، إنها نوع من إعادة الخلق المستمرة للذات، ومن تحمل المرء مسئولية عمله وفكره. وفهم النزاهة يتضمن النظر إلى الذات على أنها دائما قيد التطور، لا على أنها ساكنة وثابتة أو تتضمن «جوهرا» داخليا تصنع حوله تغيرات سطحية إلى حد ما ... السعي وراء النزاهة يتضمن تحديد المرء لرغباته وقيمه والتزاماته. وهي عمليه تشبه كثيرا مساعي فهم الذات أو إيجاد معنى، وإن كانت لا تتطابق معها.
2
ونضيف إلى ذلك أن النزاهة ليست صفة متكاملة قد يمتلكها المرء أو لا، فهي تسمح بدرجة من الازدواجية بل وقد تتطلبها في بعض الأحيان. كل منا يتمتع بالنزاهة ويفتقر إليها أيضا بدرجة ما. ويمكننا عبر الاستعانة بما ذكرناه من معايير للنزاهة، التي نعترف بكونها ملتبسة، أن نفحص كل شخصية من شخصيات الفيلم كي نحدد مدى ما تبديه من نزاهة عبر أسئلة من قبيل: أين تبدي الشخصية قدرا من النزاهة، وكيف تنجح في ذلك على نحو مميز، وأين تخفق في ذلك ولماذا؛ كل شخصية بطريقتها الخاصة. يمكن القيام بهذه المهمة على نحو واع، كنوع من التمارين الأخلاقية، أو قد يجد المشاهد أن تأملات من هذا النوع حول النزاهة تصاحب بطبيعة الحال انغماسه في أحداث الفيلم.
قبل أن ننتقل إلى بحث بعض المسائل الفلسفية التي تشكل جزءا لا يتجزأ من «حياة الآخرين» وتساهم في نجاحه وتأثيره، نحتاج أن نذكر القراء بحبكة الفيلم التي لا تخلو من التعقيد. وسوف تكون مناقشتنا للفيلم أكثر ميلا نحو تفسير الأحداث وتفصيلها مقارنة بملخصات حبكات الأفلام الأخرى الواردة في هذا الكتاب. من المفيد كذلك معرفة بعض المعلومات العامة عن الفيلم، وسوف نذكر بعضا منها هنا. (وكما نقول عادة، احرص على مشاهدة الفيلم أولا قبل متابعة القراءة.) قد يبدو سرد حبكة الفيلم مهمة سهلة نسبيا. رغم ذلك يجدر بنا الإشارة إلى أن ملخص الحبكة هذا في فيلم معقد فلسفيا قد يفترض مسبقا الكثير من القضايا الفلسفية الأساسية في الفيلم بل وقد يحكم مسبقا أيضا على الشخصيات، إما صراحة عبر فعل ما على سبيل المثال بأنه «خيانة»، أو عبر حذف بعض عناصر الفيلم؛ كأن يغفل ذكر بعض الجوانب المهمة أخلاقيا في موقف معين. لا يمكن على الأرجح تجنب هذا النوع من الافتراضات التي لم تثبت صحتها. هذا فضلا عن أن الفيلم يعج بقضايا تتصل بمفاهيم الحرية والخصوصية والسلطة، وتنعكس عبر شخصياته؛
3
ومن ثم تصبح مشاهدة الفيلم، مع أخذ تلك القضايا في الاعتبار، بجانب الأسئلة المطروحة حول نزاهة الشخصيات، منهجا لمعالجة الفيلم من منظور القضايا الأخلاقية والسياسية التي يطرحها. أما الدور الذي يلعبه الحظ الأخلاقي في حياة بعض الشخصيات فيمدنا بمنهج إضافي سوف نركز عليه في معالجتنا. «حياة الآخرين»
المكان: ألمانيا الشرقية؛ الزمان: 1984، قبل خمس سنوات من سقوط حائط برلين. يزداد اهتمام وزير الثقافة (برونو هيمف) بممثلة (زيلاند) ويبدأ في ابتزازها جنسيا، فيخيرها بين «ممارسة الجنس معه أو تدمير مستقبلها المهني». ونتيجة لهذا الانجذاب المشئوم ناحيتها، ورغبة منه في إزاحة حبيبها الكاتب المسرحي (دريمان) من طريقه، يكلف عميل من البوليس السري (الإشتازي)
4
بمراقبة الكاتب المسرحي وحبيبته الممثلة، اللذين تجمعهما علاقة حب طويلة الأمد. العميل هو النقيب جيرد ويسلر، ورمزه السري «إتش جي دبليو إكس إكس/7»، الذي يصبح شخصية الفيلم الرئيسية. يتخذ ويسلر موقعه في المكان العلوي من المبنى الذي يقيم به الحبيبان، ويشرع في التصنت عليهما. وأثناء مهمته يتزايد اهتمامه تدريجيا بحياتهما الشخصية، ولاحقا ينغمس فيها.
يعيش الوزير هيمف في عالم يتيح له تجاهل الآداب الأخلاقية، وأن يطأ بنعليه حقوق الأفراد دون أن يخشى عقابا، وأن يبرر أفعاله عبر إشارات عرضية، تشع نفاقا، لقضايا الأمن الوطني والقيم الاشتراكية.
5
ظاهريا، يبدو هيمف أشر المنافقين خطرا؛ فهو يناصر القيم الاشتراكية كي يتخذها ستارا لرغباته ومطالبه الفاسدة، لكن توجد قراءة أخرى لشخصيته ترى أنه ليس منافقا بقدر كونه شخصا حقيرا منحلا يرهب الآخرين بما يملكه من سلطة. هو ليس منافقا؛ لأنه يملك سلطة فرض إرادته دون حاجة لإبداء غير ما يبطن. ما هو النفاق إذن؟ يقول مكينون (1991: 322):
نعتقد أن المنافق هو من يخفي دوافعه ونواياه، أو يتظاهر بغيرها، في المجالات التي تعامل فيها الدوافع والنوايا بجدية مثل الدين والأخلاق، والسياسة أيضا على الأرجح ... المنافق يدرك بلا شك نواياه الحقيقية، وقراره بإخفائها هو قرار متعمد حتما ... لا بد أنه يرغب في أن يحكم الناس عليه حكما مختلفا أكثر محاباة له، ولا بد أنه يتخيل مسار عمل معين مصمما بحيث تنتج عنه تلك التقييمات ويتولى تنفيذه.
لكن موقف هيمف مختلف؛ فلا حاجة حقيقية لديه لإخفاء دوافعه الحقيقية أو التظاهر بغيرها؛ فالجميع يعرف دوافعه يقينا، ولا أحد ينخدع بكلامه، ربما باستثناء ويسلر في البداية لكنه سرعان ما يرى هيمف على حقيقته. إذن من غير المرجح أن يكون هيمف منافقا بالمعنى الدقيق الذي عبر عنه مكينون. ما نراه هنا هو الواجهة الخارجية للنفاق لا النفاق ذاته، وتلك سمة متغلغلة في الأنظمة الاستبدادية. تلك الواجهة، حيث إظهار الولاء لقيم سياسية أمر إجباري رغم كونه لا يخدع أحدا، سمة لا بد أن تحذرها المؤسسات الديمقراطية. بعبارة أخرى، متشائمة نسبيا على الأرجح، المؤسسات الديمقراطية مصممة بحيث تضمن على أقل تقدير عدم الحاجة إلى النفاق عندما يكذب المسئولون الحكوميون ويخفون دوافعهم الحقيقية ويتظاهرون بغيرها.
لا يوجد سبب يستدعي مراقبة دريمان وزيلاند سوى الاهتمام الدنيء لدى هيمف ناحية زيلاند ورغبته في التخلص من حبيبها. مع أن جميع من في ألمانيا الشرقية في هذا الوقت كانوا معرضين للمراقبة وللخضوع للتحقيق، وأي شخص بارز يتمتع بدرجة من التأثير هو مرشح محتمل لأن يخضع للمراقبة السرية، كان الفنانون على الأخص مستهدفين. على حد قول فيليبا هاوكر في مراجعتها النقدية للفيلم (2007): «يبدي الإشتازي اهتماما خاصا بالشخصيات المبدعة، وبقدرتهم على التشكيل والتقويض والتدمير. إحدى الشخصيات تتحدث عن الكتاب واصفة إياهم ب «مهندسي الروح البشرية »، وهو تعبير مضلل يتضح أن ستالين كان يستخدمه.» ربما يلعب الفنانون دورا خاصا في عملية نشر الأفكار، حتى وإن لم يكن بوسعهم معرفة التأثير الذي سيحدثه فنهم على وجه التحديد.
جزء من أسلوب عمل عملاء الإشتازي هو معرفة كل ما يمكنهم معرفته عن المواطنين، بما في ذلك حياتهم الخاصة، فلربما رأت السلطات أنه «من الضروري»، لأي سبب كان، تقويض مكانتهم أو التحكم فيهم أو تدميرهم تحت ذريعة الحفاظ على الأمن القومي. يوضح الفيلم أن كلمه «ذريعة» هي الكلمة المناسبة في هذا السياق، فقليل من يعتقدون أن الأمن القومي معرض للخطر بصرف النظر عما يقولونه سرا أو علانية. يؤدي انجذاب الوزير ناحية زيلاند إلى إنهاء ما هو أكثر من حياتها المهنية. ويطلق علاوة على ذلك سلسلة من الأحداث التي تغير حياة ويسلر تغييرا جذريا. ويركز الفيلم في المقام الأول على هذا التغيير الصعب والعميق الذي يطرأ على ويسلر بينما يشاهد ويستمع إلى ما يحدث بين دريمان وزيلاند.
الجزء الأهم والأكثر فعالية من طريقة عمل الإشتازي يعتمد على الخوف. فبما أن عملاء الجهاز عاجزون عن الوجود في جميع الأماكن والأوقات، نجدهم يلجئون إلى استخدام شبكة واسعة جدا من المخبرين بغية أن يعجز الجميع عن تحديد من هو جاسوس ومن ليس بجاسوس. وكان تأثير ذلك في الواقع أن أصبح السكان يراقبون أنفسهم بما أن كل فرد يشك في كون جميع من حوله يتجسسون عليه، وهو شك مبرر. يجسد الفيلم سينمائيا هذا الإطار العام الخانق من الشك والخوف، ويعزز المعمار القاسي والسماء الرمادية والجو البارد والشوارع الخالية، هذا التأثير. ربما يرى المشاهد تلك العناصر باعتبارها امتدادات طبيعية قاتمة للدولة، إلى جانب كونها نوعا من المصادقة الكونية على الوضع السياسي والاجتماعي والشخصي القائم. يعرف الجمهور، عبر حاشية سينمائية تعرض مع بداية الفيلم، أن الأحداث تدور قبل خمس سنوات من حدوث تغير جذري؛ ألا وهو سقوط حائط برلين وتوحيد شرق ألمانيا («جمهورية ألمانيا الديمقراطية») وغرب ألمانيا (جمهورية ألمانيا الاتحادية)؛ ففي عام 1990، انضمت ألمانيا الشرقية أخيرا إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية. لكن خلال الوقت الذي تدور فيه أحداث الفيلم، وهو تحديدا عام 1984، كان الأمل في حدوث تغير جذري ضئيلا للغاية؛ فقد بدا أن الحكومة الاستبدادية وأسلوب الحياة الذي أرسته باق للأبد. لا يمكن فهم أفعال الشخصيات إلا في هذا السياق واستنادا إلى هذه الخلفية. وفي ظل هذه الخلفية يختار ويسلر ويخاطر بحياته ويجسد مفهوم الحظ الأخلاقي. لقد خاطر مخاطرة بالغة؛ هو ضابط ذو مكانة مرموقة في الإشتازي، لكن ضباط الإشتازي أنفسهم يتملكهم الخوف إلى حد كبير. وأبوابهم هي الأخرى قد تطرق في منتصف الليل، وقد يعتقلون لأسباب ظنية. لا يوجد سبيل قانوني مشروع يعتمد عليه في ظل هذا النظام الاستبدادي، وذلك هو سر طبيعتهم القمعية. فمن يعرف ما يستحق الخوف أفضل من ضباط الإشتازي أنفسهم؟!
بينما يتنصت ويسلر على أنشطة دريمان وزيلاند ومحادثاتهما الخاصة، يصاحب اهتمامه تدريجيا، وعلى نحو ربما فاجأه شخصيا، نوع متأن أو تأملي من الحسد. ليس ذلك النوع من الحسد النابع أساسا من الرغبة في حيازة ما لدى شخص آخر أو أن تصير مثله، بل هو نوع من الحسرة على افتقاد الجوانب التي تجعل حياة دريمان وزيلاند حياة حافلة. ومن خلال هذه المقارنة، يصبح ويسلر واعيا فيما يبدو بنوع الحياة التي يعيشها، وطبيعة شخصيته. لقد وضعت حياته موضع مقارنة مع حياتهما فأصبح يراهما على حقيقتهما، بما يقدمانه من عمل ذي قيمة، يستمتعان به وما يجمعهما من علاقة حميمة يملؤها الحب. يعد الاختلاف بين شقتهما المريحة والجذابة وبين شقته الخالية من الأثاث التي لا تحمل أي طابع شخصي اختلافا بارزا وصادما، والفرق بين ممارستهما الجنسية المتقدة ولقاء ويسلر العارض مع عاهرة، تتقاضي أجرها على أساس النصف ساعة، وترفض البقاء قليلا بعد الممارسة الجنسية لأن عميلا آخر ينتظرها، لهو فرق قاس ومحزن. إن ويسلر بصفته عضوا في الحزب الشيوعي قد استوعب داخله ما تجسده الدولة من تشكك بارد وفاتر يخلو من الحياة، على نقيض الحيوية والشغف والنزر اليسير من الأمل لدى دريمان وزيلاند.
رغم ذلك، توجد صفة واحدة لا تنطبق على ويسلر؛ وهي النفاق في صورته الأوضح؛ ففي الأجزاء الأولى من الفيلم، نراه شخصا يؤمن بهدف الدفاع عن الاشتراكية ضد ما تجلبه المثل الليبرالية والانغماس الغربي في الملذات من فساد. ويبدو في الظاهر شخصا مؤمنا بالفعل بقضية؛ شخصا ملتزما بأداء مهام دنيئة وكريهة إلى أقصى حد؛ لأنها ضرورية لأجل الدفاع عن التجربة الاشتراكية العظيمة لجمهورية ألمانيا الديمقراطية. وهو في ذلك يتناقض بقوة مع رئيسه في الإشتازي، أنطون جروبتز، وهو شخص انتهازي شكاك لا يهتم إلا بمصلحته الشخصية. من الصعب تخيل جروبتز وهو يبدي تأثرا كبيرا بالمراقبة المتلصصة لحياة الآخرين. إن انفتاح ويسلر على تأثير الآخرين على هذا النحو العميق يرجع جزئيا إلى أنه ليس شخصا انتهازيا يخدم مصلحته الخاصة. والفيلم يذكرنا بمدى الاختلاف الذي قد يحدثه الآخرون دون علم منهم في حياتنا. فموضوعه الرئيسي هو تحول ويسلر عبر إدراكه، في اللحظة الحاسمة، لحقائق مهمة حول نفسه والآخرين، تتعلق بما يقدره وما يعتبره صوابا، وبالثمن الذي يتأهب لدفعه.
يدرك ويسلر في مرحلة مبكرة أن دريمان ظل، حتى تلك اللحظة، مواطنا مخلصا. (يتبدل ولاء دريمان كذلك مع أحداث الفيلم.) ويتضح له، فيما يشبه الصحوة، أن مهمة المراقبة التي كلف بها تتعلق بابتزاز الوزير جنسيا لزيلاند، لا بالأمن القومي. يجاهد ويسلر لحيازة قدر يسير من النزاهة والحرية رغم كل ما يواجه من صعاب وفي ظل كآبة عامة، داخلية وخارجية، تطوق البلد بأسره (أي عالم أبطال الفيلم)، والتي نجح الفيلم إلى حد كبير في إعادة خلقها عبر تصوير عالم يتعرض فيه من يقمعون ويقيدون ويروعون الآخرين إلى القمع والترويع كذلك. وهكذا يتحول من عميل محترف بلا قلب يعمل لصالح الدولة، كما يصوره الفيلم في البداية، إلى شخص آخر مختلف اختلافا ملحوظا، شخص أفضل. أولا: كان على ويسلر تحديد ما يقدره، ما يرغب به ويعتقد أنه الصواب. ثم عليه - في وجه خصم شرس وخوف مبرر وغياب مخيف لأي ممن قد يلجأ إليهم كي يستمد تأييدا لآرائه - أن يحاول بطريقة ما الحياة على النحو الذي يراه واجبا أو الذي يرغب به على الأقل. لقد وجد نفسه في موقف يمنحه نوعا من التكفير عن خطاياه، وقد نجح، وهو أمر يحسب له، في إدراك طبيعة هذا الموقف عن حق واغتنامه.
6
يضع الفيلم كل شخصية من شخصياته الرئيسية أمام أشر مخاوفها خطرا. فلننظر على سبيل المثال إلى نموذج الكاتب المسرحي دريمان. يعيش دريمان في شقة أنيقة مع زيلاند؛ لقد تمكن حتى الآن من إرضاء مسئولي الحكومة عبر كتابة مسرحيات ملهمة حول الطبقة العاملة، وفي الوقت نفسه الاحتفاظ بصداقة بعض من زملائه الكتاب على الأقل، وربما احترامهم له. يتخلص دريمان تدريجيا من أوهامه حول الدولة بينما يرى تأثيرها على زملائه الكتاب؛ فقد دفع النظام - ممثلا في شخص هيمف، وهو نفسه وزير الثقافة الذي يبتز زيلاند جنسيا - صديقه ألبرت جيرجسكا إلى الانتحار عبر منعه من العمل وإفقاره. يلعب هذا الحدث دورا محوريا في تحول دريمان من فنان يعمل فيما يطلق عليه «السجن المخملي» (وهو موقف مريح وداعم للفنانين شريطة أن يلتزموا بالقواعد الأيديولوجية للنظام) إلى ناقد للنظام.
7
يوافق دريمان على تحدي السلطات والمساعدة في تهريب مقال له حول مدى انتشار حالات الانتحار في جمهورية ألمانيا الديمقراطية - وهي ظاهرة تتستر عليها الحكومة - إلى الصحيفة الألمانية الغربية دير شبيجل. يتستر ويسلر بانتظام على أنشطة دريمان؛ فقد رتب لنقل زميله إلى مهمة أخرى، وبدأ يسلم مجموعة من التقارير الزائفة (المضحكة غالبا) حول نشاط دريمان (حسب التقارير، يكتب دريمان مسرحية عن لينين).
يتكشف الموقف في النهاية نتيجة لافتنان الوزير بزيلاند؛ إذ عزم، منذ رفضها له، على تدميرها. لقد نما إلى علمه أنها تعاني نوعا من إدمان المخدرات، وأنها تبتاع عقاقير محظورة. وعليه، يعتقلها جروبتز، بأمر من الوزير، متذرعا بتلك التهمة، ويستخدمها في الضغط عليها كي تفصح عن مؤلف مقال دير شبيجل. تهدد زيلاند بالسجن وفقدان مستقبلها المهني، فتعرض عليهم التجسس لصالح الإشتازي ، بل وتعرض على جروبتز خدمات جنسية. لكن جروبتز، الذي لا تشغله سوى حياته المهنية، يهتم فحسب بما تعرفه عن مؤلف مقال المجلة. تذكر زيلاند في النهاية أن دريمان هو من كتب المقال، في مشهد لا نراه، لكنها تحجب معلومات ضرورية عنه؛ فلا تفصح عن مخبأ الآلة الكاتبة التي استخدمها في كتابة المقال، وهي دليل حاسم يحتاجه جروبتز لاعتقال دريمان وسجنه. يفتش عملاء الإشتازي شقة دريمان فلا يجدون للآلة الكاتبة أثرا؛ ما يؤدي إلى فرض ضغوط أكبر على زيلاند؛ إذ يجلب جروبتز ويسلر (الذي أصبح جروبتز الآن يشك في كونه عميلا مزدوجا) كي يستجوبها. فتلك هي فرصة ويسلر الأخيرة كي يبرئ ساحته أمام جروبتز، رئيسه في العمل؛ لا بد أن ينتزع منها معلومات حول مكان الآلة الكاتبة. وهكذا نتابع، في واحد من أكثر مشاهد الفيلم حزنا (الدقائق من 40 إلى 44 من الساعة الثانية)، عملية الاستجواب حيث يحاول ويسلر استخلاص المعلومة من زيلاند، بينما يحاول، دون نجاح، طمأنتها خفية عبر إشارات تلمح إلى أن كل شيء سيصير على ما يرام (يتضح فيما بعد أن خطة ويسلر هي نقل الآلة الكاتبة قبل إرسال العملاء للبحث عنها)، تخفق زيلاند في فهم أي من تلك الإشارات. يحاصرها ويسلر أثناء التحقيق، ويجعل الوضع يبدو كما لو أنه لا يوجد خيار أمامها سوى الوشاية بدريمان. يكذب ويسلر عليها، فيدعي أن دريمان سيسجن استنادا إلى أدلة اكتشفوها بالفعل، ويخبرها أنه لا بد لها من إكمال خيانتها له حتى النهاية وإلا فستواجه السجن بتهمة حنث اليمين. يناشد حاجتها العميقة إلى فنها، ويرجوها أن «تتذكر جمهورها». تتفاقم الضغوط على زيلاند إلى حد لا يطاق مع مصادرة الشرطة لعقاقيرها وما تمر به من محنة مروعة في إحدى زنزانات الإشتازي، فتستسلم سريعا دون صخب.
تبحث قوات الإشتازي عن الآلة الكاتبة، فلا تجدها في المكان الذي ذكرته زيلاند؛ لقد نقلها ويسلر. تندفع زيلاند، فيما يعتبره بعض المشاهدين مشهدا مصطنعا بعض الشيء، خارج الشقة قبل أن يتضح فشل عملية البحث، وتسير متعمدة قبالة شاحنة على الطريق. يشير انتحارها (عند فحص المشهد عن كثب نكتشف أنها سارت متعمدة في طريق الشاحنة) إلى فشل خطة ويسلر في أحد أهم جوانبها. لقد أنقذ دريمان، لكنه لعب دورا مساعدا في موت زيلاند. عقب الإخفاق في إيجاد الآلة الكاتبة، وفي مواجهة حادث وفاة لم يتوقعه عملاء الإشتازي أنفسهم، تصدر أوامر بإنهاء عملية مراقبة دريمان، ويصدر جروبتز قرارا بخفض رتبة ويسلر.
يجسد باقي الفيلم اكتشاف دريمان، عقب ست سنوات ونصف، ما حدث فعلا أثناء تلك الأحداث الفظيعة. لقد افترض أن زيلاند قد نقلت الآلة الكاتبة وأنقذته. لكن لقاء مع هيمف، الذي لا يزال يعيش حرا طليقا في ألمانيا الجديدة، يغير من تصوراته. يكشف له هيمف عن عملية المراقبة، التي لا تزال أجهزة التصنت المستخدمة بها موجودة بشقته. والآن أصبح في وسع دريمان الاطلاع على ملف الإشتازي الخاص به؛ حيث يكتشف أن ويسلر كان يحميه سرا، وأن زيلاند لم يكن بوسعها نقل الآلة الكاتبة، في حين كان لدى ويسلر فرصة القيام بذلك. يطلع دريمان كذلك على ما أعقب المهمة من خفض لرتبة ويسلر. وبناء على تلك الاكتشافات، يهدي كتابه الجديد «سوناتا لأجل رجل طيب» إلى ويسلر مستخدما رمزه السري لدى الإشتازي. يصور المشهد الأخير في الفيلم ويسلر عندما يكتشف هذا الإهداء: «إلى إتش جي دبليو/إكس إكس 7، عرفانا بجميله». وبينما يبتاع الكتاب يسأله البائع ما إذا كان يرغب في تغليفه كهدية فيجبيه: «لا، إنه لي» (الدقيقة 7 من الساعة الثالثة). وتعرض اللقطة الختامية للفيلم صورة ثابتة لوجه ويسلر (الذي يبدو أقل تجهما، وأكثر استرخاء، وتتجلى عليه بوضوح علامات التأثر بل تكاد تزينه ابتسامة!) تصحبها موسيقى شاعرية بعض الشيء (تختلف اختلافا بسيطا عن باقي موسيقى الفيلم)، وتجسد هذه اللحظة كنوع من الخلاص المؤجل. إن كفاح ويسلر لحماية هذا الفنان المنشق قد لاقى اعترافا على الأقل، من الفنان نفسه في هدوء دون علم أحد تقريبا.
أنواع الحظ
إذن، ما الدور الذي يلعبه الحظ في هذا القصة؟ يلعب الحظ أدورا كثيرة بالتأكيد؛ لكن نظرة أعمق إلى هذا السؤال ستدفعنا إلى دراسة بعض النقاشات الفلسفية المؤثرة حول الحظ ودوره في الحياة، لا سيما في جانبها الأخلاقي. يصبح أي شيء خاضعا للحظ، حسن الحظ أو سوئه، إذا كان يؤثر على أمر مهم بالنسبة لنا وإذا كان خارجا عن نطاق سيطرتنا. ويميز توماس ناجل (1979) بين أربعة أنواع مهمة من الحظ. أولا: قد يكون المرء محظوظا أو غير محظوظ في ظروفه. لقد كان من سوء حظ زيلاند أنها جذبت انتباه الوزير هيمف جذبا شهوانيا. يطلق ناجل على هذا النوع من الحظ حظا ظرفيا. ثانيا: قد يكون المرء محظوظا أو سيئ الحظ في شكله أو شخصيته أو طبعه أو مواهبه، وما إلى ذلك. علينا أن ندرك أن الناس ليسوا متحكمين تماما بكل جانب من جوانب شخصيتهم أو سماتهم المميزة، وذلك عنصر حاسم في حكمنا على الآخرين. (مع ذلك، سنزعم في الفصل الرابع عشر أن المرء يملك كذلك قدرا من السيطرة على ما يتمتع به من فضائل ورذائل.) ويطلق ناجل على هذا النوع من الحظ حظا بنيويا. الحظ الظرفي والحظ البنيوي كلاهما عنصران متغلغلان كليا في حياتنا، ويؤثران تأثيرا استثنائيا على مدى صلاح حياتنا أو ما تتمتع به من قيمة أو ما تستحقه من احترام وتقدير. القليل منا يختبر إخلاصه مثلما اختبر إخلاص زيلاند لدريمان، وكثير من الناس يحيون حياة صالحة لا تشوبها شائبة لا لسبب سوى أنهم لم يتعرضوا لمواقف غير عادلة كتلك.
