تقديم
ثورة الشعر الحديث
لم الشعراء في الزمن الضنين؟
بين الشعر والفلسفة
جوته وعصره1
حنين مبارك
أمضي كل الأيام «أنجارتي» وغموض الشعر الحديث
أربع قصائد1
ذات ليلة ... في الزمان
كف نفسك
ليوناردو ... والفلاسفة1
ما التنوير؟
الإجابة على سؤال: ما هو التنوير؟
إلى أين يسير العالم؟
خواطر عن مصر
هذه الخواطر ...
للصادقين أنعاك
الله والفتوات والعلم
العالم والتاريخ والأسطورة1
شهادة1
وحوار ...1
تقديم
ثورة الشعر الحديث
لم الشعراء في الزمن الضنين؟
بين الشعر والفلسفة
جوته وعصره1
حنين مبارك
أمضي كل الأيام «أنجارتي» وغموض الشعر الحديث
أربع قصائد1
ذات ليلة ... في الزمان
كف نفسك
ليوناردو ... والفلاسفة1
ما التنوير؟
الإجابة على سؤال: ما هو التنوير؟
إلى أين يسير العالم؟
خواطر عن مصر
هذه الخواطر ...
للصادقين أنعاك
الله والفتوات والعلم
العالم والتاريخ والأسطورة1
شهادة1
وحوار ...1
شعر وفكر
شعر وفكر
دراسات في الأدب والفلسفة
تأليف
عبد الغفار مكاوي
تقديم
بعد عشرين عاما ينضم هذا الكتاب إلى شقيقيه السابقين اللذين ظهرا للنور سنة ألف وتسعمائة وسبع وستين، وهما «البلد البعيد» و«مدرسة الحكمة»، وهو يضيف إلى تجاربهما الثلاثين في الأدب والفلسفة على الترتيب عشرين تجربة أخرى في الشعر والفكر. وإذا كان الكتابان المذكوران قد قدما تجارب مختلفة كابدها المؤلف مع شخصيات وأعمال ومواقف متنوعة لعدد من الأدباء والفلاسفة صدرت كلها عن تشابك الفكر والعاطفة، والفلسفة والفن، كما حاولت أن تبين للقارئ أن التذوق والتأمل كليهما لا يستغنيان عن الحب والتعاطف والمشاركة، دون أدنى تفريط فيما يقتضيه منهج البحث من أمانة ودقة واستقصاء، فإن هذا الكتاب الذي يواصل الرحلة نفسها يحاول أن يجمع الطرفين في مركب واحد، ويخاطر بدخول تلك الأرض الحرام التي تشف فيها الحدود التقليدية بين الشعر والفكر، لتنفذ في النهاية إلى ما يمكن وصفه بشعر الفكر وفكر الشعر. ولهذا جاء عنوان الكتاب تعبيرا عن اللحن الأساسي الذي لم يتوقف صاحبه عن ترديده والتنويع عليه، كما عبرت المقالات أو بالأحرى المحاولات المختلفة التي يضمها بين دفتيه عن تلك التجربة المحورية بطرق مباشرة أو غير مباشرة.
سيلاحظ القارئ المتعاطف مع إنتاجي السابق أن بعض المحاولات في هذا الكتاب قد تطورت خلال العشرين سنة الماضية، وتبلورت في كتب كاملة. ف «ثورة الشعر الحديث» كانت إرهاصا بالكتاب الكبير الذي يحمل نفس العنوان (ظهر جزآه الأول والثاني عن هيئة الكتاب في سنتي 1972م، 1974م)، «ولم الشعراء في الزمن الضنين؟» كانت مقدمة أولية لكتاب عن «هلدرلين» شاعر الغربة والاغتراب (صدر سنة 1974م عن دار المعارف)، «وجوته وعصره» ثمرة لقاء حميم مع شاعر الألمان الأكبر الذي سبق أن عشت مع ديوانه الشرقي في «النور والفراشة» (1979م)، وترجمت بعض روائعه كالحكاية والأقصوصة (1966م)، ومسرحية توركواتو تاسو (1967م)، وكتبت العديد من المقالات عن أشعاره ورواياته. فإذا اتجه القارئ إلى الفكر والمقالات والدراسات التي تناولته، وجد أنها محاولات مع روح الشكل - إن صح هذا التعبير - ومجاهدات لتحقيق التزاوج العسير بين الفكر والفن، بحيث يلتف الفكر في غلالة الفن، وينهل الفن من نبع الفكر.
وكل هذا يعبر كما قلت عن اقتناع أكدته تجربة حياتي وعملي العقلي والوجداني، سواء في الفلسفة التي أعيش من تدريس تاريخها منذ ما يقرب من ربع القرن، أو في الأدب الذي بدأت طريقي فيه بكتابة القصة القصيرة والمسرحية والمقالة، وما زلت أكافح للاستمرار في السير عليه على الرغم من كل المرارات والمعوقات.
ولقد ازداد ميلي في السنوات الأخيرة إلى الاعتقاد بأن الفيلسوف يمكن أن يكون في صميمه فنانا وأديبا انتزع الفكرة المجردة من إطارها المحسوس، وقنع بالنواة الجافة دون الثمرة الحية، وأن الفنان والأديب في حقيقته فيلسوف كسا الفكرة بالصورة الحسية وأحياها بالعاطفة الجياشة. لست أريد من ذلك أن أخلط بينهما، فلكل طريقته ورؤيته ومنهجه بطبيعة الحال، ولن يرضى الفيلسوف أن نجعله شاعرا أو أديبا، كما لن يسعد الأديب والشاعر أن نحشره مع الفلاسفة في نظام أو نسق فلسفي محدد، ولكن المقصود أن التفاعل بينهما عميق وأكيد، وإن يكن غير مباشر وشديد التعقيد، وأنه قد آن الأوان لرفع الحواجز السميكة، وإزالة الأسلاك الشائكة التي طالما فصلت بينهما (راجع المسألة من جوانبها المختلفة في ليوناردو والفلاسفة وبين الشعر والفلسفة، وتأمل كذلك بعض جوانبها في الدراستين المترجمتين اللتين تعالج إحداهما قضية العلم والعلمانية في واحدة من أخطر الروايات العربية الحديثة، وقضية الرؤية وتعلمها من المنهج الظاهرياتي والفلسفة الفينومينولوجية عند مؤسسها هسرل).
والواقع أن الأمر - فيما يخصني على الأقل - لم يكن محاولة لجعل الفكر شاعريا أو وضع الشعر في قوالب الفكر. لقد كان في الحقيقة أبعد ما يكون عن التعمد والقصد؛ لأنه ظل على الدوام نزعة تلقائية تحكمها عوامل التكوين والطبع والمزاج بجوانبها البيولوجية والثقافية ... ومحاولاتي في الكتابة الفلسفية عن أفلاطون على سبيل المثال في صورة الخاطرة الشاعرية، أو عن الحكماء السبعة في صورة لوحات درامية، بجانب محاولات أخرى في كتابة الخاطرة والمقالة الفنية والقصة والمسرحية والبكائية، قد لا تعبر فحسب عن الصراع الذي عانيته، وما زلت أعانيه بين الفلسفة والشعر، وبين العلم والإبداع، بل ربما تجاوزت ذلك إلى محاولة التجريب في الشكل وتأصيله، ومواصلة المحاولة التي بدأها روادنا الإحيائيون لمد الجسور بين جذورنا التراثية التي نتشبث بها والتجارب العالمية التي نحرص على استيعابها والإفادة منها. ولذلك فإن المحاولات التي تطل عليها اليوم - مهما يكن الرأي في جدواها وفي قدرتها أو عجزها عن التغيير والتأثير - هي في الواقع جزء لا يتجزأ من محاولات جيل أتشرف بالانتماء إليه، جيل أخلص الجهد في هذه المواجهة الحضارية المستمرة، وسواء لقي الجحود والنكران، أو حظي في حياته أو بعد موته بشيء من العرفان والتقدير، فالأهم من ذلك في ميزان الحقيقة الحرة المنصفة أنه أخلص وصدق، وحاول أن يتقن عمله قبل كل شيء، ويجود بالعطاء دون أن ينتظر الجزاء.
إن الكاتب يقدم شهادته على الحقيقة بقدر ما يسعه من الجهد، وفي هذا الكتاب شهادة واعتراف، ستشعر بهما خصوصا في الحوار والشهادة اللذين رأيت من واجبي ومن حق التاريخ أن أضيفهما للكتاب. وإذا كانت هذه الشهادة لا تخلو من الأسى والحسرة على جدوى الكلمة التي لم تتحول بعد إلى فعل قادر على التغيير، ولم تجد حيلة - أمام سقوط القيم وظواهر الانهيار والانتحار الحضاري التي لم تعد خافية على أحد - سوى أن تلجأ إلى الهمس والمناجاة، فإنها لا تركن لليأس، ولا تعدم الإصرار على الأمل في تجاوز الواقع المشوه السائد إلى واقع آخر ممكن، ولا بد من المغامرة والتجريب لتحقيقه. وهذا الكتاب بتجاربه المتواضعة يشارك في السعي لتحقيق الأمل المشترك.
وهل الحياة والفن والأدب والعلم في النهاية إلا تجارب ومحاولات؟
القاهرة في أغسطس 1987م، عبد الغفار مكاوي
ثورة الشعر الحديث
ملامح وخطوط
1
قصيدة الشعر كائن لغوي حي، يدين لصاحبه بالوجود، كما يدين للعصر الذي عاش فيه، والجو الفكري والحضاري الذي تنفس هواءه. والعصر الحديث بالمعنى الواسع لهذه الكلمة قد بدأ مع بداية الثورة الصناعية باكتشاف القوى البخارية والمائية، ثم مضى الإنسان في صراعه المستمر للانتصار على الطبيعة، واستغلالها وتجريدها من أسرارها وألغازها، حتى وصل به إلى قمة القلق على حياته ومصيره مع اكتشاف الطاقة الذرية، وسباقه على غزو الفضاء.
ولقد تغيرت نظرة الإنسان إلى الطبيعة كما تغيرت نظرته إلى نفسه وإلى المجتمع البشري في خلال القرنين الأخيرين تغيرات كبيرة صاحبت ثوراته الصناعية والاجتماعية والدينية والعقلية، أو تأثرت بها ونتجت عنها، وانعكست بالضرورة على وجدان الشاعر، وظهرت في تعبيره الفني فيما يمكن أن نسميه بثورة الشعر الحديث أو بالأحرى ثوراته المتعددة. فحين كان الناس من حوله مشغولين بالواقع الخارجي، وبالسيطرة على الطبيعة، وبناء المصانع، والمدن الحديثة، واستغلال الأرض، وإنتاج المزيد من السلع، كان هو يقف من ذلك كله موقف المؤيد حينا والمعارض في معظم الأحيان، فيمجد التغيير السياسي والاجتماعي مرة، أو ينصرف إلى تأمل ذاته، واستكشاف عالمها الباطن المستتر في اللاشعور أو الرمز أو الأسطورة مرات. وكل من ينظر إلى تطور الفكر والحضارة في المائة والخمسين سنة الأخيرة لا بد أن يلاحظ مدى التغير الذي تم في هذين المجالين في وقت واحد: في مجال المجتمع والطبيعة، وفي مجال النفس والعالم الباطن.
وطبيعي أن هذا التطور في اكتشاف العالم الباطن قد سار في تيارات معقدة، وأنه كان يختلف في أوروبا وأمريكا من حيث العصر والمزاج والحركة الأدبية التي يرتبط بها هذا الشاعر أو ذاك، ولكن هذا التطور كان يتتابع في حلقات متتابعة ينبع أحدها من الآخر. فالرومانتيكية كانت كامنة في الكلاسيكية التي أرادت أن تبعث القديم وتطوره، والرمزية هي ذروة النضوج التي وصلت إليها الرومانتيكية المزدهرة في إنجلترا وفرنسا وألمانيا، والواقعية كانت رد فعل للرمزية على اختلاف أشكالها واتجاهاتها.
ولقد كان الشاعر - الذي خلع عن نفسه صفة الناظم إلى الأبد - يحاول في أثناء هذا كله أن يكتشف مجاهل عالمه الباطن كما يكتشف لغته ويعيد بناءها لتكون قادرة على الإيحاء بعالمه الجديد. صحيح أن هذه التيارات والمدارس التي ذكرتها تختلف فيما بينها باختلاف البلاد وطبائع الأفراد، كما أن لكل منها خصائصه المعقدة المتمايزة وشعراءه المختلفين عن بعضهم أشد الاختلاف، إلا أننا نستطيع أن نقول بوجه عام إن حركة اكتشاف الواقع الخارجي التي كادت تصل إلى نهايتها - على الأقل من ناحية السطح والظاهر - لم تستطع في مجال الواقع الداخلي أن تنتهي من اكتشاف عالم الباطن أو «أفريقيا الباطنة» كما يسميها أحد الكتاب، بل لعل الأقرب إلى الصواب أن نقول إن كل المحاولات والمغامرات الجريئة التي يقوم بها الشعراء منذ قرن ونصف قرن لم تزد «أفريقياهم» هذه إلا سوادا وكثافة، في الوقت الذي فرغ فيه زملاؤهم الجغرافيون من زمن طويل من اكتشاف أفريقيا، حتى لم يعد أحد يجرؤ اليوم على تسميتها بالقارة السوداء.
إن الصورة العامة للشعر الحديث والمعاصر صورة محيرة، ولن يقربنا منها سوى الرجوع إلى الأصول التي مهدت لها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وإلقاء نظرة على ملامحها الفردية عند بعض من يمثلونها أصدق تمثيل. ولما كان هذا شيئا يتجاوز حدود هذا المقال، فليس أمامنا إلا تقديم بعض الملامح والخطوط العريضة لما سميناه ثورة الشعر الحديث.
نشأ الأسلوب الشعري الذي يسيطر اليوم على القرن العشرين في فرنسا لا في أي بلد آخر، وكان ذلك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولقد مهد له الشاعر الكبير بودلير (1821-1867م)، بعد أن ظهرت بوادره عند شاعر الرومانتيكية الألمانية نوفاليس (1772-1801م)، والشاعر الكاتب الأمريكي إدجار آلان بو (1809-1849م)، حتى وصل الشاعران رامبو (1854-1891م) ومالارميه (1842-1898م) إلى أبعد الحدود التي يمكن أن يصل إليها الشعر.
والواقع أن الشعر في القرن العشرين يبدو كأنه لم يعد يأتي بجديد. وليس في هذا القول ما يغض من قيمته، أو يقلل من شأن الشعراء المجيدين فيه، ولكنه يتيح لنا التعرف على وحدة الأسلوب التي تربطه بأولئك الرواد العظام. ووحدة الأسلوب التي نقصدها لا تعني الاطراد ولا الملل، ولكنها تدلنا على الروح العامة التي تجمع بين الشعراء على اختلافهم في اللون والموضوع والأداء. فنحن لا نستطيع مثلا أن نتحدث عن وحدة الأسلوب عند شاعرين مثل لامارتين وسان - جون - بيرس في اللغة الفرنسية، أو ليوباردي وأنجارتي في الإيطالية، أو جوته وجوتفريد بن في الألمانية، أو شوقي وأدونيس في العربية، ولكننا نستطيع أن نتحدث عن شعراء مثل رلكه وألبرتي وإليوت ورينيه شلر، على ما بينهم من اختلاف في النشأة والنظرة والأصالة والمزاج. والمهم هو أن نعرف أن الظواهر التي رأت النور في القرن الماضي ما زالت تؤثر على الحياة الشعرية حتى اليوم. وسواء تبين لنا أن شاعرا من الشعراء قد تأثر بسلفه أو لم يتأثر، فإن ذلك لن يعفينا من التسليم بحقيقة مهمة تسري على الشعر سريانها على سائر الفنون، ألا وهي أن لكل عصر روحه وأسلوبه الملزم، وأن هناك نهجا في الرؤية والإحساس والأداء لا يزال يسود الشعر الأوروبي منذ أكثر من مائة عام. ولا يصح أن ننخدع بكثرة المدارس والبرامج الأدبية التي ظهرت في أقل من قرن من الزمان، فقد لا يكون هذا التنوع الهائل سوى نوع من خداع البصر، يبين مدى خصوبة الشعر الحديث، وتعدد الفروق والظلال فيه، ولكن لا يجوز أن يحجب عنا وحدة الروح العامة التي تسوده وتتغلغل فيه.
إن من يتصفح بعض المراجع في تاريخ الأدب يجدها تتحدث عن الرمزية، وتكاد تتفق على تحديد نهايتها بسنة 1900، ولكن هل انقطع تأثير أقطابها - وفي مقدمتهم مالارميه - على شعراء متأخرين مثل فاليري وجوين وأنجارتي وإليوت؟ وهل انقطع سيل المدارس و«المودات» الأدبية في الشعر أو في غيره من الفنون من دادية ومستقبلية وتعبيرية وسيريالية وحديثة وما وراء الحديثة ... إلخ؟ القارئ يعرف الجواب، فلنحاول أن ننظر معا في بعض الملامح والخطوط العامة في هذه الصورة المحيرة التي يقدمها لنا الشعر الحديث.
1
ليس من العسير أن نضع أيدينا على اتجاهين رئيسيين في بناء الشعر الحديث سار فيهما رامبو ومالارميه في القرن الماضي. فهناك إن شئنا التبسيط ما يمكن تسميته بالشعر المتحرر من الشكل أو الشعر غير المنطقي في جانب، وهناك الشعر العقلي الملتزم بالشكل المحكم الدقيق في جانب آخر. أما هذا الاتجاه الأخير، فيعبر عنه فاليري (1871-1945م) في سنة 1929 بقوله: «إن القصيدة ينبغي أن تكون عيدا من أعياد العقل.» وأما الاتجاه الآخر المضاد، فيعبر عنه رائد المدرسة السيريالية أندريه بريتون (1886-1967م) حين يقول: «ينبغي أن تكون القصيدة حطام العقل.» أو حين يقول: «إن الكمال هو الكسل.»
ووجود هذه الأضداد في شعر القرن العشرين شيء يرتبط بصورته العامة. فليس الأمر مجرد خلاف بين حزبين متعارضين، بل هو تعبير عن قطبين يدور حولهما الشعر الحديث كله، وقد يمثلان صراعا تدور رحاه في وجدان الشاعر الواحد بين العقل والفوضى، والنظام والحلم، والتجريد والهلوسة. وعلى الرغم من اختلاف النموذجين فهما يؤكدان مشاركتهما في وحدة البناء العام التي تميز الشعر الحديث. فالشعر العقلي والشعر غير المنطقي يشتركان في بعدهما عن العاطفية المسرفة، وزهدهما في قابلية الفهم، وتخليهما عن الشيئية المعتادة، وإيثارهما للإيحاء، واستثارة الخيال، وجعلهما من القصيدة كيانا مستقلا بنفسه، يكمن مضمونه في لغته الحرة وخياله الطليق ولعبه بالأحلام لا في محاولة «نسخ» العالم أو «التعبير» عن العواطف. وكل هذه أشياء تصدم القارئ العربي وتحيره؛ لأنه اعتاد من الشعر أن يصور ويعبر، ولكن لا بد له من تقبلها وتعويد نفسه عليها إذا أراد أن يجد طريقه إلى الشعر والفن التشكيلي والموسيقى الحديثة. (2) البحث عن لغة جديدة
كان من الطبيعي أن تكون لغة الشعر الجديد لغة جديدة، فتفسير قصيدة من هذا الشعر يحتاج منا أن نقف عند أسلوبها في الأداء أطول بكثير من الوقوف عند موضوعها أو مضمونها أو الباعث عليها. كان في استطاعة الناقد فيما مضى أن يبين للقارئ مضمون القصيدة من الشعر القديم. وكان ذلك أمرا ممكنا ومقبولا ومفيدا؛ إذ كان هدف الناقد والشاعر أن يخطبا ود القارئ، ويمهدا له طريق الإحساس بقصيدة كتبت بلغة تخدم نظام حياته الطبيعية. غير أن الأمر مع الشعر الحديث يختلف عن ذلك اختلافا كبيرا. فليس من الممكن أن نفهم قصيدة من شعر إليوت أو سان - جون - بيرس أو أنجارتي من مضمونها، وإن كانت لا تخلو بالطبع من مضمون أو مجموعة من المعاني المتصلة بعالم هذا الشاعر أو ذاك. فأسلوب الأداء هو المظهر اللغوي المباشر للتحول الذي طرأ على الواقع والمألوف في هذا الشعر. لقد اختل التوازن القديم بين مضمون العبارة وأسلوب أدائها، وأصبح الأسلوب الجديد بما فيه من تنافر وتضاد وإغراب وقلق وتقطع وفجوات هو الذي يلفت الانتباه قبل كل شيء سواه. فنحن لا نستطيع الآن كما كان الحال قديما أن نشغل أنفسنا بمضمون القصيدة عن الأسلوب الذي تم به التعبير عن هذا المضمون؛ لأن التباين بين أسلوب التعبير والشيء المعبر عنه قد أصبح من أهم قوانين الشعر الحديث. هذا الأسلوب المتنافر الشاذ قد زاد ثقله في القصيدة، حتى كاد يجرد الموضوعات التي يلمسها من أهميتها، بل من وجودها نفسه. فالقصيدة تتحاشى الاعتراف «بموضوعية» العالم الواقع خارج الذات أو داخلها، وإذا تناولت بعض بقايا هذا العالم الموضوعي الخارجي، فهي إنما تستخدمها أداة لتحريك المخيلة ودفع طاقتها على التحوير والتبديل. وليس معنى هذا أن الشعر الحديث يقصر نفسه على موضوعات قليلة أو عديمة الشأن، كما فعل مالارميه مثلا. وحتى إذا حدث هذا، فلا يمنع أن تكون هناك قصائد تزدحم بالموضوعات والأشياء تخضع الآن لتركيبة جديدة وأسلوب جديد في الرؤية والأداء، وأنها قد أصبحت مادة تتحكم فيها طاقة الذات الشاعرة، وقدرتها على التخيل، وفقدت كثيرا جدا من «موضوعيتها وشيئيتها». ولو لم يكن الأمر كذلك لما استطاع الشاعر الحديث أن يؤلف بين أشياء لا تآلف بينها في الواقع والطبيعة، ويرمز إلى أشياء لا يتطابق فيها الرمز والمرموز إليه ، ويشبه بين أمور لا وجه للتشابه بينها على الإطلاق.
أسلوب الشاعر الجديد إذن يأبى على المضمون أن يكون له وجود متماسك وقيمة في ذاته. إنه لا يكف عن البحث عن اللغة الجديدة. إنه يريد كما يقول أبوللينير (1880-1918م)، لغة جديدة لا يدري النحويون عنها شيئا، ولكن كيف ستبدو هذه اللغة المفاجئة الناشزة؟
يقول «أراجون» (1897-1942م) في مقدمة ديوانه «عيون إلزا»: إن الشعر لا وجود له إلا بفضل الخلق الجديد المستمر للغة، وذلك بتحطيم النسق اللغوي، وتكسير قواعده، وتغيير ترتيبه المعتاد في الكلام. والشاعر «ييتس» يقول: «ليست لي لغة، فكل ما أملكه لا يزيد عن مجموعة من الصور والتشبيهات والرموز.» وفي قصيدة «إليوت» المشهورة «أربعاء الرماد» نجد هذا البيت الغريب: «لغة بلا كلمة، وكلمة بلا لغة». وسان - جون - بيرس يتحدث عن التركيب اللغوي لديه، فيشبهه بالبرق والصاعقة، وكأنما يتفق هؤلاء الشعراء جميعا على أن هذه اللغة الجديدة لن تقوم لها قائمة حتى تحطم اللغة القديمة وتكسر قواعدها المألوفة وتحل التنافر والتعارض والغرابة محل التجانس والتناسق والنظام.
معنى هذا أن اللغة الجديدة ستصبح لغة مفاجئة للقارئ، لا بل معادية له. ولقد ألح الشعراء والفنانون الجدد على كلمة الصدمة أو المفاجأة، حتى صارت تعبيرا اصطلح عليه الفن الجديد من عهد بودلير. يؤيد هذا ما يقوله فاليري من أن أي دراسة للفن الحديث في نصف القرن الأخير لا بد أن تبين كيف كانت تثار مشكلة الصدمة كل خمس سنوات. وهو نفسه يعترف بأن شعر رامبو ومالارميه قد أثرا عليه تأثير الصدمة المفاجئة عند قراءته لأول مرة. والسيرياليون يتحدثون عن «الأذهال» الذي ينبغي أن يحدثه الشعر الجديد، ويذهب زعيمهم «بريتون» إلى حد القول بأن الشعر إنما هو إعلان للتمرد والاحتجاج، كما يقول سان - جون - بيرس (1887م) أن «ترف الشذوذ» هو أول مواد السلوك الأدبي. وكأني بهذه اللغة الجديدة لم تحرص منذ عهد الرومانتيكية على شيء حرصها على الاحتجاج، وكأنها لم تسع إلى شيء سعيها إلى زيادة الهوة التي تفصل بين الشاعر وجمهوره، بحيث لا نغالي إذا قلنا إنها تحاول عن قصد أو غير قصد أن تصدمه وتفاجئه وتعاديه؛ ذلك لأن الاهتمام بالأسلوب وحده قد أصبح هدفا في ذاته، يختفي وراءه المعنى والموضوع والمضمون، ويستوي معه أن يتناول خلود الروح، أو يصف حذاء قديما أو علبة صفيح فارغة. (3) اللغة سحر وإيحاء
من خصائص الشعر الحديث أنه أصبح منذ عهد رامبو ومالارميه نوعا من السحر اللغوي. وكثيرا ما تظهر فكرة الإيحاء في كتابات النقاد في القرن العشرين في كلامهم عن التأثير الشعري. فبرجسون في كتابه «المعطيات المباشرة للشعور» (1889م) قد جعل منه عنصرا أساسيا من نظريته في الفن، وكثير من الرسامين والموسيقيين يحدثوننا عن أثره في إنتاجهم. والمقصود بالإيحاء هو تلك اللحظة التي يطلق فيها الشعر «العقلي» طاقات وإشعاعات روحية يؤخذ القارئ بسحرها، وإن لم يفهم منها شيئا. هذه الإشعاعات الإيحائية تأتي في الغالب من الطاقات الحسية التي تزخر بها اللغة، أعني من الإيقاع والنغم والصوت. وقد تأتي من تلك المعاني والدلالات التي توحي بها الكلمة أو تحدثها مجموعة الترابطات الشاذة بين كلمات لا تجمع بينها صلة ظاهرة ولا مألوفة. فمثل هذا الشعر الإيحائي الذي يعتمد على سحر اللغة يزيد من سلطان الكلمة ويجعلها أصل الفعل البشري وأول أسبابه. إنه لا يعتبر العالم حقيقة واقعة؛ لأن الكلمة وحدها هي الواقع بالنسبة إليه. ومن هنا نفهم ما يقوله بعض الشعراء المحدثين - مثل ماكليش - من أن القصيدة لا تدل على شيء، بل توجد أو تكون. ومعظم الشروح والتعليقات التي تقدم لما يسمى ب «الشعر المحض» تدور حول هذه الفكرة. ويظهر أن المبدأ الشعري الذي قال به «إدجار ألن بو» قد ثبتت صحته في حركة الشعر الجديد. فالشاعر الكاتب الأمريكي يرى أن يصمم الشاعر قصيدته مبتدئا بقوة النغم الكامنة في اللغة والسابقة على المعنى، فإذا تم له ذلك استطاع بعدئذ أن يضفي عليها المعنى الذي سيظل على الدوام شيئا ثانويا. وقريب من هذا ما يقوله الشاعر الألماني «جوتفريد بن» من أن القصيدة تكون قد تمت بالفعل قبل البدء فيها، ولكن الشاعر لا يكون قد عرف نصه اللغوي بعد، ولعل شعر «بن» نفسه أن يكون من أصدق الأمثلة على أصالة الكلمة، وسبق الصوت على المعنى. ولعل هذا المبدأ هو الذي مكنه من معالجة أبعد الموضوعات عن الشعر، وجعلها مع ذلك شاعرية.
وفي شعر رامون خيمينيز (1881-1958م) وهنري ميشو (1899م) وتوماس إليوت شواهد كثيرة على هذا التأثير السحري - بل المغناطيسي في بعض الأحيان - الذي يأتي من نغم الألفاظ، أو من تكرار بعض الأبيات بشكل مستمر، أو من مجرد اللعب بالمقاطع والألفاظ أو بداياتها، بحيث تخلق توافقات إيقاعية وتركيبات موسيقية تنفذ مباشرة إلى الأذن، وإن لم تصل إلى العقل، وما ذلك إلا لأن هذا الشعر يعتبر اللغة طاقة نغمية قبل كل شيء. ولا شك أن أبرز ممثليه من الشعراء العقليين هما الشاعران فاليري الفرنسي وجوين الإسباني. (4) شعر بلا منطق أو وراء المنطق
وعلى الطرف الآخر من هذا الشعر النابع من تراث مالارميه نجد ما يمكن أن نسميه بالشعر اللامنطقي، شعر الهواجس والأحلام و«الهلوسات» الصادرة عن حياة اللاشعور الباطنة. والشعراء الذين يمثلون هذه النزعة يتأثرون برامبو ولوتريمو (1846-1870م) وعلوم الأسرار وكيمياء المعادن القديمة وكتابات اليهود المعروفة بالقابالا. فشعرهم هو شعر الأحلام - بالمعنى النقي لهذه الكلمة - سواء أكانت أحلاما ترى في النوم أم أحلام يقظة تصطنع بالعقاقير والمخدرات. وذات الشاعر في هذا الحلم الشعري الذي يخلقه الخيال، أو يرى في المنام ذات منسلخة عن الواقع تؤمن بأن الإنسان هو سيد العالم بفضل ملكة الحلم التي وهبت له وحده.
فالشعر اللامنطقي يستفيد إذن، مثله في ذلك مثل الشعر العقلي، من قدرة الإنسان على تخيل الصور غير الواقعية، ولكنه في حالتنا هذه يتلقى تلك الصور من أعمق طبقات الحلم، ولا يتدخل في ترتيبها. إن الإنسان عند شعراء الحلم، كما يقول بريتون، ليس وحشا ذهنيا، ولكنه - بفضل أبحاث فرويد ويونج - كائن ينطوي على قوى مظلمة مجهولة تكمن في أعمق أعماق وجدانه. وتفسير «يونج» للأدب بوجه عام، وللشعر بوجه خاص أنه ينشأ تحت تأثير «رؤى أولية» تعيش في اللاشعور الجمعي، وما الشاعر إلا «الوسيط» الذي تتدفق خلاله هذه الرؤى. وبذلك تكون عملية التشكيل الفني عملية ثانوية إلى جانب الاهتمام بهذا العالم المعتم السحيق القدم.
ومن الطبيعي أن يكون لهذا تأثيره على السيرياليين ورائدهم الأول أبوللينير. فقد كتب في سنة 1908م شعرا منثورا بعنوان «أونيرو كريتيك». (عن عنوان الكتاب القديم الذي ألفه أوتيمدور في تفسير الأحلام) ولا بأس من ذكر بعض سطور من هذا النص، اخترناها حيثما اتفق؛ لأن ذلك لن يغير من الأمر شيئا. وسنجد أن أبوللينير يجمع صورا لا واقعية ونتفا من الأحداث التي صفها إلى جانب بعضها بغير رابطة تجمع بينها، بحيث يستطيع القارئ أن يعيد ترتيبها على نحو آخر. وإذا كانت هناك ثمة رابطة بين الصور والأحداث، فيمكن أن نسميها «التحول اللامعقول» الذي يشبه ما يحدث في الأحلام. فالرأس تتحول إلى لؤلؤ والأنغام تتحول إلى ثعابين. ولن تقابل إنسانا بمفرده في هذا العالم، بل حشدا من الناس. وليست الصور وحدها قريبة من الأحلام، بل كذلك طريقة التعبير. إنه عالم أحلام يزدحم بالجنون، والقبح، والجريمة: «كانت قطع الفحم في المساء شديدة القرب مني، بحيث شعرت بالخوف من رائحتها. تزوج حيوانان غير متكافئين، وأصبحت فروع الكروم عناقيد مثقلة بصور الأقمار. من حلقوم القرد ارتفعت ألسنة اللهب، وزخرفت العالم بالزنابق. الطغاة فرحوا. وأقبل عشرون خياطا أعمى. وقرب المساء طارت الأشجار هاربة، وحولت نفسي إلى مائة شخص. القطيع الذي كنته سقته إلى البحر. السيف أطفأ ظمئي. مائة ملاح قتلوني تسعا وتسعين مرة. وشعب كامل ضغطوه في المعاصر، راح ينزف دما وهو يغني. ظلال غير متساوية نشرت السواد بمحبة على حمى الأشرعة القرمزية، بينما تكاثرت عيوني في الأنهار، في المدن وفوق ثلوج الجبال.»
ومع أن السرياليين قد توالى إنتاجهم منذ العشرينيات من هذا القرن، فإن برامجهم تستحق الاهتمام أكثر بكثير من إنتاجهم. فلقد دأبوا منذ عهد «رامبو» على تأكيد لون من ألوان الإبداع في الشعر حشدوا في سبيله لغة أقرب ما تكون إلى لغة الحلم. ففي رأيهم أن في مقدور الإنسان الذي يتخبط في ظلام اللاشعور أن يمد تجربته الفنية بلا حد، وأن مرضى العقول يستطيعون أن يبنوا لأنفسهم عالما فوق الواقع لا يقل «عبقرية» عن عالم الأدب والشعر، وأن اللاشعور هو الذي يوحي بالشعر والأدب دون التقيد بقيد ولا شكل. تلك هي بعض مواد هذا البرنامج الغريب الطموح. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن السرياليين يخلطون فيه بين التقيؤ والتفنن، وبين الإفزاع والإبداع. ولا يستطيع منصف أن يذكر لهم شعرا عظيما، وإن ذكر لهم برامجهم ونظرياتهم الجديدة الجريئة. وحتى الشعراء الكبار الذين يحسبون عادة من السيرياليين، مثل أراجون (1897م-...) وإلوار (1895-1952م)، لا يدينون بشعرهم لبرامج السيرياليين، بل لذلك الأسلوب العام الذي شاع في عالم الأدب منذ عهد رامبو، وجعل الشعر لغة الأحلام والصور المجردة عن المنطق والمعقول. إن كل ما يذكره الناقد للحركة السيريالية هو أنها كانت نتيجة لا سببا، وأنها شكل واحد من أشكال عديدة تعبر عن شوق الإنسان الحديث إلى الأسرار والألغاز. وقد يشفع لشطحاتهم أن نذكر على كل حال أن الشعر الحديث في أوروبا ما يزال يغوص في غياهب الأحلام، وكأن الشعراء يصرون على أن ينطبق عليهم هذا الوصف الذي يشهر بهم ويمجدهم في آن واحد، فيصورهم كالسائرين نياما. (5) بين الحداثة والتراث
إذا كان الشعر الحديث يحطم القديم، فهل معنى هذا أنه يقطع صلته بالتراث؟ وهل يستطيع شاعر أن يستغني عن التراث، فيكون كالسمكة التي خرجت من الماء؟ ثم ما هو موقفه من عالم التجربة والعلم والتصنيع والتخطيط والمحن الجماعية، وإلى أي حد يرفعه أو يتأثر به؟!
لقد اهتم الشعراء منذ عهد بودلير بهذا الوجه الجديد المزعج من المدينة والتكنيك الحديث، وكان لهذا الاهتمام جانبه السلبي والإيجابي. فأبوللينير يدخل عالم الآلة الواقعي مع أغرب أحلام العبث والمحال في نسيج واحد. وتصبح الآلة في يديه شيئا سحريا، بل قد تحل عليها البركات، وتقدم إليها القرابين. إنه في قصيدته «منطقة» (1913م) يضع قاعات المطار والكنائس في منزلة واحدة، ويجعل المسيح «الطيار الأول» الذي يضرب أعلى رقم قياسي. ونجد مثل هذا في قصيدة جاك بريفير (1900م-...) «الصراع مع الملاك» (1949م)، حيث نرى هذا الصراع يدور في حلبة المغنيسيوم كما نرى الإنسان يسقط صريعا فوق نشارة الخشب:
لا تذهب إلى هناك،
كل شيء قد رتب من قبل،
اللعبة زيفت.
وعندما يظهر في الحلبة،
تحيطه هالة من المغنيسيوم،
عندئذ ستدوي أصواتهم: «حمدا لله.»
وقبل أن تنهض من مقعدك
سيدقون لك جميع الأجراس،
سيقذفون في وجهك
بالإسفنجة المقدسة،
ولن تجد الوقت للتشبث بريشة،
سيلقون بأنفسهم عليك،
وسوف يصيبك تحت الحزام،
وعندئذ تنهار
وذراعاك مصلوبتان في غباء
في نشارة الخشب،
ولن تقوى أبدا على الحب.
ولكن يبدو أن الشعر الجديد قد تأثر بهذا العالم الصناعي الجديد تأثرا مزدوجا. فالحياة الآلية التي نحياها، والمعيشة في المدن الكبيرة المزدحمة يمكن أن تفتن الإنسان أو تعذبه، ويمكن أن تثير في نفسه إحساسات جديدة أو تملأها بالخراب والضياع.
إن الشعر الحديث يعبر عن عذاب الإنسان وضياع حريته في عالم تتحكم فيه الآلات والساعات والمشروعات الكبرى، وتفجعه الحروب والكوارث التي لا تنقطع، وتحيله في ظل الثورة الصناعية المتجددة إلى كائن صغير ضئيل. إن أجهزته وآلاته تشهد على قوته وضعفه، وتتوجه وتخلعه عن العرش. ولا شك أن هناك صلة قوية بين هذه التجارب التي يعانيها الإنسان وبين بعض خصائص الشعر الحديث. فالانطلاق إلى عالم اللاواقع، والبعد بالخيال الجامح عن كل ما هو مألوف، والشغف بالرموز والأسرار الخفية، و«تعقيل» اللغة إلى أقصى حد يمكن أن تكون كلها محاولات من جانب النفس الحديثة للمحافظة على حريتها في مواجهة عالم يتحكم فيه المال والآلة، وإنقاذ سر العالم ومعجزة الخلق في زمن يلهث وراء السرعة والمنفعة.
ولكن إذا كان الشعر يعلن احتجاجه على هذا العصر، فهو من ناحية أخرى يتأثر به وينطبع بطابعه. فالشاعر الحديث ميال إلى التجريب والمحاولة، دقيق في صنعته دقة العالم في معمله، والرياضي مع رموزه وأرقامه، متأثر بروح العصر في صلابته وبروده وقسوته. إنه يشكل تلك القصيدة المركبة التي تمتزج فيها الصور الشعرية القديمة - كالنجوم والبحار والرياح - بصور الحضارة الآلية واصطلاحات العلماء المتخصصين. فشاعر مثل «جوفيه» يقول في إحدى قصائده: «أرى بقعة غليظة من زيت الآلة، وأتفكر طويلا في دم أمي». وشاعر آخر مثل «كاردريللي» يشبه ساعة الموت بلحظات الانتظار تحت ساعة المحطة، حيث يحصي الإنسان الدقائق والثواني. وأشعار إليوت وبن وسان - جون - بيرس تزدحم بالتفاصيل العملية والفنية، ومع ذلك تظل محتفظة بصدقها وشاعريتها. على أننا إذا كنا نلاحظ هذا كله، ونقرر وجوده، فلا ينبغي أن نتجاهل خطره. فقد تؤدي المبالغة في هذا الاتجاه - وبخاصة لدى شعراء لا يملكون الموهبة الكافية والثقافة الحقة، والقدرة على الرؤية الشاملة - إلى أن يقضي الشعر على نفسه بنفسه، ويستسلم لهذه النزعة العامة المدمرة التي تزداد ضراوة كل يوم، وكأن الإنسان لا يسعى إلى شيء كما يسعى إلى تفجير الكرة الأرضية في الهواء.
مهما يكن الأمر، فإنه إذا كان الشاعر الحديث قد قطع صلته بالتراث، فقد فتح قلبه وعقله على جميع الآداب والديانات، وراح يغوص في أعماق النفس البشرية، ويلتقط الصور والرموز السحرية والأسطورية التي عرفتها مختلف الشعوب في آسيا وأفريقيا وأوروبا. ونحن نلاحظ هذا بالفعل في أشعار «رامبو» قبل أن يكتشف «فرويد» اللاشعور أو يكتب «يونج» نظرياته عن اللاشعور الجمعي أو النماذج الرئيسية.
وهناك عديد من النصوص في الشعر الحديث تتردد فيها أصداء أسطورية وشعبية من كافة الأمم والعصور. فشعر سان - جون - بيرس مثلا يزدحم بإشارات عديدة إلى الرسم القديم، والأساطير الغابرة، وأماكن العبادة عند مختلف الشعوب، و«وازارا باوند» يورد في قصائده نصوصا من الشعر البروفنسالي والإيطالي والإغريقي والصيني والمصري القديم (برسومها الأصلية في بعض الأحيان). وقصيدة إليوت المشهورة «الأرض الخراب» تقتبس من مرجع كبير عن الشعوب البدائية كالغصن الذهبي لفريزر، كما تستفيد من الكتاب المقدس والأوبا نيشاد، وتورد نصوصا عديدة من أشعار بودلير ومالارميه وشيكسبير وأوفيد ودانتي وكتابات القديس أوغسطين. ويحس الشاعر فيما يبدو كأن قصيدته قد أصبحت كالدغل الكثيف، فيتولى التعليق عليها بنفسه. ويصبح هذا تقليدا يحتذيه شاعر إيطالي مثل «مونتاله» أو إسباني مثل «دييجو».
ولكن لا يصح أن تخدعنا هذه الاقتباسات العديدة من النصوص القديمة. فهي لا تدل على ارتباط حقيقي بالتراث، ولا بعصر من العصور الماضية. إن الشاعر يمد يده إلى هذه النصوص والإشارات ويأخذها حيثما اتفق الأمر؛ لأنها أصبحت بالنسبة إليه بقايا ماض تمزق وفقد وحدته. إنه لا يعود إلى الرموز والأساطير ليمجد عصرا، أو يبعث زمنا مضى، وإنما يسوي بينها كما يسوي بين الأشياء التي يستمدها من عالم الواقع، ويضعها إلى جوار بعضها، أو يمزج بينها كيفما شاء هواه. ربما يكون هدفه من ذلك أن يزيدنا إحساسا بتمزق قصيدته أو عدم تماسكها، كتمزق الواقع نفسه، أو ربما يريد أن يلبس أقنعة مختلفة للتعبير عن حالة ضياع واحدة، أو يخلق بهذه الكلمات والرموز القديمة نوعا من سحر الأنغام والصور يضفي على شعره روعة وبهاء، والدليل على ذلك أنه لا يضع هذه الرموز والصور والنصوص المقتبسة في عصرها، ولا يوردها بحسب ترتيبها التاريخي، بل يخلطها بكلمات وشعارات وصور أخرى من العالم الحديث.
والواقع أن من حق الشعر أن يطوف في مختلف البلاد والعصور كما يشاء، ما دام يفعل ذلك للشدو والغناء لا لتقرير حقيقة أو إثبات دليل. وإذا سمعنا شاعرا مثل «جوتفريد بن» (1886-1956م) يقول في قصيدته «أنا ضائعة»:
أنا ضائعة، تفجرت من الغلاف الهوائي،
ضجة الأيون: أشعة جاما - لام -
جزئي ومجال أوهام لا نهاية،
على حجرك المعتم من نوتردام.
الأيام تمضي بك بلا ليل ولا صباح،
السنوات تتوقف بلا ثلج ولا ثمر،
اللانهائي مهدد وخفي،
العالم مهرب.
أين تنتهي؟ أين تعسكر؟ أين تمتد أفلاكك؟
مكسب، خسارة.
لعبة وحوش، أبد وأزل،
تفر إلى قضبانها.
نظرة الوحوش، النجوم أمعاء حيوانات،
موت الأدغال أصل الوجود والخلق،
بشر، مجازر شعوب، حقول كروم
تهوي إلى حلق الوحوش.
العالم فتته الفكر. والمكان والأزمان.
وما نسجت البشرية وما أبدعت،
ليس إلا دالة اللانهائية،
الأسطورة كذبت.
من أين؟ إلى أين ؟ لا ليل، لا صباح،
لا تحية ولا حداد!
تود أن تقترض شعارا، لكن ممن؟
وإذا سمعناه في قصيدة أخرى يقول: «الدوائر تظهر تماثيل أبي الهول العريقة في القدم، كسبات وبوابة من بابل، رقصة من ريو ورقصة سوينج وصلاة »، استطعنا أن نقول كما قدمنا إن الشاعر يسوي بين حقائق التاريخ كما يسوي بين الأشياء التي يجدها أمامه في عالم الواقع، فكل ما يراه في التاريخ أو على الأرض قد صار غريبا بلا أرض ولا وطن. (6) الوحدة والقلق
من أبرز الإحساسات التي ينقلها إلينا الشعر الحديث هو الإحساس بالوحدة والقلق. فالشاعر هو أشد شعورا بوحدة الذات في العالم وانفرادها بين غيرها من البشر. والفكرة قديمة بغير شك. ولعلها قد وجدت قبل الرومانتيكية بكثير، غير أنها أصبحت في أيامنا فكرة جديدة كل الجدة، ترتبط ببدعة العصر أو حقيقته التي ذاعت اليوم على كل لسان، من أن هذا العصر الذي نعيش فيه هو عصر القلق والوحدة والضياع في الزحام. ولعل الناس لا تتفق على شيء يتعلق بالشعر والشعراء كما تتفق على أنهم أناس متوحدون قلقون غريبو الطبع، اتفاقهم على أنهم مساكين أو «مجانين» أو يتبعهم الغاوون.
وقد عبر الشاعر «أبوللينير» عن ذلك في قصة نثرية بعنوان «الشاعر المقتول» (1916م) يسرد فيها أحداثا عجيبة غير منطقية تنتهي إلى تصور جريمة القتل التي ترتكبها جميع البلاد في حق جميع الشعراء، وتنتهي القصة بأن يصنع أحد المثالين للشاعر المقتول تمثالا من الدم. والشاعر سان - جون - بيرس يقول عن اللغة التي يستخدمها في قصيده الطويل المشهور «منفى» إنها لغة المنفى النقية. وإن دل هذا كله على شيء، فهو يدل على أن القلق قد أصبح سمة العصر التي يتحدث عنها الجميع كما كانوا يتحدثون قديما عن «القمر» أو «الشوق». ولذلك فليس غريبا أن نجد أحد الشعراء الإنجليز (وهو و. ه. أوديني) يؤلف في سنة 1946م قصيدة بعنوان «عصر القلق».
ولنعقد الآن مقارنة سريعة بين الجو العام الذي يسود إحدى قصائد شاعر قديم نسبيا مثل «جوته» (1749-1832م) وبين بعض قصائد المعاصرين. فهو يتحدث في قصيدته سكون (ويحتمل أن يكون قد كتبها في سنة 1795م) عن الفضاء الشاسع المخيف، والبحر الساكن العميق الذي لا تتحرك فيه موجة ولا تهب عليه نسمة:
سكون عميق يسود المياه،
وبلا حركة يمتد البحر،
والملاح ينظر مهموما
إلى السطح الأملس حواليه،
لا نسمة من أي ناحية.
سكون الموت المخيف
في الفضاء الشاسع،
لا تتحرك موجة واحدة.
ولكنه يتبعها بقصيدة أخرى تتفق معها في الموضوع والإيقاع والنغم وهي «رحلة سعيدة». نجد فيها كيف ينقشع القلق وينفك أسار الخوف، ويتشجع الملاح، ثم لا يلبث الشاطئ أن يظهر للعيون من جديد:
تبدد الضباب،
وصفت السماء،
والريح تفك
إسار الخوف.
تتنفس الرياح،
ويتحرك الملاح.
أسرعوا، أسرعوا!
فالموج ينثني،
والبعد يقترب،
وها أنا ذا أرى الشاطئ.
فالخوف والقلق هنا ليسا إلا جسرا يعبره الشاعر إلى الأمل والصفاء. أما ما نجده في الشعر الحديث، فهو يختلف عن ذلك. فيندر أن تجد قصيدة تحدثت عن القلق، ثم استطاعت أن تتخلص منه. وتشبه قصيدة «جوته» السابقة قصيدة «لرامون خيمينز» بعنوان «بحر» تصور رحلة على مركب. ويصطدم المركب بشيء ما، ولكن لا يحدث في الحقيقة شيء. فليس هناك إلا السكون والأمواج وشيء آخر «جديد» يتركه الشاعر بلا اسم. وهكذا يسير الشاعر الحديث من الأمل إلى القلق بعد أن كان الشاعر القديم يسير في عكس هذا الاتجاه.
ولنأخذ مثلا آخر من كنز الشعر الإسباني الحديث، ولتكن قصيدة لوركا (1899-1936م) عن الصمت:
أنصت يا ولدي للصمت،
صمت متموج،
صمت،
تنزلق الوديان خلاله
والأصداء،
ويذل جباها
فوق الأرض.
فالصمت هنا لا يمحو هول تلك «الصرخة» المخيفة التي سمعناها تتردد في قصيدة أخرى بهذا العنوان، بل لعله يزيده رهبة؛ إذ يولد هولا جديدا، هول الصمت الذي تنزلق خلاله الوديان والأصداء ويضغط جبهة الحياة على الأرض. والشاعر نفسه في قصيدته «مرثية الصمت» يجعل من هذا الصمت اسما آخر للقلق، ويصفه بأنه شبح الانسجام ودخان الشكوى؛ لأنه يحمل «عذابا» سحيق القدم وصدى الصرخات التي انطفأت إلى الأبد. وكأني بلوركا يتحدث عن ذلك القلق الذي يقلقه ألا يجد غذاءه من الألم والعذاب، وعن الخوف الذي لم يعد يخاف شيئا كما يخاف الخوف نفسه.
وعلى نحو آخر يتحدث شاعر مثل «إلوار» عن القلق في قصيدة من ديوانه الحياة المباشرة (1932م)، إنه لا يسميه، بل ينقل إلينا الإحساس الحذر به عن طريق النص نفسه عندما يكرر كلمة بعينها «كان هناك»، أو جملة واحدة كأنها صلاة تتلى في ملل:
كان هناك الباب كأنه منشار ...
الباب بلا هدف،
كانت هناك قطع النوافذ المهشمة،
لحم الريح المعذب تمزق عليها ...
كانت هناك حدود المستنقعات ...
في حجرة مهجورة،
في حجرة فاشلة،
في حجرة خالية.
فهذه الأشياء التي تذكر واحدة بعد الأخرى دون أن تكون بينها علاقة لم يهدف إليها الشاعر في ذاتها، بل أراد أن تكون علامات على النفي والرفض والتهشيم، وبذلك تصبح في نفس الوقت علامة على القلق الذي لا تذكره لغة القصيدة، بل توحي به.
هكذا نستطيع أن نقول بوجه عام - وإن كان التعميم هنا شيئا كريها كل الكره - إن الشاعر القديم كان يسعى للاتصال بالعالم والناس، وكانت نفسه تريد أن تقترب منهما، سواء نجحت في ذلك أم خاب أملها.
أما الشاعر الحديث، فيتعمد أن يجعل المألوف غريبا والقريب بعيدا. وكل من يقرأ لكبار الشعراء المعاصرين يخيل إليه أن هناك قوة خفية تدفعهم دفعا إلى تحطيم الصلة بينهم وبين العالم والناس. (ومن يتابع الرواية الحديثة يلاحظ أيضا أنها تحرص على هذا الإغراب وقطع الصلة بين الناس والأشياء أو بينهم وبين بعضهم البعض، وذلك ابتداء من روايات فلوبير الأخيرة إلى روايات وأقاصيص هيمنجواي وألبير كامي والروائيين الجدد).
يقول الكاتب الروائي النمسوي «روبرت موزيل» (1880-1942م): إن الشاعر يحس حتى في الصداقة والحب بأنفاس الكراهية التي تبعد الكائنات بعضها عن بعض. والشعور بأن قرب الإنسان من الإنسان هو في حقيقة الأمر بعد عنه يكاد أن يكون موضوعا ثابتا من موضوعات الشعر الحديث. فقصيدة «أغنية» للشاعر الإيطالي «أنجارتي» الذي ولد بالإسكندرية (1888م) تنتهي بحزم غير عاطفي يعبر عنه قوله: إن الحبيبة بعيدة كما لو كانت في مرآة، وإن الحب يكشف عن القبر اللامتناهي للعزلة الباطنة:
من جديد أرى فمك البطيء (بالليل يتقدم البحر ليلقاه)،
وأرى فرس فخذيك،
يسقط متهالكا
بين ذراعي اللتين كانتا تغنيان،
وأرى نوما يعيد إليك
نضارة جديدة وموتا جديدا.
والعزلة الشريرة
التي يكتشفها في نفسه كل من يحب،
كأنها الآن قبر لا متناه
يفصلني إلى الأبد عنك.
حبيبتي، بعيدة أنت كما في مرآة ...
ولوركا يقول في إحدى قصائده: «ما أبعدني حين أكون قريبا منك، وما أقربني حين أكون بعيدا عنك.» والشاعر الألماني كارل كرولوف (1915م-...) يقول في «قصيدة حب» (1955م): هل ستسمعينني خلف الوجه المعشوشب للقمر الذي يتفتت؟ والليل يتكسر كالصودا، «أسود وأزرق». وكأن هذه الصور الصلبة، وهذا التحطم والتناثر والانكسار تعبير عن فشل محاولته للقرب من الحبيبة كما هو تعبير عن خلاصه الوحيد المنتظر على يد اللغة الشاعرة الخلاقة. والجزء الأخير من قصيدة لوركا المشهورة عن صديقه مصارع الثيران سانشيت ميخياس يحمل هذا العنوان «نفس غائبة». إنه لا يذكر الميت ولا الموت بكلمة واحدة، وإنما يقول إن أحدا لم يعد يعرف صديقه، لا الثور والخيل والنمل في بيته ولا الطفل والماء، ولا الحجر الذي يرقد تحته. ولقد صار الميت بعيدا عنه بعدا لا يستطيع التذكر نفسه أن يصل إليه. «لكنني أغني باسمك». غير أن هذا لا يجدي أيضا. فالشاعر الذي غلبته الوحدة واليأس من الوصول إلى الصديق البعيد لم يعد يملك إلا الغناء عن النسيم الحزين الذي يسري بين شجيرات الزيتون.
وقل مثل هذا عن قصائد الشاعر الإسباني رافائيل ألبرتي (1902م) التي نشرها في سنة 1929م بعنوان «عن الملائكة». والملائكة التي يتحدث عنها الشاعر ليس لها أي معنى ديني. إنها كائنات خرساء كالأنهار والبحار، خلقها خيال شاعر وحيد. هناك صراع خفي يدور بينها وبين الإنسان وينتهي إلى انقطاع كل أمل في الاتصال بينهما. فالإنسان يعلم أن الملاك موجود. غير أنه لا يراه، ولا الريح وزجاج النوافذ تراه، والملاك أيضا لا يرى الإنسان، ولا يعرف المدن التي يسير فيها؛ لأنه بلا عيون ولا ظلال، ولأنه يغزل الصمت في شعره، وما هو إلا «ثقب وحيد رطب، ونبع جف الماء فيه ...» لقد مات بيننا نحن البشر، أضاع المدنية وأضاعته. ومع أن من الصعب تفسير هذه القصائد التي وصفها البعض خطأ بالسريالية، إلا أن الرمز الذي تدور حوله لا يستعصي على الفهم. فالملائكة كائنات نورانية مباركة، سواء أرسلت إلى الناس لتبشرهم بنعمة الله أم لتنذرهم بغضبه ونقمته. كان الإنسان يحس صلة بينه وبينها، وكان يشعر أنه ليس وحده في هذا الكون، ويرى بين الحين والحين أن هناك كائنا علويا يرعاه ويتذكر وجوده على الأرض البائسة. غير أنه يبدو أن الملائكة قد سئمت الإنسان، فلم تعد تهتم بشأنه، بل ولم تعد تذكر منه إلا صورا للقبح والفساد والفناء.
للكاتب الألماني فرانز كافكا (1883-1924م) أمثولة جعل عنوانها «القرية المجاورة» يقول فيها: «كان من عادة جدي أن يقول: إن الحياة قصيرة إلى حد مذهل. والآن تضغط الحياة بذكرياتها، حتى لا أكاد أتصور مثلا كيف يمكن أن يصمم شاب على ركوب جواده إلى القرية المجاورة دون أن يخشى - ويصرف النظر تماما عن الصدف المؤلمة - من أن يكون عمر الحياة العادية التي يلازمها الحظ أقصر بكثير من أن يتسع لمثل هذه الرحلة.»
هذه الأمثولة تعبر عن موقف أساسي في وجدان الجيل الحديث، ألا وهو العجز عن الوصول، حتى ولو كان الهدف قريبا. ولنضرب مثلا لذلك من الشعر الحديث بقصيدة لوركا «أغنية فارس»:
قرطبة،
وحيدة وبعيدة،
فرس أسود صغير، قمر كبير،
حبات زيتون في خرج سرجي.
أعرف الطرق حقا،
غير أني لا أبلغ قرطبة أبدا.
خلال المدى الفسيح، خلال الريح،
فرس أسود صغير، قمر أحمر.
الموت يحدق في
من أبراج قرطبة.
آه، ما أطول الطريق!
آه، يا فرسي الشجاع!
آه، الموت يخطفني
قبل أن أبلغ قرطبة.
قرطبة، وحيدة وبعيدة.
فهذا الفارس يعرف الطريق إلى هدفه وهو مدينة قرطبة، ولكنه يعرف أيضا أنه لن يصل أبدا إلى هذا الهدف. إن الموت يحملق فيه من أبراج قرطبة، وهو لن يعود إلى بيته؛ لأن الموت ينتظره هناك في السهول الشاسعة التي تعصف فيها الرياح. وما كذلك الشاعر القديم الذي كان يحن إلى بيته أو وطنه، ويحمل في نفسه صورة البيت والدخان الذي يصعد من مدخنته، والسور الذي يظهر فوق سطحه، والعجوز التي ستفتح له الباب.
لنضرب كذلك مثلا بقصيدة «جوته» التي تبدأ بهذا البيت: «دعوني أبكي»، وهي إحدى قصائد ديوانه الشرقي التي لم ينشرها فيه، ووجدت في أوراقه بعد موته:
دعوني أبكي، يحوطني الليل
في الصحراء الشاسعة.
الجمال راقدة، الرعاة كذلك راقدون،
والأرمني سهران يحسب في هدوء،
أما أنا فأرقد إلى جواره،
وأحسب الأميال التي تفصلني عن زليخة، وأتفكر باستمرار في الدروب الملتوية المزعجة التي تطيل الطريق.
دعوني أبكي، فليس هذا عارا.
الرجال الذين يبكون طيبون.
لقد بكى أخيل حبيبته بريزيس،
وأكسيركيس بكى الجيش الذي لا يهزم،
والإسكندر بكى حبيبته التي انتحرت.
دعوني أبكي، إن الدموع تحيي التراب،
وها هو ذا يخضر.
إن الشاعر هنا بعيد عن هدفه. يقضي ليلته في الصحراء المترامية الأطراف، ويفكر في الأميال التي تفصله عن حبيبته فيبكي. غير أن بعد هذا المكان لا يبعده عنه في الحقيقة؛ ذلك لأنه يظل شيئا يحن إليه كما يظل شيئا مألوفا لديه، قريبا منه بالتذكر والشوق، يمكن الوصول إليه بين يوم وآخر. إنه حزين حقا، لكنه حزن يمكن أن يجد العزاء. بل إنه ليعزي نفسه حين يتذكر أبطالا قدامى، بكوا حقا، والبكاء لا يعيب الرجال.
أما شاعرنا «لوركا» فيقول في مطلع قصيدته: إن قرطبة بعيدة. ولا يصح أن نتصور أنه بعد مكاني. فالفارس يرى المدينة أمام عينيه، ولكنها بعيدة عنه بعدا مطلقا على الرغم من قرب المسافة التي تفصله عنها. إن هناك لغزا محيرا يتمثل في شبح الموت الذي يطارده ويبعد المدينة عنه كما يبعده عنها. ما من شوق ولا دموع ولا عزاء عن هذا الإحساس الفاجع بالبعد المحتوم. فالنفس تعيش في يأس مطبق. والشاعر ينادي الجواد والطريق والموت، وهذا هو كل شيء. أضف إلى ذلك تلك الجمل التي تدور في شبه دائرة ناقصة، وتخلق باستغنائها عن الأفعال صورة لغوية تعبر عن استسلام الشاعر للغربة، وخوفه من الخطر الجاثم عليه.
هكذا يتجلى لنا الفرق بين أسلوبين في التعبير الشعري. فالهدف البعيد في المكان يظل قريبا من نفوس القدماء. إنهم يتصورونه ويحنون إليه ويبكونه، ويعزون أنفسهم بقرب الوصول إليه. أما المحدثون ، فيتحول القرب المكاني عندهم إلى بعد هائل مخيف تحس به نفوسهم أوضح إحساس وأقساه. الشاعر القديم مطمئن للعودة إلى بيته وأهله. أما الشاعر الحديث فيعلم أن هذه العودة مستحيلة؛ لأن هناك قدرا يأسره ويتسلط عليه، ويبعد الوطن عنه، أو يبعده عن الوطن. إنه ليس غريبا في هذا العالم فحسب، بل إن العالم نفسه قد صار غريبا عليه. (7) خاتمة
إن الشاعر الحديث يحس بأن القوى التي تهدد حريته تزداد كل يوم، ولذلك يزداد تلهفه عليها وتشبثه بها. وهو لا يبخل في سبيل ذلك بشيء ولا تعز عليه تضحية، ولو أدى به الأمر إلى تحطيم الواقع وإعادة النظر في كل المقدسات والانفصام عن التراث أو معاداته والسخرية منه.
لم يعد الشاعر يجد الراحة والاطمئنان في الواقع التاريخي أو الموضوعي المحيط به، ولا عاد يشعر بقربه من حقيقة عالية كانت تطل على أسلافه وترعاهم. لذلك راح يخلق لنفسه عالما جديدا من خياله، ويبدع بالكلمة الشاعرة وحدها مملكة تعادي كل ما هو مألوف، وتناقض كل ما كان يفوح برائحة الثبات والاطمئنان.
الشعر الحديث أشبه بحكاية أو «حدوتة» عظيمة لم تسمع من قبل، ولكنها حدوتة وحيدة شديدة الوحدة. إنه بستان تنمو فيه الزهور، ولكنه يمتلئ كذلك بالأشواك والأحجار، وتكثر فيه الثمار، كما تكثر العقاقير والسموم الخطرة. إذا أراد القارئ أن يتجول في طرقاته أو يعيش في جوه المتقلب، فعليه أن يتحمل أقصى ما يستطيعه من العذاب والشقاء. وإذا أمكنه أن يسمع شيئا، فربما سمع في هذا الشعر صوت الحب الوحيد العنيد الذي يرفض أن يستهلكه القراء و«المعجبون»، ويؤثر أن يضل في المتاهات، أو يتحدث في الفراغ على أن يتحدث إلينا أو يتقرب منا . إن القصيدة الواحدة تمتلئ بأطلال الواقع الذي فككه الخيال الجريء ومزقه، ولكن هناك عوالم أخرى «غير واقعية» تسبح فوقها، وتكون مع تلك الأطلال ذلك السحر الذي يدفع الشعراء إلى تأليف شعرهم، كما يدفع القراء إلى التحمس له أو النفور منه.
لقد امتلأت لغة الشعر كما قدمت بالأنغام الناشزة والصور المتنافرة، شأنها في ذلك شأن لغة الموسيقى الحديثة أو الرسم والتصوير. ولكنها ستظل لغة شعرية، وإن استعصت على الفهم في معظم الأحيان. إن الشعراء يحسون اليوم أكثر من أي وقت مضى أنهم وحيدون مع اللغة، ولكنهم يحسون كذلك أن اللغة هي ملجؤهم الوحيد. كما يعرف أكثرهم وحدة أنه يتصل على الرغم من كل شيء بنوع من الخلود الذي يمتد من الأزل، ويدوم إلى الأبد، وأعني به حرية اللغة، وقدرتها المستمرة على الابتكار، والتجربة، واللعب، والغناء.
ونسأل الآن سؤالا ربما طاف بذهن القارئ: ما هو مستقبل الشعر الحديث؟ والحق أن الجواب على هذا السؤال شيء عسير، إن لم يكن مستحيلا. فلا يدري أحد حين تنشب ثورة كيف ولا أين ستنتهي، وقد يقول قائل إن ثورة الشعر الحديث قد أوشكت أن تبلغ نهايتها إن لم تكن قد بلغتها بالفعل، وإن الشعر الجديد قد أوشك أن يستنفد طاقاته، ولا بد أن يبحث الشعراء والنقاد عن مخرج جديد.
ولكن كيف يبدو هذا المخرج، وعلى يد أي عبقري سيتم؟ هل سيبتعد عن الموجات الصاخبة والشعارات الصارخة والمدارس المتحمسة والبيانات المزهوة بكل جديد؟ أم سيظل يدور تلك الدورة المحتومة التي كتبت على كل نشاط يبذله الإنسان؟
لا أحد يدري كما قلت. وترك الأسئلة مفتوحة لا يعني أن نتشاءم أو نستسلم للحزن. فهذا شيء لا بد أن نرفضه ونقاومه دائما، وبكل ما نستطيع من وسائل (ومنها الشعر)، ولكنه يعني أننا لا نستطيع أن نتنبأ بمستقبل الشعر ولا بمستقبل غيره من الفنون، وكل ما نستطيعه أو ما يجب أن نفعله هو أن «نعرف» حالته الحاضرة، و«نفهم» كيف وصل إلى ما هو عليه.
إن المدارس الجديدة تلتئم ويلتف حولها المتحمسون حينا، ثم ينفض كل إلى سبيله. والسؤال القديم - الذي لا نكف نحن الشرقيين عادة عن إلقائه - وهو: هل هناك جديد تحت الشمس؟ وهل ترك لنا القدماء ما نقوله؟ يمكن أن يجاب عليه بنعم ليس هناك جديد، كما يجاب عليه: بل هناك ما لا نهاية له كل يوم وكل لحظة مما يمكن أن يجرب ويقال، وبخاصة بالنسبة لنا نحن العرب الذين نريد أن نحافظ على التراث ونتجاوزه في آن واحد، ونصمد في مواجهة الحاضر بكل نكباته، ونصر على ميلاد مستقبل جديد مهما كان الثمن (وما أكثر ما يستطيع الشاعر العربي الجديد أن يقول في هذا المجال).
لا أحد يستطيع أن يتنبأ بالمستقبل كما قلت. فالثورات في عالم الفن تمضي في سبيلها، ثم تنقلب إلى ضدها. وتنشأ ثورات أخرى باستمرار (الفن طائر فريد يأبى أن يرضى بالأقفاص، وطالما حبسوه في المعبد والكنيسة وقصر السلطان وديوان الحكم ومقر الحزب، فعرف دائما كيف ينجو بنفسه ...) وليس معنى هذا أن ندين ثورات الشعر الحديث في أوروبا أو ثورة الشعر الوليدة في بلادنا. فليست وظيفة الكاتب أن يحكم ويدين، بل أن يفهم ويتعاطف. وماذا يمكن أن يتعلمه شاعرنا الجديد (حارس لغتنا وتراثنا وضميرنا، وأمل حاضرنا ومستقبلنا) من دروس أكثر من نصف قرن قطعها الشعر المعاصر في بلاد غير بلاده؟ لا شك أنه يستطيع أن يتعلم الكثير. يستطيع أن يتعلم أولا ألا يقلد هذا الشعر تقليدا أعمى لا يناسب لغته ولا حسه (فالتقليد فعل القرود)، وألا يتجاهله مع ذلك، أو يسدل من دونه الأستار. ويستطيع أن يتعلم كيف يضع تراثه بين عينيه وفي حبات قلبه، على أن يتعلم في نفس الوقت كيف يتجاوزه إلى مشكلات الحاضر، وآمال المستقبل، ويستفيد من حكمه وأخطائه، ويميز كنوزه وروائعه من نفاياته وأعبائه، ويواجه عالم القلق الحديث بمزيد من جسارة اللغة وشجاعة الذات التي تصر على أن تحقق نفسها أو تموت.
لم الشعراء في الزمن الضنين؟
ولهذا كانت قمم الزمان
متراصة هنا وهناك،
وأحب الأحباب يسكنون قريبا،
منهكين فوق جبال منفصلة ،
أعطنا إذن ماء بريئا،
أعطنا جناحين، لنعبر إلى هناك
بحس نقي ثم نعود.
هذا ما يقوله هلدرلين (1770-1843م) في قصيدة «باطموس» التي تعد من أعمق قصائد شعره. ونقف حائرين أمام هؤلاء الأحباب الذين يسكنون فوق قمة جبلين منفصلين متباعدين، ومع ذلك فهم قريبون من بعضهم أشد القرب. وتزداد حيرتنا إذا قرأنا الأبيات التي تبدأ بها القصيدة؛ لأنها كذلك مثقلة بالأسرار:
قريب
وعصي على الإدراك هو الإله،
لكن حيث يكون الخطر
تلوح كذلك أسباب النجاة.
في الظلمة تسكن النسور.
وأبناء الألب يعبرون الهاوية بلا خوف
فوق جسور خفيفة.
ونعود فنسأل أنفسنا من هم هؤلاء الأحباء؟ وإذا طالت بنا الحيرة توجهنا إلى مفكر من أعمق المفكرين المعاصرين أيضا، تولى عنا شرح هذه الأبيات وكثير غيرها لهذا الشاعر نفسه، فوجدناه يقول: هما الشعر والفكر. إنهما جاران، يسكنان فوق جبلين قريبين تفصل بينهما هوة بلا قرار. كلاهما يتلقى النور من أعلى، ويبحث عن حقيقة الوجود. هدفهما واحد، وإن كان كل منهما يسير على طريق غير الطريق. وقبل أن نمضي في السؤال لا بد أن نتعرف إلى الشاعر الوحيد. فلتكن هذه لمحة سريعة عن حياته المعذبة التي قضى نصفها تائها في ليل الجنون.
ولد هلدرلين في نفس السنة التي ولد فيها هيجل وبيتهوفن. واحتفل العالم في شهر مارس من العام الماضي بمرور مائتي سنة على مولدهم. وكان نصيب الفيلسوف والموسيقي العظيم من الاحتفال في بلادنا نصيب الأسد. فقد صدر عدد خاص من «الفكر المعاصر» عن الفيلسوف، وأفردت الإذاعة ساعات طويلة للعبقري الأصم. أما الشاعر فظلم بعد موته كما ظلم في حياته. ونسيه الجميع عندنا كما نسيه أهل زمانه وتجاهلوه، إلى أن تذكره الباحثون منذ حوالي نصف قرن، فبدءوا في إصلاح جنايتهم وجناية أسلافهم عليه، وراحوا يحققون أعماله، ويكتبون عن حياته وشعره ومأساته، ويصورون ظلم أبناء عصره له،
1
ويكتشفون أنهم أمام عبقري ملهم قد لا يتفوق عليه أحد من الناطقين بلغته سوى «جوته»، بل ربما ذهب بعضهم إلى حد تفضيله على سيد أدباء الألمان. •••
ومعالم حياة هلدرلين - أو بالأحرى نصف حياته الذي قضاه ممتعا بالعقل قبل أن يغوص في هاوية الجنون - بسيطة يمكن سردها في سطور قليلة لا يسمح المجال بأكثر منها. فقد ولد في العشرين من شهر مارس سنة 1770م في بلدة «لاوفن» الصغيرة التي تقع على نهر النيكار في منطقة شفابن أو سويفيا، وكان أبوه معلما في أحد الأديرة القريبة ومديرا له. ومات الأب قبل أن يتم هلدرلين سنتين من عمره، وتزوجت الأم بعد موته بسنتين من عمدة مدينة نورتنجن، وانتقلت إلى هذه المدينة، ومعها طفلها الذي قضى مرحلة صباه، وتعليمه الأولي هناك. ومات زوج أمه وهو في التاسعة من عمره، وأنهى دراسته في المدرسة اللاتينية في مدينة نورتنجن، وهناك بدأ كتابة قصائده المبكرة، ثم انتقل إلى «السيمنار» العالي في دير المدينة «ماولبرون»، وقضى به سنتين قبل أن يدخل معهد اللاهوت الشهير في مدينة توبنجن. وكون جمعية أدبية مع اثنين من أصدقائه، ومضى في كتابة أشعاره متأثرا بالشاعر المتدين كلوبشتوك (صاحب الملحمة الغنائية الكبرى عن السيد المسيح) وبشعر شيلر الفلسفي، متوجها بها إلى المثل الإنسانية كالصداقة والجسارة والحرية والحب والجمال، كما بدأ أولى ترجماته عن اليونانية ببعض أناشيد الإلياذة.
وفي التاسعة عشرة من عمره تعرف إلى «شتويدلن» الذي كان يتولى نشر عدد من المجلات الأدبية والفنية، فشجعه ورعى عددا من قصائده، كما تعرف في هذه السن أيضا إلى الشاعر الوطني الحر شوبارت (1777-1811م)، وكان قد خرج من السجن بعد أن قضى فيه عشر سنوات، ولا شك أنه تأثر بنزعته الوطنية المشبوبة، ولغته العاطفية المتدفقة. وحصل في العشرين من عمره على درجة الماجستير في الفلسفة (وكانت في ذلك الحين أدنى الدرجات الأكاديمية) وجمعت الصداقة الحميمة بينه وبين هيجل (الذي كان يشاركه نفس الحجرة في ذلك المعهد الذي طالما عانى فيه من الطعام السيئ والرقابة الصارمة ودروس اللاهوت) كما انضم إليهما شيلنج الذي كان يصغرهما بأربع سنوات، وفي سنتي 1792، 1793م ظهرت أولى قصائده في المجلة التي كان يصدرها شتويدلن، وبدأ يكتب المسودات الأولى من روايته «هيبزيون »، ويشارك صديقيه وشباب جيله تحمسهم لمبادئ الثورة الفرنسية، وسخطهم على مظالم الحكم الإقطاعي في بلاده. ويقال إنه احتفل مع طلبة المعهد اللاهوتي بعيد الثورة الفرنسية، واشترك معهم في غرس شجرة الحرية في أحد ميادين المدينة بين الرقص والتهليل والغناء ... كان في هذه الفترة من حياته شديد الإعجاب بشخصية شيلر ورجولته ومثاليته. وقد عطف عليه الشاعر الكبير، وأرشده وأعانه على مصاعب الحياة، وإن لم يستطع هو ولا «جوته» أن يقدرا شاعريته حق قدرها. وقد توسط له شيلر - بعد أن أتم امتحان اللاهوت في مدينة شتوتجارت - في البحث عن عمل يكسب منه قوته، وأوصى به خيرا عند السيدة شارلوته فون كالب التي كانت على اتصال بالحياة الأدبية؛ ليعمل مدرسا خصوصيا لأبنائها، وسافر بالفعل للالتحاق بعمله في بيتها بمدينة فالترز هاوزن بمقاطعة تورنجن. وبذلك بدأ سلسلة العذاب والإخفاق التي سيقاسيها من مهنة التعليم الخصوصي البائسة.
ونشر له شيلر قطعة من روايته «هيبريون» في مجلته «تاليا»، وهي روايته الوحيدة التي سيعكف على صياغتها مرات عديدة. وسافر مع تلميذه الصغير الذي كلف بتربيته إلى مدينة «يينا» - كعبة المثالية الألمانية في ذلك الحين - وهناك التقى بشيلر عدة مرات كما قابل الفيلسوف فشته وجوته الذي تجاهله في أول لقاء، ثم قابله بعد ذلك عدة مرات، ولكنه لم ينصفه، ولم يستطع أن يقدر موهبته، وأصر دائما في رسائله إلى شيلر على أنه من «تلك الطبائع المسرفة في التوتر والذاتية».
وفي منتصف شهر يناير سنة 1795م تخلى عن عمله عند عائلة فون كالب، وذهب لمدينة «يينا»، وفي نيته أن يواصل دراسة الفلسفة، ويتقدم بعد ذلك للتدريس بجامعتها الشهيرة. واستمع إلى بعض محاضرات فشته، وتابع كتابة «هيبريون»، وتعرف إلى أخلص أصدقائه وأوفاهم، وهو أسقف سنكلير الذي رعاه في أزماته، وبذل بعد ذلك غاية جهده لإنقاذه من الجنون. ويبدو أنه سئم الفلسفة فجأة، واكتشف أنها تبعده «عن عمله الحبيب»، وتشغله عن الشعر وهو على حد قوله: «أكثر المشاغل براءة»، فغادر المدينة، وقفل راجعا إلى بلدته نورتنجن التي قضى فيها النصف الأخير من ذلك العام، ولكنه لم يقبل على نفسه أن يكون عبئا على أمه، فسافر إلى مدينة فرانكفورت؛ ليعمل مدرسا خصوصيا في بيت رجل المال والبنوك جونتار. وهناك كان ينتظره أسعد لقاء وأعظم حب في حياته. رأى «سوزيته» جونتار ربة البيت وزوجة رجل الأعمال، فأحبها وعرف فيها قدره ومأساته وفرحته الوحيدة، وسماها ديوتيما على اسم الحبيبة في روايته التي كانت لا تزال تتعثر بين يديه، فشاء لها الحظ أن تنمو وتكتمل، أو على اسم «ديوتيما» الكاهنة الغامضة التي تكلم سقراط وتعلمه أسرار الحب والحكمة في محاورة «المأدبة» لأفلاطون، وظهرت أولى علامات الحب المثالي الجارف في أغنية رقيقة كتبها سنة 1796م تحت عنوان ديوتيما.
بدأت المحبوبة - أو كاهنة الحب المقدس كما كان يسميها - تبادله حبه، وتستمع إلى شعره، وتعزف له على البيان، بينما يشاركها بالغناء، وترسل نظرتها النافذة الحنون إلى أغوار حزنه، وتحاول أن تصرفه عن كآبته.
ورافقها في السفر عندما هربت مع أولادها فرارا من الجيوش الفرنسية الغازية إلى دريبورج عبر مدينة كاسيل. وفي هذه الأثناء مات صديقه شتويدلن منتحرا بعد أن طرد من البلاد، واشتدت عليه المحنة، وأهداه هيجل قصيدته «إلويزس» التي تعبر عن دفء صداقته له (وستجدها بعد قليل على هذه الصفحات)، وظهر المجلد الأول من رواية هيبريون عند الناشر «كوتا». ثم اضطر أن يهجر وظيفته في بيت جونتار في منتصف شهر سبتمبر سنة 1798م، بعد أن حاصرته الإشاعات ورقابة الزوج الغيور. ولجأ إلى صديقه سينكلير في مدينة هومبورج. وحاول هذا أن يخفف عنه جراحه، فصحبه معه في أسفار عديدة. وبدأ يكتب مسرحيته الوحيدة «موت أمبادوقليس» في صياغتها الأولى، كما جرب نفسه في بعض المقالات الفلسفية التي أكدت من جديد أنه لم يخلق للفلسفة. وفكر في إصدار مجلة أدبية، ولكن المشروع مات قبل ولادته، كما حاول أن يتقدم لجامعة بينا لإلقاء محاضرات في الفلسفة، فأوصدت الجامعة أبوابها في وجهه، ورجع إلى بلدته نورتنجن، وهو في أسوأ حال من الضعف وقلق الأعصاب، ولكنه استطاع أن يكتب أخلد قصائده، وأن يبلغ ذروة إبداعه الفني. وشق عليه أن يكون عبئا على أمه المسكينة، فرجع إلى مهنته البائسة، وقبل العمل في بيت أنطون جونسباخ، وكان من تجار الأقمشة في مدينة «هاوبتفيل» بسويسرا، ولكنه لم يلبث أن هجر العمل بعد أن أخفق من جديد في تلك المهنة التي لم يخلق لها. ورجع إلى أمه في شهر أبريل سنة 1801م، وأقام فترة قصيرة في مدينة شتوتجارت، حيث تفاوض دون نجاح مع الناشر «كوتا» على طبع أشعاره. واضطر أن يلجأ للدروس الخصوصية من جديد، فقبل العمل في بيت القنصل الألماني في مدينة «بوردو» الفرنسية. وسافر إلى هناك في أواخر العام على قدميه عبر مرتفعات الأوفرن الخطرة التي كانت تغمرها الثلوج، ولكنه سرعان ما تخلى عن عمله الجديد؛ إذ يبدو أنه لقي نفس المعاملة التي جرحت كبرياءه في كل بيت دخله - وكان المعلمون الخصوصيون يعاملون معاملة الخدم والأتباع - وتلقى نبأ وفاة حبيبته سوزيته جونتار التي كان يعلم أنها تعاني داء السل. ورجع في شهر يوليو إلى وطنه سائرا على قدميه، ورآه الناس في مدينة شتوتجارت فذهلوا لمنظره. كان محطما ممزق الثياب أشعث الشعر، مضطرب الكلام، في حال من اليأس والارتباك لا نظير لها. وواصل إنتاجه على الرغم من مرضه وظهور بوادر الجنون عليه، فكتب عددا من قصائده المتأخرة التي سماها «أغنيات الليل»، وعكف على ترجمة مسرحيتي «أوديب ملكا»، وأنتيجونا لسوفوكليس، وبعض قصائد من شعر بندار. واشتد عليه المرض، وتأكد للجميع أنه يترنح على حافة الهاوية، فأسرع إليه الصديق الوفي سينكلير، وأخذه معه إلى مدينة «هومبورج»، وسعى له في الحصول على وظيفة أمين مكتبة في بلاط أمير المدينة الزاهد «فريدريش فون هومبورج»، وكان الصديق يدفع له مرتب الوظيفة من جيبه، ولكن محاولات الصديق لم تجد شيئا، فقد ازدادت حالته سوءا، حتى صار الأطفال يجرون وراءه في الشارع. وأدخلوه مصحة الأمراض العصبية في مدينة توبنجن سنة 1806م، لكن حالته تدهورت، ويئس الأطباء من شفائه. وتطوع النجار تسيمر - وكان من هواة الأدب وأحباب الشعر - فتقدم للمصحة، وأعلن استعداده لإيواء المريض في بيته. وقال له الطبيب وهو يسلمه له إنه لن يعيش أكثر من سنة أو سنتين على الأكثر، ولكن المريض ظل يعيش في بيت النجار الطيب كالحالم أو كالميت ستا وثلاثين سنة ... كان طوال هذه السنوات يتجول في باحة البيت في هدوء غريب، ويجلس بالليل أمام نافذته يتأمل النجوم. لم تفارقه طلعته الجميلة، ولم ينطفئ من عينيه الصافيتين ذلك البريق العجيب الذي كان يشع منهما، ولم تفارقه طفولته ونقاؤه وبراءته وحياؤه وانكساره، لكنه ظل غائبا عن الوعي تماما إلى أن أنقذه الموت في اليوم السابع من شهر يونيو سنة 1843م عندما مات وهو يجلس إلى جوار نافذته يتأمل النجوم. •••
لنعد الآن إلى سؤالنا الذي بدأنا به.
ما العلاقة بين الفلسفة والشعر؟ ما الذي يجمع بين لغة العقل ولغة الوجدان؟ أهما جاران متباعدان أم لعلهما في البداية أو النهاية يلتقيان؟
لنترك لهلدرلين نفسه الإجابة على هذه الأسئلة، قبل أن نخوض في الحديث عن صلته بالفلاسفة، ومحاولاتهم المستمرة لتأويل شعره وفكره.
إن أوضح ما قاله وأبسطه وأشمله أيضا قد ورد في روايته الشاعرية الوحيدة، وهي رواية «هيبريون»، وهو يأتي في إحدى رسائل هيبريون، بطل الرواية الذي يحكي قصة حياته واتحاده بالطبيعة الإلهية الخالدة وحبه البائس ل «ديوتيما»، وكفاحه لتحرير وطنه «اليونان» من قبضة الأتراك. والرسالة إلى صديقه الألماني «بلارمين»، وهي تقع في الكتاب الثاني من المجلد الأول من الرواية، حيث تلتقي جماعة الأصدقاء في بيت المحبوبة ديوتيما، ويتصل بينهم الكلام عن أمجاد اليونان، وعظمة الأثينيين وفطرتهم الإنسانية الأصيلة التي صانتهم من الاستبداد، وعسف الطغاة، وجعلتهم بحق أمة الشعر والفلسفة والحوار. ويعرف هيبريون من حبيبته أن جبل «الأوليمب» على مسيرة يوم واحد، فيهتف في لهفة: لا بد أن نذهب على الفور إلى هناك. ويركبون السفينة في اليوم التالي، في الساعة التي يستيقظ فيها البشر على صياح الديك، ويبدءون رحلة الحج إلى مهد الآلهة وربات الفن تحت شمس الربيع الخالدة، والحياة من حولهم وفي أعماقهم كالجزيرة التي ولدت في المحيط، وهبطت عليها أول بشائر النور والاخضرار.
ويتصل بهم الحديث عن مجد الأثينيين. ويقول أحدهم: إن الأصل فيه هو المناخ، ويقول الآخر: بل هو الفن والفلسفة، ويزعم الثالث أنه الدين ونظام الدولة والحكم. ويعترض هيبريون على هذه الآراء، فيقول: إن ما ذكره الأصدقاء هو زهرة الشجرة وثمرتها، لا تربتها وجذورها. لقد نشأ الأثينيون أحرارا من كل قيد، فأتاحت لهم هذه النشأة أن يكونوا آدميين بحق، وأن يبلغوا الإنسانية الجميلة الكاملة. لم يقهرهم قانون الاستبداد، كالإسبرطيين، ولم يستعبدهم طغيان القانون، كشعوب الشمال، ولم تذل طفولتهم عبادة الآلهة الضخمة والفراعنة كالمصريين الذين تعلموا الركوع قبل أن يتعلموا المشي على الأقدام، ولقنوا الصلاة قبل أن يلقنوا الكلام ... لقد نمت طفولتهم في حرية وبساطة، ولم يقهرها أحد على الدخول في مدرسة الحرب والنظام والقانون والعبادة والطاعة قبل الأوان.
وهكذا كان الأثيني إنسانا، وهكذا تحتم أن يصبح رجلا. خرج جميلا من بين يدي الطبيعة، جميل الجسد والروح على السواء. وأول أبناء الجمال البشري والإلهي هو الفن. فبفضله يتجدد شباب الإنسان، ويحقق طبيعته الإلهية في صورة أو تمثال أو معبد يجسد به جماله أمام عينيه. هكذا خلق الإنسان آلهته؛ إذ كان في الأصل والمبدأ هو والآلهة شيئا واحدا وكيانا واحدا. وثاني أبناء الجمال هو الدين. فالدين في حقيقته حب الجمال. والحكيم يحب هذا الجمال الشامل غير المتناهي، والشعب يحب أبناءه الذين يظهرون له في صورة الآلهة المتعددة الأشكال. ولولا هذا الحب الذي بذله الأثينيون للجمال، ولولا هذا الدين لبقيت دولتهم أو مدينتهم الحرة هيكلا عظيما خاليا من الروح والحياة، ولظل فكرهم وسلوكهم كالشجرة المبتورة بلا جذور تمتد في الأرض ولا ذؤابة ترتفع للسماء.
كان الفن والدين إذن أبناء الجمال الخالد، ولكنهما كانا كذلك أبناء الطبيعة الإنسانية الكاملة. ومن يتأمل أعمال الإغريق في الفن، أو يقرأ أساطيرهم وخرافاتهم، لا يملك نفسه من الإعجاب بنزعتهم الإنسانية التي عرفت دائما كيف تحافظ على الحد والاعتدال، وكيف تصون نفسها عن التطرف والشطط، وهو عندهم أشنع الخطايا وأكبر الكبائر.
ولكن كيف استطاع هذا الشعب الأديب الفنان أن يصبح شعبا فيلسوفا، بل شعب الفلسفة الأصيل؟
لولا الأدب ما كانت الفلسفة. ويخطئ من يظن أن لا صلة بين صوت القلب الدافئ الحنون وبين صوت العقل البارد المتعالي. فالأدب - والشعر بوجه خاص - هو مبدأ الفلسفة وغايتها. إنها تخرج منه كما خرجت منيرفا (أو أثينا) الحكيمة من رأس سيد الأدباء جوبيتر (أو زيوس). الأدب في صميمه ارتفاع بالإنسان إلى وجود أسمى ، والفلسفة تهتم في صميمها بالمبدأ الأول والغاية الأخيرة، ولا بد أن يصب نهرها البطيء المتعرج في نبع الأدب الحافل بالأسرار.
