Shicr Wa Fikr
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
Genres
لنترك لهلدرلين نفسه الإجابة على هذه الأسئلة، قبل أن نخوض في الحديث عن صلته بالفلاسفة، ومحاولاتهم المستمرة لتأويل شعره وفكره.
إن أوضح ما قاله وأبسطه وأشمله أيضا قد ورد في روايته الشاعرية الوحيدة، وهي رواية «هيبريون»، وهو يأتي في إحدى رسائل هيبريون، بطل الرواية الذي يحكي قصة حياته واتحاده بالطبيعة الإلهية الخالدة وحبه البائس ل «ديوتيما»، وكفاحه لتحرير وطنه «اليونان» من قبضة الأتراك. والرسالة إلى صديقه الألماني «بلارمين»، وهي تقع في الكتاب الثاني من المجلد الأول من الرواية، حيث تلتقي جماعة الأصدقاء في بيت المحبوبة ديوتيما، ويتصل بينهم الكلام عن أمجاد اليونان، وعظمة الأثينيين وفطرتهم الإنسانية الأصيلة التي صانتهم من الاستبداد، وعسف الطغاة، وجعلتهم بحق أمة الشعر والفلسفة والحوار. ويعرف هيبريون من حبيبته أن جبل «الأوليمب» على مسيرة يوم واحد، فيهتف في لهفة: لا بد أن نذهب على الفور إلى هناك. ويركبون السفينة في اليوم التالي، في الساعة التي يستيقظ فيها البشر على صياح الديك، ويبدءون رحلة الحج إلى مهد الآلهة وربات الفن تحت شمس الربيع الخالدة، والحياة من حولهم وفي أعماقهم كالجزيرة التي ولدت في المحيط، وهبطت عليها أول بشائر النور والاخضرار.
ويتصل بهم الحديث عن مجد الأثينيين. ويقول أحدهم: إن الأصل فيه هو المناخ، ويقول الآخر: بل هو الفن والفلسفة، ويزعم الثالث أنه الدين ونظام الدولة والحكم. ويعترض هيبريون على هذه الآراء، فيقول: إن ما ذكره الأصدقاء هو زهرة الشجرة وثمرتها، لا تربتها وجذورها. لقد نشأ الأثينيون أحرارا من كل قيد، فأتاحت لهم هذه النشأة أن يكونوا آدميين بحق، وأن يبلغوا الإنسانية الجميلة الكاملة. لم يقهرهم قانون الاستبداد، كالإسبرطيين، ولم يستعبدهم طغيان القانون، كشعوب الشمال، ولم تذل طفولتهم عبادة الآلهة الضخمة والفراعنة كالمصريين الذين تعلموا الركوع قبل أن يتعلموا المشي على الأقدام، ولقنوا الصلاة قبل أن يلقنوا الكلام ... لقد نمت طفولتهم في حرية وبساطة، ولم يقهرها أحد على الدخول في مدرسة الحرب والنظام والقانون والعبادة والطاعة قبل الأوان.
وهكذا كان الأثيني إنسانا، وهكذا تحتم أن يصبح رجلا. خرج جميلا من بين يدي الطبيعة، جميل الجسد والروح على السواء. وأول أبناء الجمال البشري والإلهي هو الفن. فبفضله يتجدد شباب الإنسان، ويحقق طبيعته الإلهية في صورة أو تمثال أو معبد يجسد به جماله أمام عينيه. هكذا خلق الإنسان آلهته؛ إذ كان في الأصل والمبدأ هو والآلهة شيئا واحدا وكيانا واحدا. وثاني أبناء الجمال هو الدين. فالدين في حقيقته حب الجمال. والحكيم يحب هذا الجمال الشامل غير المتناهي، والشعب يحب أبناءه الذين يظهرون له في صورة الآلهة المتعددة الأشكال. ولولا هذا الحب الذي بذله الأثينيون للجمال، ولولا هذا الدين لبقيت دولتهم أو مدينتهم الحرة هيكلا عظيما خاليا من الروح والحياة، ولظل فكرهم وسلوكهم كالشجرة المبتورة بلا جذور تمتد في الأرض ولا ذؤابة ترتفع للسماء.