رغم أهمية وتغلغل هذين النوعين من الحظ، فإنهما لا يزعجان الفلاسفة بقدر ما يزعجهم نوع ثالث؛ نوع يطلق عليه ناجل الحظ الناتج.
8
قد يكون المرء محظوظا أو تعس الحظ في نتائج أفعاله؛ فنحن نضع الخطط ونحكم على أنفسنا بناء على مدى حكمة وجودة خططنا، لكن النجاح هو في الحقيقة المعيار الأهم وكثير من الخطط التي كانت ستلقى استنكارا حال فشلها تلقى مديحا لأنها نجحت. يستشهد برنارد وليامز (1981) في هذا السياق بالرسام بول جوجان، الذي هجر عائلته كي يمارس الرسم في جزر جنوب المحيط الهادي (يتلاعب وليامز بتفاصيل القصة ؛ ولذا يعترف أن مثاله يطرح نسخة خيالية من حياة جوجان) إذا لم تتضح عبقرية جوجان في فن الرسم، فإن قراره بهجر عائلته كان سيلقى رد فعل سلبيا للغاية. وبسبب نجاحه نتسامح أكثر، وربما لدينا ما يبرر ذلك، مع قراره، ويصبح لدينا مبرر للشعور بالامتنان لأنه اتخذ هذا القرار، أو هكذا يرى وليامز. حسب رؤية ناجل، تمتع جوجان بحظ ناتج حسن. وإذا كنا نعتقد أن هذا يؤثر إيجابا على الحكم الأخلاقي على فعله، فسوف يطلق على حظه الحسن حظا أخلاقيا حسنا.
تحير احتمالية الحظ الأخلاقي الفلاسفة؛ لأنه يفترض ظاهريا أن نتحمل مسئولية الأمور التي بوسعنا التحكم فيها فحسب. لا ينبغي أن تكون الأخلاق خاضعة للحظ، لكنها تبدو، في كثير من الحالات، وعلى نحو بديهي، مسألة خاضعة كليا للحظ. تأمل على سبيل المثال حالة بستاني يعمل في حديقة يسيجها سور طويل. ينظف البستاني الحديقة عبر قذف الحجارة الكبيرة فوق الحائط نحو طريق يقع على الجانب الآخر من السور. لا يستطيع البستاني تحديد موقع سقوط الحجارة، فربما تسقط على رأس أحد المارة في الطريق؛ ومن ثم هو يتصرف برعونة. إذا كان محظوظا في نتائج أفعاله، فإن الحجارة لن تصطدم بأحد، ولن يتعرض أي شخص للأذى. وسيصبح الخطأ الذي ارتكبه البستاني هو أنه سلك سلوكا طائشا. لكن تخيل أن شخصا ما أصيب بحجر أكبر من المعتاد من تلك الحجارة المقذوفة عبر السور، وتسبب في قتله؛ سيكتسب الخطأ حينها بعدا أكثر خطورة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. لقد أصبح البستاني قاتلا (ليس عن عمد بالتأكيد). سوء الحظ يجعله قاتلا، وحسن الحظ يجعله أحمق ليس إلا. يبدو إذن أن الحظ يلعب دورا عظيما في موقفنا الأخلاقي لأنه يؤثر على مدى الخطأ الذي نرتكبه وطبيعته.
9
في فيلم «حياة الآخرين»، نرى هذا النوع من الحظ الأخلاقي الناتج في الأحداث المرتبطة بزيلاند؛ فهي، تحت ضغط شديد، تخون حبيبها، خيانة كانت ستعرض دريمان لنتائج كارثية، مثل اعتقاله وسجنه. من وجهة نظر زيلاند، سيحدث ذلك لا محالة نتيجة لخيانتها. لكن كما رأينا، تدخل ويسلر ونقل الدليل الحاسم (الآلة الكاتبة المدانة)؛ ما منع حدوث تلك النتيجة. بالطبع هذا من حسن حظ دريمان. لكنه من حسن حظ زيلاند أيضا؛ فقد تجنبت العواقب الأخلاقية الكاملة لخيانتها.
10
إن خيانتها فعل سيئ، لكنها خيانة غير مجدية لا خيانة مدمرة للحياة. ومن المستبعد أن يحكم على خيانة غير مجدية بنفس قسوة الحكم على خيانة مدمرة للحياة. إذا كان الحظ الأخلاقي ظاهرة حقيقة، فإن ميلنا الطبيعي للحكم على خيانة غير مجدية حكما أقل قسوة من حكمنا على الخيانة المدمرة للحياة يصبح صحيحا؛ فالخيانة غير المجدية أقل ظلما من الخيانة المدمرة للحياة.
11
لقد عانت زيلاند من سوء حظ ظرفي كبير، لكن في النهاية حظيت بقدر ضئيل من حسن الحظ الأخلاقي. للأسف لم تحي طويلا لتشهد ذلك.
الحظ والندم
حتى الآن لاحظنا التأثير المحتمل للحظ على الحكم الأخلاقي الصادر من طرف ثالث، وقد ركزنا على النماذج الأبسط للحظ الأخلاقي. إلا أن بحث بيرنارد وليامز الأصلي «الحظ الأخلاقي» يتناول قضايا أكثر تعقيدا وأقل مباشرة في إطار بحثه لنقطة مختلفة نسبيا. كان وليامز مهتما بطبيعة حكم الفرد بأثر رجعي على قراراته الحياتية المؤثرة. يلعب نموذج جوجان دورا حاسما ها هنا؛ فالسؤال المحوري من وجهة نظر وليامز لا يتعلق بما إذا كان قرار جوجان بهجر عائلته من أجل امتهان الرسم في جزر جنوب المحيط الهادي أصبح مبررا أخلاقيا على أثر نجاحه الفني أم لا. بل انشغل وليامز بما إذا كنا قادرين، بالنظر إلى الماضي، على تبرير قرار مهم لأنفسنا، ناهيك عن الآخرين، وكيفية ارتباط تلك العملية في أغلب الأحيان بنجاح المشروع أو الهدف الذي يشكل المشروع جزءا منه أو فشله. إن نجاح المشروع أو فشله أمر قد لا يكون لنا سيطرة كبيرة عليه، هذا إن وجدت من الأساس. لكنه يحدد مع ذلك كيف نقيم هذا القرار، والأهم من ذلك ما إذا كنا سنندم ندما شديدا على اتخاذه.
يشرح وليامز رؤيته (1981: 35-36) في الفقرة التالية (التي تنطوي على بعض الصعوبة):
توجد قرارات ... معينة، تتعلق بمشروعات مهمة تؤثر على مسار حياة المرء حيث يتوحد الفاعل مع المشروع الذي تتخذ هذه القرارات في سبيله توحدا من شأنه أن يجعله يقيم القرار حال نجاح المشروع من حياة تدين بجزء بارز من أهميتها بالنسبة له إلى هذا النجاح في حد ذاته. وإذا فشل، قد لا يتمتع هذا القرار بالضرورة بذلك القدر من الأهمية في حياته. إذا نجح الفاعل في مشروعه، فمن غير المنطقي أن يرحب بالنتيجة بينما يندم على القرار من الأساس. وإذا فشل، فسيقيم القرار كفرد اتضح له عدم جدوى المشروع الذي اتخذت في سبيله القرارات، وهو أمر ... لا بد أن يثير لديه أعمق مشاعر الندم ... على هذا النحو يصبح القرار مبررا للفاعل لا للآخرين بالضرورة عن طريق النجاح.
عندما نتخذ خيارات حياتية جوهرية، كما فعل جوجان وكما فعل ويسلر في النهاية، نبدأ ما يشبه مشروعا؛ أي أمرا تتنوع طرق ودرجات نجاحه أو فشله. ونجاح هذا المشروع أو فشله أمر لا يخضع بالكامل لتحكمنا. علاوة على ذلك، تحدد القرارات الحياتية الجوهرية ما سنصبح عليه مستقبلا، وهذه الذات المستقبلية هي من ستحكم على اختيارنا بأثر رجعي. قد يبدو هذا الكلام أشبه بفخ؛ على سبيل المثال، إذا اختار أحد الأشخاص الانضمام إلى طائفة دينية، فربما تؤثر هذه الطائفة - وستؤثر على الأرجح - على القواعد التي سيحكم وفقا لها على قراراه بالانضمام إليها. سوف يتسبب انتماؤه لطائفة في تشويه حكمه إلى أن ينفصل عنها آخر المطاف. لكن وليامز لا ينشغل بهذا النوع من الخدع في الفقرة التي اقتبسناها لتونا، بل يهتم بالأوضاع التي ستحيط بالفرد، في المستقبل، بينما يتخذ حكما بشأن خياراته الحياتية الأساسية، وبما إذا كان ينبغي له الندم عليها أم لا.
لكي نتجنب مواقف الندم العميق، لا بد أن نكون محظوظين من ناحيتين على الأقل. أولا سنحتاج في معظم الحالات إلى قدر من الحظ (أو إلى غياب سوء الحظ على الأقل) كي نضمن نجاح أهم مشروعاتنا. ثانيا: لا بد أن نكون، في المستقبل، في موضع يمكننا من تقدير ذلك النجاح مثلما تصورناه أول مرة تقريبا، وهو أمر لا يخضع بالضرورة لسيطرتنا. لم يكن بوسع جوجان التأكد تماما أن مشروعه الرامي لأن يصبح فنانا عظيما سيلقى نجاحا، ولم يكن بوسعه كذلك التأكد بما لا يدع مجالا للشك أنه سيظل يحب الرسم بشغف وإخلاص. فماذا لو أصابه الملل من الرسم وأصبح يعتبره لهوا فارغا يناسب الهواة الساعين للهرب من متطلبات حياة كريمة كادحة؟ الخيارات الأساسية إذن محفوفة بالمخاطر، وقد ينتج عنها إخفاق كبير. (ينتقي وليامز مثالا على اختيار فشل فشلا ذريعا من رواية تولستوي «أنا كارينينا»، حيث اختارت آنا ترك زوجها، وحاولت تأسيس حياة مع عشيقها، فرونسكي.)
لا تتساوى جميع الإخفاقات. يقارن وليامز بين الفشل المحتمل لموهبة جوجان أو مزاجه الفني وبين احتمالية إصابته بمرض وهو في طريقه إلى جنوب المحيط الهادي. يصف وليامز الإخفاق الأول بأنه إخفاق جوهري للمشروع، بينما يصف الثاني بأنه إخفاق غير جوهري. فيما يلي يقدم وليامز مقارنة بين النوعين (1981: 36). القرارات الحياتية الرئيسية ليست:
مجرد قرارات محفوفة حقا بالمخاطر ... لها نتائج مهمة. لا بد أن تكون النتيجة ملموسة بطريقة خاصة، طريقة تؤثر تأثيرا مهما في تصور الفاعل عما يحمل أهمية في حياته؛ ومن ثم يحدد موقفه عند تقييم هذا القرار بأثر رجعي. نستنتج من هذا أن مثل هذه القرارات هي بالتأكيد قرارات تنطوي على نوع من المخاطرة، نوع يساعدنا على شرح أهمية الاختلاف بين الإخفاق الجوهري وغير الجوهري فيما يخص المشروعات المرتبطة بها. في حالة الإخفاق الجوهري، يتضح أن المشروع الذي تمخض عنه القرار بلا قيمة، ولا يصلح كأساس داعم لحياة الفاعل. في حالة الإخفاق غير الجوهري، لا يتضح هذا، وعلى الرغم من حتمية اعتراف الفاعل بالفشل، فإن المشروع لا يجرد من قيمته، وقد يساهم، في صورة تطلع جديد ربما، في إعطاء معنى لما تبقى من حياة المرء. في حالة الفشل غير الجوهري يعجز الفاعل - بينما يفكر بأثر رجعي ويبدي مشاعر الندم الأولية - عن التوحد توحدا كاملا مع قراره؛ ومن ثم لا يجد مبررا لما فعله؛ لكنه في الوقت نفسه ليس منفصلا تماما عن قراره، ولا يمكن أن يعتبره مجرد خطأ كارثي؛ ومن ثم لن يجد نفسه في النهاية بلا مبررات.
عندما تخفق مشروعاتنا الرئيسية إخفاقا جوهريا، ينهار الأساس الداعم لأحد الجوانب المحورية من حياتنا. ولا يبقى لدينا ما يبرر الأذى الذي ربما أوقعناه بالآخرين في خضم سعينا لتحقيق هذه المشروعات. أما في حالة الفشل غير الجوهري لمشروع رئيسي، يظل المشروع معقولا من وجهة نظرنا ولا يمكننا اعتباره «خطأ كارثيا». لا يعتقد وليامز أن جوجان يستطيع تبرير سلوكه لعائلته التي هجرها، فليس مطلوبا منهم أن يقولوا لأنفسهم: «حسنا، لقد اتضح في النهاية أنه رجل عبقري مبدع. من الأفضل أنه هجرنا ولم يعبأ بمصيرنا وارتحل إلى الجزر.» لكن إذا اتضح أن رحلته إلى جنوب المحيط الهادي كانت مغامرة خيالية بلا قيمة، فلن يجد جوجان ما يقوله دفاعا عن قراره أمام نفسه وأمام الآخرين. إن الحظ الأخلاقي في قصة جوجان يتمثل في حقيقة تجنبه لهذا المصير تحديدا.
حظ ويسلر
من نواح عدة، تثير شخصية ويسلر في «حياة الآخرين» اهتماما أكثر من جوجان؛ فهو يخوض مخاطرات عظيمة، لكنه، على عكس جوجان، لا يخرج منها ظافرا منتصرا. رغم ذلك ينجح ويسلر ويحالفه الحظ بطرق واضحة وأخرى أقل مباشرة وأكثر إثارة للاهتمام على حد سواء. يتخذ ويسلر في خضم الأحداث قرارا حياتيا جوهريا؛ فهو يهجر السردية التي تربط أجزاء حياته المفككة، فيهجر إيمانه بأهمية وحقيقة دوره في جهاز الإشتازي. ويشجعه سلوك هيمف وجروبتز على ذلك، في حين ينمو داخله احترام وإعجاب بدريمان وزيلاند. لا يتحول ويسلر نفسه إلى منشق، وبعد خفض رتبته يستمر في العمل بالإشتازي (في قسم مراقبة الخطابات في السرداب) حتى انهيار جدار برلين. تزداد حياة ويسلر صعوبة دون شك بعد انهيار الجدار بسبب دوره السابق في الإشتازي على الأرجح. وهو الآن يعمل ساعيا للبريد، ونراه يحمل الخطابات عبر شوارع برلين الرمادية القبيحة التي تشوهها الرسومات الجدارية، حيث يبدو وحيدا ومتضائلا. (قارن حياته الآن بحياته عندما نراه للمرة الأولى في الفيلم؛ إذ كان وقتها في ذروة تألقه المهني، محققا ألمعيا بارعا يعطي محاضرة لمجموعة من الطلاب يتطلعون إليه بنظرات يملؤها الإعجاب.) لماذا إذن نعتبره محظوظا؟
قرر ويسلر حماية كاتب منشق، وقد نجح في هذا. لكنه سعى كذلك إلى حماية زيلاند وأخفق في هذا المسعى. لا بد أنه مثقل بالندم حيال مصيرها استنادا إلى دوره في تحققه. يطلق وليامز على هذا النوع من الندم «ندم الفاعل»، وهو يختلف عن وخز الضمير الذي ينطوي على إحساس قوي بإخفاق أخلاقي عميق لدى المرء؛ ربما لا ينبغي لويسلر الشعور بوخز عميق للضمير على سلوكه في هذا الشأن تحديدا. لقد استجوب زيلاند، وقد أدى هذا، على نحو غير متوقع، إلى انتحارها، لكنه لم يكن أمامه خيار أفضل في هذه المسألة. لقد فعل كل ما في وسعه، وخاض مخاطرة كبرى كي يمحو قدر ما يستطيع من الضرر الذي تسببت به أفعاله. رغم ذلك، كان ويسلر سببا مباشرا في ضياع زيلاند، وسوف يتضاءل في نظرنا إذا تعامل مع هذه الحقيقة باعتبارها نوعا من الحظ السيئ ليس إلا، أو إذا تملص منها بأن يقول: «لو أنني لم أستجوبها، لاستجوبها شخص آخر أقل تعاطفا بكثير معها.» من المفترض أن يشعر ويسلر بندم الفاعل فيما يخص دوره في استجواب زيلاند (وبتأنيب حقيقي للضمير حيال دوره في استجواب متهمين آخرين).
لم يكتف ويسلر بقرار حماية شخص ما، بل فعل ما هو أكثر. لقد اختار حماية مفاهيم لم يكن يرى لها قيمة حقيقية قبل هذه اللحظة، مفاهيم مثل حق المعارضة السياسية، وحق الخصوصية، وحق المرء في العيش بالطريقة التي يرغب فيها دون أن تحكم الدولة في ذلك. يتضح من تصرفات ويسلر (الذي لا نطلع أبدا على أفكاره) أنه تحول إلى اعتناق تصور ليبرالي لمجتمع عادل، وتخلى عن الطموحات الاشتراكية لتجربة ألمانيا الشرقية. ويعبر هذا عن إعادة توجيه جذرية لرؤيته، ويعكس على الأرجح تقديره المتنامي لما تزخر به الحياة من تجارب ثرية في ظل أوضاع ليبرالية. ربما بلغ ويسلر مستوى أعمق بينما يعيد صياغة قيمه الأساسية؛ فربما ألهمه تذوقه الجديد للفن وما شهده من علاقة متقدة تسودها الحميمية والاهتمام في حياة دريمان وزيلاند المشتركة كي يعقد العزم على أن يحيا بدوره حياة أكثر ثراء بالتجارب والتواصل وبالشغف. لا يقدم الفيلم إجابة حاسمة عن هذا السؤال بأي شكل من الأشكال. (يظل ويسلر شخصية مبهمة، ويظل، لدواعي المفارقة، رجلا منعزلا، لا يعرب أبدا عن دوافعه، ولا يكشف عن أفكاره ومواقفه الأساسية إلا من خلال أفعاله.)
على أي حال، ينحاز ويسلر إلى الجانب الآخر، وبينما يقوم بذلك يخاطر بالتعرض للفشل، بكلا نوعيه الجوهري وغير الجوهري. مثال على الفشل غير الجوهري في حالة ويسلر هو عجزه عن حماية دريمان. (تخيل سيناريو تؤدي فيه التقارير الزائفة غير المتقنة التي يعدها ويسلر إلى تعريض دريمان للخطر بدلا من حمايته.) كان الفشل غير الجوهري سيؤدي إلى ندم حقيقي، لكن من نوع يختلف عن الندم الناتج عن الفشل الجوهري. أما احتمالية الفشل الجوهري فتكمن في مخاطرة ويسلر عند انحيازه إلى الجانب الآخر بفقدان مبرر حياته في المستقبل. تخيل أن القيم التي تبناها عند تحوله أضحت فيما بعد جوفاء في عينه، ربما أصبح يرى الكاتب المنشق شخصا يحدث صخبا نابعا من انغماسه في ذاته وشعوره بأهميتها حول أشياء تافهة؛ أو بعبارة أخرى، أصبح يراه خائنا حقا. تخيل أنه أصبح يرى صعود التيار الليبرالي في ألمانيا فشلا في حد ذاته؛ نوعا من تخلي الحكومة عن دورها في رعاية المواطنين وضمان المساواة والتآخي بينهم، واختيار طائش للوحشية النيوليبرالية لتحل محل نظام معيب حقا، لكنه قابل للإصلاح، من القيم الاشتراكية. يخاطر ويسلر بفشل جوهري، لكن هذا الفشل لا يحدث لحسن حظه. يبدو المشهد الأخير من الفيلم مصطنعا وعاطفيا في نظر البعض، لكنه يشير في الواقع، إشارة واضحة وعملية، إلى نجاح ويسلر في مشروعه للتحول الذاتي. لقد أصبح شخصا يستطيع تقبل تعبيرات الشكر الصادرة من رجل أنقذه يوما ما عن طيب خاطر ودفع ثمنا لا يستهان به في سبيل ذلك. لقد استحق ويسلر تلك اللحظة. (ومن المهم ملاحظة أن هذه اللحظة لا ترمز إلى تطهر دولة ألمانيا الشرقية أو جهاز الإشتازي الذي أفسدها، بل تتمحور في الأساس حول إمكانية ظهور شخص مثل ويسلر.)
من الواضح أن ويسلر لا يندم على قراره من منظور الشخص الذي أصبح عليه فيما بعد. لكن هذا الوضع لم يكن قط أمرا يقينيا. لا أحد يعرف ذاته بما يكفي، وبالتأكيد لم يكن ويسلر يعرف ذاته بما يكفي، كي يصبح متيقنا من نتيجة كهذه. وقد حظي ويسلر بمساعدة طارئة في طريقه. لقد ساعده تحول مجتمعه بعد سقوط الجدار، واختياره كان نفسه الاختيار الذي اكتسب مشروعية بعدما اعتنقه الكثيرون. إن مجتمعه الجديد أصبح يشاركه مفهومه الليبرالي المكتشف حديثا عن العدالة، وتنكره لماضيه المهني هو تحديدا الموقف الذي سيرحب به الجميع تقريبا في ألمانيا الجديدة. لم يعد ويسلر يتعرض للاستنزاف على يد مؤسسة تعامله باحتقار لا شك فيه، وهي مؤسسة الإشتازي. والأهم من ذلك، أنه فهم نفسه فهما صحيحا. لقد نجح في التحول إلى شخص قادر على تأمل عملية إعادة التقييم الجذرية التي خاضها ودعمها ونبذ أي هاجس حول تصرفه بطريقة خائنة وغير مهنية. خسر ويسلر خسارة عظيمة، لكنه اكتسب احتراما لذاته يفوق في قوته ما كان يحظى به من قبل. ورغم ذلك كان ويسلر معرضا لخسارة هذا الاحترام كذلك.
12
إذا كنا محقين بخصوص الطابع التحويلي الذي يميز قرار ويسلر بحماية دريمان، فإن الفيلم يوضح بدقة مقارنة وليامز بين الإخفاق الجوهري وغير الجوهري وما ينتج عنهما من استناد النجاح الأخلاقي لحياتنا بقوة إلى أشياء ليس بوسعنا التحكم بها. تشكك بعض الكتاب في منطقية تغير شخصية ويسلر أثناء أحداث الفيلم؛ إذ يفترضون أن «من انتمى لجهاز الإشتازي، سيظل دوما منتميا له.» في حين بلغ آخرون حد الزعم بأن تطهر ويسلر يقصد به تبرئة الإشتازي، أو على الأقل تخفيف المسئولية الملقاة عليه، مثلما يصور مثلا عملاء الإشتازي على أنهم عالقون في وضع صعب، وأنهم يتبعون الأوامر وحسب. تقول هاوكر (2007):
توجد بعض المواقف يبدي فيها فون دونرسمارك (مخرج الفيلم) اهتماما أكبر على ما يبدو بعرض شخصية ويسلر، مستخدما مزيجا من المفارقة والسوداوية، بوصفه شخصا مثاليا حالما، شخصا مؤمنا إيمانا حقيقيا ويملك القوة على تطهير نفسه والآخرين. ثمة أمر مزعج حيال هذه النزعة في الفيلم، أمر يؤدي إلى ضياع سياق القصة؛ أي عالم الإشتازي، وتبدده.
رغم ذلك، وبالنظر إلى أن ويسلر هو الوحيد الذي يمر بهذا التغير - قطعا لا يمر به هيمف وزير الثقافة المثير للاشمئزاز ولا جروبتز - قد نزعم أن صناع الفيلم يتفقون على لا معقولية تغير كهذا. لكن هذا لا يعني استحالته، وإذا كان هذا التغير الجذري مقبولا كأمر طبيعي، فلن توجد إذن قصة تستحق أن تروى. إن نجاح «حياة الآخرين» وقوته يعتمدان على لا معقولية التغير الذي خاضه ويسلر. لكن اللامعقولية لا تعني الاستحالة. التحول الذاتي الناجح يتطلب حظا، وفي بعض الأحيان يحالف الناس الحظ. بالطبع لم يكن تحول ويسلر مجرد مسألة حظ، لكن الحظ لعب دورا في حياته. فربما لم يقابل قط الكاتب والممثلة، ربما لم يعجب بهما على الإطلاق، ربما أخطأ تماما في فهم ذاته؛ فاعتقد أنه اكتشف أمرا عميقا وذا أهمية بينما هو في الحقيقة مفتون فحسب بشخصين ساحرين من محبي الفن. لكن أيا من ذلك لم يحدث. لقد فضل الحظ في النهاية عميل الإشتازي الصارم والمنعزل الذي تحول إلى شخص أفضل.