من لم يشعر ولو مرة واحدة في حياته بالجمال الخالص الكامل، من لم يحس بقوى الوجود وهي تتماوج وتتفاعل في نفسه كما تتماوج ألوان الطيف في قوس قزح، من لم يجرب في لحظات الدهشة والوجد والحماس كيف تتشابك الموجودات، وينسجم كل شيء مع كل شيء، فلن يكون في استطاعته أن يتفلسف أو يتشكك، ولن يقدر عقله إلا على الهدم لا على البناء؛ لأن المتشكك لا يرى النقص والعيب والتناقض فيما يعرض لفكره، إلا لأنه يحس انسجام الجمال الذي لا عيب فيه، ولا نقص، ولا تناقض، أو لأن لديه رؤية غامضة عنه، وإن لم يسعه التفكير فيه. إنه يزور عن الخبز الجاف الذي يقدمه إلى العقل؛ لأنه قد أكل حتى التخمة على مائدة الآلهة.
والكلمة العظيمة التي أطلقها هيراقليطس وهي الواحد المختلف أو المتفرق في ذاته «هين ديافيرون نيآوتي» لم يكن من الممكن أن يعثر عليها، أو ينطق بها إلا رجل إغريقي؛ لأن كنه الجمال موجود فيها، ولم يكن من الممكن أن توجد الفلسفة قبل أن يهتدي الإنسان إلى جوهر الجمال.
وجد الكل أولا، فأمكن أن يوجد التحديد والتعيين. تفتحت الزهرة ونضجت، ثم استطاع الإنسان أن يحلل ويفسر. أعلن الجمال عن نفسه، تجلى للبشر، دبت فيه الحياة والروح، وجد الواحد غير المتناهي، ثم أقبل عليه الإنسان، فأخذ يحلل ويفرق بالعقل، وأخذ يجمع ما تفرق، ويؤلف ما حلل وجزأ. هكذا استطاع أن يعرف كنه الأسمى والأفضل والأعظم، واستطاع أن يجعل مما عرفه قانونا يسري على مختلف مجالات العقل. وهكذا أتيح للأثيني أن يتفلسف، ولم يتح هذا للمصري ولا للشرقي. فالأول قد أحس المشاعر المتناقضة نحو السماء والأرض، شعر نحوها بالحب والكره والخشوع والخوف في وقت واحد. عاش متحدا مع العناصر التي تؤثر عليه؛ لأنه عاش متحدا مع نفسه وطبيعته، فسهل عليه أن يرى الجمال الخالد في كل ما يقع عليه بصره، أما الثاني فقد قهرته السماء الجبارة، والصحراء الشاسعة، والطاغية المستبد المخيف. تعلم أن يركع قبل أن يمشي، وأن يصلي قبل أن يتكلم. تعبد وأطاع وملكته الرهبة من الآلهة الضخمة والأسرار المقنعة والتماثيل الصامتة والملوك المتسلطين الظالمين. تفتتت نفسه أجزاء قبل أن تعرف الوحدة. ولهذا فهو لا يعرف شيئا عن الواحد ولا عن الجمال. إيزيس عنده لغز صامت مخيف، بداية ونهاية، عدم مرتفع شامخ، لكنه فارغ خواء، ولا يخرج من العدم إلا العدم.
أما الشمالي فقد أكره على أن يكون رجلا عاقلا قبل أن ينضج فيه الإنسان. إن «الشمال» يجبره على العودة إلى نفسه، والانغلاق عليها قبل أن يستكمل عدته للسير على درب الحياة. إنه يطالب بالعقل قبل أن ينضج شعوره، ويحمل مسئولية الرجل قبل أن ينضج الطفل بين جوانحه. لم يترك له أحد الفرصة لتزدهر فيه الإنسانية، وينضج الإحساس بالجمال والوحدة. فالعقل، والعقل الخالص وحده هو الملك المتوج على عرش الشمال، ولكن العقل وحده لا ينتج عنه شيء عاقل، والفهم الذي لا يقترن بجمال الروح والقلب والشعور أشبه شيء ب «الصبي»، الذي ينجر سورا من الخشب كما لقنه معلمه ليقام حول الحديقة. إن عمل العقل كله نابع من الضرورة والحاجة، فهو ينظم ويرتب، وبذلك يحمينا من الخروج على المعقول أو الافتئات على الحق والعدل، ولكن الحماية من الطيش أو الأمان من الجور ليس هو أسمى ميزة يتحلى بها الإنسان. وما العقل بدون القلب والروح، إلا كرجل عينه رب البيت؛ ليراقب عبيده، ويشرف على حسن أدائهم للعمل. فهو كالعبيد أنفسهم، يجهل الغاية من هذا العمل، وكل همه أن يصرخ في وجوههم ، ويستحثهم على بذل الجهد والنشاط. وما من فلسفة تأتي من العقل وحده؛ لأن الفلسفة تزيد عن مجرد المعرفة المحدودة بالواقع الموجود. وما من فلسفة تخرج من الفهم الخالص؛ لأن الفلسفة أكبر من المطالبة العشواء بالتقدم المطرد في تناول المادة الممكنة بالتحليل والتفريق أو التأليف والتركيب.
لا بد إذن أن يجتمع العقل والقلب، ويتعانق الفهم والشعور، ويتحد النظام والجمال. فإذا تجلى مثال الجمال للعقل، إذا سطع عليه نور هذا المبدأ الإلهي الذي ألهم الإنسان ذات يوم أن الواحد متفرق في ذاته، وأن الكل ثابت ومتحرك، متشابه ومختلف مع نفسه، كف هذا العقل عن مطالبه العمياء، وعرف لماذا يعمل ولأية هدف أو غاية. وإذا أشرقت شمس الجمال على العقل كما يشرق نور الربيع على مرسم الفنان، لم يحلق بعيدا، ولم يترك عمله الضروري، بل أمكنه أن يفكر في يوم يحتفل فيه بالعيد، ويتجول مرحا شابا في نور الربيع يوم يتذكر طبيعته الإلهية، ويتذكر القرابة الحميمة التي كانت تؤلف بينه وبين الآلهة والطبيعة والبشر، وتجعل الإنسان مركز العالم، والكأس التي في خمرها يذوب الآلهة والبشر، والسماء والأرض، والأبطال والرجال، والحاضر والخلود. •••
يتضح من العبارات السابقة أننا أمام شاعر غير بعيد عن الفلسفة. فماذا كانت علاقة هذا الشاعر بالفلسفة نفسها؟ وماذا كان موقفه من أضخم بناء عقلي في تاريخ الفكر الحديث، وهي المثالية الألمانية التي عاش في خضمها وعاصر رجالها وتأثر بها، وأثر فيهم بغير جدال؟ لقد اتصل ب «فشته»، وسرعان ما تمرد عليه، وصب اللعنات على الطغيان والطاغية اللذين تمثلا له في صورة الفلسفة والفيلسوف، وجمعت الصداقة بينه وبين «هيجل» و«شيلنج» بضع سنوات من حياته قبل أن يتفرقوا كل في طريق. لنبدأ بصداقته لهيجل وشيلنج قبل الحديث عن صلته بفشته.
دخل هلدرلين المعهد الديني في مدينة توبنجن في شهر أكتوبر سنة 1788م. واستطاع بعد سنتين أن يحصل على شهادة الأستاذية «الماجستير» في اللاهوت. وكانت دراسته الأولى في هذا المعهد تشمل المنطق والفلسفة العملية، وما بعد الطبيعة، والتاريخ، والرياضة، والفيزياء، واللغتين اليونانية، والعبرية . ثم اتجه إلى اللاهوت الخالص، فأخذ يتعلم الأصول والجدل والأخلاق وتفسير النصوص، وأصبح من حقه أن تصرف له كل يوم قنينة من النبيذ، بشرط أن يصرف وقته كله للاهوت.
وكان هذا المعهد في صرامته وجهامته أشبه بالدير، بل أشبه بالسجن. فأسواره كأسوار السجون، وحجراته الرطبة الخشنة كالزنزانات التي ينفذ المطر والريح والثلج من سقوفها المتداعية، ونوافذها الخربة. وكانت وجبات الطعام دروسا يومية في الصبر على التقشف والجوع، وعيون الرقباء تتجسس على الطلبة، وترصد حركاتهم وسكناتهم، فلا يملكون إلا أن يتكوموا على بعضهم البعض؛ ليتقوا البرد، ويتعلموا دروس اللاهوت المرة. كان كل شيء في هذا المعهد يثير ثائرة الشاعر الرقيق، ويجرح كبرياءه. ولولا توسلات أمه المسكينة، ولولا أن الأقدار ساقت إليه زميلين سيلمع نجماهما بعد ذلك في سماء الفلسفة لما احتمل هذه الحياة التي لا تطاق، ولا صبر على تزمت أساتذة اللاهوت أو حفاري القبور في توبنجن كما كان يحلو له أن يسميهم.
كان أحد هذين الزميلين هو «هيجل» الذي قاسمه حجرته في المعهد. وكان الآخر هو «شيلنج» الذي يصغرهما بأربع سنوات، ويلفت إليه الأنظار بنبوغه المبكر، وقصر قامته، وضآلة حجمه، واعتداده الشديد بنفسه، وتباعده عن زملائه. وقد سعى إليه هلدرلين، فتعرف عليه وقربه منه، وجمعت بينهما صداقة حميمة امتدت من خريف سنة 1790 إلى سنة 1793م، حين تفككت عراها، وحل محلها نوع من التقدير والاحترام، الذي لا يخلو من الجفوة والكبرياء. أما الصداقة التي ألفت هلدرلين وهيجل، فقد كانت أشد عمقا وأكثر دفئا وأطول عمرا من صداقته لشيلنج (إذ استمرت حتى نهاية القرن). ولم يكن السبب في ذلك هو تشابههما في السن، بل لعله يرجع إلى اختلاف موهبتهما وطباعهما - والضد يسعى إلى ضده كما يقال - كما يرجع إلى نشأتهما في بلد واحد غرس فيهما مزاجا واحدا وتقاليد مشتركة، وإلى عاطفة الحب الجارف الذي كان يحمله كل منهما لصاحبه.
ألف الحب والأمل والطموح بين قلوب الأصدقاء الثلاثة. كانوا يجتمعون في حجرة هلدرلين، فيقرأ عليهم شعره أو يتحدثون عن مبادئ الثورة الفرنسية التي ألهبت نفوسهم شوقا إلى تحرير بلادهم من الفساد والطغيان، أو يطالعون أفلاطون وكانط ورسائل ياكوبي عن مذهب اسبينوزا. وكان من قدر هذه الصداقة الحميمة - وفي كل صداقة عظيمة قدر - أن تؤثر على روح العصر كله، كما أثرت على الحياة الشخصية والعقلية لكل واحد منهم.
كانت بالنسبة لهيجل أكثر الصداقات دفئا في شبابه. وكان هلدرلين يحس الراحة والهناء كلما قابل هيجل. وليس أجمل من تواضعه حين يعترف بذلك فيقول: «إنني أحب رجال العقل الهادئين؛ إذ يستطيع الإنسان أن يهتدي برأيهم كلما التبس عليه الأمر في علاقته بنفسه وبالعالم.» وليس من المبالغة أن يقال إن الأساس الوجودي الذي تقوم عليه فلسفة هيجل، ويكثر الحديث عنه في السنوات الأخيرة - لا يمكن أن يفهم، إلا إذا فهمت صلته الشخصية بهلدرلين. أما هلدرلين نفسه، فيعترف في رسالة له إلى هيجل بعد خروجهما من المعهد بأنه على يقين من استمرار صداقتهما إلى الأبد. ثم يضيف في حسرة: «كثيرا ما كنت روحي الملهم. أشكرك جزيل الشكر. إني أشعر بهذا شعورا تاما منذ فراقنا. لا زلت أتمنى أن أتعلم منك أشياء، وأخبرك في بعض الأحيان بأحوالي ... يجب علينا من حين إلى حين أن ننتبه إلى أن لكل منا عند صاحبه حقوقا واجبة.»
وقد يدهش القارئ إذا عرف أن الفيلسوف - الذي لا يكاد يقرأ له حتى يتصبب العرق على جبينه، وربما تشكك في قواه العقلية - قد أهدى صديقه الشاعر قصيدة تحمل من الرقة والدفء والحنان ما يندر أن نصادقه قبل كتاباته المخيفة. استمع إليه وهو يقول له:
أقبل المساء، السكون من حولي وفي وجداني.
صورتك، أيها العزيز، تتمثل لي،
وأتصور بهجة الأيام الماضية،
لكنها سرعان ما تتوارى أمام آمال اللقاء العذبة
ويرتسم في خيالي مشهد العناق الحار
الذي أشتاق إليه من زمن طويل،
ثم أتخيل الأسئلة التي نتبادلها
وتأمل كل منا لصاحبه في الخفاء،
وكيف غير الزمن من هيئته وملامحه وتفكيره،
وأتخيل متعة اليقين بأن عهد الوفاء القديم
لا زال أشد رسوخا ونضجا مما كان،
عهد الوفاء الذي لم يختمه قسم،
بل نذرناه للحياة من أجل الحقيقة الحرة وحدها.
وافترق الأصدقاء، وسار كل منهم في طريق. سار هلدرلين - كما يقول في قصيدته عن الاحتفال بالسلام - على طريق «الروح المزدهر»، الذي أحس بأنه يسري في «الكل»، الذي يحيا في جميع الكائنات، ويؤلف بين الطبيعة الإلهية وأرواح السماويين الخالدين والأبطال والبشر الفانين في وحدة واحدة. ومضى هيجل على طريق «الروح المطلق»، الذي تنتهي عنده الأضداد، ويتحقق السلام الأخير. أما شيلنج، فاختار درب الفيلسوف المتصوف الذي يحلم ب «كنيسة يوحنا»، ولكنهم على الرغم من هذا التفرق قد اشتركوا في نسيج واحد قدم له كل منهم خيوطه. ويصعب أن نسمي هذا النسيج المشترك باسم محدد، ولكن لعلنا لا نجاوز الصواب كثيرا إذا سميناه «الفكر الديالكتيكي» أو الجدلي.
لقد أسهم كل منهم في هذا النسيج بالخيط الذي يميزه عن صاحبه، هلدرلين بالبراءة والخشوع المطلق، وشيلنج بالتفكير الجسور الدقيق الحاد، وهيجل بالبناء المذهبي الضخم والقدرة الخارقة على الاستدلال والتمحيص. وتأثر الثلاثة في مبدأ الأمر بلغة هيردر (1744-1803م) المتدفقة، ومنهجه العضوي والحيوي في التفكير. ثم شجعتهم فلسفة فشته المثالية المطلقة، ونظريته الضخمة المتعسفة عن العلم (وكان يقصد به الفلسفة)، وأمدتهم بالمران والقدرة على مواجهة الحياة على اختلاف صورها. وليس التفكير الديالكتيكي إلا مواجهة الحياة المتطورة المتغيرة من خلال التوتر والصراع بين قطبين متضادين، أي إدراك الصيرورة والتحول الناجم عن هذا الصراع بين الطرفين، بحيث يتحقق الطرف أو المبدأ الثالث الذي يصالح بينهما ويتجاوزهما إلى صراع آخر جديد. ولم يكن هذا التفكير الديالكتيكي منهجا طبقه الأصدقاء الثلاثة كل في مجاله، بقدر ما كان الفعل الفكري الأصيل الذي جمع بينهم. ومن طبيعة هذا التفكير المتغير المتطور تطور الحياة نفسها أن يفهم العقل أو الروح فهما تاريخيا، أي إنه لا يهتم إلا بالتاريخ؛ لأن التاريخ هو جوهره وقوامه.
يقول هلدرلين في قصيدته السابقة الذكر عن الاحتفال بالسلام: إن الروح العظيم يفض صورة الزمان. ويتطرق شيلنج إلى المعنى نفسه حين يقول إن كل لحظة خاصة من لحظات الزمان هي كشف عن جانب خاص من الله يكون مطلقا في كل واحد منها.
وهكذا يفضي التوتر بين المرحلة الأولى (وهي مرحلة الوجود البسيط الخالص الذي لم يتميز أو لم يتفتح بعد) والمرحلة الثانية (وهي مرحلة الوجود الذي يتفكر في ذاته، ويتبلور على نفسه) إلى مرحلة ثالثة يتم فيها التصالح والسلام في الوجود. وهكذا أيضا يمكننا أن نتصور هذا الطريق بخطواته الثلاث التي سارها هيجل وشيلنج وهلدرلين كل على طريقته، وبحسب موهبته بالتأمل أو الرؤيا أو الشعر، وبالعقل المجرد أو الحدس المتصوف أو القلب الملهم.
لا شك أن هذا تبسيط مخل للطريق المعقد، الذي لا حد لتعدد أشكاله ومستوياته، ولكن الذي يعنينا في هذا المقام أن الأصدقاء الثلاثة يشتركون في الغاية الأخيرة، والهدف من هذا الطريق، وهو السلام الذي ينتهي عنده موكب الصراع، وتتحقق أمنية العقل والقلب.
ونعود فنسأل: كيف سيبدو هذا السلام السماوي الهادئ الجبار، كما يسميه هلدرلين؟ في أي مكان أو زمان يفي بوعده ويبني بيته؟ سيقول الأصدقاء الثلاثة: في مملكة الله. وسيرى كل منهم هذه المملكة على طريقته في الرؤية والتفكير.
إن هلدرلين يكتب إلى هيجل في صيف سنة 1794م - أي بعد تسعة شهور من وداعهما لمدينة توبنجن - فيذكره بكلمة السر التي افترقا عليها، ويؤكد أنها ستجمعهما بعد كل تحول وتغير واغتراب. ولم تكن كلمة السر هذه سوى «مملكة الله». ولم تكن مملكة الله في تصورهم شيئا مجردا متعاليا على الواقع، بل شيئا يستطيع كل واحد منهم أن يشارك فيه بجهده، وإيمانه، وحبه، وأمله. ها هو ذا هيجل يصف في شبابه هذه المملكة الإلهية الصغيرة، فيقول إنها دائرة الحب والأفئدة التي تتنازل عن حقوقها الخاصة تجاه بعضها البعض، بحيث لا يجمع بينها غير الإيمان المشترك والأمل المشترك.
ويبحث الأصدقاء الثلاثة عن نواة هذه المملكة الإلهية، فيجدونها في الفكرة التي قال بها قبلهم «لوثر» و«كانط» و«هيردر» عن «الكنيسة غير المنظورة». ويتلقفون الفكرة، ويتعمقونها كل من جانبه. ويكتب هيجل إلى شيلنج في سنة 1795م فيقول: «لتأت مملكة الله، ولنعمل بأيدينا على تحقيقها، ولا ندعها تسترخي فارغة في حجرنا. ليبق العقل والحرية دائما قدرنا، وكلمة السر بيننا، ولتكن الكنيسة غير المنظورة هي النقطة التي نلتقي عندها.»
ومملكة الله هذه لا صلة لها بمملكة الأرض ودولتها. ولقد أعلنها السيد المسيح قوية أمام بيلاتوس عندما قال إن مملكتي ليست من هذا العالم. وهي كذلك لا تتصل بالكنيسة المنظورة، ولا شأن لها بطقوس العبادة؛ لأنها من شأن العقل والقلب والحرية .
ستأتي مملكة الله. سيشدو بها هلدرلين بعد ذلك في حماس وحنين لا نظير له في روايته الوحيدة «هيبريون». سيقول: إن الدولة لن تقيمها، بل سيمنحنا إياها ربيع الشعوب، وتدثرنا في سحابة ذهبية، وتحملنا بعيدا فوق الموت والفناء. وسندهش ونصاب بالذهول، وسنسأل نحن التعساء الذين طالما اشتقنا للربيع: أحقا صارت مملكة الله لنا؟
ولكن متى يتم هذا؟ عندما تبزغ الكنيسة الجديدة، حبيبة الزمان وأجمل بناته وأصغرها من بين الأشكال القديمة البالية. عندما يستيقظ الإحساس بالإله في قلب الإنسان، فيعيد إليه الشعور بألوهيته وشبابه ونضارته وبراءته. إن هلدرلين يعترف أنه لا يحس بها، ولا يمكنه أن يتنبأ بموعدها، ولكنه على يقين من أنها ستأتي. فالموت هو رسول الحياة. وما دمنا نرقد اليوم كالمرضى، ونشعر بدبيب الموت في نفوسنا وأجسامنا، فإن هذا هو بشير الصحوة القريبة والربيع الجديد:
لهذا أحتفل اليوم بالعيد،
وفي المساء في ظل السكون
تزدهر الروح حولي ولو جلل شعري المشيب،
مع ذلك أنصحكم يا أصحابي
أن تعدوا للمأدبة والغناء، والباقات الوفيرة والأنغام
وكأننا شباب خالدون ...
ويطلب هلدرلين من أحبابه وبني وطنه وعصره أن يتذرعوا بالهدوء والسكون. فالسكون هو شرط التجدد الروحي المأمول. وكلاهما موصول بالقدرة على الإنصات وحسن الاستماع لصوت الوجود الحق، أو صوت الخالدين السماويين، الذي لا يفنون ولا يبخلون. ولا بد للاتحاد مع هؤلاء الخالدين أن نكون قادرين على الانسجام معهم، أي أن يتجانس الصوت البشري مع الصوت الإلهي في نغم واحد وسر واحد. ولا بد أيضا أن نحسن الإنصات؛ لكي ندخل في الحوار الشجي، ونعود حوارا كما بدأنا ولغة واحدة هي لغة البراءة والقداسة والحب؛ لأنها هي لغة القلب. ومن لا يحسن الإنصات، فلن يحسن إلا النزاع والخلاف:
فعندما تطلعوا في البداية إلى بعضهم
بدأ الآخرون يقتربون،
عندئذ جلس رجالنا المتلهفون تحت شجرة الزيتون،
ولكن عندما تلامست ثيابهم
ولم يستطع واحد منهم
أن يسمع قول الآخر
نشب بينهم النزاع ...
ولكنهم لا يكادون يتبادلون الكلمة حتى يتم الصلح بينهم،
وتطلعوا إلى وجوه بعضهم لحظات،
ثم مدوا الأيدي في حب،
وسرعان ما تبادلوا السلاح
وكل ما في البيت من زاد طيب،
وتبادلوا الكلمة أيضا ...
وبدأت الكلمات تأتي من هنا ومن هناك. وبلغت المحبة ذروتها في الحوار، فهو روح الحياة وحياة الروح:
ليس حسنا
أن تستحوذ الخواطر الميتة
على المرء وتسلبه الروح،
لكن الحوار حسن والتعبير عن رأي القلب.
ستتحقق إذن مملكة الله على الأرض، ويتحقق معها الروح الشامل عندما تتحد النغمة الوحيدة في النغم العام، ويذوب الفرد في تطور الكل ونمائه، وتصبح لغة الحب هي لغة سكان الأرض:
لتكن لغة الأحباب
هي لغة الأرض.
هنالك يزدهر الروح حولنا نحن البشر. وحين تأتي هذه الساعة تصبح شريعة المحبين هي شريعة السلام:
أما الشرائع التي تصدق على المحبين
وتحقق التوازن الجميل،
فستصدق على كل الكائنات
من الأرض إلى أعلى السماوات.
تلك هي مملكة الله التي تراود خيال الشاعر. مملكة ستديرها شريعة الحرية والحب والوفاء التي يخضع لها الخالدون، وستأتي في المستقبل عندما ينجلي ليل المحنة، وينتبه البشر إلى الإله الكامن فيهم، وفي كل ما يحيا من حولهم، ويتعلمون لغة الحب والحوار، وينتظرون المنقذ الذي سيحررهم في ثقة وصبر واطمئنان «ففي أوقات الخطر تتجلى سبل النجاة». وقد عبر هلدرلين عن هذه المملكة المقبلة بشعر صادر عن القلب، كما عبر عنها صديقاه بالتأمل المجرد أو بالرؤيا والحدس. وآمن ثلاثتهم بأن مملكة الحب والحق والعدل لن تهبط من السماء، بل لا بد أن تنبع من إرادة الفرد، ولا بد أن يبنيها الرجال بالعرق والجهد.
تفرق الأصدقاء الثلاثة كما رأينا، وآثر الشاعر أن يسير وحده ويتبع نجمه. لم يكن السبب في هذه الفرقة أن هلدرلين كان بطبعه ملولا خجولا، لا يكاد يستقر في مكان أو يطمئن لإنسان، وأن الكآبة والغرب والوحدة كانت جراحا غائرة في قلبه تستعصي على كل دواء، بل إن السبب الحقيقي يرجع قبل كل شيء إلى موقفه من الفلسفة. لقد أقبل على دراستها في صبر وعناد، وراودته - كما ذكرنا - في فترة من فترات حياته فكرة تعليمها في جامعة «يينا». ومن حسن حظ الشعر أن الجامعة أغلقت أبوابها في وجهه. وجرب نفسه في كتابة بعض المقالات والتعقيبات الفلسفية فلم يكن لها صدى في نفسه، ولا في نفوس الناس. واكتشف في نهاية الأمر - كما اعترف بذلك في شهر يناير سنة 1799م في سياق كلامه عن «صنعة الشعر العذبة» - أن الفلسفة قد أضنته إلى حد اليأس، ووصفها بأنها نوع من السخرة، وأن الحياة معها أشبه بحياة الجنود في المعسكرات. كان كلما انصرف إليها شهق قلبه حنينا إلى «عمله الحبيب»، كما يحن الرعاة السويسريون أثناء فترة تجنيدهم إلى المراعي والسهول والقطعان. وكان يسأل نفسه على الدوام: لماذا تحرمه الفلسفة من الطمأنينة والسلام؟ ولماذا يكون كالطفل المسالم الطيب عندما يفرغ لإلهامه العذب، وينصرف إلى الشعر وهو أكثر الأعمال براءة؟
لا عجب إذن أن يعلن سخطه على «طغيان» الفلسفة، ويتمرد على قيودها، ويضيق بلغتها، ويهرب بنفسه وموهبته من حيلها وفنونها وأفكارها المجردة.
ولعل المسئول عن هذا السخط هو فشته (1762-1844م) الذي كان «روح مدينة يينا»، وزعيم الفلسفة في ذلك الحين. قدمه صديقه «مانويل نيتهامر» إلى بعض رجال الفكر الذين يشغلون المدينة بأخبارهم. ويحدثنا هذا الصديق في مذكراته عن اجتماع ثلاثة منهم في إحدى أمسيات الصيف في بيته. وكان هؤلاء الثلاثة هم فشته وهلدرلين ونوفاليس الشاعر الرومانتيكي الرقيق الحزين، الذي كان في ذلك الحين في الثالثة والعشرين من عمره. ولسنا ندري ماذا تم في هذا اللقاء، ولكن إشارة واحدة من نيتهامر عن النصيحة التي وجهها إليه صديقه هلدرلين بأن يحمي نفسه من الأفكار المجردة يمكن أن تلقي شيئا من الضوء على رأي شاعرنا في الفلسفة والفلاسفة.
وطبيعي أن لا يكون هذا اللقاء العابر هو سبب سخطه على الفيلسوف الكبير. فقد سبق أن أبدى إعجابه به، وتحمس لفلسفته إلى حد أن قال لهيجل في إحدى رسائله التي أرسلها إليه في شهر نوفمبر سنة 1794م إنه لا يعرف له نظيرا في عمقه وطاقته العقلية الفذة. بيد أن هذه العبارة كانت بنت اللحظة. فلم يلبث أن شعر بآفة التسلط الكامنة في هذه الفلسفة المجردة . ها هو ذا يعترف لهيجل في شهر يناير سنة 1795م بأنه اشتبه في جمود فشته وتزمته، وبدا له أن الفيلسوف يقف في مفترق الطرق. ولعل شبهة التزمت (أو ما يعرف في لغة الفلسفة بالنزعة الدجماطيقية) أن تكون من أصدق وأقسى ما يوجه إلى هذه الفلسفة المثالية المتطرفة التي تقوم في أساسها على أن «الأنا» هي التي تضع الواقع أو الوجود الخارجي. ومهما حاول فشته أن يدفع التهمة، فإن محاولته تستند إلى نفس الفرض الذي بنى عليه فلسفته.
مهما يكن من شيء، فإن الحوار الفكري الجاد لم يأت إلا بعد مرور فترة طويلة على لقائه بالفيلسوف في بيت صديقه، وذلك عندما كتب في أواخر سنة 1799م مقاله الذي لم يتمه عن الدين. حاول هلدرلين في هذا المقال أن يرد على فلسفة فشته في المطلق، ويناقش فكرته عن أن الذات هي التي تضع الوجود، أي إن الوجود لا قيمة له إلا من جهة تأكيده لوجود الذات. أما فكرته عن الذات الأخرى أو «الأنت» التي اعتبرها مجرد «وسيط لتأدية وتوضيح واجباته الأخلاقية»، فقد رد عليها هلدرلين بفكرة أخرى مطلقة، نابعة من تفكيره الإلهي العميق عن العلاقة الحميمة التي تجمع الأنا والأنت. ولا بد من باب الإنصاف أن نقول إن هذه الفكرة كانت جديدة كل الجدة في تاريخ الفلسفة، وإنها انتظرت أكثر من قرن ونصف قرن، حتى تناولها الوجوديون في الزمن الحديث - وبخاصة هيدجر وسارتر وياسبرز - فتعمقوها إلى أبعد حد في فكرتهم عن الوجود من أجل الآخرين.
لننظر في كلمات هلدرلين التي عبر بها عن فكرته الفلسفية تعبيرا يلائم حقيقة قلبه وحياته. فإذا أراد الإنسان في رأيه أن يتحدث عن الألوهية، وأن يكون حديثه من القلب لا من القراءة أو الذاكرة أو بحكم الصنعة، فلن يستطيع بالرجوع إلى نفسه وحدها أو الموضوعات الخارجية المحيطة به أن يتبين أن في هذا العالم روحا أو إلها، أو أنه يزيد عن كونه مجرد جهاز آلي ضخم، يتحرك حركة مستمرة، وإنما يمكنه أن يتبين هذا لو اتصل بما يحيط به ، ومن يعيشون معه اتصالا حيا مترفعا عن الحاجات الضرورية. من هنا يكون لكل إنسان إلهه الخاص، بقدر ما تكون له دائرته الخاصة التي يعمل فيها. وبقدر ما يشترك عدد من الناس في دائرة واحدة يعملون فيها، ويتعذبون بصورة إنسانية - أي بصورة تسمو على كل حاجة ضرورية - بقدر ما يشاركون في الألوهية. ويستطيع الإنسان أن يضع نفسه في موضع الآخر، كما يستطيع أن يجعل الدائرة التي يحيا فيها الغير دائرة خاصة به، أي إنه لن يعجزه أن يقر بطريقة الإحساس بالألوهية وتصورها على نحو ما تتأتى من العلاقات الخاصة التي تربطه بالعالم الذي يعيش فيه - بشرط ألا يكون هذا التصور وذلك الإحساس صادرين عن حياة متطرفة في العاطفة أو الغرور أو العبودية ... هكذا تبدأ تجربة الروح أو الإله على حدود الفرد. وحيث تتفتح هذه الحدود على القدر والكل والأنت تتم تجربة المطلق.
الواقع أن هذه الفكرة لا تختلف عن فكرة «فشته» إلا في الظلال الطفيفة التي تكسوها. فكلاهما يرى أن الإنسان لا يجرب واقعه إلا من خلال لقائه مع شريكه أو مع الآخر كما تقول الفلسفة المعاصرة. غير أن نقطة البداية التي ينطلقان منها تختلف عند الفيلسوف عنها عند الشاعر. فالفيلسوف يعنيه أن «يصنع» الإنسان نفسه عن طريق تحقيق مجال طاقته أو دائرته الخاصة، أي إنه لا يشعر بتحقيق طاقاته وإمكاناته إلا بالاصطدام بمجال آخر أو دائرة أخرى. إنه «يضع» نفسه - بالتعبير الشائع في المثالية الألمانية - عندما يقيم «الوضع المضاد» له.
أما الشاعر فينصب اهتمامه على اللقاء الذي يتم بين الأنا والأنت التي يضعها القدر في طريقه، بحيث يبرز «الثالث» أو المطلق الذي «يقوم بيني وبينك». وليس لنا أن نتوقع من الشاعر أن يتولى هذه الفكرة بالتحليل والتفصيل، فما خلق الشعراء لشيء من هذا. ولهذا نجده يقف فجأة عند هذا الحد، بينما يمضي «فشته» مع فكرته على ترتيب دقيق، حتى يصل بها إلى الغاية المرسومة لها في فلسفته وهي «الفعل».
على أن الشاعر لن يعدم فرصة يعبر فيها عن فكريته تعبيرا ملموسا، فهو يكتب في شهر نوفمبر سنة 1798م رسالة إلى شقيقه يقول فيها: «هكذا يجب علينا أن نقدم التضحية للألوهية التي تجمع بيني وبينك، فنحتفل باللطف والنقاء اللذين يتمثلان في حديثنا عنها إلى بعضنا البعض، كما نحتفل بالروح الأبدي الذي يربط بيننا.» وتعود هذه الصورة في رسالة متأخرة إلى صديقه «بولندروف» بعد أن تغيرت قليلا واكتسبت شيئا من العمق: «أنا في حاجة إلى أنغامك النقية، إن الروح التي تؤلف بين الأصدقاء، ونمو الفكرة في مجرى الحديث وعلى صفحات الرسائل المتبادلة بينهم أمور لا يستغني عنها الفنانون. ولو لم يكن الأمر كذلك ما بقيت لنا فكرة، وظلت ملكا للصورة المقدسة التي نكونها».
والفكرة الأصلية هنا واضحة متميزة، على الرغم من غموض العبارة وبخلها. فالشاعر يكرر رأيه الذي عرفناه، ويزيده قربا. إنه يؤكد أن تجربة المطلق أو الروح التي تجمع بين الأصدقاء ليست تجربة مجردة أو معلقة في الفراغ أو فوق السحاب، بل هي تجربة «بيني وبينك» يمكن استخلاصها من الأحاديث العادية التي تدور بين الناس كل يوم. أما الصورة المقدسة التي نكونها بأنفسنا، فهي تشير إلى بعد أسطوري عميق وجديد. فلعلها تريد أن تقول إننا نحن البشر نشارك في عمل المبدع الأعظم، ونسهم في جهود القوى الخلاقة، وفي «نسج صورة الزمان التي يرسمها الروح الأكبر»، على نحو ما تقول قصيدة «الاحتفال بالربيع» التي أشرنا إليها من قبل. وواجبنا في هذه الحياة هو أن نقف من الخالق المدبر موقف الطاعة والخشوع، ونتأمل حكمته المتجلية في الطبيعة والروح. •••
هذه هي منزلة هلدرلين من المثالية الألمانية، وصلته بروادها الثلاثة الكبار، عرضتها بإيجاز شديد أرجو ألا يكون مخلا. وقد رأيت بغير شك أن هلدرلين يفكر تفكير شاعر يبتعد جهده عن التجريد، ويلتزم دائما بالواقع المجسد، ويرتبط بتيار التحول والصيرورة في الحياة على اختلاف صورها وألوانها. إنه يصغي على الدوام لدقات قلب الحياة، ويرصد عمليات التغير والنمو التي تتم في تيارها الدافق. وليس من طبيعة هذا الفكر أن يكون مذهبيا مغلقا أو نهائيا تاما في ذاته؛ لأنه في حالة نشوء مستمرة. ولا يهم صاحبه أن يشيد بناء من التصورات والأفكار يرتفع طبقة فوق طبقة، بقدر ما يهمه أن يكون في حركة متصلة، ويتغلغل فيما يحيط به من أسرار القدر والوجود، ويتتبع الخيوط التي يتألف منها نسيج الحياة. وهو لهذا كله فكر يعرف حدوده - وتلك هي أول خطوة على درب المتواضعين الخاشعين الذين أعطاهم الله موهبة الطاعة والانتظار، وأنعم عليهم بالقدرة على التعلم من الطبيعة والإنصات لصوت الوجود - إنه يقف من هذه الطبيعة الإلهية موقف العبد الخاشع والتلميذ المطيع، ويحاول أن يتعلم منها، ويغري الناس بأن يحبوها ويتعلموا منها كما يقول في قصيدته عن بلاد اليونان:
لأن الطبيعة مفتوحة من قديم الزمان؛
ليتعلموا منها كالأوراق والخطوط والزوايا.
وهو يحاول أن يصل إلى الروح الموجود في كل ما هو حي، وإن كان يعلم أن هذا الروح يحجب وجهه عن فضول البشر، كما يحسن أنه «قريب وعصي على الإدراك»، ولكنه لا يعبر عن هذا الروح بالتصورات والكلمات المجردة، وإنما ينظر إليه بعين الشاعر، فيرى سحره المنثور على جسد الأرض، ويصور انعكاساته على وجدانه بلغة مكثفة وصور حية توشك أن تكون محسوسة وملموسة. فإذا أراد أن يعبر عن الأمل أصبح عنده وهجا حيا ملموسا، وإذا أراد أن يصور السلام لجأ للحدث المحسوس الذي تلمحه العين، ويهتز له القلب. انظر إليه مثلا وهو يخاطب الخالدين:
الأنسام اللطيفة الأنفاس
تبشر بكم،
الوادي الذي يتصاعد منه الدخان،
والأرض التي لا تزال تدوي بالعواصف والأنواء
تعلن عنكم،
لكن الأمل يكسو الخدود بالاحمرار،
وأمام باب البيت
تجلس الأم مع طفلها
وتتطلع للسلام.
لهذا كله يقترب هذا الشعر من روح الفلسفة، وإن ابتعد الشاعر عن الفلاسفة، وأعرض عن نهجهم المرتب ولغتهم المجردة، ووصفهم بأنهم طغاة متزمتون، وتسلل في جنح الليل هاربا من مدينتهم «يينا» بعد أن شعر بوحدته وبؤسه أمام قصرهم الفخم الذي وضعت عليه لوحة «المثالية الألمانية».
ولهذا أيضا نوه بعض الشراح بالقرابة الروحية التي تجمع بين هلدرلين وبين المفكرين السابقين على سقراط. فقد كانوا مثله يفكرون في الطبيعة، ويحيون في قلب الأسطورة، ويدهشون لمعجزات الوجود الممتدة أمام أبصارهم. وكانوا لذلك مفكرين شاعريين يعبرون عن انبهارهم بالوجود بلغة الصورة والرمز والخيال، كما كان فكرهم هو الفجر الذي سبق ظهور الفلسفة بمعناها الدقيق. فإذا رأينا واحدا منهم مثل هيراقليطس يصور الروح أو العقل أو اللوجوس في صورة البرق الذي يسطع في السماء، فإن هلدرلين - الذي أعجب به وأحبه وأقام فكره على أساس كلمته المشهورة عن الواحد - لا يبتعد عنه كثيرا حين يرسم التفكير - في قصيدته عن بلاد اليونان - على هيئة الأثير الرفاف، ويصور الحب بلون البنفسج الأزرق الذي يكسو الأرض:
النيران أسيرة بين الشطآن المعشبة،
وكذلك العناصر الأربعة،
أما الأثير فيحيا في الأعالي في تفكر خالص.
وأما النور فهو فضي في الأيام الصافية،
والأرض زرقاء بلون البنفسج
علامة الحب.
لعل صلة القربى بين هلدرلين والمفكرين اليونانيين قبل سقراط أن تكون من أقوى الأسباب التي جذبت فيلسوف الوجود «هيدجر» إلى الاهتمام بشعره، وتكريس عدد من بحوثه ومحاضراته عنه. فالمعروف أن هيدجر قد عني بدراسة المفكرين قبل سقراط، وبخاصة هيراقليطس وانكسمندر وبارمنيدز. والمعروف أيضا أنه لا يرى أنهم فلاسفة بالمعنى المصطلح عليه في تأريخ الفلسفة، وإنما هم عنده مفكرون كبار، ومحبو الحكمة أو حكماء الحب؛ ذلك لأنهم كانوا قريبين من الأصل والمنبع، أي من الوجود نفسه، قبل أن تتوه الميتافيزيقا الغربية - بسبب نسيانها لهذا الوجود منذ عهد سقراط وأفلاطون حتى نيتشه، أو بالأحرى حتى هيدجر نفسه - على دروب الموجود.
2
وليس هذا هو مجال الإفاضة في هذا القول ؛ لأن الذي يعنينا الآن هو أن هؤلاء المفكرين «الشاعريين» كانوا من أقوى الأسباب التي أغرته بالإقبال على شرح قصائد هلدرلين (إلى جانب أسباب أخرى قومية لا أشك فيها) وبيان قيمته الكبرى كشاعر مفكر، لا بل كشاعر الشعراء الذي عكف أكثر من أي شاعر سواه على تأمل ماهية الشعر، وبالتالي ماهية اللغة والوجود. فهو عنده شاعر الشعر الذي حقق ماهيته، وسكن حيث يتجلى نور الوجود، ويكشف الحجاب عن سره. وهو الذي أحس محنة «الليل الكوني» الذي نعيش فيه كما لم يحسه أحد قبله ولا بعده. وهو الذي شعر بأن الرب قد تخلى عن البشر وانطفأ بريقه الذي يشرق عليهم - وهو ما يسميه هيدجر نسيان الوجود - كما لم يشعر به أحد غيره، وكان هذا النسيان عنده هو محنة المحن.
فكر هلدرلين في الوجود نفسه، ولم يحبس نفسه في أسر الموجود. وعلينا أن نفك قيودنا، وننصت لندائه إن أردنا حقا أن نخرج من محنة الليل الذي يدثر الكون. فالوجود قريب منا كما يقول الشاعر في قصيدة «العودة»، ولكنه في نفس الوقت بعيد، ولذلك لا نكف عن البحث عنه.
والشاعر يتغنى بالوطن في أكثر من قصيدة. والوطن الذي يتغنى به ليس هو الوطن الجغرافي، بل هو القرب من الأصل والمنبع. وهو يتمنى أن يعود إليه؛ لأن من العسير - كما يقول في قصيدة «التجوال» - أن يهجر المكان من كان قريبا من الأصل، ولأن التغني بالوطن هو صنعته ورسالته، ولأن العودة للوطن ليست إلا القرب من أصل كل الموجودات، أي من الوجود نفسه. وهو لا يقترب منه بالشعر فحسب، بل إن الشعر نفسه هو القرب من الأصل؛ لأنه هو الذي يعبر عن فرحة القرب من سره الذي يتجلى ويحتجب، ويهب نفسه ويبخل بها في آن واحد. بهذا تمتزج الفرحة بالحزن، وتختلط السعادة بالهم.
ولكن هذا الشعر لا «يقول» شيئا عن الأصل. وكيف يتسنى له أن يسمي ما لا سبيل إلى تسميته؟ فليكن الشعر إذن غناء، لا بل عزفا على الأوتار. وليكن في نفس الوقت فكرا أو تفكرا فيما يقال عن الأصل والسر.
والشعر عند هلدرلين هو أكثر المشاغل براءة، ولكنه في نفس الوقت أشدها خطرا.
فهو شكل من أشكال اللعب، يخلق عالمه من الصور والأخيلة بحرية وبلا قيد، ولكنه يخلقها من «مادة» اللغة، واللغة هي أخطر ما أعطي للإنسان، بها يخلق ويبدع، ويقوض ويحطم، وعن طريقها يرجع من جديد إلى الأم والمعلمة الخالدة التي لقنته أسمى ما لديها من جوانب الألوهية، وهو الحب الذي يرعى ويصون، ولكن الشعر لعب خطر أيضا؛ لأنه يجمع البشر ويضمهم في «أساس» وجودهم، ويشعرهم بالراحة في ظله، ويبعدهم عن مشاغل الحياة اليومية وضجيجها ومتاعبها.
لكن الشعر يقال وينطق بالكلمات. واللغة إذن هي مجال «أكثر المشاغل براءة» وهي في نفس الوقت أخطر ما وهب الإنسان من خيرات - لا لأنها تستطيع بالكلمة أن تعبر عن أصدق الأشياء وأسماها، أو أحقرها وأدناها، بل لأنها هي الشهادة على انتمائه للموجود بكليته، أي الشهادة على إمكان التاريخ نفسه. وهي كذلك أخطر ما وهب الإنسان؛ لأنها تتحمل مسئولية الكشف عن الوجود، فتشعله حماسا إذا حضر، أو تملؤه هما وخيبة أمل إذا غاب.
واللغة ليست مجرد أداة للتفاهم، ومن يقول بهذا يبتعد عن حقيقتها وجوهرها. إنها هي التي تكفل للإنسان إمكانية أن يظل منفتحا للوجود، وبهذا تضمن له أن يصبح موجودا تاريخيا.
وحيث تكون اللغة يكون العالم، أي تكون دائرة الأعمال والقرارات والمسئوليات، وكذلك دائرة الضلال والضجيج والعسف والعطب والاضطراب.
اللغة ليست أداة، وإنما هي «الحدث» الذي يتحكم في أعلى إمكانات الإنسان. وماهية الشعر لا يمكن على هذا الأساس أن تفهم بالرجوع إلى ماهية اللغة، بل إن العكس هو الصحيح؛ إذ لا بد أن تفهم ماهية اللغة بالرجوع إلى ماهية الشعر نفسه؛ لأنه هو «اللغة الأم» أو اللغة الأولى التي تؤسس الوجود بالكلمة.
يقول هلدرلين في إحدى قصائده التي لم تتم:
جرب الإنسان الكثير،
وسمى من السماويين الكثير
منذ أن كنا حوارا
ونسمع عن بعضها البعض.
وإذن فنحن البشر حوار. ووجودنا يقوم باللغة وعليها، لكن هذه اللغة «لا تحدث» إلا حيث يكون الحوار، ولا تبلغ حقيقتها إلا به. وليست اللغة المقصودة هي نسق الكلام وقواعده وبنائه النحوي والصرفي، فهذه كلها مظاهر اللغة. إنما «الحدث» الجوهري للغة هو الحوار، والحوار يفترض إمكانية السماع والإنصات لبعضنا البعض، والحوار يفترض كذلك أن تكشف الكلمة الجوهرية عن الشيء الواحد الذي يمكن أن نتفق عليه، ونتحد به، ويحمل وجودنا. وهذا الذي نتحد عليه لا بد أن يكون شيئا ثابتا وباقيا.
ولكن هلدرلين يقول: منذ أن كنا حوارا، أي منذ أن كان الزمن، ومنذ أن كنا في التاريخ، أي إن الوجود في الحوار وفي التاريخ شيء واحد ونفس الشيء.
منذ أن كنا حوارا جرب الإنسان كثيرا وسمى عددا كبيرا من الآلهة، أي التقط إشاراتهم وأبلغها للبشر على نحو ما يسبق النسر العواصف والبروق والرعود، ويعود للأرض لينبئ «الشعب» بمقدم الآلهة، وبهذا يقف روح الشاعر الجسور بين الآلهة والبشر، ولعل مأساة الشاعر ترجع إلى وقفته في زمن المحنة والليل، بين عهد مضى وغابت عنه الآلهة، وعهد آخر ينتظر قدومهم ولم يأت بعد.
ولعل عظمته أن تكون راجعة إلى قدرته على الانتظار والصبر والخشوع، وبهذا كان بحق شاعر المحنة.
منذ أن كنا حوارا جرب الإنسان كثيرا وسمى عددا كبيرا من الآلهة، ومنذ أن كانت اللغة حوارا تكلم الآلهة وظهر العالم في نفس الوقت، ولكن الآلهة لا تتكلم إلا بلساننا، والعالم لا يظهر إلا لنا. ومعنى هذا أن وجود الإنسان ارتبط بوجود الحوار وقام عليه.
فإذا سألنا: من الذي بدأ هذا الحوار الذي هو نحن، ومن الذي سمى الآلهة، وانتزع من الزمن المتغير الهدام شيئا باقيا عبر عنه بالكلمة، كان جواب الشاعر في ختام قصيدته «ذكرى» على هذا النحو: «أما ما يبقى فيؤسسه الشعراء». والعبارة تكشف لنا عن ماهية الشعر.
فليس الشعر زينة ولا تسلية ولا مظهرا حضاريا ولا لعبة في أيدي النقاد وأصحاب الجمال. إنما الشعر «تأسيس» بالكلمة وفي الكلمة.
ما هذا الذي يؤسسه الشعر؟ هو ما يبقى ويثبت ويدوم. وهو يؤسسه حين ينتشل هذا الشيء الثابت من تيار التغير الجارف، ويستنقذ البسيط من المعقد، والمعيار من خضم الفوضى والاضطراب. ولا بد له أن يكشف الحجاب عن الوجود لكي يتاح للموجود أن يظهر. ومسئولية الشعراء تفرض عليهم أن يبقوا على ما من شأنه أن يبقى، ويصونوا ما من شأنه أن يصان. وهي «عناية يبذلونها، وخدمة يناط بهم أداؤها» أي بذل وعطاء صادران عن حرية واختيار. والحرية في صميمها التزام بقدر أسمى وضرورة عليا. والقدر الأسمى والضرورة العليا التي يتحملها الأدب عموما والشعر بوجه خاص هي أن يؤسس الوجود بالكلمة، أي يدعم صلة الموجود الإنساني بالوجود. بهذا يكون وجود الإنسان في صميمه وجودا شعريا؛ لأن الإنسان - كما يقول الشاعر - يسكن على الأرض سكنا شعريا. •••
إذا أردنا الآن أن نستخلص من شعر هلدرلين ونثره وحياته الكسيرة البائسة فلسفة، فيمكن أن نقول إنها نمت وتطورت وفقا لقانون التطور الدوري، أو ما يسميه هو نفسه «دورة الحياة» حين قال في قصيدة تحمل هذا الاسم:
هكذا أعبر قوس الحياة
وأعود إلى حيث جئت.
أخذت هذه الفلسفة في روايته «هيبريون» شكل وحدة الوجود، فكانت الطبيعة الإلهية بكل قواها وعناصرها وحدة واحدة مع البشر الفانين والسماويين الخالدين. ثم تطورت في قصائده المتأخرة إلى نوع من الواحدية أو «التوحيد» الذي يضم عناصر من الوثنية الإغريقية بآلهتها المتعددة، ومن وحدة الوجود والمسيحية. ووجدناه يتحدث عن إله أعلى خارج حدود الزمان يسميه «إله الآلهة»، إلى جانب درجات أخرى من الألوهية كان آخر من ظهر منها هو المسيح.
هناك أيضا دورات أخرى يتعاقب فيها الليل والنهار، ويتجلى الإله للبشر أو يحتجب عنهم، على حسب قدرتهم على احتمال نوره الباهر.
وقد كان كل هم الشاعر في أعماله المتأخرة أن يبرر طرق الرب المختلفة إلى الناس. وإن كان قد فعل هذا من خلال تجربته الفاجعة بمأساة الحياة، ومأساة الشاعر في عالم لا يفهمه ولا يسمعه، وتجربته الأشد فجيعة عن «الرب الذي لم يعد يتحرك فوق رءوسنا من زمن طويل».
ويتصل بهذا فكرته عن أن الإله قريب، وعصي على الإدراك ، وعن النور الرباني الساطع الذي لا يحتمله البشر، والذي يفاجئهم، فيرتعشون لحظة، ويظلون يسألون بعد ذلك عن سره. وهي فكرة نجد جذورها في كثير من نصوص العهد القديم وكتابات الأسرار والتراث الشعري، كما نجد لها نظائر في آداب مختلفة عند شعوب متعددة، كما نراها مثلا في الفردوس المفقود لملتون أو في شعر وليم بليك (1757-1827م) الذي يعبر عن هذا المعنى في إحدى قصائده «الصبي الأسود الصغير»:
لقد وضعنا على الأرض فترة قصيرة من الزمان علنا نتعلم كيف نحتمل أشعة الحب.
وتتصل فكرة هلدرلين عن الليل والوحشة وزمن المحنة بفكرته عن «الليل الكوني»، حيث يحتجب الرب ويبتعد، ويتخلى عن البشر فلا يتجلى لهم ولا يهديهم. وفي ليل الوحشة والمحنة يزداد غرور الإنسان، وينسى قوانين السماء، ويتخطى حدود قدرته، أي يزل الزلة الكبرى التي حذر منها اليونان في أدبهم وفلسفتهم، وجعلوها أكبر الكبائر، وأشنع الخطايا.
أما نهاية الفلسفة والشعر وغايتهما الأخيرة، فهي كما تقدم «العودة للوطن» أي للأصل والمنبع، للوجود الذي يظهر كل موجود، لكي تتم الدورة، ويتحد الكل، ويجتمع المتفرق، ويسود التجانس والصلح والوئام.
وواضح أن هذه الفلسفة تمد جذورها في عاطفة التدين العميقة التي كانت تغمر كيان هلدرلين، ولكنه تدين ورع خاشع لا صلة له بالكنيسة، ولا برجال الدين الذي رفض بعناد وإصرار أن يصبح واحدا منهم. وهو التدين الذي يجعله يرتبط بكل شيء وكل إنسان، ويحس الروح الإلهية في كل ما تقع عليه عيناه، ويعبر عن إحساسه تعبيرا أسطوريا، وهو قبل كل شيء وبعد كل شيء ذلك التدين الذي يضع الإنسان في مركز الوجود، فقد آمن هلدرلين بأن «الإلهي» يحتاج كذلك للإنسان. وأقواله في هذا الصدد كثيرة ومتعددة. فهو يقول مثلا في قصيدته التي جعل عنوانها باليونانية وسماها «ميموزينة» أي ذكرى:
لأن السماويين لا يقدرون على كل شيء؛
إذ لا بد أن يسبقهم القانون إلى الهاوية.
هكذا يتغير حال هؤلاء.
طويل هو الزمان، لكن الحق يتم ...
كما يقول في الصياغة الثانية لمسرحيته «موت إمبادوقليس»: ماذا كانت تصبح السماء والبحر ، لو لم أعطها النغمة واللغة والروح؟ كما يقول في قصيدته عن نهر الراين: وإذا كان السماويون يحتاجون لشيء، فهم يحتاجون للإنسان.
وهي في النهاية عاطفة التدين التي تفيض بالروح الإنسانية، وتتطلع لإنسان المستقبل، وتعمل أيضا من أجله. الإنسان المتكامل الشامخ الحر البريء من العبودية التي كان هلدرلين يرى الناس في عصره غارقين فيها إلى آذانهم. الإنسان الذي يحيا في ظل الكنيسة الحرة، أي المدينة الحرة العزيزة التي يتكلم الناس فيها فيكون كلامهم حوارا ، ويحسنون السماع والإنصات لبعضهم البعض.
مهما يكن رأي القارئ في هذه الفلسفة، فلا يمكن الإغضاء عن أهمية هلدرلين كشاعر مفكر، أو إن شاء كشاعر فيلسوف. إن الفكر وحده لا يصنع شاعرا، والعاطفة وحدها لا تصنعه أيضا. وكل الشعراء العظام قد حققوا نوعا من التوازن الجميل بين الفكر والوجدان، وبين القلب والعقل، فجعلوا من الأفكار أغنيات، وأشاعوا نبض الحياة في التأملات. والواقع أن الحدود الفاصلة بين الفكر والشعر دقيقة ورقيقة كالزجاج الشفاف، وهما متقاربان يسكنان - على حد تعبير الشاعر الذي أوردناه فيما سبق - على قمة جبلين متجاورين وإن كانا منفصلين.
ومع ذلك فقد فطن هلدرلين إلى خطر الفلسفة على موهبته، وشكا في بعض فترات حياته من أن الفكر قد أربكه وشتته، وقال على لسان بطله هيبريون، الذي هو في الحقيقة هلدرلين نفسه: إن الإنسان يكون إلها حين يحلم، وشحاذا حين يفكر. وقد كانت الحياة الفلسفية على أيامه هي المسئولة عن ارتباكه وتشتته. فقد وصلت الميتافيزيقا الألمانية إلى الأزمة التي بررت شكواه. وبلغت أزمة الثنائية العتيقة ذروتها، فأبعدت بين العقل والعالم، والفكرة والواقع، والتأمل والحدس المباشر، والفن والطبيعة. وكان على الأدباء والشعراء أن يلتمسوا لأنفسهم مخرجا من هذه الأزمة التي تحاصرهم من كل مكان. غرق بعضهم إلى أذنيه في بحر الفلسفة، مثل شيلر الذي ظل هلدرلين فترة طويلة من حياته يعده مثله الأعلى في الأدب والرجولة على السواء - ولكن هلدرلين استطاع أن ينتشل نفسه من المتاهة الفلسفية الغريبة - كما فعل شيلر قبله. فاستنجد بقلبه، واستجاب لصوت إلهامه الباطن الذي لا يمكن أن يكذب، كما ينتظر من كل أديب حق يمر بمثل هذه المحنة، والتقى الواقع والفكرة، واتحد القلب والعقل، ووجد الشاعر طريقه لأول مرة بفضل المرأة التي أحبها، ووجد فيها مثال الجمال والطهر والقداسة عندما كان يقوم بتربية أبنائها. هو الحب إذن ولا شيء سواه. هو المنقذ الذي طالما انتظره وناداه؛ ليخلصه من محنته. وهو الذي أعاده كذلك إلى «ليل المحنة المقدس»، وجعله يغوص في هاوية الجنون نصف حياته الأخير، فسقط فيها سقوط الفنان المبدع في قاع «الوطن» الذي أحبه وقدسه وتغنى به، وإن لم يستطع أن يتحمله أو يفهمه.
لم الشعراء في الزمن الضنين؟
لم الشعراء في الزمن التعيس؟
سؤال هتف به الشاعر هلدرلين منذ قرن ونصف قرن من الزمان، حين أحس ليل المحنة يلف الكون، وأن الآلهة لم تعد تكترث بالبشر، والثلاثة العظام - هرقل وديونيزيوس والمسيح - قد هجروه إلى غير رجعة.
لم يقل: أين الشعراء؟ لأن الشعراء كانوا كثيرين في عصره، وكانوا يغنون فيحسنون الغناء، ويعبرون فيجيدون التعبير عن آلامهم وآلام وطنهم وآلام الناس.
وكان الزمن ضنينا وتعيسا؛ لأنه نظر حوله، فوجد البشر بعيدين عن السماء، والسماء بعيدة عن البشر، ووجد الرب «يتحرك من وقت طويل فوق رءوسنا بغير اكتراث»، وأحس أن الدنيا خلت من البراءة والقداسة والنور والجمال، وأن الحب نفسه أصبح سخفا وخداعا، واللغة أقفرت من الحوار، فلم تعد هي لغة الأرض والأحباب.
تلفت حوله، فوجد وطنه ممزقا إلى أشلاء من إمارات وولايات، ورأى الإقطاع في أوج سلطته وجبروته، والقهر والاضطهاد والاستبداد والفساد في كل مكان، والصغار والأنانية والجشع والإرهاب تكتم على الأنفاس. وتطلع بكل شوقه وإخلاصه إلى بلاد يونان جديدة حرة، تمنى أن تبعث لتمحو هوان وطنه وسوء حاله. ولم يكتف بالشعر والغناء، فأراد أن يكون الشعر هو السبيل الهادي إلى الفعل، بل أن يتحول هو نفسه إلى فعل خلاق. ها هو ذا يكتب في سنة 1794م - قبل أن يصاب بخيبة الأمل المتكررة في الحب والناس والحياة - إلى صديقه «نويفر» قائلا: سنكسر أوتارنا التعيسة إذا لزم الأمر، ونعمل ما كان يحلم به الشعراء. ثم يكتب بعد ذلك بخمس سنوات إلى شقيقه من أبيه فيقول: وإذا أرادت مملكة العتمة أن تظهر للوجود، فسوف نقذف بأقلامنا تحت المائدة، ونمضي باسم الله إلى حيث تكون المحنة على أشدها، ونكون نحن أشد الممتحنين بها.
لقد كان ليل المحنة يلف في الحقيقة كل شيء بظلامه. ونظر هلدرلين فرأى أن شعاع الأمل الوحيد الباقي لبلاده هو الأدب الذي كان في أوج ازدهاره، ولكن الحياة الأدبية تجاهلته، والناشرين أعرضوا عنه، ولقمة العيش أجبرته على مرارة التعليم الخصوصي، والحب العظيم اليتيم في حياته حاصرته التقاليد وأعين الرقباء وألسنة الصغار.
وصرخ من قلبه قبل أن يغوص في ليل الجنون بقليل:
لم الشعراء في الزمن الضنين؟
هكذا صرح الشاعر الوحيد منذ أكثر من قرن ونصف قرن.
فماذا عسانا أن نقول بعد ما ازداد الزمن تعاسة؟
هل نقول: لم الشعراء في الزمن الضنين، والشعراء عندنا أكثر من الهم على القلب، وإن كان الصوت الصادق فيهم أندر من قطرة ماء أو نفحة ورد في الصحراء؟
ماذا نقول في محنتنا الكبرى في الأرض والوطن والقيم والضمير والرجال؟
ماذا نقول وعصابات القتلة واللصوص والأفاقين المطرودين من بلاد الله تدنس أرضنا، وتهين كرامتنا وتاريخنا؟ وطوفان الكذب والضجيج والتنغيص والإحباط والصغار يحاصرنا من كل ناحية، وكرامة العربي مستباحة للكلاب والذئاب، وأشجع رجالنا من الفدائيين يذبحون بأيدي الخونة أمام أعيننا، والبيروقراطية الفرعونية تخنق الأنفاس وتتحرش الآن بالنور والهواء والأشجار والطيور والزهور، والبرجوازية المريضة تواصل جنايتها على روح التمرد والثورة والمغامرة، وعلى ملايين الفقراء المقهورين، وتستحم في مستنقع الجشع والتظاهر والغرور والثرثرة والأغاني والأفلام العاطفية المقززة؟
لا نستطيع أن نقول مع الشاعر الغريب:
لم الشعراء في الزمن الضنين؟ بل نقول:
لم الحياة نفسها في الزمن التعيس؟
ما السبيل لإنقاذ الرجولة والبطولة والكبرياء والطهر والبراءة في نفوسنا ونفوس أبنائنا؟ كيف نخفف من التعاسة ما دامت السعادة أبعد من الأحلام؟ وكيف تصبح الحياة محتملة ما دام الموت هو الشيء الوحيد الأكيد؟
لنسأل الشاعر الملهم العراف، فقد نجد عنده الجواب. سيقول لنا: لا بد أن يصل البشر الفانون إلى قاع الهاوية وقرار المحنة قبل أن تمتد إليهم يد المنقذ بالخلاص.
ونعود فنسأله: ألم نصل بعد إلى قاع الهاوية وقرار المحنة، مع كل ما نقاسيه ويقاسيه العالم من مخاوف الرعب والقلق والتعذيب والاضطراب وانتصار الوحشية في كل مكان؟
من يدري؟ فلعل المحنة أن تشتد عما هي عليه، ولعل العزاء والأمل الوحيد أن يكونا في قول الشاعر نفسه:
أما حيث يكون الخطر،
فتلوح كذلك أسباب النجاة ...
وسننجو حتما ما بقيت لدينا القدرة على الغضب المقدس على أنفسنا. (1970م)
بين الشعر والفلسفة
بين الشعر والفلسفة ...
هل بينهما شيء؟
هل يلتقيان على شيء؟
مشكلة كبيرة ومحيرة، فماذا عسى أن يجمع بين الفلسفة التي تخاطب العقل والوعي، وتتوسل بالحجة والبرهان، وبين الشعر الذي يتجه إلى القلب والشعور، ويوحي بالصورة والاستعارة والرمز العميق والتشكيل الفني للغة والإيقاع الملون المنغم للكلمات وللأصوات؟ هل يمكن أن تكون الفلسفة شاعرية، وأن يكون الشعر فلسفيا؟ هل يمكن أن يحدث هذا دون أن تفقد الفلسفة طابعها ووظيفتها، أو يضيع الشعر روحه المرفرفة الغامضة، ويتحول إلى حكمة جافة أو نظم تعليمي؟
كلنا يعرف أسماء العديد من الشعراء الفلاسفة والفلاسفة الشعراء في أدبنا العربي أو في غيره من الآداب القديمة والحديثة. وما من مثقف مهتم بالشعر والفلسفة إلا وقد قرأ أو سمع - على سبيل المثال لا الحصر - عن زهير بن أبي سلمى والشعراء الصعاليك، وأبي تمام والمتنبي وحكيم المعرة والصوفية الذين كتبوا الشعر كالحلاج وابن عربي وابن الفارض، وشعراء في العصر الحديث دمغوا بخاتم الفلسفة مثل جميل صدقي الزهاوي، وبعض شعراء المهجر مثل جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وبعض المجددين في شعرنا الحديث كالبياتي - شاعر الغربة والمنفى - وصلاح عبد الصبور، الذي تلفع بعباءة الحكيم في «أقول لكم»، وبخرقة الصوفي الثوري المحبط، والعدمي اليائس في مأساة الحلاج، وفي العديد من قصائده المتأخرة، وأدونيس في عالمه الزاخر بغرائب التجريب والتحول.
وكلنا قد قرأ أو سمع عن شعراء فلاسفة وفلاسفة شعراء في الآداب الأخرى: الخيام في الأدب الفارسي، وطاغور وإقبال في الأدب الهندي، هوميروس أب الشعراء الإغريق، وشعراء التراجيديا من إيسخيلوس إلى سوفوكليس ويوريبيدز مرورا بلوكريس صاحب القصيدة الفلسفية الكبرى عن طبيعة الأشياء، ودانتي في قصيدته الكونية الكبرى «الكوميديا الإلهية»، وشيكسبير في قصيدتيه المأساويتين الملك لير وهاملت، وهلدرلين وبعض الشعراء الرومانطيقيين الأول في الأدبين الألماني والإنجليزي مثل نوفاليس وشيلي وكيتس، وتيار كامل من الشعراء الميتافيزيقيين في القرن السابع عشر في الأدب الإنجليزي بوجه خاص (مثل جون دون ومدرسته)، وإن كان من الممكن التوسع في هذا التيار - كما يذهب إلى ذلك الشاعر الميتافيزيقي الحديث ت. س. إليوت - ليبدأ من دانتي في القرن الرابع عشر عندما انهارت وحدة العالم المسيحي والكنسي، ويمتد إلى المجددين في الشعر الغربي الحديث في أواخر القرن التاسع عشر من بودلير وأتباعه الرمزيين - خصوصا مالارميه إلى رلكه، والشاعر الأيرلندي ييتس وإليوت نفسه - حتى بعض الشعراء الأوروبيين والأمريكيين المعاصرين الذين أثرت عليهم ظروف عصرنا المضطرب من تغير في الرؤية العلمية النسبية للعالم، وتمزق في الحياة الاجتماعية، وفوضى في الحياة السياسية، وانهيار للقيم التقليدية والنظم الفلسفية الشامخة، وتفتت لوحدة الواقع المادي والوجود الإنساني، بحيث أصبحت كلمة «جون دون» في القرن السابع عشر حقيقة تتردد في أسماعنا: «إن الفلسفة الجديدة تبعث على الشك في كل شيء. انطفأ عنصر النار تماما، ضاعت الشمس وضاعت الأرض، وعقل الإنسان عاجز عن هدايته للبحث عنه.» ولا شك أن هذه الكلمات كانت رد فعل للآلية الديكارتية وضياع صورة العالم الحي عند الإغريق وتمزق دائرة الكمال في عصر النهضة.
أما الفلاسفة الشعراء أو القريبون من روح الشعر، فيصعب حصرهم أو الاتفاق على أسمائهم. فهناك الفلاسفة قبل سقراط الذين كتب أحدهم - وهو بارمنيدز - فلسفته عن الوجود الواحد في شكل قصيدة، وعبر أحدهم - وهو هيراقليطس - عن فلسفته في التحول والصراع الدائم في نثر شاعري غني بالصور والاستعارات الغامضة غموض الوحي المتدفق على ألسنة الكهنة والعرافين. وهناك أفلاطون سيد الفلاسفة الشعراء الذي وقف كما نعلم موقفا عدائيا من الفن والشعر ونصح - في الكتاب العاشر من الجمهورية - بطرد الشعراء من جمهوريته أو مدينته المثالية، ومن أفلاطون إلى اليوم تقابلنا وجوه اقترب أصحابها من عالم الشعر، وقربوا بين العقل والوجدان، وذلك من أوغسطين إلى جوردانو برونو - شهيد عصر النهضة وبطله الذي انتهى على المحرقة - ومن شوبنهور ونيتشه (الذي لم يقتصر على أن ينظر للعالم نظرة فنية وشعرية، وإنما كتب فلسفته بلغة شعرية متوهجة كما كتب بعض الأناشيد «الديثيرامب» التي يناجي فيها ديونيزوس مثله البطولي والرمزي الأعلى)، حتى كيركجور أب الوجودية المسيحية الذي تمنى لو ولد شاعرا وعد نفسه أدبيا يكتب قصصا عن الوجود الذاتي الحميم، وفلاسفة الوجود الذين لم يتركوا لنا شعرا حقيقيا، وإن كانوا قد اهتموا بشعر الوجود، ودرسوا شعراءه (فهيدجر قد كتب عن هلدرلين، وسارتر درس بودلير).
هذا التمهيد السريع عن الشعر والفلسفة يدفعنا من ناحية أخرى إلى طرح سؤال مهم: هل يمكن أن نجد خلفية فلسفية لكل شعر حقيقي وكل أدب عظيم؟ إن الأمر لا يحتاج إلى دراسة عميقة لكي نؤكد هذه الحقيقة، كما أن تأكيدها لا يعطينا الحق في تحويل الشعراء والأدباء العظام إلى فلاسفة، لكن نظرة واحدة إلى إنتاج من ذكرنا الآن من الأدباء والشعراء تبين لنا أن في كل أدب عظيم فلسفة، وفي كل فلسفة عظيمة أدبا. وليس من الصعب أن نعثر في النقد الغربي - وإلى حد أقل في النقد العربي - على أعمال تبرز «المعادل الفلسفي» - إن صح هذا التعبير - لإنتاج كبار الشعراء والأدباء، وأن نجد الصور النثرية والشعرية التي تكثف بطريقتها أفكار الفلاسفة: هوميروس وآراؤه الفلسفية عن أصل الكون، ومصير النفس بعد الموت، ونماذج الخير والشر والبطولة والخسة في ملحمتيه، سوفوكليس والحس المأسوي الفاجع بمصير الإنسان، وإيثار عدمه على وجوده، يوريبيدز والنقد السفسطائي والسقراطي والتشاؤم الإغريقي بوجه عام، أبو تمام والمتنبي وتأثير العقلانية اليونانية والمنطق الأرسطي، أبو العلاء المعري وفلسفة الشك والشكاك، دانتي الذي لا يمكن فهم كوميدياه الإلهية بغير فلسفة توماس الإكويني وبنائه الميتافيزيقي والمسيحي (وقد وصف دانتي نفسه كوميدياه بأنها رسالة في الفلسفة الأخلاقية )، فولتير وديدرو وفلسفة عصر التنوير، وحدة الوجود العضوي الحي الفعال عند «جوته»، ووحدة الوجود عند أفلوطين وواحديته عند اسبينوزا، فريدريش شيلر والمثالية الكانطية التي تميز عالم الظواهر عن عالم الحقائق، وعالم الحس عن عالم الحرية والضمير والغايات، دستويفسكي والروحانية الصوفية الروسية، إقبال والكانطية الجديدة فضلا عن الفلسفة الحيوية عند نيتشه وبرجسون وفلسفة الإسلام ورؤيته للحياة والإنسان، هلدرلين شاعر الغربة وهيدجر الذي درسه ودعم به فلسفته في زمن المحنة والاغتراب عن حقيقة الوجود والانصراف عن الإصغاء لصوته والاستجابة لندائه، جبران ونيتشه، ميخائيل نعيمة والتصوف الشرقي، توفيق الحكيم والثنائية الأفلاطونية والديكارتية بين الجسد والروح، والوهم والحقيقة، والطبيعة والفن، والواقع والفكر المثالي المتعالي، نجيب محفوظ والثورية الاشتراكية جنبا إلى جنب مع الحس الفاجع بالتدهور والانهيار الذي يذكرنا بتشاؤم شوبنهور ونيتشه وفرويد وعبثية الوجود ولعنته عند ألبير كامي وسارتر.
لا يمكننا أن ننساق وراء هذه التمهيدات التي تغري بالمزيد. ولا بد أن نمضي إلى سؤال أهم وأكثر تحديدا: متى تصبح القصيدة فلسفية؟ كيف تعبر عن بعض الحقائق الكبرى مع المحافظة على شروط الشعر وإمكاناته الفنية والجمالية؟
قبل أن نجيب عن هذا السؤال أود أن أذكر بعبارتين مشهورتين سنعود إليهما بشيء من التفصيل بعد قليل. العبارة الأولى لأرسطو في كتابه «فن الشعر»: «إن الشعر أكثر تفلسفا وأهم من التاريخ؛ لأن الشعر يتعامل مع الكليات، والتاريخ يتناول الجزئيات.»
1
والعبارة الثانية لمارتين هيدجر عن أبيات مشهورة للشاعر هلدرلين: «إن أحب الأحباب يسكنون على جبلين منفصلين، وإن كانا متجاورين.»
ونعود إلى سؤالنا السابق فنقول: إن القصيدة تكون فلسفية بأحد معنيين؛ فقد تكون أداة تستخدم لتوصيل حكمة أو تعليم فلسفي مستقل عن القصيدة نفسها، ويمكن تبعا لذلك أن يترجم إلى مجموعة متسقة من العبارات التقريرية دون تشويه للمعنى أو فقدان له. ومعظم القصائد التعليمية من هذا النوع، كما تندرج فيه بقصيدة لوكريس المطولة عن طبيعة الأشياء، والمقال عن الإنسان ل «ألكسندر بوب» وقصيدة بريدج «وصية عن الجمال».
ويمكن من جهة أخرى وعلى نحو أعمق مما سبق أن تعتمد القصيدة على الأدوات اللغوية والفنية والإيقاعية لتزيدنا بصيرة بالقيم والعلاقات والدلالات الممكنة على القضايا الكبرى في حياتنا (كالحب والموت والمصير)، بحيث يستحيل التعبير عن كل ذلك بصورة وافية لو تحولت القصيدة إلى عبارات نثرية تشوه بنيتها الأصلية، وتضيع جمالها ورنينها. في هذا النوع الأخير تدخل قصيدتا شيكسبير المسرحيتان «هاملت» و«الملك لير»، وقصيدة كيتس «أنشودة إلى مزهرية إغريقية»، و«الأرض الخراب» أو «الرباعيات الأربع» لإليوت.
فالفلسفة في النوع الأول فلسفة صريحة، و«القصيدة» تأتي بقضايا عامة توشك أن تكون صورة مكررة من القضايا العامة المجردة في تلك الفلسفة. عندئذ لا نستطيع في الحقيقة أن نتكلم عن شعر ولا قصيدة؛ لأن عباراتها قد اتحدت تماما مع الفلسفة، ولأن الجزئيات التي قد تصورها لا تخرج عن أن تكون أمثلة أو رموزا شفافة عن تلك الفلسفة.
بيد أن التعميم هنا غير جائز؛ إذ لا يخلو الأمر من قصائد فلسفية صريحة نجحت في أن تنقل إلينا فلسفة معينة، وأن تبقى في نفس الوقت شعرا جيدا. فقصيدة لوكريس السابقة الذكر تنجح في بعض أجزائها في التأليف بين الفلسفة والشعر باللجوء إلى وسائل شعرية لا منطقية، واستخدام لغة الأفكار والآراء الكامنة فيها وتضفي عليها حيوية. إن «طبيعة الأشياء» تعبر كما نعلم عن المذهب الذري عند ديموقريطس وأبيقور، ولكنها تحييه وتنفخ فيه الدفء بصور لا ننساها مثل صورة الاستحكامات الملتهبة للعالم أو روابط الحب التي تشد فينوس بها الذرات بعضها إلى بعض. وهذه الروابط التي تعبر عنها كلمة،
Foedus
وجمعها
Foedera
توحي بمعنى القوانين الرومانية الصارمة التي كان الرومان يلتزمون بها، ويقسمون على طاعتها والخضوع لها، أكثر مما توحي بمعنى الضرورة الآلية العمياء التي فرضها ديمقريطس على ذراته. وهكذا تعبر الصورة السابقة عن خشوع الشاعر في حضرة الكون، ورهبته لجلاله، وإشادته بالروابط التي تباركها ربة الحب. وهذا ما يتجلى في أول بيت تتفتح به تلك القصيدة: «إيه يا أم جنس إينياس، يا من تثيرين الرغبة في البشر والآلهة.» وينجح هذا البيت الأول في إضفاء النغمة الرومانية على القصيدة المعبرة عن فلسفة إغريقية، والإهابة برمز أو نموذج أولي راقد في أعماق اللاوعي هو فينوس الأنثى التي تؤلف بين قلوب المحبين، والأم التي تنتج الحياة الكونية وتحافظ عليها.
ربما يعزز ما قلناه عن التمييز بين الفلسفة الصريحة والفلسفة الكامنة في القصيدة أن نورد التفرقة التي أقامها الشاعر الناقد ت. س. إليوت - في مقاله المشهور عن دانتي - بين الوضوح العقلي والوضوح الشعري، بين المعتقدات الفلسفية من ناحية والتصاعد والسمو الشعري من ناجية أخرى. فالموقف الاعتقادي الذي يتخذه القارئ من الكوميديا الإلهية لدانتي لا بد أن يكون مختلفا عن الموقف الذي يتخذه من المجموع اللاهوتي لتوماس الإكويني أكبر فلاسفة العصر الوسيط، على الرغم من أن المعتقدات الفلسفية واحدة في كلا العملين. والسبب في هذا أن الكوميديا قد بنيت - على العكس من المجموع اللاهوتي - على أساس «منطق للحساسية» يمثل «سلما كاملا يعبر عن العواطف والانفعالات البشرية من أدناها إلى أعلاها». لهذا لا ينفصل السمو الشعري عند دانتي - الذي يعكس موقفه الاعتقادي بأكمله - عن الصور والأخيلة التي لم تعد عنده مجرد صيغ بلاغية عتيقة، بل صارت وسائل وأدوات عملية جادة لإبراز الجوانب الروحية في صورة مرئية.
2
هكذا نرى أن القصيدة الشعرية يمكن أن تنطوي على فلسفة كامنة، وأن تعبر عن الحقائق الكبرى في الكون والحياة من خلال طبيعتها الشعرية الخاصة. وأول من صرح بهذا الرأي هو أرسطو في عبارته الشهيرة التي ذكرناها من قبل: «إن الشعر أكثر تفلسفا من التاريخ؛ لأن الشعر يتعامل مع الكليات، والتاريخ يتناول الجزئيات».
لا شك أن هذه العبارة تبدو مخيبة للآمال، وربما تسببت للوهلة الأولى في قدر كبير من سوء الفهم. فكيف يمكن أن يتعامل الشعر مع الكليات، وهي كما نعلم تصورات عامة وتجريدات ذهنية من الجزئيات المحسوسة؟ هل يتوقع الناس من الشعر أن يقدم لهم أفكارا عامة ومعاني مجردة أم كلمات تنطق بالصور الحية وتنقل المواقف الشعورية والأشكال الجمالية الموقعة؟ لا بد إذا من أن نصحح فهمنا لهذه العبارة المظلومة بتصحيح فهمنا لنظرية المحاكاة المشهورة عند المعلم الأول. فلا شك أنه كان يرد على موقف الأفلاطونيين من الشعر والفن بوجه عام، وموقفهم من عالم الطبيعة والواقع الذي نحيا فيه. إن هذا العالم في رأيهم ظل أو نسخة ناقصة من عالم واقعي وحقيقي آخر هو عالم المثل أو الصور الثابتة والنماذج الخالدة، أي عالم المعاني الكلية والقيم المطلقة. فالموجودات الحسية في عالمنا تعبر تعبيرا ناقصا عن تلك المثل والمعاني الكاملة. وما دامت الفنون المختلفة - ومنها الشعر - تصور العناصر التي تلتقطها من العالم الطبيعي، وتعبر عنها بوسائطها العديدة، من كلمات وإيقاعات أو رسوم وأشكال، فهي تبتعد مرتين عن ضوء الحقيقة والواقع والحق، ولا تنتج إلا نسخة من النسخة.
غير أن أرسطو يرى رأيا آخر. فعالم الطبيعة ينطوي في اعتقاده على إمكانات جميع الأشياء، ويسعى - بدرجات متفاوتة - إلى تحقيقها ونقلها من القوة إلى الفعل. ولهذا يقول في كتاب «الطبيعة»، ويكرر قوله في نصوص أخرى من كتبه أن الفن يحاكي الطبيعة من جهة، ويكمل من جهة أخرى ما تركته ناقصا. وإكمال ما تركته الطبيعة ناقصا أو مشوها نتيجة لتدخل المصادفة التي تعوقها عن تحقيق إمكاناتها هو على التحديد ما يجعل من الفن عملية فلسفية؛ إذ لا بد للخلق أو الإبداع الفني - باعتباره محاكاة - من أن يرمز للطبيعة أثناء قيامها بفعل الخلق أو الإبداع. ولهذا ذهبت التفسيرات المتأخرة لعبارة أرسطو إلى أن الكليات التي يعبر عنها الشعر تمثل الطبيعة الطابعة - أي أفعالها الإبداعية الممكنة - ولا تمثل الطبيعة المطبوعة أو الأشياء المتحققة والموجودات الظاهرة المحسوسة. وهكذا تفيد العبارة أن الفن يعبر عن «روح» الطبيعة لا عن جسمها، ويمثل الكليات العينية لا الكليات المجردة، ويصور الدوافع الخلاقة لا المنتجات الجاهزة، كما تفيد أن الشعر يعكس فاعلية الخلق والإبداع وينميها، سواء تمثلت هذه الفاعلية المبدعة في عمل الطبيعة أو في عمل الفنان.
وجدير بالذكر أن شاعر الألمان الأكبر جوته (1749-1832م) قد أخذ برأي أرسطو وطبقه في كتاباته الشعرية والأدبية والنقدية. فهو يذهب إلى أن الغائية الكامنة واضحة في نشوء الكائنات العضوية الحية وتطورها وفي الأفعال الإنسانية المبدعة في الفن سواء بسواء. وليس على الذهن أو الفهم أن يفرض مبادئه وقوانينه على عالم الحس أو عالم الظواهر الغريب عنه (كما فعل كانط في كتابه نقد العقل الخالص)، وإنما يقوم دوره الحقيقي على التفكير من خلال الموضوعات واكتشاف ألوان التجانس والتناظر بين الإبداع في الطبيعة والإبداع في الفن، وبذلك يتوصل إلى المثل أو النماذج والظواهر الأولية الكامنة في كل منهما. هذه المثل أو النماذج والظواهر الأولية كما يسميها «جوته» ليست متميزة عن الموجودات الجزئية والفردية التي تجسدها، ولا هي منفصلة عنها كما يرى أفلاطون، وإنما توجد في الجزئيات وتحيا بداخلها، ولن يستطيع أن يعرفها أو يكشف عنها إلا من يفتح بصره وسمعه وقلبه على العالم الحسي الحي، ويلمس فعل الفعال الأبدي المبدع، ويستعيد تجربته الحية في كل ما يتجلى فيه «سره المكشوف» للعين القادرة على الرؤية. ولهذا ينطوي الشعر بطبيعته على الكشف؛ لأنه حين يتناول «الجزيء» المفرد في طابعه الحي إنما يستبصر في الوقت نفسه استبصارا ضمنيا بالكلي الفعال المبدع في كل شيء حي.
ونأتي إلى الحركة الرومانطيقية، فنجد عددا من أعلامها الأول - وبخاصة في ألمانيا وإنجلترا - يؤكد الطبيعة الفلسفية للشعر، أو يؤكد أن الشعر في جوهره فلسفي. فالأخوان شليجل (أوجست وفريدريش)، والشاعر توفاليس، والفيلسوف شيلنج يتوسعون في مفهوم الشعر، بحيث يشمل - بتعبير فريدريش شليجل - «الشعر الذي لم يتخذ شكلا معينا، والشعر اللاشعوري الذي ينبض في النجوم والكواكب، ويسطع في الضياء، ويتوهج في صدور النساء» (عن حديثه عن الشعر 1800م). ويدعم أوجست رأي شقيقه بالحجة المنطقية، فيقول إن كل الأشياء في الطبيعة مترابطة، بحيث يدل كل شيء على نحو من الأنحاء على كل شيء عداه، وبذلك يعكس الكل. ولما كان الوعي الشائع وسطا مضطربا يعتم رؤية الكل، فإن الخيال ينفذ خلال هذا الوسط، ويغوص بنا في العالم الحقيقي، حيث لا يوجد ثمة شيء ساكن أو منعزل، بل يشارك كل شيء في كل شيء في حالة تحول مستمر. ويتفق نوفاليس وشيلنج على أن قوة الخلق والإبداع في الطبيعة هي الحب الذي هو الشعر الطبيعي بأسمى معانيه - كما يقول نوفاليس - وهو روح الطبيعة التي لا تتكلم معنا إلا عن طريق الرموز، كما يعبر شيلنج.
ولا شك أن الرومانطيقية الجديدة كان لها تأثيرها على فيلسوفين ساهما في فلسفة الشعر بأوفى نصيب. هذان الفيلسوفان هما شوبنهور (1788-1860م) ونيتشه (1844-1900م). يذهب الأول إلى أن الإرادة، لا الحب، وراء كل أفعال الطبيعة، وأن تمثلات هذه الإرادة أو مستوياتها الطبيعية المختلفة من النبات إلى الحيوان إلى الإنسان تميزها المثل أو الأفكار التي تعبر عن فعل الإرادة في مستوى معين. والفن، بما في ذلك فن الشعر، هو ذلك النوع من المعرفة المتعلق بالأفكار، وهدفه الوحيد هو توصيل المعرفة. والمهم في هذا كله أن الفن بأسمى صوره ومعانيه والشعر كذلك بأسمى صوره ومعانيه شيء واحد؛ لأنهما يبلغان بنا تلك الحال التي يختفي فيها الألم، وتتوقف عجلة الصيرورة، ونشعر بالتحرر والخلاص من الإرادة الشريرة، ولو في لحظات الإبداع أو لحظات التذوق والاستمتاع.
وتتخذ الإرادة صورة أخرى إيجابية عند نيتشه، فتصبح هي إرادة القوة أي إرادة الحياة والمزيد من الحياة. إن عنف العاصفة، وانبثاق النبات، وبزوغ الجنين من الرحم، ونشوة المحارب البطل بالمعركة، وحساسية الفنان المبدع ونسك الناسك والقديس ... كلها مظاهر للإرادة الحية التي لا تتوقف عن الخلق. وإرادة الخلق والإبداع عند الفنان تعبر عن الصراع المزدوج بين المبدأين المصطرعين في الوجود، ألا وهما المبدأ الديونيزي نسبة لديونيزوس إله النشوة والخلق والتدمير المأسوي والبعث المتجدد. والمبدأ الأبوللوني نسبة لأبوللو إله الفن والتشكيل والوهم الجمالي، وكلاهما يفضي إلى عاطفة العلاء على الذات التي يتحد فيها الحكمة الفلسفية والإبداع الفني، وينصهران في كيان واحد.
هكذا يصبح الشعر والفلسفة شيئا واحدا بالذات، وتكون بروق الرؤية الشعرية - لا البراهين العقلية والحجج المنطقية - هي الطريق إلى الحقيقة.
أما في إنجلترا، فكان التوحيد بين الشعر والفلسفة في أثناء الحركة الرومانطيقية من الموضوعات الأثيرة والمألوفة. فالشاعر شيللي يعبر عن هذا بقوله: «إن الشعراء فلاسفة بلغوا أسمى درجة من القوة، وأن الشعر هو مركز كل معرفة ومحيطها.» ويضيق كولريدج أن الشاعر فيلسوف على نحو ضمني غير صريح. ولا عجب بعد ذلك أن يقيم هو والشاعر «ورد زوورث» رأيهما عن طبيعة الشعر الفلسفية على نظرية في الخيال مستمدة إلى حد ما من الفيلسوف كانط. ويفسر ورد زوورث الخيال تفسيرا يتأثر فيه بكانط، وبالكلمة الألمانية الأصلية التي تفيد الخيال (وهي كلمة
Einbildungskraft
أي قوة التشكيل أو ملكة التكوين) فيقول إنه - أي الخيال - هو الملكة التي يصور بها الشاعر، وينتج أشكالا مفردة تتجسد فيها أفكار كلية أو تجريدات. ويخطو كولريدج خطوة أبعد من زميله، فيميز بين خيال أولي أو ميتافيزيقي وهو القوة الحية الفعالة في كل إدراك بشري، وخيال ثانوي أو فني وهو انعكاس للخيال الأولي يوجهه الهدف الفني ويتحكم فيه. وكلاهما في نهاية الأمر يكرران في العقل المتناهي ذلك الفعل اللامتناهي الخلاق الذي يتم في الكينونة اللامتناهية، وبذلك تتأكد الصلة الوثيقة بين الرؤى الفلسفية عند الشاعر وبين إبداعاته الشعرية.