كان الفن والدين إذن أبناء الجمال الخالد، ولكنهما كانا كذلك أبناء الطبيعة الإنسانية الكاملة. ومن يتأمل أعمال الإغريق في الفن، أو يقرأ أساطيرهم وخرافاتهم، لا يملك نفسه من الإعجاب بنزعتهم الإنسانية التي عرفت دائما كيف تحافظ على الحد والاعتدال، وكيف تصون نفسها عن التطرف والشطط، وهو عندهم أشنع الخطايا وأكبر الكبائر.
ولكن كيف استطاع هذا الشعب الأديب الفنان أن يصبح شعبا فيلسوفا، بل شعب الفلسفة الأصيل؟
لولا الأدب ما كانت الفلسفة. ويخطئ من يظن أن لا صلة بين صوت القلب الدافئ الحنون وبين صوت العقل البارد المتعالي. فالأدب - والشعر بوجه خاص - هو مبدأ الفلسفة وغايتها. إنها تخرج منه كما خرجت منيرفا (أو أثينا) الحكيمة من رأس سيد الأدباء جوبيتر (أو زيوس). الأدب في صميمه ارتفاع بالإنسان إلى وجود أسمى ، والفلسفة تهتم في صميمها بالمبدأ الأول والغاية الأخيرة، ولا بد أن يصب نهرها البطيء المتعرج في نبع الأدب الحافل بالأسرار.
من لم يشعر ولو مرة واحدة في حياته بالجمال الخالص الكامل، من لم يحس بقوى الوجود وهي تتماوج وتتفاعل في نفسه كما تتماوج ألوان الطيف في قوس قزح، من لم يجرب في لحظات الدهشة والوجد والحماس كيف تتشابك الموجودات، وينسجم كل شيء مع كل شيء، فلن يكون في استطاعته أن يتفلسف أو يتشكك، ولن يقدر عقله إلا على الهدم لا على البناء؛ لأن المتشكك لا يرى النقص والعيب والتناقض فيما يعرض لفكره، إلا لأنه يحس انسجام الجمال الذي لا عيب فيه، ولا نقص، ولا تناقض، أو لأن لديه رؤية غامضة عنه، وإن لم يسعه التفكير فيه. إنه يزور عن الخبز الجاف الذي يقدمه إلى العقل؛ لأنه قد أكل حتى التخمة على مائدة الآلهة.
والكلمة العظيمة التي أطلقها هيراقليطس وهي الواحد المختلف أو المتفرق في ذاته «هين ديافيرون نيآوتي» لم يكن من الممكن أن يعثر عليها، أو ينطق بها إلا رجل إغريقي؛ لأن كنه الجمال موجود فيها، ولم يكن من الممكن أن توجد الفلسفة قبل أن يهتدي الإنسان إلى جوهر الجمال.
وجد الكل أولا، فأمكن أن يوجد التحديد والتعيين. تفتحت الزهرة ونضجت، ثم استطاع الإنسان أن يحلل ويفسر. أعلن الجمال عن نفسه، تجلى للبشر، دبت فيه الحياة والروح، وجد الواحد غير المتناهي، ثم أقبل عليه الإنسان، فأخذ يحلل ويفرق بالعقل، وأخذ يجمع ما تفرق، ويؤلف ما حلل وجزأ. هكذا استطاع أن يعرف كنه الأسمى والأفضل والأعظم، واستطاع أن يجعل مما عرفه قانونا يسري على مختلف مجالات العقل. وهكذا أتيح للأثيني أن يتفلسف، ولم يتح هذا للمصري ولا للشرقي. فالأول قد أحس المشاعر المتناقضة نحو السماء والأرض، شعر نحوها بالحب والكره والخشوع والخوف في وقت واحد. عاش متحدا مع العناصر التي تؤثر عليه؛ لأنه عاش متحدا مع نفسه وطبيعته، فسهل عليه أن يرى الجمال الخالد في كل ما يقع عليه بصره، أما الثاني فقد قهرته السماء الجبارة، والصحراء الشاسعة، والطاغية المستبد المخيف. تعلم أن يركع قبل أن يمشي، وأن يصلي قبل أن يتكلم. تعبد وأطاع وملكته الرهبة من الآلهة الضخمة والأسرار المقنعة والتماثيل الصامتة والملوك المتسلطين الظالمين. تفتتت نفسه أجزاء قبل أن تعرف الوحدة. ولهذا فهو لا يعرف شيئا عن الواحد ولا عن الجمال. إيزيس عنده لغز صامت مخيف، بداية ونهاية، عدم مرتفع شامخ، لكنه فارغ خواء، ولا يخرج من العدم إلا العدم.
Unknown page