أسئلة
هل السؤال «ماذا كنت سأفعل في موقف كهذا؟» سؤال فلسفي مهم؟ أهو سؤال فلسفي من الأساس؟
ما هو «الحظ البنيوي»؟ ما مدى أهميته في تقييم المسئولية الأخلاقية؟
كيف يرتبط الندم بمشكلة الحظ الأخلاقي؟
هل ويسلر رجل نزيه؟
هل أحبت زيلاند دريمان؟ هل خانته؟
ما التداعيات التي قد تفرضها قضايا الخصوصية والمراقبة والسلطة الاستثنائية للدولة في «حياة الآخرين» فيما يتعلق بسلوك الحكومات الديمقراطية الليبرالية، لا سيما في متابعتهم «للحرب على الإرهاب»؟
هوامش
الفصل الثالث عشر
«فارس الظلام»: باتمان وأخلاق الواجب والنظرية العواقبية
مقدمة
عندما يكون تصرف ما صائبا من الناحية الأخلاقية، ما الذي يجعله كذلك؟ فلتفرض على سبيل المثال أنك وجدت حافظة نقود ضائعة في جزء منعزل من شاطئ البحر. لم يرك أحد بينما تقترب من حافظة النقود، ولا أحد يعلم حتى أنك ذهبت إلى الشاطئ. بداخل حافظة النقود أوراق نقدية قديمة قيمتها 1000 دولار، وورقة تحوي عنوان صاحبة حافظة النقود: السيدة أجاثا والاس. ما التصرف الصائب في هذه الحالة؟ (التصرف الصائب حقا، لا التصرف المناسب لك.) قطعا التصرف الصائب هو إرجاع حافظة النقود كما هي إلى السيدة والاس، لا لأن إعادة حافظة النقود تصرف لطيف وكيس من جانبك - مثلما تعتبر التبرع بألف دولار من أموالك إلى جمعية خيرية تصرفا لطيفا من جانبك - بل لأنه «لزام عليك»، من وجهة نظر أخلاقية، إرجاع حافظة النقود وكل ما بداخلها من أموال. إعادة حافظة النقود إذن أمر إلزامي من الناحية الأخلاقية. لكن لماذا نعتبره إلزاميا؟ بعبارة أخرى، ما الذي يجعل فعل إعادة حافظة النقود، في هذه الظروف، فعلا إجباريا؟ إذا كنت متدينا، ربما تجيب عن سؤال كهذا بأن الله يأمرنا ألا نسرق، والاحتفاظ بحافظة النقود يعتبر سرقة. فتحريم السرقة متضمن في الوصايا العشر. لكن إجابة كهذه ليست إجابة شافية، فما الذي يؤهل السرقة كي تصبح ضمن الوصايا العشر؟ لا بد أن الله قد أقام حكمه بناء على سمة ما تخص السرقة، ما لم يكن يختلق فحسب قواعد اعتباطية لحياتنا.
1
إذن سواء كنا متدينين أم لا نواجه هنا سؤالا فلسفيا عسيرا. ما الذي يجعل أفعالا بعينها صائبة، ويجعل غيرها خاطئة؟ ما الذي تنطوي عليه «الأفعال» في حد ذاتها، ويحدد تلك السمات الأخلاقية؟ أو كما يطرح الفلاسفة السؤال في بعض الأحيان، ما السمات التي تجعل الأفعال صائبة؟ وما السمات التي تجعل الأفعال خاطئة؟
كالعادة، تفتقت أذهان الفلاسفة عن إجابات لا حصر لها لهذين السؤالين. (في أغلب الأحيان، لا تنبع صعوبة الفلسفة من طرح الفلاسفة لأسئلة لا يمكن الإجابة عنها، بل تنبع من طرح الفلاسفة لأسئلة لها العديد من الإجابات المتناقضة، وتبدو كل منها إجابة مناسبة من بعض النواحي.) في الفلسفة المعاصرة توجد ثلاثة مناهج سائدة للإجابة عن الأسئلة التي نطرحها. ويطلق على هذه المناهج نظرية العواقبية، وأخلاق الواجب، وأخلاق الفضيلة. في هذا الفصل سنستكشف الصراع بين العواقبية وأخلاق الواجب مستعينين بفيلم من سلسة أفلام باتمان وهو «فارس الظلام» (ذا دارك نايت) (2008). أما أخلاق الفضيلة فسوف نتناولها في الفصل الرابع عشر. يصور فيلم «فارس الظلام» عددا من المعضلات الأخلاقية البارعة التي تتيح لنا بلوغ قلب الاشتباك بين التفكير الأخلاقي العواقبي والتفكير القائم على أخلاق الواجب. وعلاوة على ذلك يهدف الفيلم إلى إيصال نقطة محددة؛ فهو منحاز بحزم إلى جانب أخلاق الواجب (وهو انحياز يستمر حتى النهاية، في اللحظة التي يبدو فيها أنه بدل انحيازاته؛ سنتناول المزيد في هذا السياق لاحقا). دعونا نبدأ بالمشهد الدرامي الرئيسي الذي يقع في ذروة أحداث الفيلم.
تجربة الجوكر
باتمان مشغول للغاية. في الوقت نفسه تطفو عبارتان عاجزتان عن التحرك في النهر؛ تحمل إحداهما مجموعة من السجناء بينما تحمل الأخرى ركابا عاديين، وكلتاهما مفخختان بقنابل جاهزة للانفجار. يرغب الجوكر في إجراء تجربة معينة، يملي تفاصليها التالية على الركاب (الدقيقة 57 من الساعة الثانية):
أنتم اليوم ستشاركون جميعا في تجربة اجتماعية. أنا على أتم الاستعداد الآن لتفجيركم على بكرة أبيكم حتى تبلغ أشلاؤكم عنان السماء، وإذا حاول أي منكم مغادرة العبارة فسأفجر الجميع. لدى كل منكم جهاز تحكم عن بعد يمكنه من تفجير العبارة الأخرى. عند منتصف الليل سأفجر الجميع، لكن إذا ضغطت إحدى العبارتين على زر تفجير العبارة الأخرى فسوف أعفيها من الهلاك. من سيضغط على الزر إذن؟ حثالة أخطر المجرمين ممن أمر هارفي دنيت بإلقاء القبض عليهم، أم المجموعة اللطيفة من الركاب المدنيين الأبرياء؟ الخيار لكم. ولا تنسوا، عليكم الإسراع في اتخاذ القرار لأن من على العبارة الأخرى قد لا يتمتعون بهذا القدر من النبل.
بالطبع سينقذ باتمان الجميع في النهاية، وسيمنع الجوكر من تفجير كلتا العبارتين. لكن من هم على متن العبارة لا علم لديهم بأنه في طريقه لإنقاذهم. ماذا عليهم فعله؟ ماذا عليهم فعله من المنظور الأخلاقي؟
إليكم الاقتراح التالي: من أجل معرفة ما ينبغي فعله، عليهم تحديد أفضل النتائج - لا فيما يخص فردا واحدا فحسب من المتورطين بل فيما يخص الجميع - وبناء على ذلك تزكية الفعل الذي سيؤدي في الأغلب إلى هذه النتيجة. تلك تقريبا هي طريقة معالجة أتباع النظرية العواقبية للمسألة. من الوهلة الأولى، يبدو ذلك خيارا منطقيا. لكن أهو كذلك حقا؟ لاحظ أولا أننا بالغنا في تبسيط الموقف تبسيطا جذريا. قد تتذكر من الفصل الحادي عشر أن عملية اتخاذ القرار أعقد من تحديد الوضع الأفضل ومحاولة الوصول إليه. في ذلك الفصل عرضنا فكرة تعظيم الجدوى المتوقعة. تنتج الجدوى المتوقعة عن ترتيب النتائج من الأفضل إلى الأسوأ (ما يحدد لنا «جدوى» النتيجة) واحتمالية حدوث كل نتيجة. كي نحدد الجدوى المتوقعة لفعل ما، علينا معرفة جدوى النتائج المحتملة للفعل واحتمالية أو أرجحية تلك النتائج. وكما أوضحنا في الفصل الحادي عشر، تحديد ذلك أمر في غاية الصعوبة من الناحية العملية.
إذا التزمنا بمنهج تعظيم الجدوى المتوقعة، فيجب إذن على ركاب العبارتين تحديد قرارهم لا حسب الفعل الذي سيؤدي إلى تعظيم فرصة تحقيقهم لأفضل نتيجة ممكنة بل حسب الفعل الذي يتمتع بأعظم جدوى متوقعة. (يبدو الخياران متماثلين، لكن ثمة اختلاف بينهما. فتعظيم فرصة الحصول على أفضل نتيجة يدفع المرء إلى تجاهل فرص الحصول على ثاني أفضل أو ثالث أفضل نتيجة، بينما حسابات الجدوى المتوقعة تضع جميع النتائج المحتملة في الاعتبار.) في الفصل الحادي عشر، ناقشنا مفهوم الجدوى المتوقعة في سياق مشكلة جودا روزينثال مع عشيقته السابقة (فيلم «جرائم وجنح»، 1989). كان تفكير روزينثال منحصرا كليا في ذاته، وهو نموذج لما أطلقنا عليه التفكير المتعقل. يكمن الاختلاف بين التفكير المتعقل والتفكير العواقبي الذي نستعرضه الآن في كيفية وصف الجدوى. في التفكير المتعقل، يحدد الفرد صانع القرار الجدوى بناء على مصلحته الشخصية. أما في نوع التفكير الأخلاقي الذي نعرضه هنا، فيحدد صانع القرار الجدوى بناء على إجمالي مصلحة الجميع، بحيث لا تطغى مصلحة أي فرد على مصلحة الآخر. من المهم أخذ هذه التعقيدات في الحسبان بينما نواصل مناقشتنا لتجربة الجوكر الاجتماعية على الرغم من أن موقف الاختيار الذي يواجه جميع ركاب العبارة لا يتطلب منهم تأمل احتمالية أو جدوى أفضل ثاني أو ثالث نتيجة. (فليس بوسعهم فعل أي شيء لتضمين تلك النتائج؛ فالسعي وراء أفضل النتائج المتاحة وتعظيم الجدوى المتوقعة يتضح أنهما الشيء نفسه في هذا السيناريو.)
ما مدى نجاح التفكير العواقبي في التعامل مع تجربة الجوكر الاجتماعية؟ ما النتيجة الأفضل عند أخذ مصلحة جميع من ستمسهم التجربة في الاعتبار، على نحو متكافئ؟ أفضل نتيجة هي أن يظل الجميع على قيد الحياة، لكن يبدو أن الجوكر قد رتب الأمر بحيث يضمن عدم حدوث ذلك. أو هذا ما يفترض بالجميع على متن العبارتين تصديقه. حري بركاب العبارتين تصديق الجوكر؛ فقد حقق كل ما وعد به على مدار الفيلم؛ قال الجوكر إنه سيفجر أحد المستشفيات إذا لم يقتل محام معين، وعندما لم يقتل المحامي (لا عن تقصير في المحاولة) فجر المستشفى؛ قال الجوكر أنه سيغتال العمدة ولم يمنعه من ذلك سوى فعل بطولي قام به قائد الشرطة جوردن في اللحظة الأخيرة. وعلاوة على ذلك عجز باتمان عن إيقاف الجوكر حتى الآن، فلماذا الاعتقاد بأنه سيقدر على إيقافه هذه المرة؟ (كما نعلم جميعا نجح باتمان في إيقاف الجوكر لكنه لم يفعل ذلك إلا بعدما اتخذ ركاب العبارتين قرارهم.) إذن إذا كان حل الاعتماد على باتمان يبدو غير متاح بالفعل، فما أفضل الخيارات المتاحة الآن أمام الركاب؟ الخيار الأفضل في هذه الحالة هو نجاة الركاب المدنيين. لماذا؟ لأنهم قادرون على تقديم مساهمات في المجتمع تفوق بمراحل أقرانهم من السجناء؛ فضلا عن أن لديهم الكثير مما يقدمونه للآخرين، فلديهم عائلات وحياة مهنية وضرائب يجب دفعها. إذا أخذنا مصلحة الجميع في الاعتبار، من هم على متن العبارتين ومن ليسوا على متنهما كذلك، فستصبح أفضل النتائج المتاحة هي إنقاذ المدنيين بدلا من السجناء. (يوجد تعقيد آخر هنا ينبع من محدودية معرفة صناع القرار، فما أدرانا، ربما كان أحد السجناء (سجين أدين ظلما بالمناسبة ) في سبيله إلى اكتشاف علاج للغباء؛ ومن ثم يصبح تفجيره أسوأ النتائج المتاحة بكثير. إن تحديد أفضل النتائج غالبا ما يعتمد على معرفة ناقصة.) دعونا نركز على هذا الاستنتاج البغيض بعض الشيء وهو وجوب قبول جميع الركاب (بما فيهم السجناء أنفسهم) أن أفضل النتائج المتاحة هي الحفاظ على سلامة عبارة المدنيين. وعندئذ، ما الذي ينبغي فعله لتحقيق هذه النتيجة؟ لا بد أن يفجر ركاب عبارة المدنيين القنبلة على عبارة السجناء. (وعليهم الإسراع في ذلك، فكلما تأخروا في اتخاذ قرارهم، تزايدت احتمالية ضغط السجناء على زر التفجير أولا.)
كما تعلمون، بما أنكم قد شاهدتم الفيلم، لا يضغط أي من المجموعتين على الزر. يجري المدنيون تصويتا، وتأتي النتيجة بفارق كبير لصالح تفجير عبارة السجناء (396 موافقون، 140 معارضون). رغم ذلك، عند مجيء اللحظة الحاسمة، يفقدون أعصابهم. يبدو أحد ركاب عبارة المدنيين مقتنعا بأن الضغط على زر التفجير هو الحل الصائب، ويحاول التقدم والاضطلاع بالمهمة (الدقيقة 6 من الساعة الثالثة):
لا أحد يريد تلويث يديه. حسنا، سأفعلها أنا. أولئك الرجال على تلك العبارة قد اختاروا بالفعل، اختاروا القتل والسرقة. من غير المعقول أن نموت نحن أيضا.
لكن هذا الرجل يفقد أعصابه ويعود ليجلس في مقعده دون أن يضغط على زر التفجير. لم يستطع فحسب حمل نفسه على تفجير عبارة مليئة بالناس. من الصعب معرفة ما كان يفكر فيه تحديدا. لقد اختار أولئك السجناء بالتأكيد، ولم تكن جميع خياراتهم جيدة. هم اختاروا القتل والسرقة (أو بيع المخدرات أو التهرب من الضرائب أو التهرب من دفع غرامات ركن سياراتهم في الأماكن الممنوعة؛ لا يمكننا التأكد بدقة مما اختاروه). لكن ما لم يختاروه هو أن يوجدوا على متن عبارة محملة بالمتفجرات. ويبدو أن هذا القرار هو القرار ذو الأهمية هنا. ربما اعتقد الرجل أن حق السجناء في الحياة لا يعدل حق المدنيين الأبرياء، وإذا كان متاحا لطرف أن ينجو من تجربة الجوكر، فمن المفترض أن يكون هو الطرف الذي يستحق أفراده النجاة. هذه الطريقة في التفكير تختلف عن طريقة التفكير العواقبي، على الأقل في أكثر سماتها وضوحا. الاستحقاق سمة ترتبط بالماضي: ما يستحقه المرء يعتمد على ما فعله بالفعل . أما العواقبية فتتطلع إلى المستقبل: ما ينبغي فعله يعتمد على العواقب المستقبلية، لا على ما حدث بالفعل.
في عبارة السجناء، يقنع سجين، ترتسم على ملامحه شراسة غير عادية، الحراس بترك مهمة الضغط على الزر له، فيخاطب رئيس الحراس قائلا (الدقيقة 6 من الساعة الثالثة):
أنت لا ترغب في الموت، لكنك لا تستطيع القتل. أعطني الجهاز ... يمكنك إخبارهم فيما بعد بأنني أخذته منك عنوة. أعطني إياه وسأفعل ما كان عليك فعله منذ عشر دقائق مضت.
يأخذ السجين جهاز التفجير، وعلى الفور يلقيه في النهر. يمكن تفسير سلوك السجين بثلاث طرق على الأقل: باعتباره رفضا للتعاون مع الشر، أو رفضا لارتكاب الشر (قتل ركاب آخرين)، أو محاولة لضمان تحقيق النتيجة الأفضل (وهي نجاة المدنيين لا السجناء). يبدو فعله صائبا وبطوليا من منظور التفسيرات الثلاثة كافة.
يلخص باتمان الأداء الأخلاقي لكلتا المجموعتين، بما يشمل المدنيين. فبينما يتحدث مع الجوكر يسأله:
ماذا الذي كنت تحاول إثباته؟ إن الجميع في قرارة أنفسهم مثلك بالضبط؟ أنت وحدك (الدقيقة 7 من الساعة الثالثة) ... لقد أثبتت لك هذه المدنية لتوها أنها تعج بأناس على استعداد للإيمان بالخير. (الدقيقة 8 من الساعة الثالثة)
هل باتمان على حق؟ هل يفكر بوضوح؟ (لقد كان الجوكر يحاول خنقه بينما يتحدث؛ ومن ثم لا لوم عليه إذا لم يكن يفكر بوضوح كبير.) لقد أظهر مواطنو جوثام سيتي المحاصرون على عبارة المدنيين أنهم غير مستعدين لفعل ما يلزم لتحقيق أفضل نتيجة متاحة، مع أخذ مصلحة الجميع في الاعتبار. (لقد كانوا على استعداد للتصويت بالموافقة على تفجير العبارة الأخرى، لكنهم لم يكونوا مستعدين للتنفيذ.) كيف يمكن اعتبار ذلك انتصارا أخلاقيا؟ وإذا فجر ركاب إحدى العبارتين ركاب العبارة الأخرى، كيف سيعكس ذلك فكرة أنهم لا يختلفون في شيء عن الجوكر؟ الجوكر هو عميل محرض بمعنى الكلمة، شخص لا يرغب إلا في رؤية العالم يحترق. في هذا الموقف ستحاول كل مجموعة من ركاب العبارتين إنقاذ نفسها. في حالة المدنيين، ربما يوجد مبرر ما لمحاولتهم إنقاذ أنفسهم. كيف نعتبرهم مثل الجوكر إذن؟ ربما كانوا سيصبحون مثله من المنظور التالي: إذا فجروا عبارة مليئة بالركاب، فسوف يثبتون بفعلتهم هذه أنهم مستعدون لخرق المبادئ الأخلاقية من أجل الحصول على ما يريدونه. تخبرنا مبادئنا الأخلاقية بألا نقتل. وما يرغب الجوكر في إثباته تحديدا هو مدى سطحية التزامنا بهذا المبدأ، وأن أي شخص يمكن دفعه للقتل إذا تعرض للقدر الكافي من الضغط. يرغب الجوكر في إثبات ضعف قبضة الأخلاق، لكن مواطني جوثام يثبتون له خطأه. لقد كانت قبضة الأخلاق أقوى كثيرا مما أدرك الجوكر. وعلى الرغم من رغبة الركاب المدنيين في تفجير عبارة السجناء، فإنهم لم يتمكنوا ببساطة من تنفيذ ذلك فعليا. وعندما أوشك الخوف والإغراء على السيطرة على الحراس في عبارة السجناء، تقدم رجل ذو شجاعة استثنائية وفعل الصواب. لقد انتصرت المبادئ الأخلاقية. السؤال حول ما إذا كان الفيلم يقدم رؤية واقعية لما كان سيحدث في تجربة الجوكر الاجتماعية سؤال جيد. لكن السؤال المحوري من وجهة نظرنا لا يتعلق بما كان سيفعله الناس في تلك المواقف، بل يتعلق بما ينبغي لهم فعله. لو ضغط المدنيون على الزر هل يعتبر تصرفهم خاطئا في هذه الحالة؟ لماذا؟
يبدو تفكير باتمان نموذجا تقليديا للتفكير بمقتضى أخلاق الواجب. هو نموذج على التفكير العواقبي. أما وجهة النظر البديلة - التي تدفع بأنه ينبغي على الركاب بذل كل ما بوسعهم لضمان تحقيق أفضل نتيجة ممكنة أو أن عليهم تعظيم الجدوى المتوقعة - فهي نموذج للتفكير العواقبي. دعونا نوضح ذلك من خلال تسليط الضوء على الفلسفات ذات الصلة.
النفعية وتجربة الجوكر
حسب وجهة النظر العواقبية، الخواص الأخلاقية تعتمد على العواقب، أو العواقب المحتملة. يوجد الكثير من التنويعات على المدرسة العواقبية؛ نظرا لوجود طرق عديدة لوصف هذه العلاقة الاعتمادية. أي عواقب تدخل في الحسبان؟ العواقب المترتبة على الأفعال، أم المؤسسات أم القواعد أم العادات؟ كيف نحسب حساب العواقب؟ المثال الأشهر على النظرية العواقبية هو النفعية، والمناصر الأشهر للنفعية هو الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل. يرى أنصار النفعية أن علينا قياس جدوى العواقب عن طريق تحديد مدى النفع الذي سيعود على حياة كل فرد. يتمخض الكثير من الأفعال عن عواقب تؤثر على جودة حياة الأفراد؛ فقد تؤدي تلك العواقب إلى تحسين حياتهم (كأن يمتلك أحد الأفراد فجأة ألف دولار، دون أي شروط) أو التأثير سلبا على حياة آخرين (كأن يفقد أحد الأفراد فجأة ألف دولار ويصبح عاجزا عن دفع الإيجار). حسب رؤية النفعيين، جودة حياة الناس هي العامل الوحيد المهم حقا، وهدف الأخلاق هو تعظيم هذه الجودة.
كيف نقيس مدى جودة أو سوء حياة الأفراد؟ اعتقد ميل أنه في وسعنا قياس هذا على المستوى النفسي، من منظور السعادة. تسير حياة الأفراد على ما يرام إذا كانوا سعداء، وسوف يشعرون بالسعادة إذا كانوا مستمتعين بالحياة؛ أي سيكونون سعداء إذا تذوقوا متع الحياة. كذلك اعتقد ميل أن المتعة مسألة معقدة، وأن بعض أنوع المتعة هي بطبيعتها مرغوبة أكثر من غيرها. وأطلق على هذه المتع «المتع العليا». لا يقتنع النفعيون المعاصرون عادة بمذهب المتعة الذي صاغة ميل، ويفضلون رؤية أخرى حول العوامل التي تجعل الحياة جيدة. أحد الاتجاهات الشائعة بين النفعيين المعاصرين يتمثل في قياس جودة حياة الأفراد من منظور إشباع التفضيلات.
2
حياة «أ» تسير على نحو أفضل من حياة «ب» إذا كان «أ» قد أشبع عددا من تفضيلات يزيد عما أشبعه «ب». وبما أن الفرد قد يتبنى تفضيلات معينة دون أن يعي الحقائق المتصلة بها - على سبيل المثال قد يفضل أحدهم تناول الدجاج المقلي كل ليلة دون أن يدرك أن هذا يزيد بدرجة كبيرة احتمالات إصابته بداء البول السكري - غالبا ما يتحدث النفعيون عن التفضيلات التي يدرك صاحبها جميع ما يتصل بها من معلومات لا التفضيلات الفعلية. مثلا تسير حياة «أ» على نحو أفضل من حياة «ب» إذا كان «أ» قد أشبع عددا من التفضيلات القائمة على معلومات كاملة يزيد عن العدد الذي أشبعه «ب». يشبع «أ » تفضيلاته القائمة على معلومات كاملة إذا حصل على ما كان سيفضله حال كونه مطلعا تماما على جميع الحقائق المرتبطة بهذه التفضيلات المحتملة. بالطبع لا يمكننا قياس تلك الأمور بدقة متناهية؛ لذا غالبا ما يفضل النفعيون استراتيجية غير مباشرة. فمن أجل تحسين احتمالات «أ» المستقبلية، عليه أن يتزود بالمصادر المطلوبة، التي من بينها المعرفة والتعليم؛ كي يشبع قاسما كبيرا من تفضيلاته المطلعة. تنجح هذه الاستراتيجية غير المباشرة في بعض الأحيان، لكننا ما زلنا نواجه العديد من المواقف حيث يصبح لزاما علينا اتخاذ خيار أخلاقي يحدد أيا من الأفراد سوف تلبى تفضيلاته. بافتراض أن كل شخص تقريبا يفضل تفضيلا مستنيرا الحياة على الموت، فسوف نضطر في بعض الأحيان إلى تحديد أي حياة ينبغي إنقاذها. هذا هو القرار الذي واجهه ركاب العبارة.
إن النفعية نظرية موضوعية حول تحديد الفعل الصائب، فهي تأخذ صالح الجميع في الاعتبار، ولا تفرق بين مصلحة فرد ومصلحة آخر. يعامل النفعيون التفضيلات المطلعة لدى جميع الأفراد على قدم المساواة، ويحاولون ضمان إشباع أكبر عدد ممكن من التفضيلات. الأمر أشبه بالنظم الديمقراطية التي يحصل في ظلها تفضيل كل شخص على صوت واحد بالضبط. بالطبع تواجه النفعية عددا من المشكلات. فماذا لو كانت تفضيلات بعض الأشخاص صعبة الإرضاء أو مكلفة؟ (في بعض الأحيان يطلق على الأفراد ذوي التفضيلات المكلفة والأنانية إلى حد كبير أصحاب «الجشع النفعي») وماذا لو نجح مجتمع قمعي في تهيئة أفراده كي تصبح تفضيلاتهم محدودة للغاية ورخيصة؟ هل يفترض إذن بأصحاب التفضيلات المكلفة الحصول على موارد تتفوق على أصحاب التفضيلات الرخيصة؟ أهذا من العدل؟ وإذا حصل أصحاب التفضيلات الرخيصة على تفضيلاتهم لا لشيء سوى كونهم مهيئين اجتماعيا لتوقع أقل القليل من الحياة، ألا يعد ذلك ظلما فادحا؟ والآن دعونا نتأمل التفضيلات التي تركز على الآخرين. على سبيل المثال، ماذا لو أن «ج» لا يرغب في التمتع بالثراء في حد ذاته، بل يرغب فحسب في أن يصبح أكثر ثراء من جاره «د»؟ هل من المفترض أخذ هذا التفضيل في الاعتبار؟ يرغب النفعيون غالبا في استبعاد تلك التفضيلات الخارجية بحجة أنها لا تعكس جودة الحياة كما ينبغي. إذا حصل «ج » على ما يرغب، بحيث أصبح «د» أفقر منه، كيف ستتحسن حياة «ج» تحسنا حقيقيا نتيجة لذلك الوضع في حد ذاته؟ قد يشعر «ج» برضا أكبر عن حياته إذا أشبعت تفضيلاته الخارجية، لكن هذا لن يجعل حياته أفضل بالضرورة. ربما كان النفعيون على حق في استبعادهم للتفضيلات الخارجية من حساباتهم وأخذ التفضيلات الداخلية فحسب في اعتبارهم؛ أي تفضيلات الأفراد حول كيفية سير حياتهم الخاصة. رغم ذلك، يظل أمامنا مشكلة احتساب التفضيلات الأنانية أو المضطهدة وغيرها من أنواع التفضيلات غير المشروعة ضمن حسابات المنفعة أم استبعادها. لا بد للنفعيين من حل تلك المشكلات، وقد يلجئون في سبيل ذلك إلى الدفاع عن وجود تفضيلات إشكالية في حسابات النفعية. لكننا لن نتناول وجهة النظر النفعية فيما يتعلق بتلك المشكلة، بل سنركز عوضا عن ذلك على جانب آخر من النفعية؛ ألا وهو تركيزها على العواقب واستبعاد كل ما دونها.