حتى إذا وصلنا أخيرا إلى الشعر الحديث وجدناه رد فعل مضاد للرومانطيقية. ولقد كان من نتائج النزعة الحديثة للتجرد من الرومانطيقية والعواطف البشرية تأكيد انفصال الشعر عن الفلسفة. إن القصيدة - حسب تعبير الشاعر إرشيبالد ماكليش - لا ينبغي عليها أن تعني شيئا، وإنما ينبغي عليها أن تكون. وعلى الشاعر نتيجة لذلك أن يتخلى عن دور الرائي أو المتنبئ ليصبح صانعا. وجاء النقاد - خصوصا ريتشاردز - فعززوا طلاق الشعر من الفلسفة، وأكدوا أن الشعر صياغة للمشاعر والمواقف الوجدانية وتعبير عنها (ريتشاردز في كتابه عن النقد العملي 1929م). ثم تدخل بعض الفلاسفة - وبخاصة أصحاب التجريبية أو الوضعية المنطقية - فزعموا أن العبارات الشعرية والأخلاقية ليست إلا أشباه عبارات لا تحتمل الصدق ولا الكذب، وإنما تدل على مواقف ومشاعر وجدانية. ومع ذلك فإن بعض الدراسات الحديثة في علم الدلالة قد بدأت تصحح هذا الموقف العدائي من الشعر، وتقرب بين المعنى والوجود، والفكرة، والعاطفة، وتحاول تفهم الدور الذي يؤديه المعنى والاعتقاد في الشعر، وتبين أن من الخطأ وصف التعبير الشعري بأنه شبه تعبير؛ لأن الأجدر به أن يسمى تعبيرا عميقا ينطلق من عبارات عميقة ثرية بالمعاني والدلالات والمفارقات، مختلفة تمام الاختلاف عن العبارات أو القضايا العلمية والمنطقية المحددة المعاني والإشارات.
تتعدد مواقف الشعراء الفلسفية أو الفكرية من الكون والإنسان، من الحياة والموت، من الزمان والتاريخ والتراث، من المكان والمدينة والمجتمع. كل هذه المواقف التي يمكن أن تتفاوت عند الشاعر الواحد من مرحلة من العمر إلى مرحلة، ومن قصيدة إلى قصيدة، بل ربما تفاوتت في القصيدة الواحدة، يمكن أن تلقي شيئا من الضوء على فلسفته أو وجهة نظره. وسوف نقتصر على مشكلة فلسفية واحدة تكثر الكتابة والحديث عنها في الغرب والشرق على السواء، ألا وهي مشكلة الغربة أو الاغتراب.
ونعود فنذكر بعبارة هيدجر السابقة «إن أحب الأحباب - أي الشعر والفكر - يسكنون على قمة جبلين متباعدين، وإن كانا متجاورين.» محاولين النظر في هذه المشكلة الفلسفية. وسنكتفي بأمثلة قليلة من شاعر كلاسيكي مغترب هو «فريدريش هلدرلين» لنرى كيف «فلسفة» هيدجر، ثم ننظر في أمثلة أخرى قليلة من شعرنا العربي الحديث تبين أصداء هذه المشكلة، واستجابة الوجدان العربي لها.
ولكلمة
Alienation
في اللغات الأجنبية منذ أصلها اللاتيني تاريخ طويل يصعب أن نتتبعه في هذا المقام، ويكفي أن نقول إنها كانت تدل على معان متعددة كالبيع، والتنازل للغير، وانتقال الملكية من شخص إلى آخر، والانفصال والابتعاد، والضلال واختلال العقل. ثم استعملها أصحاب العقد الاجتماعي مثل هوبز وروسو للدلالة على تنازل الأفراد عن حقوقهم وحريتهم سواء للحاكم أو للجماعة كشرط للعقد الاجتماعي. ولم تأخذ الكلمة معناها الفلسفي الحقيقي إلا منذ هيجل واليسار الهيجلي - فويرباخ وماركس - حتى الفلسفة المعاصرة.
وللاغتراب عند هيجل صور ومظاهر عديدة يتخذها الروح المطلق على طريق تحقيقه لذاته أو وعيه لذاته؛ إذ تتخارج هذه الروح المطلقة أو يغترب عن ذاتها في الطبيعة والتاريخ والوعي، وفيما ينشئه الإنسان من علوم وحضارات. وهو عند فويرباخ إفقار لمعنى الإنسان لإغناء معنى الألوهية؛ إذ يغترب الإنسان عن ذاته (في المسيحية واليهودية) عندما يتخلى من جوهره ليسقطه على موجود أسمى مفارق تحرر في تصوره من حدود البشرية وقيودها، وأصبح موضوعا يجله ويعبده، وكأنه مستقل عنه. ولهذا يجب عليه أن يسترد حقيقته التي خلعها على الله، ويتحول من الإيمان بالله إلى الإيمان بالإنسان والإنسانية التي هي الديانة الحقة. وأخيرا نجد ماركس - خصوصا في المخطوطات الاقتصادية الفلسفية لسنة 1844م - يطبق فكرة الاغتراب في مجال العمل والإنتاج، ويبين كيف يكتسب المنتج قوة مستقلة تجاه العامل الذي أنتجه، ويصبح سبب شقائه واستغلاله من قبل صاحب العمل، أي سبب اغترابه عن ذاتيته وحريته وإنسانيته، بدلا من أن يؤدي إلى تحرره وإشباع حاجاته وتحقيق إنسانيته. ولا سبيل لرفع هذا الاغتراب إلا بإلغاء الملكية الخاصة والثورة على المجتمع الرأسمالي، وإنهاء الصراع الطبقي بين المستغلين والمستغلين.
وتتعدد مفاهيم الاغتراب ومظاهره مع التطور التاريخي والعلمي والآلي كما تتعدد محاولات قهره والتغلب عليه. ويمكننا على كل حال أن نحدده في هذه الصور والأشكال المتداخلة: اغتراب الإنسان عن العالم والكون، وهو اغتراب ميتافيزيقي أو اغتراب أساسي ملازم لوعيه بوجوده وتناهيه، واغترابه عن الجماعة التي ينتمي إليها بما لها من ماض وقيم وتقاليد، ثم اغترابه عن ذاته، ولعله أن يكون أخطر هذه الأشكال الثلاثة وأهمها، سواء بالنسبة للشاعر أو الفيلسوف أو عالم النفس.
وشاعرنا الذي اغترب عن ذاته ومجتمعه وعصره وراح يتغنى بأناشيد الحنين إلى «ديوتيما» رمز حبه الضائع، واشتياقه لبعث الروح اليونانية في شعبه ووطنه ووجوده، بحيث يصبح هذا الوجود شعريا ومسكنا للشعر، هذا الشاعر الذي اغترب كذلك عن ذاته وعقله ما يقرب من نصف حياته هو فريدريش هلدرلين (1770-1843م) الذي درسه فيلسوف الوجود الأكبر في عصرنا مارتن هيدجر (1889-1976م)، وسماه شاعر الشعر، واستخلص من شعره الغامض الموحي ماهية الشعر نفسه، كما قرأ فيه فلسفته هو عن الوجود.
ولكن هل يكشف شعر هلدرلين عن حقيقة الوجود؟
هل يتردد فيه ذلك النداء الذي لم يمل الفيلسوف من ترديده لعلنا نستمع إليه، فننفتح على نور الوجود، ونؤسس وجودنا الأصيل عليه؟ وهل نطق هلدرلين بلغة هذا الوجود وفكر فيه وجعله مسكن الشعر ومسكنه؟
إن الشاعر يحيا في زمن المحنة، وهو لهذا يسأل:
لست أدري ماذا أفعل وأقول،
ولم الشعراء في الزمن الضنين؟
ولماذا صار الزمن هو زمن المحنة، وحل الظلام والشقاء على الأرض والإنسان؟ لأن السماويين كما يسميهم أو الآلهة المباركين قد ارتحلوا عنه، وما عادوا يحفلون به، فاغتربت الأرض واغترب الإنسان عنها وعن نفسه. ومتى ترتفع هذه المحنة وتزول الغربة؟ عندما يسطع نور وجودهم الحق، ويستمع الإنسان إلى صوتهم. وأين يتجلى هذا النور ومن ينطق بكلمتهم؟
يتجلى في أغنية الشاعر، الشاعر الرائي والملهم؛ لأن أغنيته هي شعر الوجود الحق، ولأن الوجود يسكن سكنا شعريا في قلبه وكلمته التي يبلغها لإخوته من البشر. لنستمع إلى هذه الأبيات من المقطع السابع من قصيدته الكبرى «خبز ونبيذ»:
لكننا يا صديق قد أتينا جد متأخرين ...
صحيح أن الآلهة حية،
لكنها تحيا فوق رءوسنا هنالك في عالم مختلف.
هنالك يكون فعلهم بغير حدود،
ولا يبدو عليهم أنهم يحفلون كثيرا بوجودنا،
فهكذا يرأف السماويون بحالنا؛
إذ ليس بوسع إناء هش أن يحتويهم،
ولا يقدر الإنسان أن يحتمل وجودهم إلا في بعض الأحيان.
ولهذا كانت حياتنا حلما يطوف بهم.
غير أن المحنة والليل يجعلاننا أقوياء.
حتى ينمو عدد كاف من الأبطال في المهد الحديدي،
وتصبح الأفئدة في قوتها شبيهة بالسماويين،
هنالك يأتون بصوت الرعود ...
لست أدري عندئذ ماذا أفعل وأقول،
ولم الشعراء في الزمن الضنين؟
إنهم - كما تقول - مثل كهنة رب الخمر المقدسين،
الذين سروا في الليل المقدس
من بلد إلى بلد ...
الشعراء إذن هم الذين يكشفون عن حقيقة الوجود؛ لأنهم وحدهم الذين يؤسسون ما هو باق. والباقي هو الوجود نفسه الذي يتجلى في نوره كل موجود. كيف يفعلون هذا؟ عن طريق القول الحقيقي أو الجوهري الذي يسمى الآلهة والأشياء، وبهذه التسمية يوجدها ويؤسسها في الوجود ويضعها في نوره. تلك هي أمانة الشعراء وعهدهم حين يغنون وحين يقولون. هذا القول الجوهري هو الشعر. والشاعر ينطق بواسطته عن حقيقة الوجود. ولذلك فمعرفتنا لماهية الشعر هي معرفة لحقيقة الوجود؛ لأن اللغة في الأصل هي لغة الوجود نفسه، وهي ميدان تكشفه. ولن نعرف ماهية اللغة حتى نبدأ بماهية الشعر. ولهذا لا يصح أن نعد اللغة مجرد أداة للتواصل والتوصيل، بل علينا أن نلتمس حقيقتها عند الشعراء المفكرين الذين «شعروا» الوجود وفكروا فيه، وبذلوا لنا تجربته التي نقيم عليها وجودنا التاريخي في الزمان:
لقد خبر الإنسان أمورا كثيرة،
ووضع أسماء لعديد من السماويين
منذ أن كنا حوارا،
واستطاع بعضنا أن يسمع من البعض الآخر.
فاللغة حوار، ونحن البشر حوار، والحوار بدأ شعرا أي قولا جوهريا تجلى فيه الواحد الذي بفضله اتحدنا، وكنا أنفسنا حقا. ولهذا كانت اللغة هي أخطر النعم وأوفرها حظا من البراءة. كانت هي الشهادة على حقيقة وجودنا، وكانت هي مسكننا الشعري على الأرض:
هناك فحسب، حيث توجد لغة، يوجد عالم (...)
وهناك فحسب، حيث يوجد عالم، يوجد تاريخ.
فاللغة نعمة بمعنى أشد أصالة. أما أنها نعمة وضمان لهذا العالم وهذا التاريخ، فمعناه أنها تضمن أن يكون في استطاعة الإنسان الوجود بوصفه كائنا تاريخيا (هلدرلين وماهية الشعر، الفقرة الثالثة).
ونسأل الآن: هل استطاع هيدجر أن ينصف شعر هذا الشاعر المغترب أم جعله مناسبة لعرض فلسفته؟ هل ترك الشعر ينطق بنفسه عن فكر صاحبه أم قسره على الدخول في قالب غريب عليه؟ إن نقاد الأدب يتهمون الفيلسوف على كل حال بأنه لم يجعل القصيدة نفسها «تكون» كما زعم ذلك مرارا، وإنما حملها تفسيرات ومواقف وأفكارا لا تنبع من لغتها وبنائها وصورها وعالمها، بقدر ما تنبع من عالم آخر هو عالم «هيدجر» نفسه وفلسفته في الوجود.
لقد طالما عرف الشعر الغربي موضوع الغربة والاغتراب، واشتد إحساس الشاعر الرومانطيقي بغربته عن مدينة المال والتجارة والصناعة والزحام والقسوة، فلجأ إلى الطبيعة أو إلى الحنين للماضي «الشعري» أو مناجاة الذات. ومع بداية الشعر الحديث منذ بودلير حتى عصرنا الحاضر ورد الفعل العنيف على الرومانطيقية، برزت أشكال أخرى من الغرب والاغتراب ساعد عليها تعقد الواقع وتفتته في نفس الوقت، وانهيار القيم التقليدية والأنساق المثالية الشامخة، وتغير صورة العالم الأكبر والعالم الأصغر، كما رسمها العلم الحديث، واكتشاف أعماق الباطن واللاوعي، والتحول الذي طرأ على مفاهيم الواقع والزمن والتراث واللغة والشعر نفسه مما زاد من وحدة الشاعر مع لغته التي صارت مجال إبداعه وتأمله، وتجربته المستمرة. ويكفي أن نطلع على شعر المعاصرين الكبار، سواء أكان هذا الشعر ينتمي للتيار الديونزي - تيار الباطن واللاوعي - أم للتيار الأبوللوني - المهتم بالشكل والصنعة والعمل العقلي - ويكفي أن يختار القارئ شيئا من شعر أنجارتي أو سان - جون - بيرس أو إلوار أو جين أو ت. س إليوت أو أرشيبالد مكليش؛ ليرى صور الاغتراب وأسبابه وأبعاده المختلفة (ومن شاء فليرجع لكتابي المتواضع عن ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر)، وسوف أختار قصيدة لشاعر نحبه في البلاد العربية، ونشعر بصلته الحميمة بوجداننا وتأثيره على بعض المجددين من شعرائنا. هذا الشاعر هو «لوركا» الذي يقول في قصيدة مشهورة بعنوان قرطبة:
قرطبة،
وحيدة وبعيدة.
فرس أسود صغير، قمر كبير.
حبات زيتون في حقيبة سرجي.
أعرف الطرق حقا
غير أني لا أبلغ قرطبة أبدا،
عبر المدى الفسيح، عبر الريح،
فرس أسود صغير، قمر أحمر.
الموت يحدق في
من أبراج قرطبة.
آه، ما أطول الطريق!
آه، يا فرسي الشجاع!
آه، الموت يخطفني!
قبل أن أبلغ قرطبة،
قرطبة،
وحيدة وبعيدة.
إن قرطبة في قصيدة لوركا ليست هي المدينة الإسبانية المعروفة. إنها مدينة شعرية مستحيلة، يعرف الشاعر أنه لن يصل إليها أبدا، وأنه فقد الأمان، ولن يعود إلى بيته؛ لأن الموت يترصده من أبراجها وينتظره في السهول الشاسعة التي تعصف فيها الرياح.
هذا مثل واحد كما قلت. فإذا اتجهنا إلى شاعرنا العربي الحديث وجدنا موقفه أكثر تعقيدا من موقف الشاعر الغربي. فغربة شاعرنا مضاعفة، واغترابه عن الزمن والتاريخ والمجتمع والمدينة يبلغ حد التمزق والثورة والرفض المطلق في بعض الأحيان. وقد لا يقتصر على رفض الواقع، وإنما يرفض ذاته ويعذبها ويسخر منها. وقد درس الدكتور إحسان عباس أبعاد هذه العلاقة المعقدة، ومواقف بعض شعرائنا الكبار من الزمن والتراث والحب والمدينة والمجتمع، وحلل الاتجاهات الفكرية الكامنة وراءها، وعكف على القصائد نفسها، وحلل بناءها وصورها وألفاظها تحليلا دقيقا. وسنكتفي هنا بنماذج قليلة تصور المشكلة التي نحن بصددها، وتبين الفلسفة الكامنة وراء كل منها، وتأثيرها المحتمل على شخصية الشاعر وفهمه لطبيعة الشعر ووظيفته، ثم نستخلص ملاحظات قليلة حول العلاقة بين الشعر والفلسفة بوجه عام.
لننظر في قصيدة واحدة من شعر «البياتي» المبكر، وهي قصيدة «مسافر بلا حقائب» من ديوانه «أباريق مهشمة»:
من لا مكان
لا وجه لا تاريخ لي. من لا مكان
تحت السماء وفي عويل الريح أسمعها تناديني «تعال» ...
عبر التلال
وأنا وآلاف السنين
متثائب، ضجر، حزين.
من لا مكان
تحت السماء
في داخلي نفسي تموت بلا رجاء.
وأنا وآلاف السنين
متثائب، ضجر، حزين.
سأكون، لا جدوى، سأبقى دائما من لا مكان،
لا وجه، لا تاريخ لي، من لا مكان.
إن الشاعر هنا يعاني الاغتراب المطلق، وهو بلا هوية ولا مكان ولا تاريخ. وتتردد في القصيدة كلمات معجم الوجودية التي كانت تيارا سائدا عند كتابتها «كالسأم واللاجدوى»، ومع ذلك فلا يصح أن نتسرع فندمغها بخاتم وجودي؛ لأن بعض أبياتها وكلماتها ومشاعرها توحي كذلك بالتأثر بالاتجاه الماركسي الذي كان منتشرا كذلك في الخمسينيات:
لا شيء ينتظر المسافر غير حاضره الحزين - وحل وطين -
وعيون آلاف الجنادب والسنين،
وتلوح أسوار المدينة، أي نفع أرتجيه
من عالم ما زال والأمس الكريه
يحيا، وليس يقول «إيه».
يحيا على جيف معطرة الجباه
نفس الحياة.
لا شك أن الشاعر هنا يحاكم مدينة عربية وتاريخا عربيا يسميه «مستنقع التاريخ»، وواقعا حضاريا متخلفا يموت ويميت الشاعر معه. فإذا كان اغترابه ميتافيزيقيا أو وجوديا يوحي بالتأثر بعالم سارتر وكامي، فإنه كذلك اغتراب ثائر على مجتمعه وواقعه ومدينته. وقد تجاوز البياتي هذه الصورة من صور الاغتراب بعد ذلك في شعره، وتداخلت فيه تيارات واتجاهات عديدة، ولكنه بقي مغتربا ثائرا مع اختلاف الأصوات والأقنعة (كالمتنبي والمعري وعائشة) على حضارة تغرق وتسقط، كما بقي أشبه بطائر الرعد المحلق فوق مدن منهارة، ونحو مدن مستحيلة:
مدينة مسحورة
قامت على نهر من الفضة والليمون،
لا يولد الإنسان في أبوابها الألف ولا يموت،
يحيطها سور من الذهب،
تحرسها من الرياح غابة الزيتون.
ولكن الشاعر المغترب لا يكتفي برفض واقعه، وإنما يتجاوز ذلك إلى رفض ذاته. لقد توالت الهزائم والإحباطات على ذاته الجماعية التي هو جزء منها، فلم يجد أمامه إلا هذا النوع من «تعذيب الذات» والسخرية بها كأنها شيء غريب عنه مفروض عليه. وهذا هو صلاح عبد الصبور يمعن في تعذيب ذاته التي لم تطمع طول عمرها إلى أكثر من أن تكون ذات شاعر بسيط، حتى أدركت - بعد انهيار الذات الجماعية في حرب الأيام الستة - أنها لم تكن إلا لتابع صغير في حاشية السلطان، موقفه «في آخر الممر» مع مهرج البلاط والمؤرخ الرسمي والعراف، وكلهم «بدون أسماء ولا سيوف»، وكلهم «مؤجر بالقطعة»، وبينهم «صداقة عميقة كالفجوة». ولهذا يواجه واقعا سقطت عنه أقنعة الزيف ويدلي باعتراف تأخر عن أوانه:
كنت أحس، سادتي الفرسان،
أنكمو أكفان،
وكان هذا سر حزني.
ولكنه لا يكتفي برفض ذلك الواقع المنهار، وإنما يدخل عصر الرفض من أحلك أبوابه ألا وهو رفض الذات:
أصبحنا مثل الطين بقاع البئر،
لا يملك أن يتأمل صفحة وجهه.
فهل وقفت وظيفة الشاعر في عصر الرفض والاغتراب الكامل عند رؤية الطين الذي لا يملك أن يرى فيه صفحة وجهه، ورفض ذاته التي هي جزء من هذا الطين؟ ألم يبق عند الشاعر سوى هذا المغني الحزين والفارس المهزوم الذي انكسرت قوادم أحلامه، والصوفي المحبط الذي صلبت كلمته؟ بلى! إن الشاعر نفسه يبحث عن «وردة الصقيع»، وينتظر نبيا يحمل سيفا، وينثر كلماته في الريح السواحة لعل فؤادا من أفئدة وجوه الأمة يلتقطها، فيوفق بين الحكمة والقدرة، ويحلم بمدينة الضياء، وإن كان يشك في الوصول إليها أو الحياة في ظلها.
هنالك إذا رؤية ل «الإنقاذ» من هذا الاغتراب الذي تتعدد صوره وألوانه القاتمة. قد تكون في العودة إلى «جيكور» شعرية خلدها السياب، أو في الانبعاث وتجدد «السندباد» الجواب عند خليل حاوي في «طفل تخضر به الأنقاض»، ويسترجع الخصب المغني، أو في التحول الدائم، وهدم الواقع القائم والبنية الثقافية التقليدية، وإبداع عالم فني يتصور «أدونيس» أنه مواز له وبديل عنه، أو في استرداد الأرض الجريحة السليبة التي يحملها محمود درويش على كفه في أسفاره ومنافيه ويصونها سميح القاسم داخل قلبه وإبداعه في سجنه الكبير ...
من هذا العرض السريع المخل لمشكلة فلسفية واحدة في الشعر الحديث، وللعلاقة بين الفلسفة والشعر يمكننا أن نستخلص الملاحظات السريعة التالية: (1)
إن الفكر والشعر مرتبطان، فالقصيدة فكرة عيانية مجسدة في كلمات وإيقاعات وعلاقات وصور لها خصوصيتها النابعة من داخلها ومن تراثها اللغوي والأدبي، ومن شخصية صاحبها ومواقفه واتجاهاته المختلفة باعتباره ذاتا تاريخية تكون رؤاها وتجسدها لذوات تاريخية تتلقاها منها. وقد اهتمت الفلسفة منذ أرسطو بتوضيح ماهية الشعر وبنيته ووظيفته وتأثيره، واهتم الفلاسفة المسلمون بشرح كتاب أرسطو وتلخيصه، كما أثر على البلاغيين العرب مثل (قدامة وعبد القاهر وحازم القرطاجني)، وعلى الشعراء كأبي تمام والمتنبي. بيد أننا لم نهتم بعد الاهتمام الكافي بتأسيس «فن شعر» أو فلسفة للشعر العربي الحديث ولا باستخلاص الاتجاهات الفلسفية في مواقف شعرائنا من الواقع والحياة والزمن والمجتمع (باستثناء كتاب الدكتور إحسان عباس عن اتجاهات الشعر العربي المعاصر الذي يعد بداية طيبة على الطريق الطويل، وبعض بحوث الدكتور شكري محمد عياد ومقالاته الأخيرة عن الشعر الحديث). (2)
إن مواقف الشعراء من الاغتراب متعددة يصعب إدراجها تحت تيار أو اتجاه فلسفي بعينه؛ لأنها تختلف من شاعر لآخر كما تختلف عند الشاعر الواحد مع تطوره، وقد يتداخل أكثر من تيار أو اتجاه فلسفي في القصيدة الواحدة. ولهذا ينبغي التزام الحذر عند استخلاص الأفكار الفلسفية من القصيدة، كما يجب علينا أن نقترب بتأن وخشوع من البنية الحية التي نسميها القصيدة، ولا ننسى أبدا أن الشعر الحديث بوجه عام يوحي أكثر بكثير مما يفهم، ويكون أولا قبل أن يعني شيئا، كما أن إيحاءه وغموضه وغرابة بنائه ولغته وصوره جزء من فلسفته وفلسفة الواقع الحديث المضطرب. (3)
إن الشعر العربي المعاصر كان أجرأ من كل فنون القول الأدبي والفكري على كشف الواقع والتنبيه إلى السقوط والانهيار والتمزق في محنة الوجود العربي في السنوات الثلاثين الأخيرة. والتحليل الفلسفي لهذا الشعر سيساعد على بلورة الاتجاهات الفلسفية التي أثرت عليه وعلى العقل والوجدان العربي في الثلث الأخير من هذا القرن، وموقفنا من هذه الاتجاهات - وهو موقف غلب عليه التأثر والترديد وندر فيه النقد أو انعدم - وربما يكون في ذلك نوع من المراجعة النقدية للاتجاهات الفلسفية الوافدة أو السائدة، ونوع من الاستقلال عنها نتعلمه من شعرائنا الكبار الذين اتسمت استجاباتهم لها بالأصالة والتحرر والتفرد. (4)
لقد كان الشعر العربي المعاصر - كما قدمت - أعمق تبصرا بأزمة التاريخ العربي من كل فنون القول الأخرى، والشعر بوجه خاص والأدب بوجه عام - هو في أعمق أعماقه أو في بنيته الأعمق رسالة أو دعوة لتغيير الوعي الجماعي والسلوك الاجتماعي - (وإن كان ذلك لا يتم عند الأديب والشاعر المبدع إلا بطريقة معقدة وغير مباشرة ولا واعية). فماذا كانت رؤية شعرنا الجديد لوعينا الاجتماعي وواقعنا التاريخي منذ انطلاقته الحاسمة في الخمسينيات؟ إن الدراسة الفلسفية يمكن أن تساعدنا على التبصر بهذا الواقع وأزماته وسبل إنقاذه إذا استطعنا أن نترجم حدوس الشعراء وصورهم ورموزهم إلى أفكار منسقة، ولعلها تساعد كذلك على تجديد الحياة الفلسفية، وتخليصها من الانغلاق والعقم المدرسي.
ومن يدري؟ فربما تعجل بميلاد فلسفة عربية لا تزال في المخاض، أو تعينها - إذا كانت قد ولدت بالفعل - على أن تحبو خطواتها الأولى، وتسعى إلى مدارج الشباب والنضوج.
جوته وعصره1
أما عن جوته (فرانكفورت 1749-فايمار 1832م)، فهو شاعر الألمان الأكبر، صاحب فرتر وفاوست والديوان الشرقي وفيلهلم ميستر، وما لا حصر له من الأشعار الغنائية والقصصية والفلسفية والمسرحيات بأشكالها المختلفة والقصص القصير والطويل والكتابات العلمية عن الضوء والألوان، وتحولات النبات والمعادن بجانب آلاف الصفحات من الرسائل والأحاديث والمذكرات والمراجعات. لم يكن جوته مجرد ظاهرة فريدة في الأدب الألماني والأوروبي فحسب، وإنما كان ظاهرة إنسانية بالمعنى الشامل لهذه الكلمة. لهذا لم يكن من قبيل المصادفة أن يطلق اسمه على عصر بأكمله هو عصر ازدهار الأدب والثقافة الكلاسيكية في ألمانيا.
وأما جورج لوكاش فهو الناقد الماركسي وفيلسوف الفن والجمال المشهور الذي عرفت له اللغة العربية قبل هذا الكتاب كتبا أخرى مثل «الرواية التاريخية» و«الواقعية الأوروبية المعاصرة» (من ترجمة الدكتور أمين العيوطي)، ودراسات في الواقعية الأوروبية (من ترجمة الدكتور أمير إسكندر ومراجعة كاتب هذه السطور) كما يعرفه كل المشتغلين بنظرية الأدب وفلسفة الفن. ولد لوكاش سنة 1885م في بودابست، وحصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعتها سنة 1906م. ثم درس بعدها على يدي فيلسوف الحياة جورج زيميل وفيلسوف الاجتماع ماكس فيبر في هايدلبرج. ولم يلبث أن ذاع صيته كواحد من أهم نقاد الأدب في أوروبا بعد صدور كتابيه الروح والأشكال (1911م) «ونظرية الرواية» (1920م). وعندما انضم إلى الحزب الشيوعي المجري عام 1918م عين مفوضا للثقافة والتربية في حكومة بيلاكون الشرعية التي انهارت في أغسطس سنة 1919م. وفي سنة 1923م أصدر الكتاب الذي عرف به حتى اليوم وهو «التاريخ والوعي الطبقي». وقد أثار هذا الكتاب ثائرة النقاد الماركسيين الحرفيين، ووصفوه بالانحراف والخروج على المذهب مما أدى إلى طرده من الحزب وصحيفته. ولما استولى هتلر على السلطة لجأ إلى روسيا وشارك بالعمل في معهد الفلسفة للأكاديمية السوفيتية للعلوم من سنة 1933 إلى 1944م. ورجع إلى بلده بعد انتهاء الحرب الثانية، وأصبح عضوا في البرلمان، وأستاذا في فلسفة الجمال. وفي 1956م شارك في الانتفاضة الشعبية التي سحقها الجيش الروسي، وعمل وزيرا للثقافة في حكومة أمري ناجي التي لم تعمر طويلا. ونفي لوكاش إلى رومانيا ثم سمح له بالعودة إلى بودابست، حيث اعتزل الحياة العامة، وعكف على تأليف كتابه الضخم في فلسفة الجمال إلى أن مات في سنة 1971م. •••
صدر هذا الكتاب الذي نعرض له سنة 1947م، في وقت اشتدت فيه النزعة القطعية المتزمتة أو الاتجاه الستاليني في النقد الأدبي الماركسي والواقعية الاشتراكية. فهل تناول لوكاش أدب جوته وعصره بهذه النظرة المتشددة - لا سيما بعد الحملات المتكررة التي تعرض لها، والاعترافات المتتالية التي اضطر إليها - أم عالجه من وجهة نظره الماركسية المتفتحة التي انطبعت منذ البداية حتى النهاية بطابع هيجلي وإنساني لم تتخل عنه؟ سوف نناقش هذه القضية بعد أن نفرغ من عرض الكتاب عرضا حرا نحاول فيه أن نقرب بعض إنتاج جوته للقارئ الذي لم يطلع عليه. •••
يقدم لوكاش لكتابه بمقدمة يحلل فيها العوامل التاريخية والسياسية التي عاقت مسيرة الأمة الألمانية نحو الوحدة القومية والديمقراطية والثقافة التقدمية التي كانت قد بلغتها أمم أخرى في إنجلترا وفرنسا. وهو يتتبع هذا المسار التاريخي إلى ثورة الفلاحين في سنة 1525م، عندما تسببت الهزيمة الساحقة التي منيت بها في كارثة قومية بقيت عواقبها ظاهرة لعدة قرون، وانبثقت عنها ملكية مطلقة أقامت عروشها المستبدة على الأرض الألمانية المفتتة إلى أمارات إقطاعية صغيرة . وعندما اندلعت الثورة البورجوازية أخيرا (وهي ثورة مارس 1848م التي قام الأدب الواقعي بدور كبير في إشعال وقودها) كان نصيبها كذلك الهزيمة وسحق الآمال التي تعلقت بالحرية والوحدة القومية. في ظل هذا التخلف الاقتصادي والاجتماعي، وعلى أرض الواقع المقهور المجزأ، ازدهر العصر الذهبي للأدب والفكر الألماني الذي نسميه عصر جوته، وهو العصر الذي استمر أكثر من قرن من الزمان، وسطعت فيه كواكب أخرى دارت حول شمس هذا الشاعر الكبير، مثل شيلر وهيردر وياكوبي وأقطاب المثالية الألمانية من فشته إلى شلينج وهيجل. بل إن المؤلف يوسع من حدود هذا العصر، فيمده من لسينج إلى هايني، ويعده واحدا من أهم العهود التقدمية والثورية في تاريخ التفكير «البرجوازي»، ويمجد اكتشافه للمنهج الجدلي على يد هيجل وجوته، ويعتبره دليلا على انتصار تيار التقدم على نقيضه الرجعي، وسببا كافيا لإنصاف هذا العصر من تهم اللاعقلانية واللاتاريخية التي ألصقت به، وتسليط الضوء على جوانبه الإيجابية التي دفعت حركة التنوير للإعلاء من شأن العقل والنقد والتحرر من التسلط والجهل والخرافة. لهذا كله يمهد المؤلف لإنصاف جوته نفسه ومواجهة الأساطير التي افترت عليه ودمغته بالرجعية ومعاداة الثورة والتكبر على الشعب، وتأكيد مشاركته في حركة التنوير التي هيأت من الناحية الفكرية للثورة الفرنسية الكبرى والتقدم الديمقراطي بوجه عام، بجانب مساهمته في الحركة الواقعية للأدب الأوروبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. •••
يبدأ الفصل الأول من الكتاب بالحديث عن رواية «آلام فرتر» التي كانت سببا في شهرة جوته الشاب شهرة عالمية.
والمعروف أن هذه الرواية قد كتبها جوته للخلاص من محنة حب فاشل لشارلوته بوف أو «لوته» التي كانت مخطوبة لأحد أصدقائه.
والمعروف أيضا أن الرواية علامة بارزة على عصر أدبي قصير العمر، اصطلح مؤرخو الأدب على تسميته عصر العصف والدفع، ووضعوا فيه الأعمال التي كتبها جوته وشيلر في شبابهما الباكر، وتميزت بالتمرد البطولي والتدفق العاطفي، والانطلاق من كل قيود العقل والقواعد والتقاليد المرعية في الأدب والاجتماع. أثرت فرتر تأثيرا عميقا على الوجدان الأوروبي والأدب العالمي. فهل يمكن أن تعد هذه الرواية العاطفية (التي أعقبت ظهورها موجة انتحار أقدم عليها عدد كبير من الشباب الأوروبي) دليل أزمة عاطفية وعقلية تعبر عنها حركة العصف والدفع الأدبية أم علامة على حركة تنوير ألمانية أكدت انتصار العقل على العاطفة؟ إن المؤلف يؤكد الرأي الأخير، ويدافع عنه في وجه «الأساطير» التي روجها في زعمه مؤرخو الأدب «البرجوازيون»، وأنكروا بها كل صلة بين فرتر وحركة التنوير الثورية. فما حججه لرفض هذه الأساطير؟
أولها أن هؤلاء المؤرخين يرون أن «العقل» هو المظهر الوحيد للتنوير، وأن ثورة العاطفة والروح هي مظهره المضاد الذي عبرت عنه حركة العصف والدفع من ناحية، كما عبر عنه من ناحية أخرى روسو وريتشاردسون من قبل الحركة الرومانتيكية من بعده. والواقع أن أعلام التنوير مثل «ديدرو» و«لسينج» و«فولتير» لم يكونوا معادين للعاطفة، وإنما وقفوا في وجه الجوانب اللاعقلية وغير الإنسانية منها. والمثل الواضح على ذلك هو مقاومة لسينج لعاطفية كورني وضحالة فولتير في معالجتهما للإنسان في المآسي أو التراجيديات التي كتباها، وهو كذلك التفات بعض التنويريين أنفسهم إلى الجوانب الشعبية التقدمية في أدب روسو وريتشاردسون اللذين عبرا عن تناقضات الطبقة الوسطى في أيامهما.
المهم في هذا السياق أن فرتر وإنتاج جوته المبكر (مثل مسرحيته جوتز فون برليشنجن) هو استمرار للخط الذي سار فيه روسو، وأن ذلك الإنتاج تعبير عن «البؤس» الألماني، والتخلف الاجتماعي والاقتصادي الذي عانته الحياة الألمانية في ذلك الحين. صحيح أن جوته الشاب لم يكن ثوريا حتى بمفهوم شيلر في إنتاجه الدرامي المبكر (كمسرحيتيه اللصوص والحب والدسيسة)، ولكن النظرة التاريخية المنصفة إلى فرتر وربطها بالثورة والتنوير وتناقضاتهما تجعلانها ذروة التعبير عن نزعة ثورية طالبت بالتطور الحر المكتمل للشخصية الإنسانية في صراعها مع المجتمع البرجوازي المتخلف والحكم المطلق شبه الإقطاعي في الإمارات الصغيرة في عهده. إن فرتر قد جسد في ذاته جدل الصراع المحتدم بين الشخصية الإنسانية والمجتمع المتخلف الذي يعوق تطورها واكتمالها.
ولعل هذا التطور الحر المنبعث من الشخصية الموحدة أن يكون من أهم الهموم التي شغلت فرتر في تمرده على القوانين الأخلاقية المجردة، كما شغلت جوته نفسه في شبابه وطوال حياته. يؤكد هذا ما يقوله بعد ذلك في شيخوخته في كتابه «شعر وحقيقة» الذي عرض فيه جزءا من سيرة حياته: «إن كل ما يحاول الإنسان تحقيقه سواء بالفعل أو القول أو بطريقة أخرى، يجب أن ينبعث من مجموع قواه المتحدة، وإن الضرر ليكمن في كل ما هو معزول، تلك قاعدة ممتازة، ولكن اتباعها أمر صعب.»
إن تمرد فرتر على القواعد الأخلاقية المتخلفة في ظل مجتمع إقطاعي متخلف ليعبر عن التناقضات الداخلية لنزعة إنسانية ثورية في عمل إبداعي عظيم. ويكفي مصداقا لذلك أن يدافع فرتر دفاعا حارا عن حق المواطن في الانتحار، وأن يقول لألبرت - خطيب حبيبته - في إحدى رسائله إليه: «بإمكانك أن تصف بالضعف شعبا يئن تحت نير طاغية لا يطاق إذا انتفض أخيرا وكسر قيوده؟» وهي عبارة بسيطة مباشرة تعبر عن ثورة جوته الشاب على المجتمع الاستبدادي والحكم الإقطاعي والرياء الاجتماعي، كما تشير إلى ملامح الإنسان الجديد الذي راح يتخلق في مجرى الإعداد للثورة البرجوازية، ويعلن عن التمرد الشعبي على عقم الطبقات الأرستقراطية وجهلها، وتفاهة الطبقة الوسطى، وركودها ونفاقها. ولعل إهابته المستمرة بأشعار هوميروس وأوسيان - بوصفهما شاعرين شعبيين - وهروبه إلى الطبيعة العظيمة وإلى حياة الشعب البسيط، لعلها أن تكون تعبيرا عن إيمانه بالشعب المنتج، ومثله الثورية الخلاقة. هذه الثورية الشعبية هي التي تجعل من «فرتر» وغيره من أعمال جوته في شبابه أعمالا ثورية معبرة عن الأيديولوجية البرجوازية في فترة الإعداد للثورة الكبرى في العصر الحديث (الثورة الفرنسية) لا مجرد تعبير عن ثورة وجدانية أو فورة عاطفية عابرة تخلص منها جوته عندما سجلها في روايته. وحتى هذه الفورة وتلك الثورة هما في النهاية تعبير فني مكتمل عن مثل النزعة الإنسانية الثورية، وعن التناقض المأساوي في تلك النظم التي عاش في ظلها. ولهذا تعد فرتر أحد المعالم البارزة في أدب القرن الثامن عشر، ورائدا للأدب الواقعي في القرن التاسع عشر (خصوصا عند بلزاك وستندال ومانزوني) وهي في الحقيقة تعبير عن مأساة البرجوازية الألمانية في عصر الإقطاع والتجزؤ والاستبداد الملكي المطلق. ولهذا تحطم فرتر على صخور تناقضاته الباطنية التي هي نفسها تناقضات الشخصية المأساوية مع مجتمعها وعصرها. نعم إنها مأساة حب من أعظم مآسي الحب في أدب العالم، ولكنها تجسد مأساة عصر بأكمله وتناقضاته. وربما كانت مأساة فرتر الحقيقية كامنة في عدم تنازله عن مثله الإنسانية الثورية، واختياره الحر للتحطم عليها بدل المساومة معها. وهذا هو سر جمالها الآسر الذي آذن بإشراق فجر الحرية مع الثورة الفرنسية التي تحطم أبطالها على مذبح أوهامهم، ومثلهم البطولية قبل أن يشدها نابليون إلى عجلة الاستبداد والتوسع الإمبراطوري. •••
ينتقل المؤلف إلى الفصل الثاني من كتابه، فيتناول القسم الأول من رواية جوته «التربوية» عن «فيلهلم ميستر»، وسيرة حياته التي راح يبحث فيها عن نفسه، متجولا بين آفاق عديدة، مشتركا مع شخصيات وجماعات ونماذج بشرية مختلفة، هائما بين المسرح والحب والحكمة والتصوف. وقد اقتصر المؤلف كما قلت على القسم الأول من هذا العمل الفريد الذي يعد أهم نتاج أدبي في فترة الانتقال من القرن الثامن عشر إلى القرن التاسع عشر، (إذ فرغ جوته من صيغته النهائية بين عامي 1793-1795م، في ظل الأزمة الثورية التي بلغت ذروتها في فرنسا في ذلك الحين، مكتفيا بهذا القسم الذي سماه «سنوات التعلم» عن القسم الثاني «سنوات التجوال» الذي جمعه الشاعر بعد ذلك بسنوات طويلة، ولم يستطع أن يحقق فيه الإحكام والاتساق اللذين اتسم بهما القسم الأول). والجدير بالذكر أن أصول هذه الرواية ترجع إلى حوالي سنة 1777م عندما كتب جوته مسودتها الأولى تحت هذا العنوان الدال «رسالة فيلهلم ميستر المسرحية» (وقد عثر على هذه المسودة بمحض المصادفة في سنة 1910م)، وخصص فصولها الستة لتصوير علاقة بطله فيلهلم بالمسرح الذي لجأ إليه ليلتمس فيه تحرير روحه الشاعرية القلقة من ابتذال العالم البرجوازي وضيق أفقه، وليجد في التمثيل والشعر الدرامي وسيلة لتهذيب شخصيته، والتطور بها نحو الكمال. غير أن الصيغة المتأخرة للرواية تجاوزت حدود المسرح، ووضعت البطل الناضج في مواجهة المجتمع البرجوازي بأسره. وإذا كانت قد أبقت على الفصل الطويل الذي تمثل فيه أجزاء من هاملت، وتدور فيه تفسيرات عديدة لشخصية الأمير الحزين ولعبقرية شيكسبير بوجه عام، فلأن شيكسبير في رأي جوته منذ خطبته المشهورة عنه في شبابه هو طبيعة كاملة رائعة، ومرب عظيم للشخصية الإنسانية المتطورة. بيد أن المسرح قد أصبح في الصيغة الأخيرة لسنوات التعلم والطلب مجرد مرحلة انتقالية إلى الوصف الواقعي الشامل لمجتمع البرجوازية والأرستقراطية، وتصوير الحياة الإنسانية النموذجية على مسرح العالم نفسه. ولهذا نتجول في هذه الرواية وسط متحف كامل من الشخصيات المعبرة عن طبقات مختلفة، ونبحث بينها مع البطل عن مثال الشخصية الموحدة المنسجمة مع نفسها وفقا للحكمة العريقة «كن نفسك»، ونلمس كافة الضغوط والقيود التي تشوه جمال الطبيعة البشرية في مختلف المراتب الاجتماعية. وإذا كان جوته قد تعاطف مع بعض الشخصيات من مجتمع النبلاء مثل شخصيتي «ناتالي» و«لوتاريو» فلم يكن ذلك عن تحيز أو ضعف، وإنما نظر إليهما على ضوء المثل الإنسانية، وأشاد بالإمكانات التي يوفرها نبل المحتد والثروة الموروثة لتطوير الشخصية بصورة شاملة. هكذا كانت الرغبة في تحقيق المثل الإنسانية هي المقياس الذي نحكم به على الشخصيات، وهي القوة الدافعة على حركة الرواية بأسرها. كل ذلك في إطار نظرة إلى العالم مؤمنة بالفعل الذي يحرك الكون والإنسان منذ البدء إيمانها بضرورة أن يكون فعلا محوريا يوجه حركته ، حتى لا يتحطم أو يتحلل أو يتبدد أو يتحجر في جانب واحد من شخصيته، فتصاب بقية جوانبها بالضمور.
ما الجديد في رواية جوته؟ وما الذي يميزها عن غيرها من الروايات «التربوية» التي سبقتها في عصر التنوير وعصر النهضة؟ الجديد - فيما يرى لوكاش - هو تعبيرها عن المثل الإنسانية للثورة الفرنسية. ولقد أدرك جوته بواقعيته الراسخة أن تحقيق هذه المثل في المجتمع الألماني المتخلف البائس على أيامه وهم مستحيل، ولكنه أدرك كذلك بوضوح وعمق أن هذه المثل هي النتائج الضرورية التي لا بد أن تنتهي إليها حركته الاجتماعية والتاريخية. ربما تكون هذه رؤية متناقضة للمجتمع، ولكنه استطاع أن يخلق بها ما يشبه أن يكون «جزيرة» داخل ذلك المجتمع المعادي بطبيعته وتكوينه لتلك المثل، أو قل إنه استطاع أن يصور بها داخل المجتمع القائم مجتمعا متفاعلا يمكن أن يحوله نحو تحقيق تلك المثل. ولقد رسم شخوص هذا المجتمع من خلال تطورها الواقعي وتجاربها الواقعية الملموسة، ولم يهبط بها إلى صورة مثالية أو «طوباوية» جوفاء. ولهذا نجده يؤكد الاتجاه التربوي الواعي سواء في تلك الجماعة الغريبة، وهي جماعة «البرج» التي تشبه أن تكون مجتمعا مثاليا أو نحلة سرية من الحكماء وإخوان الصفا، أو في الرسائل التعليمية المتناثرة عبر الرواية، أو في تطور بطلها فيلهلم نفسه تحت إشراف وتوجيه محددين، وبحرية وعفوية تستبعدان أي تأثير للقدر أو للأوامر الأخلاقية المطلقة التي أعلنها فيلسوف مثل كانط.
وعلى الرغم من وجود شخصيات رومانسية في الرواية تأسرنا بسحرها الخلاب وغموضها الموحي - مثل الصبية المسكينة مينون
2
وعازف القيثار الأعمى والكاهنة والراهب الذي يدلي باعترافات مفزعة عن قصة زواجه بأخته - وعلى الرغم من وجود شخصيات أخرى لا نتردد في وصفها بالنفعية والأنانية، فإن الرواية في مجموعها تهاجم الإغراق الرومانسي في الاستبطان الذاتي، كما تنفر القارئ من الفاعلية المحضة التي يمكن أن تبلغ حد الثورة العمياء، لقد وقف جوته في وجه هذين الطرفين المتناقضين، وأدان العاطفية الحالمة (التي سقط فيها فرتر من قبل) كما حذر من النزعة العملية المسرفة على حد سواء، واستطاع بحسه الواقعي المتأصل فيه أن يصور لنا المثل الإنسانية في صراعها مع الحياة، وأن يرسم صورة البطل الذي يربي نفسه شيئا فشيئا؛ ليكون إنسانا يفهم الواقع الموضوعي على حقيقته، ويشارك في حركته مشاركة فعالة مثمرة، ويواجه «نثره» المحبط المعوق بشاعرية وجوده الإنساني الجديد. لقد طالما انغمس «فيلهلم» في حنينه العاطفي إلى المسرح، في صبواته المريرة وجولاته المخفقة، ولكن لم يربه إلا مواجهة الواقع القائم والصراع معه ومحاولة تفهمه وتغييره بشخصيته الفاعلة المتكاملة ... إن رواية جوته تعبر عن المثل الإنسانية وأزمتها المأسوية في ظل البرجوازية المتخلفة في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر. وهي تجسد مثل الثورة الفرنسية في عصر الآمال العظام التي جاشت بها نفس جوته ونفوس معاصريه الكبار - على الرغم من تحفظاتهم على أساليب تلك الثورة نفسها وفظائعها الدموية - في مرحلة انتقالية لذلك المجتمع الذي صورت الرواية تناقضاته وتنبأت بحركته نحو مجتمع جديد، وإنسان جديد. •••
ونأتي للفصل الثالث من الكتاب، فنطلع على حديث المؤلف عن الرسائل المتبادلة بين جوته وشيلر في فترة امتدت من سنة 1794م حتى وفاة شيلر سنة 1805م. والواقع أن هذه الرسائل التي تنضح بالحب والدفء والحوار الودي العميق حول مشكلات الأدب والفن والحياة تعد من أهم وثائق الأدب الألماني، بل لعلها أن تكون في الأدب العالمي كله من أبدع الآثار التي حافظت على صداقة عقلية نادرة، ربطت بين أديبين كبيرين، على الرغم من اختلاف مزاجهما ونظرتهما للعالم وأسلوبهما في الفن بين الحماس والاتزان، والمثالية والواقعية، والطبيعة والصنعة. أضف إلى ذلك أن هذه الرسائل هي شهادات تلقائية حميمة عن تجارب الشاعرين الخاصة في إبداعهما، وفي صراعهما مع المواد والأشكال الفنية المختلفة، ومحاولاتهما لإيجاد أساس نظري لإنتاجهما، وكل هذا يزيد من أهميتها، بحيث لا يمكن أن يستغني عنها مؤرخ الأدب وناقده، وفيلسوف الفن والجمال. ولا ننسى أن الرسائل كتبت في ظل أوضاع تاريخية واجتماعية معينة، وأنها تعبر عند الشاعرين عن فلسفة للفن بلغت ذروتها النظرية في عصرهما «عصر المثالية الممتد من كانط إلى هيجل »، وانعكست بصورة أو أخرى على ممارستهما الأدبية؛ ولذلك فإنها تحتم علينا - شأنها في هذا شأن كل الوثائق الخاصة بحياة الفنانين العظام وتجاربهم الإبداعية - أن ندرسها من الناحيتين التاريخية والجمالية في وقت واحد.
كتبت هذه الرسائل في فترة تمت فيها نخبة من أعمال الشاعرين «الكلاسيكية» التي تميزت بالنضوج الأدبي والنظري، وكان لتعاونهما فضل كبير في إنجاز بعضها، والتوقف عند المسائل الجمالية التي تتعلق بشكلها ومضمونها. ففي هذه الفترة الزمنية كتب شيلر رسائله الفلسفية والتربوية عن الفن والجمال، كما أنشأ عددا كبيرا من أشعاره الغنائية المهمة ومسرحياته الكبرى من «ثلاثية فالنشتين» إلى مسرحية «ديمتريوس» التي تركها ناقصة. أما صديقه جوته، فقد أنجز قصيدته الملحمية «هيرمان ودورثيا» (ترجمها للعربية المرحوم محمد عوض محمد)، وكتب مسرحيته «الابنة الطبيعية» التي تمس موضوع الثورة الفرنسية، وأقبل على العمل في روايته الكبرى عن فيلهلم ميستر، وفي مشروع حياته الأكبر فاوست بتشجيع من صديقه المتفاني في حبه وإعجابه به، كما واصل جهوده العلمية وبحوثه عن النبات والضوء والألوان والمعادن.
أين تقع هذه الرسائل من الناحية التاريخية؟
إذا كان إنتاج جوته وشيلر في شبابهما يمثل آخر ذروة فنية لعهد التنوير السابق على الثورة الفرنسية، فإن أعمالهما التي أبدعاها في مرحلة النضج «الكلاسيكي» - ومن بينها هذه الرسائل نفسها - تعبر في رأي «لوكاش» عن الذروة الأولى للتطور الفني للبرجوازية فيما بعد الثورة، بينما تعبر أعمال بلزاك وستندال الروائية عن الذروة الثانية من هذا التطور الفني الذي طبع بطابع الواقعية (وامتد في مرحلتيه بين اندلاع الثورة الفرنسية الكبرى سنة 1789م، وقيام ثورات التحرر الأوروبية في سنة 1848م)، وكأن الأفكار والمشكلات التي شغلت الشاعرين الألمانيين، وقدما لها الحلول والإجابات الممكنة في خلقهما الأدبي وتنظيرهما النقدي والجمالي كانت خير جسر عبرت عليه الواقعية الأوروبية العظيمة التي اكتملت بعد ذلك في منتصف القرن التاسع عشر وأواخره.
من المعروف أن صداقة جوته وشيلر ظلت تشوبها بعض القيود والتحفظات على الرغم من التقدير المتبادل بينهما. وقد بدأت بلقاء تناقشا فيه حول «الظاهرة الأولية» التي اعتقد جوته أنها المبدأ والأصل الذي تتفرع عنه أشكال النباتات وتحولاتها حتى لقد زعم أنه رأى النبتة الأولية رأي العين في صقلية أثناء رحلته المشهورة إلى إيطاليا ... ورد عليه شيلر بأن هذه الظاهرة الأولية ليست إلا فكرة أو مثالا، وأجابه جوته بجفاء: ولكنني رأيتها بعيني! وكاد اللقاء أن يسفر عن قطيعة نهائية. وكتب شيلر إلى أحد أصدقائه في تلك الفترة قائلا: «إن هذا «الجوته» يقف في طريقي!» غير أن الأيام والاهتمامات والهموم المشتركة حول قضايا الفن والإبداع ما لبثت أن قربت بينهما، ووجد كل منهما في زميله جانبا يكمل ما يفتقر إليه الآخر، وبقي جوته على وعيه بالفوارق التي تفصل بينهما في الطبيعة والفن على السواء. فهو الشاعر المطبوع أو كما عبر شيلر إلى أحد أصدقائه في تلك الفترة قائلا: إن هذا «الجوته» يقف بالجزئي الخاص، وترى فيه الكلي العام في مقابل صديقه الذي وصف نفسه في تلك الرسالة المشار إليها بأنه عاطفي أو مثالي يبدأ من الكلي العام، وقد يصل أو لا يصل إلى الخاص. وجوته قد تخطى مرحلة الشباب والحماس التي مر بها في فترة «العصف والدفع»، بينما بقي صديقه المثالي الثائر محتفظا بالكثير من توقدها. والأول قد بلغ مرفأ الإنسانية المستنيرة الهادئة واستقر فيه، في الوقت الذي ما يزال فيه صديقه الذي يصغره بعشر سنوات مشتعلا بالثورة على استبداد الإقطاع والحكم المطلق. غير أن كل هذه الأسباب التي كانت خليقة أن تبعد بينهما، وقد سجلها شيلر كما ذكرت في رسالته عن الشعر الساذج والشعر العاطفي،
3
كما عبر عنها جوته في شيخوخته في بعض أحاديثه المشهورة مع «أكرمان» لم تستطع في النهاية أن تحول دون اللقاء الذي يحقق التكامل، ويعمر بالود والتقدير والمحبة. وقد كانت الرسائل المتبادلة بينهما هي أنضج ثمرات هذا اللقاء الذي أكد أن عوامل التقارب والتجاذب بينهما كانت أقوى بكثير من عوامل التباين والتنافر. كل هذه أمور يعرفها قراء الأدب الألماني ومؤرخوه، لكن مؤلفنا - لوكاش - يحاول أن يثبت شيئا آخر يدفعه إليه منهجه الواقعي الاجتماعي، وهو أن الأديبين الكبيرين كانا مؤمنين عن وعي أو غير وعي بالمضمون الاجتماعي والسياسي للثورة الفرنسية، وإن اتفقا على رفض أسلوبها الثوري والأساليب الثورية على وجه العموم. هذه الرابطة الاجتماعية والسياسية التي حددت نطاق التعاون بينهما هي في رأي المؤلف وراء محاولتهما خلق فن كلاسيكي برجوازي وجهودهما لتوضيح العديد من القضايا النظرية والعملية الكبرى للفن والأدب الذي «أدركا دائما أنه هو التعبير عن العصر العظيم الذي بدأ مع الثورة الفرنسية» (ص61).
هكذا انعكست الخلفية السياسية والاجتماعية على رؤية الشاعرين للمسائل النظرية والعملية في الفن، كما أثر إدراكهما للتناقضات المتزايدة في الحياة البرجوازية الحديثة على نظرتهما إلى قضية الشكل الفني والأنواع الأدبية، وتداخلها الملحوظ في كثير من الأعمال الشعرية إلى وضع الشاعر نفسه في مجتمع متخلف مختلط الأوضاع، مجتمع دخل مرحلة تقسيم العمل الرأسمالية قبل أن ينتهي من تصفية الإقطاع، وآمن مثقفوه بمثل الثورة الفرنسية مع شعورهم بعجزهم، وتفتت بلادهم إلى إمارات مجزأة يتحكم فيها طغيان الملكية المطلقة والنبالة المستبدة. ولهذا اعترف الشاعران بضرورة تداخل الأنواع الأدبية، واقتراب القصيدة الملحمية من المأساة، ونزوع الدراما نحو الشعر الملحمي، واستحالة المحافظة على نقاء الشكل الكلاسيكي، وصعوبة كتابة الملحمة والشعر الحكمي الموجز «الإبيجرام» على الشاعر الحديث، الذي لم يعد في مقدوره أن يلتزم بقواعد الفن الإغريقي أو يحاكي النماذج الأدبية الإغريقية. ولعل الشاعرين قد مهدا بذلك كله لضرورة تجاوز الكلاسيكية وأشكالها وقواعدها نتيجة لضغط المادة الجديدة وتناقضات الحياة الاجتماعية الحديثة. ولقد جاءت الحركة الرومانسية، فحققت التداخل بين الأشكال والأنواع الأدبية إلى حد الخلط والاضطراب اللذين حذرا منهما، ثم سرعان ما جاءت الواقعية، فاستوعبت الطرفين وتجاوزتهما معا (والغريب أن بعض أعمال الشاعرين قد حققت هذا بالفعل قبل ظهور الرومانسية والواقعية كتيارين متميزين بزمن طويل، كما نرى مثلا في رواية جوته «فيلهلم ميستر»، وفي فاوست، وفي مسرحية وليم تل لشيلر). •••
ونصل أخيرا إلى العمل «البربري» الذي لا يقاس به أي عمل آخر من أعمال جوته (كما قال عنه بنفسه!) إلى إلياذة الحياة الحديثة (كما وصفها الشاعر الروسي بوشكين) إلى القصيدة الكبرى التي خرجت عن حدود الملحمة والدراما والشعر الغنائي إلى فاوست ... هذا الفرد الواحد الذي يلخص مصيره مصير البشرية كلها.
أدرك جوته منذ شبابه الباكر ما تنطوي عليه أسطورة فاوست الشعبية من إمكانات شعرية هائلة، وظلت تشغل عقله ووجدانه ما يقرب من ستين عاما من عمره الطويل، فراح يعالج مادتها الزاخرة في صيغ ومقطعات وصور ومشاهد متفرقة يبتعد عنها سنوات طويلة ثم يعود إليها، حتى فرغ من كتابة القسم الثاني منها قبل وفاته بقليل. وكان من الطبيعي أن تنضج القصيدة الكبرى مع نضجه، وأن تعكس تحولات حياته وفكره كما تعكس التحولات الجذرية التي غيرت مجتمعه وعصره. ولم يكن الأمر مجرد تشخيص لمصيره الشخصي أو لذاتيته الخاصة في موضوع شعبي أسطوري، وإنما كان «تطويرا مستقلا متميزا للوعي الذاتي القومي، بل للوعي الذاتي للبشرية» (ص90).
لقد سبق لجوته الشاب أن عالج أساطير شعبية (مثل فاوست الأصلية في مسودتها الأولى، واليهودي التائه وبروميثيوس) أو شخصيات تاريخية تحيط بها هالة من التراث والتقاليد الشعبية (مثل شخصية النبي محمد وشخصية قيصر)، إلا أن هذه الموضوعات جميعا لم تكن لها جذور في الحاضر، ولهذا اقتصر تعبيره عنها على بعض الشذرات الغنائية أو المشاهد المسرحية الناقصة التي بقيت شخوصها أشباحا غامضة مفتقرة إلى الحركة والفعل. فلما أن عالج موضوعا من التاريخ الألماني من عصر الإصلاح الديني مثل ثورة «جوتز فون برليشنجن» في مسرحيته المعروفة بهذا الاسم ظل هذا الشخص التعس - كما سماه ماركس - بطلا وهميا من أبطال الحرية الجوفاء، وتحتم عليه الاندحار والسقوط بسبب تشوش مفهومه عن الحرية والواقع والتاريخ. ولعل هذا أن يكون أيضا هو السبب في بقاء الصياغة الأولية لفاوست - التي كتبت في نفس الفترة الزمنية تقريبا - شذرة ناقصة مفككة، واحتياج المشروع الكبير إلى عشرات السنين؛ لكي ينضج مع نضوج جوته نفسه وتطور تصوره للتاريخ والحرية وتناقضات مجتمع متخلف عاجز عن الثورة الحقيقية. فلما أن عكف على «فاوست» اتسعت فكرة «الفارس المعتمد على ذاته» وازدادت عمقا، واستوعبت العالمين الكبير والصغير، وضمت الماضي والحاضر والمستقبل ، وطرحت قضايا الطبيعة والمعرفة والخير والشر، والعلاقة بين الفكر والعمل، وتطور سعي الإنسان وجهده المحدود على الأرض بصورة شاملة، ومختلفة اختلافا جذريا عن الصورة التي قدمها عصر الإصلاح الديني للأسطورة الشعبية.
ولعل الإحساس بجدلية الحياة والفكر والطبيعة والتاريخ - هذا الإحساس الذي نجده بصورة حدسية غامضة عند بعض أقطاب عصر التنوير الألماني مثل جوته نفسه وصديقه وراعيه هيردر، ومن قبلهما «هامان» قبل أن يكتمل في صيغته المثالية الرائعة لدى هيجل - لعله كان وراء هذا التطور في تصور فاوست الذي أصبح يعكس بمتناقضاته تناقض الحياة والتاريخ والواقع الاجتماعي والإنساني جميعا، كما يعكس تطور تفكير جوته الفلسفي، ونظرته إلى العالم في اتجاه هذه الجدلية الحيوية الشاملة. والتتبع التفصيلي للفوارق الأساسية بين فاوست الأصلية (التي ترجع إلى خريف سنة 1775-1776م) وشذرة فاوست (لسنة 1790م)، وبين الصياغة النهائية للقسم الأول أتمه جوته سنة 1806م يبين تأثير هذا التطور التاريخي والفكري والفلسفي الذي انعكس على بنية فاوست ومختلف قضايا المعرفة والحياة والخير والشر والحب والمصير ... إلخ، التي عبرت عنها القصيدة الكبرى التي بين أيدينا اليوم.
إن فاوست في هذه القصيدة الشاملة الفريدة فرد تمثل تجاربه وتطوره ومصيره تقدم البشر كلهم ومصيرهم. ويكفي أن نقرأ معا هذه الأبيات التي يقولها في حواره مع الشيطان مفيستو فليس (وقد وردت شذرة سنة 1790م مؤذنة بالتعديل الجديد للقصيدة):
أود أن أتمثل في أعماق كياني
ما قدر للبشرية جمعاء.
أن أدرك بعقلي أسمى الأشياء في نظرهم وأعمقها،
وأجمع في قلبي سعادتهم وشقاءهم.
وبذلك أصل ما بين كياني وكيانهم.
وأتحطم في النهاية كما يتحطمون. (القسم الأول حجرة الدرس 1770-1775)
نعم لقد نجحت هذه الإلياذة - أو بالأحرى هذه الأوديسة - الحديثة في أن تلخص في مسيرة فاوست من السقوط والبؤس إلى الارتفاع والخلاص مسيرة البشرية ذاتها، دون أن تضحي بالخصوصية والعينية التاريخية والبشرية للبطل، أو تقضي على الحيوية الشعرية التي تميزه كما تميز سائر الشخصيات والمواقف. ولا شك أن هذه المحاولة الموسوعية لتصوير العالم كله ومسيرة البشرية بأسرها كان من الممكن أن تتعرض لأخطار التعميم التي وقع فيها شعراء عظام قبل جوته (مثل ملتون في فردوسه المفقود والمستعاد وكلوبشتوك في قصيدته الملحمية عن المسيح)، ولعل هذا هو الذي جعل فاوست كما ذكرنا إنتاجا لا يقاس به إنتاج غيره، وهو الذي أتاح للمؤلف أن يحاول - بمنهجه الجدلي التاريخي - تفهم علاقاتها الخفية وجذورها التاريخية.
ولعله كذلك قد شجعه على أن يعقد موازنة بين فاوست وظاهريات الروح لهيجل (التي اتفق الفراغ منها في سنة 1807م وفي وقت واحد على وجه التقريب مع إتمام القسم الأول من فاوست)، وإذا كانت فاوست كما ذكرنا تلخص في حياة فرد نموذجي واحد وتجاربه ومصيره تطور البشرية كلها، وكانت الظاهريات تطورا للوعي الفردي خلال مراحله المختلفة منظورا إليه كتلخيص للمراحل التي قطعها وعي البشر في مجرى التاريخ، فإن الموازنة تصبح ممكنة ومشروعة على الرغم من الهوة الفاصلة بين عمل شعري وآخر فلسفي ... وإذا كان هيجل في ذلك الكتاب - الذي يعد بجانب فاوست أهم المنجزات الفكرية في العصر الكلاسيكي في ألمانيا - إذا كان قد نظر إلى التطور التاريخي برمته بوصفه عمل الإنسان نفسه، وأدرك أن الإنسان الحقيقي يخلق نفسه من خلال عمله الخاص، فإن هذه على وجه التحديد هي الصياغة الفلسفية العامة لفاوست، كيف تنشأ قواه الباطنية وتتطور وتتخطى العقبات وتواجه مصيرها، وكيف يؤثر عليها العالم الموضوعي - الطبيعي والاجتماعي التاريخي - ويكون في نفس الوقت نتاجا لها، أو ميدانا لفعلها الخلاق لذاتها، من أين ينطلق كل هذا وإلى أين يؤدي ...
ذلكم هو موضوع فاوست والبؤرة الفكرية الخفية التي تربط كافة علاقاتها وأجزائها وصورها ومواقفها (على الرغم من أن جوته قد أصر دائما على رفض الاعتراف بأنه قد سعى إلى تجسيد أية فكرة فيها)، ولهذا يمكن القول بأن مأساة فاوست هي في الواقع «ظاهريات» (فينومينولوجيا) شعرية للنوع البشري كما تتجلى في مسيرة وعي فاوست ومصيره الفرديين، بعيدا عن أي منطق محدد أو فلسفة تعسفية. هي مأساة فرد كما وصفها صاحبها؛ لأن تطور النوع نفسه ليس مأساويا، وإنما يجري عبر مآس فردية ضرورية لا يحصيها العد، مآس جربها فاوست (مع روح الأرض، وحبيبته جريتشن التي تخلى عنها، ورمز الجمال المطلق هيلينا التي تزوجها وأنجب منها أعجوبة شبه بشرية عاجزة، وموته في النهاية عندما كان يحفر قناة لري الأرض المنتزعة من البحر، فإذا به يحفر قبره)، وكلها تؤكد أن خلاص النوع لا يتم إلا بتحطيم الفرد، وأن الكلي اللامتناهي لا ينتج إلا عن هلاك الجزئي المتناهي، وأن عجلة التطور المتصل للعالم الأكبر لا بد أن تمر فوق مآسي العالم الأصغر ... ولعل هذا كما ذكرت من قبل هو الذي يجمعه (أي فاوست) بظاهريات هيجل، على الرغم من كل ما يفرق بين إبداع شعري وآخر فكري. •••
آمن «جوته» بوجود نواة كامنة في باطن الإنسان، نواة لا تقبل الفساد مهما أغراه الشيطان، ومهما تورط في الذنوب والأخطاء، والصراع من أجل هذه النواة الطاهرة رغم الزلات والكبوات هو موضوع العقدة الحقيقية لفاوست، وموضوع الصراع الدائر بينه وبين الشيطان مفيستوفليس.
لقد أعلن مفيستو في مفتتح العمل الشعري كله، وهو «الاستهلال في السماء»، أنه سيجعل فاوست «يلتهم التراب بلذة». وهو لا يخفي رأيه في الإنسان، أو في عقله الذي يستخدمه عندما يخاطب الله سبحانه بقوله:
كان من الممكن أن يحيا خيرا مما يحيا الآن
لو لم تنعم عليه بظل النور السماوي،
إنه يسميه العقل، ولكنه لا يستخدمه
إلا ليكون أكثر وحشية من كل الوحوش. (الأبيات 283-286)
بهذا حدد فكرته عن العالم والاتجاه الذي تسير فيه إرادته، كما حدد ميدان نشاطه وقوته. فهدفه - كما كان في الأسطورة الشعبية - هو امتلاك روح فاوست، لكن جوته يخرج في عرضه الحي لتحقيق هذا الهدف خروجا عن الأسطورة. فقد ظلت هذه تحمل طابع القرون الوسطى، وتعبر عن التضاد الحاد بين الخير والشر المتصارعين على كسب روح الإنسان. أما الآن فقد أصبح الصراع يدور بأكمله في الباطن كما أصبح «مفيستو» يمثل جانبا من شخصية «فاوست»، وتطوره النفسي والتاريخي الخاص، بقدر ما يحتفظ بملامح وجهه المتميز إلى الحد الذي ينكر معه طبيعته الشيطانية، ويخلع عنه كل ملامحه العرضية والسحرية التي ألصقتها به الأسطورة، حتى ليعلن أن طريق فاوست إلى الخلاص أو اللعنة إنما يعتمد عليه وحده:
وحتى لو لم يسلم نفسه للشيطان
لكان قد هلك مع ذلك ...
لقد فقد الشيطان طابعه المتعالي أو فوق الطبيعي بمثل ما أكد فاوست مكانه فوق الأرض، وحركته في التاريخ:
من هذه الأرض تنبع أفراحي،
وهذه الشمس هي التي تضيء أتراحي،
ولو أوتيت القدرة على البعد عنهما
فليحدث عندئذ ما شاء له أن يحدث. (1663-1666)
وتتوالى المشاهد بعد هذا الحوار الرئيسي الأول بين فاوست ومفيستو. وتتحول الأسطورة الأصلية إلى صراع من أجل حماية النواة الباطنة من كل الإمكانات «الشيطانية» داخل الإنسان نفسه (أي داخل فاوست وجوته الذي يعبر الإنسان والشيطان كلاهما عن ذاته ومعتقداته) وهذا الصراع بين الخير والشر هو الذي يولد الاتجاه نحو التطور، وهو الذي يعبر عن «الاستقطاب» الدائم في نظرة جوته إلى العالم، كما يعبر عن إيمانه بمستقبل البشرية. فحتى الشر في هذا الجدل الطبيعي الحي يمكن أن يكون عجلة للتقدم الموضوعي، تشهد على هذه العبارة المشهورة التي يعترف فيها مفيستو بأنه جزء من تلك القوة التي تريد الشر دائما وتخلق الخير على الدوام (البيتان 1335-1336) أن بذور الخير يمكن أن تكمن في الشر، كما يمكن أن يكون ثمة شيء شيطاني في أسمى المشاعر. وهذا التأرجح على حد الموسي هو الذي يؤلف الدراما الداخلية في فاوست، التي تؤلف بدورها جزءا من الدراما أو بالأحرى من الجدل الكلي. وهنا يحاول المؤلف أن يثبت أن جدل الخير والشر يعبر عن المرحلة التي شهدها جوته من تطور الرأسمالية، وأن جشع الشيطان إلى الذهب والمال والجنس بوصفها الخير الأسمى هي كذلك تشخيص حي للرأسمالية، ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن نجد مفيستو في القسم الثاني من فاوست يصبح هو مخترع النقود الورقية، ورمز سيطرة المال على أوضاع مجتمع إقطاعي مضمحل، وأن نراه يساعد فاوست على إخضاع البحر للفعل الإنساني، فيبني مرفأ وتزدهر تجارته، كما يعينه على إتمام سيطرته على أرضه ومملكته الجديدة بمصادرة قطعة الأرض الصغيرة التي كان العجوزان الطيبان «فيلمون وباوكيس» يقيمان عليها كوخهما الفقير، وطبيعي أن تكون مساعدته بالطريقة الرأسمالية المعتادة، أي بالنار والسيف! ومع ذلك فإن الصراع بين فاوست ومفيستو يتعدى هذا الجانب الرأسمالي الأساسي في شخصية الشيطان؛ لأنه صراع روحي وأخلاقي يمتد إلى قضايا الحياة البشرية، ويعكس في حركة صعوده وهبوطه تأثير الاتجاهات الشيطانية على روح الإنسان. ومسيرة هذا الصراع كله هي وحدها التي تقدم الجواب على الرهان بين الله والشيطان، وتبين انحلال العقيدة في مصير فاوست. والواقع أن اللقاء بين فاوست ومفيستو، حتى فيما يتعلق بالرهان ليس إلا لقاء على ساحة المعركة. وبالرغم من أنهما يوافقان معا على الرهان الذي تم منذ البداية في «الاستهلال في السماء»، فإن كلا منهما يفهم معنى مختلفا لنفس الكلمات. إن جهد مفيستو الشيطاني يتركز في عرض الحياة على فاوست، ولكن فاوست يحمل في ذهنه شيئا مختلفا تماما عن التمتع بالحياة. إنه يريد تحقيق إمكاناته الفردية وتطويرها، بحيث يمكنه أن ينفذ إلى الواقع، ويعرفه ويسيطر عليه - كما حدث بالفعل في نهاية القسم الثاني عندما اتجه إلى خدمة المجموع بالعمل المثمر - تدل على هذا تلك الأبيات المشهورة التي لم يستطع مفيستو أن يفهمها أبدا؛ لأنها لم تقصد الاستمتاع باللحظة العابرة، وإنما أرادت التحقق في واقع ما يزال يتمثل له رؤيا في المستقبل:
إن قلت للحظة يوما:
تريثي قليلا فما أجملك!
فبإمكانك أن تقيدني بالأغلال،
وسيكون الموت هو أقصى مناي!
عندئذ فلتقرع أجراس الموت،
ولتوقف عقارب الساعة،
فلقد ذهبت أيامي وانقضى زماني! (الأبيات 1699-1704 حجرة الدرس)
كان فاوست يتطلع إلى الحياة بمعناها الإنساني الشامل لا إلى الاستمتاع الحسي بالحياة. ولهذا يبلغ الصراع بينه وبين الشيطان ذروته في مواقف يصعب الحديث عنها هنا بالتفصيل: في الرهان بينهما، وفي مأساة جريتشن، وفي نشاط فاوست العملي الأخير. في هذه المواقف كلها لم يلتهم فاوست التراب كما تصور الشيطان، ولم يستسلم لمتعة اللحظة العابرة؛ لأنه كان دائما ينتظر «السعادة العظمى في لحظة متناهية الجلال» لعلها أن تكون هي اللحظة التي تحقق وعد الله سبحانه في نهاية فاوست: «من أخلص في مسعاه، كتبنا له النجاة» (البيتان 11936-11937)، ولم يكن من قبيل المصادفة أن تتسم المشاهد الختامية من القسم الثاني من فاوست بمزيد من المناجاة (المونولوج) العميقة في دراميتها ومأساويتها؛ ذلك لأن مفيستو لا يساهم في الصراع الداخلي الذي يخوضه فاوست ضده. لقد كرس فاوست نفسه للنشاط العملي، وراح يعمل على إخضاع الطبيعة للإنسان، وانتزاع اليابسة من البحر لخدمة المجموع. تجاوز مرحلة الاستمتاع الجمالي بالعالم (وإن ظل ينظر إليه كشيء متعال خالد)، فأصبح بالنسبة إليه ميدانا للنشاط العملي والسيطرة البشرية «وطريقا وحيدا للخروج من الفوضى الشيطانية والسحرية للعصور الوسطى» (ص143)، ولكنه جعل نفسه بذلك أكثر تعرضا لتهديد مفيستو مما كان عليه عندما وقع في حبه الفردي لجريتشن. لقد سقط الطابع الفردي عن صراعاته الداخلية، وعذاب الندم الذي يعانيه بسبب موت العجوزين الفقيرين اللذين أشرنا إليهما قد صار عذابا من أجل المجموع، وارتبط بالأسس الاجتماعية والإنسانية لطريقة تصرفه بأسرها. ويسلط عليه مفيستو «الهم» في صورة امرأة تطفئ نور عينيه، ولكنه يعجز عن فرض سلطانه عليه، وينجح في أن يعمي عيني جسده لا عيني روحه.
ويتجه فاوست كما قدمت إلى النشاط العملي الذي يحقق «التقدم للحشود البشرية»، ولكنه يتبين أن هذا النشاط مستحيل بدون مساعدة مفيستو الفعالة. لقد حلم بأن يشق طريقه نحو الحرية، ويطرد السحر من طريقه، ويقف أمام الطبيعة مجرد إنسان يجد سعادته في كونه إنسانا قادرا على التحقيق العملي لما يراه صحيحا من خلال قوته الخاصة وفاعليته الخاصة وحدها، لكنه يدرك أن ذلك مستحيل بدون مساعدة مفيستو، وأن البديل عن السحر هو العودة اليائسة إلى غرفة دراساته التأملية الكئيبة (ولعله قد أدرك أيضا - فيما يفسر لوكاش - استحالة تطور القوى المنتجة في المجتمع البرجوازي، إلا في ظل الرأسمالية التي يجسد مفيستو استغلالها وطغيانها بالذهب والمال والجنس، ولهذا السبب تظل محاولة فاوست للابتعاد عن السحر محاولة عقيمة، ويبقى حلمه بمستقبل مشرق للإنسانية مجرد حلم. ص148)، ومع أن فاوست - مثله مثل جوته - يحلم بهذا المستقبل؛ لأنه خصم لدود لكل الثورات، فإن محتوى حلمه بالغ الأهمية والدلالة على شخصيته. إنه لا يزال يسعى وراء الأهداف السامية للجنس البشري. ومع أنه قد اكتفى أيضا حتى الآن بتحقيقها في تطوره الذاتي الباطن، فإننا نجده في ختام القصيدة الكبرى يعبر تعبيرا واعيا عن الرغبة في النضال الجماعي الحر من أجل هذه الأهداف. ولهذا نراه في مناجاته الأخيرة مصرا على حلمه العظيم، بينما الواقع يتناقض مع هذا الحلم تناقضا مؤلم السخرية. ففي الوقت الذي يتصور أنه واقف مع الحشود على أرض حرة ذات شعب حر، إذا بأرواح الموتى تحفر قبره بأمر من مفيستو، وهو يظن أنها تحفر قناة تجري بالعنصر المخصب للرمال:
هكذا أفتح الآفاق لملايين كثيرة
تعمرها بحرية ونشاط،
وإن لم تكن آمنة مطمئنة،
ويصير الوادي أخضر خصبا،
ويستريح الإنسان والقطعان
فوق الأرض الجديدة.
وهنا في الداخل تترعرع جنة،
وإذا ما عربد الطوفان في الخارج، حتى بلغ الحافة،
وراح يقرضها بأنيابه ويحاصرها بعنف،
سارع البشر سوية لسد الثغرات.
هذا هو فصل الحكمة والمقال.
لا يستحق الحرية والحياة
إلا من يصر على غزوهما كل يوم!
وهكذا يقضي الأطفال والرجال والشيوخ،
وقد أحاطت بهم الأخطار،
سنوات عمرهم الحافل بالنشاط.
ولكم أود أن أرى هذه الحشود
واقفة على أرض حرة مع شعب حر،
حينئذ يحق لي أن أخاطب اللحظة وأقول:
تريثي قليلا فما أجملك!
وعندها لن تمحى في الآباد
آثار أيامي التي قضيتها على الأرض.
إني لأستشعر تلك السعادة القصوى،
وأستمتع الآن بأسمى اللحظات. (القسم الثاني، الفصل الخامس، 11563-11586)
ولعل هذا التناقض يتناسب أخيرا مع تلك الجدلية أو الثنائية الروحية التي ألح عليها المؤلف في تقييم جوته للتقدم البشري. لقد عجز في رأيه عن إدراك الحياة الاجتماعية والاقتصادية للرأسمالية الناشئة إدراكا تصوريا واضحا، فعبر بدلا عن ذلك بحدسه الشعري عن دورها المتناقض في تطور الإنسانية. وإن حلم فاوست الأخير بالمستقبل ليصور بإيقاعه القاسي المدمر تصويرا كافيا نظرة جوته إلى هذا التناقض، الذي لم يحل أو لم يستطع هو نفسه أن يجد له حلا، وإن عظمته الشعرية لتكمن في طرحه لهذا التناقض (الذي جعل فاوست يضع تحقيق حلمه الكبير بالعمل من أجل المجموع بين يدي مفيستو كما يضع في يديه كذلك إمكانية تحطيمه)، ويكفيه صدقا أنه صور لنا احتدام هذا التناقض في نفس فاوست، وكشف عن قدرة «نواته الباطنة» على الصمود والبقاء نقية في صراعها مع الشيطان. وهو صادق، حتى في عجزه عن أن يقدم أكثر من حلمه المشرق بالمستقبل، بل ربما بسبب هذا العجز نفسه (الذي كان في رأي لوكاش تعبيرا أمينا عن الوعي البرجوازي العاجز في عصره عن رؤية الواقع الموضوعي رؤية ثورية صحيحة)، ولعل صراع فاوست للحفاظ على نقاء نواته الباطنية أن يكون دليلا شعريا حقيقيا على الإيمان بأن البشرية رغم مفيستو ورغم الرأسمالية لم يحكم عليها بالسقوط في أيدي الشيطان ، ولا «أكل التراب» كالدودة الحقيرة! وهي لن تسقط ما بقيت على إيمانها بأن النجاة والخلاص من نصيب من يسعى بأمانة وإخلاص.
يشعر القارئ بعد هذا العرض الموجز لفصول الكتاب أن القضايا الجمالية البحتة لم تأخذ حقها الكافي، أو يشعر على الأقل بأنها التحمت بالمسائل التاريخية والاجتماعية، بحيث لا تنفصل عنها تأثيرا وتأثرا. ويأتي الفصل الأخير استجابة لهذه الحاجة النظرية والجمالية، فيحلل المفاهيم الفنية الأساسية التي قامت عليها أعمال جوته الشعرية، وفي مقدمتها فاوست.
وفاوست من الناحية الجمالية إنتاج لا يقاس به غيره. إنها كما ذكرنا من قبل ليست دراما ولا ملحمة، وإن جمعت أفضل خصائص النوعين. فهل يكفي أن نصفها بأنها قصيدة كبرى عن تطور الجنس البشري من خلال تطور فرد ومصيره؟ أم يقتضي الأمر النظر في بعض أفكار جوته النقدية قبل التسرع إلى هذا الحكم؟
لقد حاول جوته وصديقه شيلر - في رسائلهما التي تحدثنا عنها - تمييز الدراما والملحمة وتحديد الطابع النوعي لكل منهما. ولم يأت حرصهما على ذلك بدافع نظري محض، وإنما كان الأمر ضرورة اقتضتها عملية الإبداع ذاتها عندما وجدا نفسيهما في مواجهة مضامين تتأبى على الشكل الدرامي أو الشكل الملحمي وحده، وتفرض عليهما التسليم بالتفاعل بينهما. وقد أخذ جوته على عاتقه تحديد المفاهيم الأساسية لكل منهما، وكان من أهمها أن كل شيء في الملحمة يصور كماض، في حين أن كل شيء في الدراما هو حاضر. بهذا تكون فاوست بحق عملا دراميا يقوم على الحضور المحسوس لأشكال الوعي التي يمر بها فاوست خلال اكتمال تطوره الروحي في مشاهد تصور الحقيقة الواقعية لكل مرحلة من مراحله، وكأن كلا منها - كما صرح جوته نفسه لصديقه وتلميذه أكرمان - عالم مستقل صغير، لا يتماس مع بقية العوالم، ولا يرتبط بالمجموع إلا بعلاقة رخوة مع الأحداث السابقة واللاحقة. والغريب أن هذا المبدأ الدرامي في التأليف هو الذي يخلق الطابع الملحمي للعمل ككل! فالعوالم الصغيرة المستقلة تفتقر إلى الترابط الضروري الذي تفترضه الدراما، ولهذا يبقى العمل في مجموعه غير قابل للقياس، ويظل مسألة مفتوحة وغير محلولة تحفز الناس باستمرار إلى التأمل فيه. ومعنى هذا أن فاوست تحقق التفاعل بين المبادئ الدرامية والملحمية؛ لأنها إذا كانت درامية في كل جزء منها، فهي ملحمية في استقلال هذه الأجزاء داخل تصور كلي (كما كتب إليه شيلر بحق). ويبدو أن جوته قد استفاد من هذه التأملات النظرية في طبيعة الدراما الملحمية عندما عاد إلى «عمله البربري»، وهو يائس من تحقيق صفته الدرامية أو الملحمية بصورة كاملة. ولهذا لا يفاجئنا قوله لصديقه إنه سيحرص على أن تكون الأجزاء ممتعة ومسلية، أما الكل فسيبقى دائما شذرة ناقصة ... والواقع أن تداخل الدرامية والملحمية في بنية فاوست أمر يقوم - كما أشرنا من قبل - على موقف جوته من المأساة ونظرته الشاملة إلى العالم. فهو يرى أن المراحل النموذجية لتطور البشرية سلسلة من المآسي، ولكنها في مجموعها الكلي ليست مأساوية. ولا بد أن اعتقاده بالضرورة الكونية ووحدة الوجود التي تأثر فيها بفلسفة اسبينوزا قد أثرت بدورها على هذه النظرة العالمية، كما اقتضى التعبير عنها بصورة مكثفة وشاملة ذلك الشكل الدرامي الملحمي الذي يحقق ديناميكية الأجزاء وتوازن الكل. ولهذا يصبح من الخطأ أن نتصور فاوست كما لو كانت ملحمية مكونة من درامات منفردة أو دراما كبرى مؤلفة من أجزاء ملحمية. فالتداخل بين الشكلين ملموس في كل جزء من أجزائها؛ لأن مصير نموذج إنساني (أي مرحلة من مراحل تطور البشرية)، يتقرر أمام أعيننا على أساس الجدل الكامن في تناقضاته الداخلية وبطريقة مأساوية في معظم الأحيان، كما أن كل جزء من جهة أخرى هو ملحمة؛ لأن الصدق الضروري لهذا النموذج أو النمط الإنساني أو هذه المرحلة من التطور البشري قد استلزم إعطاء الوسط الاجتماعي لهذه التناقضات امتلاء ملحميا يتعدى ما هو درامي بحت. بهذا أمكن أن تصبح فاوست رواية تربوية من طراز «فيلهلم ميستر»، أو ملحمة هوميرية حديثة تتضمن سلسلة من الدرامات.
هكذا أدرك جوته وشيلر أن التفاعل والتداخل بين الدراما والملحمة من سمات «الأدب الواقعي» الحديث الذي بدأ في أواخر أيامهما وأعمالهما. وقد تأكدت هذه السمة المميزة، حتى صارت اتجاها عاما أبرزه «بلزاك» بعد ذلك بنصف قرن في مقدمته للكوميديا الإنسانية عندما شدد على العنصر الدرامي والطابع التاريخي للرواية الحديثة في القرن التاسع عشر (عند بلزاك نفسه وستندال ووالتر سكوت ومانزوني وغيرهم) خلافا لما كانت عليه في القرن السابق عليه. ولا شك أن أعمال جوته قد أقامت «الجسر الجمالي» بين هذين القرنين، وعبرت عن ذروة اكتمال المفاهيم الفنية في عصر التنوير كما تخطتها في الوقت نفسه، ومهدت لعصر الواقعيين العظام الذين أشرنا إلى أهم أسمائهم. وإذا كانت «فترة فنية» قد انطوت بوفاته، فترة كان السعي فيها وراء الجمال والانسجام والكمال هو غاية الغايات، فإن تأثيره على واقعية العصر الحديث يثبت أن الجمال عنده لم يكن على الإطلاق جمالا شكليا بحتا (كما سيفعل الشعر الرمزي اللاحق واتجاه الفن للفن)، بل كان له محتواه الاجتماعي المعبر عن مشكلات العصر وتناقضاته التاريخية تعبيره عن الوعي بتقدم الإنسان وارتقائه نحو الكمال. ولهذا يمكن القول بأن إيمانه الثابت بالجمال الإغريقي أو الكلاسيكي لم يكن إيمانا بمقاييس فنية أبدية، وإنما يرجع إلى أن جوهر الإنسان وعلاقاته في الحياة القديمة قد انعكست في التراث الفني والأدبي الكلاسيكي بصورة أنقى منها في حاضر الحياة التي خبرها. فكأن الأشكال الفنية ليست في نهاية الأمر «التراكيب الأكثر عمومية وتجريدية للجوهر الإنساني والعلائق الإنسانية»، وما نسميه موضوعات «فنية» هو على حد قوله ظواهر للروح البشرية تكررت، وسوف تتكرر، والشاعر وحده هو الذي يعرضها بوصفها ظواهر تاريخية، ويعبر عنها تعبيرا فكريا وجماليا (ص175)، ولعل هذا كله أن يكون تعبيرا عن النزعة الإنسانية لجوته وعصره في أكمل صورها، وعن دفاعه عن وحدة الوجود الإنساني - جسدا ومجتمعا وروحا - ضد كل القوى التي كانت قد بدأت تشوهه وتجزئه تحت تأثير الرأسمالية الوليدة، وهو في النهاية - كما رأينا في فاوست - دفاع عن نقاء النواة الباطنة في الإنسان، ومحاولة لإنقاذ الجنش البشري من خلال التضحية المأساوية للفرد الذي يرقص رقصة الموت؛ لكي ينبعث المجموع في جلاله وكماله.
لا شك أن هذا الكتاب يثير قضايا ومشكلات عديدة متصلة بالنقد الأدبي الماركسي بوجه عام وتفكير «لوكاش»، ونقده وفلسفته الجمالية بوجه خاص. ولن نستطيع بطبيعة الحال أن نتوسع في الجانبين بما يبعد عن الكتاب نفسه، ولذلك فسوف نكتفي ببعض الملاحظات الأساسية التي لا تهملهما إهمالا تاما، ولا تتعدى الحدود المرسومة لمثل هذا العرض النقدي. ولا ننسى قبل تقديم هذه الملاحظات أن نذكر القارئ بأمرين؛ أولهما: أن الكتاب قد وضعه صاحبه سنة 1947م أيام اشتداد النزعة القطعية المتزمتة، وغلبة النظرة الاجتماعية المبسطة التي ألفناها طويلا في تلك الفترة من النقد الأدبي الماركسي (الذي أصبح اليوم نقدا تقليديا بالقياس إلى الجهود والاجتهادات الحديثة والمعاصرة في هذا النقد نفسه). وثانيهما: أن الاتجاه الذي يمثله لوكاش هو اتجاه مثالي (هيجلي) إنساني، وقد حافظ على هذا الاتجاه الذي يمكن أن نتتبعه إلى المرحلة التي سبقت تبنيه للماركسية، وذلك على سبيل المثال في مقاله المبكر عن تطور الدراما الحديثة (1909م)، وكتابه عن نظرية الرواية (1918م)، وإن توسع فيه بعد ذلك، وتعرض بسببه لمحن كثيرة لم يكن أقلها هو مصادرة كتبه ونفيه عن بلده! صحيح أنه كان في المرحلة الباكرة من إنتاجه يؤكد الجانب الذاتي الباطن، بل الجانب الفردي اللامعقول، ويتصور أن مهمة الأدب هي التعبير عنه في مواجهة مجتمع معاد ومغترب ومن خلاله، وصحيح أنه تعلم من الماركسية أن الفرد والمجتمع وحدة واحدة، وأن العلاقات الاجتماعية هي أساس الأدب والفن والجمال، ولكن هذا كله لا يمنعنا من القول بأن «لوكاش» لم يتحول كثيرا عن بعض «الثوابت» المنهجية والنظرية التي يمكن أن نبلورها في اعتقاده بالوحدة الجدلية التي تؤلف بين الذات والموضوع في المجتمع، وإيمانه بالخلاص من الاغتراب عندما يصل المجتمع عن طريق الطبقة العاملة إلى الوعي بذاته، وفكرته عن الحقيقة من حيث هي كل شامل ما يزال على الإنسان أن يكافح ويصارع في سبيل بلوغه. وتقترن بهذه الثوابت ثلاثة مفاهيم نقدية أساسية يلح عليها «لوكاش» على الدوام، وهي الوحدة الشاملة (التي يؤلف بها العمل الأدبي بين العام والخاص، وبين التصوري والحسي، وبين الاجتماعي والفردي، ويصلها وصلا جدليا حيا، بحيث يصبح العمل صورة مصغرة من الوحدة الشاملة المركبة للمجتمع)، والعامل التاريخي والاجتماعي (وهو المضمون الذي يحدد الشكل الفني، بحيث تصبح الأشكال على اختلافها تركيبات وتكثيفات معقدة لذلك المضمون التاريخي والاجتماعي - إذ لا يوجد ثمة مضمون لا يكون الإنسان نفسه هو بؤرته - وبحيث يصر لوكاش باستمرار على رفض النزعات الشكلية على اختلافها في الأدب والفن بوصفها نزعات فاسدة منحلة)، ثم تأكيده «للنمطي» على اعتبار أن مهمة الأدب هي إبرازه من خلال الفردي والاستثنائي، أي إن الشخصية النمطية أو النموذجية هي التي تجسد القوى التاريخية دون أن تفقد شيئا من خصوصيتها الحميمة وثرائها الفردي المحسوس.
ننتقل بعد هذه المقدمة الضرورية إلى بعض الملاحظات التي تتصل بالكتاب الذي نناقشه كما تتجاوزه من بعض الجوانب: (1)
يقسم «لوكاش» إنتاج جوته تقسيما يثير التساؤل، ولا يستند إلى هذا الشاعر وشخصيته الباطنة وتصوراته النظرية وتجاربه الإبداعية والعملية. فهو يميز فيه قسمين كبيرين يقع الأول منهما - وهو الذي أنتجه الشاعر في شبابه وجزء من رجولته - قبل قيام الثورة الفرنسية، ويعبر فنيا وفكريا عن آخر ذروة بلغها عصر التنوير الذي مهد لتلك الثورة. أما القسم الثاني - الذي يقع في مرحلة النضوج «الكلاسيكي» ثم مرحلة الشيخوخة - فيعبر في رأي المؤلف عن الذروة الأولى للتطور الفني للبرجوازية بعد الثورة الفرنسية، هذه الذروة التي أكملتها ذروة أخرى بلغها الأدب البرجوازي كما رأينا مع نضج الواقعية الأوروبية على أيدي بلزاك وستندال ومانزوني بوجه خاص، وكذلك ولترسكوت وزولا وتولستوي وغيرهم.
لا شك أن هذا التقسيم قد ساعد لوكاش على تأكيد الطابع الواقعي في أدب جوته كله، كما ساعده على أن يطبق عليه مفاهيم الأيديولوجية السائدة مع استثناءات قليلة وعلى درجات مختلفة. بيد أن التقسيم نفسه لا يخلو من التعسف، كما أن كلمة الواقعية نفسها كلمة ضخمة مطاطة، أشبه بالقدر التي تتسع لكل شيء: لفيرتر وفيلهلهم ميستر، وبروميثيوس وفاوست، وجوتز وهيرمان ودوروثيا، والرسائل المتبادلة بين جوته وشيلر، على الرغم من تفاوت درجات «الواقعية» في هذه الأعمال، ومن تردد القارئ ومؤرخ الأدب في وصف بعضها بالواقعية، ولنناقش هذه المسألة على ضوء تفسير المؤلف للجزء الأول من رواية فيلهلم ميستر، سنوات الطلب، ثم للجزأين الأول والثاني من فاوست. (2)
يؤكد المؤلف أن «فيلهلم ميستر» تعبر عن مثل الثورة الفرنسية التي كان تحقيقها مستحيلا في المجتمع الألماني المتخلف أيام جوته. والواقع أن هذه قضية لا يمكن قولها بهذه الصورة المبسطة، وبخاصة إذا تذكرنا موقف جوته المتحفظ من هذه الثورة، وعرفنا مدى استهجانه لأساليبها البشعة التي أثارت نفوره واشمئزازه من أية «نظرية كوارثية» تحاول تحطيم الترتيب الاجتماعي والنظام الأخلاقي والروحي. وإذا كان قد استحسن «المحتوى الاجتماعي» للثورة الفرنسية، فإن هذا لا يكفي لكتابة رواية كاملة تعبر عن مثلها الثورية. أضف إلى هذا أن شخصية بطلها فيلهلم شخصية تبحث عن وحدتها وانسجامها مع نفسها وعالمها وسط طبقات ونماذج إنسانية متباينة. وإذا كان يعبر عن تناقضات المجتمع «البرجوازي» في عصر جوته، فليس من الضروري أن تكون مثله تعبيرا عن مثل الثورة الفرنسية، بل يمكن أن تكون مستمدة من النزعة الإنسانية التي طبعت تفكير جوته ومفكري عصره جميعا، مثل هيردر والأخوين فيلهلم وألكسندر فون همبولت وشيلر وفيلاند، ومن قبلهم ليسينج وفنكلمان. إن تفسير الشخصيات والصور والنماذج الشعرية بما يقابلها من صور ودلالات اجتماعية وتاريخية (أيديولوجية) أشبه بالسير على حد الموسي أو المشي فوق حبل مشدود فوق هاوية. فقد يهبط بالتفسير إلى التعسف والفجاجة، وقد يضيء حنايا العمل الفني، ويزيد من غناه. والمهم في رأيي ألا يسرف الناقد في لي أعناق الحقائق الشعرية ناحية الحقائق الاجتماعية، والواضح من الكتاب أن لوكاش قد أجهد نفسه؛ ليثبت أن فيلهلم شخصية نمطية تجسد القوى التاريخية، دون أن تضحي بثرائها الفردي، وأن جوته تبعا لذلك كان «تقدميا» وواقعيا واصل الخط الواقعي والتقدمي الطويل الذي يمتد في رأيه (أي رأي مؤلف الكتاب) من الإغريق إلى شيكسبير وعصر النهضة حتى بلزاك وستندال. ومع أن محاولة لوكاش جديرة بالإعجاب، إلا أن قراءته للنص، كما يقول المعاصرون من النقاد الذين جاءوا بعده، تحتمل السؤال والمراجعة، أي تحتمل هي نفسها قراءة وتفسيرا مختلفا ... والدليل على هذا أنه يفسر الشيطان خصوصا في القسم الثاني من فاوست - أو ما يعرف بفاوست الثاني - بأنه تجسيد للرأسمالية الناشئة، ويؤكد هذا بمسئوليته عن اختراع النقود الورقية وتمثيله للجشع الرأسمالي وقتله هو وأعوانه عجوزين مسكينين (وهما فيلمون وباوكيس اللذان اشتهرا منذ العصور القديمة بحبهما النادر، وفقرهما النادر أيضا) قتلة فظيعة تكشف عن أنانية الرأسمالي ووحشيته، ولكن المؤلف يعترف من ناحية أخرى بأن الصراع بين فاوست ومفيستو يتعدى هذا الجانب الرأسمالي في شخصية الشيطان؛ لأنه صراع روحي وأخلاقي يمتد إلى كل قضايا الحياة البشرية، ويعكس في حركة صعوده وهبوطه تأثير الاتجاهات الشيطانية على روح الإنسان.
كل هذا يدل على أن المؤلف لم تغب عنه أوجه الدلالة المختلفة في هذا العمل الشعري الذي لا تنفد كنوزه، ولكن القارئ يشعر بأنه يكاد يسخر كل شيء فيه لخدمة قضية اجتماعية وأيديولوجية ثابتة، وهي قضية التقدم في الوعي بتناقضات الواقع والتمهيد للثورة عليه. فهل كان جوته نفسه سيقبل هذا التفسير، وهو الذي تنصل دائما من أي تفسير فكري أو فلسفي لأعماله الشعرية وسخر من كل الذين حاولوا استكناه معانيها وأسرارها العميقة؟ وإذا صح أن الناقد لا يهمه رأي المؤلف؛ لأن مهمته هي أن ينطق العمل بما لم ينطق به، ولم يقصد إليه قصدا هو أو صاحبه - وهو صحيح على اختلاف مناهج التفسير أو الشرح والتأويل - فستبقى المشكلة هي درجة هذا النطق ونسبته، ومدى تعبيره عن تفكير المؤلف أو العصر أو الناقد نفسه، وإلا أمكن أن يصبح العمل الواحد نهبا لكل تفسير ومطية لكل «أيديولوجية» حسب الهوى والمقدرة والظروف ... ولا شك أن خصوصية الأدب متشابكة مع الأمور العامة والسياسية والتاريخية، وتطويع الأمور الخاصة بالبنية الفنية والشعرية لها بأي ثمن، هو في تقديري شيء بالغ الخطأ والخطورة كما أن نقيضه على الطرف الآخر أمر بالغ الخطأ والخطورة. ولو أن لوكاش التفت إلى جوانب التفاوت والصراع والتفرق والتعدد والتغير في معاني ومستويات هذين العملين الكبيرين من أعمال جوته، وأعني بهما «روايتيه» الملحميتين الدراميتين في آن واحد وهما فيلهلم ميستر وفاوست، بدلا من محاولة تأكيد وحدتهما الشاملة، وتجسيدها للقوى والعوامل التاريخية والاجتماعية ونمطية شخصياتهما بأي ثمن، ولو انتبه إلى «أيديولوجية» الشاعر فيما لا يقوله بدلا من عناء البحث عنها فيما يقوله، ولو حاول أن يبتعد قليلا عن «أيديولوجيته» هو نفسه، ولم يفرضها بكل وسيلة على الشاعر الذي نعلم نفوره من الأفكار، واستغراقه في الموضوعات؛ لأمكنه أن يلمس مفارقات العملين وثغراتهما وتشتتهما وعدم اكتمالهما، بل «صمتهما» في كثير من الأحيان، مما يدل على علاقة التوتر والصراع في موقف جوته المعقد من «أيديولوجية» عصره، ومن كل تفكير أو تفلسف بوجه عام، ويؤكد كذلك إيثاره للأشكال المفتوحة على المغلقة، وللصراع بدلا من الحل، وللصور والمشاهد والمواقف الملموسة الحية المتقطعة بدلا من التعميمات المجردة. (3)
كان لوكاش متسقا مع نفسه في حديثه عن قضية الشكل الملحمي الذي تناقش حوله جوته مع صديقه شيلر في رسائلهما الرائعة، كما لجآ إليه في بعض أعمالهما المتأخرة كما بينا من قبل. ولقد أكد لوكاش في مرحلة مبكرة من إنتاجه (كما في مقاله عن تطور الدراما الحديثة الذي يرجع إلى سنة 1909م) أن الشكل هو العنصر الاجتماعي الحقيقي في الأدب، أي إن الأشكال الفنية - كما رأينا من قبل - هي الحوامل الفعلية للأيديولوجيا في الفن. وقد حاول أن يثبت أن التطور المهم في شكل المسرح الملحمي والرواية الدرامية الملحمية عند جوته وشيلر قد نتج عن تغيرات مهمة في الأيديولوجيا السائدة، وجسد طرائق جديدة في إدراك هذين الشاعرين للواقع الاجتماعي (حتى ولو لم يكن إدراكهما واعيا بصورة كافية).
والحق أن العلاقة بين الشكل والأيديولوجيا علاقة معقدة يصعب الخوض فيها في هذا المجال المحدود، وهي على كل حال ليست علاقة تماثل بسيطة، ولا هي علاقة استقلال مطلق. فالشكل بنية مركبة من عناصر ثلاثة على الأقل؛ لأنه يتشكل بواسطة التاريخ الأدبي للأشكال، ويتبلور من أبنية أيديولوجية سائدة، ويجسد وضعا معينا من العلاقات بين المؤلف والمتلقي
4 - ناقدا كان أو قارئا متذوقا - فإذا أضفت إلى ذلك أن للناقد، وهو هنا لوكاش، أيديولوجية ، وأن لهذه الأيديولوجية تأثيرا لا شك فيه على نظرته النقدية، عرفت أن مشكلة الشكل في الحقيقة أعقد بكثير من الصورة المبسطة التي عرضها بها المؤلف. ومع أنه لم يهمل عناصر أخرى غير العنصر التاريخي والاجتماعي في اختيار «جوته» مثلا في فاوست للشكل الذي تتداخل فيه الدراما والملحمة، وعلى الرغم من إنصافه وحساسيته الشديدة في حديثه عن الدوافع الباطنة والعوامل الإبداعية التي ألجأته إلى اختياره، بالإضافة إلى رؤيته الكونية والميتافيزيقية ورغبته الخاصة في الوفاء بمعايير الجمال الكلاسيكية، وبمقتضيات المادة الحديثة والحياة الجديدة في آن واحد، على الرغم من هذا كله، فقد وظف كل هذه العوامل والعناصر في تأكيد وجهة نظره الثابتة عن «اجتماعية» الشكل وأيديولوجيته. والأخطر من هذا أنه فرض هذا التفسير الأيديولوجي على أعمال جوته دون تفرقة. وإذا افترضنا أن من الممكن أن نصرف النظر عن نفور جوته من السياسة وأحداثها المربكة بوجه عام، وعن صعوبة القول بأن «أيديولوجيته» - إن صح هذا التعبير الحديث عن نزعته الإنسانية ورؤيته الكونية الحيوية التي يمكن أن نصفها بأنها وحدة وجود متطورة كانت أبعد ما تكون عن الثورة والجدلية بمعنيهما المحدد عند هيجل أو ماركس فيما بعد - إذا صرفنا النظر عن هذا كله، فكيف يمكن أن نطبق «قراءة» سياسية واحدة على كل أعماله مهما تفاوتت ظلالها ودرجاتها؟ ربما أمكن قراءة مسرحياته عن «جوتز» و«أجمونت» و«الابنة الطبيعية» قراءة سياسة حديثة تستنبط منها دلالاتها الاجتماعية والتاريخية، ولكن هذه القراءة تصبح أمرا متعذرا مع نصوص أخرى مثل «فيرتر» و«فاوست». وحتى لو سلمنا بأن النسق العقائدي والفكري (أي الأيديولوجية) يشكل داخل العمل أفقا محددا لمبدعه، سواء أكان واعيا بذلك أم لم يكن، فلا بد أيضا من التسليم بأن المبدع الحقيقي يمكنه أن يخترق هذا النسق أو يكسره في مواضع عدة أو يغيره، ويستبدل به أفكارا ومعتقدات أخرى خلاقة لا تجعله مجرد «انعكاس» لنسق عصره (ولا ننسى أن نظرية الانعكاس الماركسية، سواء في المعرفة أو الفن، قد أصبحت اليوم نظرية واضحة التهافت)، ولا مجرد انعكاس لأيديولوجية الناقد نفسه الذي يحاول أن يقترب من حقيقة النص ويقربنا منها! وقد يمكن في النهاية أن نقبل تحليلات «لوكاش» لو توسعنا في مفهوم الأيديولوجية، بحيث لا تعني نسقا شموليا موحدا، بل مجموعة من الأفكار والمعتقدات بينها تشابه أسري (على حد تعبير فتجنشتين في كتابيه الأزرق والبني)، إن هذا الفهم يتيح للمبدع فرصة التحرر والتعبير عن خصوصيات لا تندرج في أيديولوجية محددة، كما يتيح للناقد أن يتحرر في ضم عناصرها واستشفاف رؤية موحدة منها، قابلة للتقطع والتكسر والاختراق والتحرر من الشمولية المجردة لتستجيب لخصوصية تجاربه ورؤاه الإبداعية نفسها،
5
ويقتضيني الإنصاف أن أقول إن لوكاش قد حاول شيئا من هذا فهي مواضع كثيرة من كتابه، ولكن بدرجة أقل من المتوقع مع أديب مثل «جوته» طغت مثله الإنسانية والروحية على مثله السياسية والاجتماعية المفترضة (وليته قد اهتم اهتماما حقيقيا بالتفرقة الأساسية المعروفة التي أقامها العالم اللغوي دوسوسير بين اللغة والكلام).
خلاصة القول إن المقولة الرئيسية في النقد الأدبي الماركسي قديمه وحديثه (وهي أن الأدب نتاج الأوضاع التاريخية) لا يصح أن تتحول إلى طوق حديدي يلتف حول النصوص، ويخنق أنفاسها (وخصوصا نصوص العباقرة الذين عبروا عن عصورهم بقدر ما تجاوزوها)، ولا يدع لها ولا لأصحابها مجالا للإيماء واللمح والإشارة إلى آفاق أبعد من التربة التاريخية والاجتماعية، ولا يتيح النظر في نسيجها الفني نظرا كافيا. ثم إن تفسير لوكاش أو غيره لا بد أن يتأثر بأوضاع المفسر التاريخية، ولعله أن يفرض على جوته أو غيره جزءا غير يسير من أيديولوجيته هو نفسه. ولهذا فإن دراسة لوكاش لتاريخية جوته وعصره يجب أن تكملها كما أشرت إلى ذلك من قبل دراسة أخرى لتاريخية نقد لوكاش، والعوامل التي شكلته والدوافع والرغبات التي حركته. ويمكنني في النهاية أن أتمثل بالعبارة الشهيرة التي قالها «إنجلز» في كتابه عن «فويرباخ» ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية (1888م)؛ لكي أؤكد أن أدب جوته، كما يثبت كتاب لوكاش نفسه لمن يقرأ ما بين سطوره وينطقه بما لم ينطق به إلا على نحو غير مباشر! ليس مجرد انعكاس لأيديولوجية عصر لم يكن قد أدرك أيديولوجيته بعد بصورة كافية واعية. وسواء غير جوته عنها أم عن بعض عناصرها أو تحداها وخرج عليها في مواضع كثيرة، فإنه قد أكد الاستقلال النسبي لأدبه وفكره. تقول عبارة إنجلز التي أشرت إليها: «إن الفن أكثر غنى وصعوبة من النظرية السياسية والاجتماعية؛ لأنه أقل منها أيديولوجية»، وإذا كان لوكاش لم يتذكر هذه العبارة، أو لم يستفد منها تماما في تأليف كتابه، فإن أصالته لا تكمن في تطبيق المنهج الاجتماعي التاريخي على أدب جوته وعصره - لأن هذا شيء مألوف ومكرر عنده غيره - وإنما تكمن في فهمه الثوري لهذا الأدب، ولمجموع الأفكار والقيم والمثل والمشاعر التي قدمها لنا في صورة غنية حية مؤثرة. (4)
بقيت ملاحظات أخيرة أسوقها على بعض أفكار المؤلف الجزئية المنثورة في الكتاب أتبعها بملاحظات أخرى عن الترجمة العربية. فالمؤلف ينسب اكتشاف المنهج الجدلي (الديالكتيك) إلى هيجل وجوته معا. والواقع أن هذا القول ينطوي على تجاوز أو تسامح كبير. فلا يمكن أن يوصف تفكير جوته بالجدلية إلا بصورة عامة شديدة التعميم. قد يمكن القول بأن لديه نوعا من «الاستقطاب»، الذي ألح عليه في كثير من أشعاره الفلسفية، وبعض قصائد الديوان الشرقي، وفي بحوثه العلمية في الضوء والألوان ورؤيته الكونية بوجه عام (فقد حاول مثلا أن يفسر ظاهرة اللون بالرجوع إلى أصلها في التقابل بين قطبي النور والظلام، كما فسر تحولات النبات بالتعاقب الدوري للقبض والبسط الواضحين، كذلك في التنفس وفي الإيقاع الكوني القائم على التجاذب والتنافر والتضاد بين قوى الخير والشر، بحيث تتخلل الوجود كله عملية أبدية تراوح بين الفصل والتوحيد) من الممكن أن نسلم بوجود نوع من الثنائية أو التضاد والصراع بين هذه العوامل الكونية في إطار وحدة الوجود الشاملة لديه، ولكن من الصعب أن نقول بجدلية من النوع الذي قاله به هيجل، حتى ولو ذهبنا إلى أن هذا الأخير قد قال بها في إطار وحدة وجود منطقية شاملة. (5)
يذكر المؤلف اسمي نيتشه وإشبنجلر بوصفهما «السلفين الروحيين للإنسانية الألمانية الحديثة». والواقع أن هذا القول لا يمكن أن يصدق على الفيلسوفين، إلا إذا صدقنا تفسير النازيين أو بالأحرى إساءة تفسيرهم لهما واعتمادهم على اقتباسات غبية معزولة عن سياقها أخذوها عن نصوصهما، ووقفوا عند ظاهرها البلاغي البراق. أما أفكارهما الميتافيزيقية الأصيلة، وخصوصا أفكار نيتشه، فلم يكن من المتوقع منهم أن يرتفعوا إليها، أو يضعوها في إطار رؤيتهما الكونية والتاريخية والفنية. وكما أننا نظلم ماركس إذا حاكمناه على الجرائم التي ارتكبها «ستالين»، فمن الظلم أن نأخذ «نيتشه» أو إشبنجلر وغيرهما من فلاسفة الحياة بذنوب النازيين ووحشيتهم، أو نحاسب الفلاسفة على بشاعة الجلادين والموظفين. (6)
يذكر المؤلف أن ترجمة رد الفعل النظري أو الأيديولوجي في ألمانيا إلى ممارسة عملية كان أمرا نادرا جدا، ويستشهد على ذلك بإنتاج «جورج فورشتر» وحياته الثورية (ص57)، ولعل المقصود هو الطبيب والكاتب المسرحي الشاب «جورج بشنر» (1813-1837م) الذي ألف جمعية ثورية من العمال الحرفيين والفلاحين أخمد أنفاسها الحكم الإقطاعي في مقاطعة «هسن»، وارتاب فيها المثقفون وجبنوا عن الوقوف معها. وهو معروف بمسرحياته الواقعية ومآسيه الاجتماعية التي لم تقدر قيمتها إلا في القرن العشرين على يد كتاب مثل هويتمان وفيديكند وبرشت (ومن أهم هذه المسرحيات مسرحيته عن موت دانتون التي تعبر عن خيبة آماله في الثورة الفرنسية ومسرحيتاه فويسيك وليونس ولينا، وقد نقلها جميعا كاتب السطور إلى العربية). (7)
أما عن ترجمة الكتاب، فلا بد من إزجاء الثناء الخالص على جهد المترجم الفاضل. فنقل كتاب عن جوته ليس بالمهمة الهينة؛ لأنه يفترض قدرا غير يسير من الإلمام بحياة هذا الشاعر الكبير، وإنتاجه الزاخر الفياض. ولا يقلل من هذا الجهد الطيب أن المترجم الفاضل لا يعرف الألمانية، فما أكثر الترجمات الأمينة لأعماله في اللغات الحية، وما أسعد حظه في هذه اللغات والآداب إذا قورن بحظه البائس في اللغات العربية!
وقد انعكس عدم إلمام المترجم بالألمانية على طريقة رسم الأسماء مثلا - كما يفعل إخوتنا في الشام لسبب لا أدريه - على إبدال الجيم التي ينطق بها الاسم في الأصل بالغين (كما في جوته نفسه ولسينج وهيجل وشيلنج وميرنج)، وأحيانا بالكاف (كما في كلاجيس الذي تحول إلى كلاكيس، وهو فيلسوف الحياة المعروف، أو في جوتزفون برليشنجن، بطل مسرحية جوته المبكرة المعروفة بهذا الاسم الذي تحول إلى كوتز ... وبقدر ما سعدت بسلامة ترجمة الأشعار وجودتها وإشراقها (وإن لم يمنعني هذا من مضاهاتها على الأصل، وإعادة النظر فيما اقتبسته منها).) فيؤسفني القول بأن الترجمة في مجموعها قد وقعت في خطأ التصور بأن الأمانة مرادفة للحرفية، حتى ولو أدى الأمر إلى الركاكة. أضف إلى هذا القصور في لغة المترجم أنه تعمد تركيب بعض الصيغ المصدرية غير المستساغة (مثل قوله إن مفيستوفليس ليس طيفا قروسطيا أو قروسطويا، ص118 و119. أو قوله ديالكتيك وحدي وجودي بدلا من أن يستخدم صيغة الإضافة، فيقول طيف من القرون الوسطى أو جدل وحدة الوجود) كما استخدم بعض الكلمات الأجنبية التي استقرت ترجمتها العربية، بحيث تغني عنها (مثل ديالكتيك بدلا من جدل، والبلاستيكية بدلا من النحت أو الطابع النحتي والفينومينولوجيا بدلا من الظاهريات والشظية بدلا من الشذرة). بجانب استخدامات أخرى غريبة كوصفه محاولة موسوعية بأنها متنطعة (ص108) والمنطق والاكتمال بأنهما تنطعيان (ص111)، ولعله يقصد أنها مفتعلة أو مصطنعة أو متعسفة. (8)
يتكرر في الترجمة مصطلح «العاصفة والتأزم» ترجمة للأصل الألماني،
Sturm und Drang
وترجمته الإنجليزية
Storm and Stress
والأصح هو العصف والدفع عنوان الحركة الأدبية التي ذكرناها في سياق هذا العرض. كذلك يترك المترجم المصطلح اللاتيني الذي يدل عند اسبينوزا على أسمى الانفعالات الأخلاقية وغايتها، وهو المحبة العقلية لله بدون ترجمة
Amor Dei Intellectualis (ص38)، كما يتحدث عن فلسفة هيجل عن خداع العقل وصحتها دهاء العقل (الذي يصور لعظماء التاريخ وأبطاله أنهم يحققون أهدافهم، بينما هم يحققون أهداف العقل أو الروح المطلق نفسه)، ويتكلم عن «ندوة» أفلاطون (ص168) وصحتها محاورة «المأدبة» لأفلاطون (السيمبوزيون أو المشرب) وهي المحاورة التي تدور حول الحب وتورد حديثه على لسان الكاهنة ديوتيما. وأخيرا فإن الترجمة تقتبس أول الأبيات الأربعة التي تختتم بها فاوست بأكملها على هذه الصورة: كل شيء عابر ليس إلا شكلا وصحتها ليس إلا مثلا، والأنثى الخالدة تسحبنا إلى أعلى وصحتها تجذبنا. (9)
وختاما كنت أتمنى لو أضاف المترجم الفاضل بعض الحواشي المهمة للتعريف بأعمال جوته التي لم تترجم بعد إلى العربية وتنبيه القارئ إلى ما ترجم منها للعربية. وما زلت كذلك أتمنى لو اتجهت «دار الطليعة» وغيرها من دور النشر العربية إلى نقل الأعمال الكبرى لعظام الأدباء وأمهات التراث العالمي وعيونه قبل التفكير في ترجمة بحوث نقدية عن نصوص لم يعرفها القارئ العربي وشعراء ومفكرين لم يلتق بنصوصهم نفسها بصورة كافية. وأحسب أن هذه هي المهمة الحقيقية الملقاة على عاتق دور النشر العربية الكبرى، حتى لا تزيد عن غير قصد منها في التشوش والخلط المسيطرين على حياتنا الثقافية وعلى ناشئة الكتاب والأدباء الذين التقطوا قطرات متناثرة من تراثنا وتراث العالم، فظنوا أنهم قد ارتووا من المنابع التي لم يهدهم أحد إلى طريقها ... (1986م)
حنين مبارك
قصيدة من الديوان الشرقي للشاعر الألماني الأكبر «جوته»
لا تقل هذا لغير الحكماء،
ربما يسخر منك الجهلاء،
وأنا أثني على الحي الذي
حن للموت بأحضان اللهيب. •••
في ليالي الحب والشوق الرطيب
يصبح الوالد والمولود أنت،
يحتوي قلبك إحساس غريب،
ومن الشمعة إطراق وصمت. •••
تترك السجن الذي عشت به
غارقا في عتمة الليل الكئيب،
ينشر الشوق جناحيه إلي،
وحدة أعلى وإنجاب عجيب،
سوف تعروك من السحر ارتعاشة،
ثم لا تجفل من بعد الطريق،
وستأتي مثلما رفت فراشة،
تعشق النور، فتهوي في الحريق. •••
وإذا لم تصغ للصوت القديم
داعيا إياك: مت كيما تكون،
فستبقى دائما ضيفا يهيم
في ظلام الأرض كالطيف الحزين.
هي إحدى قصائد «الديوان الشرقي» لشاعر الألمان الأكبر «يوهان فولفجانج جوته»، ومن الصعب الحديث عن هذه القصيدة التي تعد درة فريدة في عقد الأشعار التي يضمها الديوان الشرقي. ومن أصعب الأمور أيضا أن تتحدث في هذا المجال عن جوته نفسه، أو عن ديوانه الشرقي الذي يعتبر - بعد قصيدته الدرامية الكبرى فاوست - أعذب ما كتب من الشعر وأكثره نضجا وحكمة ودعابة وصفاء.
فلنقل باختصار شديد إن جوته هو أعظم شعراء الألمان، وإن اسمه يطلق على عصر أدبي بأكمله هو عصر جوته، وإنه أثر بأدبه وفكره وحياته وبحوثه العلمية وثقافته العالمية الشاملة على نهضة الأدب الحديث في بلاده، وعلى العقل الأوروبي بوجه عام، حتى لقد أصبح ظاهرة إنسانية فريدة ونموذجا لكل حياة جادة ومتجددة بالحكمة والحب والتطلع وتحقيق الخلود في كل لحظة من لحظاتها الممتلئة بالعمل والتجربة والبهجة. تطور شعره المتميز بالتعبير عن تجاربه الحميمة المباشرة من القصائد الذكية الأنيقة والمسرحيات الرعوية القصيرة التي كتبها في سنوات الطلب في مدينة «ليبزيج» إلى التعبير العاطفي الذي يتسم بتأكيد العبقرية الفردية المتطرفة فيما يسمى بمرحلة «العصف والدفع»، التي أبدع فيها شعرا عميق الحساسية، حر الإيقاع، وكتب فيها مسرحياته المبكرة وروايته المشهورة «آلام فيرتر». وانتقل إلى المرحلة الكلاسيكية التي تزعم حركتها الداعية إلى محاكاة النماذج الإغريقية الراسخة محاكاة خلاقة، والتمسك بالشكل المتزن والتعبير المنسجم الذي يتجاوز الوجدان الشخصي أو الفردي، في لغة دقيقة، متوازنة، نقية وصحية، إن جاز هذا الوصف للروح الكلاسيكية في مقابل الروح الرومانتيكية التي وصفها بالمرض، وأبدع في هذه المرحلة عددا من المسرحيات «النفسية»، والملاحم الشعبية التي تدور كلها حول العلاقة بين الفرد والمجتمع، وتقدم صورا مثالية تخلد شخصيات إنسانية. رفيعة مثل مسرحيته عن «توركواتو تاسو» و«إفيجينيه » وملحمته الشعرية «هيرمان ودوروثيا»، وروايته «فيلهلم مايستر في سنوات التعلم».
ثم انتقل الشاعر إلى مرحلة الكهولة والشيخوخة، فنفذت عناصر رومانتيكية إلى مؤلفاته المتأخرة التي غلبت عليها الحكمة والفكر واللغة البطيئة الساكنة، وتحولت عن تمجيد التربية الذاتية والعلاء بالفردية المتجانسة المتكاملة إلى الدعوة للعمل والتأثير النافع على حياة الجماعة، كما فعل في الجزء الثاني من روايته «فيلهلم مايستر، سنوات التجوال»، والقسم الثاني من قصيدته الدرامية «فاوست» الذي أتمه قبل موته بعام واحد، وروايته «الأنساب المختارة»، بجانب كتاباته المستفيضة التي سجل فيها ذكريات حياته، مثل «شعر وحقيقة» وأشعاره التي وصفها بأنها «شذرات من اعتراف كبير»، ودراساته العلمية المتنوعة في النبات والحيوان والتشريح والمعادن والألوان والبصريات، وقد حاول فيها جميعا أن يصل بطريقته الشاعرية المتأملة إلى القوانين العضوية التي تحكم التطور والتشكل الأبدي الحي. هذا فضلا عن عدد لا يحصى من الأحاديث والرسائل والمقالات والمراجعات والحكم والتأملات والقصص والمسرحيات التي لا يتسع المجال لذكرها.
أما الديوان الشرقي،
1
الذي كان ثمرة لقاء الشاعر بعالم الشرق والإسلام، وهجرته الروحية إلى منابع الطهر والنقاء والوحي والغناء، وتأثره ببعض ما عرفه من آيات القرآن الكريم، وسيرة الرسول الكريم، ومن شعراء المعلقات وشعراء الفرس، وخصوصا حافظ الشيرازي الذي اعتبره «توأم روحه»، وراح يناجيه ويحاوره في قصائد ديوانه، فيكفي أن نقول إن إقباله على كتابة هذه القصائد كان محاولة منه لتجديد شبابه وإبداعه، والتعبير عن تجربة حب مر بها في شيخوخته، ثم خاب أمله فيها أو في نفسه، فتجاوزها إلى تجربة الحب الإلهي. وقد تمخض هذا اللقاء بروح الشرق والإسلام وشعراء العرب والفرس بوجه خاص عن هذا الديوان الذي يتألف من اثني عشر كتابا تضم عددا من القصائد يبلغ ثلاثمائة وخمسا وثلاثين قصيدة تسري فيها العذوبة والدعابة واللعب بالأقنعة مع الحب والإيمان الديني والكوني العميق. ومن هذه القصائد اخترت لك هذه القصيدة من كتاب «المغني» أول كتب الديوان. •••
تبدأ الأبيات الأولى من القصيدة بما يشبه التحذير للقارئ أو المستمع الذي ينصت لغناء الشاعر:
لا تقل هذا لغير الحكماء،
ربما يسخر منك الجهلاء.
فالشاعر يوشك أن يكشف له عن سر لا يريد أن ينكشف، وينوي أن يفضي إليه بتجربة حميمة يضن بها على الجهلاء والدهماء. وليست هذه هي أول مرة يحاول فيها الشاعر أن يبوح بلواعج قلبه، وأن يكتمها في وقت واحد. فكذلك كان شأنه في معظم شعره النابع من تجربة باطنة يعبر عنها تعبيرا يسترها ويخفيها. ويكفي أن نستمع إلى هذين البيتين من كتاب الحكمة، وهو الكتاب السادس من كتب الديوان الشرقي:
إن كنت تحاذر أن ينهبك الناهب ويشينك،
فاكتم ذهبك وذهابك، واكتم دينك.
أو نستمع إلى هذه الأبيات التي وردت في القسم الأول من «فاوست»، حيث يقول هذا في حواره مع تلميذه «فاجنر»، الذي يؤكد أن كل الناس تود أن تعرف العالم، وتعرف قلب الإنسان وروحه: «فاوست: نعم ما يسميه الناس معرفة
ومن ذا الذي يحق له أن يسمى الطفل باسمه؟
إن القلة التي عرفت شيئا عنه، وبلغ بها الحمق ألا تصون قلوبها التي امتلأت به، فراحت تكشف للعامة عن عواطفها ورؤاها قد جوزيت من قديم الزمان بالصلب والإحراق.
أرجوك يا صديقي، لقد توغل الليل، ولا بد أن نقطع الحديث ...»
غير أن «المغني» في قصيدتنا السابقة لا يقطع الحديث، بل يواصل الكشف عن سر لا يحب مع ذلك أن ينكشف لغير الحكماء. ومهما عذبه هذا السر، وأوشك أن يخرس لسانه، فهو المغني الذي لا بد أن ينشد، وهو الشاعر الذي لا يملك إلا أن يعبر عن سره المكنون.
لكن ما هو هذا السر؟
وإذا كان هو الحب الذي يسري عبيره في كل قصائد الديوان، فأي نوع من الحب هو؟ أهو الحب الإلهي الذي يرتفع بالإنسان إلى أعتاب الألوهية؟ أم هو العشق البشري الذي يشده إلى مباهج الحس ولذات الجسد؟ أم هو في النهاية حب يتشابك فيه الحنين الورع المبارك إلى الألوهية والشوق الملتهب الجارف للمحبوب البشري؟
يصعب الجواب على هذه الأسئلة. فالقصيدة من أصعب قصائد «جوته»، بل لعلها أن تكون في رأي نقاده (مثل بورداخ) أصعب شعره على الإطلاق. إن أبياتها الأولى تدل كما سبق القول على أن الشاعر يريد أن يطلعنا على سر يضن به على الجهلاء، ولا نكاد نمضي في قراءة الأبيات التالية، حتى نحس أنه سر صوفي نلمس فيه روح التصوف الشرقي:
وأنا أثني على الحي الذي
حن للموت بأحضان اللهيب.
هذا الحي الذي يحن للموت في أحضان اللهيب، من عساه يكون غير الفراشة التي تجذبها النار، فتحترق فيها؟ ومن عساها تكون هذه الفراشة إن لم تكن هي النفس التي تحترق بالحب، ولا بد أن تحترق إذا كان حبها عميقا وصادقا؟
لقد أخذ «جوته» هذه الصورة المعروفة عن التصوف الشرقي. فالحب من ناحية هو اللهب الذي يحرق شمعة وجودنا الأرضي والجسدي ويصهرها ويطهرها. والنفس أو الروح من ناحية أخرى هي التي تندفع إلى هذا الحريق وتفنى فيه. والقصيدة تعبر عن جانبي الصورة، وإن كان تعبيرها عن الجانب الأخير أقوى وأوضح. وليس يكفي أن نقول إنه استوحاها من التصوف الشرقي؛ إذ أثبت الباحثون أنه استقاها من إحدى قصائد ديوان حافظ الشيرازي التي قرأها في ترجمة المستشرق النمسوي «فون هامر - بورجشتال». يؤكد هذا أن «جوته» نفسه قد دون بخط يده هذه الكلمات فوق أبيات قصيدته «كتاب الصاد، الغزلية الأولى» مشيرا بذلك إلى إحدى قصائد الشاعر الفارسي التي وردت في ديوانه في كتاب الصاد. كما يؤكده أيضا أنه كتب لها بخط يده هذا العنوان الذي لا يخلو من دلالة دينية عميقة: «تضحية الذات، اكتمال»، وذلك على أثر انتهائه من تدوينها في اليوم الأخير من شهر يوليو سنة 1814م، وكأنما كان يريد معارضة قصيدة حافظ توأم روحه الشرقي، أو يثبت على الأقل تأثره البالغ بها.
بيد أن الفكرة التي تعبر عنها صورة الفراشة التي تحن للاحتراق في اللهب ليست صورة شرقية فحسب، ولا ترجع للشاعر الفارسي وحده. فهي صورة غربية أيضا، تعبر بالقدر نفسه عن شاعر غربي يؤكد ارتباطه العميق بتوأم روحه الشرقي. والأهم من هذا كله أنها تعبر عن جوهر الحب الحقيقي الذي يعلو بالإنسان فوق ذاته. فنحن لا نحب إلا من يرتفع فوقنا، ويسمو وجوده على وجودنا، ولهذا نضحي بأنفسنا في الحب، ونسعى إلى الفناء في المحبوب. وسواء أكان هذا الحب تعبيرا عن شوقنا للاتحاد بمن نحب، أو بالأحرى للعودة للاتحاد بالنصف الآخر من نفسنا الذي انفصل عنا بعد أن كان في الأصل وقبل المولد متحدا بنا، كما قال أفلاطون قديما، أو كان الحب كما يقول فيلسوف حديث مثل اسبينوزا في كتابه الأخلاق هو الفرح الذي ينفعل به المحب نحو علة خارجية هي المحبوب، بحيث يزيد هذا الفرح من فاعليته ونشاطه وقوة استمراره في الوجود، فهو في كل الأحوال ارتفاع فوق الذات وفناء في ذات المحبوب، وتضحية بالنفس، وتخل عنها من أجل الاتحاد بمن نحب. والعجيب في أمر الحب أننا نقوم بهذه التضحية عن رضا وطيب خاطر، بل نشعر معها بالفرح واللذة التي يصعب التعبير عنها. وربما كان السبب في هذا أن الحب الصادق مثالي بطبيعته، وأنه أبعد ما يكون عن الرغبة في الاستمرار في الوجود وغريزة المحافظة على الحياة التي تميز كل الكائنات. ولهذا كان الحب الحقيقي ارتفاعا فوق النفس، ونحو المحبوب الذي يسمو علينا، وكانت أسمى صوره هي الارتفاع نحو أسمى الموجودات ومحاولة الاتحاد به. من هنا نشعر بأن «الموت بأحضان اللهيب» الذي يذكره البيت الرابع من المقطوعة الأولى للقصيدة هو في الحقيقة موت روحي، وهو اتحاد باطني بالموجود الأسمى الذي نشتاق إلى الاتحاد به، ونحس معه، أو تجاهه أن وجودنا الأرضي والجسد وجود زائل.
ولهذا كان الاحتراق في هذا اللهيب مختلفا كل الاختلاف عن نوع آخر من الاحتراق يدمر عشاق الجسد الذي يتلظون بنيران الشهوات والأهواء، ويسقطون في أتون الحس ليفنوا فيه. ففراشة الروح تحن إلى اللهيب أو النور الأعلى وتفنى فيه، ولكنه فناء آخر ينطوي على ميلادها، ويؤدي إلى بعثها من جديد. ومن هنا نفهم الأبيات الأخيرة كما نفهم العنوان الذي وضعه «جوته» للقصيدة كلها وهو «الحنين المبارك». والمعنى الديني العميق في هذه الكلمة الأخيرة غير خاف، فهو يدل على الحنين الفطري الكامن في كل كائن روحي إلى كيان أسمى منه. وهو حنين يصعد به على درجات الحب، ويمر به على درجة الحب الأرضي أو البشري بين الرجل والمرأة، ولكنه يمر بها ولا يتوقف عندها؛ إذ يواصل ارتفاعه إلى أسمى ذروة يستشعر عندها حضور الألوهية.
ونمضي في قراءة القصيدة، فنحس إحساسا غامضا بأن الشاعر لا يستهين بمستوى الحب البشري الذي ذكرناه الآن، ولا يقلل أبدا من شأنه. بل لعله يريد أن يمثل به للحب الإلهي الأسمى، ويجعله طريقا إليه، ومعبرا ضروريا للوصول إلى قمته واستكناه سره:
في ليالي الحب والشوق الرطيب
يصبح الوالد والمولود أنت،
يحتوي قلبك إحساس غريب،
ومن الشمعة إطراق وصمت. •••
تترك السجن الذي عشت به
غارقا في عتمة الليل الكئيب،
ينشر الشوق جناحيه إلى
وحدة أعلى وإنجاب عجيب.
ولا نكاد نسمع هذه الأبيات، حتى نحس شيئا من الارتباك، ونشعر كأن القصيدة قد تخلت عن الفكرة الأصلية البسيطة التي أشرنا إليها، بل ربما شعرنا بأنها قد تخلت عنا وخيبت آمالنا.
ماذا يريد الشاعر بهاتين المقطوعتين الأخيرتين؟ وكيف نفهم صفة الرطيب - أو الترطيب في ترجمتها الدقيقة - في ليالي الحب والشوق؟ ألا يتوقع أن نسمع منه كلمة أخرى أنسب لليالي الحب والشوق والعشق مثل كلمة التوهج أو الاشتعال؟ ولكننا نخطئ معنى القصيدة وهدفها لو اتجه تفكيرنا في هذا الاتجاه. فالشاعر والقصيدة قد تركا التوهج الجسدي والاشتعال وراءهما، وثبتا بصرهما على «الترطيب» أو البرودة والانطفاء الذي لا بد أن يعقب كل حب متوهج مشتعل. والمعنى العميق الذي توحي به القصيدة العميقة هو أن الحب لا يقف عند التوهج الحسي، وأن التوهج الحسي لا يبلغ أعماق الحب الحقيقي. وكلما سما الحب وارتفع ازدادت خيبة أمل المحب في كل ما يمت للأرض بسبب، وازداد كذلك إحساسه باليأس من تطرف الجسد واشتعاله بالشهوات والنزوات.
فكأن الشاعر يقصد بالترطيب شيئا قريبا من البرودة والجمود والخجل، شيئا أشبه بالإحساس بالغربة أو الاغتراب عند المقارنة بين الحب الجسدي والحب الإلهي، بين الحب الأرضي والحب السماوي. ومع ذلك فإن الشاعر الذي أحس بعجز الحب البشري قد اعترف بالحدود البشرية التي لا مفر من المرور بها قبل تجاوزها إلى مستوى أعلى وصورة أسمى من صور الحب والوجود. لقد سبق له في قصيدة مشهورة من قصائده التي كتبها في سنوات شبابه ورجولته - وهي قصيدة «حدود البشرية» - أن نصح الإنسان بالتزام هذه الحدود، حتى لا يتأرجح في الفراغ، وينجذب إلى الموجات التي تشد أجيال البشر وتبتلعهم:
لأنه لا يحق لإنسان
أن يقيس نفسه بالآلهة،
إنه إذا ارتفع بنفسه
ولمس النجوم بهامته،
لا يثبت كعباه المرتعشان
في أي مكان،
بل تعبث به
السحب والرياح.
لكن الشاعر الآن شيخ حكيم تجاوز الستين من عمره، ومهما عبثت به سحب الحب ورياحه، وحاولت أن تجدد شجرة عمره التي أوشكت على الذبول، فهو لا ينصح الإنسان بالاستقرار فوق الأرض الصلبة، وإنما يغريه بالعلو عليها والصعود إلى أعتاب الألوهية. وها هو الإحساس الغريب يستولي على الإنسان بعد أن يخمد بركان الحب وتبرد حمى الشهوة، ويلتفت إلى شمعة جسده، فيجدها مطرقة صامتة، ويتملكه إحساس آخر بضرورة التحليق إلى درجة أرقى من درجات الحب والحياة والخروج من سجن الظلام الأرضي الذي لفه في عتمة ليل كئيب، وترفرف فراشة الروح لتغادر سجن الأرض والجسد والمادة، ولكن إلى أين؟
ينشر الشوق جناحيه إلى
وحدة أعلى وإنجاب عجيب.
إلى حب من نوع آخر، إلى «إنجاب» يختلف عن ذلك الذي استغرق كيانه الجسدي في حياته على الأرض، إلى اتحاد أسمى بالمحبوب الأسمى وهو الله. في هذا الاتحاد الذي طالما وصف لنا متصوفو الشرق وشعراؤه مختلف درجاته ومقاماته وأحواله تحترق فراشة الروح في اللهب الأكرم والأصفى، تتعذب وتتطهر وتفنى، وفي هذا الفناء تلمس حقيقتها، وتجد ذاتها وتولد ولادة جديدة. هذا الحنين المبارك - بالمعنى الديني المألوف في لغة «جوته» ولغة عصره - ليس مجرد حنين فطرت عليه نفس الإنسان، وإنما هو في الحقيقة واجب يطالب به إذا شاء أن يكون إنسانا بحق. وإذا أهمل تحقيق هذا الواجب أو تقاعس عن الوفاء بهذا المطلب، فلن يعدو أن يكون ضيفا نكدا يحيا حياة الأطياف العابرة على الأرض الملتفة في الظلام. وإذا لم يشعر بهذا الحنين المبارك إلى «الموت في اللهب»، فلن يستطيع الارتفاع فوق الأرض وأحزانها العكرة إلى دائرة الأبدية. ولهذا يدعوه الشاعر في المقطع الأخير هذه الدعوة القديمة المخيفة في آن واحد: «مت وكن»، فهل يريد منه أن يميت جسده بالزهد والتقشف، كما أراد له سقراط وكل المتصوفة في الشرق والغرب؟ هل يكون الموت الجسدي هو الشرط الذي لا غنى عنه؛ لكي تتحرر فراشة الروح، وتنطلق للاحتراق في لهب الحب الحقيقي، لهب الحب الإلهي؟ إن القصيدة لا تصرح بهذا، بل تتركه للقارئ أو السامع ليستوحي ما يشاء من سحر معانيه وأسراره:
وإذا لم تصغ للصوت القديم
داعيا إياك: مت كيما تكون،
فستبقى دائما ضيفا يهيم
في ظلام الأرض كالطيف الحزين.
ومن الصعب أن نفهم معنى واحدا من هذا الأمر الرهيب : مت وكن. فالموت هنا لا يمكن أن يكون هو موت الجسد أو إماتته بالزهد والتقشف والحرمان؛ لأن شاعرنا ليس واعظا ولا ناسكا متصوفا، مهما كان من تغلغل الروح الصوفية أو الدينية في شعره المتأخر. لقد ظل حتى النهاية عاشق الحياة الذي يؤكدها ويحترمها، حتى وهو يأمر الإنسان بأن يموت ليحياها. إنه يبارك الحياة التي تقوى على السمو فوق حدودها الأرضية، وتملك شجاعة الموت المتجدد والتحول المستمر في كل لحظة من لحظاتها؛ لكي ترتفع إلى حياة أبدية أعلى. والدعوة إلى الموت هي نفسها الدعوة إلى «الموت في اللهيب»، أي إلى الاحتراق بنار الحب الأبدي والتطهر بنوره. ولهذا فإن «مت وكن» تعني من ناحية: تحول أيها الإنسان، وجدد حياتك وشبابك في أشكال لا تنتهي - وقد فعل جوته ذلك بنفسه عندما جدد شيخوخته بالحب، وانتقل إلى عالم الشرق والإسلام، وتقمص روحه وتنسم عبيره - كما تعني من ناحية أخرى أهم منها أن يجدد الإنسان حياته الأرضية والجسدية المحدودة بالإيمان بحياة إلهية يسمو إليها، ويحن حنين الفراشة إلى الفناء في نورها. وعلى الإنسان أن يحاول هذه المحاولة الدائبة في حياته الأرضية، وأن يحقق الأبدية في كل لحظة يعيشها على الأرض الحزينة المظلمة.
عندئذ يتحقق ما تقوله الأبيات الأخيرة من قصيدة «العالي والأعلى» من كتاب الخلد أو كتاب الفردوس، وهو آخر كتب الديوان الشرقي:
حتى نسبح ونرف ونمحى
في رؤيا الحب الأبدي الأسمى.
وعندئذ يطمح الإنسان للخلود، ويأمل الشاعر كما تأمل كلماته أن تطرق بأناملها الرقيقة أبواب الفردوس، وتحظى مثله بنعيم الخالدين المخلدين:
اعلموا أن كلمات الشاعر (المسكين)
ترف حول أبواب الفردوس،
تطرقها دائما بصوت مهموس،
وهي تتوسل حياة الخالدين ... (1983م)
أمضي كل الأيام
أمضي الأيام على درب غير الدرب،
حينا للشجر الأخضر في الغابة،
حينا آخر للنبع،
للصخرة حيث الأزهار مفتحة الأكمام،
انظر من فوق التل إلى السهل،
لكن لا أجدك أبدا يا حبي،
في أي مكان لا أجدك أبدا في النور،
تتطاير مني الكلمات وتذروها الأنسام،
كلماتي الطيبة وكانت في ماضي الأيام ...
حقا كم أنت بعيد، ناء يا وجه النعمة.
يخبو نغم حياتك،
وأنا لا أملك أن أنصت ...
يا أيتها الألحان الساحرة الصوت،
يا من أفرغت على قلبي الراحة من نبع الخلد،
ومن كف الأرباب العلويين،
طال العهد وغاب. شب الولد وشاب.
حتى الأرض - وقد كانت تتبسم لي -
عابسة الوجه.
الآن أقول وداعا، عيشي في خير.
روحي كل نهار ترحل عنك تعود إليك،
عيني تبكيك، تريق الدمع،
تتمنى يوما أن تصفو كي ترنو لك
فتراك هناك وتهنأ بك ...
الأغنية التي قرأناها أغنية لم تتم، فقد اختنقت في صدر الشاعر مع غصة الفراق. إنه يتلفت بقلبه وعينيه إلى حيث تقيم المحبوبة، ولكنه لا يستطيع أن يخدع قلبه ولا يعنيه عن بعد الشاطئ واستحالة اللقاء. ومع ذلك فهو لا يزال يناجيها ويتعلق بها كما يتعلق الغريق بطوق النجاة. كيف يصدق أن حبيبته «ديوتيما» التي جسدت حلم حياته بالجمال الإغريقي وعالم الآلهة المباركين، بل أوشكت أن تتمثل أمامه واحدة من تلك القوى العلوية التي طالما حن إليها، وناشدها العودة إلى الأرض المعذبة والبشر الفانين، كيف يصدق أنه حرم منها إلى الأبد، وأنه سيهيم بعدها كما تهيم الظلال :
أنت يا من أشرت لي قديما، وأنا على مفترق الطرق،
يا من علمتني بصمتك، وأوحيت لي في هدوء
أن أرى العظمة وأغني للآلهة الصامتة،
أنت يا ابنة الآلهة ...
هل تتجلين لي وتحيينني كما كنت تفعلين،
وهل تلهمينني الحياة والسلام من جديد؟
هل ستفعل «ديوتيما» ذلك حقا، فتدب فيه الحياة، ويحلق جناحاه، ويهتف بفرحته لعودة الربيع واخضرار الأرض، أم تتركه في يأسه وحيرته، يحاصره شتاء الاكتئاب، وتطبق عليه جدرانه المظلمة الخرساء، في سجن الجنون الذي سيبقى فيه طوال الأربعين سنة الأخيرة من عمره؟ ولكن من هي هذه المحبوبة التي أطلق عليها الشاعر اسم الكاهنة الإغريقية القديمة «ديوتيما» التي أجرى أفلاطون الحكمة على لسانها في محاورة «المأدبة»، وجعلها تعلم سقراط ما لم يكن يعلم من أسرار الحب الفلسفي؟ ومن هو هذا الشاعر الذي ساقه القدر إلى طريقها كما ينساق المتجول في النوم، واندفع إليها حين تصور أن الرؤيا تتحقق والنبوءة والحلم؟ إنه فريدريش هلدرلين (1770-1843م) الذي وهب الشعر كل شيء، فأعطاه بعض أسراره الغامضة. شاعر الغربة الذي عاش غريبا في عصره وبين أهله وعلى الأرض التي اغترب عنها الآلهة الخالدون، فراح يتغنى بهم، ويحتفل بموكبهم المنتظر، ويناشدهم العودة للبشر المعذبين، وينشدهم ما ألهموه من أشعار مثقلة بالرموز والتنبؤات والإشارات، فاجتمع في شخصه ما اصطلح القدماء على فهمه من كلمة الشاعر؛ فهو الذي باركته الآلهة بوحيها، فأصبح العراف الناطق بلسانها، والوسيط بينها وبين الفانين من أبناء الإنسان، وهو الساحر والمتنبئ بالمستقبل والمنشد بصوت الشعب وآلامه، ولهذا لا نعجب أن سماه البعض شاعر الشعر أو شاعر الشعراء. •••
ولد هلدرلين في العشرين من شهر مارس سنة 1770م في بلدة «لاوفن» على نهر «النيكر» في منطقة «أشفابن» المعروفة بغاباتها وجبالها الغامضة التي غرست في سكانها حب الوطن والحنين الدائم إليه مثل حنينهم الصوفي إلى عالم مثالي موغل في البعد والخفاء والطموح.
مات أبوه وهو طفل صغير، وتردد على مدارس الأديرة قبل أن يدخل المعهد الديني في مدينة «توبنجن» تحقيقا لرغبة أمه الطيبة المسكينة. واحتمل مرارة الحياة الخشنة الصارمة بين جدران هذه الزنزانة اللاهوتية التي تعرف فيها على صديقي صباه وفيلسوفي المثالية الألمانية الكبيرين هيجل وشيلنج. ولم تلبث الصداقة والمحبة أن جمعت بين الثلاثة، كما جمع بينهم الطموح إلى عالم مثالي تتحقق فيه الحرية، ويتم الخلاص من الظلم والركود والاستبداد الجاثم على صدر شعبهم. واشترك الأصدقاء في قراءة أفلاطون وروسو وكانط وشيلر واسبينوزا الذي عبرت الكلمة اليونانية القديمة «الواحد والكل» عن مذهبه في وحدة الوجود، وأثرت بعد ذلك على حياة هلدرلين، وظلت هي شعاره الناطق بحضور الإله في كل ما يتجلى لعينيه. وكان من الطبيعي أن يتأثر الشاعر مع شباب جيله بالثورة الفرنسية التي تأججت نيرانها فجأة، فبدت كأنها فجر الخلاص والأمل في الحرية والتقدم والكرامة، وأن يتأثر كذلك بحركة بعث الروح الإغريقية ومحاكاة روائعها محاكاة خلاقة. لقد كان مؤرخ الفن القديم «فنكلمان» هو باعث هذه الروح التي تمثلت فيها «البساطة» النبيلة والعظمة الساكنة. ثم ازدهر الأدب والفلسفة الألمانية على يد «ليسنج» و«هيردر» و«كانط» و«جوته» و«شيلر»، فأمدتها بدماء جديدة، وأكدت مثلها الأعلى الذي تراءى لعيون هذا الجيل، وهو الإنسان الحر الجميل، المتحد بالطبيعة والآلهة والأبطال الأسطوريين في وحدة حية متجانسة لم تجرب التمزق والتصدع الذي كانوا يعانونه. وقد كان هلدرلين أكثر أبناء جيله انفعالا بهذا العالم المقدس الرائع، وكان أشدهم حنينا إليه في كل أناشيده وأغانيه ... تغلغلت هذه الرؤية الدينية والكونية في أعماقه يوما بعد يوم، وراح يغوص في متاهتها، ويستغرق في أسرارها مع كل تجربة جديدة تؤكد عجزه، وإخفاقه في الحب والحياة. ومع كل يوم يزداد بعدا عن الوعي وعن الناس، ومع كل عذاب تزداد لغته كثافة وغموضا، وتصبح كلمته الشعرية كإشارات الوحي المثقلة بالرهبة والجلال والجمال، وتشتد قسوة قدره المعذب الوحيد، فينحني له راضيا مطمئنا، وتستجيب له نفسه الوديعة في خشوع وانكسار: «أيتها الروح! أيتها الروح! أنت يا جمال العالم! يا من لا تتحطمين! أيتها الساحرة الفاتنة بشبابك الأبدي! أنت حية باقية، وما الموت وكل عذاب البشر إذا قورن بك؟ آه ! كثيرة هي الكلمات الجوفاء التي صنعها هؤلاء المدهشون. ومع ذلك فكل شيء يصدر عن الفرح، وينتهي إلى السلام. وما مظاهر الشذوذ في العالم إلا كالخلاف بين الأحباب. إن الصلح قائم في قلب التنازع والشقاق، وكل ما تفرق سيلتقي من جديد. والشرايين تتشعب، ثم تعود فتصب في القلب، وتظل الحياة الواحدة الخالدة المتوهجة هي الكل.»
تخرج هلدرلين في المعهد الديني سنة 1793م، وقرر أن ينفض عنه أغلال اللاهوت والوظائف الكنسية ليتفرغ لموهبته الشعرية. واضطره ذلك أن يعيش عشر سنوات مليئة بالحرمان والسعي الخائب من بيت لبيت في سبيل لقمة العيش. كانت مهنة التعليم وإعطاء الدروس الخصوصية لأبناء الأسر الثرية هي الباب الوحيد الذي يمكن أن يطرقه المثقفون والأدباء الذين بخل عليهم الحظ، فلم يرعهم ملك ولا أمير. وكان عليهم في كثير من الأحيان أن يتحملوا المهانة والهوان، ويعاملوا معاملة الخدم والأتباع. وتوسط له الشاعر «شيلر » للعمل في أحد هذه البيوت المرموقة التي كانت على صلة بالحياة الأدبية، ولكنه أخفق في مهمته التربوية، وتأكد له إخفاقه في الحياة العملية عندما حاول بعد ذلك أن يستقر في مدينة «يينا» - كعبة المثالية في ذلك الحين - ويعمل بتدريس الفلسفة في جامعتها. وتبين له عجزه عندما سعى للاتصال بفشته - رائد المثالية وباعث القومية - والتقرب من «جوته» أمير الشعر وعملاق الأدب، فتجاهله الفيلسوف، وأعرض عنه الشاعر، ولم يستطع أن يقدر موهبته التي اتهمها بالغموض والاضطراب. ولم يبق له غير مواطنه شيلر الذي كان مثله الإنساني والشعري الأعلى. وقد أشفق عليه الشاعر في البداية ورعاه، ونشر له الصيغة الأولى من روايته «هيبريون» في مجلة «ثاليا» التي كان يصدرها، ولكنه لم يلبث أن ضاق به وانصرف عنه. وكانت هذه التجربة من أمر التجارب التي ذاقها في حياته. وعاد يجرب حظ المعلم الخصوصي البائس، فالتحق سنة 1796م ببيت رجل من رجال المال والأعمال والبنوك يدعى جونتار في مدينة فرانكفورت. هنالك لقي من المهانة ما لا تحتمل نفسه الحية الوديعة، وصبر ثلاث سنوات على النزيف المستمر من جرح الكبرياء، ولكن القدر عوضه عن ذلك بالنعمة الوحيدة التي عرفها في حياته الوحيدة. أحب ربة البيت «سوزيته جونتار»، وبادلته السيدة الرقيقة حبه اليائس، ومدت يدها الحنون إلى روحه الغريقة في ظلمات الاكتئاب. وجد فيها مثال الإنسانية الجميلة الطاهرة التي قربته من الروح الإلهي الخالد، بل جعلته يشعر بأنه تجسد حيا فيها. إن الروح الإلهي لا يؤمن به إلا من كان هو نفسه إلهيا.
وهو لا يتمثل له فحسب في الطبيعة الحية، والسماء والأثير، والأرض والنهر، بل يحيا كذلك في «ديوتيما» التي يعيش الآن بقربها ويعبدها ويقدسها. كانت «سوزيته» هي مثال الجمال والانسجام والحكمة الذي طالما داعب أحلامه ورؤاه، وكانت هي الروح الإغريقية نفسها التي اشتاق إليها، وانتظر ميلادها وتعزى بها عن محنة وجوده وسط الظلم والتجاهل والفساد والطغيان، ولكنه اضطر أن يغادر البيت الذي تحققت فيه الرؤيا، غادره مهانا مدحورا، وافترق عن المحبوبة التي لم تجد حيلة في الفراق، فحبست حبها في صدر عشش فيه السل، وافترس حياتها بعد ذلك بسنوات قليلة. ها هو ذا يناجيها بعد رحيله عنها في قصيدة عنوانها «ديوتيما»:
تسكتين وتصبرين، وهم لا يفهمونك،
يا أيتها الحياة الغالية
تذبلين في صمت؛ لأنك واحسرتاه
تبحثين عبثا بين البرابرة
عن أهلك في نور الشمس،
عن تلك الأرواح النبيلة الحنون،
التي ما عاد لها وجود.
غير أن الزمن يسرع الخطى،
ولا زالت أغنيتي الفانية ترى اليوم
الذي تسميك فيه، يا ديوتيما،
بعد الآلهة ومع الأبطال.
لكن ديوتيما قد غابت عنه إلى غير رجعة، وصار الفراق عنها هو مأساة وجوده كله:
آه! أين أنت الآن يا حبيبة؟
أخذوا مني عيني، وقلبي فقدته بفقدها؛
لهذا أهيم هنا وهناك،
مقضيا علي بأن أعيش كما تعيش الظلال،
وكل شيء يبدو بلا معنى.
بدأ الشاعر طريق العذاب. لم يعزه قليلا عن فراقه عن حبيبته إلا قدرته على الحب والأمل والعرفان، أي قدرته على قول الشعر. ففي هذه الفترة التي امتدت من سنة 1798م، حتى حوالي سنة 1804م، ولم تكد تزيد على الخمس سنوات كتب عددا كبيرا من أناشيده الغنائية الكبرى، وأتم روايته الوحيدة «هيبريون»، وترجم مسرحيتي سوفوكليس «أوديب ملكا» و«أنتيجونا»، وعددا من قصائد بندار الأوليمبية ترجمة شاعرية رائعة. كما عكف على مسرحيته الشعرية «موت أنبادوقليس». والواقع أنها ليست مسرحية تصلح للتمثيل، بل هي قصيدة درامية عن ذلك الفيلسوف الطبيعي والكاهن والساحر والطبيب والمصلح الثائر الذي ولد في مدينة أجريجنت عاصمة صقلية حوالي سنة 490 قبل الميلاد، ثم طرده أهلها بعد أن أوشكوا أن يؤلهوه ويتوجوه على عرش مدينتهم، ونسجوا عن موته تلك الحكاية العجيبة التي ألهمت العديد من الشعراء. فقد رووا عنه أنه ألقى بنفسه في فوهة بركان «أتنا» وترك حذاءه بجانبها ليدل على موته أو انتحاره الأعجب، هل استجاب الفيلسوف لنداء الأرض الأم فاتحد بالطبيعة الإلهية، أم لجأ إلى حيلة ماكرة أراد منها تخليد اسمه وذكره؟
لقد كتب عنه هلدرلين إحدى قصائده قبل أن يكتب المسرحية. وهو يمجده فيها ويتمنى لو يتبعه إلى أعماق الأرض لولا أن قوة الحب تمنعه:
أنت تبحث عن الحياة، تبحث عنها فتنبثق وتلمع
نار إلهية من أعماق الأرض،
وأنت بالشوق الواجف
تلقي بنفسك في لهيب «أتنا»،
لكنك مع هذا مقدس عندي،
مثل قوة الأرض التي اختطفتك
أنت أيها المقتول الجسور!
ولكم تمنيت أن أتبع البطل إلى الأعماق،
لولا أن الحب يمنعني ...
لكن الحب ومعه الرؤيا والتجربة الكبرى قد انهار، والانتحار البطيء باسم الاكتئاب يفترسه ليل نهار. وبعد أن كان هبوط الفيلسوف القديم في فوهة البركان تكفيرا عن ذنبه عندما وضع نفسه في مصاف الآلهة، أصبح في الصياغة المتأخرة للمسرحية تعبيرا عن شوق صوفي إلى رحم الأرض، وحنين إلى أحضان الطبيعة المباركة والأصل المقدس:
عندما ينوح الآن قلب الأم
في وحدته الأليمة،
وتنشر الأم المظلمة - وهي تذكر الاتحاد القديم -
ذراعها النارية للأثير،
ويأتي ملك الشمس في هالة إشعاعه،
هنالك نغوص في اللهب المقدس
علامة على قرابتنا له.
وبدأ هلدرلين يغوص في هاوية اللهب الأسود المقدس، وراح الاكتئاب المميت يحاصره من كل ناحية، ويضطره للتسليم. ولكم حاول أن يتشبث بذكرى الحب ورؤياه الشعرية لتحميه من السقوط. فطفق يناجي القوى السماوية، ويستنجد بها من لعنة الوحدة التي تطبق عليه:
بلا قدر كالرضيع النائم
يتنفس الإلهيون،
أعفاء مصونين
في البرعم الطيب
تزدهر أرواحهم أبدا،
وعيونهم المباركة
تطل في هدوء وصفاء خالد.
أما نحن فكتب علينا
ألا نهدأ في موضع.
والبشر المعذبون
يتلاشون يسقطون
كالعميان من ساعة لأخرى،
كما تندفع المياه على مر السنين،
من صخرة لصخرة،
إلى الهاوية الغامضة.
أخذ الشاعر يندفع إلى الهاوية الغامضة التي لن يخرج منها. وبدأ ظلال الجنون تلتف حوله يوما بعد يوم. وعاد يهيم في البلاد بحثا عن لقمة العيش، فعمل فترة قصيرة في سويسرا، ثم هجرها وقام برحلته الأخيرة إلى مدينة «بوردو» الفرنسية ليتولى تعليم أبناء القنصل الألماني المقيم فيها، ولكنه لم يلبث أن ترك عمله وعبر الحدود على قدميه، حتى وصل إلى وطنه، وقد ظهرت عليه أمارات الاضطراب النفسي والعقلي. هل تعرض في أثناء رحلته لضربة صاعقة من رب النور «أبوللو»؟ أم انفجر فيه جرح الحب الذي ظل سنوات ينزف في صمت؟ هل تأكد له أن العالم الذي يحيا فيه قد صار حطاما لا موضع فيه للتجانس والجمال، وأن السماويين المباركين قد تخلوا عنه إلى غير رجعة؟ لقد صور له الأمل أو الشعر أنه يمكن أن يحلم بهم على الرغم من قسوة الواقع، وأن يناجيهم ويتغنى بهم ويتحدى القبح المتفشي من حوله، فهل اقتنع الآن بما قاله في أشهر قصائده المتأخرة وهي قصيدة «الخبز والنبيذ»:
لكننا يا صديق قد أتينا جد متأخرين،
صحيح أن الآلهة حية،
لكنهم يحيون فوق رءوسنا، هناك في عالم مختلف،
ولا يبدو عليهم أنهم يحفلون كثيرا بوجودنا ...
لقد حولوا وجوههم عن البشر، وبدأ الحداد - كما يقول في المقطع الثامن تلك القصيدة -
يخيم على الأرض.
ولهذا يسأل قبل ذلك مباشرة:
ولم الشعراء في الزمن الضنين؟
وكأنه قد تشكك في جدوى الشعر والشعراء في زمن المحنة، بعد أن آمن بهما من قبل، وقال بيته المشهور:
وما يبقى يؤسسه الشعراء ...
لا لم يعد في طاقته أن يأمل أو يتشبث برؤياه، حاصره الشتاء، وها هو ذا يعلن صرخته للريح:
ويلي لو جاء شتاء
أين سأقطف أزهاري
وألاقي نور الشمس
وظل الأرض؟
تبدو الجدران أمامي
باردة خرساء،
والرايات ترفرف في الريح.
كان المريض الذي عبر جبال الألب على قدميه قد لجأ إلى أمه، وعاش معها في بلدته الصغيرة «نورتنجن» حتى سنة 1804م، لكن المرض ألح عليه، فغادر البيت وعاد يتنقل بين البلاد، حتى استقر في مصحة الأمراض العقلية في مدينة «توبنجن». ولما يئس الطب من شفائه تسلمه نجار طيب آواه في بيته، فعاش فيه نصف عمره الأخير أشبه بالظل الهادئ والشبح الهائم في الليل الطويل:
ما عاد صوت يتردد من أجلك
أنت أيها الرائي المسكين!
عينك المشوقة تنطفئ
والنعاس يجرفك إلى الأعماق،
فلا يذكرك أحد ولا يبكيك إنسان ...
وأقبل الموت فخلصه من حلمه أو من رؤياه في اليوم السابع من شهر يونيو سنة 1843م.
وتمت دورة الحياة التي غناها قبل ذلك بأكثر من أربعين عاما، فقال:
تطلعت روحي إلى السماء،
غير أن الحب جذبها إلى الأرض،
والعذاب قهرها بقوة.
هكذا أعبر قوس الحياة،
وأعود إلى حيث جئت ... (1983م)
«أنجارتي» وغموض الشعر الحديث
من مفارقات الشعر الحديث أن يكون الغموض من أوضح مظاهره، يشترك في هذا جانب كبير من الشعر الأوروبي والشعر الجديد في بلادنا. ومع أنني أعلم عن نفسي أن «أوضح» عيب في هو الوضوح، فسأحاول في السطور القادمة أن ألقي شيئا من الضوء على هذه الظاهرة التي طالما عذبت القراء، وحيرت النقاد، وتعجب منها الشعراء أنفسهم. وأحب قبل أن يتشعب بي القول في هذه المشكلة العويصة أن أقدم للمقال بمجموعة من الملاحظات العامة، تمهيدا للحديث عن ظاهرة الغموض في الشعر الأوروبي في القرن العشرين، وبخاصة عند واحد من أكبر شعرائه، وهو جوسيبي أنجارتي أعظم شعراء إيطاليا المعاصرين الذي يعده بعض النقاد من أكثرهم غموضا، بل يزعمون أنه من الداعين إليه والمؤسسين لنزعة قوية فيه ... (1)
يعبر الشاعر الجديد عن تجربة جديدة. هذه التجربة الجديدة تجعله يتناول اللغة تناولا خاصا ، يقوم بدوره على فهم خاص للحياة وظواهر الوجود. (2)
في عروق اللغة يعيش نبض العصر، وينعكس وجهه المظلم أو وجهه المضيء. وإذا كان عصرنا يختلف عن العصور السابقة، فكيف لا تختلف لغتنا عن لغة الآباء والأجداد؟ وإذا كان عصرنا يتمزق بالقلق والخوف والتشتت والصراع بين الدول والمذاهب، وسيطرة الآلة على الإنسان وبعد هذا عن نفسه وعن العالم بقدر محاولته السيطرة عليها والتحكم فيها، فكيف لا تكون لغتنا مرآة لكل هذه الغرائب والمتناقضات؟ وإذا جاز القول بأن لكل منا عالمه، فكيف نستبعد على شاعر اليوم أن يكون له عالمه أو قل غابته الكثيفة المظلمة؟ (3)
ليس لكل عصر لغته فحسب، بل لكل شاعر لغته أو قاموسه الشعري الخاص به. وقد يكون من أسباب حكمنا بالغموض على طائفة كبيرة من نماذج الشعر الحديث راجعا إلى آفة الكسل والتعود، أو عجزنا عن بذل الجهد الواجب للتخلي عن القوالب والصيغ التعبيرية التقليدية لنستطيع استكشاف القوالب والصيغ الجديدة التي تحمل نبض العصر. وكيف لا نشكو من غموض أدونيس أو خليل حاوي أو البياتي ما دمنا نقرؤهم، ونحن نرتدي زي الجاهليين أو الأمويين أو العباسيين، لا بل زي البارودي وشوقي وحافظ؟ ثم إن الشعر معبود لا يحب أن يشرك به، فإذا دخلت إلى معبد شاعر، فعليك أن تقدم له كل تضحية، وتفنى فيه كل الفناء. وهل يصح إيمانك إن صليت في المسجد أو الكنيسة وقلبك مشغول بآلهة المجوس والفراعنة والبابليين؟ (4)
ينبغي أن نلتزم الحرص في استخدام كلمة الغموض. صحيح أن الشعر الجديد - وأقصد نماذجه الممتازة التي تستحق هذه التسمية - يتصف عامة بالغموض غير أن هناك، إن جاز هذا التعبير، غموضا أصيلا، وغموضا زائفا. والغموض الأصيل ينتج عن التحام لغة الشعر وقلبه بالحياة والوجود. فحياتنا اليوم تحفل كما قلت بالتناقض والتمزق والغرابة، وتموج بظواهر من الظلم والرعب والتفتت التي تزيد من غربة الشاعر عن العالم، وغربة العالم عنه، وتجعلنا عاجزين عن فهمها أو تفسيرها مهما حاولنا أن نصطنع منطق أرسطو أو نفزع إلى طبائع الأشياء. وهناك إلى جانب هذا غموض زائف يزور لغة كاذبة، فيأخذ إطار الشعر الجديد وشكله، ولكنه يحشده بتعبيرات سخيفة أو استعارات كاذبة أو صور ورموز وأساطير يكدسها إلى جانب بعضها البعض كيفما اتفق.
وقد يسأل القارئ: ولماذا لا يكون الشعر الجديد بسيطا واضحا، وهناك قدر هائل من الشعر البسيط الواضح الذي يؤثر علينا ويهز مشاعرنا؟
والرد على هذا أن الغموض ليس مقصورا على الشعر القديم دون الجديد، وأن الشاعر الجديد لا يبحث عن الغموض حبا في الغموض أو التعقيد لذاته. فليس كل الشعر المعقد شعرا غامضا، ولا كل الشعر الغامض شعرا معقدا. ثم إن الشعر الغامض يمكن أن يهزنا ويؤثر فينا مثل الشعر الواضح البسيط، بل قد يكون الغموض من أقوى أسباب هذا التأثير. (5)
لا بد أن نفرق بين الغموض والإبهام، فالشيء المبهم المستغلق ليس هو بالضرورة الشيء الغامض؛ لأن الإبهام صفة نحوية قبل كل شيء أي ترتبط بتركيب الجملة، في حين أن الغموض صفة خيالية تنشأ قبل مرحلة التعبير والصياغة اللغوية النحوية، فالغموض إذن هو غموض الرؤية أو التجربة نفسها. وما دام الشاعر صادقا، فهو ينقل لنا تجربة وجود يزداد كل يوم غموضا، أي يزداد اضطرابا وقلقا وتفتتا، ويبتعد بأحداثه المروعة المفاجئة عن النسق التقليدي المتكامل المنسجم. وإذن فالغموض ليس صفة سلبية تأتي من عجز الشاعر أو فشله في الوضوح، بل هو صفة إيجابية تفرض ضرورتها على الشاعر؛ لأنها كامنة في التفكير الشعري نفسه، أي متصلة بجوهر الشعر وطبيعته الأصلية. ولذلك تزداد عند الشاعر بقدر ما يزداد نصيبه من الأمانة والصدق في التعبير. (6)
الشعر وليد الخيال، والخيال تعبير آخر عن الاختراع. لذلك فلا عجب أن نجد الشاعر يخترع المعاني والألفاظ والاستعارات والصور الجديدة، محاولا أن ينقل إلينا تجربته أو رؤياه الجديدة للكون والحياة، أو يشكل بها تلك الوحدة الشعورية أو الصورة اللغوية والموسيقية التي تظل تعتمل في باطنه قبل أن تتجسد في الكلمات. وليس عجيبا كذلك أن نجد كلماته تبتعد عن معانيها الاصطلاحية، أو دلالاتها العادية المألوفة في حياتنا اليومية، بحيث نستطيع أن نقول إنه يزداد غموضا بقدر ما يزداد اقترابا من جوهر الشعر الحقيقي. وغني عن القول أن الغموض لا يعني أبدا الألغاز أو السخف أو التعقيد. (7)
كل إنسان منا يعيش في التراث، فمن لم يكن له ماض فلا حاضر له ولا مستقبل. والشاعر العصري يتخذ بالضرورة موقفا من تراثه، وسواء حاول أن يخرج عليه أو أن يرفضه رفضا تاما، كما فعل بعض غلاة الرمزيين والسرياليين من دعاة العصرية المطلقة في النصف الثاني من القرن الماضي وأوائل هذا القرن، أو قبل منه شيئا ورفض شيئا آخر، فهو على كل حال يريد أن يتجاوزه أو يغير النظرة إليه، ولكننا نحن القراء العاديين أميل إلى المحافظة أو قل إلى التعود، ولذلك يشق علينا أن نحسن الظن بمن يثور على التراث، ونتصور أنه يثور علينا، ونسارع إلى وصفه بالغموض والإغراب. ولو تذكرنا أن الثورة على التراث لا تعني معاداته ولا البصق عليه، بقدر ما تدل على الارتباط العميق به، ومحاولة إثرائه بتجارب وأبعاد جديدة، فربما يزول سبب من أهم أسباب الغموض الذي نتصوره في الشعر الجديد. وقد نستطيع أن نضيف سببا آخر، وهو أن الشاعر الجديد، مهما يكن موقفه من التراث المحلي والإنساني، يحيط علما بخفايا هذا التراث، ويتفنن في استغلاله واستلهامه. ونظرة إلى شعر البياتي وأدونيس وصلاح عبد الصبور مثلا، أو إليوت وأزرا باوند وجوتفريد بن، تؤكد أن الشاعر الجديد قد أوغل إلى حد مخيف في معرفته بالتراث الإنساني، مخيف لنا نحن قراءه العاديين كما قلت. فإذا رأيناه يكثر من استخدام الرموز والأساطير والمواقف والأبطال المستمدة من التاريخ القديم والحديث، والشرقي والغربي، وإذا رأينا شاعرا مثل إليوت يتنقل بحرية في آفاق الثقافة العالمية، ويعيد صياغة المواقف والرموز والشخصيات القديمة بما يوائم رؤياه الشعرية والنفسية، وإذا رأينا شاعرا آخر مثل باوند يتطرف في هذا الاتجاه، فيكتب بعض الكلمات والجمل الشعرية بلغاتها ورسمها الأصلي - كالهيروغليفي والصيني - فإننا نصاب كما قلت بالخوف والفزع، لا من معرفة الشاعر بالتراث، بل من جهلنا نحن به. ولعل هذا أيضا أن يكون أحد الأسباب التي تجعلنا نتهم الشعر الحديث بالغموض. (8)
وأخيرا قد يقع ذنب الغموض على الشاعر نفسه لا على قرائه، فهو قد يستخدم الرموز والأساطير استخداما تقريريا مباشرا، دون أن يستوحيها أو يستلهمها، وقد يكدسها بجانب بعضها البعض دون أن ينجح في ربطها بحالته النفسية، أو بسياق القصيدة، أو يعجز عن تناولها التناول الشعري الحق الذي يبعث الحياة فيها، ويربط معناها الخاص بالمعنى الإنساني العام. وقد يفتعل من الاستعارات والمعاني والكلمات ما لا تقتضيه طبيعة الموقف الشعوري الذي يريد أن ينقله إلينا. لذلك لا يصح أن نظلم القراء دائما، ونتهمهم بالجهل والغباء، فكثيرا ما يتحمل الشعراء أنفسهم مسئولية الغموض.
بعد هذه المقدمة التي اهتديت فيها بالكتاب القيم «الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية» للدكتور عز الدين إسماعيل، أنتقل إلى الكلام عن ظاهرة الغموض في الشعر الأوروبي المعاصر بوجه عام، تمهيدا للكلام عنها عند أحد أعلامه.
والغموض من أهم الخصائص التي تميز الشعر الحديث. فهو يلقي على اللغة مهمة عسيرة وغريبة معا، ألا وهي أن تفصح عن المعنى وتخفيه في آن واحد. إنه يعزل القصيدة عن وظيفة اللغة الأساسية في النقل وتوصيل المعاني، ليعلقها فيما يشبه الفراغ، فتبتعد عن القارئ كلما حاول الاقتراب منها. وقد يبدو في بعض الأحيان كأن الشعر الحديث ليس إلا محاولة لتسجيل إحساسات مبهمة، وتجارب مضطربة يحتفظ بها الشاعر لمستقبل قريب أو بعيد، يتمكن فيه من التعبير عن إحساسات أوضح وتجارب أنجح. ولهذا يدور ويدور حول إمكانات لم تثبت أو تتحقق بعد.
ولكن من أين يأتي هذا الغموض؟
قد يأتي من المضمون أو الأسلوب الذي يلجأ إليه الشاعر. فالقصيدة تتكلم عن أحداث أو كائنات لا يعرف القارئ شيئا عن مكانها أو زمانها أو أسبابها، ولا يخبره الشاعر بشيء عنها، وعباراتها لا تتم ولا تكمل، بل تنقطع فجأة لسبب لا يدريه، كأنما حاولت أن تقطع الصمت المطبق فلم تفلح. وقد لا يتألف المضمون إلا من مواقف لغوية، تختلف بين الخشونة والنعومة والسرعة، بحيث لا تكون الموضوعات والعواطف التي تتحدث عنها سوى مادة لا معنى لها. ومن أبرز وسائل الأسلوب التي تسبب الغموض تغيير وظيفة الحروف والصفات والظروف وصيغ الأفعال، وترتيب الجملة العادية ترتيبا غير مألوف، والميل إلى ما يمكن تسميته بالجمل المفتوحة، كأن تتألف الجملة من أسماء لا يرتبط بها فعل، أو نجد جملة رئيسية بلا جملة جانبية أو العكس، أو جملة شرطية بلا جواب شرط، أو بإسقاط أدوات التعريف عن الأسماء واستخدامها بطريقة تزيد من الغموض بدلا من أن تعمل على التحديد والتعريف. أضف إلى هذا أننا قد نجد قصائد بلا عنوان، أو بعناوين لا توافق موضوعها، فتزيد بذلك من تعدد المعاني المختلفة التي توحي بها. وقد يكون السبب في التخلي عن العنوان هو رغبة الشاعر أن يخلي مضمونه من أية صلة تربطه بالواقع والمألوف. ويذكرنا هذا ببيكاسو الذي اشتهر عنه أنه لا يضع عناوين للوحاته، بل يتولى ذلك عنه تجار اللوحات ومنظمو المعارض الفنية.
ويطول بنا الأمر لو أردنا أن نتتبع أقوال الشعراء التي يطالبون فيها بالغموض أو يحاولون تبريره. فالشاعر «ييتس» يتمنى أن يكون للقصيدة من المعاني بقدر عدد قرائها. وإليوت يقول إن القصيدة شيء مستقل يقف بين المؤلف والقارئ، كما أن العلاقة بين المؤلف والقصيدة تختلف عن العلاقة بينها وبين القارئ. فالقصيدة التي يكتبها الشاعر تخرج من يده إلى الأبد. وقد يستشف القارئ فيها معاني لم تخطر على بال المؤلف، أي إن من حق القارئ أن «يؤلفها» من جديد. والشاعر البرتغالي بيدرو ساليناس يقول في هذا المعنى: «إن الشعر يرتبط بشكل عال من التفسير يكمن في سوء الفهم. فالقصيدة تنتهي بعد كتابتها، ولكنها لا تتوقف، بل تبحث عن قصيدة أخرى في نفسها أو في المؤلف أو القارئ أو في الصمت.» أي إن القوى الكامنة في القصيدة أو في اللغة التي كتبت بها لا تنتهي بمجرد الفراغ من تأليفها، بل تطلق قوى جديدة في نفس الشاعر والمتلقي.
وقد «يوضح» ما نريده بهذا الغموض في الشعر الحديث أن نضرب له مثلا بإحدى قصائد الشاعر الإسباني «جين » وعنوانها «أغمض عيني»، ويمكن أن نجد فيها تصويرا لخفايا هذا الغموض أو نوعا من التبرير له:
أغمض عيني، والسواد يطلق شرارات
هي القدر السعيد.
الليل يفض أختامه ويجلب من الهاوية
ضوءا يرتفع فوق الموت،
أغمض عيني، فيقوم عالم عظيم يعشيني،
عالم خال من الضوضاء،
يقيني أبنيه على الظلام،
وكلما زاد البرق عتمة، كان ملكا لي.
في السواد تطفو زهرة.
وليس من العسير فهم معنى القصيدة. فالظلام أو الغموض الذي يتحدث عنه الشاعر يأتي من احتمائه بنفسه من العالم الخارجي والابتعاد عن أضوائه وضوضائه. إنه يغلق عينيه، فينفتح عالمه الداخلي، ويتحرر من ضجة الحياة، ويحول الظلام - أو اختفاء الواقع الخارجي - إلى نور، ويطلع تلك الزهرة التي لا تتفتح إلا في نور الظلام (والوردة هنا رمز الكلمة الشاعرة). أي إن الشعر لا يكتمل إلا في عالم «اللاواقع» الذي يجبره على الغموض والإظلام.