حسب المنظور النفعي، جودة حياة الأفراد هي العامل الوحيد المهم حقا، والهدف من الأخلاق هو تعظيم جودة تلك الحياة. تخضع أشياء لا حصر لها للحكم الأخلاقي، مثل الأفعال والعادات والقوانين والقواعد والسياسات والمؤسسات وغيرها. فلنركز على الأفعال أولا. لا يصبح فعل ما صائبا إلا إذا كان يعظم المنفعة. لا يمكن لأي فعل تغيير منفعة ماضية. على سبيل المثال، لا يسعك فعل شيء لجعل طفولتك أسعد حالا (بافتراض أنك تجاوزت بالفعل مرحلة الطفولة). إذا فعل أحدهم شيئا يجعل طفولتك تبدو أسعد حالا مما اعتدت تصوره (كأن يذكرك بأوقات مرحة قضيتها)، فلن يؤثر ذلك إلا على تقديرك المستقبلي لطفولتك، ولن يسعك تغيير طفولتك في حد ذاتها. (لن تستطيع تغييرها حتى لو كنت تمتلك آلة الزمن، كما اكتشفنا في الفصل السادس.) إذن تعنى النفعية في المقام الأول بالمستقبل. وتكمن جميع السمات التي تجعل الفعل صائبا في العواقب المستقبلية للفعل. وتنطبق هذه القاعدة بصرف النظر عن نوع الشيء الذي نخضعه للحكم الأخلاقي؛ فلا يصبح قانون ما صائبا من الناحية الأخلاقية إلا إذا أسفر عن أفضل أنواع النتائج. ولا تصبح سياسة اجتماعية ما صائبة إلا إذا أسفرت عن أفضل أنواع النتائج. وبينما لا يوجد ما يعيب أخذ العواقب المستقبلية في الاعتبار، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل العواقب النافعة هي العامل الوحيد المهم فيما يتعلق بتحديد صواب الفعل من عدمه؟
أخلاق الواجب وتجربة الجوكر
أخلاق الواجب هي نظرية أخلاقية تركز على المبادئ بدلا من العواقب. وغالبا ما يشار لكانط بوصفه المناصر النموذجي لهذه النظرية، على الرغم من أن بعض دارسي فلسفة كانط يعتبرون هذا الوصف تبسيطا مفرطا لرؤيته.
3
يرى معتنقو أخلاق الواجب أن فعلا ما يصبح صحيحا إذا أمكن تصنيفه تحت مبدأ أخلاقي مناسب. على سبيل المثال، إرجاع حافظة النقود التي وجدتها على الشاطئ إلى مالكتها فعل صائب لأنه يصنف تحت مبدأ «احترم ممتلكات الآخرين». ورفض تفجير عبارة محملة بالركاب يصنف تحت مبدأ «احترم حياة الآخرين» ... إلخ. كيف نميز المبادئ الأخلاقية الأصيلة من المبادئ الزائفة؟
4
تخيل أن السجناء قرروا تفجير عبارة المدنيين، تخيل أنهم تغلبوا على الحراس بعددهم وضغطوا على الزر، ثم برروا فعلتهم تلك بأنها تقع تحت مبدأ «إذا كان باستطاعتك منع شخص ما من قتلك، فعليك فعل هذا.» أيعتبر هذا مبدأ أخلاقيا؟ إنه، على ما يبدو، مبدأ يمنحنا بداهة الإجابة الصائبة معظم الوقت، لكن هل في وسعنا استخدامه لتبرير تفجير السجناء للمدنيين في تجربة الجوكر؟ يجب على أتباع نظرية أخلاق الواجب ألا يكتفوا بمجرد إخبارنا أي المبادئ تصلح مبادئ أخلاقية فحسب بل إخبارنا متى يمكن تطبيق تلك المبادئ وكيف نحل التضارب المحتمل بينها.
كيف يتعامل أتباع نظرية أخلاق الواجب مع المعضلة الأخلاقية التي تطرحها تجربة الجوكر؟ قد نقبل بوجه عام مبدأ حماية الذات - لا ينبغي لنا الوقوف موقف المتفرج وترك الآخرين يقتلوننا - لكننا نعتقد أيضا أنه من الممكن تجاوز هذا المبدأ؛ فقد تصبح لمبادئ أخرى أسبقية عليه. ماذا لو كانت فرصتك الوحيدة لمنع أحدهم من قتلك تستلزم منك قتل مجموعة من الغرباء الأبرياء؟ أليس لمبدأ «احترم حياة الآخرين» أسبقية على أي مبدأ يهدف إلى الذات؟ ما نحتاجه هو مبدأ يحدد الشروط التي تجعل القتل في سبيل حماية الذات أمرا مسموحا به أخلاقيا. إليك الاقتراح التالي: في حالة دفاع عن النفس يفضي إلى القتل، أقدم «أ» على قتل «ب» كي يمنع «ب» من قتله. إذا كان قتل «ب» هو سبيل الدفاع عن النفس الوحيد المتاح ل «أ»، وإذا كان «ب» يحاول قتل «أ» عمدا «فهو ليس على سبيل المثال أداة يستخدمها غيره في خطته لقتل «أ»» ودون وجه حق؛ ففي هذه الحالة يصبح الدفاع عن النفس المفضي إلى القتل أمرا مسموحا به من الناحية الأخلاقية. يبدو هذا الوضع مقبولا من الناحية النظرية. كيف يمكن تطبيقه في مواقف واقعية؟
لا يقع نموذجنا المستقى من سلسلة أفلام باتمان تحت مبدأ الدفاع المبرر عن النفس، بشروطه التي أوضحناها. فإذا قتل المدنيون، على سبيل المثال، السجناء على العبارة الأخرى، فإنهم لا يقتلون في هذه الحالة أفرادا يحاولون قتلهم عن عمد ودون وجه حق. وفعل القتل الذي سيرتكبونه لن يعتبر دفاعا مبررا عن النفس، بل سيقتلون في هذه الحالة أفرادا لا يضمرون لهم، على حد علمهم، أي شر على الإطلاق. وسيكون الهدف من فعلتهم هو منع شخص آخر (الجوكر) من قتلهم. إنه موقف بشع، لكنه لا يمنح أيا من الطرفين رخصة للقتل بحجة الدفاع عن النفس؛ فلا يفترض بنا قتل أناس لا ينتوون إيذاءنا لا لسبب سوى منع موتنا نحن على يد شخص آخر. ولا يفترض بنا قتل أناس لا لسبب سوى احتمال أن يحاولوا قتلنا عما قريب. لا بد لنا من التحقق من أنهم يحاولون قتلنا عن عمد ودون وجه حق، أو نكون على الأقل واثقين دون أدنى شك أنهم كذلك. تخيل أن الجوكر ركب شاشة تليفزيونية في كل عبارة تبث ما يحدث في العبارة الأخرى. في هذه الحالة سيشاهد ركاب إحدى العبارات ركاب العبارة الأخرى بينما يتوجهون نحو زر التفجير عاقدين العزم على الضغط عليه. هل يكفي هذا لتبرير قيامهم بالضغط على الزر أولا قبل خصومهم؟ ربما. قد يفكرون على النحو التالي: نحن متأكدون من أن خصومنا في تجربة الجوكر يحاولون في هذه اللحظة قتلنا عن عمد ودون وجه حق، وأملنا الوحيد في منعهم هو قتلهم أولا؛ ومن ثم يمكننا الضغط على الزر في دفاع مبرر عن النفس. في لعبة الجوكر، من يتحركون أولا يصبحون أهدافا للقتل المبرر على يد منافسيهم. على الصعيد الآخر، من يتحركون أولا فرصة نجاتهم أكبر بكثير (مع استبعاد تدخل باتمان). وليس بوسع المدنيين أو السجناء التأكد من ذلك.
كيف يضع منظرو أخلاق الواجب المعاصرون المبادئ الأخلاقية؟ الطريقة التي نتبعها هي ابتكار مبدأ ما يبدو صائبا على نحو بديهي ثم تطبيقه على موقف واقعي لمعرفة ما إذا كانت معقولية المبدأ البديهية ستظل صامدة. بالتأكيد ينبغي لنا دراسة مجموعة متنوعة من الحالات. وإذا واجهتنا مشكلة، يجب علينا الرجوع إلى المبدأ وتحديد ما إذا كان يمكن تعديله لأجل التعامل مع المشكلة المطروحة. نسعى لتحقيق توازن بين المزايا النظرية للمبادئ العامة والدعم البديهي الذي تكتسبه عند تطبيقها على حالات بعينها. فنطرح أسئلة من قبيل: هل المبدأ عام بما يكفي؟ هل يتوافق مع المبادئ الأخرى؟ هل توجد طريقة فعالة ومقنعة بديهيا لترتيب المبادئ المتعارضة؟ هل يتمخض المبدأ عن نتائج مقنعة بديهيا في الحالات الواضحة؟ هل يمكن الاعتماد على هذه البديهيات أم هي قابلة للتلاعب والتشويه؟ هل من المفيد محاولة فهم الحالات غير الواضحة؟ وغيرها من الأسئلة. يصف الفلاسفة هذه المنهجية بأنها بحث عن «توازن تأملي».
5
ولدى أتباع نظرية أخلاق الواجب مناهج بديلة. على سبيل المثال، يستمد أتباع كانط المبادئ الأخلاقية من افتراضات مسبقة حول المنطق العملي. عندما نفكر على نحو يوظف المبادئ، فإننا نلزم أنفسنا ضمنيا بنوع من الصرامة المنطقية. لا ينبغي لنا على سبيل المثال تطبيق مبدأ ما على أنفسنا وتطبيق مبدأ مختلف على الآخرين، بل علينا اتباع المبادئ التي يمكن للجميع استخدامها، لا المبادئ المصممة خصوصا لخدمة أغراضنا الذاتية . على حد قول كانط، يجب علينا تطبيق المبادئ التي يمكننا دفعها كي تصبح قانونا من قوانين الطبيعة الكونية (أي مبادئ يلتزم بها الجميع في الأوقات كافة). يؤدي هذا إلى محاولة استقاء المبادئ الأخلاقية من حالات الفاعلية العقلانية ذاتها. ويدور حاليا جدال مفعم بالحيوية، ولم يحسم بعد، بين أتباع نظرية أخلاق الواجب حول تحديد المنهجية المثلى؛ ويشبه هذا الجدال في حيويته وعدم قابليته للحسم الجدل الذي يستعر بين العواقبيين حول الشكل الأفضل من العواقبية.
النفعية مقابل أخلاق الواجب: هزيمة بالضربة القاضية الفنية أم فوز بقرار الأغلبية؟
إذا كان تحليلنا لتجربة الجوكر من منظور أخلاق الواجب صحيحا، فإنه سيسفر حينئذ عن استنتاج مناقض تماما للذي تمخض عنه تحليلنا النفعي السابق. إن تجربة الجوكر لا تكتفي باختبار جلد ركاب العبارتين من أهل جوثام سيتي، بل تختبر كذلك صدق الاستدلال النفعي وذلك القائم على أخلاق الواجب، وهي تختبر هذا النوع من الاستدلال في مواجهة الحدس. إن التجربة التي أعدها الجوكر من أجلنا تجربة اجتماعية بسيطة نوعا ما. وحدسنا على الأرجح هو ما سيدلنا على رد الفعل الصائب إزاءها. يسير باتمان، كما نعلم، على درب نظرية أخلاق الواجب، أو يقبل على الأقل تحليل الموقف من منظور هذه النظرية. ينحاز الحدس على ما يبدو إلى جانبه؛ فنحن لا نعترض على رد فعله، ويبدو لنا جميعا أنه رد الفعل الطبيعي والمناسب. لقد كشف أهل جوثام لتوهم عن معدنهم الحقيقي للجوكر، فهم أثبتوا له أنهم يتمتعون بشجاعة وحس أخلاقي أعظم مما افترض؛ إنهم أناس على استعداد للإيمان بالخير، على حد قول باتمان. بالطبع لا يمكن إنكار وجود تفسير يتسم بقدر أكبر من سوء الظن، على الأقل في حالة الركاب المدنيين. فرغم كل شيء، كان الركاب المدنيون على استعداد للتصويت لصالح تفجير السجناء. كيف يفترض بنا تفسير فشلهم في تنفيذ القرار الناتج عن التصويت؟ هل استيقظ الحس الأخلاقي داخلهم أم هو نوع من الجبن الأخلاقي؟ ربما لا يعكس موقفهم سوى عزوف عن تلويث أيديهم بالدماء. (بعبارة أخرى، ربما يعكس مجرد عزوف عن ارتكاب فعل يبدو سيئا، وسوف يعد فعلا سيئا حتى لو كان هذا الفعل هو الفعل الصائب في ظل الظروف الراهنة. ذلك هو جوهر ما يطلق عليه الفلاسفة «سيناريوهات الأيدي الملوثة». سوف نتناول هذا الموضوع تناولا أكثر تفصيلا في الفقرات التالية.) على الرغم من التفسير سيئ الظن لدوافع الركاب المدنيين، يظل رد فعلنا تجاه قرارهم بالامتناع عن تفجير عبارة السجناء إيجابيا. لو كان المدنيون فجروا السجناء، لبدا قرارهم سيئا؛ قرار مفهوم لكنه خاطئ ومخيف بعض الشيء.
إذن هل يثبت هذا أن العواقبية ليست إطارا مناسبا لطرح نظرية أخلاقية؟ ليس بالضرورة. لا يزال في وسع معتنقي العواقبية العديد من الخيارات الأخرى؛ فقد يعترضون على تفسيرنا وما يطرحه من أحكام حدسية على الموقف. وقد يرفضون القيمة الإثباتية لاستخدامنا للحدس، وقد يزعمون أن الحدس لا يعتمد عليه في حالات كتلك، وأنه في هذه الحالة تحديدا تلاعب صناع الفيلم بحدسنا (الجوكر مسخ، وبالطبع ستغدو المشاركة في لعبته قرارا سيئا)، أو ربما يدفعون بأن حدسنا لا يعتمد عليه بوجه عام.
النفعية القواعدية: حل وسط
قد يلجأ العواقبيون إلى سبيل آخر للرد، وهو اختيار صورة مختلفة من العواقبية آملين أن تسفر عن النتيجة الصحيحة في الحالات الشبيهة بتجربة الجوكر الاجتماعية. في تحليلنا النفعي لهذه الحالة، استخدمنا شكلا من النفعية يحدد أخلاقية الأفعال الفردية وفقا لعواقب الأفعال عند الحكم عليها كل على حدة. يطلق على هذا الشكل من النفعية نفعية الفعل. لكنه ليس سوى شكل محدد للغاية من أشكال العواقبية، ولا يمكننا الحكم على جميع السبل التي تستخدمها العواقبية لصياغة النظريات الأخلاقية بناء على الطبيعة غير الحدسية لنفعية الفعل وحدها. ربما كان الاستنتاج الصحيح الذي نستخلصه من تجربة الجوكر هو أن الاستدلال النفعي لا ينبغي تطبيقه على كل حالة على حدة. صحيح أن أفضل النتائج الموضوعية المتاحة في هذه التجربة - بافتراض أن باتمان لن يتدخل لإيقافها - تتضمن تفجير السجناء على أيدي المدنيين. لكن ماذا لو صغنا النظرية النفعية في إطار عواقب تبنينا لقواعد أو مبادئ معينة، وليس في إطار عواقب أفعال الأفراد؟ هذا بمثابة حل وسط بين العواقبية وأخلاق الواجب، يطلق عليه النفعية القواعدية. تحكم النفعية القواعدية على الأفعال في إطار المبادئ أو القواعد، مثل أخلاق الواجب، لكنها تستمد تلك القواعد من العواقب، كما هو متوقع من النظرية العواقبية. قد يوافق معتنقو النفعية القواعدية على أنه لا ينبغي للسجناء أو المدنيين الضغط على الزر. لكن ما هو المبدأ أو القاعدة التي تجعل من الضغط على الزر فعلا خاطئا؟ ما الذي يجعل قاعدة أخلاقية محتملة أفضل من قاعدة أخرى؟ يعتمد أحد مبادئ الدفاع عن النفس المبرر والمفضي إلى القتل على مناشدة الحدس، أو - كما قد نأمل - على مناشدة التوازن الانعكاسي في نهاية المطاف. يرفض النفعيون القواعديون هذه المنهجية، ويزعمون أن سبيلا أفضل للوصول إلى مبدأ أخلاقي مقبول هو فهم عواقب تبني المبدأ.
ما مبدأ الدفاع عن النفس الذي سيعظم النفع على المدى الطويل إذا امتثلنا له بوجه عام؟ إذا اتبعنا مبدأ مفرطا في مرونته، فسيصبح قتل أحدهم بحجة الدفاع عن النفس أمرا في غاية السهولة، ستقتل أعداد كبيرة من الناس وستشعر بقيتنا بانعدام الأمان. وإذا اتبعنا مبدأ متشددا، فسيلقى القتلة المحتملون تشجيعا، وستنتهي الحال مجددا بتعرض أعداد كبيرة للقتل بينما ستشعر بقيتنا بالعجز في وجه الهجمات المحتملة على حياتنا. نرغب إذن في مبدأ من شأنه أن يقلل من القتل إلى الحد الأدنى ويعظم من إحساسنا بالأمان ومن سيطرتنا على حياتنا. إن مبدأ الدفاع عن النفس المبرر الذي سنصوغه قد يحقق ما نريده بالضبط وقد لا يحققه. فمن منظور النفعيين القواعديين، الشيطان يكمن في التفاصيل، وحقيقة أن مبدأ ما يروق لنا بداهة لا تعني شيئا تقريبا، ما يهم هو مدى فاعلية المبدأ، وما إذا كان يراعى بوجه عام.
هل النفعية القواعدية نظرية أخلاقية مرضية؟ نحتاج إلى بذل جهد كبير لأجل تنقيحها والدفاع عنها، ومهمتنا الرئيسية هي الدفاع عن فكرة وجوب اتباع قواعد تعظيم المنفعة حتى وإن لم يتبعها أناس آخرون؛ أي حتى إن كان اتباعنا إياها يبدو جهدا سقيما من وجهة النظر النفعية. أحد أكثر سمات النفعية جاذبية هو تركيزها على التوصل إلى نتائج. يمكننا أن نرى ها هنا فائدة اتباع النفعية؛ النفعيون يجعلون العالم مكانا أفضل، وجعل العالم مكانا أفضل مسعى حصيف. لكن من الصعب تحفيز الأفراد على اتباع قواعد لن تجعل العالم مكانا أفضل إلا إذا اتبعها الباقون (الذين لا يتبعون العديد من القواعد). ومن المنظور العواقبي، أصبحت النفعية القواعدية تبدو أشبه بنوع من عبادة القواعد. يحتكم معتنقو أخلاق الواجب إلى الحدس لدعم مبادئهم أو يلجئون إلى الالتزامات المعيارية المتضمنة في الفاعلية البشرية العقلانية، أو أي مما يشبه ذلك. إلى ماذا يحتكم النفعيون القواعديون؟ لا يوجد دعم حدسي واضح لميلهم نحو اتباع القواعد. تلك هي أوضح مشكلة تواجهها النفعية القواعدية: كيفية إيجاد محفزات لاتباع موقفها. قد تتمخض النفعية القواعدية عن إجابات بديهية مرضية للمعضلات الأخلاقية، مثل الإجابة التي يعرضها فيلم «فارس الظلام»، لكنها معرضة لخطر التوصل إلى نتائج صحيحة بطريقة خاطئة، أو على الأقل بطريقة غير مقنعة. وكما هي الحال غالبا مع الفلسفة، تظل المسائل معلقة.
خاتمة: من النزاهة إلى الكذبة النبيلة
يبدو فيلم «فارس الظلام» في معظم أجزائه أنه يوضح ويولد في أذهان المشاهدين، بديهيات تنحاز دون شك ناحية أخلاق الواجب؛ فالامتناع عن المساومة مع الشر، حتى ولو أسفر ذلك عن فوائد لا يستهان بها، هو علامة على الصلاح الأخلاقي والنزاهة. لكن مع نهاية الفيلم، تتخذ الأحداث منحى مختلفا. فينجح الجوكر في إفساد هارفي دينت، البطل محط إعجاب الجميع، وحامي حمى القانون في مواجهة الجريمة، والذي يرتدي ملابسه الداخلية، على العكس من باتمان، تحت بنطاله. وبعدما يفرغ الجوكر منه، يتحول دينت إلى قاتل تحركه غريزة الانتقام، ويلقب بهارفي ذي الوجهين. يسري اليأس في نفس جوردون؛ فها قد تبدد الأمل الذي كان يعقده على مستقبل جوثام، وانتصر الجوكر رغم كل شيء؛ إذ سيفقد سكان جوثام الأمل في أشكال السلطة الاجتماعية القانونية والمشروعة دستوريا عندما يرون كيف تمكن الجوكر بسهولة من تقويض تجسد هذه القيم في شخص هارفي دينت. لكن باتمان يهب لنجدتنا مرة أخرى، إلا أن النجدة تتخذ هذه المرة شكل كذبة يخترعها، فيتواطأ مع جوردن كي يتظاهر بأن باتمان هو من تحول على يد الجوكر إلى هذا الكيان القاتل والمدمر المدفوع بشهوات الانتقام، وليس هارفي دينت. يعمل باتمان بالفعل خارج إطار القانون، وتشوه صورته لا يعادل تشوه صورة القانون والممارسة المشروعة للسلطة. وهكذا يصبح باتمان فارس الظلام، ويظل النظام والأمل في المجتمع محفوظين بسبب كذبة؛ كذبة نبيلة.
6
لا تأتي هذه الخطوة من باب التعاون مع الشر؛ فقد أتم الجوكر مهمته بالفعل، بل هي من باب التخلص من آثاره. رغم ذلك، ينطوي الموقف على تضحية بالمبادئ الأخلاقية في سبيل غايات سياسية. وتتراجع أهمية انتهاج الصراحة مع أهل جوثام لصالح الحاجة الملحة للحفاظ على روحهم المعنوية وإيمانهم بقوة الإجراءات القانونية العادية. إلا أن الفيلم يضع هذه القضية الأخلاقية، على نحو يثير الاهتمام، في إطار عام قوامه أخلاق الواجب؛ فلا يصوغ باتمان اختياره من المنظور الذرائعي المناقض للبطولة؛ أي فعل ما يلزم للحصول على أفضل نتيجة، بل من منظور الاستحقاق:
أحيانا لا تكون الحقيقة جيدة بما يكفي. أحيانا يستحق الناس أكثر.
أحيانا يستحق الناس أن يكافئوا على إيمانهم. (الدقيقة 17 من الساعة الثالثة)
يتبع ذلك بقليل تلخيص جوردون للموقف كله مستخدما تعبيرات مخيفة بلا شك؛ إذ يسأله ابنه الصغير عن سبب مطاردة الشرطة لباتمان رغم أنه لم يرتكب إثما، فيجيبه:
لأنه ليس بطلنا. إنه حارس صامت. حام متيقظ. إنه فارس الظلام. (الدقيقة
كيف بدل الفيلم منظوره الأخلاقي القائم على المبادئ إلى هذا النوع البليد من التفكير الاستبدادي؟ أهو تغيير من منظور قائم في جوهره على أخلاق الواجب إلى منظور عواقبي في الأساس؟ أم أهو تبدل من منظور ما لأخلاق الواجب، منظور قائم على أفضلية النزاهة الأخلاقية، إلى منظور آخر قائم على واجب الرعاية مفروض على المرء تجاه مواطنين يكاد لا يثق فيهم؟ هل تقل غرابة هذا التغير من المنظور الأخلاقي بسبب التضحية البطولية التي قدمها باتمان؟ تلك أسئلة تصعب الإجابة عنها، ولا يقدم الفيلم على الأرجح معلومات كافية للإجابة عنها. رغم ذلك، من بين التفسيرات الواضحة لهذه الكذبة، يوجد تفسير عواقبي واحد على الأقل؛ لا بد من اللجوء إلى الكذب لأن الحقيقة ستتسبب في أذى لا يحتمل.
متى إذن يسمح بالكذب لأجل تحقيق غرض اجتماعي ما؟ وكيف نجيب عن هذا السؤال: عبر الاحتكام إلى المبررات العواقبية أم إلى تلك المستندة إلى أخلاق الواجب؟ ذلك لغز ما زال عالقا. وسؤالنا المبدئي، حول ما يجعل فعلا ما صائبا وما يجعله خاطئا، لا يزال في عقولنا بلا إجابة نهائية، كما قد تتوقع.
أسئلة
في بداية هذا الفصل، استبعدنا على الفور الرأي القائل بأن الأفعال تصبح صائبة إذا كان الله قد أمر بها. هل تشكل معضلة يوثيفرو عائقا لا يمكن تخطيه أمام هذا الرأي؟ (يعرف الزعم القائل بأن الأفعال تصبح صائبة إذا أمر الله بها بنظرية الأمر الإلهي. وقد طرحت المسألة في حوار يوثيفرو، أحد حوارات أفلاطون. هل تصبح الأفعال ملزمة أخلاقيا أو محرمة لأن الله أمر بها أو حرمها، أم هل يأمر الله أو يحرم الأفعال لأنها ملزمة أخلاقيا أو محرمة؟ هل أمر الله بها هو ما يجعل الأفعال ملزمة أو محرمة أم هل بعض الأفعال ملزمة أو محرمة بصرف النظر عن أوامر الله؟ تنص نظرية الأمر الإلهي على أن الإثم الأخلاقي هو معارضة أوامر الله أو أن كلمة «إثم» في السياقات الأخلاقية تعني «مخالفة أوامر الله». راجع نيلسن (1990).)
فلتفترض أن ركاب إحدى العبارات قرروا الضغط على زر التفجير، وبرروا قرارهم على النحو التالي:
إذا لم نضغط على زر التفجير، سنترك الخيار للركاب على متن العبارة الأخرى: إما سيضغطون على الزر وإما لا. إذا ضغطوا على الزر، فسوف يفجروننا. وإذا كان ذلك ما يخططون لفعله، فليس علينا إثم إذا ضغطنا نحن الزر أولا. وإذا لم يضغطوا على الزر، فسوف يموتون على أي حال (حسب تهديد الجوكر)، إذن لن يلقوا مصيرا أسوأ إذا ضغطنا على الزر. في كلتا الحالتين ، لن نتسبب في ضرر جسيم وجائر لركاب العبارة الأخرى إذا ضغطنا على الزر. كيف إذن يصبح إنقاذنا لحياتنا من خلال فعل أمر لا يؤذي شخصا آخر إيذاء جائرا أمرا خاطئا؟
ما مدى منطقية تلك الحجة؟ أهي مجرد تسويغ للفعل أم تنطوي على وجهة نظر مهمة؟ هل تعبر عن منهج استدلال عواقبي أم قائم على أخلاق الواجب؟
هل من المنطقي القول بأن الضغط على زر التفجير هو الفعل الصائب في حالة المدنيين لا في حالة السجناء؟ وهل من المفترض وجود تكافؤية في فرصة الضغط على الزر في هذا الموقف؟
هل من المنطقي القول بأن الضغط على الزر هو الفعل الصائب في حالة المدنيين، لكن إذا ضغط أي منهم بالفعل على الزر فسوف نعتبره - ولنا الحق في ذلك - شخصا شريرا؟ (بعبارة أخرى، هل من الممكن الفصل بين الحكم بصواب الفعل والحكم بصلاح السلوك على هذا النحو؟ سوف نستعرض القضايا ذات الصلة بهذا السؤال في الفصل الرابع عشر.)
هل الرجل المدني الذي لم يستطع حمل نفسه على الضغط على الزر جبان؟ (هل تكون جبانا إذا فعلت الصواب؟)
هل إشباع التفضيلات مقياس فلسفي كاف للسعادة؟ أهو الجانب الذي ينبغي على أتباع النفعية محاولة تعظيمه؟
حسب نظرية أخلاق الواجب، يصبح فعل ما مبررا من الناحية الأخلاقية إذا اندرج تحت مبدأ أخلاقي مناسب. تحت أي مبدأ أخلاقي قد يندرج قرار تفجير العبارة؟ لقد اقترحنا واحدا في هذا الفصل، لكننا أثبتنا بسهولة نسبية أنه لا يصلح كمبدأ مقبول بديهيا أو منطقيا. هل يوجد مبدأ أفضل يمكن لركاب العبارة توظيفه لتبرير تفجير العبارة الأخرى؟
ينحاز باتمان إلى المبدأ لا إلى العواقب، ويعتبر ذلك مكافئا للصلاح الأخلاقي. يميل مشاهدو الفيلم إلى القبول؛ فبنية الموقف تجعل هذا مقنعا كرد فعل على مستوى الحدس. لكن هل أعد الفيلم هذا الموقف إعدادا غير منطقي من الناحية الفلسفية؟ هل أدت أفعال باتمان البطولية أو ما أبداه الجوكر من حقد جامح (وإن كان يتمتع بجاذبية شخصية) إلى تضليل حدسنا؟ هل تمكن المخرج كريستوفر نولان بطريقة أخرى من تدبير الأمور على نحو يدفع حدسنا في اتجاه معين؟
يبدو أن النفعية القواعدية قد تتفق مع مبدأ أخلاق الواجب الذي اعتبرناه ذا صلة بتجربة الجوكر الاجتماعية. هل هذا صحيح؟
ما نوع القيود التي تنطبق على أفضل القواعد من المنظور العواقبي؟ هل لا بد من أن تكون قواعد لا يقدر أحد على اتباعها سوى الملائكة؟ أم هل ينبغي أن تكون قواعد يسهل اتباعها؟
هل القاعدة الفضلى، من المنظور النفعي، هي القاعدة التي تنص على تعظيم المنفعة في كل ما تفعله؟ ولم لا؟
هل كان باتمان محقا عندما تحمل أوزار هارفي دينت؟ وهل كان جوردون، قائد الشرطة، على حق عندما زعم كذبا أن باتمان قاتل؟
هوامش
الفصل الرابع عشر
طفولة خطرة: «الوعد» واحتمالية الفضيلة
مقدمة
في الفصلين السابقين، بحثنا الأخلاق بطريقتين مختلفتين. أولا: طرحنا السؤال التالي: «ماذا يدفعنا لالتزام الأخلاق؟» ثم طرحنا هذا السؤال: «ما الذي يجعل الأفعال صائبة أو خاطئة؟» وقد تساءلنا على وجه التحديد عما إذا كانت الأفعال تصبح صائبة أو خاطئة، إذا أوفت بالمبادئ الأخلاقية التي تندرج تحتها أم إذا أدت إلى أفضل العواقب من الناحية الموضوعية. في هذا الفصل، سوف نلقي نظرة أخرى على الأخلاق لكن من زاوية أخرى؛ فبدلا من التركيز على أنواع الأفعال والخصائص التي تجعلها صائبة، سوف نركز على الناس، ونتساءل عما يجعل الأفراد صالحين أو فاسدين من المنظور الأخلاقي. وبينما نتولى ذلك، سنتحرى نظرية يطلق الفلاسفة المعاصرون عليها اسم نظرية الفضيلة.
دليلنا في هذا الفصل هو فيلم «الوعد» (لا بروميس) من إخراج المخرجين البلجيكيين جان بيير داردين ولوك داردين عام 1996. كالعادة، ننصحك بمشاهدة الفيلم قبل مواصلة القراءة (إذ سنفسد عليك الكثير من أحداث الفيلم فيما يلي). جذب الأخوان داردين الانتباه الدولي للمرة الأولى مع فيلم «الوعد»، ومنذ ذلك الحين قدما سلسلة من الأفلام المتميزة مثل: «روزيتا» (1999)، و«الابن» (لو فيس) (2002)، و«الطفل» (لا أنفا) (2005)، و«صمت لورنا» (لو سيلانس دو لورنا) (2008) جميعها تركز على الحياة الأخلاقية لأناس يواجهون تحديات أخلاقية شديدة . إن أكثر ما يميز أعمال الأخوين داردين من وجهة نظرنا هو استكشافها لاحتمالية الصلاح والتطهر الأخلاقي، وما تعكسه من جمال ، اسكتشافا يراعي الدقة ويبتعد عن العاطفية. ربما يبدو «الوعد» فيلما بسيطا ذا إيقاع بطيء عندما تشاهده للمرة الأولى، لكنه في الحقيقة مكتوب بحرفية لا تقل عن أي فيلم آخر قد تراه (على سبيل المثال، سيناريو فيلم «الوعد» مكتوب بحرفية ودقة تفوق سيناريو فيلم «فارس الظلام»). يتضمن الفيلم قدرا كبيرا من الأحداث، ويتصاعد التوتر به بلا توقف، ومشاهدته تجربة تستحوذ على المرء بمجرد أن يؤقلم نفسه مع أسلوبه البسيط البعيد عن البهرجة. يكشف الفيلم عن دفقات قوية من المشاعر لكنه لا يستخدم في ذلك سوى أكثر السبل مباشرة؛ أي عبر مشاهدة الشخصيات وهي تتصرف وتتحدث، وعبر ملاحظة التعبيرات على وجوههم وأجسامهم في أثناء ذلك. إن الغياب التام للموسيقى التصويرية، والمشاهد ذات الإطار الضيق، المصورة في معظم الأحيان بكاميرا محمولة، تضفي على الفيلم من الخارج طابعا وثائقيا، لكن نظرة متفحصة له ستكشف عن أن كل مشهد قد أعد بعناية. تكمن قوة أسلوب الأخوين داردين في قدرتهما على تركيز انتباه المشاهدين على طريقة حياة الشخصيات في بيئتها، لا على الكيفية التي يعيشون بها في محيط خيالي. بعبارة أخرى، ينصب التركيز على الكيفية التي يعيشون بها في بيئة حقيقية (على ما يبدو). فتدور أحداث الفيلم في محيط فوضوي كريه ومزعج، يبدو طبيعيا لا معدا خصوصا للتصوير. نراقب الشخصيات وهي تصعد السلالم، وتمر عبر الأبواب، وتستقل سيارات، وتسير في الشارع. أحيانا نراها من الخلف أو من جانبها أو من الأمام. يبدو الأمر أشبه بمشاهدة الأحداث بوصفك متفرجا عابرا لا كمشاهد لمشهد أعد خصوصا لأجله. وعلى العكس من الإعدادات السينمائية التقليدية (إعداد المشاهد)، حيث يكون الهدف هو تحسين عملية إيصال المعلومات السردية؛ ما الذي يحدث؟ من يتحدث إلى من؟ من يتحكم في الموقف؟ ما الذي يشعر به أولئك الناس؟ ما هي دوافعهم؟ ما أنواع شخصياتهم؟ يهدف أسلوب الأخوين داردين إلى إظهار تصرفات الأشخاص كما لو كانت طبيعية تماما، وكما لو كان صناع الأفلام قد صوروها مصادفة. وهكذا تبرز المعلومات السردية على نحو غير متعمد فيما يبدو .
1
يشبه أسلوب الفيلم أسلوبا يدعى «سينما فيرتيه» أو سينما الواقع، وهو أسلوب له تاريخ طويل وبارز في السينما. يستخدم الأخوان داردين هذا الأسلوب استخداما متميزا لأن المهارة الكامنة خلفه مستترة على نحو بارع. يبدو تطور قصة الفيلم أمرا تحكمه الصدفة تقريبا، كما لو أن أحد المشاهد يمكن الاستعاضة عنه بسهولة بمشاهد أخرى لا حصر لها؛ لذا يبدو من الوهلة الأولى أن قدرا ضئيلا من المعلومات الدقيقة هي التي تنقل عبر المشاهد. لكن في الحقيقة، كل مشهد مصمم بحيث يبعث رسالة خاصة عن حياة ومتاعب الشخصية الرئيسية، إيجور، ولا يمكن الاستعاضة عنه بسهولة بمشاهد أخرى.
2
يواجه إيجور مشكلات بالغة الجدية. هو صبي يبلغ من العمر 15 عاما، ويعمل ميكانيكي سيارات تحت التمرين، لكن عمله الحقيقي هو مساعدة والده، روجر، في نشاطاته الإجرامية الكريهة والمتعددة. (ما يسفر بالطبع عن فصل إيجور سريعا من وظيفته كميكانيكي تحت التمرين.) في بداية الفيلم، نراه يسرق حافظة نقود من عميلة، لكنه سيرتكب أفعالا أفظع مع توالي الأحداث؛ فهو يساعد والده على إدارة ما يشبه نزلا للوافدين غير الشرعيين إلى بلجيكا (وهم أناس سيواجهون خطر الترحيل إذا اكتشفهم مسئولو الهجرة البلجيكيون). يأتي أولئك الأفراد من أماكن متنوعة مثل يوجوسلافيا وكوريا وأيضا من دولة بوركينا فاسو غرب الأفريقية، التي تلعب دورا محوريا في أحداث الفيلم. يستغل روجر هؤلاء المهاجرين كعمالة رخيصة ويبتز أموالهم. ويبدو أيضا أنه يدير عمليات التهريب التي تجلب أولئك المهاجرين غير الشرعيين إلى بلجيكا أو ينتفع منها على الأقل. ولكي يتخلص من مضايقة مسئولي الهجرة، يختار بعضا من ساكني النزل الذي يملكه، ويسمح لشرطة الهجرة باعتقالهم وترحيلهم، ويستعين بإيجور في تنفيذ هذه العملية. يبني روجر منزلا لأجل ابنه، كما يخبر المشاهدين في المشاهد الأخيرة من الفيلم. ويسود موقع البناء اضطراب وفوضى يشكلان خطرا على الأفراد؛ فأعمال البناء تنطوي على خطورة، ويتجاهل القائمون عليها تدابير الأمان. وفي أثناء سير العمل، تجتاح الموقع شرطة التفتيش على العمل، فيندفع العمال باحثين عن أماكن للاختباء، ويسقط أحدهم من على السقالة (إذ لم يكن يرتدي حمالة الأمان). يدعى هذا الرجل حميدو، وهو من بوركينا فاسو، وقد أتت زوجته (أسيتا) وابنه لتوهما من هناك ليعيشا معه في بلجيكا. وبينما يستلقي حميدو على الأرض؛ إذ يعاني من إصابات خطيرة، يدفع إيجور إلى أن يعده بالعناية بأسيتا والطفل. رغم ذلك يسارع إيجور بإخفاء الرجل المصاب، ويساعد أباه في الكذب على المفتشين. وبعد مغادرتهم يحاول نقل حميدو إلى المستشفى لكن أباه يرفض رفضا قاطعا. وعليه، يخضع لأوامر أبيه، ويساعده على إخفاء حميدو تحت قطعة من المشمع يعلوها لوح من الخشب (باب خشبي منفصل) ويغطون آثار الدماء بالرمل. يموت حميدو في وقت لاحق خلال اليوم، ويدفنه روجر وإيجور ليلا في موقع البناء. يركض إيجور، ويترك أباه في خضم عملية الدفن؛ فالموقف أقوى من قدرته على الاحتمال.
هذا هو الإطار العام الرئيسي للفيلم الذي يركز على رد فعل إيجور التدريجي على النكبة الأخلاقية، المتمثلة في موت حميدو، والذنب الذي يقع على عاتقه وعلى عاتق والده جراء هذا الحادث (رغم أن الجزء الأكبر من هذا الذنب يتحمله الأب بالطبع). يبدو رد فعل إيجور بسيطا جدا من إحدى النواحي؛ فهو يفي بالوعد الذي قطعه لحميدو. لكن وصف الموقف على هذا النحو لا يوفي التجسيد الفطن الذي يقدمه الفيلم لصحوة إيجور الأخلاقية حقه. وهذه الصحوة هي اللب الفلسفي للفيلم.
3
يفي إيجور بوعد قطعه لرجل يحتضر. وفي النهاية، يفعل الصواب. لكن ما السبيل الأمثل لفهم هذه المسألة برمتها من وجهة نظر أخلاقية؟ هل صحوة إيجور الأخلاقية تنبع من وفائه بالتزام قطعه على نفسه فحسب؟ هل أصبح إيجور شخصا جديرا بالاحترام من المنظور الأخلاقي عندما أوفى بوعده (بدلا من كونه سارقا وكذابا)؟ هل يوجد سبيل أفضل لوصف ما يحدث لإيجور على مدار أحداث الفيلم؟ يؤسس إيجور هوية أخلاقية واضحة في الفيلم، لكن كيف ينبغي لنا وصف هذه الهوية؟ كيف لنا أن نصف شخصية إيجور الجديدة؟ يؤمن منظرو الفضيلة أن العنصر الأهم في هويتنا الأخلاقية هو تمتعنا بفضائل (ورذائل)، ويميلون إلى رؤية الفضائل من وجهات نظر معقدة. فكونك شخصا فاضلا يختلف عن كونك شخصا يميل إلى فعل الصواب؛ فالفضائل أعقد من مجرد فعل الصواب، إنها (لا سيما الفضائل الأخلاقية) سبل متميزة أخلاقيا للعيش. يطرح فيلم «الوعد» دعما قويا لنظرية الفضيلة، أو هكذا سنزعم في هذا الفصل. لكن دعونا أولا نعرض خلفية عامة عن الفضائل ونظرية الفضيلة.
ما هي الفضيلة؟
منظر الفضيلة الأعظم تأثيرا في تاريخ الفلسفة هو أرسطو (384-322 قبل الميلاد)، الذي يرى أن الفضائل هي حالات تستحق تقديرا استثنائيا من حالات الشخصية. إنها نوعيات من حالات الشخصية تضفي علينا نبلا، وتشكل أساس حياة صالحة تستحق العناء. تنطوي الفضائل على ميل نحو التصرف بطرق معينة مناسبة، لكنها لا تقتصر على ذلك؛ فهي تتضمن أيضا ميلا نحو الشعور بالمشاعر المناسبة وإدراك المواقف إدراكا مستبصرا ومراعاة الحكمة عند التفكر جليا في الأمور. الفضائل ليست مجرد عادات سلوكية أو مهارات، بل هي طرق معقدة للاستجابة لمواقف تتعرض لجوانب متعددة من شخصيتنا ومن مزاجنا العاطفي ومن ذكائنا. يقسم أرسطو الفضائل إلى فئتين: فضائل الشخصية (في بعض الأحيان يطلق عليها «فضائل أخلاقية») وفضائل العقل (في بعض الأحيان يطلق عليها «فضائل عقلية»). أهم ما تتضمنه فضائل الشخصية هو التحكم في مشاعرنا، في حين تتضمن فضائل العقل مزايا العقل. التفوق في العلوم على سبيل المثال يتطلب التمتع بفضائل عقلية، أما عيش حياة جيدة فيتطلب فضائل أخلاقية. في هذا الفصل، نهتم على وجه التحديد بالفضائل الأخلاقية (رغم أن الفضائل الأخلاقية تتضمن، كما سنعرض لاحقا، فضيلة عقلية معينة، يطلق عليها أرسطو «فرونيسيس» وغالبا ما تترجم إلى الحكمة العملية).
يرى أرسطو أن الفضائل الأخلاقية تشتمل على سمات مثل الشجاعة وضبط النفس (أي مراعاة الاتزان عند الاستجابة للألم واللذة) والكرم واعتدال المزاج والشهامة والعدل. وقد عرض أرسطو رؤيته الأساسية لتلك الفضائل في إطار ما أطلق عليه مبدأ خير الأمور أوسطها. حسب هذا المبدأ، تقع الفضيلة في المنتصف بين الزيادة والنقصان. يصوغ أرسطو رؤيته كالتالي:
أولا: دعونا إذن نتأمل حقيقة أن هذه الأشكال تتعرض للفساد بتأثير الزيادة أو النقصان، كما نرى في حالات القوة والصحة (لا بد لنا من استخدام أمثلة واضحة كي نوضح ما يكتنفه الغموض)؛ على سبيل المثال الإفراط في التدريبات الرياضية أو إهمالها يدمر قوة المرء البدنية، وبالمثل الإفراط في تناول الطعام والشراب أو نقصه يدمر صحة المرء، في حين يؤدي تناول القدر المناسب إلى التمتع بالصحة وتحسينها والحفاظ عليها. ينطبق الأمر ذاته على ضبط النفس والشجاعة وغيرها من الفضائل؛ فالشخص الذي يهاب جميع الأشياء ويتجنبها ولا يثبت أبدا على موقفه، يصبح جبانا. أما الشخص الذي لا يخشى شيئا ويواجه الأخطار كافة، يصبح متهورا. وعلى المنوال نفسه من يستمتع بكل لذة ولا يكبح جماح نفسه أبدا، يصبح شخصا مسرفا، أما من يتجنب جميع الملذات، مثلما يفعل الرجال الأفظاظ، يصبح متبلد الحس. إذن الشجاعة وضبط النفس يدمرهما الإفراط والنقصان ويحفظهما الاعتدال.
4
من الهم ملاحظة أن مبدأ أرسطو لا يوصي بالاعتدال في الأشياء كافة. فربما تتطلب الفضيلة إحساسا عظيما مثل الغضب أو الكرم؛ فالاعتدال ليس مقياسا حسابيا، لكنه يتنوع من ظرف لآخر. يصف أرسطو العلاقة بين الفضائل والمشاعر قائلا:
أتحدث ها هنا عن فضائل الشخصية، بما إنها تختص بالمشاعر والأفعال، وهي المجال الذي نشهد فيه الزيادة والنقصان والاعتدال. على سبيل المثال قد نشعر بالخوف والثقة وشهوة الطعام والغضب والشفقة واللذة والألم عموما على نحو زائد أو ناقص، وكلا الوضعين وضع معتل. لكن الإحساس بتلك المشاعر في الوقت المناسب، تجاه الأشياء المناسبة والأشخاص المناسبين ومن أجل غرض مناسب وبطريقة مناسبة، هو السبيل المعتدل والأمثل، وهكذا تمارس الفضيلة.
5
اعتقد أرسطو أيضا أن التمتع حقا بفضيلة ما يتطلب من الفرد أن يستمتع وهو يمارس الأفعال الفاضلة. وذلك شرط مهم لدى أرسطو لأنه يعتقد أن التمتع بالفضائل يمكننا من عيش حياة صالحة، وهي من وجهة نظره حياة ناجحة وممتعة ومحط تقدير. يطلق أرسطو على نوعية الحياة هذه «يوديمونيا» (أي الازدهار أو الهناء)، ويرى أنها أعظم صور الخير للناس كافة؛ فهي الهدف النهائي الذي ترمي إليه جميع جهودنا الحسية أو العقلية. فما الذي نريده من الحياة في نهاية المطاف؟ نحن نريد حياة هانئة كما نطمح في بلوغ مراتب التفوق في فن الحياة وشئونها، في أن نصير سعداء وناجحين، في أن نبلغ حالة ال «يوديمونيا»، هكذا يجيب أرسطو.
6
يتصرف المرء حقا بدافع الفضيلة عندما تصدر تصرفاته عن طيب خاطر، وعندما يستمد متعة منها؛ ومن ثم لا يجسد المرء فضيلة الشجاعة تجسيدا حقيقيا إذا تصرف بشجاعة مكرها. ولا يجسد المرء فضيلة الكرم إذا كان يهب أمواله ممتعضا.
كيف تكتسب فضائل الشخصية؟ يجيب أرسطو على ذلك قائلا إننا نبدأ في اكتسابها منذ الطفولة عبر التعود. على سبيل المثال الأطفال ليسوا كرماء بطبيعتهم، لكن عبر دفعهم إلى التصرف كما لو كانوا كرماء، حتى وإن كرهوا ذلك، سوف يعتادون على فعل الكرم. وفي النهاية قد يكتسب الطفل جوانب نفسية محورية من جوانب الفضيلة؛ أي الاستجابة للمواقف بالمشاعر المناسبة واستمداد المتعة من التصرفات السليمة. إذا رغبنا في أن ينمو الطفل ليصبح شخصا ناضجا فاضلا حقا، لا بد أن يكتسب نوع الحكمة العملية أو الذكاء الذي يمكنه من الاستجابة للمواقف استجابة سليمة. وكما ذكرنا بالأعلى، يطلق أرسطو على هذا النوع تحديدا من الفضيلة الفكرية «فرونيسيس»، وامتلاكها أمر لا غنى لنا عنه كي نكتسب فضائل الشخصية كاملة. على سبيل المثال، لا يهب الشخص الناضج الكريم أمواله ووقته عن طيب خاطر وبكل سرور فحسب، بل يراعي الحكمة في ذلك فيهبها عندما يدرك أنها ستحدث فارقا بالفعل.
هذه هي رؤية أرسطو لفضائل الشخصية أو الفضائل الأخلاقية. وهي رؤية عظيمة التأثير، لكنها كذلك رؤية خلافية.
7
ضمت قائمة أرسطو للفضائل الشجاعة وضبط النفس واعتدال المزاج والعدل والشهامة (وهي أعظم فضائل الوجاهة، والرجل الشهم هو الرجل الكريم الأبي ذو القلب الكبير والمكانة العالية في مجتمعه). حديثا، تبدو القائمة متواضعة بعض الشيء؛ فهي محدودة ومتحيزة. بل إن فضيلة الشهامة التي يعرضها أرسطو تبدو مقززة إلى حد ما في أعين الكثيرين. لقد كانت آراء أرسطو في النساء متحيزة جنسيا تحيزا يتعذر تجاوزه، وآراؤه في العبيد وغير الإغريقيين عنصرية. رغم ذلك، يأمل العديد من منظري الفضيلة المعاصرين في استخلاص جوهر رؤية أرسطو حول الفضيلة وتعديله بحيث يتكيف مع الرؤى الأخلاقية الحديثة، تاركين خلفهم تحيزاته الضيقة والمتعصبة جنسيا التي عفا عليها الزمن.
تنطوي نظرية أرسطو على جانب آخر مثير للجدل تجسده رؤيته النظرية حول كيفية اكتساب الفضيلة؛ فهو يرى أن الفضائل تعتمد على سمات الشخصية (لكن من المهم تذكر أنها تتضمن ما هو أكثر من سمات الشخصية: التفاؤل والطبع الاجتماعي الودود سمتان شخصيتان معتادتان، لكن الشجاعة والكرم سمتان فاضلتان نموذجيتان). على سبيل المثال، الشخص المندفع الذي يفتقر إلى التبصر بالأمور ويعجز عن كبح جماح نفسه، من المستبعد أن يكتسب فضائل أرسطية مثل ضبط النفس والاعتدال. هل نكتسب سمات شخصية مثل الاندفاع عبر التعود في فترة الطفولة؟ تشير الأدلة إلى أن قدرا لا بأس به من شخصيتنا موروث لا مكتسب.