وقد نشأت في إيطاليا منذ حوالي أربعين عاما حركة أدبية راحت تنادي بالغموض في الشعر، حتى سميت بحركة الغموض والإلغاز، وكان من بين ممثليها الشعراء بونتمبللي، ومونتاله، وسابا، وكوازيمودو، وأنجارتي الذي سنتحدث الآن عنه بشيء من التفصيل. وقد تأثرت هذه الحركة بشعراء البارناسية والرمزية في القرن التاسع عشر (رامبو، مالارميه، فاليري) فراحت تسعى إلى تأكيد طابع الغموض والسحر والإيحاء في الشعر، وتقدم نغمة الكلمة وقيمتها الشعورية على معناها، ولكن هل تنطبق حقا صفة الغموض على أنجارتي؟ لنحاول الآن أن نتعرف عليه، فقد يهمنا أن نعرفه لأسباب كثيرة، ليس أقلها أنه ولد في بلادنا، وقضى صباه في أجمل مدننا، وحوت أشعاره كثيرا من ذكرياته وانطباعاته عنا. •••
ولد جوسيبي أنجارتي
Giuseppe Ungaretti
في العاشر من فبراير سنة 1888م في الإسكندرية، من أبوين مهاجرين من مدينة لوكا. وفي الإسكندرية التي أصبحت على حد قوله: «حلما مألوفا» لديه، قضى طفولته وشبابه المبكر. فهو لم يغادرها إلى إيطاليا لاستكمال دراسته إلا بعد أن أتم الثامنة عشرة من عمره. ثم ذهب إلى باريس، واستمع إلى محاضرات السوربون، واكتشف عن كثب ما يجري من تيارات جديدة في الأدب والفن . وتعرف على رواد الثورة الوليدة في الشعر والرسم، أمثال أبوللينير وماكس جاكوب وديران وبيكاسو وبراك وبيجي، كما استمع إلى محاضرات برجسون الفلسفية في نهم وحماس، وشارك في الحوار آنذاك حول الفن الجديد، وتأثر بقراءاته لمالارميه وفاليري وسان - جون - بيرس الذي ترجمه إلى لغته.
1
غير أن الحرب شاءت أن تضع حدا لسنوات التعلم. فما كادت تشتعل نيران الحرب العالمية الأولى حتى جند أنجارتي في كتيبة المشاة التاسعة عشرة، وقضى معظم الوقت في الجبهة النمسوية. وبينما الحرب في عنفوانها، ظهرت مجموعته الشعرية الأولى سنة 1916م في مدينة «أودين». لم تكن أشعار حرب ما حوته هذه المجموعة الصغيرة، بل قصائد إنسان «وجد نفسه فجأة يسير في شارع الحرب الذي لم يكن يعلم عنه شيئا»، إنسان يسأل لماذا، فيردد سؤال كثيرين مثله، كتب عليهم أن يتساقطوا واحدا بعد واحد كأوراق الخريف. إنهم إخوته الذين يتحدث على لسانهم في هذه القصيدة البسيطة المصفاة:
من أية كتيبة أنتم
يا إخوتي؟
كلمة ترتعش
في الليل،
ورقة لم تكد تولد
في الهواء المثير،
تمرد غير مقصود
لرجل
يعرف ضعفه،
إخوتي.
وفي هذه السنة أيضا، في لهيب الحرب، نشأت هذه القصيدة العجيبة «جنود». أربعة أسطر، تسع كلمات. لا شيء غير هذا. فالشاعر لا يقول إلا القليل، بل أقل من القليل؛ لأنه لم يبق أمام الكارثة من شيء يقال:
يقفون
كما في الخريف
على الأشجار،
ورقة ورقة.
وانتهت الحرب فأقام أنجارتي في روما، وعمل في وزارة الخارجية مشرفا على تحرير نشرة باللغة الفرنسية. وتوالت دواوينه واحدا بعد الآخر: الميناء المدفون، فرحة الغارقين، وعاطفة الزمن. واشتهر أنجارتي وكثر قراؤه المعجبون والساخطون. فها هو شعر فريد وجديد، يضع حدا للبلاغة والزخرف والتكلف الذي ساد الشعر الإيطالي زمنا طويلا. وها هم الناس يتحمسون في الترحيب به كما يتحمسون في الحرب عليه. بل لقد وصل الأمر في تلك السنوات إلى حد تأسيس مجلات لا يشغلها شاغل سوى الهجوم على أنجارتي أو الدفاع عنه، غير أن الشاعر كان يقف بعيدا ووحيدا، لا يجد ما يقيم به أود أسرته. وبدأ يعمل مراسلا لجريدة الشعب في مدينة تورين، ويسافر من بلد إلى بلد في سبيل لقمة العيش، ويكتب مقالات يرسلها إلى جريدته من الجنوب الإيطالي، ومن معظم البلاد الأوروبية، ولكنه برغم هذه الظروف لم ينقطع عن كتابة الشعر، وهو أمر لا نعطيه في الغالب ما يستحقه من التقدير والإجلال.
لنقف لحظة عند هذه الفترة من حياة الشاعر قبل أن ننتقل إلى ما بعدها. وليطمئن القارئ، فلن تطول وقفتنا؛ لأن قصائد شاعرنا أقصر من نفس واحد بين شهيق وزفير. ولنقتصر على هاتين القصيدتين اللتين جعلهما عنوانا للديوانين اللذين أشرت إليهما. فلنحاول معا أن نعرف - أو بالأحرى نتعلم - من هاتين القصيدتين القصيرتين المكثفتين. يقول في قصيدة «الميناء المدفون»:
هناك يصل الشاعر
ثم يلتفت إلى النور بأغانيه
وينثرها
من هذا الشعر،
يبقى لي
ذلك العدم
الذي لا ينفد سره.
وتقول القصيدة الأخرى «فرحة الغارقين» أو فرحة السفن الغريقة:
وفجأة
نستأنف الرحلة:
كما يفعل،
دب البحر
بعد غرق السفينة.
ومن الصعب نقل الإحساس الذي توحي به القصيدة في الأصل، لا لأن الترجمة - وكل ترجمة - تفقد الإيقاع والجرس في لغتها الأولى، بل لأنها تعيد كذلك ترتيب السطور والكلمات، وهذا أمر بالغ الأهمية في الشعر الحديث بوجه عام. •••
مهما يكن من شيء، فقد رحل أنجارتي في سنة 1936م إلى البرازيل؛ ليقوم بتدريس الأدب الإيطالي في جامعة «سان باولو». ويبدو أن تأثيره على الوسط الأدبي هناك كان كبيرا، كما أتيح له أن يعقد أواصر صداقة ثبتت عراها إلى اليوم. غير أن موت ابنه أنطونيو ذي التسع سنوات جعله يعود إلى وطنه، حيث راح يكتب أغانيه للأطفال الأموات تحت عنوان «يوما بيوم».
ويظهر أن الموت كان يتربص بإيطاليا على نحو آخر. فقد بدأت أسود سنواتها بعد أن نشرت الفاشية العسكرية كفنها المظلم فوق سمائها وأرضها. ثم احتلت جيوش الألمان روما، وخمدت أنفاس المدينة الخالدة تحت أقدام البرابرة الشقر.
ولم تلبث هذه الكارثة أن غيرت شعر أنجارتي. إنه حزين على بلاده، حزين لفقد أحبابه. وها هو ديوان جديد يظهر للشاعر، العذاب عنوانه، والعذاب محتواه. فلنقرأ بعض قصائده لنعرف مدى العذاب الذي يقاسيه شاعر ينطق بلسان شعبه العجوز المقهور. تقول قصيدة «لا تصرخوا بعد الآن»:
كفوا عن قتل الموتى
لا تصرخوا بعد الآن، لا تصرخوا،
إذا كنتم لا تزالون تريدون أن تسمعوهم،
إن كنتم ترجون ألا تفنوا،
همسهم لا يحس
ما عادوا يحدثون ضجيجا
إلا كنمو العشب
الذي يسعد حين لا يمشي عليه إنسان.
فالقتلى ما عادوا في حاجة إلى القتل مرة أخرى. لقد استسلموا وانتهى الأمر. لم إذن تملئون الدنيا هتافا وصراخا؟ إن صراخكم سيغطي على أنينهم. وماذا يبقى لكم لو حرمتم حتى من سماع هذا الأنين؟ وكيف تعرفون أنكم ما زلتم أحياء، لو أضعتم هذه الفرصة أيضا من أيديكم؟ لا تصرخوا، فهم لا يسمعون. أليس هذا ما أردتم؟ لم تحرمونهم حتى من متعة الموت على انفراد؟ إنهم يهمسون، وهمسهم لا يسمع. إنهم لا يضجون. وإن تصورتم أن همسهم ضجيج، فهو لا يعلو على صوت العشب الذي ينمو، العشب الذي لم تبق له سوى فرحة واحدة ألا تمشي عليه قدم إنسان.
ولكن هل ضاع كل أمل؟ هل يزداد اليأس كل يوم بلا انقطاع؟ أتصبح الحياة عنده، كما يقول في إحدى قصائده، صخرة جمدت فيها الصرخات؟ إن الكهنة السود ما زالوا يصرخون ويهتفون ويطلقون بخور البشاعة والظلم في المعبد الخراب. ولكن الأمل معقود على ملاك الفقراء الذي سيهبط ذات يوم ليخلصهم ويواسيهم:
الآن حيث يغزو العقول المطموسة
إشفاق غليظ بالدم والطين،
الآن حيث يثقلنا مع كل نبضة قلب
صمت كل هذا العدد من الموتى والمظلومين،
الآن فليستيقظ ملاك الفقراء،
رقة الروح التي لا تزال على قيد الحياة ...
بتلك الإشارة التي لا تمحى على مر الأزمان،
فليهبط على رأس شعبه العجوز
وسط الأشباح ...
ويشرق الأمل من أعماق اليأس ... ويقسم بينه وبين نفسه أن يقبل على العمل. وينتظر أن تتفتح العيون المغلقة على نور الشمس، ويعانق الفقراء الفقراء، وتتصافح الأيدي المغلولة، وتبعث الحياة في الأجسام والأرواح التي قتلها الذل :
بلا لهفة على الإطلاق سوف أحلم،
سوف أقبل على العمل
الذي لا ينتهي أبدا،
وشيئا فشيئا، بقرب النهاية
تمتد الأذرع للأذرع،
وتبسط من جديد
أكف تبذل العون،
وفي كهوفها تعود للحياة
عيون تعطي النار من جديد،
وأنت، فجأة لم تمس،
سوف تبعث، وسوف يهديني صوتك
مرة أخرى،
وإلى الأبد أراك.
ولكن يبدو أن هذه الآمال كانت وهما أو حلما. فالنكبة كانت أكبر مما يتصور عقل. وحتى بعد أن انجابت سحابة الظلم الفاشي عن سماء بلاده، ظلت حالة كالشلل أو الكابوس تخيم على الرءوس وتكتم الأنفاس. ولذلك لا عجب أن تكون خاتمة الديوان هي هذه الخاتمة:
ما عاد يرعد، ما عاد يهمس البحر،
البحر.
يثير الشفقة أيضا، يثيرها البحر،
البحر.
سحب غافلة تحرك البحر،
البحر.
الدخان الحزين يترك الآن فراشة البحر،
البحر.
هو أيضا مات، انظر، البحر،
البحر.
يبدو أن الحزن قد سرى منذ ذلك العهد المظلم في دم الشاعر ونخاعه. صحيح أنه أصبح الآن من أشهر شعراء بلاده، إن لم يكن أشهرهم جميعا. وصحيح أن جامعة روما تستدعيه للتدريس فيها، وتجعل له كرسيا خاصا به، وأنه يؤسس هناك مدرسة أدبية تسمى باسمه، ويتخرج فيها عدد كبير من كتاب إيطاليا وشعرائها وأساتذتها المرموقين، ولكن التعب لا يزال ثقيلا على كتفيه، والحزن لا يزال يسري في دمه وصوته، فيخرج ديوانه الذي يعلن به خاتمة مؤقتة لحياته الشعرية، ديوان «مفكرة رجل عجوز».
إن كل دواوين أنجارتي تحمل هذه العبارة «حياة رجل». والشاعر نفسه يشرحها في مقدمة ديوانه «الفرح»، حيث يقول: «هذا الكتاب مذاكرات يومية». والمؤلف لا يطمح، ويعتقد أن الشعراء الكبار لم يكونوا يطمحون إلى أبعد من أن يتركوا وراءهم سيرة حياة جميلة. ولذلك فإن القصائد هي عذاباته الشكلية، أو سجل عذابه مع الشكل، ولكنه يريد أن يفهم عنه للمرة الأولى والأخيرة أن الشكل يعذبه؛ لأنه يطالبه بملاءمة التغيرات التي تطرأ على فكره ووجدانه. وإذا كان كفنان قد حقق أي تقدم يذكر، فهو يتمنى ألا يكون لهذا سوى معنى واحد، وهو أنه كإنسان قد استطاع أن يبلغ شيئا من الكمال. لقد نضجت رجولته وسط أحداث غير عادية لم يقف بعيدا عنها أبدا. وهو وإن لم ينكر أن الأدب يتجه إلى العام، فقد رأى على الدوام أنه حيث ينشأ شيء ذو بال، فإن العام من خلال شعور تاريخي فعال، لا بد أن يلتقي في النهاية مع صوت الشاعر الوحيد ...»
يقول أنجارتي كذلك عن نفسه إنه لما كان الذئب يفقد جلده، ولا يفقد رذيلته، فإنه يراجع قصائده وينقحها مع كل طبعة جديدة لأحد دواوينه. والحق أن شعره يتميز بهذه الصفة النادرة، ألا وهي البحث عن الجوهر وإبرازه نقيا خالصا كالبلور. وهو يسعى جاهدا إلى أدق تعبير ممكن، وأقربه إلى الطبيعة والإقناع، كما ينشد النغم المتسق، ويلون القصيدة بجرس موسيقي يوحي بالشعور الذي يحاول نقله إلى القارئ مما يستحيل بالطبع على كل ترجمة.
اشتهر عن أنجارتي بحق أو بغير حق أنه شاعر غامض ملغز، بل مؤسس دعوة إلى الإلغاز ، ولكن من يقرأ شعره لن يفهم هذا القول، ولن يستطيع أن يصدق كل ما فيه. فلنحاول الآن أن نتدبره معا.
يعرف القارئ من النماذج السابقة أن أشعار أنجارتي تتميز بالتركيز البالغ. فالكلمة كما يقول بنفسه هي شق أو صدع قصير للصمت. إنها شذرة تقف وحيدة مرتعشة بين عالم الأسرار الذي لا تكاد تلامسه، إلا من بعيد، وبين الصمت الذي لا يلبث أن يطبق عليها. وكل قصائد أنجارتي تتفق في هذا الطابع الذي يميزها، ويجعل منها شذرات لم تتم، ويتضح هذا بوجه خاص في قصائده المركزة القصيرة التي يعد أستاذا فيها مثل لوركا، والتي سنعود إليها بعد قليل.
ولا يصح أن نحاول فهم قصائد أنجارتي من ناحية المضمون. فكثيرا ما يصيبنا الذهول؛ لأنها لا تتضمن أي شيء، أو لأننا لا نستطيع في بعض الأحيان أن نفهمها على الإطلاق. والواجب أن ننظر إلى كلماتها كصيغ صوتية أو أشكال نغمية تخلف وراءها صدى ساحرا. ولنتأمل إحدى قصائده الحرة لنرى كيف يبدو هذا الغموض الذي اشتهر به شعره عن حق أو غير حق كما قدمت. إنها قصيدة «الجزيرة» التي ظهرت في سنة 1933م في ديوانه عاطفة الزمن. لنقرأها أولا قبل التعليق عليها:
هبط إلى شاطئ، كان يسوده المساء الأبدي
من غابات متفكرة سحيقة القدم
وتوغل بعيدا،
وجذبه حفيف أجنحة،
صعد من خفقة قلب الماء الصارخة
ورأى شبحا (يسقط ثم يعود فيزدهر)،
وحين استدار ليصعد
رأى أنها كانت حورية بحر، وكانت تنام
منتصبة وهي تعانق شجرة دردار.
فالقصيدة تتكلم عن حدث ما، في جمل متموجة بالغة القصر ليس فيها أثر للأنا. إنها تتكلم عن شخص فتقول «هو»، ولكن من هو هذا الشخص؟ لن نتلقى جوابا. فالضمير غير محدد ولا معروف. ويزيد من هذا الغموض أن العبارات قد رصت بغير علاقة تربط بينها، وجمعت صورا من الحياة الرعوية التي طالما تغنى بها الشعراء، وحنوا إليها كالجزيرة والغابات وحورية البحر والراعي والماشية. ولكننا سنسأل أنفسنا حين يذكر العذارى: أي عذارى هؤلاء؟ غير أن الحدث يتوقف هنا، ويظل شذرة لا سبب لها ولا هدف. ومع الخاتمة تزداد مجموعات الكلمات شذوذا وبعدا عن بعضها البعض:
الأغصان قطرت
مطرا كسولا من النبال،
الماشية نعست
تحت الوداعة الناعمة
ورعت «قطعان» أخرى الغطاء المضيء،
ولكن أين وصل الآن ذلك الشخص؟ إن الخاتمة التي تشبه السكون قد أنستنا بداية الحدث، وكأن لم يكن له ولا لصاحبنا القديم وجود ولا معنى. وإذا أمكن أن نجد للقصيدة مضمونا، فهو في اتجاه حركتها: وصول ولقاء وهدوء. وكلها حركات مجردة لا تعني شيئا غير نفسها، مشيعة بسر ذلك الحدث الغامض الذي تظهر على سطحه. فإذا جاءت الخاتمة لم تحل هذا السر، بل أضافت إليه جديدا. صحيح أن الحركة ستنتهي بالهدوء والهمود، ولكن تنافر الصور فيها يشير إلى مستوى أعلى من الغموض تصنعه اللغة نفسها.
طبيعي أن مثل هذا الغموض له سحره، كما أن له عند الشاعر العظيم ما يبرره في النغمة أو الصورة أو الرؤية. غير أنه قد يصبح لدى العاجزين من الشعراء ميدانا للادعاء والثرثرة، أو للتهكم والسخرية عند القراء. ومنذ سنوات عمد بعض هؤلاء القراء في أستراليا إلى دعابة خبيثة تشبه عندنا ما سمي بفضيحة اللامعقول ومسرحية دورنمات المزعومة، فألفوا أبياتا لا معنى لها ونسبوها إلى عامل مناجم مغمور زعموا من باب الاحتياط أنهم وجدوها في أوراقه بعد موته. وراح النقاد يشيدون بعمق هذه الأبيات، ويبكون موهبة الفقيد. •••
هل ننتهي الآن إلى القول بأن شعر أنجارتي شعر غامض وصعب؟ إن القارئ لن يستطيع أن يقرأه بسهولة، ولكن هذه الصعوبة عنصر مشترك بين الشعراء المحدثين. وستقابله ألغاز كثيرة تستعصي على المنطق والعقل، ولكنه سيحس أنها ليست ألغازا مستعصية، بل تتصل بلغز الحياة والكون نفسه، بحيث يمكننا أن نقول إنها ألغاز من النوع الذي لا يحتاج إلى حل أو الذي يجعل الشعر «سرا مكشوفا» على حد تعبير جوته في ديوانه الشرقي، وهو أقصى ما يمكن أن يصل إليه شاعر. إنه شعر ساطع البريق، خفيف حر، متألق لا تحتمل الكلمة فيه معنيين، جميل وصاف كحبات البلور. ولا يمنع هذا بالطبع أن يكون هذا الشعر عسيرا على الفهم؛ ربما لأنه يقذف بنا فجأة بعباراته المركزة الشديدة الإيجاز إلى قلب الوجود. وماذا نقول في قصيدة تتألف من كلمتين اثنتين، ويمكن أن تصبح حجرا يلقى في دوامة نفوسنا، فيهزها ويثيرها إلى آخر العمر؟ ماذا نقول في قصيدته المشهورة «صباح» التي تتكثف في هاتين الكلمتين: «استضئ باللانهاية»؟ التي حار كل المترجمين الأوروبيين في نقلها إلى لغاتهم، وحرت معهم كيف أنقلها إليك؟ هل نعبر عنها تعبيرا آخر فنقول: «نفسي تشرق باللامحدود» أم نقول: «يغمرني نور الكون الهائل»؟ إن هذا كله لا يغني ولا يفيد. فالمهم أننا نحس بالإحساس المفاجئ الذي أراد الشاعر أن ينقله إلينا، ونرتعش ارتعاش القطرة التي عانقت البحر. خذ أيضا هذه القصيدة بعنوان «أبدي»:
بين زهرة مقطوفة وأخرى مهداة
عدم لا يوصف.
أو هذه القصيدة «كون»:
من البحر
صنعت لي
نعشا من النضارة،
أو هذه «لعنة»: حبيسا بين أشياء فانية (كذلك ستفنى السماء ذات النجوم)
ما الذي يجعلني نهما إلى الله؟
ألا تحس فيها صرخة المخلوق حنينا إلى الخالق؟ ألا تشعر بالألم الفردي يتحول إلى ألم كوني عام؟ حتى القصائد القصيرة أو الطويلة التي نتصور أنها تصف الطبيعة نجدها تلمس المرئيات لمسا خفيفا، فترتعش أمامنا أو تشهق كالمولود الجديد أو كالمحتضر. هذه مثلا قصيدة «غروب»:
احمرار السماء
يوقظ واحات
لراعي الحب.
أو هذه الذكرى من أفريقيا:
الشمس تقهر المدينة،
العين لا ترى شيئا،
ولا القبور نفسها تقاوم طويلا.
أو «ليلة مايو» التي لا تزال، كقصائد كثيرة غيرها، تحمل انطباعات شبابه عن بلادنا:
السماء تضع
على رءوس المآذن
أكاليل نور.
أو «هذا المساء»: حاجز من الريح
كي يسند حزني
في هذا المساء.
ولا أحب أن أستسلم أكثر من هذا لإغراء الشعر، فتكفي هذه النماذج القصيرة للدلالة على أسلوب شاعرنا ودقته الرياضية في اختيار الألفاظ واكتفائه بأقل قدر ممكن من الكلمات التي تحمل أكبر طاقة ممكنة من المشاعر والمعاني. ولا نستطيع بالطبع أن نقول إنه شعر سهل. غير أن صعوبته لا تجيز لنا مع ذلك أن نصفه بالغموض؛ لأن الغموض يتصل كما قدمت بتشويش الفكرة، أو تشتت الإحساس أو تعقيد البنية اللغوية والنحوية أو غرابة المصطلح الجديد أو الخروج المتعمد على المألوف في ترتيب عناصر العبارة، وتسلسل الأفكار والأبيات في القصيدة الواحدة. •••
من العسير علينا أن نقدر مكانة أنجارتي في الأدب الإيطالي الحديث، واختلاف النظرة إليه بين المتحمسين له والساخطين عليه. ذلك أن النقد الأدبي في بلد من البلاد يرتبط بظواهر وظروف يصعب تقديرها في بلد آخر. فقد ننقل شاعرا أو أديبا أجنبيا إلى لغتنا ونقيسه بمقاييسنا، فنقبل عليه ونعجب به، ولكن من النادر أن نتبين حقيقة تيار أو حركة أدبية، وإذا حكمنا عليها فإن أحكامنا ستثير الدهشة عند أصحابها الأصليين أو قد تثير الضحك والرثاء - وما أشد ذهولنا حين نطلع مثلا على ما يكتبه الأجانب عن أدبائنا الكبار أو حين نلاحظ كيف يعجزون عن الإحساس بالجو الأدبي الذي نعيش فيه - ومع ذلك كله نستطيع أن نقول ونحن مطمئنون أن أنجارتي يعد عند فريق كبير من أهله أكبر شاعر بعد «جبرييل داننزيو». والجميع يتفقون على أنه خلص القصيدة في بلاده من أثقال البلاغة والزخرفة والتكلف. وكل من يقرأ له سيتذوق بنفسه نضارة شعره ورقته وعفويته، وسيتفق على أنه من هؤلاء الشعراء الملهمين الذين يصدق عليهم القول بأنهم أعادوا إلى الشعر بدائيته الأصيلة، وبراءته المفقودة، وطرقوا به أبواب السر العظيم.
لنكتف اليوم بهذا القدر عن أنجارتي إلى أن تيسر لنا المراجع الكافية لدراسته. ولنختم حديثنا عنه وعن ظاهرة الغموض بقولنا إنها تعبر أفضل تعبير عن إحدى مفارقات الشعر الحديث. فإذا كان الغموض هو «أوضح» ظاهرة في هذا الشعر، فإن هذا الغموض ينبغي أن يظل غموضا واضحا أو وضوحا يكسوه الغموض. وليصدقني القارئ، فأنا لا أتلاعب بالألفاظ. وإنما أريد ببساطة أن القصيدة الحديثة - عند شاعر جدير بهذا الاسم - أشبه بالبرق الخاطف، لا تضيء إلا لتخبو، ولا تخبو إلا لتضيء. وما دامت تكشف لنا في الحالين عن سرنا وسر الوجود أو تحاول الكشف عنه، وما دامت تطرح عنها أعباء مئات السنين من تكلف وبلاغة وطنطنة وقواعد وتقربنا منه، فهل يصح بعد ذلك أن نضيق بهذا الغموض الأصيل؟ وهل نطلب الكثير لو تمنيناه لشعرائنا الذين تعقد اللغة والوطن عليهم أكبر الآمال؟ (1968م)
أربع قصائد1
هذه أربع قصائد لأربعة من الشعراء المحدثين. أما القصائد، فستجد ترجمتها فيما بعد، وأرجو أن تغفر قصور هذه الترجمة وعجزها، ذلك أن ترجمة الشعر في كل اللغات أمر عسير مشكوك فيه، وهي في الشعر الحديث - الذي يهتم بجرس الكلمة وقيمتها الصوتية الموحية وعلاقتها بغيرها من الكلمات أكثر بكثير من اهتمامه بالمعنى والمضمون - تكاد أن تكون شيئا مستحيلا. أما الشعراء فهم جين الإسباني، وأنجارتي الإيطالي، وإلوار الفرنسي، وبن الألماني، وأستأذنك في تقديم نبذة موجزة عن حياتهم قبل تناول قصائدهم؛ إذ ليست السطور التالية إلا محاولة لإشراكك معي في قراءة هذه القصائد وتذوقها وتقديم تفسير يعين على إلقاء شعاع من الضوء على بناء الشعر الحديث.
والشعر الحديث بناء شامخ، يضل الإنسان في متاهاته المحيرة، أو بستان عجيب حافل بالزهور والأشواك، والحصى والجواهر، والسموم والوحوش أيضا إذا شئت، وهو في جملته بناء غريب شاذ، على أن نفهم هاتين الكلمتين بمعناهما الجمالي لا الأخلاقي. لقد نشأ في فرنسا لا في أي بلد آخر. أرسى دعائمه «بودلير» في كتاباته النظرية التي تأثر فيها بشاعر الرومانتيكية الألمانية نوفاليس، والكاتب الشاعر الأمريكي إدجار آلان بو. وظهرت ملاحمه الأساسية في بعض شعره. ثم أحكم هذا البناء شاعران عظيمان هما «رامبو» و«مالارميه» اللذان جعلا منه - كل على طريقته الصاخبة أو الهامسة - مغامرة فريدة في البحث عن المطلق أو عن العدم. ولا أحب أن أسترسل في هذا الكلام الذي قدمت لك طرفا منه في دراسة سابقة عن الشعر الحديث، وإنما أحب أن أقصر حديثي على القصائد الأربع التالية. ومع ذلك فقد يحسن أن أحدثك بإيجاز عن بعض عناصر هذا البناء الغريب الشاذ قبل الحديث عن القصائد، لتكون مصباحا صغيرا نهتدي به في تفسيرها.
فمن عناصر هذا البناء وضعه الخيال في مكان الواقع، وتأكيده لحطام العالم لا لوحدته، ومزجه بين عناصر متنافرة وناشزة، وتعمده الاضطراب والتشويه والتفتيت للواقع واللغة على السواء، وتأثيره السحري عن طريق الغموض والإلغاز وسحر اللغة المنبعث من رنين الكلمة وإشعاعاتها العديدة، وإغرابه لكل ما هو مألوف أو معتاد في مجال الفكر والواقع أو الزمان والمكان، وإيثاره للتفكير الرزين المحسوب الشبيه بالتفكير الرياضي، واستبعاده للعاطفية المسرفة، واطراحه لكل ما يسميه الفيلسوف الإسباني «أورتيجا إي جاسيت» بالنزعات البشرية، وتخلصه مما يسمى بشعر الإلهام أو الشعر المباشر، وطغيان المخيلة الخلاقة التي يسيرها العقل والوعي، وتدمير نظام الواقع والأنظمة المنطقية والانفعالية المألوفة، واستغلال الطاقات الموسيقية في اللغة إلى أقصى حد ممكن، والاعتماد على الإيحاء بدلا من الفهم، وإعلان القطيعة مع التراث الإنساني والأدبي والديني والتمرد المقصود عليه، وإحساس الشاعر بانتمائه إلى عصر حضاري متأخر، وشعوره بالتوحد والتفرد، وتكافؤ التعبير الشعري مع التأمل المستمر في هذا التعبير، أي تلازم الشعر وفن الشعر، وتعمد إذهال القارئ ومفاجأته وإدهاشه إلى حد الصدمة، والانسياق وراء المغامرة سواء في الشعر العقلي الخالص أو في شعر الأحلام وغياهب النفس غير الواعية بما يجدد اللغة ورموزها وصورها واستعاراتها ... إلى آخر هذه العناصر والعوامل السلبية في هذا البناء المعقد الذي يعكس وحدة الشاعر والفنان الحديث مع لغته وآلام عصره، لنبدأ الآن رحلتنا القصيرة في هذا «البستان الوحشي» بقصيدة لشاعر من إسبانيا. وخورخه جين من أكبر الشعراء الإسبان المعاصرين. ولد سنة 1893م في فالادوليد ودرس الأدب والفلسفة في مدريد وغرناطة. عاش من سنة 1909 إلى سنة 1911م في سويسرا، وقام بالتدريس في جامعة السوربون من سنة 1917 إلى سنة 1923م. حصل على الدكتوراه في سنة 1924م، وعين أستاذا للأدب في مورثيا، ثم في جامعتي أكسفورد وإشبيلية. وقد لجأ في سنة 1938م إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وتولى تدريس الأدب الإسباني في كلية وليسلي في ماساشوتس. ومبلغ علمي أنه يعيش منذ سنوات في مدينة فلورنسة في إيطاليا.
ويعد «جين» من أهم رواد الشعر الإسباني المعاصر، وأكبرهم أثرا على الجيل الجديد من الشعراء، كما يعد من أكبر ممثلي الشعر الخالص أو الشعر المحض. ظهرت مجموعته الشعرية «أنشودة» التي ضم فيها كل ما كتب من قصائد في حياته في أكثر من طبعة، وعلى أكثر من صورة، وأضاف إليها ونقح فيها عدة مرات. وقد تأثر تأثرا قويا بشعر «خيمينيث» و«مالارميه»، وترجم كثيرا عن الشعر الفرنسي وبخاصة «فاليري» و«كلوديل» و«سوبرفيي». وهو من أشد الشعراء المعاصرين التزاما بأوزان الشعر وبحوره التقليدية، وتعد مجموعته أنشودة كبيرة في تمجيد الحياة والإنسان، وكل من يقرأ شعره يلاحظ أنه يبدأ من أشياء واقعية محسوسة لا يلبث أن ينقيها ويرتفع بها إلى عالم شاعري خالص من كل آثار الواقع، لنقرأ معا قصيدته التي تقول:
1
باب
الباب موارب.
عمن يبحث هذا الضوء؟
الشفق سيال
يتلألأ عاجزا - لمن هذا الصمت؟ -
مكان مقفل.
صوت ينادي، لعله وعد
من المجهول. مشاعر.
لأي شمس مثل هذا الهدوء؟
ويظهر التحول،
يتجه في هواء
فارغ مقنع.
باطن. الجدران بلا شك
تخفي المجهول.
هنا؟ شجرة جوز، كأس.
صمت يعزل نفسه.
عادي، مهذب جدا؟
عطر وردة يومية
الباب مغلق: بعيدا.
هذا الضوء، أهو رسول؟
والآن: عين في عين ...
وأول ما نلاحظه على القصيدة أنها تضع مقطوعتين منها من الناحية البصرية البحتة في موضع جانبي، وكأنها تنبه إلى نوع من تغير الصوت أو النغمة في داخلها (ويسري هذا على المقطوعتين الثالثة والسادسة اللتين يضعهما الأصل على يسار باقي المقطوعات)، ومع هذا التنوع في طريقة الطبع أو الكتابة، فإن أسلوب الحديث واحد في كل أجزاء القصيدة، وهو شبيه بأسلوب هذا الشاعر في معظم أشعاره التي يغلب عليها الإيجاز الشديد، والميل إلى استخدام الجمل الاسمية. والقصيدة تتحدث عن درجات مختلفة من الضوء، ومكان يحده باب، وجدران تحد بدورها فضاء. وهي توشك أن تكون خالية من الإشارة إلى أي إنسان، اللهم إلا من إشارة عابرة ترد مرتين إلى «مجهول» (في البيتين الثامن والرابع عشر)، وإن كانت هذه الإشارة نفسها تؤيد إحساسنا بغياب العنصر الإنساني ولا تقلل منه. أضف إلى هذا أنها بعيدة كل البعد عن الواقع بعدها عن أي محاولة لنسخه من الخارج . وهي ترد موضوعاتها (كالمكان والنور ... إلخ إن صح أن فيها ما يمكن أن يوصف بأنه موضوع) إلى عناصر مفككة تظهر أو تختفي لغير سبب ظاهر. هذا التفكك بالإضافة إلى صيغة السؤال في الأبيات الستة المنتهية بعلامة استفهام، تجعل من الصعب علينا أن نصل إلى تفسير محدد لها، لا بل تكاد أن تجعل هذا التفكير مستحيلا.
والواقع أن صيغة السؤال المتكررة في القصيدة تساعد على البعد بها عن أي تحديد واضح؛ ولذلك فقد نستطيع أن نقول على سبيل التخمين إن القصيدة تتحدث على هذا النحو: «هناك باب موارب يغلق بعد فترة من الزمن، وضوء غامض ينفذ إليه أو يتسلل منه. ومن خلال الإحساسات والفراغ والسكون والعطر تطل شجرة، ويتحول القرب إلى بعد، وينشأ في هذا البعد قرب جديد، ربما يكون قرب إنسان كما في البيت الأخير.»
ومع ذلك فقد يكون الأمر على غير هذا، وقد يمكن أن نقول عكس ما قلناه عن موضوع القصيدة التي تشع كمعظم قصائد الشعر الحديث بإشعاعات عديدة ودلالات وأحاسيس وظلال مختلفة. والواقع أن هذه الفروض والاحتمالات هي التي تعطي للقصيدة طابعها المتميز. فهي لا تريد أن تتحدث عن موضوع معين بقدر ما تريد أن تشير وتوحي عن طريق اللغة دون أي تحديد لما تشير إليه هذه اللغة أو لما توحي به.
ومن يدري فقد يكون هدف الشاعر هو أن يخلق فينا هذا التوتر أو هذه الحيرة، وقد يكون هدف القصيدة أن تتحول إلى رفيف هامس يهتز ويهزنا معه بين إمكانات وإشعاعات مختلفة المعاني والمشاعر والظلال ... تتيح لكل منا أن يفسرها أو يحياها كما يشاء.
2
أما هذه القصيدة، فهي للشاعر الإيطالي جوسيبي أنجارتي الذي سبق أن حدثتك عنه، وتناولت ظاهرة الغموض في شعره، وفي الشعر الحديث بوجه عام.
ويعد شعر أنجارتي نقطة تحول في الشعر الإيطالي بوجه عام وإيذانا ببدء مرحلة جديدة بعيدة عن الخطابية الزائفة التي عرفت عند شاعر مثل «داننزيو» راح يمجد البطولة والقوة ويتغنى بالأساطير الغابرة، ويملأ شعره بالصور والكلمات الصارخة.
جاء شعر أنجارتي بنغمة جديدة هامسة لم تكد تجد في بلاده أذنا تصغي إليها. وكان بجمله القصيرة المركزة، وتخليه عن الأشكال والأوزان القديمة، وعكوفه على التأمل الهادئ بعيدا عن الأساطير والبطولات والأساليب البلاغية الطنانة، أشبه بواحد من أولئك الرهبان الفرنسسكانيين الذين يكرسون حياتهم للتعبير عن معجزة الوجود وعذابه ...
وقد أثار شعر أنجارتي في البداية موجة من الغضب والسخط، وأنشئت مجلات أدبية للهجوم عليه، واتهمه النقاد بالغموض، لا بل نصبوه زعيما لممارسة الغموض والألغاز (الهرمتزم) التي كانت رد فعل لرومانتيكية القرن التاسع عشر، وكل مساوئها في السياسة والفلسفة والإغراق في النزعة الخطابية والبلاغية.
إن شعراء الغموض - إذا صحت هذه التسمية - وعلى رأسهم أنجارتي، يبحثون عن جوهر الشعر نفسه، بالنغمة الهادئة الهامسة، واللغة المركزة الكثيفة. والصور والإشارات والاستعارات الغريبة الناشزة والنبرة المحايدة الأمينة التي تبرز ألم الفرد بعيدا عن الذاتية والعاطفية، إلى حد يصل إلى اطراح النزعات البشرية - كما طالب بذلك الفيلسوف الإسباني أورتيجا إي جاسيت في مقاله الذي أشرت إليه أكثر من مرة
2 - وهم يتميزون إلى جانب هذا كله بلغتهم الصافية الساحرة التي قد تبلغ بالقارئ درجة اليأس من فهم أي معنى على الإطلاق. ولا عجب في هذا إذا عرفنا أن الشعر الحديث في مجموعه يهدف كما قلت إلى الإيحاء لا الفهم، ويعنى بجرس الكلمة ونغمها أكثر بكثير من عنايته بالمضمون، ولكن لنقرأ معا قصيدة أنجارتي نفسها، ونحاول أن نجربها بدلا من الاسترسال في أفكار نظرية قد تقف حائلا بيننا وبينها. وعنوان القصيدة «شعب». وقد كتبها الشاعر في أواخر الحرب العالمية الأولى أو بعدها بقليل:
شعب
فر قطيع النخيل الوحيد
والقمر
اللامتناهي فوق ليال جديبة،
الليل الأسحم
سلحفاة في حداد
تتحسس
لا لون يدوم
اللؤلؤة السكرى بالشك (بدأت) تنبه الفجر،
وعند قدميه السريعتين
تثير الوهج
ها هي ذي تدوي
صيحات ريح شابة،
خلايا النحل تنشأ في جبال
الأبواق الضالة
ارجعي أيتها المرايا القديمة،
يا خطوط الماء الخفية
بينما الآن
و...
براعم مرتفعات الثلج المقطوفة
تحيط بالصورة التي تعود عليها آبائي،
تصطف الأشرعة
في الهدوء الصافي،
آه يا وطني، كل فصولك
صحت في دمي
تتقدم آمنا وتغني
فوق بحر جشع. (1919م)
عنوان هذه القصيدة يتصل بموضوعها، وهو الوطن الذي يذكره البيت الرابع والعشرون. ومع ذلك فإن هذه الصلة شيء نرجحه، ولا نستطيع أن نقطع به. فإذا شئنا أن نتمسك بها أمكننا أن نقول إن القصيدة تصور فيما يبدو رجوع الشاعر من الشرق الأدنى (وبالتحديد من مسقط رأسه بالإسكندرية) إلى وطنه. وقد يؤيد هذا الظن أنها تبدأ البيت الأول منها بفعل ماض «فر»، ثم لا تلبث أن تتحول عنه في سائر أبياتها إلى الفعل المضارع. وقد تؤيده أيضا من ناحية المضمون مثل هذه العبارات: قطيع النخيل الوحيد (البيت الأول) ارجعي (البيت السادس عشر)، آبائي (البيت الحادي والعشرون). ولكن المؤكد على كل حال أن القصيدة تتجنب التحديد المادي وتعمد إلى الإيحاء الذي يثير في الخيال مختلف الفروض والاحتمالات. ولهذا فمن العبث أن نحاول الاهتداء فيها بمكان أو شيء محدد. أما الأحداث الزمنية، فهي على العكس من ذلك واضحة يسهل التعرف عليها في درجات الضوء المختلفة. وإذا قرأنا القصيدة في أصلها الإيطالي لاحظنا أنها تخلو تماما من التنقيط، ولو قرأناها بصوت مرتفع لوجدنا أنها تتكون من مجموعة من الجمل القصيرة، لا يستثنى من ذلك إلا المقطوعة الثامنة منها (من البيت 18 إلى البيت 23).
ربما كان أروع ما في القصيدة هو استعاراتها الغنية. وتختلف نماذج هذه الاستعارات التي تلجأ إلى الصفة مرة (كما في البيت الخامس حين تصف السلحفاة بأنها في حداد)، ومرة أخرى إلى الإضافة (كما في البيت الأول والبيتين الثامن والعشرين). وقد تكون استعارة مطلقة (كما في البيتين الرابع عشر والخامس عشر)، حيث لا يشير طرفا الاستعارة إلى أشياء محددة (خلايا النحل وجبال الأبواق الضالة). والمهم أن الاستعارات تشترك جميعا في شمول الصور التي تعبر عنها، بحيث تبلغ أقصاها في البيتين الرابع والخامس، والبيتين الرابع عشر والخامس عشر. وربما أراد الشاعر إلغاء الفرق بين الكلام المجازي والكلام العادي وأحداث الغرابة والشذوذ من ناحيتي الصوت وبناء العبارة عن طريق التأليف بين كلمات لا تأتلف بطبيعتها، ولكن على الرغم من كل ما في القصيدة من غموض وإلغاز اشتهر بهما الشاعر، فإن فيها حركة توحد بين أجزائها المتفرقة، فهي تبدأ بقطيع النخيل الليلي الهارب، ثم تصف الليل نفسه إلى أن تتكشف شيئا فشيئا، حين تتكلم عن لؤلؤة الشك السكرى (أو ضوء الفجر الذي لا يتأكد بعد)، وعن ريح الصباح، حتى تنتهي إلى الحديث صراحة عن الهدوء الناصع (في البيت الثالث والعشرين)، وعن اليقظة والصحو النهائي (في البيت الخامس والعشرين). وتبلغ الحركة ذروتها في الفضاء المنتصر فوق بحر العواطف المضطربة (وهو البحر الجشع في البيتين الأخيرين).
وهكذا تؤيد القصيدة قضية تنطبق على الشعر الغربي الحديث في مجموعه، وهي أن هذا الشعر يفسر بحركته اللغوية والفكرية لا بألفاظه أو معانيه.
3
ونأتي إلى هذه القصيدة لبول إلوار (1895-1952م)، ولا شك أنك تعرف الكثير عنه، ولا شك أيضا أنك قرأت بعض أشعاره. ومع ذلك فأرجو أن تأذن لي بتقديم هذه الحقائق البسيطة عن حياته وأعماله. فقد ولد في سان دنيس وهي إحدى ضواحي باريس. كان أبوه موظفا في مكتبة، وكانت أمه تشتغل بالخياطة. اشترك في الحرب العالمية الأولى، وأصيب بتسمم خطير من الغازات السامة. أصدر كتابه «الواجب والقلق» في سنة 1917م، وعبر في قصائد للسلام (1918م) عن كراهيته للحرب وجمود المجتمع البرجوازي. انضم إلوار بعد نهاية الحرب إلى جماعة الداديين والسرياليين، وشارك في حركتهما الأدبية مشاركة فعالة، وكتب مجموعة من القصائد التي تحمل سخطه على الظلم الاجتماعي وغضبه من عدم الاكتراث بشقاء الإنسان. سافر في سنة 1924م في رحلة إلى شرق آسيا، أصدر بعدها مجموعة من أجمل قصائد الحب التي كتبها، «عاصمة الألم سنة 1926م» و«الحب، الشعر سنة 1929م». اشترك في المؤتمر الدولي الثاني للكتاب الثوريين الذي انعقد في خاركوف سنة 1930م، ووصل إلى ذروة إنتاجه في كتاب «الحياة المباشرة» (1932م).
انتقل إلوار تحت تأثير الحرب الأهلية الإسبانية من التمرد الفردي إلى الإيمان بضرورة الكفاح المشترك، وقطع صلته نهائيا بالسرياليين في سنة 1938م. واشترك في الحرب العالمية الثانية وعبر عن احتجاجه عليها في «الكتاب المفتوح 1940، 1942م» كما اشترك في حركة المقاومة السرية للاحتلال النازي لبلاده، وكان له دور كبير فيها. وقد انضم للحزب الشيوعي الفرنسي في سنة 1942م، وظل عضوا فيه حتى وفاته في سنة 1952م، وأثرت قصائده التي كتبها في ظل الاحتلال أبلغ الأثر على الشعب الفرنسي، وأثبتت أن الشعر يمكن أن يكون عونا على الفعل، وسلاحا من أهم الأسلحة التي تحرر وجدان الإنسان وأرضه. ومن أهم هذه القصائد قصيدته المشهورة «الحرية» التي نشرت في ديوانه الشعر والحقيقة (1942م)، وسبع قصائد حب في الحرب (1943م)، وموعد مع الألمان (1947م)، وكلها تعبر - على الرغم من صعوبة بنائها وشدة تركيزها وغرابة صورها واستعاراتها - عن حب وتعاطف غير محدود مع البشر، وحرص على حياتهم وشرفهم وسعادتهم التي كافح طوال حياته في سبيلها.
لنقرأ الآن القصيدة التي اخترتها لك من شعره، ولنحاول بعد ذلك أن ننظر فيها كما فعلنا مع القصيدتين السابقتين (وأرجو أن تلاحظ أن الكلمات الموضوعة بين قوسين في هذا النص وفي غيره زيادة مني لتيسير قراءته):
لغة الألوان،
أعرفك يا ألوان الرجال والنساء،
زهور نضرة، ثمار عطنة، هالات منثورة،
موشورات موسيقية، (كتل) ضباب أبناء الليل،
ألوان، وكل ما يفتح عيني مضيء،
ألوان، وكل ما يدفعني للبكاء كئيب،
ألوان العافية، الرغبة، الخوف،
وعذوبة الحب تضمن المستقبل،
ألوان جريمة وجنون وتمرد وشجاعة،
والضحك في كل مكان يعري السعادة،
وأحيانا العقل الذي يبصقنا كأغبياء،
ودائما العقل الذي يعيد خلقنا عظماء،
خفق الدم على كل دروب العالم،
ألوان ليحفر اليأس الليل (كما يشاء)،
ولتسود الألغاز المؤرقين حتى العظام،
فالأحلام تشرق بالجمال والخير.
إن يقم الشتاء في ركن من قلبي،
ففي (الركن) الآخر أرى بوضوح، وأرجو «وأبتهج»
بالألوان،
أعكس أخصب جسدا سوف يدوم،
أكافح، أسكر بالكفاح من أجل الحياة،
في نصاعة الآخرين أشيد انتصاري. (1949م)
تتكون هذه القصيدة في الأصل من عشرين بيتا غير مقفى من البحر السكندري. وتقابلنا فيها مجموعة من الأشكال الصوتية أو النغمية كترداد الحرف الأول في بعض الكلمات المتتالية في البيتين الأول والثاني، والقافية العارضة في البيتين السادس والتاسع، والقافية الداخلية والمقطع المتشابه في كلمتين متفقتي النهاية. وهذه الأشكال الصوتية التي تظهر على نحو عرضي شاذ، هي التي تعطي للقصيدة طابعها المميز، أضف إلى هذا أن المقطوعة الأخيرة من القصيدة تتميز بالتكرار المتعمد للحرف الصوتي «أي» في كلماتها، بحيث يعبر عن نوع من التصاعد المستمر في الأفكار والمعاني التي تتضمنها.
وتتميز القصيدة إلى جانب هذا بالغموض في بناء عباراتها أو على الأقل بغرابته وندرته. إنها تبدأ البيت الأول بنداء المخاطب الجمع «انظر البيت الأول الهامش»، «أعرفك يا ألوان ... إلخ»، ولكن من الصعب أن نقرر إن كانت الأبيات التالية تحتوي على مثل هذا النداء، أو على أية تسمية أخرى، اللهم إلا في المقطوعة الأخيرة التي تتخلى جملها القصيرة عن أسلوب استخدام الأسماء المتبع في المقطوعات الثلاث السابقة، وهذا الأسلوب يتحاشى الترابط المألوف في بناء الجمل، بحيث نتشكك في وجوده في كل مرة نظن أننا تعرفنا عليه. هل هناك مثلا علاقة إضافة تجمع بين «جريمة وجنون» في البيت الثامن، وبين «ألوان العافية ... إلخ» في البيت السادس أم أنها تركيبات مستقلة بنفسها؟ وهل يتصل البيت الرابع عشر «لتسود الألغاز المؤرقين حتى العظام» بالبيت السابق عليه مباشرة، بحيث يمكن أن يسري عليه ما أضفناه إليه على سبيل التوضيح، فنفهمه مثلا على هذا النحو «لتسود الألغاز كما تشاء ... إلخ» أم أن المصدر الأصلي فيه قائم بذاته؟
أسئلة كثيرة كما ترى، لا يبدو أننا سنصل فيها إلى جواب أخير. ومع ذلك فإن القصيدة لا تخرج عن هذا الغموض المقصود في بناء عباراتها إلا في المقطوعة الأخيرة التي تتميز بعباراتها الواضحة، وحركتها الصاعدة الظافرة التي لا تخطئها الأذن ولا الفهم.
وأعجب ما في القصيدة أنها تتحدث عن الألوان، ولكن معظم الأشياء أو الأحداث التي تلمسها خالية من الألوان التي نعرفها في الطبيعة. فهناك الأزهار، والموشورات. وهناك الليل والسواد، والنصاعة والوضوح. والبيت الوحيد الذي يسمى لونا محددا (وهو اللون البني الغامق الذي يعبر عادة عن القتامة والكآبة) هو البيت الخامس الذي ترد فيه كلمة «كئيب»، ولعل جسارة القصيدة أن تكون كامنة في إضفائها اللون على مجالات فكرية وتصورية لا لون لها، مستعينة في هذا بكلمة ألوان المجردة التي تتكرر ست مرات في القصيدة، وتؤثر في الحقيقة تأثيرا صوتيا لا بصريا. وهكذا نجد أنفسنا أمام مجموعة من الكائنات والأفكار التي اكتسب كل منها لونا مع أنها بطبيعتها بلا لون، كالرجال والنساء والعافية والخوف والجريمة والجنون واليأس ... وهكذا تتحرر القصيدة أيضا من النظام الطبيعي للأشياء، وتتحرك حركة حرة بين عالم الإنسان وعالم الألوان، أو عالم «التلون» إن شئنا البعد عن التحديد. وفي ظل هذه العلاقة الحرة بين العالمين يتم الصعود المنتصر الظافر الذي تعبر عنه المقطوعة الأخيرة؛ إذ تنتقل قيمة اللون إلى النصاعة والصفاء، تؤيدها في ذلك الأصوات المتحركة التي أشرت إليها، والوضوح النسبي في تركيب العبارات. وأخيرا فإن أية محاولة لتذوق القصيدة، ينبغي أن تبتعد عن تفسير أبياتها، كل على حدة، كما ينبغي أن تنتبه لقيمة الكلمات والعلاقات التي تربط بينها، أما المعنى الكلي فهو في هذه العلاقات نفسها، وفي موكب التصاعد المستمر نحو النور والصفاء.
4
وأخيرا نصل إلى قصيدة للشاعر الألماني جوتفريد بن (1886-1956م)، وهو من أكبر شعراء بلاده وأعظمهم أثرا على الجيل الجديد من أدبائها، وإن لم يعرف للأسف معرفة كافية خارج حدودها ... ولد في مانسفلد (منطقة فستبريجنتس) ومات في برلين. كان أبوه قسيسا، ودرس الأدب واللاهوت في جامعة ماربورج، ثم تحول إلى دراسة الطب في برلين وعمل طبيبا عسكريا في الحربين العالميتين، ومارس علاج الأمراض الجلدية والتناسلية منذ سنة 1918م في عيادته بمدينة برلين.
رحب «بن» بالنظام النازي في بداية عهده، وظن أنه سيخلص العالم الغربي من العدمية والركود الروحي، فلما اكتشف خطأه الرهيب لزم الصمت ابتداء من سنة 1936م، وطرده النظام أيضا من اتحاد كتابه، وشهر بأعماله «المنحلة». وعاد إلى النشر في سنة 1948م، وكتب القصيدة والقصة والمقالة والمسرحية، وتميز بأسلوبه الغريب الذي يزخر بالمصطلحات الطبية والعلمية والفلسفية، ونظرته العدمية الصريحة، واهتمامه البالغ بالشكل. وقد بدأ «بن» متأثرا بالمدرسة التعبيرية، وراح يسجل بأسلوب تهكمي بارد، ولغة قوية متفجرة مشاهد المرض والفساد في الحضارة الغربية الحديثة، ويكشف بمبضع الجراح وموضوعية العالم وبروده مظاهر الانهيار المختفية وراء قناع التمدن والتقدم. ومع ذلك فإن شغفه بالصور الوحشية المقززة عن الأمراض والأورام والقرح والجثث والمشارح ينطوي على حنين رومانتيكي إلى البراءة والنقاء اللذين راح يلتمسهما في الشكل الفني الناضج التام والصور والرموز الأسطورية القديمة التي يضعها إلى جانب أحدث المصطلحات العلمية، فيشع من قصائده وهج شعري يخطف العين بقدر ما يلسع القلب. وقد استطاع في أواخر حياته أن يتغلب على نزعته العدمية المغرقة في التشاؤم، وأن ينصرف عن أسلوبه المتهكم المرير عن طريق الكلمة الساحرة والروح الغنائية والتشكيل الكامل، ولعله قد نجح في رأي بعض النقاد في إيجاد نوع من «العدمية الخلاقة» التي تحاول عن طريق الشكل الفني كما قدمت أن تعلن مقتها لكل الأيديولوجيات، وتوجد معنى لعالم خلا في رأيه من المعنى ومن عناية السماء.
3
وإليك هذه القصيدة التي كتبها في سنة 1930م: «دائما أشد صمتا»
أنت في الممالك الأخيرة،
أنت في النور الأخير،
إن لم يكن نورا
في الوجه الشاحب المحملق،
هناك الدموع دموعك،
هناك تتعرين من نفسك،
هناك الإله الواحد،
الذي يخلص من كل عذاب.
من بين أزمنة لا تسمى
حطمك واحد منها،
نداءات، أغان تصحبك
تسمع فوق الماء،
ظلال أشجار استوائية،
غابات من عمق البحر،
أماكن نشوى بالرعب
ندفعها إلى هنا
قديما كان شوقك،
قديمة كانت الشمس وكان الليل،
كل شيء: الأحلام والأحزان
تبددت في التيه،
دائما أكثر انتهاء، دائما أكثر صفاء
تطوى في الأبعاد،
دائما أكثر صمتا، لا أحد ينتظر،
ولا أحد ينادي.
إذا كان من الصعب أن نفسر قصيدة من الشعر الحديث بالاعتماد على ترجمتها، فإن هذه الصعوبة تزداد في هذه القصيدة التي نحس عند قراءتها وسماع كلماتها الأصلية بأنها قصيدة غنائية بكل معنى الكلمة. وتزداد هذه الصعوبة أيضا إذا عرفنا أنها تحافظ في الأصل على الوزن والقافية اللتين تقضي عليهما بالطبع أية ترجمة.
إن الروح الغنائية تغلب على القصيدة؛ ولذلك يأتي السؤال عن معناها في المقام الثاني. والواقع أن المعنى يحوطه الغموض من جهات عديدة. فبناء العبارة يميل إلى الاختزال الشديد، ولكن ماذا تختزل؟
إذا نظرنا في البيتين الأولين وجدنا حرف الجر «في» (وهو في الأصل يدل على الاتجاه؛ إذ يتبعه المفعول به)، ولكن لم نجد الفعل المتصل به. والبيتان الثالث والرابع في صيغة الشرط، ومع هذا فإننا نبحث عبثا عن جواب هذا الشرط، فلا نجد إلا «هناك».
وإذا نظرنا في المقطوعة الثانية، وجدنا فعلين في البيتين الثاني عشر والسادس عشر، وتعذر علينا أن نهتدي إلى الفاعل. فمن هو الذي يسمع النداءات والأغاني؟ ومن الذي يدفع وماذا يدفعه؟ أهي الأغنيات أم الغابات؟ حتى إذا بلغنا المقطوعة الثالثة تملكتنا الحيرة أمام البيت السابع عشر (قديما كان شوقك). فهل فيه مقارنة أو تماثل كأن تقول مثلا الشوق كان قديما قدم الشمس والليل؟ أم أنها مجموعة مستقلة من الكلمات لا تشترك مع البيت السابق عليها إلا في صفة القدم؟
ونأتي إلى البيت الحادي والعشرين (دائما أكثر انتهاء، دائما أكثر صفاء)، فنعجز عن العثور على الفاعل الذي يحدث هذا كله أو يحدث له. ولا شك أن هذا الاختزال في بناء العبارة، والإيجاز الشديد فيها، وافتقاد الصلة المباشرة بين الكلمات المختلفة تزيد من حيرتنا في تفسير القصيدة تفسيرا محددا، ولكن هل نخرج منها مع ذلك صفر اليدين؟
لا يمكننا أن ننتهي إلى هذه النتيجة. فلا شك أن قراءة القصيدة، حتى في هذه الترجمة القاصرة، تبعث في نفوسنا الإحساس العميق بالألم والمرارة. والعنوان وحده - وهو مأخوذ من البيت قبل الأخير - يثير فينا هذا الإحساس. وتكرار كلمة الأخيرة في البيتين الأولين، والنهاية التي تغلق الباب أمام كل أمل، ونغمة الحزن والفقد الشائعة في القصيدة كلها تؤكده وتزيده عمقا ونفاذا. ومع ذلك فإن سبب هذا الحزن وهذه المرارة غير معروف. إن الشاعر لا يحدده ولا يسميه، بل يضفيه على الأحداث والأفكار. وهذه الأحداث والأفكار تزيد فيها قيمة النغم والإيحاء على قيمة المعنى والمضمون. أي إنها تنغم وتوحي أكثر مما تفهم أو تفيد. ثم إن هذه الأفكار والأحداث المتفرقة معزولة عن بعضها البعض، ولو حاولنا أن ننظر إليها كأحداث موضوعية لما وجدنا هناك صلة تجمع بينها. ولا يقتصر الأمر على غموض العلاقات التي تربط بينها، بل إن هناك إمكانات متعددة في بناء الجمل والعبارات. ولا يملك القارئ إلا أن يسأل نفسه: لماذا يتحدث الشاعر في بداية القصيدة عن الإله الذي يخلص من كل عذاب، ثم يتحدث في نهايتها عن الوحدة الصامتة أو الصمت الوحيد؟ ألم يكن العكس هو الأولى؟
ليس لهذا من تفسير إلا القول بأنه يتخلى عن المسار الطبيعي والنظام المنطقي المألوف، وإن هذا هو الأسلوب المتبع عند معظم الشعراء المحدثين منذ أيام بودلير ورامبو ومالارميه، وعند هذا الشاعر الذي نتناوله بوجه خاص.
ويسأل القارئ نفسه: من أين يأتي الزمن الذي يحطم؟ ولماذا يحطم الزمن بالذات؟ (البيت العاشر). هل تفهم الأبعاد (في البيت الثاني والعشرين) بمعناها الاستعاري أم بمعناها اللفظي؟ وأخيرا من هي (أو من هو) التي تخاطبها القصيدة بأنت؟ أهي أنا تخاطب نفسها أم هي أنت أخرى يخاطبها الشاعر؟ هل القصيدة مونولوج أم ديالوج؟ ومن الذي تبدد بفكره في التيه؟ (البيت العشرون) أهي الأحلام والأحزان أم هي الأنا أم الأنت؟
على أن غموض القصيدة وعدم تحددها لا يمكن مع ذلك أن يؤدي إلى القول بأنها خالية من المعنى أو الإحساس. فنحن لا نخطئ فيها الشعور بالألم والوحدة والفراق، وهو شعور كامن في نغمتها العامة وبحرها القصير وقوافيها المتكررة. أما أسلوبها الموجز الذي يلجأ للحذف والاختزال في بناء العبارة، فهو لا يبعدها فحسب عن أسلوب الكلام والإحساس العادي، بل ينقلها إلى بيئة لغوية ونفسية خاصة بها، تنفرد فيها بنفسها وترفض الخروج منها. ولعل هذه البيئة هي مملكة المنفى التي يلجأ إليها الشاعر وحيدا مع لغته وعذابه وصمته وعزلته المخيفة في الكون. والشاعر الحديث دائما وحيد مع لغته، فهي ملاذه وملجؤه وموطن ألعابه ومغامراته وتجاربه التي لا تهدأ ولا تنتهي.
تلك خواطر عن تفسير عدد من قصائد الشعر الحديث، اهتديت فيها بالكتاب القيم «بناء الشعر الحديث»، الذي وضعه عالم كبير في اللغات الرومانية هو الأستاذ «هوجو فريدريش»، وصدرت طبعته الثانية في العام الماضي. ومن أسف أن هذه السطور تنقل إليك رسم الكلمات المطبوعة، ولا تستطيع أن تنقل أصواتها وأنغامها، ومن أسف أيضا أنني لا أملك أن أقدم لك النصوص في لغتها الأصلية؛ لأن العرف لم يجر بهذا في مجلاتنا أو في كتبنا، ولأنني لا أحب كذلك أن أثقل عليك، ولا أرى من الخير أن يملأ الكتاب مقالاتهم بالكلمات الأجنبية. لقد حاولت أن أقدم لك زادا متواضعا أرجو أن يعينك على تذوق الشعر الحديث كلما واجهك بغموضه وتعقيده وألغازه. ولقد أشرت إلى الطريق وحسب. أما الطريق نفسه، فعليك أن تسير فيه وحدك، وتكتشف مسالكه ودروبه بنفسك. (1970م)
ذات ليلة ... في الزمان
قصائد للشاعرة جيزيلا كرافت
عرفت هذه الشاعرة قبل ثلاث سنوات. كنا - أخي الأديب القاص يوسف الشاروني وأنا - قد دعينا إلى مدينة برلين في إطار برنامج يدعى إليه أدباء من أنحاء العالم، ويسمونه برنامج الفنانين (نوع من أنواع السياحة والدعاية الراقية، ليتنا ننتبه إليه ونأخذ به!) كان هذا تشريفا وتكريما للأدباء العرب في أشخاصنا؛ إذ كانت تلك هي المرة الأولى التي يستضيف فيها البرنامج أحدا من أبناء البلاد العربية. وحاولنا جهد طاقتنا أن نترك وراءنا انطباعا يشجع الهيئة المضيفة على دعوة غيرنا من الإخوة والزملاء. وكان كل المطلوب منا أن نقرأ بعض قصصنا على الجمهور المثقف في إحدى قاعات الأكاديمية، وقد تم هذا قبل مغادرتنا للمدينة بأيام قليلة. أما فيما عدا ذلك، فقد تركت لنا حرية الحركة في مؤسسات المدينة ومسارحها ومتاحفها وندوات الأدب والفن فيها. وكان من الطبيعي أن يعاودني الحنين للجامعة التي درست بها قبل ذلك بحوالي خمسة عشر عاما، وأن أسقي شجرة الحب التي غرسها في قلبي أحد أساتذتها الذي أصبح يتولى رئاسة المعهد الإسلامي بها. وشاء الأستاذ الكريم،
1
أن يمد ظلال رعايته التي طالما غمرني بها، فدعانا لإقامة قاعة بحث عن تطور شكل القصة العربية منذ عهد المقامة والمقالة القصصية، حتى نضوج القصة القصيرة عند أعلامها المعاصرين.
في هذه القاعة رأيت الشاعرة لأول مرة: شقراء، طويلة جدا، تجاوزت الأربعين بقليل، صامتة ضيقة العينين، تنبعث منهما شيخوخة لا تناسب عمرها، وبرود وسكون لا نلحظهما إلا في عيون الجلادين والحكماء! وتعرفت عليها بعد ذلك فعلمت المزيد. فهي تقوم بتدريس اللغة التركية في قسم اللغات الشرقية بالجامعة، كما نشرت العديد من قصائدها في المجلات الأدبية، وإن كان ديوانها الأول لا يزال تحت الطبع. لقد ولدت سنة 1936م في برلين، ولا زالت تعيش بها، وحصلت على الدكتوراه في الأدب التركي الحديث برسالة عن خلق العالم ورموز الحيوان عند الشاعر فاضل حسنود أغلاركا، ونقلت إلى لغتها عددا من الآثار الأدبية التركية: قصائد للشاعر أراس أورن بعنوان «منفى خاص»، وقصائد أخرى لنفس الشاعر بعنوان: «ألمانيا، حكاية تركية»، وملحمة شعرية «لناظم حكمت» هي ملحمة الشيخ بدر الدين. أضف إلى هذا مسرحية للهواة نشرتها سنة 1977م بعنوان «عبور القديس فرانشكو» بجانب مشاركتها في الحياة الأدبية في مدينتها، وشرف عضوية إحدى الأكاديميات العلمية التي لم أعد أذكرها! ودعتنا ذات ليلة إلى مسكنها للتعرف على أصدقائها وزملائها من أدباء الشباب. وأتيح لنا في هذه الليلة أن نلمس حب القلوب الشاعرة، ونسمع قصائد القلق والشوق، ونطلع على حكايات الشباب الفخور بحريته المطلقة، ونحس سعادته بها وإشفاقه منها، ونقرأ في النهاية قصتين لنا، ونلمح أثر الخشوع والتعاطف اللذين ارتسما على وجوه المتلقين وفي عيونهم. ثم شاءت الصدفة أن أسمع في الخريف الماضي بوجودها في القاهرة، ولم يتسع وقتي للقائها أكثر من مرتين مع بعض الأصدقاء من الأدباء والشعراء، وتكرمت بإهدائي ديوانها، الذي صدر أخيرا بعنوان «ذات ليلة، في الزمان» (لاحظت فرحة الكتاب الأول في لمعان عينيها الضيقتين الطيبتين) قرأت علينا بعض القصائد، وتولينا - صديقي الدكتور عوني عبد الرءوف وأنا - نقل معانيها للحاضرين نقلا يؤكد صدق العبارة المأثورة: «أيها المترجم، أيها الخائن!» وأحسست منذ ذلك الحين أن شوكة «الأميرة المينوية الصغيرة» (وهي القصيدة التي ستقرؤها بعد قليل) قد انغرست في قلبي، وأن حوار الدرويش والقطة في كوة حائط بيزنطي بإحدى المدن التركية التي لا أعرفها يلاحقني حتى باب مسكني، ويتسلل رغما عني إلى فراش نومي، قلبت صفحات الديوان قبل أن أنام، ولمس قلبي الإهداء الذي كتبته عليه، واقتبسته من أبيات للشاعر الصوفي «إنجيلوس سيلزيوس»: «عليك أن تصبح شمسا، أن ترسم بأشعتك بحر الألوهية الخالي من الألوان». ويبدو أنني في تلك اللحظة بدأت أتراجع عن قراري بالتوبة عن الخيانة المحتومة، أي عن ترجمة الشعر، فقد تسللت قوة خفية - في ليل صنعاء الطويل الهادئ - لتحرك يدي لنقل بعض قصائد هذه الشاعرة، وها هي الآن تدعوك لقراءتها، وها أنا ذا أمهد بمقدمة من تلك المقدمات التي يحس الإنسان دائما - تجاه أعمال الفن التي يجب أن نتركها تتحدث بنفسها - أنها ضرورية، وأنها في نفس الوقت سطحية ولا داعي لها. •••
نشأت معظم قصائد هذه المجموعة أثناء زيارة قامت بها الشاعرة في خريف سنة 1978م لجزيرة كريت. ويبدو أن وقوفها على أطلالها وحفائرها وآثارها قد حرك فيها مختلف المشاعر والأفكار التي حاولت أن تعبر عنها في صورة حية ملموسة للعين والوجدان. ومع أن معرفة التاريخ - أو بالأحرى ما قبل التاريخ - لا يلزم بالضرورة لتذوق الشعر - لأنه كما علمنا المعلم الأول يتجاوز التاريخ ويسمو عليه - فلا بد من كلمة سريعة عن «الجو» التاريخي الذي نمت براعم الشعر على أرضه، ولا بد من الإلمام ببعض الحقائق التي تقربنا من روحه، وتعرفنا ببعض الأماكن والأسماء الواردة فيه. وأهم هذه الأسماء هو اسم الملك الخرافي «مينوس» الذي حكم جزيرة كريت في عصر يبدو ألا وجود له إلا في ذاكرة الأساطير، فهي تروي عنه أنه ابن «زيوس» عظيم الآلهة من زوجته أوروبا، وأنه طرد شقيقه «ساربيدن» بمساعدة رب البحار «بوزيدون»، واستولى على عرش كريت، وامتد سلطانه من جزيرة كنوسوس إلى جزر البحر الإيجي، كما يؤكد المؤرخ الإغريقي «توكيد يديس» (441) أنه عمر هذه الجزر، وطهر البحر من القراصنة. وتذكر أوديسة هوميروس (النشيد التاسع عشر، البيتان 178-179) أنه أقر القوانين الحكيمة العادلة، وأن الناس هابوه لصداقته لزيوس نفسه. وتروي عنه الأساطير أيضا أنه تزوج سيفايا ابنة الشمس التي ولدت له أندروجيوس وأريادنه وفيدرا، وأن أرباب الأوليمب عاقبوه؛ لرفضه التضحية بثور معين، وأن زوجته وقعت في غرام هذا الثور، وأنجبت منه الوحش الخرافي «المينوتا توروس» (ثور مينوس)، الذي يعد من أشهر شخصيات الأساطير الإغريقية! وتزعم هذه الأساطير وبعض النصوص الدرامية الأثينية أن مينوس فرض على أهل أثينا بعد احتلالها تقديم أطفالهم طعاما للوحش، حتى خلصهم منه البطل «ثيسيوس» وحكاية أريادنة، والخيط الذي مدته لهذا البطل لكي لا يضل طريق الدخول والعودة من المتاهة التي هبط إليها لقتل الوحش أشهر من أن تذكر، وقد كانت ولا تزال موضوع الإبداع الفني والأدبي والمسرحي والأوبرالي. وأخيرا فقد جعلت منه الحكايات والخرافات أحد قضاة الأموات في العالم السفلي «هاديس». ولعل التاريخ الموغل في القدم لهذا الملك الأسطوري هو الذي دفع بعض المؤرخين على الربط بينه وبين الدين والطقوس برباط وثيق (كما فعل ديودوروس الصقلي في تاريخه 8745)، ولكن بعض الباحثين يرجحون على ضوء الحفريات التي تمت في كريت وزارتها الشاعرة التي تتحدث عنها أن مينوس كان مجرد اسم ملكي على حكام العصر البرونزي الذين تتابعوا على الجزيرة، وبذلك اختلفت الروايات المأثورة عنه، ولكنها تؤكد على كل حال أن كريت كانت فيما قبل التاريخ (أي حوالي سنة 2500 قبل الميلاد) قوة بحرية تهابها سائر بلاد الإغريق، والهيبة كما يعلم القارئ لا تخلو من الحسد والحقد! أما «كنوسوس» التي تذكرها القصائد التالية فقد كانت أهم مدن جزيرة كريت، وكان بها قصر الملك مينوس، أو مجموعة الملوك الذين حملوا اسمه. وقد ازدهرت المدينة سنة ألف قبل الميلاد، حتى دمرها الزلزال، فاحترقت وتخلت بعد ذلك بقرن من الزمان عن مجدها الحضاري لمدينة «ميكينة»، وقد كشفت حفريات كريت - التي بدأت في القرن الثامن عشر ولا تزال مستمرة حتى اليوم - أنها أقدم بؤرة للحضارة الأوروبية. ولعل زيارة هذه الشاعرة وإقبالها على معايشة آثارها أن تكون تعبيرا عن حنينها وحنين الأدب الغربي الحديث للعودة للمنبع والأصل، والبحث عن طريق الخلاص بعد أن وصل العقل الأوروبي إلى طريق مسدود، لا مخرج منه إلا بالمعجزة أو بالموت الشامل، ولهذا يكثر تنقيب الشعراء والفنانين والعلماء أيضا في أرض هذا العقل، والتفتيش في حفرياته وأعماقه عن الرموز الأصلية والعلامات المنسية، وأما هيركولانيوم التي يرد ذكرها كذلك في النص والتعليق، فهي مدينة رومانية قديمة في ولاية كامبانيا بإيطاليا، أحرقها بركان «فيزوف» الذي ثار سنة 79 بعد الميلاد، وأغرقها تحت حممه، كما طمس معها مدينتي يوستي وستابيا بالقرب من مدينة نابولي الحالية. وقد ربط التراث الإغريقي بينها وبين البطل الأشهر هرقل، وبدأت الحفريات في الكشف عنها منذ بداية القرن الثامن عشر عندما عثر أثناء حفر أحد الآبار على جدار تبين أنه جزء من مسرحها القديم، ثم عثر فيها على عدد هائل من التماثيل والنقوش والأثاث المنزلي والملابس ... إلخ، ووقع الباحثون في «فيلا البردي» على مجموعة ثمينة من التحف الفنية من البرونز والرخام وأوراق بردي يونانية تزخر بنصوص فلسفية مستوحاة من تراث المدرسة الأبيقورية. ولا تزال الحفائر مستمرة في هذه المدينة البائسة الحظ، كما أن النصوص التي تلقي الضوء على شخصية أبيقور ومدرسته لم تنشر كلها بعد، ولكن الحفائر قد كشفت على كل حال عن عدد كبير من معالمها كالسوق، والمعابد، والحمامات والملاعب الرياضية، والبوابات والتماثيل ولوحات الحائط ... إلخ، ولا بد أن الشاعرة التي رأت هذا كله رأي العين قد حاولت أن تبعث بضميرها وصوتها الشعري وراء هذه الآثار لعلها تستشف المعنى الخالد وراء حياة الإنسان وموته، وسر وجوده ومصيره، بل لعلها أن تكون قد ذهبت إلى أبعد من التاريخ البشري وما قبل التاريخ لتلمس أسرار الحزن الكوني. •••
تكشف القصائد التالية - على الرغم من عجز الترجمة وقصورها - عن بعض الخصائص المميزة لبنية الشعر الأوروبي الحديث، وهي البنية الغربية التي بدأت تتشكل على يد الشعراء الفرنسيين العظام - بودلير ورامبو ومالارميه - وما زالت تتشكل في صور أغرب عند الشعراء المعاصرين. وربما كانت أهم عناصر هذه البنية (مع الحذر من التعميم؛ إذ إن كل قصيدة بناء مستقل، مهما عكست مرآتها الصغيرة معالم البناء المشترك) هي بوجه عام التشكيل الذي يكشف عن جهد عقلي وإرادي مقصود، ولا يترك للإلهام وشطحات الوجدان سوى حيز ضئيل، التوتر والقلق اللذان يعكسان تفتت الواقع الحديث وتمزقه وانقسامه على نفسه، اعتماد القصيدة على الإيحاء لا على «التعبير» عن فكرة أو معنى محدد، وهي لهذا تشع في عقل كل قارئ ووجدانه بإشعاعات مختلفة، تغير وظيفة الاستعارة والتشبيه والرمز نتيجة التوسع إلى أقصى حد ممكن في استغلال طاقات اللغة والخيال والبعد عن مقاييس المعقول والمستساغ التي كانت من قواعد الشعر الكلاسيكي - غربية وشرقية - وكأن الشاعر الحديث يتعمد الإدهاش والإغراب إلى حد الصدمة، ويوغل في رحلة صيده للمذهل والمستحيل، الإيجاز والاقتصاد في التعبير إلى الحد الذي تصبح معه القصيدة مجموعة من الإشارات والإيماءات، ويوشك الشاعر أن يعبر بالصمت قبل الكلام، وينقل صور الأشياء مجردة من الأفعال والصفات بقدر الإمكان، التخلي عن النزعة الإنسانية - على حد تعبير الفيلسوف الإسباني أورتيجا إي جاسيت - أي إلجام خيول العاطفة وأمواج الوجدان، وصبها في «معادلات موضوعية» من عالم الأشياء وصور الموجودات المرئية والمحسوسة بدلا من الغرق في طوفان الذات وحميا الانفعالات التي أصابت شعر العاطفة الرومانتيكي عندهم وعندنا بأفدح الأضرار. البعد نتيجة لذلك عن سذاجة الانفعال إلى صرامة العقل، وبرودة التشكيل، فالإلهام أو الوحي - كما يقول بول فاليري - قد يسعدنا بالبيت الأول، أما بقية القصيدة، فتستلزم جهد الصنعة وتعب البناء، إعلان القطيعة مع التراث اللغوي والشعري التقليدي إلى حد التهكم عليه، والسخرية من «مقدساته»، وقيمه الجمالية رغبة في البدء من جديد، وإنكار وصاية الآباء، وإن كان هذا لا يمنع من كثرة اللجوء إلى «تضمين» النصوص القديمة المعروفة أو الاستعانة بمصطلحات العلم والطب - «غير الشعرية» في المفهوم البلاغي الكلاسيكي - إمعانا في الإغراب وهدما للحواجز الفاصلة بين «الواقعي» و«الجميل»، مما يكشف اليوم عن وجه الشاعر «العالم» أكثر من الشاعر «الموهوب»، الاعتماد على العين أكثر من القلب، وكأن الشاعر - إن جاز التعبير - يكتب بعينه أكثر مما يغمس ريشته في جراحه كما كان يزعم الشاعر القديم أو بعض شعرائنا حتى الآن، ونتيجة هذا أن تتألف القصيدة من أشياء متجاورة تتحدث بنفسها دون تعليق من الشاعر ولا ثرثرة، تلازم الشعر وفن الشعر، فالشاعر الحديث لا يكف عن تأمل عمليته الإبداعية والبحث عن «فن شعري» جديد وغزو آفاق جديدة تؤكد فرحته بالمغامرة والمخاطرة على سفن اللغة التي صار وحيدا معها، وصارت كنزه ومنجمه الوحيد، تصوير القبيح والمقزز وعدم الاكتفاء بتصوير الجميل والسار، كما كان يريد القدماء (كان الإغريق يفرضون عقوبة قد تصل إلى الموت على من يصور القبح خوفا من إفساد الأخلاق العامة)، بحيث تكون مع الزمن علم جمال القبح الذي يعكس بشاعة الواقع الحديث ويفضحه ويتمرد عليه، إلى آخر هذه العناصر التي شرحتها في موضع آخر. •••
إذا التفتنا الآن إلى هذه القصائد وجدناها تحمل بعض ملامح الجديد؛ لأن من الطبيعي أن تردد أنفاسها نفس الهواء الذي تعيش صاحبتها فيه، وأن تعكس ملامحها سمات التراث الثقافي الذي امتزج بدمها. فهي تضع الأشياء بجوار بعضها، كأنها عدسة آلة تصوير كتوم. ولن يغيب عليك أن الأفعال فيها قليلة، والصفات شحيحة، وأن الصور الساكنة لا تكاد تهتز أو تعكس حركة، وإنما توشك أن تكون تماثيل سوتها وصقلتها يد نحات - بالكلمات. وهي لا تعلق على الصور بشيء، فكلماتها نفسها تتحول إلى إشارات للأشياء، كما تقدم مفردات الطبيعة والوجود تاركة لك استخلاص معانيها وعلاقاتها. إن القصيدة توحي ولا تتكلم، تشير ولا تثرثر، تشع بإشعاعات تختلف باختلاف قرائها، بل واختلاف لحظات قراءتها، حمار مطرق، حقل زيتون، بيوت ونافذة وكوكب الزهرة، درويش وقطة داخل كوة في جدار بيزنطي، إناء فخار يدور دورة الحظ الأبدي - كما فعل قديما في يد صانع الفخار في كريت وطيبة، وبابل وسبأ وبلاد العرب والفرس - ويلهمها كما ألهم الشاعر الشعبي المجهول على مر العصور، فالحظ يتسرب منا في القرن العشرين كما تسرب من البشر في القرن العشرين قبل الميلاد إلى حضن الأرض الأم التي جئنا منها ونعود إليها نفس الحسرة، نفس الدورة، نفس العود الأبدي، ومن أدرى بها من شاعرة يحضر أمامها الزمن في لحظة الحاضر السرمدي، اللحظة التي يضم قوسها المتوتر تجربة ما قبل التاريخ وتجربة العصر الراهن في وقت واحد. فعين الشاعر ترى الأبدي، ومملكته هي اللامتناهي، ولكنه يستخرجهما - كالساحر القديم الذي يستدعي بتعاويذه قوى الأشياء، بل يطلق من كلماته نفسها قوى الفعل - من باطن الأشياء والكائنات العابرة المتناهية المتنوعة الألوان حواليه. وكأن كلماته وأنغامه وحدها قادرة على بعث الحقيقة الكامنة في الظواهر، واستحضار الخالد من داخل الغشاء الفاني، وما أشبه صوته بصوت المسيح، وهو يدعو لعازر للنهوض من بين الأموات.
لم تر الشاعرة إلا آثارا وحفريات وحطام مدن ومعابد وملاعب وأسواق، ولكن لا بد أن خيالها قد رد الحياة إليها، واستعاد تجربة البشر الذين كانوا ذات يوم يدبون فيها ويملئونها بضجيج أعمالهم وآمالهم وآلامهم وضحكاتهم ودموعهم. وليس قلبها وحده هو الذي يعيش هذه التجارب من جديد، فظل المعابد التي أصبحت فتاتا يفكر هو أيضا في حاله ويسأل: هل هذا القصر، وهو بيتي العامر، في الزمن الغابر؟ نفس الحكاية القديمة حلم الإنسان بالخلود، يضنينا اليوم كما أضنى أهل كريت قديما، لكن ها هو ذا يتمدد تحت الأرض، ماذا يتبقى إلا الأحجار؟ - أهي رؤية عدمية متشائمة؟ - سيكون هذا التساؤل تفسيرا نفرضه على النص. والنص نفسه ضنين وبلا طموح. يكفي أنه يثير في أنفسنا السؤال، أن تكون كلماته حجرا يلقى في نهر حياتنا اللاهية. يكفي أن يوقظنا لحظة من كابوس العبادة والتقليد والنسيان.
من الطبيعي أن تمد الشاعرة يدها - كما يفعل زميلها في الغرب والشرق - إلى كنز الحكايات والحواديت والأساطير، فقلبها الهرم بالحكمة لا يزال طفلا يعشق الحياة. يتجلى هذا في أجمل قصائدها عن الأميرة «المينوية» الصغيرة. إنها تسألها عن المكان الذي كانت تلعب فيه بين أكوام الحجارة، عن دميتها وكلبها الصغير، عن الحدوتة التي كانت تحكيها لها مربيتها كل مساء. وهي لا تكتفي بهذا، بل تدخل معها في حوار، وتؤكد لها أن الناس لا تزال تجوس في نفس الموضع الذي كان يضم فراش نومها، وفي عيونهم دموع تشبه دموعها. نفس المأساة، ونفس القدر - فالحاضنة القديمة كانت تحكي لها الحواديت اللطيفة عن الملوك والآلهة والأبطال الذين راحوا يغزون المستحيل. والحاضنة الجديدة تحكي الحدوتة المروعة عن زمن الكوبلت والأسمنت، عن آلهة العلم والمال وأبطال الصناعة والرعب الذين يحطمون أسرار الذرة، ويطلقون شياطين الطاقة، ويبنون شواهق المسلح المتطاولة على السماء - أولم يتغير شيء؟ أكل هذا «التقدم» عبث؟ ألا يزال الإنسان هو نفس الكائن الذي يخاف الموت ويصنعه في نفس الوقت؟ وهل كشف التقدم عن وجهه الجدلي المظلم للشاعر الأوروبي فلاذ بكهوف الماضي وطقوس الأجداد؟ وما السر وراء اليأس الكوني المر عند هذه الشاعرة وكثير من زملائها الأوروبيين؟ (في الكون فراغ، ومحال أن يملأه شيء) أهو السأم من عالم العقل والحساب والأنظمة والآلات والمحطات النووية وشعارات الحرب والسلام والثورة والمستقبل والعلم المغرور الذي أشعل وقود حربين عالميتين، وما يزال ينذر كل لحظة بالحريق الأكبر الذي يلتهم مدن البشر ويفحم مجد حضارتهم البراق؟ أم نفذت الشاعرة إلى الأسباب «الواقعية» - الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية - التي تؤجج ضراوة التنين الغربي، الذي يريد أن يبتلع العالم، ويستعد لغزو النظام الشمسي، ويؤكد كل يوم - حتى في تعاطفه وتعاونه المزعوم - إصراره على قهر الشعوب الفقيرة وحرمانها من حقها في الكرامة والحرية والحياة، وهو السبب الأول في قهرها وفقرها؟ يخيل إلي أن الشاعرة بعيدة عن هذا الرأي الأخير. ومع ذلك لا أستطيع أن أقطع بشيء. والمهم على كل حال أن ظاهرة العودة للماضي الكوني والبشري، والإهابة بالرموز والأساطير والطقوس القديمة ظاهرة مشتركة بين شعراء الغرب المعاصرين، وهي كذلك قاسم مشترك بين صفوة شعرائنا المجددين (لا بين المزيفين من أدعياء الشعر الجديد الذين ظنوها استعراض عضلات ثقافي وبراعة حواة مبتدئين!) أهو في النهاية فرار من وحدة الشاعر في عالم لم يعد فيه مكان للتواصل والحب والحوار والحقيقة الحية، أم سعي للوحدة والانسجام بين أشلاء القبح والتمزق التي يتعثر فيها كل يوم؟ أم أن الشاعر - وهو ضمير العصر المثقل بالذنب - تدفعه مسئوليته التقليدية عن خضرة الأرض والحياة وتحقيق الوحدة والجمال لأن يرفع صوته بالعودة للأصل والمنبع، ومحاولة البدء من جديد، وفضح الأقنعة المعقدة التي حجبنا بها وجه الواقع؟ أسئلة لا تغني شيئا. فكلمات الشاعر الحديث إيحاءات ونبوءات، وعليك وحدك أن تفض معانيها وتحسها كما تشاء! والمهم أن الشاعرة تلتمس الدفء والبراءة والحب وسط خرائب كريت، بعيدا عن خرائب أوروبا العجوز الواقعة في فك الحوت - حوت التقدم والشمول والصراع على غزو العالم - أي على دماره. •••
بقي أن أحدثك عن جانب من هذا الديوان لم أجد أنه يستحق النقل؛ لأنه في رأيي يعبر عن وجهة نظر لا يمكن أن نقبلها نحن العرب مهما اختلفت مشاربنا. ولا نستطيع أن نغفرها للشاعرة ولا لغيرها من المعاصرين لها مهما تسترت بثياب فلسفية أو إنسانية. ذلك هو موقفها من الثورة. فهي تدينها وتسخر منها في عدد كبير من قصائدها، وإن اتخذت هذا الموقف من برج عاجي يطل على مأساة الجنس البشري. إن في إمكاننا بغير شك أن نفهم الحزن الكوني الذي ينبعث من صوتها وأصوات عدد كبير من أبناء بلادها (مثل باول سيلان الذي انتحر منذ سنوات في نهر السين، وجنترآيش الذي مات قبل عدة أعوام، والشاعرة العظيمة أنجبورج باخمان التي ماتت هي الأخرى محترقة في فراشها، وكانت عبقرية حقة سطعت وخبت بسرعة خاطفة في سماء الشعر الألماني)،
2
لكن الذي لن نفهمه أو نقبله منها أو منهم هو سخطهم على الثورة بشكل مطلق، وإدانتهم للثوار، على نحو ما فعلت مع ثائر كبير غير وجه الأرض التي نعيش عليها، وهو ماو تسي تونج. ولا يقلل من هذا - كما كتبت إلي ردا على استفسارات وجهتها لها - أنها تؤمن باشتراكية روحية يعيش البشر في ظلها إخوة متحابين، وأنها تعتبر المادية وهما كبيرا. فنحن لا نستطيع أن نستغني عن الإيمان بالاشتراكية، وما زلنا مطالبين أمام شعوبنا ومشكلاتنا الضارية باشتراكية علمية وإنسانية نطبعها بخاتم شخصيتنا وقيمنا وتراثنا. ونحن في واقعنا العربي المتخلف أحوج ما نكون إلى الوعي الثوري، وشعراؤنا الذين سيكتب لهم البقاء ثوار حقيقيون. وإذا كانت الشاعرة الغربية قد يئست من رعب الثورات الحديثة، وإخفاقها في التطبيق، فإن الشاعر العربي لا يملك ترف اليأس من تخبط ثوراته الحديثة، ولا بد أن يرفع صوته لتقويمها وإبقاء جذوتها متأججة، والصمود على سفينتها مع البحارة الشجعان مهما تهددها الغرق أو داهمها القراصنة واللصوص، حتى تبلغ بر الحرية والديمقراطية والعدل. إنه يعلم أن الأتون الوحيد الذي يطهرنا من التخلف، ويخلصنا من الجمود، ويقوينا على تأكيد هويتنا، وتحدي أعدائنا في الداخل والخارج. ولذلك فهو يغنيها بوقود متجدد من أنفاسه وكلماته المحترقة. ولو تخلى عن مهمته لأصبح مضحكا في بلاط الأمير أو متسولا على باب الوزير والسلطان، وهو دور خلعه الشاعر العربي الجديد إلى الأبد، ورفض أن يرثه من تركة الآباء والأجداد. وإذا كانت الشاعرة الغربية تنفض يدها من عالمها الحاضر، وتفر إلى خرائب الماضي، فقد نلتمس لها بعض العذر، وقد يكون فرارها نفسه نوعا من الاحتجاج، ولكن هذا بالنسبة إلينا ترف لا نقدر عليه ، ونحن نواجه مشكلات تحتم علينا أن نقرر هل نوجد أو لا نوجد. وسيكون على كل من يحمل القلم في بلادنا أن يكون مع الثورية بلا تردد؛ لأنها هي الطريق الوحيد في معركة التحدي والبقاء.