8
ربما أفرط أرسطو في تفاؤله حيال مدى قدرة الآباء والآخرين على تشكيل شخصيات الأطفال الذين هم في رعايتهم (وهي حقيقة سيتفق معها أي أب وأم). مع ذلك أفرط أرسطو في تشاؤمه من جهة أخرى. قد تبدو القدرة على تبديل سمات شخصية جوهرية في سن النضوج أمرا مستبعدا، رغم ذلك يبدو أننا قادرون على النمو أخلاقيا حتى في سن النضوج. وهو أمر نفعله جزئيا عندما نبذل محاولات واعية كي نصبح أشخاصا أفضل عبر الممارسة وعبر مواءمة عاداتنا وفهمنا لذاتنا مع مواطن القوة في شخصيتنا. على سبيل المثال إذا كنت شخصا اجتماعيا ذا طبع ودود منطلق فربما تستغل هذه السمة الشخصية كي تصبح شخصا مستبدا، فتستخدم مواهبك الاجتماعية الفطرية في اكتساب مكانة وتطويع دعم الآخرين في تحقيق أهدافك الشخصية. على الجانب الآخر، نحن قادرون على التأقلم مع السمة الشخصية نفسها بطرق في غاية الاختلاف، عبر التحول مثلا إلى قائد ناجح وحكيم يرشد الآخرين. من المستبعد أن يتبنى شخص شديد الانطوائية دور القائد، ومن المشكوك فيه أن يتمكن من تحويل نفسه إلى شخصية انبساطية بقوة الإرادة أو الممارسة. لكن الفضائل تعتمد على ما نفعله بسماتنا الشخصية لا على نوع السمات الشخصية التي تصادف أن وهبنا إياها. واحتمالية أن نستطيع في بعض الأحيان تأسيس هوية أخلاقية لأنفسنا حتى في سن النضوج وفي مواجهة تنشئة كارثية، تبدو قائمة رغم تركيز أرسطو على التدريب في مرحلة الطفولة المبكرة.
تذكر مناقشتنا لشخصية ويسلر في «حياة الآخرين» (الفصل الثاني عشر)، لقد جسد صورة لشخص غير من منهجه الأخلاقي الرئيسي في الحياة بينما هو في كامل نضجه. إنها قصة استثنائية، بل مستبعدة الحدوث، لكنها ليست مستحيلة. وقد التقينا مجددا بشخصية أخرى من هذا النوع في «أن تحيا» (الفصل العاشر)، شخصية السيد واتانابي. في فيلم «الوعد» نقابل إيجور المراهق، الذي تخطى بالفعل مرحلة الطفولة، ورغم ذلك نجده عازما على السير في الطريق الذي رسمه لنفسه. تبدأ الشخصيات الثلاث كلها عملية تحول ذاتي أخلاقي نتيجة حدث عرضي مثل تعرف ويسلر الحميمي والمتلصص على دريمان وزيلاند، وتشخيص حالة واتانابي بأنه يعاني سرطانا لا شفاء منه، والوعد الذي قطعه إيجور لرجل يحتضر. والفكرة الباعثة على التأمل في حالة كل منهم هي مدى اعتماد تحولهم على الصدفة. ماذا لو لم يكلف ويسلر قط بالتجسس على الحبيبين المشتغلين بالفن؟ ماذا لو لم يعرف واتانابي قط حقيقة تشخيص حالته (لا تنس أن الأطباء بذلوا كل ما في وسعهم لإخفاء الحقيقة عنه)؟ ماذا لو لم يتمكن من استخلاص وعد أخير من إيجور؟ ربما كانت كل شخصية منهم لتستمر في المسارات الموحشة التي اتخذتها حياتهم.
نظرية الفضيلة والفعل الصائب
في الفصل السابق، حيرتنا حالة ركاب العبارتين في فيلم «فارس الظلام»، وتساءلنا عما يجعل فعلا ما صائبا أو خاطئا، ما دفعنا إلى التركيز على الأفعال وخصائصها وتحري نوعين من الخصائص: العواقب والمبادئ. حسب النظريات العواقبية يصبح فعلا ما صائبا، تقريبا، إذا تمخض عنه ما يعد أفضل العواقب الممكنة من منظور غير متحيز. أما نظريات أخلاق الواجب، فتدفع بأن الفعل يصبح صائبا إذا اندرج تحت مبدأ أو قاعدة أخلاقية مناسبة. ما العلاقة بين مناقشة الفصل السابق لمفهوم الفعل الصائب ومناقشتنا الحالية للفضيلة؟ توجد أربعة مواقف فلسفية رئيسية يمكننا تبنيها هنا.
أولا قد نسعى إلى اختزال الحديث عن الفضيلة في الحديث عن الفعل الصائب. والطريقة الأبسط لتحقيق ذلك هي ربط الفضائل بميول وطيدة إلى فعل الصواب في مجموعة متنوعة من المواقف. فلتفترض على سبيل المثال أن الكذب على الآخرين فعل خاطئ من الناحية الأخلاقية في جميع الأحوال. قد نعرف بناء على ذلك فضيلة الصدق بأنها ميل إلى تجنب الكذب. وعلى هذا النحو، يحدد تعريف الفضائل في إطار الفعل الصائب، والفعل الصائب هو المفهوم الأخلاقي الرئيسي هنا. قد لا تتفق بالطبع مع تحليل لفضيلة الصدق يزعم أنها ميل إلى الامتناع عن الكذب. وعليه، ربما نحاول إبداء القليل من الفطنة أو المرونة على الأقل، في توصيفنا للصدق؛ فقد نزعم أن الكذب إثم أخلاقي إلا إذا كنا مجبرين عليه (وبهذا أصبح علينا تقديم عرض لحالات الإجبار على الكذب تصنف في إطار المبادئ أو القواعد الأخلاقية الأخرى؛ على سبيل المثال القواعد التي تحدد لنا متى يقع على عاتقنا واجب سام بمساعدة الآخرين). يمكننا كذلك إضفاء المزيد من الإثارة على المسألة عن طريق السماح بالحالات التي نعفى فيها من التزام الصدق نظرا لسوء تصرف الآخرين. فربما يخسر الناس أحيانا حقهم في سماع الحقيقة (مثلا، قد يكذبون أنفسهم علينا أو قد يستخدمون الحقيقة استخدما جائرا في حقنا). وفي ضوء ذلك، يمكننا تعريف فضيلة الصدق على أنها ميل وطيد لتجنب الكذب غير المبرر (وتحدد مبررات الكذب حسب أسمى الواجبات الملقاة على عاتقنا أو فقدان الآخرين لحق التعامل الصادق).
والآن إذا كان بوسعنا تطبيق العملية نفسها على جميع المصطلحات المتصلة بالفضيلة، فسنكون حينئذ قد تمكنا من اختزال خطاب الفضيلة اختزالا نظريا. سيظل في وسعنا الحديث عن الفضيلة، لكن بوصفها تبسيطا موجزا للحديث عن الميل إلى فعل الصواب. في وسع كل من أتباع النظرية العواقبية ونظرية أخلاق الواجب الحديث عن الفضائل، لكنهم يميلون بشدة إلى تبني الاستراتيجية الاختزالية التي وصفناها لتونا؛ ومن ثم إلى اعتبار الحديث عن الفضيلة تبسيطا موجزا للحديث عن الميل إلى فعل الصواب. (لا يعني هذا أنهم مجبورون على تبني هذا الموقف الاختزالي، بل يعني فحسب أنه موقف يجده كثير من معتنقي العواقبية وأخلاق الفضيلة موقفا مناسبا.)
9
يرفض منظرو الفضيلة هذا الرأي الاختزالي؛ فهم فلاسفة ينظرون إلى الفضيلة نظرة جدية؛ ما يعني أنهم يعتقدون، على الأقل، أن الفضائل تلعب دورا مستقلا ذا قيمة في حياتنا الأخلاقية، دورا مستقلا من الناحية المفاهيمية عن فعل الصواب. هذا يقودنا إلى الطريقة الثانية لربط الفضائل بفعل الصواب، ومفادها أن الفضائل تكمل وجهات النظر حول فعل الصواب، من خلال تقديم بعد إضافي لنقاشاتنا عن الأخلاق. يتفق جميع منظري الفضيلة تقريبا على أن الفضائل لا تقتصر على مجرد ميل لفعل الصواب. ونتذكر من مناقشتنا لآراء أرسطو، وهو يتناول الفضائل، أن التمتع بفضيلة يتضمن أيضا ميلا إلى الاستجابة للمواقف على نحو سليم؛ أي الإحساس بالمشاعر المناسبة بالقدر المناسب وفي الوقت المناسب، وحيال الأشياء أو الأشخاص المناسبين؛ فضلا عن تناول المواقف تناولا حكيما ومستبصرا. يرى منظرو الفضيلة أن التمتع بفضيلة يعكس الكثير من الأشياء عن هويتنا الأخلاقية ما يتجاوز مجرد الميل إلى طاعة المبادئ الأخلاقية أو السعي خلف أفضل العواقب؛
10
فالفضائل تساهم مساهمة مستقلة ولا غنى عنها في هويتنا الأخلاقية.
11
الطريقة الثالثة لتأمل العلاقة بين فعل الصواب والفضيلة طريقة أكثر طموحا. حسب هذه الرؤية، لا تكمل الفضائل مفاهيم الفعل الصائب فحسب، بل هي أساسية من الناحية المفاهيمية. والعلاقة بين الفضيلة وفعل الصواب علاقة عكسية؛ فبدلا من تعريف الفضائل من وجهة نظر الميل إلى التصرف على نحو صائب، يعرف التصرف الصائب من منظور التزام الفضائل. إليك الطريقة الأكثر مباشرة ووضوحا لصياغة تلك النظرية: التصرف على نحو صائب يعني التصرف على نحو يلتزم بالفضائل. سوف نستخدم مفهوم الفعل الفاضل لتفسير مفهوم الفعل الصائب. على سبيل المثال مساعدة غريب واقع في ورطة فعل صائب لأنه فعل يدل على الطيبة والكرم. والفعل لا يتسم بالطيبة والكرم لأنه فعل صائب، بل هو فعل صائب لأنه فعل طيب وكريم . تتسم مصطلحات الفضيلة بالبساطة، وتستخدم لتعريف الفعل الصائب. فيما يلي طريقة أخرى لتعريف الفعل الصائب من وجهة نظر الفضائل: التصرف على نحو صائب يعني التصرف مثلما كان سيتصرف عادة شخص يلتزم كليا بالفضائل في هذه الظروف. تسمح لنا تلك المعادلة بالتمييز بين فعل الصواب وفعله على نحو يلتزم الفضيلة. قد يساعد شخص ما غريبا في ورطة (وهو الفعل الصائب في هذه الظروف) دون أن يمتلك دوافع فاضلة؛ فربما كان هذا الفعل مدفوعا برغبته في إثارة إعجاب أصدقائه، وفي هذه الحالة لا يمكن اعتباره تصرفا فاضلا (بل هو يتظاهر بمراعاة الفضيلة، وذلك أمر مختلف دون شك). رغم ذلك، هو لا يزال يفعل الصواب، ويفعل ما كان شخص فاضل ليفعله في مثل هذه الظروف، حتى وإن كان هو نفسه شخصا غير فاضل.
12
يقدم هذا الخيار الثالث صورة معكوسة للخيار الأول؛ فهو محاولة لتفعيل الاختزال لكن في الاتجاه المعاكس، بحيث يختزل مفهوم فعل الصواب ضمن الحديث عن الفضيلة. ويطالبنا بإيجاد طريقة لتمييز الفضائل على نحو مستقل عن الخصائص التي تجعل الأفعال صائبة؛ فلا بد أن نكون قادرين على تحديد معنى الاتصاف بالكرم أو الصدق دون التحدث عن المبادئ الأخلاقية أو وجوب السعي وراء أفضل العواقب. ووفقا لهذا الخيار، لا يعرف الفعل الكريم باعتباره فعلا يلتزم بقاعدة أخلاقية كالتالية: «لتحرص دوما على مساعدة الآخرين عندما تقدر على ذلك دون التضحية بأي شيء يحمل أهمية مماثلة لك.»
13
ولا يمكن كذلك تعريفه بأنه فعل يؤدي إلى أفضل العواقب الموضوعية عندما يتطلب هذا من الفاعل التضحية بشيء يحمل قيمة بارزة لديه. لا بد من تعريف الكرم على نحو مختلف؛ فالكرم، بوصفه فضيلة، شأن معقد ومن الصعب تعريفه. هو ليس مجرد ميل إلى مساعدة الآخرين أو بذل الوقت والمال والممتلكات بسخاء، بل ينطوي على طريقة لتأمل المواقف التي نواجهها والاستجابة لها؛ بحيث تصبح اهتمامات ومشاغل الآخرين المتورطين في هذه المواقف جديرة بأن تكتسب أهمية في أعيننا؛ ويتضمن استجابة لهذا الإدراك تدفعنا إلى التفكير فيما نستطيع فعله للمساعدة، وفي ضوء هذا نتيح ما نملك من وقت وموارد للمساعدة ... إلخ. ليس هذا مكانا مناسبا لتطوير نظرية حول فضيلة الكرم، بل غرضنا هو توضيح أنها مسألة معقدة. معظم الفضائل معقدة ومن الصعب تعريفها، لكنها، من وجهة نظر مناصري هذا الخيار الثالث، أولية من المنظور الفلسفي. يميز الخيار الثالث أحيانا عن الخيار الثاني عبر تسميته بأخلاقيات الفضيلة (بدلا من كونه جزءا من نظرية الفضيلة). وبناء على ذلك، يصبح منافسا لنظريتي العواقبية وأخلاق الواجب التي استعرضناها في الفصل السابق فيما يخص فعل الصواب.
الطريقة الرابعة لصياغة العلاقة بين الفضائل وفعل الصواب تقترح الاستعاضة عن نظرية الفضيلة بنظرية فعل الصواب.
14
بالطبع نحن نميل إلى مناقشة المعضلات الأخلاقية من منظور تحديد الفعل الصائب، لكن المدافعين عن هذا النوع من نظرية الفضيلة يزعمون أنه من الأفضل لنا التركيز عوضا عن ذلك على مناقشة المعضلات الأخلاقية من منظور كيف يتصرف الناس على نحو جيد (أي فاضل) في المواقف التي يواجهونها. على سبيل المثال، في موقف العبارتين، بدلا من محاولة تحديد ما إذا كان الضغط على الزر أمرا جائزا أخلاقيا (ومن ثم تفجير العبارة الأخرى)، قد نحاول تحديد ما إذا كان الأفراد في كلتا العبارتين تصرفوا على نحو جيد. كيف كانوا سيتصرفون على نحو أفضل؟ هل السجين الذي ألقى بجهاز التفجير من على سطح العبارة تصرف تصرفا جيدا؟ هل كان تصرفه شجاعا؟ هل كان تصرفه حكيما؟ هل تصرف على نحو مخادع؟ هل كان تصرفه تصرفا بطوليا أم كان عنيدا ومتعجرفا؟ (لقد تصرف كما لو كان القرار قراره وحده في النهاية، وقد حكم على جميع من في العبارة بموت شبه حتمي، كما بدا وقتها.) بوسعنا دوما طرح السؤال التالي: ما الفعل الذي من المرجح أن يسفر عن أفضل نتيجة؟ لكن لا ينبغي أن يتألف حكمنا الأخلاقي على ركاب العبارتين من الإجابة عن هذا السؤال. قد نعتقد أن النتيجة الأفضل على الأرجح (إذا راعينا الموضوعية، وافترضنا أن باتمان لن ينقذنا) هي تفجير المدنيين لعبارة السجناء. هي ليست نتيجة مثالية بالطبع لكنها أفضل من موت الجميع، وأفضل (وإن كان بهامش ضئيل) من نجاة السجناء على حساب المدنيين. رغم ذلك قد نعتقد أيضا أن تحقيق هذه النتيجة لم يكن ليتم إلا إذا تصرف أحد ركاب عبارة المدنيين تصرفا وحشيا نستهجنه بشدة. يرى منظرو الفضيلة أن الأخلاق لا تهدف إلى ضمان حصولنا على أشد ما نرغب به، بل تهدف إلى ضمان أن نحيا حياة جيدة. وفي بعض الأحيان من الأفضل أن نموت في سبيل الفضيلة بدلا من أن نحيا حياة وحشية (فظيعة).
لقد أصبحت المعضلة الآن هي تحديد ما سيحدث عندما نفكر مليا فيما ينبغي لنا فعله في موقف معين. إذا تبنينا نظرية من نظريات فعل الصواب، فيمكننا على ما يبدو الاكتفاء بتحري الخصائص التي تجعل من الأفعال المحتملة أفعالا صائبة كي نحدد أيا منها ينبغي لنا تنفيذه. لكن هذه العملية تبدو منطقية فحسب إذا كان لدينا صيغ أو إجراءات جاهزة نستعين بها لتحديد الفعل الصائب. وحسب صورة نظرية الفضيلة التي نتناولها حاليا، تلك الصيغ أو العمليات غير موجودة. ماذا سيحدث إذا رفضنا وصف المواقف من منظور الصواب والخطأ (أي من منظور الأفعال الجائزة والواجبة والمحرمة أخلاقيا)؟ كيف يفترض بنا تدبر ما يواجهنا من المنظور الأخلاقي؟ هل يفترض بنا تدبر أي من الأفعال هو الأصلح في ظل الظروف التي نواجهها؟ قد يبدو ذلك تكتيكا منطقيا من الوهلة الأولى، لكنه لا يجدي. فغالبا الانشغال بفضيلتنا هو عينه الطريقة الخطأ للاستجابة لموقف ما، أو بعبارة أخرى، طريقة رديئة من طرق الاستجابة؛ فالتفكير بهذه الطريقة سيعد تفكيرا نرجسيا من جانبنا على السياق الأخلاقي، كما لو أن كل ما يهم في الموقف هو أن نخرج منه ونحن نبدو صالحين (أو بالأحرى نكون صالحين). تخيل أن يقرر إيجور مساعدة أسيتا، لا لسبب سوى أن يكون صبيا صالحا. ثمة أمر محبط حيال هذا الدافع الأخلاقي، فما يتسم به من اهتمام نرجسي بالنفس يقوض احتمالية الفضيلة الحقيقية. النرجسية ليست من الفضيلة؛ ومن ثم لا يمكن أن نصبح صالحين من خلال التركيز على هدف واحد فقط وهو أن نكون صالحين. ربما لاحظت كذلك أننا إذا فكرنا وفقا لهذا المنظور فسوف نقترب كثيرا من قبول الخيار الثالث الاختزالي الذي وصفناه سابقا. حسب هذا الاقتراح، نكتشف الفعل الصائب عن طريق البحث عن الفعل الفاضل. والطريقة المثلى لاستيعاب هذا هي ببساطة المساواة بين التصرف على نحو فاضل والتصرف على نحو صائب. إذا رغب أحد في الدفاع عن هذه الصيغة الرابعة غير الاختزالية من نظرية الفضيلة، عليه تقديم رؤية للتفكير الأخلاقي الفاضل لا تقتصر على التفكير فيما سيعد فعلا فاضلا، لكنها لا تختزل نفسها كذلك في تطبيق صيغ أخرى للفعل الصائب. وكما قد نتوقع من منظري الفضيلة، ستتسم تلك الرؤية على الأرجح بالتعقيد.
خلاصة القول، يوجد أربع طرق لوصف العلاقة بين فعل الصواب والتصرف على نحو يلتزم الفضيلة. (1) التصرف على نحو فاضل هو نفسه فعل الصواب. (2) التصرف على نحو فاضل ينطوي على ما هو أكثر من فعل الصواب. (3) التصرف على نحو صائب هو نفسه التصرف على نحو فاضل (أو التصرف مثلما كان الأشخاص الصالحون سيتصرفون في نفس الظروف). (4) التصرف على نحو فاضل يختلف عن التصرف على نحو صائب (ولا توجد نظرية فلسفية مرضية توضح ماهية التصرف على نحو صائب، ومن الأفضل لنا ألا نعتمد على مفهوم الفعل الصائب كي نطرح أفكارا فلسفية مهمة). فحتى تصبح واحدا من منظري الفضيلة لا بد أن تدافع عن الطريقة الثانية والثالثة والرابعة وترفض الأولى. لكل صورة من صور نظرية الفضيلة الثلاث مناصروها، ولكل منها ميزة خاصة بها. تبدو الصورة الثالثة الأكثر منطقية؛ إذ لا تتطلب منا سوى تخصيص مكان مميز لدور الفضيلة في النظريات الأخلاقية التي نطرحها، في حين تبدو الصورة الرابعة الأكثر جذرية؛ إذ تتطلب منا التخلص من انجذابنا التلقائي إلى نظريات فعل الصواب مثل تلك التي عرضناها في الفصل السابق. لن نتخذ موقفا حاسما ها هنا؛ فالفيلم لا يساعدنا على التمييز بين تلك الخيارات أيضا. لكن ما يفعله، رغم ذلك، هو أنه يقدم دليلا قويا على أن الصيغ الثانية والثالثة والرابعة صحيحة وأن الصورة الأولى خاطئة.
الوعد وتأثيره
فلنرجع إلى الفيلم، حيث يعد إيجور حميدو أنه سيعتني بأسيتا وطفلها. في البداية لا يفعل الكثير لأجلهما. هو يساعدها على دق وتد (عمل بطولي حقا!) ويحضر لها موقدا يعمل بالخشب. هذه ليست المرة الأولى التي يبدي فيها إيجور اهتماما بأسيتا، فمنذ وصولها إلى النزل كان يراقبها. هو مفتون بها وبأسنانها البيضاء الرائعة، ونراه يحاول تبييض أسنانه بطرقه الخاصة (التي تتضمن وضع سائل تصحيح الأخطاء الكتابية الأبيض على أسنانه الأمامية، ما يجعله بالطبع يبدو مثل الإوزة). يجسد الفيلم تقاربا متناميا بين الصبي وأسيتا بعدما قطع الوعد لزوجها؛ فيحضر تضحيتها بدجاجة في طقوس روحانية (إذ تريد معرفة مكان زوجها)، ويعطيها مالا ويلقى جزاء هذا ضربا مبرحا من أبيه. يقوى الرباط بين إيجور وأسيتا تدريجيا، لكنه كان أكثر منها سعيا لذلك. صحيح أنها ترحب بمساعدته لكنها كذلك متحفظة وعازفة عن تشجيعه؛ هي لا تحمل عاطفه كبيرة تجاه هذا الصبي الأبيض الغريب الذي يبدي اهتماما يتعذر تفسيره بمصلحتها. في الوقت نفسه تضعف العلاقة بين الأب وابنه. لقد هيمن روجر على الصبي؛ فيلقي إليه بأوامر حادة، ولا يقبل أي نوع من المناقشة أو المعارضة، ويعاقبه بوحشية عندما يتصرف خلافا لمصالحه. يلجأ روجر إلى طرق متنوعة لمكافأة إيجور عندما يتعاون معه، ويحاول كذلك أن يعوضه عن نوبات غضبه العنيفة بشتى الطرق؛ فيهديه خاتما في إحدى المرات، ويساعده في رسم وشم أعلى ذراعه بالمنزل، ويشتركان معا في الغناء بأحد البارات. لكن شيئا ما في العلاقة بين الأب والابن انكسر بعدما ترك الأب حميدو يموت.
يتجلى ذلك في تعبيرات إيجور بقدر ما يتجلى في أفعاله. في بداية الفيلم، يستجيب إيجور لأوامر روجر بينما يعلو وجهه تعبير عن الرضا والإحساس بالأهمية. فعندما يتلقى أمرا بمغادرة مكان عمله في ورشة إصلاح السيارات والعودة إلى المنزل (لمساعده أبيه في التعامل مع مفتشي العمل) لا يظهر أي شيء يدل على أسفه للمغادرة. وعندما ينذره رئيسه في العمل، ويخيره بين تحدي أوامر أبيه أو خسارة وظيفته التدريبية، ينحاز إيجور إلى أبيه دون أدنى تردد أو قلق؛ فمساعدته مطلوبة في شئون أخرى أهم من إصلاح السيارات وضخ الوقود (الدقيقة 22 في الفيلم). عندما يستعين روجر بمساعدة إيجور في مهمة خداع أربعة من ساكني النزل وإرشادهم إلى شرطة الهجرة، يؤدي إيجور مهمته بينما تعلو وجهه مظاهر اللامبالاة والفتور (الدقيقة 16). مع توالي أحداث الفيلم، تلين تعبيرات إيجور، فيزداد عبوسه، ويبدو أكثر انشغالا وهشاشة واضطرابا. على سبيل المثال، قارن التعبير على وجه إيجور في مشهد الخداع (الدقيقة 16) ورد فعله في مشهد الهجوم على أسيتا (الدقيقة 45). في مشهد لاحق، يرتب روجر حادث اعتداء جنسي مفتعل على أسيتا في محاولة لإقناعها بالعودة إلى وطنها، بينما نتابع نحن التعبيرات على وجه إيجور؛ إذ ينصت إلى الصخب الناتج عن الهجوم، ومن رد فعله ندرك أنه كان على علم بترتيبات أبيه (لكنه لا يهرع لمساعدتها، ويستمر في تحميل حجارة الرصف). رغم ذلك يحكي وجه إيجور قصة مختلفة تماما عما بدا عليه في مشهد الخداع؛ فهو يبدو مكروبا ومستاء، كما لو كانت ألاعيب أبيه تثير اضطرابا وسأما في نفسه. (لا يؤدي هذا إلى تأثير بالغ الوضوح؛ فنطاق التعبيرات الذي يستخدمه جيريمي رينييه في تجسيد دور إيجور محدود؛ والتبدلات التي تبدو عليه ضئيلة وتكاد لا تلاحظ، لكنها رغم ذلك ظاهرة للجمهور. وبما أنها ردود فعل طبيعية فليس على الممثل سوى بذل جهد ضئيل للإشارة إلى هذا التغير في المواقف، وهو ما يقوم به جيريمي بالفعل.)
إن انتقال إيجور من الاستغلال الطائش للآخرين والطاعة العمياء لأوامر أبيه إلى تكوين هوية أخلاقية قوية يجسده الفيلم في صورة تطور في رد فعله العاطفي تجاه الآخرين. وهو اختيار يبدو صائبا حقا. فتوجد ثلاثة محفزات محتملة تدفع إيجور إلى العناية بأسيتا. أولا: وعده لحميدو المحتضر، والشعور بالالتزام الذي زرعه هذا الوعد في نفسه. ثانيا: تأنيب الضمير - وهو إحساس بمسئوليته عما حدث، ممتزجا بشعوره بالذنب والندم - الذي انتابه على الأرجح لدوره في مصرع حميدو. ثالثا: التجاوب العاطفي العميق الذي يبديه إيجور ناحية أسيتا، والذي ذكرناه سابقا. تلعب المحفزات الثلاث كلها على الأرجح دورا في تحريك أفعال إيجور، لكن الفيلم ينطوي على أدلة واضحة تدعم المحفز الأخير دون باقي المحفزات. إن الوعد الذي يقطعه إيجور في الفيلم يقتصر دوره في المقام الأول على إشعال شرارة اهتمامه العميق بأسيتا، وتجاوبه العاطفي معها ومع احتياجاتها. وبينما يحاول إنقاذها من روجر، لا يبدو أن الوعد هو محور اهتمامه الرئيسي بل أسيتا وطفلها.
لا يبدو أن شعور إيجور بالذنب نتيجة مصرع حميدو هو السبب الرئيسي الذي يدفعه في النهاية إلى تحدي والده وإنقاذ أسيتا (ولا ينبغي لنا توقع ذلك)، بل يبدو أن ما يدفعه في المقام الأول هو خوفه من المصير الذي يخفيه أبوه في جعبته لأسيتا. ما الذي يدفعنا إلى التفكير على هذا النحو؟ ففي نهاية المطاف، نحن نشاهد فيلما لا يكشف عن المشاعر الداخلية لشخصياته إلا من خلال أفعالهم والتعبيرات الانفعالية على وجوههم. إن روجر وإيجور كليهما لا يتمتعان بالقدرة على الإفصاح عن أفكارهما ومشاعرهما، والحالات التي يعبران فيها عما يدور بخلدهما نادرة، إن لم تكن منعدمة. وكلاهما يستخدم اللغة كأداة لإنجاز المهام، ونادرا ما يستخدمانها كوسيلة للتعبير والتواصل.
إذن كيف يستطيع المشاهدون تحديد الحافز الأقوى والأكثر إلحاحا لسلوك إيجور؟ العنصر الأول، والأهم، هو ما يعرضه الفيلم من أدلة لا تنقطع على نمو قدرة إيجور العاطفية وتجاوبه المتزايد تجاه أسيتا. وقد أفردنا بعضا من هذه الأدلة فيما سبق. العنصر الثاني هو أن إيجور لا يبدي تقريبا أيا من التعبيرات العاطفية التي تدل على انشغاله بذاته؛ فهو لا يعتصر فؤاده ندما، مثل ليدي ماكبث. ولا يبدي أي سلوك تعبيري يتوقع من شخص يشعر بالذنب، شخص مدفوع بانشغاله بمشكلاته الخاصة وموقفه الأخلاقي. ثالثا: دعم الأخوان داردين هذا التفسير من خلال تجسيد موقف منذر بالخطر يدفع إيجور إلى قطع علاقته مع أبيه. لقد زيف روجر برقية زعم أنها من حميدو تدعو أسيتا إلى الذهاب إلى مدينة كولونيا؛ إذ يخطط لبيعها إلى تجار الاسترقاق الجنسي. في هذا الموقف، لا يتاح لإيجور فرصة كبيرة للانشغال بنفسه وشعوره بالذنب، بل لا بد له من التركيز على أسيتا وكيفية إنقاذها. وهذا هو ما يفعله تحديدا (الدقيقة 57). ربما نظن أنه شخص مهووس بنفسه استجاب للموقف على نحو يحفظ في الأساس احترامه لذاته، أي أبدى ارتياعه لما سمح بحدوثه وانتابته كذلك مشاعر الرثاء للنفس والتقزز منها، لكن إيجور ليس كذلك.
15
ربما نتخيل أنه شخص عازم على الوفاء بوعده، فيفعل ما فعله لكن دون أن يبدي ما قد يدل على تجاوب عاطفي متزايد واهتمام عميق. لكن إيجور ليس كذلك أيضا.
إذا كان تفسيرنا صحيحا، تصبح شخصية إيجور أكثر ثراء من شخصية تسعى فحسب إلى الوفاء بوعد على مدار الفيلم. لم يف إيجور بوعده مدفوعا فحسب بحقيقة أنه قطعه على نفسه، أو لأنه يرى أن الوفاء بالوعد هو الصواب، بل يكتسب في خضم ذلك فضائل قوية، وتتألف تلك الفضائل مما هو أعظم بكثير من الميل إلى التصرف كما ينبغي. تكمن الفضائل بقدر كبير في داخلنا مثلما توجد خارجنا. يوضح الفيلم هذا؛ وبذلك يطرح دعما قويا لصورة أو أخرى من صور نظرية الفضيلة الثلاث التي حددناها في الفقرات السابقة. تذكر أن أحد الخيارات المعارضة لنظرية الفضيلة (الخيار الأول) التي ناقشناها ساوت الفضائل بالميل إلى فعل الصواب. لا ينبع تحول إيجور الأخلاقي من دافع كهذا فحسب. وإذا كان ينبع منه، لم نكن لنستجيب له على النحو الإيجابي نفسه. وهكذا يوضح الفيلم أن الخيار الأول زائف، وأن الفضيلة تجمعها علاقة وثيقة بالقدرة على التجاوب العاطفي. تذكر أننا ذكرنا أثناء مناقشتنا لمفهوم الفضيلة عند أرسطو أن الفضائل هي حالات تستحق تقديرا استثنائيا من حالات الشخصية؛ إنها أشكال تضفي علينا نبلا وتجسد أساس حياة صالحة تستحق العناء. في فيلم «الوعد» نشهد تحول إيجور من طفل يعيش حياة مهينة وبلا قيمة تقريبا، إلى شخص ناضج يستحوذ على إعجابنا بشدة. إن التحول الذي تشهده شخصية إيجور تحول جميل يحرك مشاعرنا. لكن من الواضح أيضا أن هذا التحول يرتبط ارتباطا وثيقا بطريقة شعوره وتفكيره وإدراكه، وحكمه على ما حوله، وكيفية تصرفه في ضوء هذا كله. تخيل شخصا يفي بوعد مثل الذي قطعه إيجور على نفسه لكن دون أي تحول مصاحب في شخصيته؛ من المستبعد أن يؤثر فينا هذا النموذج كثيرا. نستنتج من هذا أمرا ذا مغزى فلسفي؛ وهو أن الهوية الأخلاقية مسألة معقدة، ولا يمكن اختزالها في أداء الواجب الأخلاقي؛ فالفضائل مكونات لا غنى عنها في حياتنا الأخلاقية، تتجاوز أداء الواجب الأخلاقي. لا يهتم الفيلم بالتفريق بين تنويعات نظرية الفضيلة الثلاثة التي ناقشناها في الفقرات السابقة - الخيارات (2) و(3) و(4) - لكنه يفند الخيار (1) بكل حسم.
قدرة الفيلم على الإقناع الفلسفي تكمن في الطريقة العفوية غير العاطفية التي يجسد بها الانتصار الأخلاقي الصغير الذي يحققه إيجور. ربما كان السبيل الأمثل لتناول هذه المسألة هو النظر إلى الفيلم باعتباره دليلا فلسفيا على ما هو ممكن من منظور نظري يرتبط بالفضيلة. من الممكن تشكيل شخصية أخلاقية قوية حتى في ظل ظروف غاية في الصعوبة مثل هيمنة أب مستبد خسيس، وإحساس بالمسئولية والذنب، وهشاشة اجتماعية، وخوف من القانون. ربما لا تكون ردة فعل أبناء الخامسة عشرة في أغلب الأحيان إزاء التحديات التي يواجهها إيجور على النحو الذي كانت عليه ردة فعله إزاءها. لكنهم قادرون على ذلك. وعندما تصدر ردة الفعل هذه عنهم، يتضح دون شك أنهم حققوا أمرا بالغ القيمة؛ ومن ثم يستدعي الفيلم أفكارا بديهية حول قيمة الفضائل الأخلاقية المكتسبة، وهي أفكار في غاية القوة (إذ تفرض علينا تأثيرا قويا) ومفعمة بالحيوية (من الصعب تخيل شخص عاقل لا يتأثر بالفيلم على النحو الذي تأثرنا به). يحقق الفيلم هذا دون أن يسرف في استخدام سرد يتلاعب بالمشاهدين أو تقنيات سينمائية مؤثرة. إن التعاطف الذي نشعر به أثناء مشاهدة الفيلم واضح، ولم يفتعله صناع الفيلم بجعلهم شخصية إيجور شخصية ذات جاذبية أو سحر خاص، أو جعل شخصية أسيتا امرأة ودودة ومحبوبة إلى حد استثنائي. لا يركز الفيلم على المظاهر الخارجية لتحول إيجور باستخدام أي علامات مرئية أو موسيقية ، وينجح في تحقيق غرضه لأنه يعرض عرضا واضحا وبسيطا إلى حد كبير كيفية تحول أحد الأشخاص. إن الاكتفاء بوصف الفضائل الأخلاقية وتأثيراتها الإيجابية في الدراسات الفلسفية لا يمكن أن يحقق ما حققه فيلم «الوعد»، فلا يمكن أن يقدم دفاعا مقنعا عن قيمة وجمال الانحياز للصواب بنفس التأثير البديهي الذي يحققه هذا الفيلم الفطن البعيد عن العاطفية.
فضائل إيجور
ينمو إيجور أخلاقيا على مدار الفيلم، لكن كيف تأتى له هذا؟ لقد أصبح شخصا يتمتع بمزيد من الفضائل، لكن أي فضائل تحديدا اكتسبها؟ لدينا ثلاث فضائل رئيسية: الشجاعة والكرم والنزاهة. من المهم ملاحظة أن المسار الذي سلكه إيجور مسار صعب. أولا: كان عليه تحدي أبيه المتنمر. كان عليه التعامل مع تهديداته ومع توسلاته له على الهاتف فيما بعد (الدقيقة 6 من الساعة الثانية). واضطر إلى مواجهته جسديا، وكان ليتعرض لضرب مبرح لولا تدخل أسيتا في الوقت المناسب. يتطلب هذا شجاعة ملحوظة من فتى لا حول له ولا قوة، في الخامسة عشرة من عمره، يدرك مدى التهور الذي أضحى عليه أبوه، وما يقدر على فعله. الصعوبة الثانية التي واجهها إيجور هي تحديد علاقته مع أسيتا، فهي تصعب الأمور عليه، ولا تستجيب استجابة ودية لما يبذله من محاولات لمساعدتها. فعندما يغادر ويصحبها معه في شاحنة أبيه، تهدده بشفرة (الدقيقة 57)، وتزجره بحسم عندما يحاول فيما بعد عناقها بينما تنهمر الدموع من عينيه (الدقيقة 4 من الساعة الثانية). (بالتأكيد تساءلت متعجبة عما اعترى هذا الطفل الغريب.) لقد أصبح طفلها مريضا وتفاقم مرضه؛ ما يدفعها إلى مهاجمة إيجور وقذفه بالحجارة (حجارة صغيرة في الواقع، مجرد حصى) واتهامه بأنه نقل إلى طفلها عدوى المرض متعمدا (الدقيقة 8 من الساعة الثانية). (يستمر تعاطف الجمهور مع أسيتا دون تراجع لأنه قائم على تفهم مدى خطورة وشدة موقفها، والهشاشة التي يفرضها عليها، وقائم كذلك على الإعجاب بسعة حيلتها وإصرارها ومرونتها (وهي سمات أقل ما توصف به أنها مذهلة). في بداية اليوم الذي يشهد هذه الأحداث يرى المشاهدون (في حدث لا يراه إيجور) بلطجيا بلجيكيا يتبول عليها من أعلى جسر (الدقيقة الأولى من الساعة الثانية)؛ لا بد أنها بلغت أقصى حدود التحمل.) لا يدع إيجور هجوم أسيتا عليه يعوق تركيزه على ضرورة مساعدتها ومساعدة طفلها؛ فالشخص الكريم هو من يركز انتباهه بحكمة على حاجات الآخرين. فاحتياجات الآخرين هي محور تركيزه، وهو قادر على الاحتفاظ بهذا التركيز رغما عما يواجه من الإلهاءات. ليس الشخص الكريم من يساعد الآخرين عندما تكون مساعدتهم سهلة ومجزية، بل هو من يساعد وقتما تصعب المساعدة، ويسهل على المرء أن يتشوش ذهنيا، ويشعر بالاستياء، ويتهرب متحججا بعذر.
الصعوبة الثالثة التي يواجهها إيجور تتعلق بالحقيقة، وهنا تلعب فضيلة النزاهة دورا؛ لقد كذب إيجور على أسيتا حول مصير زوجها، وأخبرها مرارا وتكرارا أن حميدو هرب إلى مكان لا يعرفه. وحتى المشهد الأخير من الفيلم، كان إيجور يساعد أسيتا تحت ستار كذبته؛ فقد مكنته هذه الكذبة من مساعدتها. ولو قرر إخبارها بالحقيقة، فربما رفضت مساعدته، لكن من المستبعد أن يكون ذلك هو الدافع الوحيد وراء كذبته. على الأرجح ثمة دافع آخر وهو التهرب من ردة فعلها، أو بعبارة أخرى من غضبها وازدرائها واحتقارها المحتمل. تثير المواجهة الجسدية بين إيجور وأبيه هذا السؤال المتعلق بإخبار أسيتا بالحقيقة. في البداية يخبر أباه: «علينا إخبارها بالحقيقة. تعال معي، سوف أخبرها بنفسي» (الدقيقة 21 من الساعة الثانية). لكن ردة فعل روجر هي مطاردته وطرحه أرضا والشروع في ضربه، وهي اللحظة التي تتدخل فيها أسيتا، وتضرب روجر على رأسه. يقيد إيجور أباه الذي فقد الوعي، وعندما يستعيد وعيه يحاول إغواء ابنه، فيعرض عليه أن يمنح أسيتا مالا وحرية الذهاب لأي مكان ترغب فيه (ما دامت، كما نفهم ضمنا، لم تخبر بحقيقة ما حدث لحميدو). فيما يلي الحوار الذي دار بعد ذلك بين الأب وابنه:
روجر :
لماذا تريد إخبارها؟ ما فائدة ذلك؟ سوف ترحل، ولن نتحدث في الأمر مجددا أبدا (أعطني نظارتي على الأقل.)
البيت بنيته لك. لقد فعلت كل ما فعلته لأجلك. لأجلك فقط. أنت ابني.
إيجور :
اخرس! اخرس! اخرس!
حسنا ، ربما لم يصبح إيجور مدافعا مفوها عن الصدق، لكنه دافع عنه. وقد أضحى إخبار أسيتا بالحقيقة أمرا ذا أهمية محورية لديه.
16
وهو ما يفعله في المشهد الأخير من الفيلم حيث يخبرها بالحقيقة حول موت زوجها بينما هي على وشك الصعود على متن قطار متجه إلى إيطاليا والخروج من حياته للأبد. يخبرها إيجور بما حدث في بضع جمل بليغة ودقيقة بعيدة عن التكلف (الدقيقة 27 من الساعة الثانية). تزيح أسيتا وشاحا تغطي به رأسها وتستدير ببطء مبتعدة عن رصيف المحطة، ناظرة إلى إيجور نظرة طويلة متمعنة، ومفعمة بالحزن والقسوة. تغادر أسيتا محطة القطار، ويصاحبها أيجور. نشاهدهما وهما يسيران معا بعيدا إلى أن يختفيا عن أنظارنا. لا ندري ما الذي يحدث بعد ذلك، لكننا نعرف أن انتصار إيجور الأخلاقي قد تحقق.
أسئلة
واتانابي (الفصل العاشر)، ويسلر (الفصل الثاني عشر)، وإيجور (الفصل الرابع عشر) جميعهم يمرون بتحول أخلاقي عميق. ما أوجه الاختلاف بينهم؟ من كانت مهمته أصعب؟ ومن كان انتصاره الأبرز؟ (هل ثمة طريقة معقولة للإجابة عن هذه الأسئلة؟)
هل الأسلوب البسيط لفيلم «الوعد» يخدم الأغراض التي انصب تركيزنا عليها في هذا الفصل؟
أشرنا في هذا الفصل إلى أن قائمة الفضائل التي وضعها أرسطو ناقصة حقا. هل لديك قائمة أفضل؟ ما هي؟ ما الذي يجعل بعض الفضائل في قائمتك أساسية أو محورية؟ لماذا تحمل تلك الفضائل أهمية؟
في هذا الفصل، حددنا أربع طرق مختلفة للتفاعل بين نظرية الفضيلة ونظريات فعل الصواب. وقد ركزنا على تفنيد واحدة من تلك الطرق، وهي الطريقة الأولى. ما الطريقة الأكثر معقولية من الطرق الثلاث الأخرى؟ وأي هذه الطرق يعد الأقل معقولية؟
هل اختزال فعل الصواب في الفعل الفاضل يؤدي إلى نرجسية أخلاقية غير مقبولة؟ هل يوجد خطأ جذري في الاعتقاد بأن فعلا ما يصبح صوابا لا لسبب سوى كونه فعلا يلتزم بالفضيلة؟
هل نحن على صواب في زعمنا أن الفيلم يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن التمتع بالفضيلة ينطوي على ما هو أكثر من مجرد فعل الصواب (وفعله لأنك ترى أنه الصواب)؟ كيف استطاع الفيلم إثبات ذلك؟ لقد تناولنا فيلما واحدا فحسب، هل يجدر بنا التعميم بناء على نموذج إيجور؟
هل كان يفترض بإيجور الاستمرار في الكذب على أسيتا حول زوجها حتى اللحظة الأخيرة (قبل أن تستقل القطار المتجه إلى إيطاليا)؟ هل السبب وراء كذب إيجور (الذي لا يسعنا معرفته عن يقين) مهم لحكمنا على الوضع الذي يجسده الفيلم؟
هوامش
قراءات إضافية
الفصل الأول: لماذا الربط بين السينما والفلسفة؟
Adorno, T. W. (1982). “Transparencies on Film.”
New German Critique
24/25. Special Double Issue on New German Cinema (Autumn 1981-Winter 1982), 201-2.
Adorno, T. W., & M. Horkheimer (1990). “The Culture Industry: Enlightenment as Mass Deception.” In T. W. Adorno & M. Horkheimer,
Dialectic of Enlightenment.
New York: Continuum.
Benjamin, Walter (1969). “The Work of Art in the Age of Mechanical Reproduction,” trans. H. Zorn. In H. Arendt, ed.,
Illuminations.
New York: Schocken Books.
Blessing, Kimberly Ann, & Paul J. Tudico, eds. (2005).
Movies and the Meaning of Life:
Court.
Carlshamre, Staffan, & Anders Pettersson, eds. (2003).
Types of Interpretation in the Aesthetic Disciplines.
Montreal: McGill-Queen’s
Carroll, Noël (1988).
University Press.
Carroll, Noël (2004). “The Power of Movies.” In Peter Lamarque & Stein Haugom Olsen, eds.,
Aesthetics and the Philosophy of Art: The Analytic Tradition.
Oxford: Blackwell.
Carroll, Noël (2006). “Introduction: Film and Knowledge.” In Noël Carroll & Jinhee Choi, eds.,
Malden, MA: Blackwell, 381-6.
Carroll, Noël (2008).
The
Malden, MA: Blackwell.
Carroll, Noël, & Jinhee Choi (2006).
Anthology.
Malden, MA: Blackwell.
Cavell, Stanley (1981).
Happiness: The Hollywood Comedy of Remarriage.
Cambridge, MA: Harvard University Press.
Choi, Jinhee (2006). “Apperception on Display: Structural Films and Philosophy.” In Noël Carroll & Jinhee Choi, eds.,
Malden, MA: Blackwell, 165-72.
Colman, Felicity (2009).
Film, Theory and Philosophy: The Key Thinkers.
Durham: Acumen.
Deleuze, Gilles (1983).
L’image-mouvement.
Deleuze, Gilles (1985).
L’image-temps.
Devereaux, Mary, (1998). “Beauty and Evil: The Case of Leni Riefenstahl’s
Triumph of the Will. ” In J. Levinson, ed.,
Aesthetics and Ethics: Essays at the Intersection.
New York: Cambridge University Press.
Falzon, Christopher (2007).
2nd edn. New York: Routledge.
Flaxman, Gregory, ed. (2000).
The Brain is the Screen: Deleuze and the Philosophy of Cinema.
Minneapolis: University of Minnesota
Frampton, Daniel (2006).
Filmosophy.
London: Wallflower.
Freeland, Cynthia, & Thomas E. Wartenberg, eds. (1995).
London and New York: Routledge.
Gilmore, Richard A. (2005).
Doing
Albany, NY: State University of New York Press.
Grau, Christopher, ed. (2005).
New York: Oxford University Press.
Irwin, William, ed. (2002).
The Matrix and Philosophy: Welcome to the Desert of the Real.
Chicago: Open Court.
Isaacs, Bruce (2008).
Toward a New Film Aesthetic.
New York and London: Continuum.
Kania, Andrew, ed. (2009).
Memento:
London: Routledge.
Kupfer, Joseph (1999).
Visions of Virtue in Popular Film.
Boulder, CO: Westview
Light, Andrew (2003).
Reel Arguments: Film, Philosophy, and Social Criticism.
Boulder, CO: Westview Press.
Litch, Mary (2002).
through Film.
New York: Routledge.
Livingston, Paisley (2005).
Art and Intention: A Philosophical Study.
Oxford: Clarendon
Livingston, Paisley (2006). “Theses on Cinema as
(2006a), 11-18.
Livingston, Paisley (2008). “Recent Work on Cinema as
3, 1-12.
Livingston, Paisley, & Carl Plantinga, eds. (2008).
The Routledge Companion to Philosophy and Film.
London: Routledge.
Mullhall, Stephen (2002).
On Film.
London: Routledge.
Murdoch, Iris (1970).
The Sovereignty of Good.
Boston: Routledge & Kegan
Nussbaum, Martha (1990).
Love’s Knowledge.
Oxford: Oxford University
Review of Christopher Falzon (2002),
Goes to the Movies: An Introduction to Philosophy (London: Routledge).
Australian Book Review
242, June/July, 50-51.
Emotion.
Baltimore and London: Johns Hopkins University
Read, Rupert, & Jerry Goodenough, eds. (2005).
Film as Philosophy: Essays on Cinema After Wittgenstein and Cavell.
Basingstoke: Palgrave Macmillan.
Rowland, Mark (2005).
The
London: Ebury
Russell, Bruce (2006). “The Philosophical Limits of Film.” In Noël Carroll & Jinhee Choi, eds.,
Malden, MA: Blackwell, 387-90.
Scruton, Roger (1998) [Methuen, 1983]. “Photography and Representation.” In
The Aesthetic Understanding: Essays in the Philosophy of Art and Culture.
South Bend Indiana: St Augustine’s Press.
Singer, Irving (2007).
Ingmar Bergman, Cinematic Philosopher: Reflections on his Creativity.
Cambridge, MA: MIT
Smith, Murray (1995).
Engaging Characters: Fiction, Emotion and the Cinema.
Oxford: Oxford University Press.
Smith, Murray (2006). “Film Art, Argument, and Ambiguity.” In Murray Smith & Thomas E. Wartenberg (eds.). Malden, MA: Blackwell, 33-42.
Smith, Murray, & Thomas E. Wartenberg, eds. (2006a).
Thinking through Cinema: Film as
Malden, MA: Blackwell.
Smith, Murray, & Thomas E. Wartenberg (2006b). “Introduction.” In
Thinking through Cinema: Films as Philosophy.
Malden, MA: Blackwell, 1-9.
Stoehr, Kevin L., ed. (2002).
Film and Knowledge: Essays on the Integration of Images and Ideas.
Jefferson, NC: McFarland.
Stone, Alan A. (2007).
Movies and the Moral Adventure of Life.
Cambridge, MA: MIT
Truffaut, François (1954). “A Certain Tendency in French Cinema.” In
Cahiers du cinema .
Wartenberg, Thomas E. (2007).
Thinking on Screen: Film as Philosophy.
Basingstoke:
Wartenberg, Thomas E. (2009). “Film as Philosophy.” In
The Routledge Companion to Philosophy and Film.
London: Routledge, 549-59.
Yeats, W. B. (1956).
The Collected
New York: Macmillan, 240.
الفصل الثاني: الفلسفة والمشاهدة السينمائية
Adorno, T. W., & M. Horkheimer (1990). “The Culture Industry: Enlightenment as Mass Deception.” In T. W. Adorno & M. Horkheimer,
Dialectic of Enlightenment.
New York: Continuum.
Allen, P., & M. Smith, eds. (1997).
Film Theory and Philosophy.
Oxford: Clarendon Press.
Allen, R. T. (1986). “The Reality of Responses to Fiction.”
British Journal of Aesthetics
26.1, 64-8.
Bazin, Andre (1971).
What is Cinema?
Berkeley: University of California
Carroll, Noël (1988). Philosophical Problems of Classical Film Theory. Princeton: Princeton University
Carroll, Noël (2004a). “The Power of Movies.” In Peter Lamarque & Stein Olsen, eds.,
Aesthetics and the Philosophy of Art: The Analytic Tradition.
Oxford: Blackwell, 485-97.
Carroll, Noël (2004b). “Afterword: Psychoanalysis and the Horror Film.” In Steven Schneider, ed.,
The Horror Film and Psychoanalysis: Freud’s Worst Nightmares.
Cambridge: Cambridge University Press, 257-70.
Carroll, Noël (2008).
The
MA: Blackwell.
Carroll, Noël, & Jinhee Choi (2006).
Anthology.
Malden, MA: Blackwell.
Colman, Felicity (2009).
Film, Theory and Philosophy: The Key Thinkers.
Durham: Acumen.
Currie, Gregory (1990a).
The Nature of Fiction.
Cambridge: Cambridge University
Currie, Gregory (1990b). “Emotion and the Response to Fiction.” In
The Nature of Fiction.
Cambridge: Cambridge University Press, 182-216.
Currie, Gregory (1997). “The Paradox of Caring: Fiction and the Philosophy of Mind.” In Mette Hjort & Sue Laver, eds.,
Emotion and the Arts,
63-77.
Doane, Mary Ann (1993). “Subjectivity and Desire: An(other) Way of Looking.” In Anthony Easthope, ed.,
Contemporary Film Theory.
London: Longman, 161-78.
Easthope, Anthony, ed. (1993).
Contemporary Film Theory.
Longman: London.
Elsaesser, Thomas, & Malte Hagener (2010).