إن الشاعرة وهي في هذا تشترك كما قلت مع غيرها من الأصوات لا تقف عند إدانة الثورة، بل تصرح بتعبها وعجزها عنها: «هل نمضي أم نتوقف، نبني أن ننظر، نعرق أم نجلس، ونحارب أم نخلد للنوم؟ زعيم الثورة يسأل: أيهما أفضل؟ مخترع الثورة يسأل: ماذا نفعل؟ والساخر يعجب ويقول: أيهما أجمل؟» والسؤال لا معنى له أصلا في حياتنا؛ إذ لا بديل لنا عن اختيار الطرف الأول في هذه الثنائية الفاسدة. وهي تتهكم من شعارات الثورة التي تطمح لتغيير الإنسان ليصبح غير ما هو عليه، بينما «الحياة» مستمرة بعد الثورة كما كانت قبلها (وهو موقف تجريدي يصدر عن حكمة متعالية على آلام أمثالنا): «مساء - أنت الأنت الأخرى، وبأكوام الكتب تغطي السجادة، وسريعا سوف تنام - مع النجباء، ومع البلهاء، والثورة لن توقف زحف الليل - فسيأتي ليل آخر بعد الثورة، وستأتي معه الأحزان، ويأتي صبح آخر شاحب، وسكون فناء خلقي، حتى بعد الثورة ستكون حياة.» فهل يرضي الشاعرة أن تتخلى الشعوب المقهورة عن ثوريتها لتنام إلى الأبد مع البلهاء؟ هل خطر على بالها أن بعض أسباب القهر والفقر قد صدرت ولا تزال تصدر من ورثة حضارتها الكريتية والأفريقية والرومانية؟ إننا لا نستطيع أن نوافقها على نقدها للثورة في مثل هذه الأبيات التي ترددها؛ لأن دوافع الثورة وأهدافها عندنا مختلفة تمام الاختلاف: «ما هي حقيقة الثورة؟ كلمة فارغة، شيء رائع مجنون، شيء يفقد الآلاف رءوسهم من أجله، ويجعل الآلاف يضعون رءوسهم في الرمال، شيء يتسرب أغلب الأحوال في الرمال، الثورة أسلوب حياة، سبب من أسباب الموت.» أجل هي كذلك، أسلوب حياة لا غنى لنا عنه، وسبب من أسباب الموت والحياة أيضا، ولن نستطيع أن ننظر إليها من قمة برج ميتافيزيقي مجرد. وإذا كان التجمد العقيدي أو الإرهاب الفكري والبوليسي قد خنق الثورية في بعض بلاد العالم، فإن هذا الخطر الذي لم تنج منه الثورات الحديثة لا يمكن أن يزهدنا في ضرورة الثورة نفسها بعيدا عن التجمد والإرهاب الذي ترفضه طباعنا ويأباه تراثنا. تقول الشاعرة على لسان أحد أعضاء «اللجنة»: «الثورة ستقوم بتوزيع الخبز بالعدل، لكن هل يمكنها في الليل، أن تشفي أوجاع الوحدة والعجز؟» والجواب من القارئ غير الغربي بسيط: وهل يمكن للشلل والتخلف والجمود أن تشفينا منها؟! إنها تظن أنها تعبر عن المواطن الصغير المجهول الذي يقف حائرا لا يدري ما يعمل لكي يكون ثائرا، هل يواصل حياته أم يدين هذه الحياة أم يموت من الضحك عليها، هل تخرج للطرقات وتضع الأسلاك الشائكة على القضبان؟ هل نبني التحصينات؟ أم نمضي في سبيل العيش كما كنا نفعل حتى الآن، أم نضحك حتى تقتلنا الضحكات؟ «ولكن الثورة - وهي تقصد بالطبع تجارب لا تلزمنا - تجيب على هذا المواطن المجهول الحائر بلا تردد: «لا، هذا هو ما تعلنه الثورة، لا شيء سواه، أما الباقي فسنعلنه فيما بعد».» ولا شك أن هذا المواطن يختلف موقفه عن مواطن آخر يواجه الاضطهاد والفقر والقهر والعدوان الصهيوني وغفلة ضمير العالم وصممه ونفاقه. ويبلغ الشك عند الشاعرة ذروته في هذه السطور الفظيعة التي تذكرنا طريقة كتابتها بما يسمى اليوم بالشعر المجسم: «ملايين الأقدام المتجمدة والأجساد المدماة وملايين ملايين العيون المصابة بالعمى والجلود المتفجرة وملايين ملايين الأطفال الجوعى والحيوانات الممزقة، ملايين المتجمدين من البرد الغارقين في الدماء المصابين بالعمى المتفجرين الجائعين الممزقين، ملايين الحيوانات الأطفال البيوت العيون والأجساد الأقدام المسحوقة التي تسحق كلها خطى الهامس.» ولا يملك القارئ العربي لهذه السطور (التي يقدر صدقها من وجهة نظرها وظروف بلادها) إلا أن يسألها: وملايين اللاجئين؟! •••
هذه على كل حال نماذج من الشعر الغربي المعاصر، ليست بأفضل نماذجه ولا هي كذلك من شاعرة عبقرية أو ذائعة الصيت، ولكنني دخلت معها في حوار؛ لأنها تردد نغمة مشتركة في نماذج غربية عديدة. وإذا استطعنا أن نتذوق بعض قصائدها ونعجب به، فإن علينا أن نحاذر من بعضها الآخر، ونتمسك إزاءه بحريتنا وقدرتنا على النقد.
ذات ليلة ... في الزمان
قصائد من كريت
خزف (1)
نثار ركام،
ونثار كلام،
إطراق حمار،
حقل الزيتون سلام،
هذا ما تعطيك اليوم
ساعة نجم.
خزف (2)
لو كنا أخلصنا الجهد وسوينا الفخار
كما فعل القدماء
لوجدنا أوعية تكفي
لاستيعاب الحظ المقسوم من الأقدار
بينا نجلس محنيين
وفي أيدينا شقفة طين
تلتف تدور،
يتسرب منا الحظ المقدور
خلف الظهر
في جوف الأرض المكنون.
باخيا أموس
3
ستة بيوت أو خمسة،
نافذة يتحدر منها الضوء،
ينعكس عليها ظل البطل
الجالس في كرسيه،
البطلة تحمل كأسا
تمتد ذراعه - في آخرها تتوهج عين السيجارة -
وتحاول أن تلمسها •••
خلف الأسطح
في الجهة الأخرى
تنزلق الزهرة،
خلف حواف الجبل المسنون
وبقية سطح العالم
يظلم في إبطاء.
حلم الخبز
في الحلم
رأيت الدجال - المسخ الأعور -
يغويني،
الصخرة كانت منذ القدم
بلون الخبز
فصارت خبزا،
فوق الصخر
على المنحدر
استلقيت
على جنبي الأيمن؛
لأن الصخر
عندئذ صار
الجنب الأيمن
خبزا
بينا بقي الأيسر
إنسانا.
واستيقظت.
كاتو زاكروس
4
فتات معابد
في فم حوت
تعوم كريت
نحو الشرق،
إن هل الصبح
شهقت في الصدر
ريح الأنفاس،
تنساب الشمس
بين الأسنان
من قلب كريت،
يمتد لسان
ترعى الأغنام،
يصعد إنسان
يلهث عطشان
يسعى للظل
والظل يفكر:
هل هذا القصر
هو بيتي العامر
في الزمن الغابر
لما أن غبنا
في جوف الحوت؟
كاتو زاكروس،
ماذا يتبقى
إلا الأحجار
تسحقها سحقا
قدم الأقدار؟
أميرة مينوية صغيرة
5
أميرتي الصغيرة،
أين كنت
بين أكوام الحجارة؟
أين كان ملعبك؟
هل كنت تملكين دمية؟
وهل ربطت في هذا العمود جروا
هذا العمود الأخرس
المرتفع الآن قليلا
فوق سطح الأرض
يستثير حزن عالم الآثار؟
وما الذي صنعت
حين أطلقوا النيران؟
هل أرسلوك للمنام؟
هل حكت لك المربية
حكاية من سالف العصور والأوان
من زمن الحجارة القديم؟
في سالف الزمان
لم يكن الإنسان
قد زرع السفوح والوديان
واكتشف الإنسان أن الشاة
تذهب حيث شاءت الرعاة
وأنها طيبة، وتعشق السلام والحياة
ترى أكانت أمك المليكة
تحنو عليك
أو تهديك قبلة المساء
حين تعود من مذبحة الثيران
وحفلة الطقوس والقربان
أم عذبتكم هذه الأفكار - وما تزال تملأ الأسفار -
عن حكمة التراث والأيام
والفلسفة القديمة؟
ماذا ترى كنت تقولين
أميرتي الصغيرة المروعة
بعد مرور هذه السنين
وهي تعد بالألوف أربعة
وبعد حيرة الفؤاد والضمير
عن غاية الإنسان والمصير
إذا عرفت أن الناس لا تزال
تجوس بالأقدام فوق موضع يقال
بأنه كان قديما مهجعك
بأعين مبتلة
بالأدمع التي تشبه أدمعك؟
أميرتي الصغيرة
إني أنا الحاضنة الجديدة
أروي لك الحدوتة المثيرة
عن طريق المستقبل البعيدة
حدوتة من زمن الأسمنت
أو زمن الذرة والكوبلت
وصدقيني يا أميرتي
فسوف تدهشين
أن كلينا ميت
ولن يقاوم
هذا هو السر الذي
يعقد بيننا عرى التفاهم
فلتحرصي هذا المساء
أن تكوني عاقلة!
خزف (3)
ينهر اليوم
ورق الزيتون
من فوق الصخر
آذان حمير
تهرب في ذعر
ومياه البحر
تتبخر من
حلق الأسماك
ونساء الدير
يبذرن الحب
والحب غبار
في الكون فراغ،
ومحال أن
يملأه شيء.
جزيرة التمساح
6
نيزوس ديا
تمساح يحرس
أمنيسوس
عبثا قد غادر
مينوس قصره
ثيزوس ديا
تمساح يختلس النظرات
إلى ماليا
لكن الوقت
قد مر وفات
سار بيدون،
انقرض ومات،
نيزوس ديا
طيور النورس
تبني الأعشاش
فوق الصخر
الصخر الأخرس
عوليس عاد
للوطن الأم
ألقاه أليم
من زمن باد
حديث درويش وقطة يسكنان
كوة في حائط بيزنطي في حي من
أحياء مدينة كانكور تازان - يا قطة فيم الفكر؟ - فيم تفكر يا درويش؟ - يا قطة إني جائع. - وأنا جائعة يا درويش. - يا قطة نزل المطر علين.ا - أنا لن أهرب يا درويش. - الله كبير يا قطة. - يا درويش مخدتك ستبتل. - أترانا موجودين؟ - محتمل يا درويش. - دافئة يا قطة أنت. - يدك كقطعة جلد يا درويش. - يا قطة جلدك يشبه لمسة كف الله. - من يدري إن كان الله تعالى نمرا يا درويش.
تغيير في البرنامج
أردت أن أبني رفا للكتب
لكنني بنيت بيت شعر
فيه مكان لمئات الكتب.
سارة
7
عندما يأخذني الفكر لسارة ،
تصبح الأحجار أحجارا نفيسة،
والرجال
نبلاء طيبين.
ربما لم تك إلا امرأة مثلي، ولكن
طالما أني لا أعرفها
فالذي يكسو ظهور القطط الحلوة
في حجرتها جلد مفضض،
والذي يسكن في الموقد تنين مذهب،
إنه يصلح كراساتها
وعلى الأسطر يذرو الرمل
والرمل مشع كالشهب
بينما تصنع شايا
مثلما أفعل بعد الظهر
في يوم رتيب.
يوم بلا شعر
تغفو الورقة
الجمل عنيدة
تنثر ملحا
تصغي لحديث في استرخاء
تصلح وضع النظارة
تتطلع نحو البحر
ما زال البحر هو البحر
وعلى بالك
يخطر شيء
شيء فيه جديد بكر
لكن ما أكثر من قالوه
ومن كتبوه؟
الورقة لا زالت تغفو
بيضاء مدببة الطرف
تنتظر - كما ينتظر - الضيف
8
النهاية
أقرب مما تتصور
تتلوى تحت خيوط السجاد،
تدهم أحد الجيران،
يجلس غير بعيد عنك
بين ثلاثة جدران
يلتهم الخبز الممزوج بقطعة جبن
تدهمه فجأة
ضوضاء في منطقة القلب
تشكل حراك الأسنان
كان بإمكانك أن تتفاهم معه
حول الشمس وقيمتها - لا حول الفكر وقيمته -
إذ إنك أيضا تعرف لغة البطن
وكان كذلك بالإمكان
أن تأكل نفس الخبز الممزوج بقطع الجبن
لكن الرجل المجهول
كان يقول:
كل الأشياء سواء
وليأت القدر بما شاء
أما أنت فتعني شيئا آخر:
الآتي أفضل مما كان
ولهذا فالأفضل لي
أن أمسك هذي الورقة بين يدي
لكي أقرأها في إمعان
هذا رأيك لكن
هل هو حقا
أفضل ما في الإمكان؟
غسق
اقرأ لي حدوتة
ابق معي، عاوني
في تأويل كتاب الليل
واقلب صفحات الغاب
اقرأ لي أسرار الأحرف في الأخشاب
أسمعني أخبار الريح
العملاق،
البطل المنتصر الغلاب
سأضيء برفق
شمعة هذا القمر
وراء التيجان
اقرأ تحت الضوء
اقرأ دربي
سافر مع سطر الريح
إلى نقطة عش
اقرأ لي حدوتة.
صلواتك
صلواتك!
صلوات سنابل قمح للأمطار،
صلوات الموقد يتضرع أن تحرقه النار،
صلوات الخبز ليهضم في الأحشاء،
صلوات السمك الجائع لصفاء الماء،
صلوات الماء الحالم بالأسماك،
صلوات التائه في الغيبوبة للأنفاس،
والأنفاس إلى التائه في الغيبوبة
صلوات القيد إلى السجان؛
ليفك قيود الإنسان
ذات ليلة ... في الزمان
ذات ليلة
في الزمان
بعد أن تمضي الحياة
بعد كل الظلمات الكالحة
والظهيرات المخيفة
ذات ليلة
في سنا الضوء الحنون
عندما لا تخجل الأرض الرءوم
من خطاياها الصغيرة
حين لا تزفر بالريح العنيفة
لا ولا تغرق في الوحل السنابل
حين لا تقصف أشجار الفواكه
بالبرد،
ذات ليلة
عندما تغفو الأعاصير
مع الأسماك في البحر
بأحضان السلام
ويرى قرص القمر
وهو ينمو في سكون
ويسوي شعره الماء على سطح البحار
عندها تصحو وأصحو
لحظة خالدة مثل الأبد
أنت ما بين يدي
وأنا بين يديك
تتلاقى نظرات في العيون
ذات ليلة
في الزمان
عندما تبدأ في صمت حياتي وحياتك
دورة أخرى جديدة
في المسافات البعيدة ... (1979م)
اللحظة الخالدة ... والحاضر السرمدي «الزمن الماضي والزمن الآتي
لا يتيحان إلا القليل من الوعي
أن تكون واعيا هو ألا تكون في الزمان
لكن في الزمن وحده يمكن للحظة في حديقة الورد
ولحظة التعريشة التي ينقر عليها المطر،
واللحظة في الكنيسة التي يسري فيها
تيار الريح عند سقوط الدخان
أن يتذكرها المرء متضمنة الماضي والآتي
عبر الزمن وحده ينتصر على الزمن
فقهر الزمان لا يكون إلا خلال الزمان
الحاضر والماضي
ربما كان حاضرا في المستقبل،
وربما كان المستقبل طي الماضي.
لو كان الزمان كله حاضرا سرمديا
لما أمكن استرداد كل الزمان
ألا إن ما كان يمكن حدوثه لتجريد
يبقى بمثابة الإمكان الدائم
في عالم من التأمل دون سواه.
ألا إن ما كان يمكن حدوثه وما قد حدث فعلا
ليشيران إلى غاية واحدة
هي حاضر سرمدي ...»
ت. س. إليوت
9 •••
ما هو لغز الحاضر الذي حير عقل الإنسان وقلبه، منذ أن عاش بين الطقوس والأساطير إلى أن أطلق مركبات الفضاء؟ كيف واجه سره الذي يتسرب منه كما يتسرب الماء من بين كفيه، وكما يفلت الهواء إذا حاول القبض عليه؟!
إنه يشعر في حياته وتجربته اليومية أن الزمن موجود. فمن منا لا يذكر ماضيه ويحن إليه؟! من منا لا يحلم بمستقبله ويخطط له؟!
مع ذلك فهو دائم القلق من زواله، دائم البكاء على ضياع عمره ومجده، والشكوى من عبث كفاحه وتعبه. لو أرهفنا السمع قليلا، فربما هزتنا الأنات الآتية من أناشيد المغني الفرعوني الأعمى على قيثارته، وزفرات أيوب في العهد القديم ومن قبله «أيوب البابلي» المبتلى ظلما في الألواح الأربعة التي حملت شكواه وعرفت باسم «لدلول بيل نيميقي»، سأمجد رب الحكمة، وحسرات سليمان وداود في المزامير، وبكائيات الشاعر الجاهلي على أطلال الأحباب، وأناشيد الجوقة في المسرح الإغريقي، ودعوة هوراس «اقطف يومك»، ونقوش المقابر والمعابد، وربما انتهت إلينا لعنات أبي العلاء التي صبها على الزمان، مختلطة بآهات «الخيام» و«دانتي» و«ليوباردي» و«هلدرلين» و«إليوت».
والإنسان يحاول منذ القدم أن يستمهل هذا الضيف العزيز الذي لا يزورنا إلا لكي يودعنا، كما يحاول أن يعرف طبيعته، ويحدد موقعه بين ضيف سبقه ولن يعود، وضيف سيأتي بعده ولن يقيم.
من منا لا يرثي أو يضحك للجهود التي بذلها المفكرون والفلاسفة لاصطياد اللحظة الحاضرة التي نحياها ولا نمسك بها، ونحاول قياسها وتحديدها فتفلت منا، وتسرع بها دورة الفلك وعقارب الساعة كالشبح الهارب، بينما تدوم وتتمدد في أعماق الشعور، حتى توشك أن تضم «الأزل والأبد» في ومضة واحدة؟
من منا لا يحن لهذه اللحظة المواتية العابرة التي دعا أحد حكماء اليونان السبعة «بيتاكوس» لمعرفة قيمتها، والقبض على خصلات شعرها الذهبية المتدلية من جبينها قبل أن تعبر بنا، ونحاول بعد ذلك أن نجري وراءها لنوقفها، فإذا هي صلعاء الرأس من الخلف.
10
ومن منا لا يؤثر عليه سعى «فاوست» الدائب إلى لحظة الخلود التي يستريح على صدرها حين يتحد بالمنبع الخالد؟ من منا لا يتعاطف معه وهو يراه يجد في البحث عنها في لحظة «الحب» أو «المجد» أو «العمل النافع لشعب حر على أرض حرة»، فإذا به يتعثر في هاوية الخطيئة أو يسقط في حفرة الندم، بينما يتردد هتافه بها: «تريثي قليلا فما أجملك؟!»
ثم من منا لم يعش مع محاولات الفلاسفة لتثبيتها أو إنكارها؟! من منا لم يدهش لمفارقات «زينون» الإيلي العنيدة التي تلغي الزمان والحركة لتثبت الأبدية؟ ومن منا لا يعجب لتساؤلات «أفلاطون» عن «الآن» وجهود «أرسطو» لتحديدها، وجعلها وحدة قياس الزمان، وحيرة «أوغسطين» أمام سرها حتى هداه الله إلى أنها «توتر النفس التي تستجمع الماضي وتتأهب للمستقبل» و«مواقف المتصوفة» ومواجدهم وأشواقهم إلى جعلها بيت السرمدية، واكتشاف «ديكارت» لضوئها الخاطف وفعلها الحدسي في يقين «الأنا»، وكل يقين مترتب عليه، وفي فعل الخلق والحفظ الإلهي المتصل للطبيعة والإنسان!
ومن منا لم يهزه جدل «كيركيجارد» المعذب، وهو يفتش عنها داخل الزمان، فإذا بها لا «تتكرر» إلا في «الأبدية»، وإلهام «نيتشه» المحير بلحظة «العود الأبدي» التي صعد معها فكره إلى القمة الخطرة، ووجد عندها السلام والطمأنينة في «حب القدر»، وقلق «هيدجر» الذي وجدها في لحظة التصميم على مفترق الطرق إلى تحقيق الوجود الأصيل، وجمع فيها بين ماض كناه وعلينا أن نكرره فيها، ومستقبل علينا أن نصر عليه ونحققه فنحقق ذواتنا معه في وجه الموت المتربص المحتوم؟!
كلنا يحس سر الزمن. قد لا نتمكن من التعبير عنه، ولكنا نحس بزمانيتنا في كل قول وكل تجربة وكل موقف نمر به. فالزمن قدرنا، والزمن أملنا ويأسنا. وتجربة الإنسان بزمانيته هي تجربته الحزينة بزواله وانقضائه وتناهيه. فالزمان نهر متدفق أبدا يجرف كل أبنائه معه، وشكوى الإنسان من الزمان شكوى أزلية، وأغلب الظن أنها ستبقى شكوى أبدية. ولم يكن من قبيل المصادفة أن تسجل شواهد التاريخ والحضارة والدين والفكر والأدب هذه الشكوى المرة في صور مختلفة.
لم يكن البحث في سر الزمان عند مفكري اليونان قضية تفلسف مجرد، بل شعورا مأساويا ودينيا عميقا ترددت فيه أصداء الشكوى القديمة المتجددة. وإلا فما الذي دفع «أنكسماندر» في شذرته الوحيدة الباقية إلى القول بأن الأشياء ينبغي أن ترجع لأصلها، وأن تكفر عن ذنبها وفقا لنظام الزمان؟! وما الذي دفع «زينون» الإيلي لإلغاء الزمان ومعه التغير والصيرورة؟ ألم يكن هو البحث عن ملجأ ثابت يتيح للإنسان السكينة في حضن الأبدية، وتجربة العناق بين الفكر والوجود الذي علمته الربة المجهولة «أستاذة أستاذه بارمنيدز » أنهما متساويان وثابتان؟
وما الذي جعل «أفلاطون» يقول: «إن الزمان هو صورة الأزل»
11
إن لم يكن هو الفزع من الزمان؟! ثم ما الذي دفع أرسطو - والمفكرين من بعده حتى «برجسون» - إلى «تمكين» الزمن وقياسه، إلا أن يكون هو الخوف من عضة نابه، والسعي إلى قيمة أخرى ترتفع فوقه كالفكر الثابت الذي يفكر في نفسه أو الأبد الساكن الذي يتعزى الإنسان به ويأمل فيه.
إن صرخة «باسكال» التي ترددت في «خواطره»،
12
ستظل تطرق أبواب قلوبنا بشدة: «أرى هذا الفضاء الكوني المخيف الذي يحط بي، وأجد نفسي مقيدا بركن من هذا الامتداد الهائل، دون أن أعرف لماذا وضعت في هذا الموضع دون سواه، ولا لماذا حددت هذه الفترة الزمنية القصيرة التي قدر لي أن أعيشها في هذه النقطة بعينها لا في نقطة غيرها من الأزلية التي سبقتني أو الأبدية التي ستأتي بعدي.
لست أرى من كل ناحية إلا هذه اللانهايات التي تحبسني، وكأنني ذرة وظل لا يدوم إلا لحظة واحدة بلا عودة.»
وإن «كانط» ليقدم الزمان على المكان، فيصف الأول بأنه الشرط الصوري القبلي لجميع الظواهر بوجه عام، وهذا عكس المكان المقصود على الظواهر الخارجية وحدها،
13
كما يحمل أحد الكتب المؤثرة على الفكر المعاصر هذا العنوان المهم: «الوجود والزمان». ومع أن مشكلة المكان قد لا تقل أهمية عن مشكلة الزمان، بل ربما كانت أشمل منها وأقدر على إلقاء الضوء على طبيعة الإنسان وماهيته التي تعلو على المكان والزمان جميعا، وإن ظلت أسيرة لها،
14
على الرغم من هذا كله فإن الحديث عن الزمنية كان على الدوام هو الحديث عن تناهي الإنسان الذي يظهر في صورته الحادة في زمانيته المنطوية على فنائه وزواله وموته. ولهذا كان التفكير في الإنسان من حيث هو كائن فان أو «مائت» مساويا للتفكير فيه من جهة الزمان وفي أفق الزمان. ولهذا أيضا كثر الحديث في الفكر المعاصر عن كون الإنسان ملقى أو مقذوفا به في هذا العالم، أي في مكان وزمن محددين كل التحديد. وهو يعيش فيه - وهذا هو أوضح تعبير وأقساه عن تناهيه - دون أن يدري لماذا يحيا في هذا الزمن لا في زمن آخر. ولقد عبر «بسكال» في ختام القطعة السابقة عن هذا أقوى تعبير حين أنهاها بقوله: «بلا عودة» معبرا بذلك عن واحدية البعد الزمني، وأن اتجاهه لا يقبل أن يعكس. فالإنسان يشبه ظلا لا يدوم إلا لحظة واحدة، بلا عودة.
إن السر الأول للزمان هو أنه يلتهم كل ما فيه ويلقي به في قبره الذي لا يشبع. ولهذا ارتبط الزمان بالزوال والانقضاء. فالماضي لم يعد له وجود، والمستقبل لم يكن بعد، وإذا أقبل فسرعان ما يتحول إلى ماض. والماضي والمستقبل كلاهما لا وجود لهما في وجدان الإنسان، إلا من حيث هما حاضر، أي في تذكر الماضي وتوقع المستقبل. أما الحاضر فلا وجود له في تجربتنا اليومية. كلما مددنا أيدينا للتشبث به، تسربت منها حبات رمال الزمن (أو «آناته»). وكلما حاولنا أن نمد في أجل هذه اللحظة الخالية من الامتداد - في لحظات الصفاء والحب والأنس، أو في لحظات الرعب واليأس - روعتنا الحقيقة المحتومة التي تقول إن كل مستقبل يصبح فيها ماضيا، وأن حاضرها حد وهمي أرق ملمسا من الحد الفاصل بين نقطة البحر والنقطة التي تليها، أو نسمة الريح والنسمة الرفافة في ذيلها ...
ولهذا ربما عذرنا «أرسطو» الذي أغاظه «الآن»، فأخرجه من الزمان؛ ليجعله وحدة قياسه ...
أنعيش إذا بلا حاضر على الإطلاق؟ أتكون حياتنا حلما؟ أنخطو على الطريق بلا أرض نقف عليها؟! أتكون حياتنا حياة الأسرى المغلولين الذين يتعثرون في الهاوية باستمرار؟!
أكتب علينا الزوال والانقضاء في كل لحظة من لحظات مدتنا المحدودة، بلا عودة ولا سبيل للرجوع؟!
أهذه هي نهاية المطاف في تفكيرنا في الإنسان؟! ألا يبقى أمامنا إلا الاستسلام للبكاء أو الوثوب فوق جواد الزمن إلى حظيرة «الأبدية» لنلتمس فيها الخلود والبقاء، ونجفف على صدرها دموع السفر والشقاء، أو نتعلل بالسعادة والهناء؟
هنا نبلغ باب السر الثاني للزمن. فنحن زمانيون، ولا نملك الهروب من الزمان ولا المكان،
15
ولكننا في نفس الوقت لا زمانيون، لا بمعنى الخروج من الزمن - كما نرى في لا زمانية القوانين المنطقية مثلا - ولكن بمعنى أن الزمن هو المرآة التي نرى عليها السرمدية ... فنحن قادرون على المشاركة فيما فوق الزمن، أي في السرمدية ولو للحظات كالبرق الخاطف. ومفهوم السرمدية شيء مختلف عن الزمانية، كما يختلف عن الديمومة الزمانية اللامتناهية ويتفوق عليها. والأولى بنا أن نفكر في الزمان من جهة السرمدية لا أن نفكر في السرمدية من جهة الزمان. إن علاقة السرمدية بالزمان لا يمكن أن تتصور تصورا زمانيا؛ لأنها ترتفع فوق الزمان وتشمله بصورة ما.
وسر الزمن الثاني هو قدرته أن يتلقى السرمدية فيه. وما دام الإنسان بطبعه كائنا زمانيا، فإنه سيكون كذلك قادرا على المشاركة في الأبد والسرمد، بل ربما كان من واجبه أن يسعى إلى هذه المشاركة حتى يكون إنسانا بحق ... ولهذا يمكننا القول إن شوكة فنائنا هي خلودنا؛ لأن الشيء الفاني لن يؤلمه فناؤه، ولأن ما يمكنه أن يحيا فقط، سيمكنه أن يموت فقط. أما من يشعر أن كل شيء لا بد أن يفنى ذات يوم، فإن شعوره هذا يرفعه فوق ذاته وفوق الكل. كل شيء سينقضي ويزول أنا وأنت وكل ما يحيط بنا، ولكن فيك وفي شيئا يزيد عن الكل، ويختلف عنه، وإلا ما عرفنا عنه شيئا ...
ولكن بأي معنى نفهم قدرة الزمن على تلقي السرمدية ونفاذها فيه؟ بمعنى أننا بغير هذه القدرة لن نجد أرضا نقف عليها، وأننا ونحن نندفع في مجرى الزمان نفسه لن نجد الحاضر الحق، الحاضر الخالص الذي يهوي إلى وادي الماضي بمجرد وصوله من قمة جبل المستقبل.
إن الحاضر واقع نحياه دون أن ننتبه إليه - في لحظات سنتحدث عنها بعد قليل - ونحن نحياه في مجرى الزمن وفوق الزمن؛ لأن السرمدية تنفذ في الزمن، وتضفي عليه الحضور. كما أن الإنسان يمكنه، بل يجب عليه أن يستحضرها فيه. فالسرمدية حاضرة دائما، وهي سبب إحساسنا بالحاضر على الإطلاق. لولاها ما أمكننا أن نقول «الآن»، فهي التي ترفع الآن فوق مجرى الزمن العابر.
16
ونحن لا نقصد هذا بالمعنى الديني والصوفي وحده، بل نقصده بالمعنى الفلسفي والحياتي؛ إذ يكفي أن نستغرق في الصلاة لحظات لنحسه، يكفي أن نطالع ما يقوله الكتاب الكريم عن الدار الآخرة، وما يقوله الإنجيل الرابع عن الأبدية، وما يشكو به المزمور التسعون (بالغداة كعشب يزول، بالغداة يزهر فيزول، عند المساء يجز فييبس) من زوال بني آدم إذا قورنت حياتهم بأبدية الله.
يكفي هذا كله لنعرف السرمدية والأبدية، «فألف سنة عنده كيوم أمس» هي التي تعطي ل «الآن» معناها وواقعها اللانهائي،
وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون .
17
بهذا تصبح الفلسفة سعيا دائبا إلى الحضور الخالص، وقهرا مستمرا للزمان والزمانية. وإذا كان أفلاطون قد علمنا تعريفين أساسيين من تعريفات الفلسفة عندما قال في أحدهما إنها التأمل الدائم للموت، فمن حقنا أن نغير هذا التعريف (الذي لا ينطبق إلا على مرحلة فايدون وما قبلها) فنقول إن الفلسفة هي تأمل دائم للحضور الحي. وإذا كان قد قال في تعريفه الآخر - الذي تبعه فيه فلاسفة العصر الوسيط من مسلمين ومسيحيين - إن الفلسفة هي التشبه بالله بقدر الطاقة، فبإمكاننا أن نزيده وضوحا، فنقول: إن الفلسفة هي جهد دائب؛ لكي يتشبه الكائن الزماني بالكيان السرمدي.
لن نقف عند هذه المعاني كلها، بل سنتجاوزها إلى معنى يتصل بوجودنا اليوم كأبناء أمة تسعى إلى اكتشاف هويتها وتحديد مكانها بين الأمم. أمة يعرف المخلصون من أبنائها أنها مهددة بالانقراض والانهيار إن لم تع حاضرها، وتؤد واجب لحظتها، وتستوعب قيمة ماضيها وتنهض بأعبائها التي تفرضها عليها فلسفة جديدة حية للتاريخ، أي فلسفة للزمان الذي لا غنى عنه لفهم التاريخ.
ماذا أقول؟! أأقول إننا اليوم وأينما تلفت فسحب الأخطار تزحف وأهوال التحديات تنادي باليقظة للحاضر الذي ينبغي أن يكرر خير ما في الماضي من تراث، ويتهيأ لخير ما في المستقبل من أمل وعمل.
أأقول إننا اليوم نعيش بداية انقراض تلوح نذره، أم نهاية انقراض بدأنا نتخلص من آثاره؟! لن أستسلم للتفاؤل أو التشاؤم. حسبي أن أدعوك يا قارئي لواجب الحضور الحي وعبء اللحظة الخالدة. ليست دعوة صوفي، فأنا لم أبلغ أعتاب هذا الشرف، والعلاقة بين الوعي بالحضور الحي لزمانيتنا وبين السرمدية «مقام مهيب غامض»،
18
إنما هي دعوة إنسان يقدر قيمة اللحظة الحاضرة، ويعلم أنها الفرصة الوحيدة للسرمدية، أو بلغة أقرب إلى واقعنا اليومي البائس هي الفرصة الوحيدة لكي «نكون أو لا نكون».
وإذا كانت الأسماء التي تكلمت عن الحضور في اللحظة الخالدة أكثر من أن تحصى أو تعد، وإذا كانت هذه الأسماء تزدحم بها شواهد التصوف والفلسفة والفن والشعر والأساطير والطقوس مما لا يجدي معه حصر للمراجع والنصوص، فلنختر أقصر الطرق وأشدها تواضعا، ولنكتف بالنظر في تأملات فيلسوف معاصر لم يمض على وفاته أكثر من عام، نتلوها بخواطر مستمدة من واقع آخر ومجال مختلف قلما ننتبه إليه، وهو واقع الشعر والأسطورة والطقوس، لنختم هذه النظرات بسطور قليلة عن الحضور في اللحظة الخالدة، لحظة نفاذ السرمدية في الزمانية، اللحظة التي يتعانقان فيها - في لمسة هي أشبه بوميض الشمعة أو لمح البرق - فنؤكد وجودنا وحاضرنا في «الآن»، ونعي ذاتنا حين نتشبث بصخرة اللحظة، ونقاوم طوفان الزمن الصاخب، ونثبت أننا جديرون بالنعمة السرمدية حين نكون أوفياء للحظة، مستعدين لتحمل مشقتها ومسئوليتها استعدادنا لترقب نورها وبريقها. •••
لماذا ارتبط الزمان دائما بالوجود؟ ولماذا لا نفكر في أحدهما دون أن نفكر في الآخر؟! الوجود منذ فجر الفكر الفلسفي مرادف للحضور. والحضور يكون في أفق الحاضر، ويتكلم بصوته. والحاضر في التصور الشائع بعد من الأبعاد الثلاثة التي تلازم تصورنا للزمن، الذي يسير على طريق لا رجوع فيه من ماض إلى حاضر إلى مستقبل. والماضي في تصورنا الشائع أيضا هو الذي لم يعد له وجود كما أن المستقبل هو الذي لم يوجد بعد.
ونحن نذكر الزمان حين نقول: لكل شيء زمانه، فكل موجود يأتي عندما يجيء أوانه، ويذهب عندما يحين حينه، ويبقى مدة الزمن التي قدرت له. ولكن هل الوجود شيء؟! هل يشبه الموجودات التي تكون في الزمن؟ وهل الزمان نفسه شيء، أم هو الذي يسع الأشياء والموجودات التي تكون فيه وتفسد، تولد ثم تموت بعضة نابه؟
عبثا نبحث عن الوجود نفسه بين الموجودات المحيطة بنا، فليس مثلها موجودا زمنيا. ومع ذلك فنحن نقول إنه «يحضر» في الزمان، يتحدد بكل ما يوجد فيه، يظهر بظهوره، ثم لا يلبث أن يحتجب ويخفي عنا سره.
عبثا نحاول أن نلقي الزمان بين الموجودات والأشياء التي تتزمن به وتنتهي فيه. فهو نفسه ليس موجودا ولا شيئا. إنه ينقضي باستمرار، ولكنه في انقضائه يختلف عن كل ما يوجد فيه، والبقاء عكس التلاشي، أي هو الحضور، والحضور هو أسلوب الوجود.
الوجود والزمان إذن يتحددان بالتبادل، ولكنهما يتحددان على نحو لا يسمح لنا أن نصف أحدهما - وهو الموجود - بأنه شيء زمني، ولا أن نتحدث عن الآخر - وهو الزمان - كما لو كان أحد الموجودات والأشياء.
19
هل وقعنا بهذا في شباك العبارات المتناقضة؟ هل نلجأ إلى ما تلجأ إليه الفلسفة في مثل هذه الأحوال من تصعيد للتناقض، والجمع بين طرفيه في وحدة أشمل، نسميها بعد ذلك وحدة جدلية؟! أليست هذه الوحدة التي تهدف للمصالحة بين العبارتين المتناقضتين عن الزمان والوجود، هروبا منهما معا ومن العلاقة القائمة بينهما؟
وما الطريق الذي نسلكه كي ننظر في موضوع كل منهما على حدة، أعني في القضية التي يطرحانها أمام الفكر؟ فلنأخذ أنفسنا بالحذر الواجب، ولنواجه هذه القضية بما يليق بالفكر من صبر وأناة.
نحن نقول على الدوام: الوجود يكون، والزمان يكون. فلنجرب تغيير الصيغة اللغوية لنقول: الوجود يوجد والزمان يوجد (على أن نفهم من كلمة يوجد معنى الجود والعطاء الذي يجمع بينهما ويجود بهما).
20
إن الوجود يتيح للموجود أن «يحضر»، ويسمح له بأن يظهر ويكون، وإحضار الموجود بهذا المعنى يساوي إخراجه من التحجب والخفاء إلى الانفتاح والجلاء، ومن ثم يكون الوجود نوعا من العطاء.
غير أن العطاء لا يزال ملفوفا بالظلام، كما أننا لا نزال نجهل كل شيء عمن يقوم به. لقد حاولت الميتافيزيقا في تاريخها كله، منذ بدايتها الساذجة عند طاليس، وحتى اكتمالها في فلسفة «نيتشه» أن تفكر في الوجود من ناحية الموجود ، وتفسره باعتباره الأساس لهذا الأخير. فلنحاول أن نفكر فيه من جهة «الحضور» والتكشف والظهور، أو كما قلنا الآن من جهة العطاء.
بهذا يتحول معنى الوجود، ويصبح العطية أو الهبة التي يجود بها الكشف والإظهار من ثنايا التحجب والخفاء،
21
وبهذا أيضا يصبح هو الحضور. هذا الوصف للوجود بأنه حضور ليس بالأمر الذي نقرره من جانبنا أو نختاره بمشيئتنا. لقد تقرر منذ زمن طويل وليس لنا فضل فيه، والتزم به الإنسان منذ طرح سؤاله القدري: «ما هو الوجود» حتى «حضر» هذا الوجود في تفسيره الأخير له على هيئة أقمار صناعية تجوب الفضاء، وتدور حول الأرض، ومركبات تغزو القمر والزهرة والمريخ ... إلخ.
لقد كان يحضر في كل مرة في صورة يعبر عنها الإنسان بالقوة والفكر، ويلتزم بها في الفعل والسلوك، ويراها ماثلة في الكائنات المحيطة به والأشياء التي يحيا بالقرب منها، ويستخدمها أدوات في شئون معاشه.
هكذا تغيرت صور الحضور، واختلفت باختلاف المفكرين وتعاقب العصور، فكان الحاضر مرة هو «الواحد»، أو «اللوجوس»، وكان هو الجوهر والمثال والفعل، والمونادة، والتصور والإرادة، والروح المطلق، وإرادة القوة، وإرادة الإرادة في عودة الشبيه الأبدية.
هذا شيء يشهد عليه التاريخ، حتى لقد طغى الوهم بأن تاريخ صور الحضور هو تاريخ الوجود. غير أن تاريخ الوجود شيء مختلف عن تاريخ المدن والحضارات والشعوب. فتاريخية الوجود لا تتحدد إلا بكيفية حدوثه، أي بأسلوب عطائه الوهاب، وتكشفه في نفس الوقت الذي يتوارى فيه خلف حجاب. هذا العطاء نوع من «التقدير»، والوجود الذي يعطيه هو الذي نصفه بالمقدر.
كل التحولات في صورة الوجود المعطى هي مراحل في تاريخ الوجود، أو بالأحرى تاريخ حدوثه. ومن قدر هذا التاريخ أن تفسيرات الوجود عن طريق الموجود كانت تحجب «قدره» الأصلي شيئا فشيئا، بحيث تواري معنى الحضور والعطاء بالتدريج، وأسدل عليه ستار بعد ستار.
إن الارتباط بين الزمان والوجود يشير إلى الأخير بوصفه حضورا، أي إلى طابعه الزمني. فلنفكر الآن في الزمان؛ لعلنا نهتدي إلى حقيقته.
كلنا يألف كلمة الزمان، ويستخدمها في تصوراته الشائعة على نحو ما يستخدم كلمة «الوجود»، ولكن ما أسرع ما نكتشف جهلنا بهما عندما نتصدى لتحديد معنيهما.
وما أصدق عبارة القديس «أوغسطين»
22
عن الزمان: «إن لم يسألني أحد عنه عرفته، وإذا طلب السائل مني أن أشرحه لم أعرفه.»
يتبين من كلامنا إذن أن الوجود في طابعه المميز مختلف عن كل ما يتسم به الموجود، وأنه في صميمه عطاء، والعطاء قدر تاريخي أعلن عن نفسه في صور وتحولات متنوعة.
كما يتبين مما قلناه أن ماهية الزمان لا توضحها التصورات الشائعة عنه، وأن الجمع بينه وبين الوجود ربما يقربنا منه، فالوجود كما عرفناه حضور أو هو بالأحرى إتاحة الحضور.
ونحن لا نكاد نذكر الحضور حتى نذكر معه الماضي والمستقبل، أي المتقدم والمتأخر بالقياس للآن.
غير أننا إذا أردنا أن نفهم الزمان من جهة الحاضر، فلا بد أن يكون هذا الحاضر هو «الآن» الذي يختلف عن آن الماضي الذي لم يعد له وجود، وآن المستقبل الذي لم يأت بعد. وإذا كنا لم نتعود على النظر إلى الزمان من جهة «حضور» الحاضر، فالواقع أننا نتصور الزمان - أي وحدة الحاضر والماضي والمستقبل - على أساس «الآن». وقديما قال أرسطو إن «الآن» هو ما يكون من الزمان أو يحضر فيه. أما الماضي والمستقبل فهما شيء لا وجود له
23 - صحيح أنهما ليسا عدما، بل هما وجود أو حضور ينقصه شيء نصفه بأنه هو «الآن» التي لم يبق لها وجود، و«الآن» التي لم تأت بعد.
وبهذا يبدو «الزمان» سلسلة من الآنات المتتابعة، بحيث لا نكاد نذكر إحداها، حتى يبتلعها لتوه ويطاردها على الفور.
هذا «الزمان» هو الذي يقصده كانط بقوله: «إنه ذو بعد واحد فحسب.»
24
وهو الزمان الذي يتألف من آنات متعاقبة، ونعرفه جميعا عندما نخضعه للقياس والحساب، وعندما نتطلع للساعة، ساعة الحائط أو ساعة اليد، ونراقب عقاربها قبل أن نقول مثلا: الساعة الآن الخامسة وعشر دقائق. نقول «الآن»، ونعني بها الوقت أو الزمن، ولكننا لن نعثر على الزمن نفسه مهما قلبنا في الساعة، وفحصنا آلاتها وفتشنا بين عقاربها! بل لن نلمس له أثرا مهما حاولنا أن ندقق النظر في أجهزة قياسه الحديثة التي تسمى «بالكرونومترات». ولعلنا أن نبتعد عن جوهره الحق كلما أمعنا في هذا البحث.
أين الزمان إذا؟! أهو موجود؟ أله مكان يحل فيه؟ أهو وعاء يضم الآنات والمكان الذي شبهه أرسطو بوعاء يسع العالم؟!
من الواضح أن الزمان ليس عدما. فكلنا يذكر اسمه، ويشعر بخطاه. فلنجرب أن ننظر إليه من جهة «الوجود» الذي وصفناه بالحاضر أو الحضور. ولنعلم أن حضور هذا الحاضر مختلف كل الاختلاف عن حضور الأبد، بحيث لا يمكن أن يفهم هذا ابتداء من الآن، بل تفهم الآن وتحدد ابتداء منه.
25
إذا صح هذا، فلا بد أن يكون الزمان هو الحاضر بمعنى الحضور، ولا بد أن يختلف عن تصورنا المألوف له على هيئة سلسلة من الآنات المتعاقبة التي تخضع للقياس. وإذا صح ما قلناه أيضا من أن الوجود حضور (تكشف وعطاء) أصبح الحاضر بقاء وتريثا في مواجهة هذا التكشف والعطاء، كما أصبح «الإنسان» هو الكائن الوحيد الذي يتلقاه وينتظر ظهوره، وينفتح عليه ويستجيب له. ولو لم يكن هو الذي يتلقى على الدوام هذه العطية لما بلغت إليه، ولبقي الوجود محجوبا مغلقا عليه، بل لما أصبح الإنسان هو الإنسان.
هل ابتعدنا بهذا عن موضوع الزمان وانصرفنا إلى الإنسان؟! الواقع أننا لم نبتعد عنه كما نتصور، بل ربما ازددنا اقترابا منه. فطبيعة الزمان لا تتجلى إلا في الحاضر، بالمعنى الذي قصدناه من الحضور، كما أن طبيعة الإنسان لا تتحدد إلا عن طريق التعرض لهذا الحضور، وتلقي عطاء الوجود الذي يتجلى له ويتخفى عنه في نفس الوقت. صحيح أنه يخاطبه على الدوام، ولكن ما أندر ما «ينتبه» لصوته. وصحيح أنه معرض لنوره الذي يظهر في هذا الموجود أو ذاك، ولكن ما أكثر ما ينشغل بظهور الموجود فيغيب عنه نور الوجود!
بيد أن «الحضور» لا يكون بالضرورة في الحاضر وحده، بل قد يكون فيما انقضى وما هو آت، أي في الماضي والمستقبل. وإذا شئنا الدقة، فإن العلاقة المتبادلة بين الآتي والمنقضي تتعانق في الحاضر، بل إن الثلاثة جميعا تسلم أيديها إلى بعضها البعض، بحيث تحضر في وحدة الزمن الواحدة.
ولكن ما الذي تسلمه إلى بعضها البعض؟!
إن هذا الذي تسلمه ليس إلا الحضور. وهذا الأخير هو الذي يلقي الضوء على ما نسميه عادة بالمجال الزمني. غير أن الزمن هنا لم يعد سلسلة من الآنات متعاقبة الحلقات، ولا مسافة فاصلة بين نقطتين آنيتين مما نقيسه ونحسبه عندما نقول على سبيل المثال: «في مجال زمني يبلغ طوله خمسين سنة حدث كيت وكيت». فالمجال الزمني الذي نقصده الآن هو الانفتاح، أو المجال المفتوح الذي تتحد فيه أبعاد الماضي والحاضر والمستقبل الثلاثة في عناق الحضور والعطاء، بل هو الذي يسبق ما نسميه بالمجال أو المكان، ويجعله ممكنا، كما يسبق كل قياس وحساب للزمن إلى نقط آنية تتتابع في خط ذي بعد واحد.
في هذه الوحدة التي تتلاقى فيها أبعاد الزمن الثلاثي، يحضر كل منها على طريقته: الوافد المقبل الذي لم يصبح بعد حاضرا، والذاهب المنقضي الذي لم يعد حاضرا، ثم الحاضر نفسه. وقد يخطر على بالنا أن هذا البعد الزمني الأخير هو أقرب الأبعاد إلى الحضور وأنسبها إليه.
ولكننا بذلك نخطئ معنى «الحضور» الذي يتجلى في الأبعاد الثلاثة جميعا، حتى إن «هيدجر» ليذهب إلى أن تبادل العلاقة بينها، بحيث تناول العطاء إلى بعضها البعض هو نفسه البعد الرابع للزمن.
وإذا كنا نسميه البعد الرابع، فالحقيقة أنه الأول من حيث الموضوع والرتبة، فهو الذي يحدد الحضور، ويشد الأبعاد الأخرى بعضها إلى بعض أو يباعد ما بينها.
ولهذا تقوم عليه وحدة الزمن التي نتحدث عنها، بل إننا لنستطيع أن نسميه ب «القرب»: القرب الذي يقرب بقدر ما يباعد.
فهو يبقي على الماضي مفتوحا عندما يحول بينه وبين أن يصبح حاضرا، وهو يدع باب المستقبل مفتوحا ويهيئ الحاضر لتلقيه. وهو قبل هذا كله يجمع بين اتحاد صور الحضور المختلفة في الماضي (الانقضاء) والمستقبل (الوصول)، والحاضر في وحدة واحدة.
علينا إذن ألا نتحدث عن كينونة الزمن أو وجوده، بل عن عطائه. هذا العطاء يتحدد بالقرب الذي يمنح ويهيئ ويضمن انفتاح مجال الزمن، يحفظ فيه ما فتح من الماضي، وحيل بينه وبين أن يصبح حاضرا وما هيئ من المستقبل ليكون حاضرا. وهو بطبعه عطاء ينير ويحجب، يظهر الموجود من حيث يستر الوجود نفسه.
منذ بدأت الفلسفة وهي تتساءل عن الأصل في الزمن. وكان من الطبيعي أن تهتم في المقال الأول بالزمن المحسوب الذي يتتابع في آنات متعاقبة.
وعرفت الفلسفة منذ البداية أيضا أن الزمن الذي نحسبه مستحيل بغير النفس أو الروح أو الوعي، أي مستحيل بغير الإنسان.
ولكن ما معنى هذا؟! هل الإنسان هو الذي يعطي الزمان أم هو الذي يتلقاه؟! وإذا كان التلقي هو الأقرب إلى المعقول، فكيف يتلقاه؟! هل يفعل ذلك «صدفة» بين الحين والحين؟!
إن الزمن الحقيقي هو القرب الذي يوحد بين أبعاده الثلاثة ويسلم أحدها للآخر في وحدة حضور حاضر وماض ومستقبل.
والإنسان يصبح إنسانا بقدر ما يتعرض لهذا القرب وينفتح عليه، وبقدر ما يعايشه من داخله أو يواجهه من خارجه.
26
ليس الزمن من صنع الإنسان، ولا الإنسان من صنع الزمن. فليس هنا مجال للصنع أو الصنعة، وإنما هو عطاء بمعنى التسليم المنير الذي يتيح كل حضور في مجال الزمن المفتوح.
قلنا الوجود «يوجد» كما قلنا الزمان «يوجد». وفهمنا الفعل بمعنى الجود والعطاء. والمعطى في الحالين واحد، ولعله شيء متميز، ولكنه يظل غامضا غير محدد، كما نظل إزاءه في حيرة. «فعبثا نحاول أن نفسر العبارتين على أساس القضية العادية المؤلفة من موضوع ومحمول، عبثا نفتش عن المجهول في العبارة الأصلية التي تنطوي على فاعل لا وجود له.»
وخير ما نفعله الآن أن نفهمه من ناحية عطائه وأسلوبه في العطاء على نحو ما تجلى في «قدر» الوجود و«تسليم» الزمان بالمعنى الذي أشرنا إليه. فالعطاء قدر، والعطاء تسليم منير. وكلاهما متصل بالآخر من حيث إن القدر يقوم على التسليم. والذي يجمع بينهما ويحفظ لهما ماهيتهما هو ما يسميه هيدجر بالحدث الذي يتم ويحتجب في نفس الوقت من خلالهما.
أيكون هذا الحدث هو المعطى الذي تعبنا في البحث عنه؟! لنؤخر هذا السؤال قليلا، بحيث نجيب على سؤال أسبق منه: ما هو الحدث؟! ولنعلم قبل الإجابة أن «الحدث» هنا لا علاقة له بالمعنى المألوف للكلمة؛ لأننا لن نفهمه إلا على ضوء ما قلناه عن الوحدة الجامعة بين «التقدير والتسليم»، وكلاهما أسلوب عطاء. بهذا نكون قد اقتربنا من الهدف الذي أخذنا ندور حوله منذ البداية: تحديد الوجود عن طريق الزمان.
وبهذا نأتي إلى العبارة الحاسمة التي اجتهدنا في إلقاء الضوء عليها: «الوجود حدوث».
هل انتهينا إلى تفسير جديد للوجود يضاف إلى التفسيرات العديدة التي قدمتها الفلسفة للوجود على أساس الموجود، كالمثال والفعل والتصور المطلق والإرادة؟!
أنكون بهذا قد خطونا خطوة أخرى على طريق «الميتافيزيقا» الذي أردنا أن نحولها عنه؟! لن نخشى شيئا من هذا لو فهمنا الوجود بمعنى الحضور، وفهمنا «الحدوث» بمعنى العطاء الذي يكلفه قدر الحضور.
فسوف يكون الوجود أسلوب حدوث، ولا يكون الحدوث أسلوب وجود.
ولكن ما معنى أن الوجود حدوث؟!
معناه أن الوجود والزمان كليهما يحدثان، والحدوث عطاء مقدر، والعطاء كما رأينا مرتبط بالتقدير والتسليم، وهذا بالحفظ والحيلولة والتهيئة (على نحو ما رأينا عند الكلام عن أبعاد الزمان الأربعة).
أي إن الحدث في نهاية الأمر مرتبط أيضا بما يسميه هيدجر هنا بالتمنع أو التراجع، وما يسميه في مواضع أخرى «بالتستر والاحتجاب».
27
ولما كان الوجود - بوصفه حضورا - إنما يعني الإنسان ويخاطبه، فإن جوهر الإنسان يقوم على الاستجابة له والإنصات لندائه، كما يعتمد على الدخول في المجال الزمني ذي الأبعاد الأربعة الذي يتم فيه الحضور، أي يتحقق العطاء والتسليم.
ومعنى هذا أن الإنسان مرتبط بالحدوث؛ إذ فيه وحده يعطي الوجود والزمان. بل هو الذي يعيد الإنسان إلى ماهيته وحقيقته، ولا بد له في سبيل هذا أن يتلقى حضور الوجود؛ لأنه يعنيه وحده، وأن يدخل كما قلنا في مجال «التسليم» الذي هيأه الزمن الحقيقي الموحد ذو الأبعاد الأربعة.
هكذا ينتمي الإنسان انتماء أصيلا للحدث، ففيه وحده يعطي الوجود والزمان. ولأن هذا الانتماء يعتمد على ما يقوم به الحدث من تأصيل (أو توحيد)، فإن الإنسان يتصل بالحدث عن هذا الطريق.
بهذا يؤكد هيدجر أننا لن نستطيع أن نضع الحدث، كما لو كان شيئا يواجهنا مواجهة الشيء أو الموضوع. ولن نستطيع أن نتصوره، كما لو كان هو الشامل المحيط بكل شيء. ولهذا أيضا يعجز العقل المفسر عن بلوغه، كما يخفق القول المعبر بالقضايا المألوفة عن الوصول إليه.
هل استطعنا أخيرا أن ندرك طبيعة الحدث؟ هل ساعدنا النظر إلى الوجود «وقدره» والزمن «وتسليمه» على بلوغ معناه؟ هل اقتنعنا بما يفرضه على الإنسان من واجب ومسئولية؟ أم تمخض الأمر كله عن بناء فكري كسائر الأبنية التي يزخر بها تاريخ الفلسفة؟ وإن هذه الأسئلة جميعا تفترض أن الحدث لا بد أن يكون موجودا كسائر الموجودات. والتسليم بهذا الفرض المعكوس أشبه بمحاولة اشتقاق المنبع من النهر! إن الحدث ليس «موجودا»، فأقصى ما يمكن قوله عنه إنه يحدث. قد تبدو هذه العبارة مجرد تحصيل حاصل. ولو حاكمناها بمقاييس المنطق لما قالت شيئا، حتى إذا جعلناها موضوع التفكير والتأمل تبينا أنها لا تقول جديدا، وإنما تعبر عن شيء قديم قدم الفكر الغربي نفسه، شيء منطو فيما اصطلح الإغريق على تسميته «الأليثيا» أي الحقيقة بمعنى تجلي الوجود وتكشفه من طوايا التستر والاحتجاب. والتأمل في هذا المعنى الأول لا يزال يلزم كل تفكير جاد.
بهذا يكون هيدجر قد حاول التفكير في الوجود بعيدا عن الاهتمام بالموجود، بعيدا عن الميتافيزيقا التي ما فتئ يبذل المحاولة تلو المحاولة لقهرها وتخطيها؛ لكي يمهد للتفكير في الوجود نفسه. ولعله في هذه المحاضرة المتأخرة عن «الزمان والوجود» قد نفض يديه من الميتافيزيقا، وجرب أن يفكر في الوجود نفسه «وحدوثه»، أو حضوره وظهوره في الزمان. وهكذا وجد نفسه مضطرا للتخلي عن أرض الميتافيزيقا وطرح لغتها، والبحث عن لغة أخرى تعذب في تطويعها للتعبير وعذبنا معه! لقد أخذ يزيح العقبات عن طريقه وبقيت العقبة الكبرى التي لم يقو عليها، إذ اضطر للكلام بالعبارات والقضايا التقليدية عن موضوع لا تصلح له ولا يصلح لها؛ لأنه ليس في الحقيقة موضوعا، بل هو الأساس لكل موضوع. •••
عرضنا فيما سبق رأي فيلسوف معاصر، لم يمض على موته أكثر من عام، عن الحاضر والحضور. ولا شك أنه متصل بفلسفة صاحبه عن الوجود، كما ينطوي على قدر غير قليل من التعسف والغموض. وهو لم يصادف على كل حال ما يستحقه من عناية واهتمام، لا سيما من أصحاب العقل الذين يعولون عليه في شئون الحساب والقياس والتقدير.
لقد آمنت الأجيال السابقة كما يؤمن الجيل الحاضر بأن العلم الطبيعي والفلسفة المرتبطة به هما وحدهما القادران على الكشف عن جوهر الأشياء، وتحديد إمكانات التجربة، أي إن العقل الذي يحسب ويقيس هو وحده القادر على كشف معنى الواقع. ولا شك أن معهم الحق في هذا ما بقوا في مجال العلم والعمل وتصريف شئون التقدم والمعاش.
غير أن الإنسان كان يحس على الدوام بعالم آخر مختلف تمام الاختلاف تحرك شخصياته وصوره الوجدان، ويضفي على الوجود كله كرامة وجلالا ومجدا يعجز عنه البحث العلمي، ولا يكاد يعرف عنه شيئا.
ذلك هو عالم «الشعراء» وعالم «الأساطير» و«الطقوس» عند الشعوب القديمة والشعوب الفطرية.
فلنحاول أن نفسر ظاهرة الحضور من وجهة نظر الشعر والأسطورة والطقوس تفسيرا جديدا.
ترددت شكوى الإنسان الدائمة - كما رأينا - من زوال وجوده وتناهيه وانقضائه، وليس من المحتمل أن تتوقف هذه الشكوى، وما ينبغي لها كذلك أن تتوقف. فليس من قبيل الصدفة أن يقول المتنبي:
صحب الناس قبلنا ذا الزمانا
وعناهم من أمره ما عنانا
ولم يكن من قبيل الصدفة كذلك أن تتردد شكوى الزمان على ألسنة الحساسين من الأدباء والمنشدين في الحضارات القديمة. غير أن شكوى الإنسان كانت تقابلها على الدوام معرفته بما لا يزول أو ينقضي، وإحساسه بالأبدي غير الزمني، وشعوره بسكينة مقدسة، أشبه بصخرة تتدافع حولها أمواج الزمن الصاخب وتتحطم عليها.
وقصيدة ليوباردي (1798-1837م)
28
التي جعل عنوانها «اللامحدود» تعبر عن هذه المواجهة بين الأبدي والزماني: «غاليا على نفسي كان على الدوام هذا التل الموحش
وهذا السياج الذي يسد منافذ الرؤية
من كل جانب من جوانب الأفق البعيد
غير أنني عندما أجلس وأنظر،
تتمثل لفكري الأماكن الشاسعة هناك
والصمت وراءها يفوق قدرة البشر
والسكينة العميقة العميقة،
فيوشك قلبي أن يتزلزل من الرعب،
وكلما سمعت الريح تعصف بهذه الأغصان
وجدتني أقارن بين الصمت العظيم هناك
وبين هذا الصوت،
وأتفكر في الأبدي،
في الأزمان التي ماتت ولا تزال الآن حية
وفي الصوت الذي يتردد منها.
وهكذا يغوص فكري في اللامحدود.
وأشعر بعذوبة الغرق في هذا البحر.»
الإنسان إذن يعيش في الزمن والأبد معا، «فالروح لها عينان، عين تتطلع للحاضر، وتحن الأخرى للأبد» كما يقول أشهر شعراء التصوف عند الألمان.
29
وكلما ازداد حنين عين للأبدية، ازداد تألم العين الأخرى لانقضاء الزمن وزواله، ازداد عذابها بيقين الموت المحتوم (فحتى الجميل يتحتم عليه أن يموت كما يقول «شيلد»). إن الزمان يعيد إلى قبر الماضي كل مولود يولد، بعد أجل موقوت وحضور عابر.
ولقد حرك هذا الشعور - كما رأينا - وجدان الإنسان منذ آلاف السنين، وأراد الكثيرون أن يحولوا أنظارهم عن الزمن كي يتطلعوا إلى الأبدية وحدها.
وتنافس الدين والفلسفة في سلب كل قيمة عن الزمني والمنقضي، والبحث عن الحقيقة والوجود في الأبدي واللازمني. ولقد شعر البعض بالراحة، وتنفسوا الصعداء عندما قدمت لهم فلسفة «كانط» الدليل تلو الدليل على أن المكان والزمان لا شأن لهما بوجود الأشياء ذاتها، وإنما هما من شأن الطبيعة البشرية، صورتان قبليتان للحدس أو العيان قائمتان في وجدان الإنسان.
ومهما يكن من قوة هذه الأدلة أو ضعفها، فقد احتجت التجربة الحية عند أصحاب الرؤية من الفنانين والشعراء أشد احتجاج على ما قاله «كانط» عن مثالية المكان.
أما مشكلة الزمان، فيبدو أنها كانت ولا تزال أقرب لوجود الإنسان وأغنى بالألغاز.
وهل هناك أشد إيلاما من اليقين بأن كل ما حولنا، ونحن أيضا، سنغوص ذات لحظة في الماضي لنصبح «خبر كان»؟ أي شيء أبعث على الحزن من العلم بأن «الميت» في هذا العالم يزيد ملايين المرات عن «الحي»، وأن وجودنا الذي يمتد الآن بجذوره في الماضي يسرع دون توقف نحو اللحظة التي سيتلاشى فيها؟!
أليس من حق الإنسان أن يلتمس العزاء في حقيقة خالدة لا تمتد إليها يد الفناء، وأن يعد الزمانية من علامات النقص في وجوده الأرضي؟!
ألم يعمد الإنسان منذ القدم إلى وصف أربابه بالخلود، في الوقت الذي كان يتبين له فيه عجز كل ما هو بشري وتبدده كالدخان؟!
غير أن هناك نظرة أخرى للعلاقة بين الزمن والسرمدية: إن السرمدية نفسها تحضر في الزمان، وأبعاد الزمن الثلاثة يمكن أن تصبح كلها حضورا سرمديا في أزلية الماضي، وأبدية المستقبل، وخلود اللحظة الحاضرة.
بل ربما وجدنا من «الشعراء»
30
من يقول بأن «الإلهي» نفسه في سرمديته محتاج للزمانية وللإنسان، وأن للزمني كرامته ومكانته وثراءه بالوجود.
لن تنقطع الشكوى إذن من الزوال والانقضاء، ولكن لا ينبغي لهذه الشكوى أن تتحول إلى اتهام، فيعمى المتهم عن معجزات الوجود التي يمر بها مرور العابرين، وتغفل عينه عن الحضور الذي يناديه من أعماق «النهر» الذي مضى، ومن وراء «البحر» الذي أوشك أن يظهر السفين، ومن قلب الواقع الذي يكشف الأقنعة لكل من يريد أن يرى وجهه الخاطف البريق.
وماذا يكون حال الوجود إن خلا من جلال الماضي، وانتظار المستقبل، ونشوة الحاضر؟ هل يمكن أن تنعكس عليها جميعا روعة الحاضر؟!
يقول الشاعر «شيلر» في حكمة على لسان «كونفوشيوس»: «ثلاثية هي خطوة الزمان:
مترددا يأتي المستقبل على مهل
وفي سرعة السهم طار الآن
والماضي ساكن سكون الأبد.»
عرف الناس في كل العصور والبلاد أن كل شيء يسرع إلى قبر الماضي، وأن الحاضر عابر والمستقبل مجهول. وتنطق العرافة «كاساندرا» بلسان الغريب فتحذرنا من عبث الوجود الأرضي، وذلك في قصيدة «شيلر» عيد النصر.
31 «غدا يتهدم كل كيان
غدا سيرف رفيف الدخان
وتبقى من الأرض أمجادنا
وتبقى على الدهر أربابنا
مخلدة تتحدى الزمان
وحول الجواد ورأس البطل
تحوم الهموم، وحول السفين
ستمضي الحياة ويذوي الأمل،
فهيا نعش يومنا يا صحاب!»
ولعل «شيلر» كان يردد نفس الدعوة التي عبر عنها قبله شاعر الرومان «هوراس» عن رغبة الناس في الاستمتاع بيومهم قبل أن يتحسروا عليه: «بينما يمضي الوقت في الكلام
سيولي العمر الغيور بالفرار
لهذا أقطف يومك.»
ومع ذلك فقد كان الإنسان يشعر على الدوام بأن الماضي لا يزال موجودا، وإن يكن كل شيء قد انقضى. وكانت تجربته العريقة تعلمه أن الماضي لم يزل له وجود (من حيث هو ماض لا من حيث النتائج التي ترتبت عليه).
والأهم من هذا أن الإنسان جرب الخلود، وعرف الأبد في هذا الماضي. لم تأت تجربته أو علمه من عالم آخر أو قوة أخرى، بل جاءت من الزمان نفسه. فاللازمني أو الخالد ليس غريبا عن الزمن كما نتصور، بل كلاهما متعلق في وجوده بالآخر، وكلاهما ينبع من الآخر باستمرار.
وخطوة الزمن الثلاثية التي ذكرها «شيلر» في حكمته الشعرية تؤكد لنا بالصورة الموحية ما تعجز مفاهيم العقل عن إيضاحه: إن أنواع الوجود الثلاثة في خطى الزمان تكشف جميعا عن اللازمني أو السرمدي.
كان يقين الموت المحتوم ولا يزال هو الشاهد القاسي على أن كل شيء يمضي، وأن كل وجود على الأرض يفنى ويزول. وترددت أقوال الأدباء والمفكرين التي لا يجدي حصرها عن أن «ساعة الميلاد هي ساعة الموت»، و«أن الطفل يولد شيخا ناضجا للموت»، «ولما تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد.»
وعبر «هيجل» عن هذه الأفكار أفضل تعبير حين قال على طريقته: «إن وجود الأشياء المتناهية، من حيث هو كذلك، ينطوي على بذرة الفناء يوصفها وجودها في ذاته، فساعة ميلادها هي ساعة موتها.»
وسرت نغمة الوجود للموت في فلسفة الوجود المعاصرة مسرى النار في الهشيم، تغذيها فظائع حربين عالميتين، وأخطار حرب متوقعة في كل لحظة، وأهوال الظلم والعسف التي تثقل على صدر عالمنا البائس.
غير أن هناك صوتا قديما لم يقدر له الارتفاع فوق هذه الأصوات الناعية المكتئبة، وإن لم يكن أقل منها حرارة ولا صدقا، صوت لا يوافق على أن الموت هو الرعب الجاثم فوق صدر الطبيعة، ولا يملأ القلوب بالقلق والقتامة، ولا يزعم أيضا أن الموت هو المحرر الأكبر الذي يفتح لنا أبواب السعادة الأبدية. فليس الماضي في رأيه عدما، ليس شيئا فات وانقضى إلى غير رجعة، ولم تبق منه - إن بقي شيء - سوى آثاره، وإنما هو عنده كيان مقدس، لا يقل في الوجود عن الحاضر أو المستقبل.
إنه يعبر عن تجربة القدماء والأسلاف بأن الأجداد حاضرون في الأحفاد، وأن الماضي ترفعه الذكرى وتصفيه وتعلي قدره.
فالموت وكل ما مات يبعث في النفس الخشوع. وربما صور لنا العلم أو ما نتوهم أنه علم أن ما نسميه بعبادة «الموتى الأسلاف» شيء تفسره حاجة الإنسان وعجزه وخوفه ووحدته في هذا الكون، ولكن الشهادة التي يقدمها تاريخ الشعوب من آلاف السنين أقوى من كل دليل. فكم من أساطير وكم من عادات وتقاليد عريقة قامت على وجود أولئك الذين عبروا بوابة الموت، وهو وجود رفيع القدر لا يقاس به وجود الأحياء.
صحيح أن الأسلاف عند من نسميهم بالشعوب البدائية أو الفطرية قد ماتوا وذهبوا، ولكنهم كأموات لا يزالون موجودين وجودا واقعيا يفوق كل وجود. إنهم يرجعون إليهم في كل احتفال، ويهيبون بهم في كل موقف تكشف فيه الحياة عن أعماقها الأصيلة في الموت والميلاد والزواج، في الزرع والحصاد، والخصب والجفاف. هم الغائبون الحاضرون على الدوام، وجوههم تطل عليهم، وأصواتهم تباركهم وتشد أزرهم، أو تلعنهم وتحذرهم.
هل نحن بحاجة إلى شواهد عن هذه العقيدة الأصلية التي تستند إلى التجربة الأولى للإنسان؟ هل يكفي أن نذكر أسماء الأبطال وهم حالة واحدة من حالات الفناء الذي يسري قدره على كل الأشياء وينقلها إلى وجود آخر هو الذي نسميه الماضي؟!
أليس هذا وجودا ساميا رفيع القدر، يصل عند بعض الشعوب إلى رتبة الوجود الإلهي نفسه، وإن لم نكد نفهم عنه اليوم شيئا، نحن الذين نحيا على السطح، ونلهث وراء المنفعة، ونكبر من شأن العقل الذي يحسب ويقيس ويغفل عن نبض الواقع الذي اتصل به قلب الإنسان منذ القدم؟!
ألا يكفي أن ننظر لحياة الفلاح المصري والعربي، وحياة الكادحين في بلاد النهرين لنرى كيف يحددها ويسيطر عليها وجود الآباء والأجداد والأولياء، بل قبورهم التي لا يكفون عن زيارتها والتبرك بها؟
عرفت أساطير الإغريق عالم الموت السفلي، ونسب شاعر الأوديسة للأموات وجودا في «هاديس» أقرب للظلال، وإن يكن وجودا على كل حال؛ لأن الحياة الحقة عنده وعند سائر اليونان هي الحياة تحت الشمس.
ولكن أقدم أساطيرهم وعقائدهم الشعبية تكرم الموتى، وترفعهم إلى مصاف الأبطال، بحيث أصبحت صورة البطل الإلهي جزءا لا يتجزأ من الديانة الإغريقية.
والعهد القديم يصف «صمويل» الذي بعث حيا من بين الأموات بأنه «إلوهيم» أي بنفس الكلمة العبرية التي تدل على الله.
أما الرومان، فكانوا يجعلون من أمواتهم آلهة، حتى طغت هذه العقيدة على تقاليد الموت عندهم، فالأسلاف الذين ماتوا كانوا حاضرين دائما في كل احتفال بدفن الموتى، وكان من المألوف أن يحمل بعض الممثلين أقنعتهم وشعاراتهم وهم يسيرون خلف جنازتهم، بل إن اللغة اللاتينية تصف الأجداد بأنهم «العظماء».
32
الماضي موجود إذن في عقيدة الإنسان وتجربته الأصلية، بل إنه ليتحول في ذاكرة الأحياء ذلك التحول الذي تصفه أنشودة «آرييل» في مسرحية «العاصفة» لشيكسبير، وهي الأغنية التي نقشت كلماتها على قبر الشاعر الغريق «كيتس» في روما : «لا شيء منه قد ذوى أو شحبا،
بل استحال تحت البحر عجبا
أبهى من الكنز سنا وأغربا.»
والأعجب من هذا التحول نفسه هو ما تمخض عنه، وهو الكلمة. كان الشعر هو الثمرة التي ازدهرت على شجرة الماضي المقدس، كانت الكلمة هي ابنته المقدسة. وهل كان في مقدور الروح أن تبتدع ما أبدعت من روائع القصيد لو لم يكن للماضي وجود أقوى من كل وجود؟! ألم يكن الشاعر القديم - في أدبنا وأدب غيرنا - يفتخر بقدرته على أن يمنح بغنائه الخلود لمن يشاء، وينزل اللعنة الأبدية على من يشاء؟!
أكان من قبيل الصدفة أن تعتز القبيلة العربية بشاعرها الذي يشيد بأمجادها، وأن يرفع الرومان من شأن شاعرهم الذي يصفونه باسم «الفاتس»،
33
أي الرائي أو الملهم والعراف؟
أيرجع الفضل في هذا الغناء لموهبته الشعرية ، أم قدرته على استقبال الماضي والاشتغال به؟! ألم يكن هذا الماضي في انتظار من يخلده، لا ماضي بطل فرد مات، بل الماضي نفسه الذي أصبح له نوع من الوجود الإلهي؟ ولماذا أصبحت ربات الفن «الموازي»،
34
عند الإغريق هي أصوات الحقيقة؟ ولماذا أطلقوا على اسم أمها «المينموزينة»،
35
أي ربة الذاكرة والتذكار، وجعلوها أشد الأرباب قربا من زيوس رب الأرباب؟! صحيح أن «الموزاي» تتغنى أيضا بالحاضر والمستقبل الإلهيين، ولكن واجبهن الأسمى هو الارتفاع بالماضي إلى بهاء الخلود. ولهذا لم يعرفن شيئا عن ظلمة الموت وجهامته. ولهذا أيضا نرى الشاعرة «سافو» تعلم ابنتها أن النواح حتى على الأموات غير مباح في حضرة ربات الجمال: «فالبيت تعبد فيه ربات الجمال
لا يستباح به النواح؛
لأن هذا لا يليق ولا يقر به السماح!»
ونخطئ لو تصورنا أن الشاعر الحق يتغنى بالجميل والجليل ويخلده؛ لأنه شيء فريد فحسب، فعالم الماضي كان يتشابك بألحانه العديدة في أغنية الشاعر التي نتعلم منها معنى الخلود.
في وجود الماضي، وفيه وحده، يسطع نور السرمدي، هنا أيضا نجد أصلا من أصول الخلود الأبدي، وهو شيء مختلف كل الاختلاف عن اللازمانية أو لا نهائية الزمان.
إن طقوس العبادة لدى الشعوب القديمة هي في صميمها طقوس تذكر وتكرار دقيق لما قامت به الآلهة نفسها في الأزمنة السحيقة من أعمال. صحيح أن هذا جانب واحد من حقيقة هذه الآلهة التي تنجلي كذلك - كما سنرى فيما بعد - من جهة الحاضر والمستقبل، لكن الحديث عن الرب الخالد منذ الأزل وتسميته بالأب القديم أمر عرفه الإغريق والرومان (الذين وصفوا الآلهة القديمة بالآباء)، كما هو معروف عند الشعوب الفطرية حتى يومنا الحاضر، مما يؤكد أن التفكير في الألوهية وفكرة الخلود نفسها مرتبطة بالماضي بأوثق رباط.
وليس من قبيل الصدفة أيضا أن تصف المسيحية بأنه «الآب»، ولا أن يجمع شاعر أوروبي حديث هو «جوته» بين هذا التصور المسيحي وبين أقدم الأساطير والمعتقدات في قصيدته المشهورة التي تذكر الإنسان بالحد والاعتدال، وتحذره من أن يقرن نفسه بالآلهة: «عندما يبذر الأب المقدس الموغل في القدم
بيده الساكنة من السحب الدوارة
بروقا مباركة فوق الأرض.
أقبل طرف ردائه
تجرفني رعشة طفل
تتملك مني الصدر
بالرهبة والتحنان
إذ لا يخلق بالإنسان
أن يقرن نفسه بالأرباب
فإن ارتفع بنفسه
وبهامته لمس الأنجم
لن يثبت كعباه المرتعشان
في أي مكان،
بل سرعان
ما يصبح لعبة
في كف السحب وكف الريح.»
هذه الملاحظات التي سقناها عن الشعوب التاريخية القديمة، أو شعوب ما قبل التاريخ، تبين لنا أن الإنسان كان يحيا في الماضي، ويغترف من نبعه الأصلي بمقدار ما يزداد قربه من الطبيعة الأم. من هنا استمدت الشعوب القديمة ثباتها وصمودها.
لم تكن آلهتها تبشرها بالمستقبل أو تحمل لها الوعود، بل كانت تهبها الحقيقة وثراء الأصل.
أما الاتجاه الحاسم للمستقبل فهو شيء جديد وطارئ، لم تعرفه أوروبا إلا في مطلع العصر الحديث.
لقد ظلت تحلم بالمستقبل وتصوره في «يوتوبيات» (مدن مثالية) على لسان أدبائها ومفكريها منذ عهد أفلاطون، وربما قبله إلى يومنا الحاضر. ولكن هل عاشت في حضور المستقبل الذي يتجلى في السرمدية، أم ظلت تحلم بحالة مقبلة تبدو عليها الأشياء في صورة أكمل، سواء أكانت دنيوية أو لاهوتية، علمية أو اقتصادية؟
لقد بدأ الحلم بالخلود مع أواخر عهد الديانة اليهودية، وتبعته الرؤى المختلفة عن الكايروس،
36
أو لحظة الخلاص عند نهاية التاريخ أو بدئه من جديد كما تبعته رؤاها عن نهاية العالم، والحساب الأخير، والخلق الجديد.
فلما تبددت هذه الأحلام ولم ينته العالم ولا اكتمل، ظهرت من جديد في صورة فكرة التقدم التي تحولت أشكالها منذ فلاسفة التنوير حتى المذاهب الفلسفية والاقتصادية المعاصرة. وابتعد الإنسان عن الطبيعة، وأوغل في الصنع والتصنيع، وفقد القديم خلوده، وزالت عن الماضي قداسته. •••
رأينا من تجربة الإنسان الأولية في الشعر والأسطورة والحس الفطري أن الماضي لا يزال حاضرا، وأن حضوره يتخذ صورة الوجود الذي يحوطه الشرف والجلال. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن المستقبل. فهو حاضر على الدوام في وجود عجيب يظهر في أشكال وظواهر لا حصر لها، تفطن أعين البشر إلى بعضها، ويختص قليل منهم بكشف السر عن بعضها الآخر. ولقد عرفت الشعوب القديمة أن العلم بالمستقبل يحتاج لموهبة أو إلهام مخصوص، فراحت تغدق على أصحاب الرؤية ألوان التكريم والتعظيم. وهدتها الخبرة الطويلة إلى أساليب مختلفة للملاحظة والتفسير والكشف والتنبؤ بما يأتي به الأيام. ومراقبة أسراب الطير (زرقاء اليمامة) وظواهر الخسوف والكسوف والرعد والبرق وأحشاء الذبائح والأضاحي والأوبئة والحروب والمجاعات ... إلخ عند العرب والإغريق والرومان أشهر من أن نتحدث عنها. والدور الذي يشغله الكاهن والمتنبئ والعراف والمنجم والساحر والرائي عند هذه الشعوب أو غيرها ولا يزال يحتل مكانه في أعماق شعورنا أشهر من التعرض له. ومهما يكن من أمر التفسيرات والشواهد، فإنها جميعا تقوم على هذه الظواهر الأولية أو هذه التجربة الأصلية للمستقبل علامات وإشارات تسبقه، ولا يستطيع فهمها وقراءة حروفها إلا الموهوبون من أصحاب الرؤية والبصيرة. وحتى ظواهر «الكشف» المختلفة التي يدرسها اليوم علماء النفس تشهد بأن المستقبل حاضر بالفعل، وقد ترك آثاره حولنا، مهما تكن ضآلة هذه الآثار.
إن تجربة اللقاء بالمستقبل تثير في النفس شعورا عجيبا. ليس من الضروري أن يكون هذا المستقبل المتوقع خطيرا، ولا أن يحمل في أحشائه النعمة أو النقمة. فالمهم أن يصبح حقيقة حية. وكلنا يشعر أن فرحة الانتظار أصفى وأجمل من سعادة التحقق. وكلنا يدعو الله في سره أن يحميه من ألم الرغبات المتحققة، ويحييه على أمل الوعد والرجاء ...
وسعينا الدائب إلى المعرفة يستمد حرارته وإخلاصه من وجود المستقبل. والأمل في العدالة والسعادة والمحبة والخير، تجربة يعيش عليها الأدب والفن والفكر والحياة اليومية؛ لأن الإنسان بطبيعته حيوان آمل، ولو فرض أن تحققت هذه المثل والقيم والآمال لتوقف الزمن، وامتنعت الحياة. وستظل كلمة الأديب الناقد الألماني «ليسنج» تتردد في الآذان ككل الكلمات الصادقة: «ليست الحقيقة التي يملكها إنسان أو يتصور أنه يملكها هي التي تجعل له قيمة، بل الجهد الصادق الذي بذله في التماسها والسعي إليها. فليس تملك الحقيقة هو الذي ينمي قواه وطاقته، وإنما البحث عنها هو الذي يعمل على تفتحها، وفيه وحده تكمن قدرته على الاستزادة من الكمال. إن التملك ليجعل الإنسان كسولا ساكنا مغرورا. ولو أن الله وضع الحقيقة كلها في يمناه، وترك الدافع الوحيد الذي يحرك الإنسان إلى طلبها في يسراه، ومد نحوي يديه المضمومتين وهو يقول: «اختر بينهما» لركعت أمامه في خشوع وهتفت وأنا أشير إلى يسراه، رب أعطني هذه، فالحقيقة الخالصة ملكك أنت وحدك!»
غير أن وجود المستقبل لا ينطوي على الأمل والوعد فحسب، بل قد ينذر بالهول والدمار. هنالك يسيطر على كيان الإنسان، بحيث يصبح بصورة من الصور هو هذا الوجود نفسه. كذلك كان العرافون والعرافات (السبيلا) والمتنبئون وأصحاب الرؤية، بل كذلك يكون العبقري الذي وصفه «هلدرلين» في أنشودته عن «روسو»: «فروحه تطير كالنسور
لتسبق الرياح والأنواء
معلنة عن موكب الأرباب.»
37
وكذلك يكون المنشدون و«المقدسون» الذين عبر عنهم «هلدرلين» في قصيدته المعروفة «خبز ونبيذ».
38
فحرفتهم هي سبق الزمان، ولهذا يسبقون الأقدار العظيمة، ويحيون في خدمتها وطاعتها. ولهذا أيضا يستمعون في حياتهم الحاضرة إلى صوت المستقبل: «الحكمة في شرعتنا أغنية المهد
تغطي العين بليل أقدس،
لكن ما أكثر ما يتوهج
بين السحب الرنانة
صوت إله الزمن يحذر.»
قد يكون صوت المستقبل متوعدا أو واعدا، قد يكون وجوده رائعا أو مريعا، فإشارات المستقبل على الدوام تلفها هالة إلهية، ولهذا كانت وستبقى محفوفة بالرهبة والجلال. وهي تحمل على كل حال أثرا من آثار «معجزة الأصل» و«تجربة المنبع». ولكن هذه المعجزة وهذه التجربة ليستا سرا غيبيا لا يفهمه إلا الصفوة. إنها ماثلة في الطبيعة المحيطة بنا، وإن كانت تحتاج إلى العين المندهشة لتراها خلف سطوح الأشياء:
في الطفل المولود الذي يختبئ فيه المستقبل، وكل ما يحيط به من رهبة ورعشة وأمل وخوف، في جمال الصبي أو فتنة الفتاة التي تبعث فينا الحب النقي الخالص، في ابتسامة الأم الشابة التي تبتسم لوليدها، فيرتفع بها صفاء الابتسامة من المرأة المحدودة إلى الأصل الراسخ البعيد، إلى المرأة والأم والربة إيزيس والأرض الأم التي ولدت الابن السماوي. وتصبح الأم الصغيرة رمزا للميلاد الخارق الذي سجلت به الأسطورة، وشعائر الطقوس القديمة رؤيتها للمستقبل في مولد البطل الرب، أو الرب البطل. هكذا تحدث المستقبل منذ القدم للإنسان، هكذا كشف له عن وجهه الرهيب أو وجهه الحبيب.
في كل هذه الرموز والأحوال «يحضر» المستقبل، نقف منه موقف الحب والشوق كما وقفنا من الماضي وقفة الخشوع والإشفاق.
صحيح أن شوقنا إليه أو إشفاقنا منه لا يخلو من الحاجة أو المنفعة، والرغبة أو الرهبة، ولكن الشاعر الحق هو الذي يملك الرؤية الخالصة، ويتحدث إلى المستقبل حديثه لوجود لا محدود يحس دبيب خطواته، ويشعر بنبضه، وينفتح على وجوده، ويعين القلوب على الإحساس به. فالشاعر يسكن سكنا شعريا فوق الأرض، وهذا الشاعر الذي اقتبسنا بعض أبياته منذ قليل هو الذي يختم قصيدته إلى العروس بهذه الأبيات:
لا أيها الأحباب! لا! إني لا أحسدكم،
فالشعراء يعيشون دون أن يؤذوا أحدا
كما تعيش الزهرة على النور
وتطيب لهم الحياة على الصورة الجميلة
حالمين، سعداء، مساكين.
لكن هؤلاء الحالمين المساكين هم الذين يحيون في ماء النبع الأصلي. وهم الذين يعيشون تجربة الحضور، سواء أكان حضور الماضي الرهيب أم حضور المستقبل المحبوب. وليس هذا مقصورا عليهم أو على واحد منهم ذكرناه. فالإغريق كانوا يحتفون بالربة «خاريس»، ويعدونها ربة النعمة الماثلة في كل ما يزدهر ويوحي بالأمل.
عرفوا أنها هي الروح التي توقظ الغناء، لا بالماضي وخلوده - ومنه يتدفق كل شعر عظيم - بل بالحب والمعرفة بالمستقبل، بحضوره غير المحدود. وليس من قبيل الصدفة أن كان للعراف والعرافة في أدبهم كل هذا الشأن.
أراد «زينون» الإيلي أن يؤيد فلسفة أستاذه بارمنيدس بكل وسيلة، فراح يثبت بمفارقاته العجيبة أن الزمن يتألف من آنات. وعبثا حاول «ديوجينس الكلبي» أن يفند مهزلته الحزينة عندما نهض واقفا من بين المستمعين الذين التفوا حوله، وأخذ يذهب ويجيء على مشهد من الجميع، لعل صاحبنا يقتنع بأن الحركة موجودة، وأن الزمان تبعا لذلك موجود! وبدت المفارقة - حتى عهد قريب عندما فك عقدتها برجسون والرياضيون المحدثون - كالصخرة العنيدة التي يتحطم عليها كل سفين. وبدا كأن الناس لا تجرب حياتها إلا في آنات تعقبها آنات، وكأن صاحبنا القديم قد جمع أبعاد الزمن كلها في هذه «الآن». لكن الواقع يشهد بأن الإنسان يقضي حياته في الماضي أو في المستقبل، وأن تجربة «الآن» من التجارب النادرة في حياته. فإذا أراد أن يجرب الحضور الحق في اللحظة فلا بد أن تنبهه الأشياء وتوقظه بقوة، ولا بد أن يملك القدرة على رؤية الأعماق الكامنة وراء السطح، والكشف عن الأقنعة التي خلقتها العادة. هنالك يكشف الواقع عن وجهه الملكي أو وجهه الإلهي. ولهذا لن يدهشنا أن نجد المتصوفة من أصحاب الرؤية في الشرق والغرب على مر العصور هم أول من يحدثنا عن تجربة «الحضور الكامل»، وعن اللحظة الخالدة، أو تجربة «الآن» الخارج عن الزمان.