Film Theory: An Introduction through the Senses.
New York and London: Routledge.
Feagin, Susan, L. (1997). “Imagining Emotions and Appreciating Fiction.” In Mette Hjort & Sue Laver, eds.,
Emotion and the Arts,
50-62.
Freeland, Cynthia, & Thomas Wartenberg, eds. (1995).
New York and London: Routledge.
Freud, Sigmund (1993 [1927]). “Fetishism.” Reprinted in Anthony Easthope, ed.,
Contemporary Film Theory.
London: Longman, 27-32.
Gardner, Sebastian (1992). “The Nature and Source of Emotion.” In Jim Hopkins & Anthony Savile, eds.,
Wollheim.
Oxford: Blackwell, 35-54.
Gaut, Berys (1994). “On Cinema and Perversion.”
Film and Philosophy
1, 3-17.
Hanfling, Oswald (1996). “Fact, Fiction, and Feeling.”
British Journal for Aesthetics
36, 356-66.
Hartz, G. (1999). “How We Can Be Moved by Anna Karenina, Green Slime, and a Red Pony.”
74, 557-78.
Heinämaa, Sara (1995). “On Thoughts and Emotions: The
Acta
58, 269-86.
Joyce, R. (2000). “Rational Fear of Monsters.”
British Journal of Aesthetics
40.2, 209-24.
Lamarque, Peter (1981). “How Can We Fear and Pity Fictions?”
British Journal of Aesthetics
21.4, 291-304.
Levine, Michael (2000). “Lucky in Love: Love and Emotion.” In
The Analytic Freud: Philosophy and
London and New York, Routledge, 231-58.
Livingston, Paisley, & Carl Plantinga, eds. (2008).
The Routledge Companion to Philosophy and Film.
London: Routledge.
Matravers, Derek (1997). “The Paradox of Fiction: The Report versus the Perceptual Model.” In Mette Hjort & Sue Laver, eds.,
Emotion and the Arts,
78-92.
Miller, Toby, & Robert Stam, eds., (2003).
A Companion to Film Theory.
Blackwell Reference Online.
www.blackwellreference.com .
Moran, R. (1994). “The Expression of Feeling in Imagination.”
Review
103.1, 75-106.
Mulvey, Laura (1993 [1975]). “Visual Pleasure and Narrative Cinema.”
Screen
10.3, 6-18. Reprinted in Anthony Easthope, ed.,
Contemporary Film Theory.
London: Longman, 111-24.
Neil, Alex (1991). “Fear, Fiction and Make Believe.”
Journal of Aesthetics and Art Criticism
49, 48-56.
Novitz, D. (1987).
Knowledge, Fiction and Imagination.
Ideological Film Criticism.” In P. Allen & M. Smith, eds.,
Film Theory and Philosophy,
372-93.
Radford, C. (1975). “How Can We Be Moved by the Fate of Anna Karenina?”
Society,
Supplemental Vol. 49, 67-80.
Radford, C. (1977). “Tears and Fiction.”
52, 208-213.
Rorty, A. O. (1980). “Explaining Emotions.” In. A. O. Rorty, ed.,
Explaining Emotions
Berkeley: University of California Press, 103-26.
Säätelä, S. (1994). “Fiction, Make-Believe and Quasi Emotions.”
British Journal of Aesthetics
34, 25-34.
Schaper, E. (1978). “Fiction and the Suspension of Disbelief.”
British Journal of Aesthetics
18, 31-44.
Smith, Murray (1995a).
Engaging Characters: Fiction, Emotion, and the Cinema.
Oxford: Clarendon Press, 40-69.
Smith, Murray (1995b). “Film Spectatorship and the Institution of Fiction.”
Journal of Aesthetics and Art Criticism
53, 1-13.
Turvey, M. (1997). “Seeing Theory: On Perception and Emotional Response in Current Film Theory.” In R. Allen & M. Smith, eds.,
Film Theory and
Oxford: Oxford University Press, 431-57.
Walton, Kendall (1978). “Fearing Fictions.”
Journal of Philosophy
75, 5-27.
Walton, Kendall (1997). “Spelunking, Simulation, and Slime: On Being Moved by Fiction.” In Mette Hjort & Sue Laver, eds.,
Emotion and the Arts,
37-49.
الفصل الثالث: الحقيقة والوهم في فيلم «استعادة كاملة»
Descartes, René (1996).
Meditations on First Philosophy,
trans. John Cottingham. Cambridge: Cambridge University Press.
Dretske, Fred (1970). “Epistemic Operators.”
Journal of Philosophy
67, 1007-23.
Dretske, Fred (1971). “Conclusive Reasons.”
Australasian Journal of Philosophy
49, 1-22.
Dretske, Fred (1981). “The Pragmatic Dimension of Knowledge.”
40, 363-78.
Fogg, Martyn J. (1995).
Terraforming: Engineering Planetary Environments.
Warrendale,
Gettier, Edmund L. (1963). “Is Justified True Belief Knowledge?”
Analysis
23, 121-3.
Klein, Peter (1981).
Certainty: A Refutation of Skepticism.
Minneapolis: University of Minnesota Press.
Kornblith, H., ed. (2001).
Epistemology: Internalism and Externalism.
Oxford: Blackwell.
Moore, G. E. (1959).
New York: Macmillan.
Nagel, Thomas (1986).
The View from Nowhere.
Oxford: Oxford University
Nozick, Robert (1981).
Oxford: Oxford University
Reason, Truth and History.
New York: Cambridge University
Steup, Matthias (1996).
An Introduction to Contemporary Epistemology.
Upper Saddle River, NJ: Prentice Hall.
Steup, Matthias, & Ernest Sosa, eds. (2005).
Contemporary Debates in Epistemology.
Malden, MA: Blackwell.
Unger, P. (1975).
Ignorance: A Case for Scepticism.
Oxford: Clarendon
الفصل الرابع: علم الوجود و«المصفوفة»
Berkeley, George (1993).
ed. Michael R. Ayers. London: Dent.
Churchland, Paul (1981). “Eliminative Materialism and the
Journal of
78, 67-90.
Descartes, René (1996).
Meditations on First Philosophy,
trans. John Cottingham. Cambridge: Cambridge University Press.
Haldane, J. B. S. (1930).
Worlds and Other Papers.
London: Chatto and Windus.
Lawrence, Matt (2004).
Like a Splinter in your Mind: The Philosophy behind the Matrix Trilogy.
Malden, MA: Blackwell.
McGinn, Colin (1993).
Oxford: Blackwell.
The Republic,
translated and with an introduction by R. E. Allen. New Haven: Yale University Press.
Seager, William, & Sean Allen-Hermanson (2010). “Panpsychism.”
Stanford Encyclopedia of
.
http://plato.stanford.edu/entries/panpsychism/ .
Spinoza, Baruch (1994).
The Ethics and Other Works,
ed. and trans. Edwin Curley. Princeton:
Van Inwagen, Peter, & Dean W. Zimmerman (1998).
Metaphysics: The Big
Questions.
Oxford: Blackwell.
الفصل الخامس: العقل هو الأساس: «ذكاء اصطناعي» ومشاعر الحب لدى الروبوت
Chalmers, David (1996). The Conscious Mind : In Search of a Fundamental Theory.
Oxford: Oxford University Press.
Churchland, Patricia, & Paul Churchland (1990). “Could a Machine Think?”
Scientific American
262.1, 32-7.
Cole, David (2009). “The Chinese Room Argument.”
Stanford Encyclopedia of Philosophy .
http://plato.stanford.edu/entries/chinese-room/ .
Dennett, Daniel (1989).
The Intentional Stance.
Cambridge, MA: MIT
Dennett, Daniel (1991).
Consciousness Explained.
Boston, Toronto, London: Little, Brown.
Jackson, Frank (1982). “Epiphenomenal Qualia.”
32, 127-36.
Jackson, Frank (1986). “What Mary Didn’t Know.”
Journal of Philosophy
83, 291-5.
Kirk, Robert (2006). “Zombies.”
Stanford Encyclopedia of Philosophy .
http://plato.stanford.edu/entries/zombies/ .
Lewis, D. (1988). “What Experience Teaches.”
13, 29-57. Reprinted in Lycan (1990).
Ludlow, P., Y. Nagasawa, & D. Stoljar, eds. (2005).
There is Something about Mary: Essays on
Argument.
Cambridge, MA: MIT
Lycan, W. G., ed. (1990).
Mind and Cognition.
Oxford: Blackwell.
Nagel, Thomas (1979).
Mortal Questions.
Cambridge: Cambridge University
Nida-Rümelin, Martine (2009). “Qualia: The Knowledge Argument.”
Stanford Encyclopedia of
.
http://plato.stanford.edu/entries/qualia-knowledge/ .
Oppy, Graham, & David Dowe (2011). “The Turing Test.”
Stanford Encyclopedia of
.
http://plato.stanford.edu/entries/turing-test/ .
Views into the Chinese Room: New Essays on Searle and Artificial Intelligence.
New York: Oxford University
Searle, John (1980). “Minds, Brains and Programs.”
Behavioral and Brain Sciences
3, 417-57.
Searle, John (1984).
Minds, Brains and Science.
Cambridge, MA: Harvard University
Turing, Alan (1950). “Computing Machinery and Intelligence.”
Mind
59, 433-60.
الفصل السادس: «جسر المطار» وحلم السفر عبر الزمن
Bradbury, Ray (1952). “A Sound of Thunder.” In
R is for Rocket.
New York: Doubleday.
Davies, Paul (1995).
About Time: Einstein’s Unfinished Revolution.
London:
Davies, Paul (2002).
How to Build a Time Machine.
London: Penguin.
Dowe, Phil (2000). “The Case for Time Travel.”
75, 441-51.
Gott, J. Richard (2001).
Time Travel in Einstein’s Universe: The Physical Possibilities of Travel Through Time.
Boston: Houghton Mifflin.
Grey, William (1999). “Troubles with Time Travel.”
74, 55-70.
Le Poidevin, Robin (2003).
Travels in Four Dimensions: The Enigmas of Space and Time.
Oxford: Oxford University Press.
Lewis, David (1976). “The Paradoxes of Time Travel.”
American
13, 145-52.
Lockwood, Michael (2005).
The Labyrinth of Time: Introducing the Universe.
Oxford: Oxford University Press.
الفصل السابع: القدر والاختيار: فلسفة «تقرير الأقلية»
Campbell, C. A. (1967).
In Defence of Free Will and Other Essays.
London: Allen & Unwin Ltd.
Clarke, Randolph (2003).
Libertarian Accounts of Free Will.
Oxford: Oxford University Press.
Clarke, Randolph (2008). “Incompatibilist (Nondeterministic) Theories of Free Will.”
Stanford Encyclopedia of Philosophy .
http://plato.stanford.edu/entries/incompatibilism-theories/ .
Dennett, Daniel (1984).
Elbow Room: The Varieties of Free Will Worth Having.
Cambridge, MA: MIT Press.
Fischer, John Martin (1994).
The Metaphysics of Free Will.
Oxford: Blackwell.
Fischer, John Martin (1998).
Responsibility and Control.
Cambridge: Cambridge University Press.
Fischer, John Martin (1999). “Recent Work on Moral Responsibility.”
Ethics
110, 93-139.
Fischer, John Martin (2010). “The Frankfurt Cases: The Moral of the Stories.”
Review
119, 315-36.
Fischer, John Martin, & Mark Ravizza (1992). “When the Will is Free.” In Timothy O’Connor, ed.,
Agents, Causes, and Events: Essays on Indeterminism and Free Will.
New York: Oxford University Press, 239-69.
Frankfurt, Harry (1969). “Alternate Possibilities and Moral Responsibility.”
Journal of
66, 829-39.
Frankfurt, Harry (1988).
The Importance of What We Care About.
Cambridge: Cambridge University Press.
Frankfurt, Harry (2003 [1982]). “Freedom of the Will and the Concept of a Person.” In Gary Watson, ed.,
Free Will.
2nd edn. Oxford: Oxford University Press, 81-95.
Honderich, Ted (1988).
A Theory of Determinism.
Oxford: Oxford University
Kane, Robert (1996).
The Significance of Free Will.
New York: Oxford University
Nozick, Robert (1995). “Choice and Indeterminism.” In Timothy O’Connor, ed.,
Agents, Causes, and Events: Essays on Indeterminism and Free Will.
New York: Oxford University Press, 101-14.
O’Connor, Timothy, ed. (1995).
Agents, Causes, and Events: Essays on Indeterminism and Free Will.
New York: Oxford University
O’Connor, Timothy (2000).
and Causes: The Metaphysics of Free Will.
New York: Oxford University Press.
Living Without Free Will.
Cambridge: Cambridge University
Free Will: A Very Short Introduction.
Oxford: Oxford University
Strawson, Galen (1986).
Freedom and Belief.
Oxford: Clarendon Press.
Van Inwagen, Peter (1983).
An Essay on Free Will.
Oxford: Oxford University
Watson, Gary, ed. (2003).
Free Will.
2nd edn. Oxford: Oxford University
Wegner, Daniel (2002).
The Illusion of Conscious Will.
Cambridge, MA: MIT
Widerker, David, & Michael McKenna, eds. (2002).
Moral Responsibility and Alternative
Aldershot: Ashgate
الفصل الثامن: الهوية الشخصية: دراسة فيلم «تذكار»
Baker, L. R. (2000).
Bodies: A Constitution View.
Cambridge: Cambridge University Press.
Forrest, Peter (2010). “The Identity of Indiscernibles.”
Stanford Encyclopedia of
.
http://plato.stanford.edu/entries/identity-indiscernible/ .
Lewis, David (2003). “Survival and Identity. In Raymond Martin & John Barresi, eds.,
Identity.
Oxford: Blackwell, 144-67.
Martin, Raymond, & John Barresi, eds. (2003).
Oxford: Blackwell.
Olsen, Eric T. (1997).
The Human Animal: Personal Identity Without Psychology.
Oxford: Oxford University Press.
Olsen, Eric T. (2002). “An Argument for Animalism.” In Raymond Martin & John Barresi, eds.,
Oxford: Blackwell, 318-34.
Olsen, Eric T. (2007).
What Are We? A Study in Personal Ontology.
Oxford: Oxford University
Reasons and
Oxford: Oxford University
Raymond Martin & John Barresi, eds.,
Oxford: Blackwell, 292-317.
Journal of Philosophy
69, 463-88.
Identity.
Los Angeles: University of California
Thompson, Richard F., & Stephen A. Madigan (2005).
Memory: The Key to Consciousness.
Van Inwagen, Peter (1990).
Material Beings.
Ithaca: Cornell University
Williams, Bernard (2002). “The Self and the Future.” In Raymond Martin & John Barresi, eds.,
Oxford: Blackwell, 75-91.
الفصل التاسع: مشهد الرعب: «ألعاب مسلية»
Carroll, Noël (1990).
The
London: Routledge.
Carroll, Noël (1995). “Enjoying Horror Fictions: A Reply to Gaut.”
British Journal of Aesthetics
35, 67-72.
Clover, Carol (1992).
Men, Women and Chain Saws: Gender in the Modern Horror Film.
London: British Film Institute.
Crane, Jonathan Lake (1994).
Terror and Everyday Life: Singular Moments in the History of the Horror Film.
London: Sage.
Dworkin, Andrea (1981).
London: The Women’s
Freeland, Cynthia A. (1995). “Realist Horror.” In Cynthia A. Freeland & Thomas Wartenberg
New York: Routledge, 126-42.
Freeland, Cynthia A., & Thomas Wartenberg (1995).
New York: Routledge.
Freud, Sigmund (1989).
Civilization and Its Discontents,
trans. and ed. James Strachey. New York:
Norton.
Gaut, Berys (1993). “The Paradox of Horror.”
British Journal of Aesthetics
33, 333-45.
Jones, Ernest (1931).
On the Nightmare.
London: Hogarth Press and Institute of
Langton, Rae (1990). “Whose Right? Ronald Dworkin, Women, and Pornographers.”
19, 311-59.
Langton, Rae (1993). “Speech Acts and Unspeakable Acts.”
22, 293-330.
Carroll, eds.,
Studies.
Wisconsin: University of Wisconsin Press, 71-86.
Schneider, Steven J. (2004).
Horror Film and Psychoanalysis: Freud’s Worst Nightmare.
Cambridge: Cambridge University Press.
Tudor, Anthony (1997). Why Horror? The Peculiar Pleasures of a Popular Genre.”
Cultural Studies
11, 443-63.
West, Caroline (2003). “The Free Speech Argument Against
Canadian Journal of
33.3, 391-422.
الفصل العاشر: البحث عن معنى في جميع الأماكن الخطأ: «أن تحيا» (إيكيرو)
Babel, Isaac (1932). “Guy de Maupassant.”
Camus, Albert (1955 [1942]).
The Myth of Sisyphus and Other Essays.
New York: Knopf.
Ecclesiastes (2011 [1973]). New International Version Bible.
Edwards, Paul (1981). “The Meaning and Value of Life.” In E. D. Klemke, ed.,
The Meaning of Life.
New York: Oxford University
Hikmet, Nazim (1975).
Things I Didn’t Know I Loved, Selected Poems.
York.
Larkin, Philip (1974). “Sad Steps.” In
High Windows.
New York: Farrar, Strauss and Giroux, 32.
Levine, Michael P. (1988). “Camus, Hare, and The Meaning of Life,”
Sophia
27, 13-30.
Levine, Michael P. (1988). What Does Death Have To Do With The Meaning of Life?”
Religious Studies
24, 457-65.
Nozick, Robert (1981). “Philosophy and The Meaning of Life.” In
Explanations.
Cambridge, MA: Harvard University Press, 571-650.
(2005). 34.3. Issue on The Meaning in Life.
Russell, Bertrand (1981 [1903]). “A Free Man’s Worship.” In E. D. Klemke, ed.,
The Meaning of Life.
Oxford: Oxford University Press, 55-62.
Sartre, Jean-Paul (1957).
Existentialism and Human Emotions.
New York: Philosophical Library.
http://www.questia.com/PM.qst?a=o&d=59487415 .
Spender, Stephen (1986). “What I Expected.” In
Collected Poems 1928-1985.
New York: Random House.
Taylor, Paul W. (1975).
of Ethics.
Encino, CA: Dickenson.
Thomas, Dylan (1952 [1937]). “Do Not Go Gentle Into That Good Night.” From
The Poems of Dylan Thomas.
New York: New Directions.
Thoreau, Henry David (2004 [1854]).
Walden and Other Writings,
edited with an introduction by Joseph Wood Krutch. Bantam: New York,.
Wartenberg, Thomas (2007).
Thinking on Screen: Film as Philosophy.
Basingstoke: Palgrave Macmillan.
Wittgenstein, Ludwig (1961 [1921]).
Tractatus Logico-Philosophicus.
London: Routledge & Kegan Paul.
Wolf, Susan (2007). “The Meanings of Lives.” In John Perry, Michael Bratman, & John Martin Fischer, eds.,
Introduction to Philosophy: Classical and Contemporary Readings.
New York: Oxford University
62-73.
الفصل الحادي عشر: «جرائم وجنح» وهشاشة الدافع الأخلاقي
Allingham, Michael (2002).
Choice Theory: A Very Short Introduction.
New York: Oxford University Press.
Aune, Bruce (1979).
Kant’s Theory of Morals.
Ewin, R. E. (1991).
Virtues and Rights: The Moral Philosophy of Thomas Hobbes.
Boulder: Westview Press.
Gauthier, D. (1969).
The Logic of “Leviathan”: The Moral and Political Theory of Thomas Hobbes.
Oxford: Clarendon Press.
Herman, Barbara (1993).
The
Cambridge, MA: Harvard University Press.
Hill, Thomas E. (1992).
Dignity and
Ithaca: Cornell University Press.
Hobbes, Thomas (2008 [1651]).
Leviathan.
Cambridge: Cambridge University
Kant, Immanuel (1999). “Groundwork of the Metaphysics of Morals.” In
, ed. and trans. Mary J. Gregor. Cambridge, Cambridge University
Kavka, G. (1986).
Hobbesian Moral and Political Theory.
O’Neill, Onora (1975).
Acting on
New York: Columbia University
Raphael, D. D. (1977).
Hobbes: Morals and Politics.
London: Routledge.
Rudebusch, George (2009).
Socrates.
Oxford: Wiley-Blackwell.
Sorell, T. (1986).
Hobbes.
London: Routledge and Kegan
Vlastos, Gregory (1991).
Socrates: Ironist and Moral Philosopher.
Cambridge: Cambridge University Press.
Wilson, Emily (2007).
The Death of Socrates.
Cambridge, MA: Harvard University
Wood, Allen (2008).
Kantian Ethics.
Cambridge: Cambridge University
الفصل الثاني عشر: «حياة الآخرين»: الحظ الأخلاقي والندم
Berlin, Isaiah (1967). “Two Concepts of Liberty.” In Anthony Quinton, ed.,
Oxford: Oxford University Press, 141-52.
Calhoun, Cheshire (1995). “Standing for Something.”
Journal of Philosophy
92, 235-60.
Cox, Damian, Marguerite La Caze, & Michael Levine (2003).
Integrity and the Fragile Self.
London: Ashgate.
Cox, Damian, Michael Levine, & Saul Newman (2009).
and Democracy in the War on Terror.”
London: Palgrave Macmillan.
Dillon, Robin S. (1997). “Self-Respect: Moral, Emotional,
Ethics
107, 226-49.
Haraszti, Miklos (1987).
The Velvet
New York: Basic Books.
Havel, Václav (1985 [1978]). “The Power of the Powerless: To the Memory of Jan Patocka.” Reprinted in John Keane, ed.,
The Power of the Powerless: Citizens Against the State in Central-Eastern Europe,
trans. Paul Wilson. London: Hutchinson.
http://www.vaclavhavel.cz/Index.php?sec=6&id=2&kat=&from=6&setln=2 .
Hawker, Philippa (2007). Review of
The Lives of Others. The Age (Melbourne, Australia), March 29.
http://www.theage.com.au/news/film-reviews/the-lives-of- others/2007/03/29/1174761613403.html .
Kittay, Eva Feder (1982). “On Hypocrisy.”
Metaphilosophy
13, 277-89.
Martin, Mike (1986).
Self-Deception and Morality.
Lawrence, KS: University Press of Kansas.
McKinnon, Christine (1991). “Hypocrisy, With a Note on Integrity.”
American Philosophical Quarterly
28, 321-30.
Nagel, Thomas (1979).
Mortal Questions.
Cambridge: Cambridge University
Nussbaum, Martha (1986).
The Fragility of Goodness.
Cambridge: Cambridge University
Richards, Norvin (1986). “Luck and Desert.”
Mind
95, 198-209.
Thomson, Judith Jarvis (1986).
Rights, Restitution, and Risk.
Cambridge, MA: Harvard University Press.
Walker, Margaret Urban (1991). “Moral Luck and the Virtues of Impure Agency.”
Metaphilosophy
22, 14-26.
Williams, Bernard (1981). “Moral Luck.” In
Moral Luck: Philosophical Papers 1973-1980.
Cambridge: Cambridge University Press, 20-39.
Zimmerman, Michael (1987). “Luck and Moral Responsibility.”
Ethics
97, 374-86.
الفصل الثالث عشر: «فارس الظلام»: باتمان وأخلاق الواجب والنظرية العواقبية
Hooker, Brad (2000).
Ideal Code, Real World: A Rule-Consequentialist Theory of Morality.
Oxford: Oxford University Press.
Kagan, Shelly (1998).
Normative Ethics.
Boulder: Westview.
Kamm, F. M. (2007).
Intricate Ethics: Rights, Responsibilities, and
Oxford: Oxford University Press.
Kant, Immanuel (1996). “On a Supposed Right to Tell Lies from Benevolent Motives.” In
, ed. and trans. Mary J. Gregor. Cambridge: Cambridge University Press.
Korsgaard, Christine (1986). “The Right to Lie: Kant on Dealing with Evil.”
Affairs
15, 325-49.
Mill, John Stuart (1987).
Utilitarianism and Other Essays.
New York:
Nielsen, Kai (1990).
Ethics Without God.
Buffalo, NY: Prometheus Books.
The Republic,
translated and with an introduction by R. E. Allen. New Haven: Yale University Press.
Rawls, John (1971).
A Theory of Justice,
Cambridge: Belknap Press of Harvard University
Scarre, Geoffrey (1996).
Utilitarianism.
London: Routledge.
Singer, Peter (1993).
Ethics.
Cambridge: Cambridge University
Skorupski, John (2006).
Why Read Mill Today?
London: Routledge.
Unger, Peter (1996).
Living High and Letting Die.
Oxford: Oxford University
Wood, Allen (2008).
Kantian Ethics.
Cambridge: Cambridge University
الفصل الرابع عشر: طفولة خطرة: «الوعد» واحتمالية الفضيلة
Adams, Robert Merihew (2006).
A Theory of Virtue.
New York: Oxford University
Anscombe, G. E. M. (1958). “Modern Moral Philosophy.”
33, No. 124.
http://www.philosophy.uncc.edu/mleldrid/cmt/mmp.html .
Aristotle (2000).
Nicomachean Ethics,
trans. Roger Crisp. Cambridge: Cambridge University Press.
Doris, John (2002).
Lack of Character: Personality and Moral Behaviour.
Cambridge: Cambridge University Press.
Driver, Julia (2001).
Uneasy Virtue.
New York: Cambridge University
Franklin, Benjamin (1986 [1791]).
The Autobiography and Other Writings.
London: Penguin Classics.
Harman, Gilbert (1999). “Moral Philosophy Meets Moral
Society
99, part 3.
Hursthouse, Rosalind (1999).
On Virtue Ethics.
Oxford: Oxford University
MacIntyre, Alasdair (2007).
After Virtue.
3rd edn. Notre Dame: University of Notre Dame
The Blank State: The Modern Denial of Human Nature.
London: Penguin Books.
Singer, Peter (1972). “Famine, Affluence and Morality.”
1, 229-43.
Slote, Michael (2001).
Morals from Motives.
Oxford: Oxford University
Tessman, Lisa (2005).
Burdened Virtues.
New York: Oxford University
Unknown page