الطبيعة كتاب مفتوح لكل من له عين. وكلما ازدادت العين حدة والنظرة نفاذا تفتحت لنا الطبيعة، وأعطتنا كل كنوزها. غير أن الإدراك الحسي لا يكفي، وأعضاء الحس لا تمكننا من إدراك اللب والجوهر، ولا غنى لنا عن رؤية الروح كي نتأمل ونشاهد ما لا نراه بعين الجسم.
ولا بد أن يرتفع وجودنا نحن كي نلمس حقيقته، وكلما ازداد حظنا من العظمة، كشف لنا العالم عن عظمته. فاللحظة التي تنكشف فيها روعة الواقع هي نفس اللحظة التي ترفع وجودنا إلى السمت، هنالك نتطلع برعشة السعادة المجهولة إلى المجهول الرائع وجها لوجه. قد يكون شكلا من أشكال الطبيعة، حادثا عاديا مما يجري في حياة العالم أو حياة الناس، فسيعلن اللامحدود عن نفسه في كل مرة، سندرك الكل بنظرة واحدة، سيتجلى الإله في كل ما هو أرضي، سيطل علينا في اللحظة السرمدية، اللحظة التي يتوقف عندها الزمن، أو التي أوقفت الزمن حتى يتم اللقاء بأنفسنا والآخر.
عندها نجرب الحضور الكامل، الحضور السرمدي. عندما لا يعود «الحاضر» شكلا من أشكال الزمان، ولا بعدا من أبعاده، بل الخلود اللازمني الذي أتيح لنا أن نقبس لمحات من برقه ونلمس ومضات من ناره.
إن كل ما قلناه عن الماضي والمستقبل، وما نقوله الآن عن الحاضر تؤكده تجربة «جوته» في شيخوخته بعد أن بلغ الثمانين من عمره وكتب إحدى قصائده الفلسفية المتأخرة بعنوان «وصية» (1829م): «النعمة بين يديك، فمتع نفسك بالقسطاس،
وليكن العقل رفيقا لا يتخلى عنك،
حيث تسر حياة بحياة.
عندئذ يبقى الماضي ويدوم
والمستقبل يصبح حيا قبل أوانه
واللحظة تصبح بيت الأبدية.»
إن الحاضر الحق يشبه دائما أن يكون كيانا ينظر للإنسان، عينا تصيب وجوده وتغوص به في أعماق وراء أعماق. ولا بد في هذه الحالة أن تستجيب «أناه» للأنت التي تخاطبه. ولا بد أيضا أن تكون أقصى درجات الحضور هي درجة «الجذب» أو «الوجد» - أو ما شاء أن يسميه أصحاب الرؤية من أفلوطين إلى اليوم - حين يتم حضور الواقع الحق، وتتعانق «الأنا» و«الأنت»، بحيث لا يبقى في النهاية إلا الوجود اللانهائي.
ليس من قصدنا أن نطرق باب هذه الحضرة بكلمات اللغة وتصورات الفهم العاجزة بطبعها عن ولوجه. ولن نتخذ موقفا من الخلاف بين أهل البصيرة حول هذا اللقاء أهو إثبات للأنا أم اتحادها في الآخر وتلاشيها. فكل ما يهمنا هو أن نشير إلى معجزة الحضور في اللحظة الخالدة، حيث يجد الإنسان نفسه، ويكون لقاء الأنا مع الأنت هو في نفس الوقت لقاء الأنا مع ذاتها.
في تجربة اللحظة الخالدة يكتمل وجود الإنسان كما يكتمل الوجود نفسه. تبقى نظرة عين واحدة - كالشمس - تحاول أعيننا أن تتملى فيها، حيث نشارك في الأبد الخالد، أو نصبح نحن الأبد الخالد. وليس أقدر من «الحب» على التعبير عما نعجز عن التعبير عنه. وشواهد الحب ماثلة في حياتنا اليومية مثولها في قلوب المحبين الخالدين. فلننظر إلى ما يقوله الشاعر «جوته» على لسان الحبيبة في قصيدته «الحبيبة مرة أخرى»: «هكذا وقفت أمامك، كي أتطلع إليك،
ولم أقل شيئا. وماذا كان لي أن أقول؟
كان كياني كله قد اكتمل في ذاته.»
لقد اعتاد الناس أن يمروا ببعضهم البعض مرور العابرين دون أن يرى أحدهم الآخر رؤية حقة. ويظل الحال كذلك حتى تصيبهم النظرة الخالدة، ويسطع الحاضر سطوع البرق ، (تجربة الحب الحقيقي عند المحبين الحقيقيين) وقل نفس الشيء عن لقائنا المعتاد بالسماء والأرض، بأشكال الوجود المختلفة، بالأحداث الكبرى والصغرى، فكلها يمر بنا ويعبرنا. وإذا التفتت إلينا أو التفتنا إليها، نظرت إلينا من خلف قناع. وبينما نحن تائهون عنها في حلم أو كابوس لا نفيق منه، إذا باللقاء يتم فجأة، تشرق الحقيقة، يتفتح الوجود، ندخل تجربة الحضور. فإذا توافر للتجربة العمق، ولعين الروح الدهشة والصدق، بدا كأن إلها يمعن النظر فينا من خلال لقائنا بالأحباب والأعزاء ومختلف الصور والأشكال والأحداث مهما تكن ضئيلة أو تافهة الشأن في عين الحياة اليومية والعملية. «كن نفسك» تلك هي الحكمة التي لم يكف عن ترديدها الحكماء. وفي «المواجهة» و«اللقاء» يكون الإنسان هو نفسه، وحين يفنى في الآخر يكون بكليته. والعكس صحيح. «من عرف نفسه فقد عرف الله.» هكذا يقول الحديث الشريف. «كوني أنت نفسك أكن لك.» هكذا يخاطب الله نفس الإنسان على لسان «نيقولا الكوزاني» (1401-1464م)، وعندما يرى الإنسان بحق ويخاطب بحق، أي عندما تصيبه نظرة الآخر أو كلمته في الصميم، يصبح هو نفسه. عندئذ تتم معجزة الحضور، معجزة التحرر من الوسائل والأهداف، والهموم والعادات، من سيطرة الرغبة، من كل ما ليس وجودا خالصا وحقيقة محضة. عندئذ يتحول الجسد والروح إلى كيانهما الخالد، يستجيبان لحضور كيان رائع. يجد الجسد نفسه فيرقص استجابة لمعجزة الحضور (فينطلق بالغناء المعبر عن روعة الكيان الذي حل فيه وتملكه، كما نجد في الشعر الغنائي عند كبار المحبين عندنا أو عند غيرنا).
كذلك يخطو الإنسان الذي مسته روح الإله، وهو يؤدي الطقوس أو بالأحرى يتركها تؤدي نفسها فيه. ويصبح هذا الحضور الكامل علامة على حضور الإله، بالخطوة الخفية، والإشارة الرائعة، والإيماءة المهيبة، بوقفة التعظيم والإجلال. هنا مهد الدراما والشعر البطولي، فلم يكن كلاهما سوى الترحيب بالإله.
وأخيرا نقول إن الحضور ليس مقصورا على الطقوس وحدها. إنه يمتد إلى أشكال الوجود وكل مواقف الوعي الحاسمة في تاريخ الإنسان في فعل الخلق المبدع، في لحظة حسم ثوري، في كل لقاء حق ، ساعة يولد طفل أو يحتضر الشيخ، في لحظة العلو فوق الكل، ولحظة التحدي للفناء والزوال، في لحظة القرار والاختيار، لحظة استغراق في فضاء الكون الظاهر أو الباطن، في خيبة الأمل أو نشوة النصر، فيما نسميه اليوم بالمواقف الحدية ... إلخ.
ولقد عبر الأب العظيم ولا يزال إلى اليوم يعبر عن أشكال الوجود الأصيلة التي تجسدت قديما في الأسطورة والطقوس.
وكان الشعر وسيظل أقدر من غيره على التعبير عن تجربة الحضور السرمدي التي يكشف عنها الماضي والحاضر والمستقبل. وتصبح «الخطوات الثلاث» التي تغنى بها شيلر ثلاثة وجوه للخلود والسرمدية. إنها لتفقد أشكالها الزمنية التي طالما اختلفت حولها العقول، وطالما حاولت قياسها كما يقاس المكان، ومدت لها حبال الديمومة في التذكر أو الانتظار، ولو التقى بها الإنسان كما ينبغي أن يكون اللقاء لأصبحت كلها حاضرا ممتدا في وعيه، ولأصبح وعيه الباطن هو وعاء الحاضر السرمدي (فأن تكون واعيا معناه أن تكون خارج الزمان، على حد قول إليوت في رباعياته الأربع ...) عندئذ يعي الموجود نفسه، كما يتم وعيه بالآخر وبوجوده هو نفسه وكيانه. عندئذ تتكشف له معاني كلمات نسمعها كل يوم، يثرثر بها معظمنا، ويسعى أقلنا إلى فهمها والعمل بها، كالحرية، والتفتح، والشخصية، والمعنى، والواجب ، والمسئولية، والخلق، والإبداع، والقلق، والشجاعة، والحب، والتفاني، والصدق، والأصالة ... إلخ.
عندئذ ترجع النقطة إلى البحر الذي انبثقت منه، أو قل تصبح هي البحر، يصبح ماضي العالم والإنسانية ومستقبلها حاضرا حيا في اللحظة.
عندئذ تكشف كل الأقنعة ونسكن بيت الأبدية، نلمس نور البرق الخاطف أو يلمسنا ... نحيا اللحظة أو تحيانا.
عندئذ تصبح هي الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان.
وعندئذ نلمس السرمدية، أو نكون نحن جزءا من السرمدية، في لحظة وعي فوق الزمن. (1977م)
كف نفسك
قراءة في نصوص نيتشه النفسية
القسم الأول
هذه قراءة لبعض نصوص نيتشه (1844-1900م) «النفسية». ربما تثير الكلمة الأخيرة شيئا غير قليل من الشك والحيرة. وربما ذكرت القارئ بالجدل الطويل الذي دار، وما يزال يدور حول الفيلسوف الشاعر مؤلف «هكذا تكلم زرادشت» و«أناشيد ديونيزيوس الديثرامبية»، صاحب الأسلوب المتوهج بالصور الحية، والرؤى العميقة المخيفة، والعبارات البركانية المتفجرة بالغضب والشوق، ذلك الذي «تفلسف بالمطرقة»، ولم يكتب كلمة واحدة لم يغمسها - على حد قوله - في دم القلب، هل هو شاعر أم فيلسوف؟ وهل نحسم هذا الجدل الذي لم ينته بأن نضيف إليه مشكلة جديدة، فنزعم أنه عالم نفس؟
لا شك عندي في أن نيتشه مفكر وجد في التفكير وحده كل نشوته وعذابه، وبهجته وألمه، بل إن التفكير المجرد ليبلغ عنده تلك القمة التي يصبح فيها فكرا غنيا بالصور الحية التي تليق ب «فيلسوف الحياة». ويكفي أن نطلع على فقرة واحدة مما كتب، وأن نتذكر العبارة التي قالها في كتابه الأكبر «إرادة القوة»، الذي لم يقدر له أن يتمه، وجمع ونشر بعد موته: «إن الفكر هو أقوى شيء نجده في كل مستويات الحياة»، والعبارة التي صرح بها في إحدى كتاباته المتأخرة: «إن التفكير المجرد لدى الكثيرين عناء وشقاء، أما عندي فهو في الأيام المواتية عيد ونشوة»، وأخيرا هذه العبارة التي دونها في أوراقه التي عثر عليها بعد موته، وكأنه كان يتنبأ بالغيب ويرد على الأجيال التي شعر أنها لن تفهمه ولن تنصفه: «إرادة القوة» ... كتاب هدفه التفكير، ولا شيء غير التفكير.
1
إرادة القوة إذا شأنه شأن غيره من كتبه قد وضع ليفكر فيه الناس. إنه قول ميتافيزيقي يتحدث عن العالم ككل، ويتجاوز كل ما يضمه من أحوال وأشياء. ويصدق الشيء نفسه عن أفكاره الكبرى - التي تعرضت دائما لسوء الفهم - عن الإنسان الأعلى وإرادة القوة - أي إرادة الحياة والمزيد من الحياة - وعودة الشبيه الأبدية. فهي أفكار فلسفية وميتافيزيقية قبل كل شيء، وصاحبها الذي طالما تفاخر بعدائه للميتافيزيقا والمنطق والجدل والعقل النظري أو السقراطي هو في رأي معظم الدارسين (وبخاصة هيدجر وتلاميذه) أشد الميتافيزيقيين تطرفا في تاريخ التفكير الغربي، بل إنه في رأيهم منتهى غايتها وآخر حلقة من حلقات تطورها منذ أفلاطون، ومن قبله من المفكرين قبل سقراط.
بيد أن هذا كله لا يتنافى مع الحقيقة التي وصف بها نفسه حين قال إنه «خبير بالنفس» لم يتوقف عن سبر أغوارها، وإنه كما قال في كتابه «إنساني، إنساني جدا» قد استفاد من «مزايا الملاحظة النفسية»، وراح في كل كتاباته يحلل نفسه وينقدها، وينطق بلسان «السيكولوجي» حين ينطق عن حاله. يقول على سبيل المثال في كتابه «نيتشه ضد فاجنر»: «كلما ازدادت خبرة المرء بالنفس، واتجه كعالم نفس بالفطرة والضرورة إلى الحالات الاستثنائية والأنماط المختارة من البشر زاد الخطر الذي يتهدده بالاختناق شفقة عليها ...» ولكن ما حاجتنا للجوء إلى مثل هذه العبارات وكتابات الفيلسوف تنطق بخبرته بالنفس، وتعمقه في طبقاتها الدفينة، ومتاهاتها المظلمة؟ إن المطلع على هذه الكتابات ابتداء من «ميلاد التراجيديا من روح الموسيقى» حتى شذراته الأخيرة وخطاباته التي كتبها في ليل جنونه، ووجهها إلى قيصر والمسيح وبعض أصدقائه، كل هذه الكتابات تشهد شهادة كافية على تحليلاته النافذة، ونظراته النفسية الثاقبة، بل إنها لتشهد بأنه سبق مؤسس التحليل النفسي في هذا المضمار، وأنه أراد طريق علم النفس التحليلي وعلم النفس الفردي - كما سنرى بعد قليل - وأثر عليها جميعا بحدوسه، وخواطره الملهمة تأثيرا مباشرا أو غير مباشر - وصل في بعض الأحيان إلى حد استباق النظريات - كاللاوعي وما تحت الوعي وما فوقه ووراءه، وكذلك اللاوعي الجمعي النماذج أو الأنماط الأولية، بل لقد بلغ حد التطابق في المصطلحات كما سنرى مثلا مع كلمة «الإعلاء» التي تتكرر في كتبه أكثر من اثنتي عشرة مرة.
الواقع أن نيتشه قد تجاوز علماء النفس «المدرسيين» في عصره، وتخلص من لغتهم التصورية الجافة، وسبقهم إلى كثير من المعارف والأنظار التي لم يدروا عنها شيئا. نظر في خفايا النفس الفردية وما تنكره خجلا أو تحجبه خوفا من نفسها ومجتمعها، كما نظر في العلاقات الوثيقة بين الحضارة والدين، وبين المجتمع والأخلاق، وتتبع التطورات الحضارية التي كونت ما نسميه الوعي إلى الأجداد وأجداد الأجداد، وأثبت أن هذ الوعي ليس إلا حصيلة أخطاء عريقة، وأن الضرورة تقتضي الغوص إلى ما تحته في متاهة الدوافع المستعرة، كما تقتضي التطلع إلى ما بعده في «رعي جمعي» يحمله جيل من أصحاب الأرواح الحرة المريدة الخلاقة، جيل راح ينتظره، ويعد له ويبشر به بأعلى صوته. وهو لم يكتف في كل هذا بأن يكون خبيرا بالنفس يقتفي آثار منابعها الذاتية الحقة، ولم تقف تجاربه ومحاولاته عند البحث عن هذه المنابع الأصيلة (يقول في إحدى القطع التي كتبها عن زرادشت: الانتظار والتأهب. انتظار أن تنبثق منابع جديدة. أن ينتظر المرء عطشه ويتركه، حتى يصل إلى أقصى مداه؛ لكي يكتشف منبعه) لم يقف الأمر عند هذا، بل عرف أن «السيكولوجية» التي يقصدها «سوماتية» أو ممتدة الجذور في الجسد. ولهذا لم يكن من قبيل المصادفة أن يجعل عنوان إحدى حكمه التي كتبها ضمن شذرات كتابه الأكبر الذي سبقت الإشارة إليه: «الاهتداء بالجسد»، وأن يقول فيها: «على فرض أن «النفس» كانت فكرة جذابة غنية بالأسرار الغامضة، ولم يستطع الفلاسفة - والحق معهم - أن ينفصلوا عنها إلا مرغمين، فربما كان ذلك الذي بدءوا يتعلمون كيف يستبدلونه بها أكثر منها جاذبية وأحفل بالغوامض والأسرار»، ولا شك أن نيتشه - بعد شوبنهور وفويرباخ - قد اكتشف أن الجسد فكرة أكثر إثارة للدهشة من فكرة النفس «العتيقة». وقد لا نعدو الصواب إذا قلنا باختصار يحتمه ضيق المقام أن هؤلاء الثلاثة قد عملوا على تحول الفكر الحديث من ميتافيزيقا العقل - الذي انهار وخلع عن عرشه بعد موت هيجل - إلى ميتافيزيقا الجسد والإرادة والدوافع. ولعل نيتشه أن يكون أشدهم من هذه الناحية تأثيرا على تيارات عديدة من فلسفة الحياة إلى فلسفة الوجود إلى علم النفس الوجودي إلى الأنثروبولوجيا الفلسفية إلى مدارس التحليل النفسي المختلفة.
هل يعني هذا أن نجعل من نيتشه «عالم النفس»، كما أصر على وصف نفسه في بعض نصوصه؟ وهل يصح أن نشق على أنفسنا، فنوازن موازنة دقيقة بين نصوصه التي تتجلى فيها «إنجازاته السيكولوجية»، وبين نصوص أخرى نستقيها من علماء النفس التحليليين (كما فعل فيلسوف الحياة لودفيج كلاجيس (1872-1956م) في كتابه إنجازات نيتشه السيكولوجية
2
مبينا سبقه لهؤلاء في العديد من مناهجهم ونظراتهم ومصطلحاتهم )؟ إن البحث العلمي لا يعرف حدا يقف عنده، ولا يتهيب بابا يطرقه ولا طريقا يقتحمه. وكل ما سبقت الإشارة إليه أمور مشروعة لا غبار عليها، ولكن المشكلة أن جوانب نيتشه متعددة - مثله في ذلك مثل كل مفكر حقيقي ضخم، فهو «سيكولوجي» أراد - على حد قوله - أن يجعل من علم النفس «طريقا إلى المشكلات الأساسية الكبرى» بحيث يصبح «سيد العلم»، ويسخر سائر العلوم لخدمته والإعداد له. وهو بجانب ذلك «فسيولوجي» أراد أن يعرف «الفيزيس» في الطبيعة وفي حياة الإنسان وجسده الخاص، و«فيلولوجي» ضاق بمناهج فقهاء اللغات القديمة في عصره - وقد كان أستاذا لها - وبضيق أفقهم وقصور تفسيراتهم اللغوية المرهقة. ثم هو قبل كل شيء وبعد كل شيء مفكر ميتافيزيقي وفيلسوف حضارة عدمية غاربة، وأخرى مقبلة في مستقبل يبشر به، ويعلن عنه، ويدعو إلى خلقه وإبداعه.
وتبقى في النهاية مشكلة نصوصه نفسها. إن هذه النصوص المجنحة المتوهجة بنار الغضب أو النشوة، تحير كل من يحاول الاقتراب منها. فهل يمكن أن نقف منها موقفا موضوعيا باردا يقتضيه التحليل العلمي، وهل نستطيع من ناحية أخرى أن نقي أنفسنا خطر الانجذاب لدوامتها والانجراف مع حماسها وجموحها؟ إن نيتشه يصف نفسه بأنه ليس بشرا، وإنما هو ديناميت، وهو يؤكد باستمرار أنه قدر وأن قدرا لم تسمع عنه البشرية قد ارتبط به. ومن يطلع على صفحة واحدة من كتاباته لا ينجو من زلزلة تصيبه أو حمم تتناثر من بركانه. ولن ينسى أحد وصفه لنفسه في هذه الأبيات التي جعل عنوانها «هو ذا الإنسان» من كتابه الذي يحمل نفس العنوان:
حقا! إني أعرف أصلي.
نهم لا أشبع
أتوهج، آكل نفسي
كاللهب المحرق،
نورا يصبح ما أمسكه
فحما ما أتركه
حقا! إني لهب محرق!
لا مفر إذن من أن نحاول الأمرين معا على صعوبة الجمع بينهما: أن نفهم هذا المفكر اللاهب الملتهب، وأن نتعاطف معه، ونجرب أن نرى رؤاه، وبذلك نرضي مطلب الموضوعية الذي لا غنى عنه، ونستجيب لدفء الوجدان الساحر الذي يلفح وجوهنا مع كل سطر من سطوره. الأمر عسير كما قلت، وهو أشبه بإقامة العدل أو عقد الزواج بين الثلج والنار! إنه يتطلب اتخاذ مسافة البعد الكافية التي تحتمها النظرة العلمية المحايدة، كما يقتضي القرب المتعاطف الذي يحتمه التعامل مع مثل هذا الفيلسوف الشاعر بالمعنى الأعمق لا بالمعنى التقليدي لهاتين الكلمتين. ولعل هذا البعد السحيق من جهة، وهذا التواصل الوثيق من جهة أخرى هما اللذان تفرضهما كل علاقة أصيلة يمكن أن تنشأ بين الأنا والأنت (على حد تأكيد مارتن بوبر في كتبه العديدة عن هذه العلاقة الجوهرية الأصلية التي أوشكت أن تغيب غيابا مطلقا عن حياتنا العربية والمصرية).
بقي أن نتم المهمة التي أشرنا إليها في بداية هذا التقديم، ألا وهي بيان التأثيرات المباشرة أو غير المباشرة لكتابات نيتشه «النفسية» على أعلام التحليل النفسي أو بالأحرى «علم نفس الأعماق» كما يوصف في لغته. وهي مهمة سنحاول أداءها بإيجاز شديد لا يسمح المقام بتفصيله.
لنبدأ برائد التحليل النفسي ومؤسسه فرويد (1856-1939م). ولنذكر أولا أنه كان معاصرا لنيتشه الذي يكبره في السن باثني عشر عاما فحسب، وأنه اتخذ منه ومن فلسفته موقف التحفظ الذي لم يكد يتزحزح عنه. ولعل القارئ لم ينس تلك الفقرة المشهورة من نهاية المحاضرة الثامنة عشرة من محاضراته التمهيدية عن التحليل النفسي التي يشرح فيها كيف أوذي الإنسان الحديث ثلاث مرات في غروره واعتزازه بنفسه ومكانته في العالم. كانت المرة الأولى عندما تم التحول الأكبر في عصر النهضة من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس على يد كوبر نيقوس (1473-1543م) الذي افترض أن أرضنا ليست هي مركز الكون، وكان من الضروري أن يستخلص الإنسان من ذلك أنه ليس تاج الخليقة، وأن العالم لم يخلق من أجله. وكانت المرة الثانية عندما قدم تشارلز داروين (1809-1882م) كتابه عن أصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي، فأثرت نظريته في التصور الديني بوجه خاص عن كون الإنسان صورة الله وخليفته على الأرض. أما المرة الثالثة فكان الأذى أشد قسوة وأعمق جرحا؛ إذ جاء من جانب «البحث السيكولوجي الراهن، الذي يريد أن يثبت للأنا أنها لا تملك حتى أن تكون سيدة في بيتها الخاص، وإنما تظل معتمدة على أنباء شحيحة عما يجري بصورة غير واعية في حياتها النفسية». ومع أن فرويد يقرر في تواضع أن أصحاب التحليل النفسي ليسوا هم أول من نبه إلى ضرورة الرجوع إلى الذات، ولا هم وحدهم الذين فعلوا ذلك، إلا أنه يستطرد فيقول: «يبدو أنه قد كتب علينا أن نعبر عن هذا أقوى تعبير، وأن ندعمه بالمادة التجريبية التي تهم كل فرد.» ولسنا هنا بصدد مناقشة الطابع التجريبي والعلمي للتحليل النفسي، فالجدل حول هذه المسألة يطول، ولكننا نسأل فحسب إن كان من حق فرويد وتلاميذه وحدهم أن يستأثروا ب «مجد» إيذاء الإنسان الحديث، وتعرية عالمه الباطني المظلم، أم أن نيتشه قد سبقهم إلى الأخذ من هذا المجد بنصيب؟!
مهما يكن الأمر، فإننا نجد فرويد يشيد في سيرته (أو صورته) الذاتية - التي نشرت سنة 1925م - بالفيلسوف شوبنهور ويتحدث عن توجه التطابق القوي بين التحليل النفسي وفلسفته. وهو يشهد بأن هذا الأخير لم يصرح فحسب بأولوية «الانفعالية»، والأهمية القصوى ل «الجنسية»، وإنما توصل كذلك إلى نظرات نافذة في «آلية الكبت» (راجع سيرة فرويد الذاتية، فرانكفورت على نهر الماين، سلسلة كتب فيشر، ص87)
3
ويستدرك فرويد - الذي كان فيما يبدو شديد الحرص على عدم المساس بأصالته واكتشافه للاوعي - فيقول إنه لا يمكن الحديث عن أي تأثير لشوبنهور عليه وعلى بناء نظريته؛ لأنه لم يطلع على كتابات الفيلسوف إلا في وقت متأخر جدا. ولم يكن ينتظر من رجل مثل فرويد الذي عرف بثقافته واطلاعه الأدبي الواسع أن يتجاهل معاصره نيتشه، فنجده يسجل في الموضع السابق من سيرته هذه معاصره نيتشه، فنجده يسجل في الموضع السابق من سيرته هذه الملاحظة الدالة: «أما نيتشه، الذي كثيرا ما تتطابق مشاعره ونظراته بصورة مذهلة مع النتائج المضنية للتحليل النفسي، فقد تجنبته طويلا، ولم يكن يرجع ذلك إلى السبق (أو الأولوية) بقدر ما كان يرجع إلى حرصي على المحافظة على حريتي ...» ولا يخفى على القارئ أن هذه العبارة تنطوي على عكس ما أراد عالم النفس الشهير؛ إذ يبدو أنه - في هذه النقطة على الأقل - لم يعرف نفسه كما كان يتوقع منه، ولم يستطع إخفاء اهتمامه بنفي أي تأثير عليه من نيتشه، فكأني به قد وقع في زلة من زلات اللسان أو القلم التي تثبت عكس ما حاول أن ينكره ويخفيه.
ولا يتسع المجال لتناول علاقة فرويد بنيتشه بصورة مفصلة، ويكفي أن نشير - تأكيدا لهذه العلاقة التي حاول مؤسس التحليل النفسي أن ينفيها أو يقلل من شأنها - إلى أن مؤرخ حياة فرويد - وهو العالم الإنجليزي إرنست جونز - يذكر في كتابه عن حياة أستاذه خطابا مؤرخا في سنة 1900م يقرر فيه أنه «مشغول بقراءة نيتشه»، ولا بد أنه لم يفته أن يطلع عليه من قبل وإن لم يبدأ العكوف عليه إلا في السنة المذكورة. ونضيف واقعة أخرى لا تخلو من دلالة على العلاقة غير المباشرة بينهما. فقد حضرت صديقة نيتشه لوسالومي (وهي التي حاول عبثا أن يخطب ودها) مؤتمر التحليل النفسي الثالث الذي انعقد في شهر سبتمبر سنة 1911م في مدينة قيمار. والمعروف أنها انضمت بعد ذلك إلى مدرسة فرويد الذي اعتبرها من تلاميذه، كما حاولت في مذكراتها التي كتبتها بعنوان «من مدرسة فرويد» أن نربط نظريات التحليل النفسي ، وتعبيرات نيتشه وصيغه النفسية المختلفة، وأخيرا نشير باختصار إلى الرسائل المتبادلة بين فرويد والكاتب الروائي الاشتراكي أرنولد تسفايج
4 (1887م-...) في فترة امتدت من سنة 1927م حتى سنة 1939م. فقد أخبره تسفايج أنه يزمع وضع كتاب أو رواية طويلة عن نيتشه، ثم أرسل إليه في الثاني من ديسمبر سنة 1930م من مدينة فينا خطابا يقول فيه إنه - أي فرويد - قد حقق كعالم نفس تلك الرسالة التي شعر نيتشه بوجدانه الملهم أنه مكلف بأدائها، وإن كان قد عجز عن تحويل رؤاه الشعرية إلى حقائق علمية. وأخذ الكاتب الروائي يعدد «إنجازات» فرويد التي سبقه الفيلسوف إلى الإحساس بها وصياغتها: «لقد حاول نيتشه أن يصور «ميلاد التراجيديا»، وأنت قد فعلت هذا في كتابك عن «الطوطم والمحرم (التابو)»، وعبر عن شوقه على عالم يقع وراء الخير والشر، وقد استطعت عن طريق التحليل النفسي أن تكتشف مملكة تنطبق عليها عبارته، وأن تقلب قيمه كل القيم، وتتجاوز المسيحية، وتصوغ «خصم المسيح» الحقيقي، وتحرر مارد الحياة المتصاعدة من الزهد الذي كانت تعتبره المثل الأعلى. ولقد استطعت كذلك أن ترد «إرادة القوة» إلى الأساس الذي تقوم عليه، وأن تتناول بعض المشكلات الجزئية التي اهتم بها نيتشه عن الأصل اللغوي للمفاهيم الأخلاقية، فتتطرق منها إلى مشكلات أعظم وأهم عن الكلام والإفصاح والربط بين الأفكار وتبليغها، ونتوصل إلى حلها. أما الروح المنطقية أو السقراطية التي رفضها، فقد قصرتها على مجالات الوعي، ووضعتها في حدودها بصورة أدق. «ولما كنت باحثا طبيعيا وعالما نفسيا يتقدم خطوة خطوة، فقد أتممت ما تمنى نيتشه أن يتمه، ألا وهو الوصف العلمي للنفس البشرية، وجعلها مفهومة، ثم زدت على ذلك فبينت - بحكم كونك طبيبا - سبل تنظيمها وعلاج أمراضها. إنني أعتقد كذلك أن هناك قدرا كبيرا من الملاحظات الفردية التي تتصل بفرويد «الكاتب»، وتمد جسورا بينه وبين نيتشه، كما أعتقد أن بسالة «المتفلسف بالمطرقة» قد فاقتها بسالة الباحث بأسلوب موضوعي خالص عن الدوافع «الأورفية والديونزية»، واكتشاف تأثيرها وفعلها في كل واحد منا ...»
ماذا كان رد فعل مؤسس التحليل النفسي على كل هذا التمجيد والإشادة بدوره؟
العجيب حقا أنها لم تحوله عن تحفظه تجاه الفيلسوف، بل لعلها قد زادته إصرارا عليه، فهو ينصح الكاتب الروائي بالعدول عن فكرة تأليف الكتاب، بل يضيف في خطاباته التالية أننا لا نعرف إلا أقل القليل عن تكوين نيتشه الجنسي، وهذا القليل القليل لا يساعدها على تطبيق أدوات التحليل النفسي لإلقاء الضوء على حياته وقدره، ويبدو أن الكاتب لم يقتنع بالحجج التي تذرع بها فرويد، فأرسل إليه هذا الأخير - في خطاب مؤرخ في السابع من ديسمبر من السنة نفسها 1930م - هذه العبارة الدالة: «اكتب عن العلاقة بين تأثير نيتشه وتأثيري بعد أن أموت» (راجع الرسائل المتبادلة بين نيتشه وأرنولد تسفايج، نشرها إرنست فرويد ، فرانكفورت على الماين، 1969م، ص35 وما بعدها).
لعل هذا الموقف المتحفظ أن يرجع - كما تقدم - إلى خشية فرويد أن يستقر في الأذهان سبق نيتشه، وأن يضر ذلك بريادته وأصالته. والرد على هذا بسيط: فليس نيتشه هو الوحيد الذي أثر على تفكير فرويد، سواء اعترف به أم أنكره (فثمة تأثيرات مؤكدة من أسماء أخرى مثل ليبنتز وجوته وشوبنهور وكاروس الفيلسوف الطبيعي الرومانتيكي المعروف بكتابه عن النفس وبحديثه عن اللاوعي) كما أن عشرات المؤثرات لا تصنع عبقرية، والاطلاع على مئات الحكم والأفكار الملهمة لا يغني عن ضرورة تشكيلها، ولا ينال من أصالة اكتشاف المنهج، وسبل الفحص والعلاج. هل نقول إذا مع باحث مثل هنري ف إلينبرجر (في كتابه اكتشاف اللاشعور، الجزء الأول عن نيتشه نبي عهد جديد، ص73-385 من الترجمة الألمانية، 1973م)
5
إن تأثير نيتشه يتغلغل في مدرسة التحليل النفسي بأكملها؟ إن الحكم الموضوعي النزيه يقتضي المقارنة بين النصوص مقارنة دقيقة. وهو جهد مشروع كما قلت، وسنخرج منه في النهاية بما لا يمس رائد التحليل النفسي في أصالته، ولا يحول فيلسوف إرادة الحياة والقوة إلى عالم نفس. وفي تقديري أن هذه المقارنة الدقيقة - التي نفتقدها حتى الآن - ستنتهي إلى النتيجة التي أشرت إليها، ولكنها ستؤكد فضلا عن ذلك أوجه تشابه عديدة بين فكر المفكر وعلم العالم (بغض النظر عما أثير حول علمه من ظنون، وعما بذل من محاولات لتدعيم أفكاره بالتجارب و«التقنيات» أو الأساليب العلمية والطبية الدقيقة). سوف نلاحظ مثلا أن الفيلسوف وعالم النفس يشتركان في الاعتقاد بأن كل تفكير الإنسان وفعله وكل أشكال التعبير عن الحياة البشرية عند الفرد والجماعة إنما هي مظاهر أو ظواهر معبرة عن «عمق» باطن، وأن «اللاوعي» هو الذي يقوم في ذلك بالدور الأول لا «الوعي»؛ إذ تكون السيطرة لقوى الدوافع التي تأتي من مناطق لا واعية في النفس، وهي قوى أو طاقات تعد أقدم من الوظيفة العقلية، كما تكشف عن الجانب الأكبر من شخصية الإنسان الذي يحاول بطبيعته أن يتستر خلف أقنعة من كل نوع ، ويتم هذا الكشف حتى في أحلامه (حسب نظرية فرويد عن الأحلام). ولهذا يؤكد نيتشه في مواضع كثيرة من نصوصه أننا نستطيع أن نستخلص من التعبيرات الانفعالية لأي إنسان ما يفوق في حقيقته ودلالته كل ما يمكن أن نستخلصه من العقل الذي يعمد دائما إلى الوزن والقياس والحساب والتخطيط.
ولقد اعترف فرويد - كما سبق القول - بأن كتابات نيتشه تنطوي على نظرات حدسية نجدها في كثير من الأحيان متطابقة مع النتائج التجريبية للتحليل النفسي. والواقع أن هذه الكتابات تتناثر فيها مفاهيم وأفكار لا شك في أهميتها وقيمتها التحليلية والنفسية، ناهيك عن مصطلحات يمكن أن توصف بأنها بذور نمت منها بعض المصطلحات التي استقرت في التحليل النفسي (مثل مصطلح «الهو» الذي يقابلنا أكثر من مرة في الكتاب الأول من هكذا تكلم زرادشت)، وتبقى النظرات الحدسية - كما وصفها فرويد بحق - هي الأجدر بالاهتمام؛ إذ لا نستبعد أن تكون قد أثرت على رائد التحليل النفسي مهما أنكر ذلك التأثير أو تنكر له. ولنذكر بعض هذه النظريات باختصار: التصور الدينامي للنفس مع تصورات أخرى مرتبطة به كالطاقة النفسية، ومقادير الطاقة الكامنة أو المعوقة، وتحويل الطاقة من دافع إلى آخر، تصور أن النفس نظام أو نسق من الدوافع التي يمكن أن تتصادم وتتصارع أو تندمج وتذوب في بعضها، تقدير أهمية الدافع الجنسي، وإن لم يجعله الدافع الأول والأهم كما فعل فرويد قبل أن يتكلم عن عزيز الموت في كتاباته المتأخرة؛ إذ إنه يأتي عنده بعد دوافع العدوان والهدم، فهم العمليات التي سماها فرويد «آليات دفاعية»، وبخاصة عملية الإعلاء والتعويض، التعطيل أو التعويق - والذي يسميه فرويد الكبت - واتجاه الدوافع وجهة مضادة للذات نفسها. كذلك نجد بعض الأفكار المهمة متضمنة في نصوص الفيلسوف مثل صورة الأب والأم، وأوصافه للإحساس بالحقد والضمير الكاذب والأخلاق الفاسدة التي سبقت أوصاف فرويد للإحساسات العصابية بالذنب كما سبقت وصفه للأنا الأعلى. أضف إلى هذا كله أن كتاب فرويد المشهور «الضيق بالحضارة» يكاد أن يوازي كتاب نيتشه عن «تسلسل الأخلاق» موازاة دقيقة في نقد العصر والحضارة، ولعل كليهما قد تأثر بما قاله الفيلسوف والكاتب الفرنسي ديدرو (1713-1784م) من أن الإنسان الحديث مصاب بمرض عجيب مرتبط بالمدنية؛ لأن المدنية تتطلب منه أن يتخلى عن إشباع دوافعه. وغني عن الذكر أن الاثنين قد عاشا متعاصرين، وأنهما قد «مرضا» بزمانهما وحضارتهما، وحاولا أن يعرياهما من أقنعتهما الزائفة. والفرق الأساسي بينهما أن عالم النفس قد اهتم بالتطور الذي يبدأ من الماضي، بينما تطلع الفيلسوف بكل غضبه وحماسه إلى المستقبل. •••
ويأتي دور ألفرد آدلر (1870-1937م) مؤسس علم النفس الفردي الذي يدور حول قضية أو فكرة تبدو شديدة القرب من تفكير نيتشه. فالمعروف أن آدلر قد اعتبر الشعور بالنقص أو الضآلة من أهم حقائق الحياة النفسية، كما استخلص منه نتائج مهمة تتعلق بتحديد شخصية ألفرد وبطابع الحياة الاجتماعية. وهو يذهب إلى حد القول بأن الإنسان هو الكائن الذي يسعى سعيا دائبا لإكمال شخصيته، وذلك ب «فضل» إحساسه بنقصه وضآلة قيمته، فإذا عاق هذا السعي إلى الكمال عائق، وحيل بينه وبين الطموح إلى القوة وإثبات الذات ظهرت عليه أعراض المرض العصابي.
ولا شك أن العبارات السابقة تغرينا بالتقريب بين فلسفة نيتشه وبين مذهب آدلر الذي يحركه الطموح إلى القوة أو «إرادة القوة». وقد نسرع إلى الظن بأن هذا المذهب يردد تنويعات مختلفة على لحن أساسي من ألحان نيتشه. وربما يؤيدنا في هذا الظن أن آدلر نفسه - في كتابه عن الشخصية العصبية (1912م) - يوافق على أن «إرادة القوة» تصلح للتعبير عن مسعاه، وأن هذه الفكرة الموجهة - كما يقول في التمهيد للجزء النظري في الكتاب المشار إليه - «يندرج تحتها اللبيدو والدافع الجنسي والميل للانحراف أيا كان مصدرها جميعا. إن «إرادة القوة» و«إرادة المظهر» عند نيتشه تنطوي على جوانب كثيرة من رأينا الذي يقترب بدوره في بعض النقاط من آراء فيريس وغيره من المؤلفين القدامى.» ولا يكتفي آدلر بهذه العبارات التي تشهد باطلاعه الواسع على فلسفة نيتشه، واعترافه بتأثيرها عليه، بل يضيف قوله في كتاب آخر نشره بالاشتراك مع زميله كارل فورتميلر تحت عنوان «العلاج والتربية»: «إذا ذكرت اسم نيتشه، فقد كشفت عن أحد الأعمدة الشامخة التي يقوم عليها فننا. إن كل فنان يطلعنا على خبايا نفسه، وكل فيلسوف يعرفنا بطريقته في توجيه حياته وجهة عقلية، وكل معلم ومرب يشعرنا بانعكاس العلم على وجدانه، كل هؤلاء يهدون بصرنا وإرادتنا في أرض النفس الواسعة» (راجع كتاب يوسف راتنر عن ألفرد آدلر، 1972م، ص82، سلسلة كتب روفلت المصورة عن شخصيات الأدباء والفنانين والمفكرين، العدد 189).
6
ربما أوحى إلينا هذا كله بأن مذهب آدلر صورة نفسية من فلسفة نيتشه. غير أن الحقيقة أبعد ما تكون عن هذا الظن، بل ربما جاز القول بأن علم النفس الفردي يسير في اتجاه مضاد لأفكار فيلسوف القوة. ولا يرجع هذا إلى أن آدلر قد تأثر به كما تأثر بغيره، فالتأثيرات مهما اشتدت وتنوعت لا تصنع - كما قدمنا - شخصية ولا فكرا متميزا، وإنما يرجع إلى الفروق الموضوعية الدقيقة بينهما. فإرادة القوة التي تصورها نيتشه تختلف عن الطموح إلى القوة الذي يفسح له آدلر مكانا مهما في نظريته عن العصاب. وبينما يعبر الأول بفكرته عن إنسانية أعلى، ويجعل منها وسيلة تخطي الإنسانية الحاضرة وغايتها، نجد آدلر يعتبر الفكرة نفسها وموقف نيتشه بأكمله تعبيرا عن اليأس والقلق ونزعة التعويض التي تدفع بصاحبها إلى السيطرة على الآخرين، وإثبات القوة والغلبة عليهم (ولا ننسى بهذه المناسبة أن فيلسوف القوة كان فاسد المعدة ، مضطرب الأعصاب، مصابا بالأرق المزمن وشقيا بتجاهل العصر وجحوده)، بحيث يمكننا أن نقول مع بعض الباحثين إن علم النفس الفردي هو أبلغ اتهام لإرادة القوة وأقسى تعرية لخداع صاحبها لنفسه وتدميره لها. وكما وضع فرويد التصميم الواعي والتدبر والحكم العقلي الواضح في مقابل الدوافع اللاواعية، كذلك أقام آدلر من الشعور بالجماعة سدا يحمي الحياة النفسية عن عواصف الطموح إلى القوة والسيطرة الأنانية. صحيح أن آدلر قد سلم بوجود ثنائية نفسية تذكرنا بما قاله فرويد عن مبدأ اللذة ومبدأ الواقع، أو دوافع الحب والحياة ودوافع التدمير والموت، ولكن الواقع أن علم النفس الفردي يحاول تحقيق التوازن بين النزوع الفردي إلى القوة وبين الشعور بالجماعة أو المجتمع. فإذا كانت إرادة القوة تمثل الدافع الأصلي وتعبر عن غريزة الحياة الأساسية والمحور الذي يدور حوله الوجود، فإن الشعور بالجماعة هو الأصل والأساس في حياة الإنسان، وما النزوع إلى القوة إلا حركة نفسية نابعة من عقدة الشعور بالنقص (أو ضآلة القيمة) مفسدة للإنسان مدمرة لكيانه.
وليس الإنسان في نظر علم النفس الفردي مجرد حالة فردية أو استثنائية تطمح إلى القوة والسيطرة، ولا تعرف شيئا عن الحب كما زعم فرويد عن تلميذه المنشق، وإنما يقاس الفرد دائما بمقياس الإنسان المثالي الذي يتبع قواعد اللعبة التي يسنها المجتمع ويسير - على هدي التربية وعلم النفس - إلى تحقيق الحياة الإنسانية المشتركة مع إخوته في الجماعة الإنسانية. •••
ونصل أخيرا إلى العلم الثالث من أعلام «علم نفس الأعماق»، وهو كارل جوستاف يونج (1875-1961م) لنعرف إلى أي حد تأثر ب «الخبير بالنفوس». والحق أن يونج يسلم بهذا التأثير بجوانبه الإيجابية والسلبية. ونستشهد على هذا برسالة كتبها قبل موته بشهور قليلة إلى أحد رجال الدين الأمريكيين، وقال فيها: «إن تقديم تقرير مفصل عن تأثير أفكار نيتشه على تطوري العقلي لمهمة طموح تتخطى حدود قدرتي. فقد أمضيت شبابي في المدينة التي كان نيتشه قد عاش فيها فترة من حياته، وعمل في تدريس اللغات القديمة في جامعتها، وبذلك شببت في جو لا يزال يرتجف تحت سطوة مذهبه، على الرغم من أن هجماته كانت تلقى مقاومة شديدة. لم أستطع أن أتجنب الأثر الذي أحدثه إلهامه الأصيل على نفسي، وشدني إليه بقوة. فقد كان يتميز بالإخلاص والصدق الذي لا يمكن أن يدعيه عدد غير قليل من الأساتذة الأكاديميين الذين يهتمون بمظاهر الحياة الجامعية أكثر مما يهتمون بالحقيقة. والأمر الذي أثر في أعظم تأثير هو لقاؤه بزرادشت ونقده ل «الدين»، هذا النقد الذي أفسح في الفلسفة مكانا للعاطفة المتوقدة، من حيث هي دافع أصيل على التفلسف. شعرت أن «التأملات لغير أوانها» قد فتحت عيني، أما «تسلسل الأخلاق» و«العود الأبدي»، فكان حظهما من اهتمامي أقل، واستطاعت أحكامه السيكولوجية النفاذة أن تبصرني تبصرة عميقة بما يمكن أن يحققه علم النفس.
وعلى الجملة كان نيتشه بالنسبة إلي هو الإنسان الوحيد الذي قدم لي في ذلك العصر إجابات كافية عن بعض الأسئلة والمشكلات الملحة التي كنت أشعر بها أكثر مما أفكر فيها» (رسائل يونج، الجزء الثالث، ص370 وما بعدها).
هذا الاعتراف الصريح من مؤسس علم النفس التحليلي لا يحتاج إلى تعليق. ويمكن أن نضيف إليه اعترافا آخر يسجله بكل العرفان عن سنوات الطلب والتحصيل في شبابه. فقد أقبل على قراءة نيتشه في نهم وحماس، ثم قرأ «هكذا تكلم زرادشت»، فكانت قراءته لهذا الكتاب - بجانب فاوست لجوته - أقوى تجربة مر بها في شبابه (راجع ليونج: ذكريات وأحلام وأفكار، نشرتها أنييلا جافيه، زيورخ وشتوتجارت، 1963م، ص109 وما بعدها).
7
ولعل أول أثر لهذه القراءة قد ظهر في رسالته الجامعية عن «سيكولوجية الظواهر المسماة بالظواهر الخفية وتشخيص أمراضها» (1902م)، فقد درس فيها حالة من حالات «الكريبتومنيزيا» التذكر الخفي واللاشعوري التي صادفها عند نيتشه.
ولم تمض سنوات قليلة حتى رجع إلى نفس الموضوع، وحاول أن يتحسس طريقه إلى «شيطان اللاوعي» الذي وقع الفيلسوف تحت تأثيره السحري عند تدوينه لكتابه عن زرادشت: «إن هذه الاهتزازات الراجفة العميقة للمشاعر، وهي التي تتخطى مجال الوعي وتتجاوزه، هي القوى التي أظهرت للنور أقصى التداعيات تطرفا وخفاء.» هنا اقتصر الوعي على القيام بدور العبد الخادم لشيطان اللاوعي الذي طغى على الوعي، وراح يغمره بالخواطر الغريبة، وما من أحد استطاع أن يصف حالة الوعي بمركب لا واع مثل نيتشه نفسه (الكلريبتومنيزيا، في المجلد الأول من مؤلفات يونج الكاملة، ص113 وما بعدها) ويحاول الطبيب النفسي الشاب أن يتابع هذا الموضوع الشائك عن «الأرواح»، والأرباب عند الإغريق، وبخاصة عن شخصية ديونيزيوس مع الإشارة الصريحة إلى تأثيرها على نيتشه ابتداء من كتابه «ميلاد التراجيديا»، فيقول في رسالة وجهها سنة 1909م إلى فرويد: «يبدو أن نيتشه قد أحس بهذا إحساسا قويا، ويخيل إلي أن «الديونيزي» كان يمثل موجة ارتداد جنسية لم تقدر قيمتها التاريخية حق قدرها، وقد تدفقت بعض عناصرها الجوهرية إلى المسيحية، وإن طبقت تطبيقا آخر يتسم بالاعتدال والتصالح» (رسائل يونج، الجزء الأول، ص35).
ولا يقف الأمر عند هذه النصوص وأشباهها لبيان تأثير نيتشه على يونج. فالواقع أن خيوط هذا التأثر بشخصية نيتشه و«نمط» حياته وتفكيره، بل وأحلامه ورؤاه تتخلل كتاباته من بداية حياته إلى نهايتها. ولا شك أنه كان صادقا كل الصدق عندما قال في كتابه المشهور عن سيكولوجية اللاوعي 1912م (وطبع طبعات منقحة بعد ذلك) أنه قد بدأ حياته طبيبا نفسيا وعقليا، ولكن نيتشه هو الذي أعده إعدادا لعلم النفس الحديث (سيكولوجية اللاوعي، المجلد السابع من المؤلفات الكاملة، ص128)،
8
ولولا ضيق المقام لتعرضنا للتجارب «الدينية» التي مر بها الفيلسوف وعالم النفس في صباهما وشبابهما؛ إذ انحدر كلاهما من صلب قسيس، ووجد نفسه محاطا بعلماء اللاهوت الذين عجزوا عن الإجابة عن الأسئلة التي أرقتهما.
ولكن الأهم من ذلك ألا ننساق وراء التأثير والتأثر - الذي يظل في تقديري أمرا غامضا على كل المستويات - وإن علم أن مؤسس علم النفس التحليلي لم يكن مجرد معجب متحمس لفيلسوف الإرادة والحياة، وإنما أتيح له أن يتطور وينضج ويجد ذاته وينظر إليه بعين ناقدة. ونكتفي في هذا الصدد بمثلين نقدمهما من مؤلفاته. فهو في كتابه عن «الأنماط النفسية» (1921م) - وهو أول مؤلف كبير بعد كتابه عن تحولات الليبيدو ورموزه الذي شهد انفصاله عن فرويد (1912-1913م) - لا يكتفي بسرد نصوص يقتبسها من نيتشه، وإنما يتناول شخصيته كمثل على نوع من الوعي الذي يحاول بكل جهده السيطرة على الدوافع المظلمة. إنه يذكر بالتقابل الأساسي الذي يعبر عن التضاد الحاسم بين طرفين هما ديونيزيوس وأبوللو - كما عرضه نيتشه في كتابه المبكر عن ميلاد التراجيديا من روح الموسيقى - ثم يتطرق إلى نقد دينامية الدوافع الكامنة وراء هذا التضاد، ويسوق أمثلة أخرى من التاريخ الحضاري والأدبي، نذكر منها رسائل الشاعر الفيلسوف شيلر (1759-1805م) عن التربية الجمالية ليعزز بها نقده.
لقد أهمل المفكران الشاعران في رأيه البعد الديني، واقتصرا على الاهتمام بالبعد الجمالي والفني لشخصيتي أبوللو وديونيزيوس، وهو لا يكفي لتفسير مضمون التجربة الدينية والتاريخية التي تغلغلت في «اللاوعي الجمعي» لقدماء الإغريق، فضلا عن أن نيتشه قد تجاهل الجانب الصوفي والتأملي الذي اتسمت به طقوس ديونيزيوس في أماكن مختلفة من بلاد الإغريق: «لقد اقترب نيتشه من الواقع إلى الحد الذي جعل تجربته الديونيزية المتأخرة أشبه بنتيجة ضرورية لا مفر منها. أما هجومه على سقراط في ميلاد التراجيديا فهو هجوم على العقلاني العاجز عن الإحساس بالنشوة والتوهج الديونيزي» (الأنماط السيكولوجية، المجلد السادس من المؤلفات الكاملة، ص151)،
9
وقد كان من الطبيعي أن يحاول يونج فحص الخصائص النفسية لهذين النمطين الأسطوريين وأن يبين العلاقة بينهما وبين نظريته عن الوظائف النفسية والمواقف أو الأنماط الأساسية التي تؤدي في مذهبه دورا كبيرا (والمعروف أنه يحدد أربعة أنماط من الوظائف هي التفكير والشعور والإحساس والحدس، كما يحدد نمطين أو موقفين أساسيين هما الانطواء والانبساط). وهكذا يجد أن ما يصفه نيتشه ب «الديونيزي» يقترب في تصوره من الشعور المنبسط المتجه إلى الموضوعات الخارجية؛ إذ تظهر في هذه الحالة تأثيرات أو انفعالات دافعية قاهرة وعمياء تعبر عن نفسها في صور جسدية عنيفة. أما ما سماه نيتشه ب «الأبوللوني» فهو - كما أوضح بنفسه - تعبير عن إدراك الصور الباطنة للجمال والحد والمشاعر المعتدلة المنظمة. وتبرز طبيعة الحالة الأبوللونية إذا قارنا بينها وبين الحلم. فهي حالة استبطان وتأمل متجه إلى الباطن مستغرق في عالم الحلم الغني بالأفكار والمثل الأبدية ، أي إنه في النهاية تعبير عن حالة الانطواء (المرجع نفسه، ص152)، ثم يتطرق عالم النفس إلى تحليل شخصية نيتشه نفسه، فيقول إنها تجمع بين الوظيفة النفسية للحدس من ناحية، وبين وظيفة الإحساس والدافع من ناحية أخرى. إنه يمثل النمط الحدسي أو الوجداني الذي يميل للانطواء، يشهد على ذلك طريقته الحدسية والفنية في الإنتاج كما يدل عليه أسلوبه في الكتابة بوجه عام وفي ميلاد التراجيديا وزرادشت بوجه خاص. ومع ذلك فإن هذه النزعة الانطوائية تخالطها - كما نرى من كتبه العديدة التي وضعها في صورة حكم منثورة - نزعة عقلية ونقدية حادة متأثرة باعتراف صاحبها نفسه بإعجابه بحكم الكتاب الأخلاقيين الفرنسيين في القرن الثامن عشر. وتبقى الغلبة في نهاية المطاف للنمط الحدسي المنطوي الذي يفتقر عموما إلى التحدد والتنسيق العقلي والمنهجي، ويميل إلى إدراك «الخارج» عن منظور «الباطن» ولو على حساب الواقع. ويظل الفيلسوف طوال حياته واقعا تحت تأثير السمات الديونيزية للاوعي الباطن؛ إذ لم تبلغ هذه السمات سطح الوعي إلا بعد أن تفجر مرضه الأخير، واستسلم لغيبوبته العقلية الطويلة التي انتهت بموته، ولم تظهر قبل ذلك إلا في مواضع قليلة متفرقة من كتاباته في صورة رموز وإشارات شبقية.
أما المثل الثاني الذي يدل على مدى اهتمام يونج بشخصية نيتشه، فيمكن أن نسوقه من النصوص المختلفة التي تعرض فيها العالم السويسري ل «القدر» الألماني والمحنة التي جرها الألمان على ملايين البشر في حربين عالميتين. فنحن نجد في كتابه السابق الذكر عن الأنماط النفسية إشارات يفهم منها أن «زرادشت» نيتشه قد ألقى الضوء على مضمونات من اللاوعي الجمعي مرتبطة بظهور «الإنسان القبيح» وبالمأساة اللاشعورية الفاجعة التي يعبر عنها هذا «النبي-الضد» أو المتنبئ المعذب (وقد كان العصر يفيض في ذلك الحين بجرائم الفوضويين والعدميين ومقتل الأمراء والنبلاء والحكام وتطرف اليساريين ... إلخ) أما عن اللمحات والرموز التي فاضت عن اللاوعي الأوروبي للتعبير عن الخطر القادم على يدي الوحش الفاشي، فنلاحظ أن يونج يتحدث عن «البربري الجرماني» في دراسة صغيرة له عن «اللاوعي» ترجع إلى سنة 1918م. والغريب في حديثه أنه يعهد إلى المسيحية بمهمة ترويض الجانب «الواضح والأعلى» من وعي هذه الجماعة الخطرة، ويترك مهمة التحكم في جانبها «السفلي» للعناية الإلهية، والأغرب من هذا أنه لا يذكر الخطر الجرماني وحده، وإنما يؤكد أن «الجنس الآري الأوروبي» يتعرض لنفس الخطر النابع من عمق اللاوعي الجمعي. ثم يشير إلى نيتشه إشارة غير خافية حين يقول إن: «الوحش الأشقر يمكنه في سجنه السفلي أن يستدير إلينا، فيهددنا انفجاره بأفظع النتائج. إن هذه الظاهرة تتم كثورة نفسية في داخل الفرد ، كما يمكن أن تظهر في صورة ظاهرة اجتماعية» (عن اللاوعي، المجلد العاشر من المؤلفات الكاملة، ص25).
10
لقد صدق تاريخ العالم حدس يونج واستيقظ الوحش الأشقر وفجر حمم الكارثة. فهل نقول اليوم إنه ظلم نيتشه فصوره (كما فعل توماس مان بعد ذلك في روايته الرائعة عن الدكتور فاوستوس التي تحمل ملامح من نيتشه ومن المؤلف الموسيقي الغريب الأطوار أرنولد شينبرج ...) في صورة النمط المعبر عن الوحش الأشقر، أم أنه أنصفه حين أكد أنه عبر عن ذلك «البربري» الكامن في طبقات اللاوعي السفلي من كل جرماني، وفي أعماق نيتشه نفسه وتجربته؟ مهما يكن الأمر فإن يونج قد اهتم من الناحية العلمية البحتة بإبراز قوى الدوافع «النمطية الأولية» التي وصفها نيتشه نفسه، وأعلن عن عواصفها وصواعقها المقبلة، وحذر من أخطارها، وكأنما كان هذا الشاعر الفيلسوف «الخبير بالنفوس» هو ساحر العصر الذي يستحضر أرواح الشياطين المدمرة، ويتنبأ بالكارثة المحتومة، ويعري الأقنعة الحضارية والأخلاقية والفكرية الزائفة لتسقط وسط الحطام الهائل المتراكم على صدر أوروبا العجوز: «ويل لهذه المدينة العظيمة، وأنا الذي تمنيت أن أشاهد أعمدة النار التي تحترق فيها؛ لأن هذه الأعمدة النارية يجب أن تسبق الظهر العظيم. ومع ذلك فلهذا أوانه وقدره الخاص».
إن هذا النص الذي نجده في زرادشت كما نجد أشباهه في كتب نيتشه الأخرى يدل دلالة واضحة على أنه كان فيلسوف الكارثة. ومع ذلك فإن أمثال هذه النصوص المزدحمة بصور الخراب ورموزه لا يصح أن تغرينا بتفسيرها تفسيرا تاريخيا ضيقا، ولا يجوز أن تنسينا لحظة واحدة أنها تعبر تعبيرا رمزيا عن «الزلزلة القادمة» التي ستتبعها إشراقة «الفجر الجديد» (ولا ننسى أيضا أن الرموز الأصيلة ذات أبعاد عميقة متعددة).
ونسأل أخيرا: ما هي هذه الزلزلة؟ وما هو هذا الفجر الجديد؟ ليس من السهل أن نحدد ما يقصده نيتشه بهاتين الكلمتين أو بغيرهما من كلماته ومصطلحاته الغنية بالإيحاءات والإشعاعات، ولكن ليس من الصعب كذلك أن نرى - على ضوء ما سبق وما سيأتي بعد - أن نيتشه يمثل «صدعا في تاريخ البشرية» (والتعبير لفيلسوف الحياة لودفيج كلاجيس الذي تقدمت الإشارة إليه). ولقد أكد تأكيدا لا مزيد عليه أنه «آخر العدمين»، وأن رسالته هي الكشف عن تصدع عصره «البرجوازي»، وانهياره على رءوس رجاله الجوف، وتعرية وعيه الكاذب بأسره، وتغيير ألواح قيمه التي فقدت قيمتها بعد أن تداعى عامود النظام الميتافيزيقي الذي كان يستند عليه، ولكن من الذي سيطلع هذا الفجر الجديد؟ من الذي سيحول القيم من اللوجوس (المنطق والجدل العقلي) إلى البيوس (الحياة وإرادة المزيد من الحياة)؟ وأخيرا من الذي سيبدع هذا العالم الجديد؟ إنه جيل المبدعين من أفراد الإنسان الأعلى. وليس الإنسان الأعلى على الإنسان المبدع. ومن أجل هذا الإنسان الذي اشتدت حاجتنا إليه كتب هذا البحث، تحية للمبدعين الحقيقيين، ولكل من يساعدهم على فهم أسرار الإبداع.
القسم الثاني
أ
يطرح نيتشه سؤاله عن الذات الحقة ويحدد الطريق إلى هويتها ووحدتها في القطعة الثالثة من كتابه «تأملات لغير زمانها» (1873-76). فالإنسان يحيا حياته مستسلما للكسل والنوم، غارقا في بحر العادات والرغبات ومشاغل كل يوم. وفجأة يناديه صوت آت من أعماق ضميره: كن نفسك. كل ما تفعله الآن وتفكر فيه وتتوق إليه شيء مختلف عنك. وتصحو «النفس الشابة» من غفوتها وتحاول أن تسترد ذاتها. ها هي ذي تناجي نفسها قائلة: حقا لست شيئا من هذا كله. ما من أحد يمكنه أن يتولى عنك بناء الجسر الذي يتحتم عليك أن تعبريه فوق نهر الحياة، ما من أحد غيرك. صحيح أن هناك طرقا وجسورا وأنصاف آلهة لا حصر لها تريد أن تحملك عبر النهر، لكن ذلك سيكلفك الثمن الباهظ، والثمن الباهظ هو أن ترهني نفسك وتضيعيها. لا يوجد في العالم غير طريق واحد، ولا أحد يمكنه أن يسير عليه سواك. لا تسألي إلى أين يؤدي هذا الطريق؟ عليك أن تقطعيه. «كل نفس شابة تسمع هذا النداء ليل نهار فترتجف؛ لأنها تشعر بالقدر المقسوم لها من السعادة منذ الأزل عندما تفكر في تحررها الحقيقي، غير أنها لن تبلغ هذه السعادة ما بقيت مأسورة في أغلال الخوف والآراء الشائعة. وكم تصبح الحياة مجدبة من كل معنى ومن كل عزاء إذا حرمت هذا التحرر، فليس في الطبيعة مخلوق أولى بالرثاء أو أدعى للنفور والاشمئزاز من إنسان تهرب من روحه الحارس، وراح يطوف بعينيه فيما حوله، ويتلفت مرة ناحية اليمين وأخرى لليسار أو الخلف. إن مثل هذا الإنسان لا يستحق حتى أن نهاجمه؛ لأنه مجرد قشرة خارجية منزوعة اللب، ثوب بال منتفخ ملطخ بالألوان، شبح بائس لا يستطيع حتى أن يثير فينا الخوف، وهو يقينا لا يستثير فينا العطف أو الإشفاق.»
11
هذا الإنسان الذي تحول إلى قشرة خارجية منزوعة اللب إنسان يخدع نفسه بنفسه. التصق قناع المنصب أو الوظيفة التي يؤديها في المجتمع بجلده، حتى أخفى وجهه الحقيقي وتوحد ب «الدور» الذي يقوم به، فاستبدله بذاته الأصيلة. وإذا كان هذا الدور ضرورة تحتمها الحياة الاجتماعية، ويفرضها التعامل مع العالم والناس، فإنه يصبح في الحالات المرضية قناعا تتخفى وراءه الشخصية أو بالأحرى تختفي فيه.
12
ولا شك في أن نيتشه قد سلط نيران غضبه على الأقنعة الكاذبة التي ارتداها الناس في عصره، واستطاع أن يعري حضارته، ويكشف عن العفن والفساد والانحلال والعدمية التي فغرت هاويتها المخيفة لتتردى فيها. فعل ذلك ليحمي «النفس الشابة» من لعنة الأقنعة والأدوار المتشابهة إلى ما لا نهاية، من السقوط والضياع وسط الجماهير المجهولة كما سيقول هيدجر فيما بعد من إنكار الذات الأصيلة، وتسليم قيادها للناس والرأي العام، فعل ذلك لكي تقسو على نفسها وتقول لها: كوني نفسك!
ولكن كيف يعرف الإنسان نفسه وهي شيء مظلم يلفه الغموض؟ كيف تجد الذات ذاتها، وتعثر على المعنى الأصلي والمادة الأولية لكيانها؟ أتكون هذه الذات كامنة تحت قناع «الأنا» اليومية أم تكون متعالية فوقها؟ أيمكن أن تصل في بحثها إلى شيء يجعلها تهتف فرحة: ها أنت ذي حقا، لقد اختفت القشرة!
إن كل شيء يتوقف في نظر «الخبير بالنفس» على أن يقوم الإنسان بتحرير نفسه وتربية نفسه بنفسه. وليس معنى هذا أن «اللب» الإنساني شيء يقبل الصياغة والتشكيل، أو أن المربي صاحب نظريات يعلنها أو معلومات وتوجيهات يقدمها، فالذات الحقة تمتنع على «التربية»، اللهم إلا إذا فهمنا التربية بمعنى الخلاص والتحرير، وعرفنا أن المربي هو المحرر، وأن الفرد وحده هو الذي يمكنه أن يجد نفسه، وهو الذي يتحمل مخاطر الطريق إلى لقاء ذاته.
كيف يتسنى له أن يجدها؟ هل يحفر في نفسه ويهبط إلى أغوارها مع ما في ذلك التغلغل في الأعماق من خطر وعذاب؟ إن نيتشه لا ينصح بذلك، لا لأنه يقلل من شأن الأعماق التي غاص فيها أصحاب التحليل النفسي (فكم نظر في هاويتها وتاه في متاهتها)، ولكن «لأن كيانك أو جوهرك الحق لا يختفي في أعماقك، وإنما يعلو فوقك علوا لا حد له، أو هو على الأقل يعلو فوق ما تتصور عادة أنه «أناك». وهنا يعلمك مربوك الحقيقيون أن ذاتك تحرر ولا تربى، وأن التربية الحقيقية هي تحرير الذات الحقيقية من كل زيف، وتخليصها من الأعشاب والأوساخ والديدان التي تؤذي براعمها الرقيقة ... هي انسكاب النور والدفء، انهمار المطر الليلي، محاكاة الطبيعة والتضرع إليها حيثما كانت رحيمة كالأمهات، وهي كذلك إكمال للطبيعة عندما توقف نوباتها الفظيعة القاسية، وتوجهها إلى الخير، وعندما تسدل حجابا يخفي ظواهرها الغادرة وغباءها المحزن.» وينصح الفيلسوف بما يشبه العلاج النفسي عندما يطلب من «النفس الشابة» أن تدير «أهم استجواب» مع نفسها، وتنظر إلى الحياة التي عاشتها متسائلة: ما الذي أحببته حقا حتى الآن؟ ما الذي جذب روحك إليه، وسيطر عليها وأسعدها في آن واحد؟ تأمليها مجتمعة ووازني بينها، فربما كشفت لك طبيعتها وتتابعها عن القانون الأساسي لذاتك الحقيقية. انظري إليها كيف يكمل بعضها بعضا، ويتفوق بعضها على بعض، وكيف تكون السلم الذي صعدت عليه حتى الآن لترتفعي إلى ذاتك.
وماذا يجد المرء إذا ارتفع إلى الذات الحقة؟ سيجد أن التفرد المنتج الخلاق هو لب كيانه. وإذا ما تم لديه الوعي بهذا التفرد جللته هالة غريبة من الضوء، هي الهالة التي تحيط بكل ما هو خارق للمألوف. ولن يطيقها معظم الناس؛ لأنهم بطبعهم كسالى، ولأن ذلك التفرد تطوقه سلسلة من المتاعب والأعباء. لا شك أن هذا المتفرد الشامخ، الذي ينوء بحمل السلسلة الثقيلة، سيضحي بكل ما تشتاق إليه الحياة الشابة من مرح أو أمن أو رفعة شأن، سيكون التوحد هو نصيبه من الناس، وسيجد نفسه يعيش في الصحراء والمغارة حيثما شاء أن يعيش عليه عندئذ أن يكون حذرا فلا يستعيده شيء، صامدا قويا لا يصيبه حزن أو اكتئاب.
لقد شق طريقه بنفسه، وتحمل كل المخاطر حتى وجد ذاته المتفردة، فهل كثير عليه أن يتمسك بهذا الوجود الذي لا يستبدل غيره؟ أليس من الطبيعي أن يتقبل كل ما يفرضه عليه من أعباء وأقدار كأنه جزء لا يتجزأ من «لب كيانه»؟ بيد أن الوعي بالتفرد لا يعني إلا التوحد، وتجربة الإنسان على طريق النضج ومعرفة النفس تجربة لا تنقل للآخرين؛ إذ يتحتم على كل فرد أن يخوضها بنفسه. ولهذا أيضا تخلق رغما عنه مسافة بعد تقصيه عن الناس. وقد تنمو الأشواك، فيزداد توحده. وقد يكو من سوء حظه أن يعيش في ظل حكومة مستبدة ومجتمع أو رأي عام شديد البطش، فلا يكون له ملجأ إلا وحدته. إن من عادة الطغيان أن يحقد على الفيلسوف الوحيد؛ لأن الفلسفة هي الملجأ الذي يلوذ به، ولا يقوى الطغاة على النفاذ إليه، ولكنه لا يستطيع أن يلازم كهفه الباطن، حتى لا يتعرض لأعظم الأخطار، فهو مضطر للظهور بين الناس، والارتباط معهم بالصلات التي يفرضها المولد والنشأة والتربية والمصادفة وتطفل الآخرين، ولكن الناس تتشكك في أنه يظهر غير ما يبطن، ويرتابون في وحدته، فيلقون شباك ظنونهم وسوء فهمهم على حركاته وسكناته، ويتحيرون في تأويل سلوكه، وهو الذي لا يبتغي غير الحقيقة والأمانة. عندئذ تتبلد سحب الاكتئاب فوق جبهته، وتتكاثف المرارة في نفسه، فيصبح كالبركان الذي يهدد بالانفجار. إن الظهور ضرورة تفرضها عليه الحياة، ولكنه يكره هذه الضرورة كراهة الموت. ولذلك يثأر من وقت لآخر من هذه الوحدة التي فرضها على نفسه، فيخرج من كهفه بملامح مفزعة، وتتفجر كلماته وأفعاله، وربما أهلك نفسه بنفسه.
هل كان نيتشه يتنبأ بالصراع الذي سيخوضه مع عصره وحضارته، أم كان يعبر عن تجربته وقدره الشخصي الذي جعله يحطم نفسه بنفسه؟ إنه يصف حالة الإنسان الذي يلوذ بكهف الباطن. وربما تصورنا أنه سبق علم النفس التحليلي إلى وصف النمط الانطوائي أو المنطوي. غير أنه يهدف في الحقيقة إلى شيء أبعد من ذلك. فالتوحد والاتجاه إلى الباطن صفتان يطلقهما على أصحاب الذات المتفردة أو «أحرار الروح»؛ لأنهما علامة على التحرر الذي بلغوه بكدحهم ومعاناتهم، وعلى الأخطار التي تتهددهم بعد أن رأوا أبعد مما رأى غيرهم، وعرفوا أكثر مما عرفوا.
ولكن كيف تتحقق هذه الذات المتفردة؟ في أي شكل من أشكال الوجود الفريد تكون؟ متى يتخلص الإنسان من أسر الطبيعة وضروراتها؟ وما هي الخطوات التي يمكن أن تسير به على الطريق إلى الذاتية الحقة والعقبات التي تحول بينه وبينها؟
ليس الإنسان واقعة بيولوجية، ولا يمكن أن يفهم من خلال المقولات الطبيعية والحيوية، صحيح أنه يتكاثر باستمرار، ولكن المهم أن يتصاعد هذا التكاثر إلى أعلى، وأن يواصل عملية التفرد وتحقيق الذات، ولو كان ذلك في لحظات نادرة من ديمومته الممتدة. فالطبيعة لا تهتم بغير الإنسان، وهي في اندفاعها نحوه تؤكد حاجتها إليه لتخليصها من لعنة الحيوانية. والوجود بأسره يجعل من الإنسان مرآة ينظر فيها ليدرك أن الحياة لم تعد خالية من المعنى، وأنها تظهر في صورته البشرية بكل دلالتها الجمالية والميتافيزيقية.
ولكن أين يتوقف الحيوان وأين يبدأ الإنسان؟ إننا نعيش الجزء الأكبر من حياتنا دون أن تتجاوز نظرتنا أفق الحيوان. وما دمنا نسعى إلى الحياة كما نسعى إلى السعادة، فنحن لم نتميز عنه إلا بأننا نطلب عن وعي ما يطلبه بدوافعه العمياء. ونظل أفرادا وشعوبا نضطرب في دوامة الحياة، وتضطرب بنا دون أن نتخطى الحيوانية، بل نظل نحن أنفسنا الحيوانات التي تتعذب بلا معنى، وتأتي لحظات ندرك فيها أن الطبيعة بأسرها، ونحن معها، تشرئب إلى الإنسان كشيء يعلو فوقها وفوقنا. وتتبدد السحب وينهمر الضوء الساطع، ونتلفت حولنا ووراءنا: لا زالت الوحوش المفترسة تتجول في كل مكان، ولا زالت حركات البشر فوق الأرض الموحشة - من بناء مدن ودول أو انهيارها وسحقها، من حرب وزحام وتجمع وتفرق، من تآمر أو تعاون وصراخ في المحنة أو هتاف في النصر - لا زالت كلها استمرارا للحيوانية. وكأن الإنسان قد نكص على عقبيه، وأنكر فطرته الميتافيزيقية، أو كأن الطبيعة التي اشتاقت إليه، وعملت دهورا على ظهوره قد ارتجفت رعبا منه وآثرت الرجوع إلى دوافعها اللاواعية.
وأخيرا تأتي لحظة «التجربة الكبرى»، والمعرفة القصوى. لحظة تعرف الطبيعة أن الإنسان هو هدفها، ويعرف الإنسان ضرورة أن يمتلك ذاتها ويحققها، ويعي - مرة أخرى في لحظات فريدة - أن كل ما نأتي وندع في حياتنا، كل لهاثنا إلى المنصب والمكسب ومخالطة الناس، بل كل سعينا إلى العلم نفسه ليست سوى ألوان من التهرب من مهمتنا الأصلية، والخوف من لقاء ذواتنا الحقيقية، والفرار كل لحظة مما تريد كل لحظة من عمرنا أن تهمس به، والتستر وراء أقنعة السخرية اليومية، حتى لا تلمحنا عين من عيون الضمير المائة، ثم الرعب من السكون إلى أنفسنا، حتى لا نطفو فوق الموج ولا ننتبه من الكابوس. وهكذا تستبد بنا ظاهرة الخوف من لقاء ذواتنا، فتشدنا قوى ترجع بنا إلى حالة اللاوعي التي تميز الدافعية الحيوانية، ثم لا تلبث الشوكة أن تؤرق نومنا فجأة، وتنبهنا إلى ضرورة الارتفاع فوق أنفسنا صعودا إلى صيرورتنا الذاتية الحقة.
هل يمكن أن نرتفع بأنفسنا، أم أن هناك من يساعدنا على العلو والارتفاع؟ هل يشير نيتشه بطريقته الحدسية الملهمة إلى نوع من المعرفة الصوفية التي طالما أشار إلى أسرارها وطقوسها في موكب الاحتفال برب النشوة والخلق المتجدد ديونيزيوس، أم يوحي إلينا بضرورة الدخول في مدارس التدريب الروحي (الذي يمارسه رهبان «الزن»، ويوصي به رودلف شتاين)،
13
أم يأخذ بأيدينا على طريق «التفرد»، الذي وصفه «يونج» متأثرا به بغير شك؟ المهم أنه دعانا إلى ضرورة العلو إلى وجودنا الذاتي والارتفاع فوق أمواج الأنا اليومية التي تغرقنا صباح مساء، كما نبهنا إلى أولئك الذين يمكنهم أن يأخذوا بأيدينا على هذا الطريق الحتمي، أولئك الذين ارتفعت إليهم الطبيعة نفسها في نهاية صيرورتها نحو ذاتها المتحضرة المبدعة.
من هم؟ إنهم الفيلسوف والفنان والقديس. هم الأفراد العظام الذين أبدعتهم البشرية بعد عناء طويل، هم نماذج من «الإنسان الأعلى» قبل أن يرفع الفيلسوف صوته بالدعوة إليه في «هكذا تكلم زرادشت». ليسوا مجرد حالات استثنائية، بل هم نماذج تخلقها الحياة وتحقق فيها معنى وجود الإنسان، وتصوغ معها التفكير والشعور والإرادة على صورة جديدة. فالفيلسوف يجسد تعميق الوعي، والفنان يشكل الوجود الجديد، والقديس ينجز التحول. كلهم كامن بالقوة فينا، وكلهم أقرب إلينا مما نتصور، ومن يدري؟ لعل نيتشه بإلهامه العظيم قد استبق الاهتمام العلمي الحديث بأسرار الإبداع، دون أن يستطيع بطبيعة الحال أن يكون «عالم نفس» يحدد قوانينه وظروفه المواتية والانحرافات المرضية التي تعوقه ... لقد أسند هذه المهمة إلى الطبيعة التي تحتاج إلى الفيلسوف لكي يعرفها بنفسها، وتتمثل في صوره الخالصة ما لم تستطيع أن تراه بوضوح خلال صيرورتها القلقة، كما تحتاج إلى الفنان لكي يفصح عما عجزت عن الإفصاح عنه، ثم تحتاج إلى القديس ليحول الأنا اليومية من إحساسها الفردي إلى الشعور العميق بوحدتها مع كل ما هو حي؛ ليبلغ بمعجزة التحول إلى الغاية الأخيرة من لعبة الصيرورة، ألا وهي تحقيق الإنسان المبدع الذي تندفع إليه الطبيعة ليخلصها من نفسها.
ب
هل بدأ نيتشه نفسه يخطو على الطريق الصعب نحو ذاته الحقيقية؟ إذا كانت النصوص التي استوحيناها على الصفحات السابقة من كتابه «تأملات لغير زمانها» تشهد على عثوره على علامات هذا الطريق، وتبين بأسلوبها الخطابي والتعليمي أنه عقد العزم على تربية نفسه بنفسه، وخوض مشقة الكفاح على الدرب المفضي إلى ذاته، فإن كتابه التالي (إنساني إنساني جدا، الذي بدأه سنة 1876م وأتمه سنة 1878م) يسجل - كما يقول - في كل حكمة منه، بل في كل عبارة انتصارا حققه على طريق العذاب نحو الذات، بعد أن راح ينفض عنه كل ما هو غير أصيل وغير حقيقي. صحيح أنه لم يبلغ بعد مرحلة الإلهام المتدفق الذي سيفاجئه عند كتابة «هكذا تكلم زرادشت» (بين سنتي 1883 و1885م)، ولكنه قد شرع خلال الفترة التي قضاها في تدوين هذا الكتاب في التخلص من كثير من أعبائه وأغلاله، فقاطع صديقه القديم فاجنر قطعية نهاية «1878م»، وقدم استقالته من عمله المرهق البغيض كأستاذ للغات الكلاسيكية في جامعة بازل «1879م»، وراح يتابع رحلاته المضنية وجولاته الوحيدة على جبال الألب في إيطاليا وسيلز ماريا، ويقاسي الآلام التي لا تطاق من مرض عصبي وراثي أوشك أن يحطم رأسه، ويعمي عينيه قبل أن ينهار في «تورين»، وتبدأ كارثة جنونه في يناير 1889م. لا عجب بعد هذا أن نجد في هذا الكتاب كيف بدأت الأزمة، وبدأ معها الطريق إلى الذات الحرة المبدعة التي راحت تنضج شيئا فشيئا على نار الألم والوحدة، وتفوح إلى حد النشوة بشرارات الإلهام المنطلقة من قبس أو نبع مقدس كان يخشى عليه أن يخمد أو يغيض.
14 •••
النفس سر مغلق، هي عالم كامل من الأحوال الباطنة، و«الخبير بالنفوس» يلاحظها، ويحاول أن يسبر أغوارها كما يحاول أن يرتفع فوقها، ويرقى إلى «ذاتها» الحقة، ماذا هو صانع مع الاختيار العسير بين الطريق الهابط والطريق الصاعد؟ أيشفق على نفسه من الأول، وهو الذي تعذب على أشواكه وفي متاهاته كما لم يتعذب غيره؟ أم يشفق عليها من الثاني، وهو الذي طالما اجتاز الشعاب الوعرة، وتجول وحيدا فوق القمم؟ أم أن الطريق الهابط والطريق الصاعد طريق واحد في الحقيقة كما قال حبيبه ونظيره الإغريقي هيراقليطس؟!
النفس سر، والسر مفهوم ديني كان له شأن كبير من الحضارات القديمة. فقد حدد الناس أماكن مقدسة لا تطؤها إلا أقدام السالكين، وأحاطوها بأسوار التحريم الإلهي الذي كان يحظر على غيرهم دخولها، ويبث في صدورهم الرعدة والقلق إذا اقتربوا منها. وما لبث هذا التحريم أن انتقل إلى علاقات أخرى (كالعلاقات الجنسية التي ظلت وقفا على الكبار الناضجين وحراما على صغار السن الذين صور لهم أولئك الكبار أن الآلهة نفسها تقدسها وتحميها وتسهر في مخدع الزوجية على حراستها، وكذلك علاقات الملكية التي حددت أملاكها منذ البداية، ووضعت حولها الأسوار، وأحاطتها بهالة إلهية من القوة والسر، وقل الشيء نفسه عن مقر الحاكم أو الملك وعرشه وقصره وأعماله وكلماته ... إلخ) كل هذه كانت حرمات محرمة على الرعايا والأتباع دون السالكين. ولا زالت لها آثارها ورواسبها الباقية عند شعوب عديدة إن لم يكن عند كل الشعوب. وظلت النفس كذلك سرا محرما على غير الحكماء والعالمين ببواطن النفوس، سرا اعتقد الناس دهورا طويلة أنه من أصل إلهي ولا يليق بأحد غير الآلهة أن يتصل به، حرما مقدسا يثير في الناس مشاعر الرهبة والحيرة والحياء.
15
ولهذا بقي الإنسان حتى اليوم محصنا من نفسه أمام كل محاولة منه لمحاصرة نفسه، واستطلاع أسرارها، فهو في العادة لا يدرك منها أكثر مما يدرك من أعماله الخارجية: «إن الحصن الذي تعتصم به نفسه موصد الأبواب في وجهه، خفي ومختف عن بصره، اللهم إلا إذا تطوع الأصدقاء والأعداء بالقيام بدور الجواسيس لكي يرشدوه للطرق الخفية التي توصله إلى نفسه.»
ما الذي جعله ينشط هذا النشاط كله لتحصين نفسه من نفسه؟ المسئول عن هذا هو نشاطه نفسه! فهو يستغرقه، فيحكم حوله أغلال التعود، ويصنع قضبان سجنه دون أن يدري، ويزداد فعله ونشاطه، فتزيد عبوديته وسخرته. إنه الموظف النشط، والتاجر الذي لا يتوقف عن العمل، والعالم الذي لا يكل من البحث، هم أفراد النوع العامل كالنمل أو النحل، لكنهم ليسوا بالأفراد المتفردين من بني الإنسان (فهم من هذه الناحية كسالى!) من سوء حظ هؤلاء «الفعالين» أن فعلهم غير عقلي أو لا نصيب للعقل فيه. وتخطئ لو سألت أحد رجال المال والأعمال والبنوك من الذين لا يكفون عن جمع المال عن الهدف من فعلهم؛ لأنه خال من العقل، ولأنهم وأمثالهم يدورون كما يدور الحجر حسب «غباء الميكانيكا»، وليتهم يعرفون أن القليل من التفكير والإخلاد إلى السكينة يمكن أن يشفي جميع أمراض النفس، وأنهم لو عقدوا النية على استخدام هذا الدواء لاكتشفوا فائدته، وليت الأمر كان مقصورا على هؤلاء الفعالين بلا كلل ولا ملل. إنه طابع الحضارة الحديثة التي تحولت إلى حضارة الفعل والحركة والقلق، حتى لقد أوشكت الفصول نفسها أن تتدافع وتهرول آخذة بخناق بعضها. وتزداد هذه الحركة فيزداد معها القلق، وتتحول حضارتنا أو مدينتنا إلى بربرية جديدة. فلم يحدث أن طغت قيمة الفعل والحركة والنشاط كما طغت على هذا العصر. والنتيجة أن يفتقد الهدوء الضروري للتأمل، وأن تضيع في طاحونة الفعل العقيم قيمة فعل أسمى منه، ونعني به الفعل المتفرد الذي يهبط بنا إلى منابعنا المتفردة، أو يعلو بنا إلى ذواتنا الأرقى (والأمر هنا هو أمر مفارقة لا بد منه: هبوط إلى الأعلى، وعلو إلى الأدنى).
علينا إذن أن نتحرر من هذه العبودية. فالناس ينقسمون اليوم كما انقسموا في كل الأزمنة إلى عبيد وأحرار. «ومن لم يملك ثلثي يومه ليفرغ إلى نفسه فهو عبد، وليكن من رجال الحكم أو التجارة أو الإدارة أو العلم أو ما شاء أن يكون.» إن نشاطه الدائب وفعله المستمر لا يعفيانه كما قلنا من أن يوصف بالكسل، وكسله يرين على أعماق نفسه، ويمنعه من أن يغترف الماء من نبعه الخاص. لقد أصبح الناس - حتى العلماء منهم - يتنافسون في العمل، ويتسابقون على تحقيق الرقم القياسي فيه، ويتصورون أنه يحقق لهم المتعة التي يحققها لغيرهم. والواقع أنهم ينسون متعة أخرى أجدر بهم، متعة لا ينالها إلا القادرون على «التفرغ» أو «الفراغ» بالمعنى الذي فهمه منهما حكماء الإغريق، من ترك النفس للتأمل والنظر في نفسها وفي كل شيء. وإذا صح ما يقال من أن الفراغ مفسدة، وبداية كل الرذائل، فالأصح من ذلك أنه أقرب ما يكون إلى كل الفضائل. والإنسان المتفرغ أفضل دائما من صاحبه النشط الفعال (ولا ينسى الكسالى أنهم مستثنون من حديثنا عن الفراغ بالمعنى الذي ذكرناه!) ولا يتصور أصحاب التأمل والنظر أن الفراغ أو التفرغ معناه انتظار الإلهام المفاجئ، وكأن الأفكار المبدعة في الفن والأدب والفلسفة معجزات أو نعم تهبط من السماء. إن مخيلة الفنان أو المفكر تنتج باستمرار ويتراوح إنتاجها بين الجيد والمتوسط والرديء، ولكن ملكة الحكم المدربة لديه إلى أقصى درجة هي التي تختار وتحذف وتؤلف وتربط. لقد كان كبار المبدعين دائما من كبار العاملين المجتهدين، ولم يقتصر عملهم وجهدهم المستمر على الابتكار، بل امتد كذلك إلى الحذف والمراجعة والتشكيل والتنظيم والجمع والاختيار.
يلهث الفعالون والعمليون كل لحظة وراء ما يسمونه «التحقيق» أو «النفع» و«الإنجاز» و«النجاح»، ولكنهم في لهاثهم المسعور يضيعون اللحظة والزمن والحياة.
فالحياة تتألف من لحظات نادرة فريدة ممتلئة بالمعنى والدلالة، وبجانبها فترات استراحة تراودنا فيها على أحسن الأحوال ظلال تلك اللحظات النادرة.
فالحب والربيع، واللحن الجميل، والجبل، والقمر، والبحر - كلها تتحدث إلى القلب مرة واحدة لا تتكرر - هذا إذا تحدثت إليه أصلا! وأكثر الناس لم يجربوا تلك اللحظات. ولهذا يعيشون ويموتون كأنهم فترات استراحة وسكون في سيمفونية الحياة الحقة. وإذا كانوا لم يعرفوا تلك اللحظات التي تفيض في حديثها من القلب إلى القلب، فأولى بهم ألا يعرفوا تلك اللحظة التي يتواصلون فيها مع «الذات الأعلى» - وهي في الوقت عينه الذات الحقة الحميمة - اللحظة التي يطرح فيها الإنسان عبوديته، ويصبح هو الإنسان نفسه. إن أصحاب الطبائع الفعالة الناجحة لا يسيرون على الشعار القديم «اعرف نفسك بنفسك»، بل يبدو أنهم يطيعون هذا الأمر الذي يلح عليهم: «رد نفسا، تصبح نفسا»، ويبدو كذلك أن القدر قد ترك لهم حرية الاختيار، على حين أن المتأملين من أصحاب الطبائع غير الفعالة قد اختاروا ذلك الشعار القديم منذ اللحظة التي ولدوا فيها.
ماذا بقي لمن يحيا للمعرفة وحدها؟ ماذا يصنع أصحاب العقل الحر والوجدان الحر؟
إن أوضاعهم في المجتمع والدولة ليست هدفهم من الحياة، وإنما هي الهدف الخارجي لها، ولهذا يقنعون بعمل متواضع أو ثروة قليلة تكفيهم مئونة العيش. وهم لا يتقلبون بتقلب النظم السياسية، ولا يتحولون مع تحولات القيم والمواقف من الخيرات المادية. إنهم يدخرون طاقتهم ونفسهم الطويل للغوص في عنصر المعرفة، ورؤية الأساس والقرار رأي العين. وهم بطبيعة الحال قادرون على الحب، لكن حبهم حذر قصير الأنفاس؛ لأنهم لا يريدون أن يتركوا أنفسهم لعالم الميول والدوافع العمياء. سيفعلون ذلك وهم واثقون أن رب العدالة ينصف أولياءه من الأصوات التي تتهمهم بالعجز عن الحب أو الافتقار إليه. وهم في حياتهم وتفكيرهم يتسمون بنوع من البطولة المهذبة التي تأبى عليهم التهالك على إعجاب الجماهير على نحو ما يفعل إخوتهم من أصحاب الغرور والفجاجة، ولهذا كان دأبهم السعي في هذا العالم والخروج منه في صمت وسكون. ومهما تكون المتاهات التي يجوسون فيها، والصخور التي يحفرون في ثناياها مجرى لأنهارهم، فإنهم لا يكادون يظهرون للنور، حتى يواصلوا طريقهم في صفاء وخفة، وبلا ضجيج، ويتركوا ضوء الشمس يداعب أعماقهم الدفينة.
هكذا يتقدمون في ثقة وكبرياء على طريق الحكمة. إن الواحد منهم ليقول لنفسه: أيا ما كانت، فاجعل من ذاتك نبع تجربتك! أنفض عنك السخط، ولا تقس على نفسك، في كل الأحوال أمامك سلم من مائة درجة، في إمكانك أن ترقاه لتبلغ المعرفة. إن العصر الذي تتهمه بأنه ألقى بك بين أناس لا تطاق ولا تحتمل، هذا العصر يباركك من أجل هذا الحظ نفسه. إنه يناديك قائلا: لقد كتب لك أن تمر بألوان من التجربة، ربما لا تتاح للناس في عصور تالية. لا تقلل كذلك من شأن تجاربك الدينية، واعلم أنها قد هيأت لك مدخلا أصيلا إلى الفن. أليس في استطاعتك، بمساعدة هذه التجارب نفسها، أن تتابع المسافات الشاسعة التي قطعتها البشرية في عهود سالفة بمزيد من الفهم والتعاطف! ألم تنم على هذه الأرض نفسها، هذه الأرض التي استشرى فيها الزيف، فأثارت سخطك، كثير من الثمرات البديعة التي أنضجتها حضارة سابقة؟
حاول أن تجوب الدروب التي قطعتها البشرية في مسيرتها الرائعة المعذبة عبر صحراء الماضي، وستجد أنك قد عرفت معركة أكيدة أن البشرية لا يمكنها، أو لا يجوز لها أن تعاود السير على تلك الدروب. وكلما حاولت بكل طاقتك أن تطلع على عقدة المستقبل، صارت حياتك أداة وسيلة للمعرفة. ففي يدك أن تجعل من كل ما جربته من محاولات وأخطاء، وخيبة أمل وانفعال، وحب وأمل، في يدك أن تجعله جزءا لا يتجزأ من هدفك. وهذا الهدف النهائي هو أن تكون أنت نفسك حلقة ضرورية في سلسلة الحضارة، وأن تستدل من هذه الضرورة على الضرورة التي تحكم مسيرة الحضارة الشاملة. وعندما يشتد بصرك ويقوى على النظر في قرار النبع المظلم لكيانك ومعارفك، فربما تنعكس على مرآته نجوم الحضارات التي ستزدهر في المستقبل. هل تعتقد أن مثل هذه الحياة التي تتجه إلى مثل هذا الهدف حياة مضنية جرداء؟ إن خطر على بالك هذا، فلم تتعلم بعد أن عسل المعرفة أعذب من كل ما عداه، وأن سحب العلم الملبدة هي الضروع التي تستطيع أن تمد إليها يديك لتحلب منها اللبن الشهي. فإذا جاءت الشيخوخة لاحظت أنك قد استجبت لنداء الطبيعة التي تسيطر على العالم كله عن طريق اللذة، وستجد أن الحياة التي يمتد طرفها في الشيخوخة هي نفس الحياة التي يمتد طرفها كذلك في الحكمة، في ذلك النور الرقيق الذي يسطع من النشوة الروحية الدائمة. وسوف تلتقي بالشيخوخة والحكمة معا على منحدر واحد من حبل الحياة. فهكذا شاءت لك الطبيعة. عندئذ يكون الحين قد حان ولا وقت للغضب من اقتراب ضباب الموت. فلتكن آخر حركة تقوم بها هي الاتجاه إلى النور، وليكن آخر صوت تلفظه شهقة فرح بالمعرفة.
ج
وتنضج الثمرة ويبزغ «الفجر» (وقد ألفه نيتشه بين سنتي 1880 و1881م). وتصبح معرفة الذات هي غاية سعي الإنسان وهدف «العالم كله»: «فالإنسان لا يتوصل إلى معرفة ذاته إلا بعد أن ينتهي من معرفة الأشياء؛ إذ لا تخرج الأشياء عن أن تكون هي حدود الإنسان.» ويظهر الألم في ضوء جديد، ويكتسب العذاب والمرض قيمة جديدة. فلقد نشأت أفظع الأمراض التي عاناها الإنسان من محاولته الدائبة للتغلب على المرض. ويمر الزمن، فتصبح وسائل علاج المرض وتسكينه أسوأ أثرا من المرض نفسه. وتصبح أقصر الطرق التي ينصح بها «أطباء الروح» (كالمخدرات التي تسبب المرض بالتعود عليها كما تسببه بالحرمان منها) أقصر طريق إلى أن تترك الإنسانية طريقها ثم تفقده. ولهذا يحتم الواجب على الأطباء الجدد أن يعرفوا أن المرض طريق، وأن الحياة بطبعها طريق يجتازه الفرد مهتديا بنوره الباطن. وعليه إذا أراد أن يحقق سعادته أن يزيح «التعليمات» و«التوجيهات» عن طريقه؛ لأن سعادته الفردية لا تنبع إلا من ذاته، ولا تخضع إلا لقوانينه الخاصة التي يجهلها كل من عداه. هذه التعليمات والتوجيهات التي تفرض عليه من الخارج، وتوصف في العادة بأنها «أخلاقية» هي في الواقع موجهة ضده، ولا تحقق سعادته ولا سعادة الإنسانية. والعذاب الذي لا بد أن يقاسيه لكي يصير ذاته ويعرفها هو الذي يحرر نظرته إلى الأشياء المحيطة بها، ويمحو «ألوان السحر الكاذبة الصغيرة» التي تسبح فيها. وهو الذي يخلصه من الواجبات والعادات التي اكتسبت رداء الأخلاقية والأخلاق، وينبهه إلى ضرورة الشروع في قلب جميع القيم التي أسفرت عن وجهها، فبدت مجرد أشكال من التحيز.
وأول خطوة على هذا الطريق إلى «عالم الذات المجهول» هي تعميق ما نسميه بالوعي والعلو فوقه والغوص تحته. فمعرفة الذات لا يمكن أن تقتصر على عالم الوعي في حياتنا اليومية المألوفة، وما نسميه «الأنا» لا يعبر أبدا عن الإنسان في كليته. كان أصعب شيء على الناس منذ أقدم العصور إلى الآن أن يفهموا مدى جهلهم بأنفسهم! لا بالقياس إلى الخير والشر، بل بالقياس إلى ما هو أهم من ذلك بكثير. ولا يزال الناس يحيون على ذلك الوهم العتيق الذي يصور لهم أنهم يعرفون السلوك الإنساني تمام المعرفة، ويعلمون على وجه الدقة كيف يتم في كل الأحوال. إنني أعرف ما أريد، وأعرف ما فعلت، وأنا حر مسئول عنه، كما أدرك مسئولية الآخرين. في إمكاني أن أحدد جميع الإمكانات الأخلاقية، وجميع الحركات الباطنية التي تسبق السلوك، وأن أسميها بأسمائها، لتفعلوا ما تشاءون، وليكن مسلككم ما يكون، فإني أفهم نفسي من خلاله كما أفهمكم جميعا، هكذا كان يفكر كل إنسان قديما، وهكذا يفكر اليوم كل إنسان على وجه التقريب.
ولكن مهما بلغت معرفة الإنسان بنفسه، فإن صورة «الدوافع التي تكون حقيقته» تظل في ذهنه ناقصة إلى أقصى حد. فهو عاجز عن تسمية تلك «المخلوقات الغليظة» بأسمائها، جاهل كل الجهل بعددها وقوتها، ومدها وجزرها، وتشابكها وتفاعلها وحروبها الخفية غير الواعية. وأهم من ذلك أن قوانين «تغذيتها» تظل غائبة عنه. فالمصادفة وحدها هي التي تتولاها. ونحن نجرب ما نجرب في حياتنا اليومية، ونقدمه فريسة لهذا الدافع أو ذاك. والدافع يلتهم الفريسة في نهم، ويتم هذا دون سياق أو اتساق مع حاجات الدوافع مجتمعة إلى الغذاء. وهكذا يحدث أحد أمرين: فإما أن تجوع بعض الدوافع وتضمر، أو يشبع بعضها الآخر إلى حد التخمة ... وتواصل يد عمياء تفريق الطعام من تجاربنا اليومية دون حساب للجائع أو المتخم. ويخضع مجموع الدوافع للمصادفة نفسها التي تتحكم في وجوده وصيرورته، كما تتحكم في شبعه أو جوعه وعطشه. ويستمر كل ذلك أثناء اليقظة، حتى يصاب الإنسان بالركود والهموم، ويستسلم للنوم، فتقوم الأحلام أثناء الليل بدور «التعويض» عن «الغذاء» الذي افتقده أثناء النهار، وماذا تكون الأحلام التي نبكي فيها أو نضحك، نسمع أعذب الألحان أو نحلق كالنسور فوق ذرى الجبال، إن لم تكن أنواعا من التنفيس عن دوافعنا الكامنة، وتأويلات غاية في الحرية والتعسف للاستثارات العصبية، وحركات الدم والأحشاء، وضغط الأذرع والأغطية، وأصوات الرياح أو الأجراس المنحدرة من الأبراج ... وغيرها مما نحسه أو ينتهي إلينا أثناء النوم؟ أليست كلها تأويلات مختلفة باختلاف الدوافع لنص واحد بعينه؟ ألا يمكن أن نقول نفس الشيء عن الدوافع التي تحركنا أثناء اليقظة، وتقوم بدورها بتأويل استثاراتنا العصبية، وتغير أسبابها حسب الحاجات الملحة إليها؟ وهل تخرج أحكامنا وتقويماتنا الأخلاقية عن أن تكون صورا وتخيلات عن أحداث فسيولوجية نجهلها، ونوعا من اللغة التي تعودنا عليها، وأطلقناها على تنبيهات عصبية معينة؟ وهل نعدو الحقيقة إذا قلنا في النهاية إن وعينا المزعوم كله ليس سوى تعليق خيالي على نص غير معروف أو غير قابل للمعرفة وإن كنا نحسه ونشعر به؟
16
ما العمل إذا كنا نحن جميعا لا نعرف أنفسنا، ولا نحاول أن نعرفها؟ إذا كنا نجهلها ونتجاهلها، نتهرب منها ونشفق من قسوة الطريق الصاعد أو الهابط إليها؟
لا مفر كما أسلفنا من أن «نربي» أنفسنا. وآفة التعليم والتربية في كل مكان هي هذه: ما من إنسان يريد أن يتعلم أو يعلم غيره كيف يتحمل ألم الوحدة، وما من معلم يريد أن يعطي بغير أن يمن على تلميذه. إن المعلم الحقيقي يهدي ويفرح بأنه ازداد فقرا عما كان عليه، وهو يأخذ بيد التلميذ إلى ذاته ليتركه لصمته ووحدته معها. ويساعده على الاغتراف من منبعه، واكتشاف كنوزه، ثم ينسل بعيدا دون أن يشعره بأنه ساعده في الحفر عن هذه الكنوز، بل دون أن يجعله يشعر بوجوده! لقد عرف نفسه، فاستطاع أن يعرف الآخرين بأنفسهم. ثم اقتضته الحكمة أن يسكت، فلا يتطفل عليها أو عليهم. لقد جرب أعمق التجارب، واهتز وزلزل من جذوره، حتى صح وشفي وخرج بابتسامة متألمة إلى الحرية وصفاء السكينة، حطم أغلاله وتحمل سخرية الذين راحوا يشيرون إليه هازئين: ها هو يثبت خيبته الكبرى! إذ كيف يتعود امرؤ على الأغلال، ثم يذهب به الحمق إلى تمزيقها؟
ومع ذلك فقد وجد الشجاعة لكي يخطو الخطوة الحاسمة على طريقه الخاص عندها تكشف له السر؛ تخلى عنه أولئك الذين كانوا أقرب الناس إليه، تعالوا عليه، وتصوروا أنه أهانهم. والغريب أن أفضل من فيهم لا يزال يتوقع منه أن يعثر على الطريق الصحيح، ويرجع إليه - وكأنهم يعرفون هذا الطريق خيرا منه! لهذا آثر الوحدة ورجع إلى صحرائه. تركهم وهو يقول لنفسه: إنني متعجل. لا بد أن أنتظر نفسي. سيتأخر الوقت قبل أن ينبثق الماء من نبع ذاتي، ويظهر إلى النور، وسيكون علي في أغلب الأحيان أن أتحمل ألم العطش أكثر مما أتحمل الصبر. لهذا أذهب إلى وحدتي، لكي لا يكتب علي أن أشرب من مستودع كل إنسان. إنني أحيا بين أغلب الناس كما يحيا أغلب الناس، ولا أفكر كما ينبغي أن أفكر - ويمضي الوقت، فأشعر دائما كأن هناك من يريد أن ينفيني بعيدا عن نفسي، وينهب مني ذاتي - وهنالك أحقد على كل إنسان، وأخاف من كل إنسان، عندئذ أحتاج إلى الصحراء لكي أعود إلى نفسي. أحتاج إلى الوحدة لأكون ذاتي.
د
وتشرق الشمس على من طلع عليه الفجر، وتشع بنور جديد. وتغمر المفكر الوحيد نشوة فرح لم يعرفها من قبل، فيدون في صيف عام 1881-1882م كتابه «العلم المرح» خلال إقامته في منطقة سيلز-ماريا، بين الجبال التي سيلقى فيها زرادشت بعد سنوات قليلة ليبشره بالإنسان الأعلى، وعنوان الكتاب يشير إلى التراث البروفنسالي للتروبادور وإن كانت المحبوبة فيه مختلفة عن تلك التي تغنى بها «مطربو الدور»؛ إذ إن العاشق قد تيمه محبوب لن يظهر إلا في المستقبل، أو إن شئت فإن المحبوب هو المستقبل نفسه. ولهذا فإن الحكم المنثورة في هذا الكتاب أشبه باللحن الممهد للقادم الجديد، كما أن الحكيم الذي تعذب باستكناه أغوار الوعي والبحث عما تحته ووراءه قد وضع كل خبرته في استقبال هذا الأمل المنتظر.
وتعزف بعض الحكم على الوتر القديم، وتعاود الإلحاح على صيرورة الذات إلى ذاتها: «ما الذي يقوله ضميرك؟ عليك أن تصير أنت نفسك! لا تتردد ... واحفر في عمق الأرض، حيث وقفت فتحتك نبع، أما الأشباح السود، فدعها لا تهتم بصيحتها، لا يوجد شيء تحتك إلا نيران جهنم!» وتتردد بعض الأصوات التي سمعناها في الكتب السابقة في صيغ أخرى، فصوت يؤكد ارتباط النفس والجسد (أو الجانب السيكوسوماتي) تأكيدا يذهلنا لو تأملناه على ضوء علم النفس الحديث: «ليس من حقنا نحن الفلاسفة أن نفصل بين النفس والجسد، ولا بين النفس والروح. فلسنا ضفادع مفكرة ولا أجهزة تقرير، وتسجيل ذات أحشاء باردة، إن علينا أن نلد أفكارنا من ألمنا، علينا أن نرعاها رعاية الأمهات، ونبذل لها كل ما نملك من دم وقلب ونار، ولذة وحماس وعذاب وقدر ... معنى الحياة في نظرنا نحن الفلاسفة هو أن نحول كياننا بأسره إلى نور ولهب، كما نحول كل ما يتصل بنا أو يصيبنا، ولن نملك غير ذلك. أما عن المرض فهل يمكننا أن نستغني عنه؟ إن الألم العظيم، الألم الطويل البطيء الذي نحترق فيه كما يحترق الخشب الأخضر، هو الذي يلزمنا بالهبوط إلى أعماقنا الأخيرة، ويتردد صوت آخر عن العلاقة الوثيقة بين المرض والفلسفة ... فلولا الأمراض التي استسلم لها الفلاسفة، ولولا أجسادهم المريضة التي عذبت عقولهم وألهمتها وأغرتها بالبحث عن السلام والسكون والصبر والعزاء ما كانت معظم مذاهب الأخلاق والطبيعية وما بعد الطبيعة، ولا كانت أشواقهم إلى ما فوق وما وراء، وكأن الفلسفة لم تخرج حتى الآن عن أن تكون تفسيرا للجسد أو سوء فهم له. وكأن أعظم الأفكار وأرقى أحكام القيمة عبر التاريخ لا تخفي وراءها غير أنواع من سوء الفهم لأحوال الجسد، سواء كان جسد الفرد أو الطبقة أو الجنس.»
ويعود صوت ثالث إلى السخرية بالوعي، وبكل من يبالغ من شأنه «مبالغة مضحكة»، بيد أن هذا الوعي لم يعد هو الوعي الفردي المغلول بسأم الحياة اليومية، وزيف الأخلاق السائدة، بل هو الذي قفز إلى السطح من أعماق دفينة تراكمت طبقاتها منذ أجيال، وشاركت في صنعه شعوب عريقة وحضارات قديمة. ولو لم توجد هذه الأعماق الدفينة، وهذا «اللاوعي الجمعي» الموغل في القدم لقضت البشرية ضحية وعيها السطحي الذي تغتر به أيما غرور.
لا بد إذا من إخراج هذه الأعماق الدفينة إلى نور الشمس. فهي نفسها الأخطاء العريقة التي شكلت وعي الأجداد، وعلى الأحفاد أو أحفاد الأجداد أن يتمثلوها ويجعلوها جزءا لا يتجزأ من كيانهم. وليست هذه الأعماق أو الأخطاء إلا غريزة القطيع الذي يتحتم على القلة أن تخطو فوق جثته لتستقبل القادم المنتظر، وتتبعه إلى شواطئ عالم جديد.
ولكن من الذي يشعر بالمحنة ويرى الجثث والأنقاض في كل مكان؟ من الذي أحس بليل العدم المطبق على الغرب، فراح يوجه شراع سفينته نحو شاطئ بعيد وشرق جديد؟ هم القلة التي اختارت ألم الروح والجسد، وجربت جرح العصر الذي سيولد منه فجر الإنسان الموعود: «نحن الجدد الذين لا أسماء لهم، والذين يصعب فهمهم، نحن المواليد المبكرون لمستقبل لم يتأكد بعد - إننا بحاجة من أجل الهدف الجديد إلى وسيلة جديدة، أعني إلى صحة جديدة، أكثر قوة وذكاء وعنادا وبسالة ومرحا من كل ما عرف الناس حتى اليوم - من تعطش إلى هذه الصحة العظيمة، وجرب كل ما كان يعد ذا قيمة حتى الآن، وطاف بسفينته على شواطئ هذا «البحر المتوسط» المثالي، من دفعته مغامرات تجربته إلى الإحساس بمشاعر الفاتح ومكتشف المثل الأعلى فضلا عن الفنان والقديس والمشرع والحكيم والعالم والمتنبئ والعابد المتنسك من الطراز القديم، من فعل هذا فهو في أشد الحاجة إلى الصحة العظيمة ... تلك التي لا يملكها المرء فحسب، بل يكتسبها ولا بد له أن يكتسبها على الدوام؛ لأنه سيضحي بها، ولا بد أن يضحي بها بصفة مستمرة ...»
لماذا يحتاج هؤلاء الجدد إلى الصحة العظيمة أو الشجاعة الخارقة؟ لأنهم يواجهون - كما رأينا - عالما فظيعا من الحطام والأنقاض، ويرون مجتمعا دينيا اهتز وزلزل فيه الإيمان من أساسه، وانهارت فيه الكنيسة حتى أصبحت قبرا ل «الإله الميت» و«موت الإله» هي الصيحة المرعبة التي أطلقها المتنبئ بالإنسان الأعلى في نهاية القرن التاسع عشر، والحدث الأكبر الذي راح يدق له الأجراس، وهو يردد كلمته المخيفة المتناقضة إلى أبعد حدود التناقض. وليس أدل على هذا التناقض من تضارب أسلوبه في التعبير عن هول هذا الحدث. فهو مرة شاعر يرسم صور الانهيار والظلام والدمار والكسوف. ومرة أخرى نبي أو متنبئ يعلن بصوته الغامض المتهدج عن إشراقة عصر جديد تفقد فيه كل المعايير والقيم التقليدية قيمتها، ويبشر بضياء غريب يشع بالسعادة والطمأنينة والمرح والشجاعة. ومرة ثالثة متشكك في قدرة أغلبية الناس على استيعاب مغزى الحدث الضخم وتقدير نتائجه الرهيبة. وهو في كل الأحوال مضطرب الوجدان، مثقل بالشعور بالذنب، فلم يعد الأمر يقتصر على تغير الوعي الفردي، بل أصبح مسألة تحول في وعي البشرية كلها، وزلزلة تقتلع التراث الأفلاطوني-المسيحي من جذوره العتيقة، وانتظار للخلاص على يد جيل من الأبطال المبدعين يقهر ليل العدمية، ويتجاوز إنسان العصر العفن، ويحقق معنى الأرض والحضارة والوجود.
لتستمع إليه في هذا النص الذي يهلل فيه بالفجر الجديد: «إننا نحن الفلاسفة وأحرار الروح نشعر عند سماع نبأ موت الإله العجوز بأن فجرا جديدا يشع علينا نوره، وأن قلوبنا تفيض بالعرفان والدهشة والرجاء والتوقع، أخيرا يبدو لنا الأفق حرا من جديد، وأخيرا تعاود سفننا الانطلاق لتواجه كل الأخطار، ويتغلب العارف على تردده ويقدم على المغامرة، ويمتد البحر - بحرنا - وينفتح أمامنا، ونحس أن هذا البحر المفتوح لم يوجد أبدا قبلنا.»
ثم لنقرأ هذا النص المشهور عن المجنون الذي راح يلقي على أبناء جيله مسئولية الحدث الهائل المهول، ويحملهم ويحمل نفسه ذنب الجريمة التي لم يسبق لها نظير: «هل سمعتم عن ذلك المجنون الذي أشعل مصباحا في الضحى، ومشى في السوق وهو يصرخ صراخا لا ينقطع: إني أبحث عن الإله! أبحث عن الإله! وتجمع حوله عدد كبير من الكافرين الذين راحوا يهزءون به، ويتعجبون منه، وهم يتصايحون ويتضاحكون: هل تاه هذا الرجل كما يتوه الأطفال؟ أم كان مهاجرا ثم عاد؟ وقفز المجنون وسط الجمع الغفير، وراح يسلط عليهم نظراته الثاقبة، وهو يهتف قائلا: أين ذهب الإله؟ أنا أتولى الجواب عنكم: لقد قتلناه أنتم وأنا. نحن جميعا قتلته! لكن كيف فعلنا هذا؟ كيف استطعنا أن نعب البحر؟ ماذا فعلنا لكي نفصل هذه الأرض عن شمسها؟ وإلى أين تتحرك الآن؟ إلى أين تتحرك؟ بعيدا عن كل الشموس؟ ألا نتخبط باستمرار في كل اتجاه؟ هل بقي هناك ما هو أعلى وما هو أسفل؟ ألا نضل فيما يشبه العدم؟ ألا يلفح الفراغ وجوهنا؟ ألم تزدد البرودة، ويجن علينا الليل والمزيد من الليل؟ مات الإله، ونحن الذين قتلناه. فكيف نعزي أنفسنا ونحن أعتى القتلة؟ أقدس ما ملكت البشرية وأقواه قد سقط تحت سكاكيننا مضرجا في دمائه، فمن يمسح عنا هذا الدم؟ أين الماء الذي يطهرنا؟ أليست عظمة هذا الفعل أعظم منا؟ ألا يتحتم أن نصبح نحن آلهة كي نكون جديرين به - لا لم يوجد أبدا فعل أعظم من هذا الفعل - وكل من سيولد بعدنا سيدخل بسببه في تاريخ أسمى من كل تاريخ عرفه الإنسان!»
كابوس غريب يدور في ذهن مجنون حالم يتجول في نومه ينتهي بأن يصمت ويتبادل من حوله نظرات الذهول، ويلقي بمصباحه على الأرض فيتحطم وينطفئ! لقد جاء قبل الأوان، كما يقول على لسان الشاعر الفيلسوف الذي صوره، وهذا الأخير يقول كذلك عن نفسه إنه «آخر العدميين»، والطائر الذي يسبق العاصفة، وهو - مثل غيره من رواد القرن القادم - ينتظر فوق الجبال، في قلب التناقض بين اليوم والغد، ويلمح الظلال الزاحفة التي توشك أن تلتف على أوروبا، إنه كما تقول العبارة الأخيرة من النص السابق ينتظر تاريخا أسمى من كل تاريخ سابق، ويعقد الأمل على إنسان أعلى من كل إنسان حاضر.
كيف نفسر هذه الكلمات الفظيعة والرؤى المضطربة؟ كيف نفهمها كالألغاز التي تستعصي على الأفهام؟ هل نلهث وراء التأويلات التي لا حصر لها لتلك الرؤيا المختلطة عن «موت الإله»، فنقول مع البعض إنها تعبير عن انهيار التراث الغربي، وتداعي الميتافيزيقا والأخلاق والأفلاطونية-المسيحية؟ أم نقول إنها محاولة لتأسيس ديانة جديدة تؤله الأرض والإنسان وإرادة الحياة؟ أم نقول على العكس من ذلك إنها محاولة يائسة من مسيحي صادق الإيمان في عصر فقد فيه المؤمنون إيمانهم كما فقد الإيمان الحقيقي من يؤمنون به؟ أم تراها في النهاية هي الصورة الميتافيزيقية-الشعرية التي تعكس مذهب التطور الطبيعي عند داروين وترتفع به؟
كثيرة هي التفسيرات التي قدمت ولا تزال تقدم لهذه الكلمة المخيفة التي تعد مفتاحا أساسيا لتفكير هذا الفيلسوف ذي المائة باب! وأكثر منها اللعنات أو البركات التي ما لبثت تنزل على رأسه الذي تعذب وجن واحترق في أتون أفكاره الغامضة الغاضبة. والذي يهمنا الآن أن كلمته المخيفة المتناقضة التي أعلنها في «العلم المرح»، ثم صرخ بها في زرادشت قد تمخضت عنها كلمات وأفكار أخرى لا تقل عنها تناقضا وإلغازا. ولسنا نريد أن ندخل في متاهة التأويلات المختلفة للإنسان الأعلى وإرادة القوة وعودة الشبيه الأبدية. فالواضح مما سبق أن الشاعر المفكر - الذي يقف على مفترق الطرق أو على قمة الجبل بين اليوم والغد - يتوجه ببصره إلى المستقبل، وينتظر «النموذج الأصلي» الذي يجسد أحلام اللاوعي الجمعي لبشرية نضجت للموت وللبعث الجديد. هذا النموذج المنتظر هو التجسيد الحي «للتجلي الديونيزي» الذي أشرق بنوره وإلهامه عليه والديونيزي نسبة للإله الإغريقي الأسطوري «ديونيزيوس»، الذي تتمثل فيه مأساة الوجود وبهجته، وعذابه ونشوته، ودورته الأزلية الأبدية بين البداية والنهاية، إنه الإنسان الأعلى الذي «يصعد إلى الأعماق» من أجل أولئك الذين يريد أن يهديهم بسخاء، كشمس الغروب التي تغوص في الأفق، بينما تغرق العالم نورها الذهبي. هو «معنى الأرض» التي ينبغي على الإنسان أن يمحضها الحب والولاء، يعلنه المعلم والنبي الملهم زرادشت الذي تجسدت فيه إرادة القوة والعلو على الإنسان: «إنني أعلمكم الإنسان الأعلى. فالإنسان شيء ينبغي تجاوزه. ماذا فعلتم لكي تتجاوزوه؟ كل الكائنات السابقة قد أبدعت شيئا تخطاها، أتريدون أن تكونوا جزر هذا المد العظيم، وتؤثروا النكوص إلى الحيوان على تخطي الإنسان؟»
ما القرد بالقياس إلى الإنسان؟ سخرية مضحكة أو شيء مخجل أليم. وكذلك ينبغي أن يكون الإنسان بالقياس إلى الإنسان الأعلى سخرية مضحكة أو شيئا مخجلا أليما. لقد قطعتم الطريق من الدودة إلى الإنسان، ولا يزال فيكم من الدودة شيء كثير. كنتم قرودا في يوم من الأيام، ولا يزال الإنسان إلى اليوم قردا أكثر من أي قرد.
انظروا، إنني أعلمكم الإنسان الأعلى! والإنسان الأعلى هو معنى الأرض! فلتقل إرادتكم: ليكن الإنسان الأعلى معنى الأرض، أستحلفكم يا إخوتي أن تتعهدوا بالوفاء للأرض، وألا تصدقوا أولئك الذين يكلمونكم عن آمال علوية. خالطوا السموم هم سواء عرفوا أم لم يعرفوا. محتقرون للحياة هم، منقرضون وهم أنفسهم مسمومون، تعبت من حملهم الأرض، فليذهبوا عنها!
حقا إن الإنسان الآن لنهر قذر. ولا بد أن يكون الإنسان بحرا لكي يستوعب البحر دون أن يتلوث. انظروا، إنني أعلمكم الإنسان الأعلى، فهو هذا البحر، وفيه يمكن أن يغيب احتقاركم العظيم.
تفرس زرادشت في عيون الناس وتعجب. ثم تكلم وقال: الإنسان حبل مربوط بين الحيوان وبين الإنسان الأعلى حبل معلق فوق هاوية. هو معبر خطر، خطوة خطرة على الطريق، التفاتة خطرة إلى الوراء، ارتجافة وتوقف خطر. أعظم ما في الإنسان أنه جسر لا هدف، وأحب ما فيه أنه مرتقى ومنحدر. إنني أحب أولئك الذين لا يحيون حياة المنحدرين؛ لأنهم هم العابرون المتجاوزون. أحب من كانت نفسه عميقة، حتى في جراحها، ومن يمكنه أن يذهب ضحية تجربة صغيرة، بهذا يقطع الجسر عن طيب خاطر. أحب جميع من يشبهون قطرات المطر المثقلة التي تتساقط قطرة قطرة من السحابة السوداء المعلقة فوق الإنسان. إنهم يبشرون بمقدم الصاعقة، ويسقطون وهم المبشرون.
انظروا، إني مبشر بالصاعقة، قطرة ثقيلة تنحدر من السحابة، أما هذه الصاعقة فاسمها الإنسان الأعلى.
17
نعود للسؤال: ومن هو الإنسان الأعلى؟!
لم تتعرض كلمة في تاريخ التفكير الحديث لسوء الفهم الذي تعرضت له هذه الكلمة. إنها في رسمها الأصلي تدل على «ما فوق الإنسان». والكلمات التي ترمز لفوق، ووراء، وبعد، تتكرر كثيرا في كتابات نيتشه، وبخاصة في زرادشت، وهي أكثر الكلمات دلالة على طابعه في التفكير والتفلسف. غير أنها لا تستخدم للتعبير عن التفضيل والمبالغة، ولا عن تطرف نيتشه أو جموحه المعروف. فكثيرا ما يريد بها التعبير عن تجاوز الضدين جميعا والعلو فوق كل ما عرفته البشرية من أشكال التصور والتفكير. ولهذا نسيء فهم الإنسان الأعلى أو ما فوق الإنسان إذا ذهب بنا الظن إلى إنسان أضخم حجما أو أقوى عضلا من بقية الناس؛ إذ ليست له أدنى صلة بالبطل المحارب أو الوحش النازي الأشقر الذي راح ينشر الخراب والدمار ويغرق العالم في بحار الدم. ونحن نخطئ أبلغ الخطأ إذا فهمناه في إطار المقولات العرقية، أو رددناه إلى التطورات البيولوجية والطبيعية زاعمين أنه يمثل غاية تطورها. إن الأمر مع هذا الإنسان الأعلى هو أمر تجاوز وعلو وارتفاع، تجاوز للإنسان الحاضر، وعلو فوق الأخلاق السائدة، وارتفاع على التركة الميتافيزيقية التي ورثها العالم عن أفلاطون. ليس مجرد تمهيد للأنا المريدة الخلاقة - التي طالما سمعناه يتغنى بها، ويدعوها لأن تصير ذاتها - بل للإنسانية المبدعة التي تعي ذاتها وتتبصر برسالتها، وتتطلع بكل ما في طاقتها من حب إلى «الذات الأرقى التي لا تزال خفية».
18
ولهذا كان الإنسان الأعلى أقرب ما يكون إلى «الطفل الملاعب» الذي تحدث عنه في زرادشت، وإلى الرائد الذي يكتشف المنابع الجديدة والآفاق الغريبة المجهولة، وأشكال الفجر التي لم يقدر لنورها أن يشرق بعد كل هذه الصور والاستعارات عن العالم الجديد والفجر الجديد والشرق الجديد ... إلخ، الذي بحث الفيلسوف عنه، وتعذب من أجله، وتحمل أزمات عصره ومحن تاريخه لكي يبشر به ... أليست كلها إشارات إلى المكتشف والرائد الذي راح يعلن عن مقدمه وهو واقف كالحارس العنيد على البوابة الفاصلة بين عهد قديم وعهد جديد؟ ومن يكون هذا الرائد الذي اكتشف منابعه الفردية والجماعية إن لم يكن هو الإنسان المبدع الذي ينتشل نفسه وإخوته من مستنقع الفساد والانقراض والعدمية الذي أوشكت البشرية الحاضرة أن تغرق فيه؟ وهل من أمل في إنقاذ هذه البشرية المنحدرة إلى الهاوية إلا أمل الإبداع على يد جيل مبدع؟ - إبداع الذات الفردية والجمعية، إبداع لقيم جديدة بعد أن فقدت كل القيم قيمتها، إبداع الحياة - بفضل إرادة القوة أي إرادة المزيد من الحياة، ومن كل ما يبارك الحياة، إبداعها في كل لحظة تتحول على يديه من لحظة عابرة إلى خلود؟ من سيكون هذا الإنسان المبدع إن لم يكن هو الإنسان الأعلى؟ ومن يكون الإنسان الأعلى إن لم يكن هو الإنسان المبدع؟
عرف نيتشه قدره وأخلص له. وقد وضعه قدره التاريخي على حافة عصر عدمي منهار، فراح - بكل ما فيه من ألم وتمزق وحماس - يتغنى بالعصر القادم والإنسان الأعلى. ولم يكن هذا الإنسان في رأيي - على الرغم من كل ما أحاط به من غموض وظلم وسوء فهم - إلا الإنسان المبدع. فهل آن لنا أن نعي هذا الدرس؟ هل آن لنا - ونحن نجتر محنتنا العربية، ونهدم بيت حضارتنا بمعاولنا، وننتحر على كل المستويات بأيدينا، ونغرق كل يوم في مستنقع التفاهة والسأم والصغار والتسلط بعضنا على بعض - هل آن لنا أن نؤمن بإنسان عربي حق - ولا أقول إنسان أعلى - إنسان مبدع، يعلو فوق الإنسان القرد، وفوق الإنسان الكلب، وفوق الإنسان الأفعى - يدرك ألا أمل ولا إنقاذ سوى الإبداع - إنسان يبدع ماضيه وحاضره وغده، يبدع واقعه وقيمه، إنسان يدعو ذات الفرد وذات الأمة وهو يقول : رفقا يا نفس بنفسك! يا نفسي كوني نفسك!
ليوناردو ... والفلاسفة1
هل يمكن أن تنهل الفلسفة من ينابيع الإبداع التي يحيا عليها الأدب والفن؟ وهل نتصور فيلسوفا كبيرا لم يكن خلاقا بمعنى من المعاني ألا يشارك مزاجه وطبعه الخاص في تأليف «وجهة النظر» التي يقدمها لنا في بناء عقلي محكم؟ ألا تختفي الروح الشخصية خلف قناع النظرة الكلية العامة، والنبض الفردي وراء قضايا الفكر ومبادئه، واليد الحية على أطراف سلسلة «المفاتيح» التي أعدها لمعالجة صناديق السر والمجهول، والنفاذ إلى مغاليق الوجود والمعرفة؟ كيف نتصور فلاسفة ملهمين (مثل هيراقليطس وأنبادوقليس وأفلاطون وأفلوطين والرواقيين وأوغسطين والفارابي وابن سينا وبرونو وديكارت واسبينوزا وليبنتز وهيجل وشيلنج ... إلخ، بالإضافة إلى فلاسفة الوجود والحياة والمتصوفة في كل مكان وزمان) كيف نتصور الأنظمة التي شادوها بغير العذاب والمعاناة، والأفكار التي رتبوها بغير الصورة الحسية والخيال المجنح والشرارة التي انقدحت في قلوبهم قبل أن تبرد وتسكن في بناء أو نظام أو نسق؟ وهذه الأنظمة والأنساق المجردة نفسها، ألم تصبح اليوم قصورا جليلة دارسة، نستمتع برؤيتها وتأملها كما نستمتع بأي عمل فني خالد؟ أليس الفلاسفة أيضا فنانين على طريقتهم؟ ألا يمكن أن تتفجر القصيدة والقصة والمسرحية والخاطرة والبحث والدراسة العميقة من نفس الفعل الخلاق؟
لا شك أن الإجابة تبدو سهلة. فما من عمل عظيم لا يصدر عن تجربة، وما من تجربة لا تنديها قطرة من نبع الخلق. وتاريخ العلم والعلماء، وحياة المبدعين في كل ميدان لا تخلو من مواقف ولحظات لا ينفع فيها تفسير أو تحليل. صحيح أن الطرق بعد ذلك تتشعب، والدروب تختلف، والغايات والنتائج تتفرق، ولكن النبع الخلاق دائما هناك، ولولا عطاؤه ما كانت للإنسان حضارة، ولا تفوق في علم أو فن أو صنعة أو فضيلة. هذه أمور يعرفها كل من عايش النابغين معايشة كافية، واستطاع أن ينصت إلى وجيب قلوبهم من خلال الكلمات والألحان والخطوط والظلال. هذا إلى توافر عدد كبير من الشعراء في تاريخ الفلسفة، ومن الفلاسفة في تاريخ الأدب والفن غير أن الفيلسوف لن يرضيه أن نصفه بأنه شاعر أو فنان، ولن يسعد الشاعر والفنان أن نخلع عليهما لقب الفيلسوف! وتبقى المشكلة قائمة (والمشكلات الحقيقية لا تعرف الحلول الأخيرة؛ لأن الحل النهائي معناه الموت النهائي، ولأننا لا نملك إلا محاولة الاقتراب منها، وتجربة أسلحتنا في اقتحام أسوارها).
عشت السنوات الأخيرة مع هذه الأسئلة التي تمزقني منذ أن «تورطت» في تدريس الفلسفة، فلا أنا بقادر على نزع أشواكها المغروسة في قلبي، ولا أنا بمستطيع أن أصم أذني عن نداء الخلق الذي يتردد صداه في كياني. لا العمل اليومي يحفظ شجرة التجربة من الذبول والسقوط في دوامة الثرثرة والتكرار والتسطيح والجفاف والابتذال، ولا لقمة العيش تسمح بترف الانتظار لبروق الإبداع والطاعة لقوانينه والاستسلام لمخاطره ومفاجآته ومفارقاته (وهو كما نعلم معبود يكره أن يشرك به، ولا يعطيك شيئا حتى يأخذ منك كل شيء!)
ووسط المحنة التي لا يدري إلا الله مصيرها، وقعت عيني مصادفة على هذه الصفحات التي كتبها الشاعر الفيلسوف الفرنسي بول فاليري (1871-1945م) عن «ليوناردو والفلاسفة».
ولا أزعم أنها هدتني إلى حل، أو قدمت لي عزاء. فمن المشكلات كما قلت ما لا يحل ولا ينفع فيه عزاء (اللهم إلا إذا أمكنك أن تقفز فوق ظلك وقدرك أو تتسلى برؤية «بنات» أفكارك وعذابك ووحدتك، وهي تغتال كل لحظة أمام عينيك!) ولكني وجدت نفسي أمد يدي للقلم، فأتابع هذه الصفحات العميقة الدقيقة المرهفة، وأختصر منها وأضيف إليها القليل من توابل شطحاتي وتجاربي. ثم تركتها وكدت أنساها حتى ذكرني بها احتفال الإنسانية المثقفة في سنة 1974م بنشر مخطوطات جديدة للعبقري الإيطالي المذهل دافنشي (وصدر بها العدد القيم من مجلة اليونسكو في طبعتها العربية في شهر ديسمبر من نفس السنة).
ربما يدهشك حديثي عن دافنشي الفيلسوف، بعد أن عرفته مصورا خالدا ونحاتا وموسيقيا وعالما طبيعيا ومهندسا وأديبا، وستتكفل الخواطر التالية بتسليط الضوء على صورة جديدة للعبقري الذي «رسم» فلسفته، ونزهها عن كل نظام لغوي أو عقلي. وقد يريبك الكلام عن فاليري «الفيلسوف» بعد أن قرأت له أو قرأت عنه، واطلعت على درر من شعره ونثره وتأملاته النفسية عن فعل الخلق الفني (في الشعر بوجه خاص)، وسمعت عن مكانته المرموقة في الأدب الفرنسي والعالمي، ووقفته النبيلة في وجه البربرية النازية، وانتصاره للسلام العالمي والتعاون الثقافي بين الأمم. فما الذي يبرر وصفه بالفيلسوف؟ وما الذي يدعو بعض المعاجم الفلسفية (مثل معجم لاروس) إلى أن يفسح له مكانا بين الفلاسفة؟
لا مشاحة في الأسماء كما يقال، فلو فهمت الفلسفة بالمعنى التقليدي الذي يتمثل في نظام أو نسق أو مذهب مغلق يحيط بمسائل الوجود والمعرفة، ويصدر عنها وجهة نظر كلية من خلال فكرة أو مبدأ واحد يتفرع عنه كل شيء، أو عدة مبادئ وقضايا عامة تلخص الواقع كله، ولو فهمت الفيلسوف بمعنى المتخصص في الكلي العام، المعبر عن تخصصه بلغة برهانية وعقلية مجردة، فلن يكون فاليري فيلسوفا، ولن يحتمل أن تلصق عليه بطاقة الفلسفة. أما إذا أخذت الفلسفة بمعناها العام، وروحها الخالد الباقي - النظر المتعالي، القدرة على السؤال عن ال «ما» وال «لماذا» نزعة التحليل والبحث والفهم، الوقوف بين الأنا والأنا، أو تأمل التأمل، ونقد النقد والتعمق في فعل الخلق نفسه، فسيحتل فاليري مقعدا مريحا في صفوف الشعراء الفلاسفة. وسوف يكفيك - للاقتناع بهذا الرأي - أن تنظر في بعض شعره الناصع الغامض، الباهر الملغز (وكأن كل بيت فيه ماسة يخطف ضوءها البصر ويغشاه في آن واحد) كالمقبرة البحرية، وربة القدر الشابة، وغيرهما من القصائد التي يضمها ديوانه «رقي» (1922م). ويكفي أن تتأمل بعض كتبه التي يدور معظمها حول فعل الخلق المتأرجح بين مثال الجمال والكمال المطلق، وعاطفة الجسد والحس الدافئ الحي مثل «المدخل إلى منهج ليوناردو دافنشي» (1895م)، و«أمسية مع السيد تست» (1906م)، و«أويبالينوس أو المهندس المعماري» (1923م)، و«النفس والرقص» (1925م)، و«ليوناردو والفلاسفة» (1929م)، و«حديث عن العقل» (1929م)، و«نظرات على العالم المعاصر» (1933م)، وألوان (من 1924 إلى 1944م)، ومقاله عن استندال (1927م)، ورسالته عن معلمه مالارميه (1928م)، وحواره الفكري فاوست كما أراه (1945م) يكفي أن تطلع على شيء من هذا كله لتواجه العقل الذكي الباهر، والثقافة الشاملة الجامعة، والأسلوب الكلاسيكي الصافي، والروح الديكارتية الواضحة المتشككة، والسخرية السقراطية السمحة، والاطلاع الواسع على مختلف العلوم والفنون، وفي مقدمتها الرياضيات والعمارة والتاريخ والرسم والموسيقى. ثم تلمس أنفاس هيراقليطس وبارمنيدز في شذراتهما الدقيقة المقتصدة التي يتضوع منها عبير الشعر والنبوة والسحر والرمز، وتتأكد في النهاية من صدق العبارة التي وصفه بها عميد أدبنا العربي - رحمه الله - في مقاله الرائع عنه (في كتابه ألوان، ص51-64، سنة 1958م)، وقال عنه فيها إنه «شاعر العقل وعقل الشعر.»
اقرأ معي هذه المقطوعة التي تبدأ بها قصيدته الشهيرة «المقبرة البحرية» التي تعد من أروع و«أفظع» الشعر على الإطلاق:
هذا السقف الهادئ، الذي يخطو عليه الحمام
يرف بين أشجار الصنوبر، بين القبور،
والظهيرة العادلة تشمله بالنيران.
البحر، البحر، الذي يبدأ على الدوام ويعيد.
يا لها من نعمة بعد تفكير عميق
في نظرة طويلة إلى هدوء الآلهة!
وستلمس فيها اللغة الدقيقة المحسوبة - كأنها رياضيات الشعر - والشكل النقي المحكم، والنفس الهائم بين مناطق الوعي اليقظ ومجاهل الوعي المظلم، بين كمال العقل وعذاب الجسد. واقرأ معي أيضا هذه المقطوعة من نفس القصيدة؛ لتعرف أن «الحس» و«الشهرة» و«الشبق» هي الأصل في كل شعر عظيم، وأننا نظلم هذا الشاعر إن حاولنا أن نحدد أسلوبه بأنه «رمزي» أو «محض» أو «مثالي» أو «مطلق» أو بغيرها من الأوصاف المضادة:
الصيحات الحادة من الفتيات الماجنات،
العيون، والأسنان، والجفون المنداة،
النهد الساحر الذي يعبث باللهيب،
والدم اللامع في الشفاه المستسلمة،
العطايا الأخيرة، والأصابع التي تذودها،
كل ذلك يثوي تحت الأرض، ويدخل في اللعبة.
والحديث عن شعر فاليري - أبو الأحرى شعر الشعر - طويل لا يتسع له هذا المجال. والحديث كذلك عن صمته الطويل عن كتابته - وقد قارب العشرين سنة - يمكن أن يفيد بعض شعرائنا المكثرين بغير داع. ولهذا أود أن أحيلك إلى الدراسة القيمة التي قدم بها الأستاذ شفيق مقار لمختارات من شعره، (وتجدها في كتابه «شيء من الشعر»، من صفحة 137 إلى 172. وإلى دراستي عنه في الجزء الأول من كتابي عن ثورة الشعر الحديث، من صفحة 274 إلى 292. والقصائد التي اخترتها له - ومن بينها هذه القصيدة العسيرة - في الجزء الثاني من نفس الكتاب، ص163-172)، ويكفي أن أنقل إليك هذه السطور التي لخص فيها فاليري أسلوبه في الشعر الذي تأثر فيه بأسلوب مالارميه، ومنهج دافنشي، واختلف عنهما في آن واحد: «عند الشاعر تتكلم الأذن، وينصت الفم، إن العقل واليقظة هما اللذان يخلقان ويحلمان، والنوم هو الذي يرى رؤية واضحة، إن الصورة والخيال هما اللذان ينظران، والفقد والفراغ هما اللذان يبدعان.» كما أنقل إليك عبارة أخرى من اعترافاته الحكيمة عن نظرته إلى فعل الخلق: «إنني أفضل أن أكتب شيئا هزيلا، وأنا في حالة وعي تام ونصوع كامل على أن أخلق تحفة رائعة من أجمل الروائع، وأنا في حالة جذب تضعني خارج نفسي.» وكلتا العبارتين تبينان أن هذا الشاعر العسير الذي ألزم نفسه بقوانين العقل والشكل قد أبدع - رغم أنف هذه القوانين - شعرا محترقا بلهيب الإلهام الذي لا يتحكم فيه إلزام.
مهما يكن من شيء، فقد تعين الصفحات التالية على إبراز بعض قسمات هذا الوجه الفلسفي المتلألئ بنور الوضوح والشك والحزن النبيل. إن صاحبه يرفض المذهب، ويؤكد - كما يفعل المعاصرون - أنه لو كانت له فلسفة لكان موضوعها الأوحد هو الممكن، ولحاولت أن تنفذ إلى منابع الطاقة الخلاقة الفعالة في أغوار الإنسان. و«الأنا» هي المحور الذي تدور حوله خواطر هذا المفكر، والأنا من كل زواياها وجوانبها المتناقضة المتصارعة (لدى الفنان والعالم والفيلسوف والطاغية، في الإبداع الفني، والتأمل الكوني، والاستماع الموسيقي، والتفكير في الفكر، ونقد النقد، وشعر الشعر، ولغة اللغة)، ولهذا لا يصح أن تتصور أن الخواطر التي ستقرؤها الآن تدور حول ليوناردو وحده، فليس هذا العبقري الإيطالي ولا الميسيو تست وفاوست وغيرهم من الشخصيات إلا رموزا تومئ للمثل الأعلى، وهو الإنسان الذي يملك طاقة غير عادية على الخلق غير العادي، أي على التعبير عن أقصى سهام الممكن التي تقدر عليها قوس الإنسان.
إليك إذا هذه السطور التي يتحد فيها عقل المفكر الشاخص إلى الكمال والجمال والمثال وقلب الفنان المضطرب بغرائب الواقع، ومتناقضات الفرد وعذابات الجسد، ومصادفاته ومفاجآته. - بين الطبيعة والأعمال (الفنية)، بين شهوة الرؤية وشهوة القدرة، علاقات لا نهاية لها، سرعان ما يتوه التحليل فيها. - إن العقل الذي يحاول باستمرار أن يعيد تنظيم الموجودات، وترتيب رموز جميع الأشياء حول بيت المجهول يستنفذ جهده في هذه المحاولة، وييأس في هذا المجال الذي تسبقه فيه الأجوبة والأسئلة، وتلد النزوة قوانين، ويؤخذ الرمز مأخذ الشيء، والشيء مأخذ الرمز، ويستغل هذه الحرية للوصول إلى نوع من الدقة التي لا سبيل إلى تفسيرها. - الجمال متعة وإغراء هائل لا يقاوم - مشاهدة الجميل تغري كل إنسان بتعمقه - ولعلها هي التي تهدي العقل هداية خفية، لعلها هي مبدؤه. - الفيلسوف هو نوع من المتخصص في الكلي العام، وهي صفة يعبر عنها بنوع من التناقض. ثم إن هذا «الكلي» لا يظهر إلا في صورة لغوية أو لفظية. - لم يعدم الفلاسفة الشعور بالقلق من العواطف والانفعالات. وقد انتبهوا إليه بطريقتهم المنهجية، فأخذوا يبحثون عن أسبابه، وآليته، ومعناه، وماهيته. - إن الجهد الأكبر للفلسفة - حتى لو نظرنا إليه في قلب الفيلسوف - يتألف قبل كل شيء من محاولة تحويل ما نعرفه إلى ما ينبغي علينا معرفته. وهذه المحاولة تقتضي أن تقدم في نظام معين. هذا هو الذي يجعلنا نضع الفيلسوف بين الفنانين، لكن المشكلة هي أن الفيلسوف نفسه لا يستريح لهذا الوضع. من هنا كانت مأساة الفلسفة أو ملهاتها. - بينما يتجادل الفنانون، ويختلفون حول مكانة كل منهم من فنه، يتجادل الفلاسفة، ويختلفون حول مشكلة «الوجود». لعل الفيلسوف يعتقد بينه وبين نفسه أن «الأخلاق» (لاسبينوزا) أو «المونادولوجيا» (مذهب الكائنات الفردة أو الأحادات لليبنتز) أهم وأكبر خطرا من سويت أو سوناته من مقام «ري» الصغرى؟! - حقا إن بعض الأسئلة التي تطرحها عقول الفلاسفة والمشكلات التي يحطمون بها رءوسنا قد تكون «أعم»، وأقرب إلى الطبيعة والفطرة من الأعمال الفنية، ولكن ما من شيء يثبت أن هذه الأسئلة والمشكلات ليست ساذجة (بل إن معظم المشكلات الفلسفية الكبرى نشأت عن أسئلة تبدو في غاية السذاجة: ما الوجود؟ ما الموت؟ ما معنى الحياة؟ ما غايتها ومصيرها؟ ماذا أفعل؟ ... إلخ). - إن نظام الأسئلة هو الذي يميز الفلسفات المختلفة؛ لأن رأس الفيلسوف لا يمكن أن تحتوي على أسئلة منفصلة أو معزولة تماما. بل إننا لنجد فيها نغمة كامنة قد تكون بعيدة أو قريبة، تربط بين جميع الأسئلة والمشكلات التي تضمها هذه الفلسفة. والشعور بهذا الارتباط العميق، هو الذي يوصي بالنظام وبفرضه. ونظام الأسئلة يؤدي بالضرورة إلى أب الأسئلة جميعا، وهو السؤال عن المعرفة. - ولكن بمجرد أن ينتهي الفيلسوف من وضع مشكلة المعرفة أو تأسيسها وتبريرها - سواء بالغ من شأنها بتركيبات منطقية أو حدسية قوية، أو امتحنها بمقاييس النقد، أي بمقاييسه هو نفسه - فإنه يجد نفسه مضطرا إلى التفسير - أي إلى أن يعبر في المذهب أو النظام الذي وضعه - وهو نظامه الشخصي في الفهم - عن النشاط الإنساني بوجه عام، الذي لا يمكن أن تكون المعرفة البشرية في نهاية الأمر سوى وجه واحد من وجوهه، أو حالة واحدة من حالاته، وإن كان هو الذي يمثل مجموعها الكلي وإطارها العام. هنا تجد كل فلسفة نفسها في وضع حرج ... فكل فكر بحت أو كل فكر محوري يسعى على اختلاف مضمونه ونتائجه إلى تحقيق المثل الأعلى لترتيب الأفكار والتصورات حول اتجاه محوري أو فكرة مركزية تشغل المفكر نفسه أو تميزه عن غيره. مثل هذا الفكر لا بد أن يرجع بالضرورة إلى التنوع والتفرق واللانظام واللامتوقع في الأفكار الأخرى، وأن يحاول إضفاء النظام على ما يبدو غير منظم. بعبارة أوضح: إنه يحاول أن يعيد تركيب التنوع والتعدد والاستقلال الذي يجده عند الآخرين، وأن يخلع عليه وحدته هو ونظامه هو. إنه مضطر إلى تبرير وجود أشياء اتهمها بالخطأ أو التناقض أو الشر، مضطر أن يعترف بحيوية المحال أو غير المعقول، ويسلم بخصوبة المتناقض والسلبي. بل إنه بعد استبعاد كل ما هو جزئي وواقعي وفردي لا بد أن يحس بينه وبين نفسه أنه في حاجة لأن ينتبه إلى اتجاه معين، أو إنتاج خاص، أو حالة شخصية معينة. هذا الرجوع الاضطراري من الكلي إلى الجزئي، من العام إلى الخاص، من شمول المنطق إلى تنوع الواقع وتناقضه وتمرده على كل ترتيب ذهني ذكي، هو بداية الحكمة وغروبها في وقت واحد. - الحق أن وجود الآخرين شيء يقلق أنانية المفكر، ويزعج استعلاءه على الدوام، فلا يسعه إلا أن يصدم بلغز الآخر، لغز شخصيته وسر إرادته، حتى أقرب الناس إلينا وأعزهم علينا، نحاول أن نبرر تصرفاتهم أو نفهمها أو نقول إنها كانت ضرورية لكي ننزع منها شوكة التعسف والإرادة المستقلة التي تستثير غيظنا، لكن الآخر موجود في النهاية. ولغز وجوده يضغط علينا، يتحدانا ويحصرنا ويربكنا بمسلكه وتصرفاته وطبعه الذي يختلف عن مسلكنا وتصرفاتنا وطبعنا، وقراراته ومواقفه في كل ما يتصل بالمحافظة على البدن أو على الاستمتاع الحسي والمادي مختلفة عنا. الآخر يظهر اختلافه عنا تنوع ذوقه وتعبيره وما يبدعه أو يخلقه بحساسيته. - الفيلسوف يضيف بهذا كله: بالتنوع والاختلاف والتفرد. إنه يجاهد؛ لكي يغرق كل هذا الواقع، أو كل هذه الوقائع في نوره الخاص؛ لكي يحيطها بإطاره الفكري الصارم أو يردها إلى إمكانات تتعلق به هو نفسه. باختصار: إنه يحاول أن يفهم بكل ما تعنيه هذه الكلمة من محاولة التفسير والتبرير. - من هنا يحاول أن يبني علما لقيم التعبير أو الإبداع - أي علما للأخلاق أو الجمال - وكأن قصر الفكر يبدو له ناقصا بغير هذين الجناحين المتجانسين. ففي هذين الجناحين تحاول ذاته المجردة أو «أناه» المتعالية أن تأسر العاطفة والفعل والانفعال والخلق. لهذا يرجع كل فيلسوف في النهاية - شاء هذا أو لم يشأه - إلى البشر الآخرين وإلى أعمالهم، بعد أن ينتهي إلى الله أو الذات أو المكان أو الزمان أو المقولات أو الماهيات. لا بد له من الهبوط من أعلى السلم إلى سفح الواقع الملون المتنوع، الخير أو الشرير، ومن ثم كانت كل فلسفة مسألة «شكل» أو «نظام» أو «إطار»، حتى الفلسفات الذاتية أو الوجودية التي تحاول أن تقصر نفسها على مشكلات الذات والوجود الحميم الصميم لا تخلو في النهاية من فرض الشكل على ما لا شكل له. كل فلسفة هي في آخر المطاف أشمل شكل يمكن لفرد معين أن يضفيه على تجاربه الباطنة أو تجاربه المختلفة عن تجارب غيره. كل هذا بصرف النظر عن المعارف التي يمكن أن يملكها مثل هذا الفرد، الذي كثيرا ما ينسى أنه شخص أو فرد.
والغريب أنه كلما اقترب في صياغة هذا الشكل العام لفلسفته من التعبير عنه تعبيرا فرديا أو تعبيرا مناسبا بدت الأشكال والأفعال والأعمال التي يقوم بها غيره غريبة عنه. من هنا كان إحساس كل فيلسوف بتميزه وتفرده عن غيره. من هنا كانت كل فلسفة أشبه بجزيرة منعزلة وسط جزر منعزلة في بحر المعرفة أو المجهول. - كما خلق الفيلسوف «الحق» أو «الحقيقة»، فقد خلق كذلك «الخير» و«الجمال». وكما ابتدع القواعد التي يتفق بها الفكر المستقل مع نفسه (على يدي أرسطو) راح يشغل نفسه بتحديد القواعد التي يمكن أن يتطابق بها الفكر والتعبير مع مثل ونماذج وقواعد خالصة من نزوات الأفراد وشكوكهم، وأن يوحدها في إطار مبدأ كلي عام عن كل تجربة، وعن كل فرد (كما حاول كانط في أخلاقه مثلا أو في مبادئ معرفته). - ودخول المثل إلى مجال الفكر يعد من أهم الأحداث التي تمت في تاريخ العقل البشري. هو حدث أوروبي بالأصالة، وضعف هذا المثل منذ عهد أفلاطون إلى اليوم يسير جنبا إلى جنب مع ضعف الفضائل الأوروبية المتميزة جيلا بعد جيل. - من الواضح أن «الخير» و«الجمال» قد أصبحا بدعة «مودة» قديمة، أما «الحق» فقد بينت الفوتوغرافيا (التصوير الشمسي) طبيعته وحدوده. أوشك تسجيل الظواهر تسجيلا أمينا ألا يحتاج للإنسان إلا في أضيق الحدود. - ومع ذلك فمن فضل هذه «المثل» الراسخة في ضمير الإنسان، أننا لا زلنا نتعلق بفكرة «العلم البحت» الذي ينتقل من حقائق جزئية إلى حقائق جزئية، محاولا أن يصل إلى المثل الأعلى للمعرفة الخالصة الموحدة المطلقة. وما زلنا - لحسن الحظ - على اقتناع بوجود قيم أخلاقية وجمالية ومعرفية مستقلة عن تغير الأزمان والأماكن والأجناس والأشخاص ، نقول لحسن الحظ على الرغم من كل جهود الوضعيين والماديين في طعن هذه المثل أو إخضاعها لنير «النسبي» و«المتغير» و«المشروط». - ومع هذا، فكل يوم يمر ينظر بعين الاتهام إلى أنقاض هذا البناء المعماري النبيل. ونكاد نشهد هذه الظاهرة العجيبة كل يوم، إن تطور العلوم نفسها يتجه إلى التقليل من فكرة المعرفة (كأنما تتحقق نبوءة إليوت الحزينة عن المعرفة التي ضاعت مع العلم، والكلمة التي ضيعتها الكلمات، والحكمة التي طمستها كثرة المعلومات ...) أي إن ذلك الجانب العلمي الذي كان يبدو أنه باق وخالد، وأنه يجمع بين منهج العلم وروح الفلسفة (الإيمان بالمعقول، والاعتقاد في القيمة الخالصة للعقل) قد تخلى عن مكانه بالتدريج لأسلوب جديد في تصور دور المعرفة وقيمتها. فلا يمكن الزعم بأن جهود العقل تتجه اليوم إلى ذلك الحد العقلي النهائي الذي نسميه «الحقيقة». يكفي أن نواجه أنفسنا بالصدق، ونسألها بأمانة لنحس في أنفسنا جميعا هذا الاقتناع الحديث بأن كل معرفة لا تقابلها القدرة والقوة المؤثرة لم تبق لها أية أهمية تذكر، اللهم إلا الأهمية التي يضفيها عليها التقليد أو التعسف. كل معرفة أوشكت أن تصبح «وصفة» لقوة يمكن تحقيقها. لهذا انفصلت كل ميتافيزيقا، وكل نظرية للمعرفة أيا كان نوعها انفصالا مؤلما عما يشعر الجميع - عن قصد أو غير قصد - بأنه المعرفة الوحيدة الحقة؛ أي المعرفة التي تتحول إلى قوة وذهب ... هكذا تفككت الأخلاق والجمال من تلقاء نفسها إلى الأوهام الضائعة التي ننسى معها روح الأخلاق والجمال. - هل ما زال في إمكاننا أن نتحدث عن «استطيقا»، عن علم «الجمال» ...؟ وهل من المعاصرين من يذكر هذه الكلمة؟ يبدو أنهم لا يذكرونها إلا باستخفاف عابر، كأنها قد أصبحت أثرا من آثار الماضي. الجمال نفسه أصبح أشبه بالميت. حلت محله الجدة، الطرافة، والغرابة، والحدة، والإثارة؛ أي كل قيم الأشياء التي تصدم وتفاجئ. الإثارة الفجة أصبحت لها السيطرة على النفوس الحديثة، والأعمال التي توصف اليوم ب «الجمال» أصبحت مهمتها أن تنتزعنا بعيدا عن حالة التأمل الهادئ والسعادة المطمئنة التي لم تكن تنفصل أبدا عن فكرة الجمال. لقد تغلغلت فيها أساليب النفس القلقة، ونفذت إليها صور الحس العابرة. يكفي أن تقرأ هذه الكلمات الجارية: اللاوعي، اللامعقول، اللحظي المباشر، وكلها كما تدل عليها أسماؤها ألوان من النفي لصور الفعل العقلي الثابت المستقر، ونماذج الفكر الخالص المحض. أصبح من النادر أن تجد إنتاجا يدل على رغبة في «الكمال»، كادت هذه الرغبة «المتخلفة»، الكامنة وراء الأعمال العظيمة التي خلدها تاريخ الفن والفكر والأدب أن تختفي أمام العطش الذي لا يروى، والفكرة المتسلطة عن «الأصالة»، وكأن الأصالة أصبحت لا تعني إلا «الإغراب» و«الشذوذ»، والخروج على قواعد العقل، وعلى بنائه النبيل وميزانه العدل. وكأن المرء لا يمكنه اليوم أن يكون «وضعيا» أو عمليا في حياته، أي لا يمكنه أن يكون «معاصرا»، إلا إذا سعى إلى التأثير المباشر المفاجئ، وتخلى عن كل «عمل جميل» بالمعنى العريق الخالد. ألسنا نشهد بهذا أفول شمس الخلق المبدع الأصيل لتحل محلها شهب الإثارة السريعة والتجديد بأي ثمن؟! - أصبح الطموح إلى الكمال مختلطا بالرغبة في أن يكون العمل الفني مستقلا عن كل عصر وزمان، لكن الحرص على الجديد يريد أن يجعل منها حدثا مهما يلفت الأنظار؛ لأنه ضد اللحظات نفسها. الأول يسلم بالموروث والمحاكاة والتقليد، بل يقتضيها؛ لأنها درجات السلم التي يتحتم عليه أن يصعد عليها ليصل إلى المطلق الذي يحلم به. والثاني يستبعدها جميعا، وإن كان في نفس الوقت يتضمنها بصورة أدق؛ لأنه ماهيته تكمن في «اختلافه» عن الموروث. - تعريف «الجمال» في عصرنا لا يمكن إذا أن يخرج عن كونه وثيقة تاريخية أو لغوية. هذه الكلمة الشهيرة - إذا أخذناها بمعناها العريق - ستلحق حتما ب «عملات» لفظية أخرى لم يعد أحد يستعملها. - ومع ذلك فهناك عديد من المشكلات التي لا يمكن أن تندرج تحت أي علم محدد، ولا أن تنشأ من أي صنعة (تكنيك) خاصة، مشكلات يبدو أن الفلاسفة جهلوها أو تجاهلوها، وإن كانت تظهر على الدوام، أو تعود إلى الظهور فيما ينتاب الفنانين من شك وقلق، وفيما يعبرون به عن أنفسهم تعبيرا غامضا أو غريبا.
لنفكر مثلا في مشكلات التأليف والبناء بوجه عام (أي في العلاقات القائمة بين أجزاء العمل الفني وبينها وبين الكل)، أو في المشكلات التي تنشأ عن تعدد وظائف كل عنصر من عناصر العمل، أو في مشكلات الصياغة التي تتصل في وقت واحد بعلوم الهندسة والفيزياء والمورفولوجيا (علم البنية)، ولا تثبت في واحد منها، بل تكشف عن القرابة بين صور توازن الأجسام والأشكال المتجانسة، ومحاسن الكائنات الحية، وأوجه النشاط الإنساني التي تصدر عن حالة الوعي أو اللاوعي، وتحاول أن «تغطي» المكان والزمان الحر، وكأنها تخضع لنوع من الخوف من الفراغ. - مثل هذه المشكلات لا تفرض نفسها على الفكر الخالص. إنها تنشأ وتستمد قوتها من غريزة الخلق، وحين ترتفع هذه الغريزة إلى ما وراء «التنفيذ اللحظي» المباشر. تلتمس من التأمل حلولا وتتخذ شكل التجريد أو شكل التفلسف لكي تثبت شكل الخلق الواقعي الحي وتقيم بناءه. ويبدو في هذه الحالة كأن الفنان يصعد على طريق الفيلسوف؛ لكي يصل إلى مبادئ تبرر أهدافه الفنية أو تدعمها أو تضفي عليها سلطة فوق السلطة الفردية، ولكنه سيظل مختلفا عن الفيلسوف؛ لأنه مهما صعد مع الأفكار المجردة، فإنما ليبحث عن نتائج خاصة بعمله الفني. وبينما يكون الكائن أو الموجود هو الحد الأقصى الذي يسعى إليه الفيلسوف الحق، والغاية التي ينتهي إليها من كل عملياته العقلية، يحيا الفنان، ويعمل في مجال الممكن، ويسعى لما سوف يكون. إنه حين يقدم على عمل ضخم، أو مركب جديد عليه هو نفسه، ويرى أن رسائله وتخطيطه لا تتحدد مباشرة على أساس التناسب المتبادل بينها، يحاول أن يبحث له عن نظرية عامة، وأن يلتمس في لغة الفكر المجرد سلطة يقيمها ضد نفسه تيسر له المضي في مشروعه، وتخلق له «شروطا» كلية عامة. يكفي أن يكون الإنسان قد عايش الفنانين ليعرف أن السلطة التي يلجأ إليها الفنان شيء، وسلطة الفلسفة نفسها شيء آخر. فربما كان الفارق الأساسي بين «الاستطيقا الفلسفية»، وبين تأملات الفنان هو أن الأولى تصدر عن تفكير يعتقد أنه غريب على الفنون، وأن ماهيته تختلف عن فكر الشاعر أو الموسيقى أو الرسام. إن أعمال الفن بالنسبة لها (أي للاستطيقا أو علم الجمال) حالات عارضة أو خاصة، آثار حساسية نشيطة تبحث بطريقة عشوائية عن مبدأ لا تمتلكه ولا تعرف إلا الفلسفة فكرته الخالصة. هذه الحساسية الفعالة لا تبدو للفيلسوف ضرورية؛ لأنه يرى أن موضوعها الأسمى ينبغي أن ينتمي للفكر الفلسفي، ويكون في متناوله مباشرة عن طريق الاهتمام بمعرفة المعرفة أو بنظام أو نسق للعالم المحسوس والمعقول. إن الفيلسوف لا يشعر بضرورتها الخالصة الفريدة. إنه يسيء فهم الوسائل المادية، وأساليب تنفيذ العمل وقيمه؛ لأنه يميل إلى تمييزها عن الفكرة. إنه لا يستطيع أن يفكر معه في تلك العلاقات الخفية الصميمة المتبادلة في داخل العمل الفني بين ما يريده الفنان وما يقدر عليه، بين ما يراه عرضيا وما يراه أساسيا، بين الشكل والعمل والصورة والمضمون والروح والوعي والتنفيذ. إن الفيلسوف يفتقر إلى الإحساس بهذا المقياس الخفي الذي يقيس به الفنان عناصره المتباينة في طبيعتها كما يفتقد الشعور الذي يملكه الفنان، أو بالأحرى يملك الفنان في كل لحظة من لحظات الخلق، وكل فعل من أفعاله بالتعاون والتآزر بين الإرادي والضروري، بين المتوقع والمفاجئ، الشعور بالجسم الذي يعالجه بمادته، برغباته، بحضوره بل بغيابه، وهو ما يسمح له بالاتصال بالطبيعة نفسها بوصفها المنبع الخصب الذي لا ينضب للموضوعات والنماذج والوسائل والأساليب. وكل هذا موضوع لا يمكن تبسيطه أو رده إلى فكرة مجردة بسيطة؛ لأنه يصدر عن نظام مستقل عنه، ولا يخضع للتحكم العقلي. إن مشكلات الفنان لا يمكن تلخيصها على نحو ما يلخص الفيلسوف «عالمه». والدليل على هذا أن تلخيص أي موضوع فكري، يمكن أن يحافظ على فكرته الجوهرية. أما تلخيص العمل الفني فيضيع جوهره. من هنا كانت تحليلات «الاستطيقي» للعمل الفني في نهاية الأمر وهما كبيرا. إنه يحاول - ويا للجهد الضائع في الشروح والتحليلات - أن يستخلص من العمل الفني بعض خصائصه الجمالية؛ لكي يرتفع إلى صيغة عامة عن الأشياء الجميلة. وتلخيص العمل في بعض الخصائص العامة يفقده قيمه العاطفية أو فضيلته الانفعالية. - لا يستطيع الفيلسوف أن يفهم بسهولة أن الفنان ينتقل بصورة تلقائية من الشكل إلى المضمون، ومن المضمون إلى الشكل، ولا يفهم أن الشكل يأتيه قبل المعنى الذي سيضفيه عليه، وأن فكرة الشكل مساوية عنده للفكرة التي تتطلب شكلا. - بكلمة واحدة: لو أمكن قيام «الاستطيقا» لاختفت الفنون من أمامها؛ أي اختفت أمام ماهيتها. - ترى كيف كان يبدو الحال لو أن الفلاسفة كانوا فنانين؟ أكان الفيلسوف الذي يصنع التمثال أو يبدع الصورة أو يخلق القصيدة أقدر على تذوق أسرار الإبداع الجمالي في النحت أو الرسم أو الشعر؟ - ربما كان الإنسان أقدر على تصور ما يبدعه بنفسه تصورا أفضل. - لقد قال لنا باسكال إنه لم يبدع فن الرسم. واعترف صراحة - وكل أفكاره وخواطره الخالدة اعترافات - بأنه لا يرى ضرورة في مضاعفة الأشياء التافهة العقيمة، وبذل العناء في إيجاد صور لها - ومع ذلك فكم كان هو نفسه فنانا كبيرا، وكم أجاد رسم اللوحات الناطقة عن كلماته - لكن يبدو أنه وصل في النهاية إلى طرح كل شيء في سلة التفاهة، واعتبار كل شيء - ما عدا الموت - من قبيل الرسوم الوهمية. - من أسهل الأمور أن يثبت الإنسان - بالتأمل البحت - أن كل شيء عبث وباطل. هذا نوع من البلاغة الرخيصة التي استطاع باسكال أن يكشف عنها النقاب. وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على مزاج مريض، أو عيب فسيولوجي، أو محاولة للتأثير على العقول من أيسر الطرق.
ما أسهل أن يثير الكاتب في قرائه الرعب من الحياة والتقزز من الوجود، أن يصور لهم تفاهتها وعبثها وبؤسها وحمقها. ما أسهل أن يثير فيهم النزعات الشبقية أو الشهوات الحسية . يكفي أن يغير الكلمات، يكفي أن يجيد اللعب بها. غير أن عدم الانخداع بالكلمات فن. إنه نوع من الشعر المحض.
لنتأمل أمر الفلاسفة قليلا، ماذا فعل رجل مثل كانط عندما أسس أخلاقه واستطيقاه على أسطورة الكلي العام، على التسليم بوجود عالم ضروري مشترك موجود بالقوة في كل نفس تأتي إلى هذا العالم ؟ وماذا فعل كل فلاسفة الخير والجمال؟ أليسوا كذلك فنانين من طراز خاص؟ أليسوا مبدعين جهلوا أنفسهم؟ ألم يعتقدوا أنهم استبدلوا بالفكرة السطحية الفجة عن الواقع فكرة أكمل وأدق؟ ماذا فعلوا بتحليلاتهم العميقة، وتفريقاتهم الدقيقة، بشوقهم الدفين إلى حالة معينة، وحبهم العميق لما يمكن أن يكون وما ينبغي أن يكون، ألم يكونوا خالقين مبدعين؟ ألم يكونوا فنانين على طريقتهم عندما أضافوا مشكلات إلى مشكلات، وموجودات إلى موجودات، ورموزا إلى رموز، وصورا إلى صور، فأثروا كنز العقل وتركيباته الحرة بثروة جديدة؟ - لقد دخل الفيلسوف منذ الأزل في معركة ل «احتواء» الفنان واستغراقه، ول «تفسير» ما يحسه الفنان وما يعمله، لكن النتيجة كانت عكس ما أراد. فالفلسفة لم تسطع أن تتمثل كل مجال الحساسية المبدعة، أو تدرج كل أسرار النشاط المبدع تحت فكرة الجميل. إنها لم تستطع أن تفسره أو تفهم «أعماقه»، فراحت تفتش عن بنائه وتركيبه، عن الحرية الكامنة في شعره المجرد، عن المبادئ والمسلمات الخفية أو المعلنة التي يقوم عليها، عن العناصر التي تتألف منها لغته أو منطقه أو روحه؛ أي راحت تفتش عن أطلال ميتافيزيقية دارسة. - هل يمكننا - بوصفنا فنانين - أن نجرب التفكير في مشكلات لم يبحثها حتى الآن إلا «الباحثون عن الحقيقة»؟ هل يمكن أن نغير العادة المألوفة منذ قرون وقرون، فنتأمل أفكار الفلاسفة، وكأنها أكاذيب جميلة وأوهام مجردة وخيالات وأحلام مجسدة؟ لنصور هذا بمثل من تاريخ النحت القديم. كان الناس في وقت من الأوقات لا ينظرون فحسب إلى تمثال إنسان أو حيوان على أنه شبيه بالإنسان أو الحيوان الحي، بل كانوا يتصورون أنه يملك قوى روحية خارقة تفوق القوى الطبيعية. كانوا يصنعون من الحجر أو الخشب آلهة لا تشبه البشر في شيء. وكانوا يقدمون الطعام والقرابين لهذه «الأصنام»، ويقدسون هذه «الصور» التي لم تكن «صورا» إلا من بعيد جدا. والعجيب أنهم كانوا يزدادون عبادة وتقديسا لها كلما ازدادت بعدا عن الشكل أو الصورة (وهو شيء تلاحظه في علاقة الأطفال بعرائسهم أو المحبين بمحبوباتهم؛ إذ يبدو أننا نعتقد أننا لا نتلقى الحياة من شيء إلا بقدر ما نسخو في إعطائها له). ثم ضعفت هذه الحياة التي كان يضفيها «المخلوق» على «خالقه» الوهمي بالتدريج، ورفض أن يعبد الصورة الفجة أو التمثال الغليظ، وتحول معبوده إلى «صنم جميل»، وفقد هذا الصنم - تحت ضغط النقد - تأثيره الخيالي على الأحداث والكائنات، وصار له تأثير واقعي على من ينظر إليه أو «يتذوقه». وصار التمثال حرا، أصبح هو نفسه. - هل يمكننا - بغير أن نصدم العاطفية الفلسفية صدمة قاسية - أن نشبه كل هذه الحقائق العريقة المعبودة - هذه المبادئ والمثل، والماهيات والمقولات والحقائق في ذاتها، هذا الوجود وهذا العالم، هذا الحشد الهائل من التصورات والأفكار التي كانت تبدو أهميتها لكل عصر وجيل - هل يمكن أن نشبهها بالأصنام التي تحدثنا عنها الآن؟ - أجل! إن كل تجريدات الفلسفة التقليدية تبدو أعمال بدائيين. إن أفكارها ومشكلاتها التي تعبر عنها تنطوي - إن جاز هذا القول - على نوع من السذاجة البالغة، وفكرة الواقع والسببية تبدو بوجه خاص من أشد الأفكار غلظة وأكثرها فجاجة، أليس تقديم الأفكار المجردة بغير تعريف دقيق لها نوعا من الخلط بين هذا الفعل الشعري الخالص وبين لغة تقنية (فنية) تحاول إخضاعه لها؟ - ربما يسأل اليوم سائل: ما هي الفلسفة التي يمكن أن تكون بالقياس للفلسفة القديمة مثل تماثيل القرن الخامس بالقياس إلى أصنام الآلهة المجهولين في القرون السحيقة المجهولة؟ - ربما بدت التركيبات المجردة والتأليفات الفكرية القديمة أكثر إنسانية وإغراء وخصوبة من كثير من المذاهب والأنظمة الحديثة القائمة على أوهام التفسير والتحليل والنقد المحكم الدقيق. وربما استطاع عقل حديث بروح جديدة وطموح مختلف أن يواصل العمل السامي الذي قامت به الميتافيزيقا القديمة، بعد أن يوجهها إلى الغايات التي أضعفها النقد إضعافا شديدا. - لقد استطاعت الرياضة منذ القدم أن تستقل بنفسها عن كل غاية غريبة عنها، وأن تجد تصورها الصحيح عن طريق التطور الخالص لأسلوبها والوعي بقيمة هذا التطور، والكل يعلم كيف أدت بها حريتها إلى إكسابها مرونة خارقة، وجعلها سلاحا يستعين به عالم الطبيعة. - فن مؤلف من الأفكار، فن نظام الأفكار أو فنون أنظمتها المختلفة، أهذا تصور عقيم؟ إن البناء المعماري ليس مجرد واقع، والموسيقى ليست مجرد أصوات. هناك عاطفة أو شعور بالأفكار يبدو أن من الممكن تربيته في النفس كما يربي الشعور باللون أو الصوت، بل إن الفيلسوف - إن جاز لنا أن نقدم تعريفا له - يتميز بتفوق هذا الشعور أو هذه الحساسية وسيطرتها على كيانه. - إن الإنسان يولد فيلسوفا كما يولد نحاتا أو موسيقيا. هذه الموهبة الفطرية إذا تعهدها صاحبها، وأخذ يستعين بها في تقصي حقيقة أو واقع معين يمكن أن تثق بنفسها فتخلق وتبدع أكثر مما تبحث وتتقصى. هناك يستطيع الفيلسوف أن يستخدم طاقاته بحرية كاملة، وأن يستغل ملكته الطبيعية في أساليب وصور لا حصر لها. هنالك يصبح ذلك الفيلسوف الحق الذي «يرى» المجرد رأي العين، ويبعث الحياة والحركة في الأفكار والمعاني الخالصة. - لهذا فإن تعليم الفلسفة يصبح أعدى أعداء الفلسفة إن لم يعلم الطالب حرية العقل المطلقة، لا بإزاء المذاهب فحسب، بل إزاء المشكلات نفسها. لا بد لهذا التعليم أن يخلق عند المبتدئ شهوة التفلسف. - وهذا هو الذي يسمح بإنقاذ الحقائق في ذاتها (أو النومين بتعبير كانط). إذا استطعنا أن نحس التجانس الداخلي القائم بينها.
يظهر أن الأعمال الفلسفية تؤدي عند المهتمين بها نفس الدور، وتترك نفس الأثر الذي تتركه الأعمال الفنية في نفوس المتذوقين لها، والمهتمين بها. هناك عشاق لديكارت واسبينوزا وليبنتز وكانط كما أن هناك عشاقا لباخ وبيتهوفن وموزارت. وهناك أمثلة للتقارب بين الجانبين. خذ مثلا فاجنر ونيتشه. - هل تريد دليلا ناصعا على ما سقناه الآن على سبيل الظن والترجيح؟ فكر في المصير الذي انتهت إليه مذاهب كبار الفلاسفة. بأية عين نطلع اليوم على هذه النفائس التي تضم بين دفتيها نظاما لن يتحقق؟ هل نلتمس فيها شيئا غير المتعة العقلية الخالصة؟ أنمارس فيها حرية غير حرية العقل في أسمى ألعابه؟ أينتظر أحد منها شيئا غير هذا؟ أيتصور أحد منا إمكان تحقيق جمهورية أفلاطون في الواقع أو إمكان بلوغ الروح المطلق أو الحقيقة الكاملة؟ ألسنا ندخل إلى المذاهب القديمة كما ندخل في معبد جليل، ونتقدم منها كما نتقدم من أثر عريق؟ هل ننتظر منها إلا متعة اللعب الجميل؟ هل نقبل عليها لغير هذه اللذة المؤلمة؟ أصحيح أنه لن يبقى شيء من أفلاطون أو اسبينوزا إذا رفضهما العقل؟ وهل كانا يطمعان في أكثر من هذا؟ - هناك أفراد ممتازون كانوا بعيدين عن الفلسفة. ومع ذلك فقد كانت لديهم كل مزايا التفكير المجرد، وكل دقائقه وأعماقه. لقد استطاعوا أن «يصوروا» تفكيرهم المجرد، أن يطبقوه في أشكال واقعية ويثبتوه ببراهين حسية. (كان لديهم هذا العلم الدفين بالعلاقات المستمرة بين «الإرادي» و«الضروري»). - ليوناردو دافنشي هو نموذج هؤلاء الأفراد الممتازين. - أغرب شيء أن يستبعد من لوحة الفلاسفة الذين يعترف التراث بهم. لا شك أن السبب في هذا يرجع إلى أنه لم يكتب نصوصا فلسفية بالمعنى الشكلي لهذه الكلمة. إن ملاحظاته ومذكراته ومخطوطاته التي تركها وراءه تذهلنا بتنوع الموضوعات والمشكلات التي اهتم بها. لكأنما أخذ على عاتقه أن يطيع جميع ربات الفن والفكر ويكون رهن إشارتهن! - إذا كان الفيلسوف هو الذي يبني نظاما مرتبا من الأفكار ويضمن بذلك لنفسه مكانا في تاريخ الفلسفة (وهو تاريخ يعتمد على الاصطلاح أو الاتفاق، وهذا الاتفاق يستند بدوره إلى تعريف تعسفي للفلسفة والفيلسوف)، وإذا كان من الصعب أن نلخص أفكاره أو نرتب مشكلاته، بحيث نقارن مذهبه بغيره من المذاهب، فلا بد أن نستبعد ليوناردو دافنشي من قائمة الفلاسفة. - بيد أنه يتميز عن الفلاسفة، ويقارن بهم في نفس الوقت لأسباب أخرى أهم.
فإذا كان هدف الفيلسوف هو التعبير عن تأملاته بالقول، وإذا كان كل همه ينحصر في تكوين معرفة يمكن نقلها عن طريق اللغة ، فلا يمكن أن يكون ليوناردو فيلسوفا بهذا المعنى الضيق. - فاللغة ليست كل شيء بالنسبة إليه، والمعرفة ليست في نظره كل شيء، بل ربما لم تكن عنده سوى وسيلة. إنه يرسم ويحسب ويبني ويزين ويستخدم جميع الوسائل المادية التي تستطلع الأفكار، وتكشف عنها في نفس الوقت، ويتيح لها أن تثبت على الأشياء وتصطدم بها، وتخلق لها المصاعب الغريبة التي تقاومها في وجهها وتضعها في عالم آخر لا يمكن أن تحيط به معرفة أولية أو يتنبأ به جهد عقلي مسبق. - إن المعرفة لا تشع هذه الطبيعة المعجزة، بل هذه الطبائع المتنوعة. القدرة هي هم صاحبها وطموحه ومجاله. وهو لا يفصل «الفهم» عن «الخلق»، ولا النظر عن العمل، ولا التأمل عن القوى الحية التي تنمو في الخارج، ولا الحق عن المتحقق بكل صوره وأشكاله التي يتجسد فيها من آلات وأعمال وإنشاءات. - هنا كان ليوناردو هو «الجد» الأصيل للعلم الحديث والمعاصر. فأهم ما يميز العلم ويحدد ماهيته أنه «مجموع العمليات والوصفات التي تنجح باستمرار»، وأنه يتقدم على الدوام وفي يده لوحة من «التطابقات» بين أفعالنا وبين الظواهر، وهي لوحة تزداد بالتدريج دقة واقتصادا وإحكاما. العلم بمعناه الحديث يخضع «المعرفة» للقدرة (وهو بهذا يسير في الطريق الذي رسمه بعد ذلك فرانسيس بيكون، بل لعلنا لا نكون مبالغين إذا أرجعناه إلى أول يوناني فكر تفكيرا نظريا مجردا، وصاغ فكره في هذا السؤال: ما الموجود؟) وهو يصل في هذا إلى حد أن يجعل المعقول تابعا للتحقق، أو لما يقبل التحقيق ويحتمله. (وهذه العبارة تلخص مذاهب الواقعيين في الحقيقة سواء أكانوا وضعيين أو براجماتيين أو تحليليين ... إلخ) إن إيمان العلم وثقته يستندان على التأكد من القدرة على استعادة ظاهرة معينة أو تكرارها على أساس أفعال معينة ومحددة. إن قضاياه صيغ أفعال. ومعيار القيمة لديه هو «عدم الخطأ» في التنبؤ. وكل ما عدا ذلك من نظريات وتفسير للظواهر ووصف لها أمر يمكن الخلاف حوله، هو شيء من الأدب مجرد وسائل وأدوات.
إن القوانين عنده مجرد «مواضعات» قد تخطئ وقد تصيب. والأسس والمناهج والمبادئ النظرية قد تتعارض وتتضارب. المهم عنده هو النتيجة العملية أو الوضعية، هو القوة والقدرة المكتسبة. بكلمة واحدة هو النجاح. هذا هو الذي يهم رجل العلم الحديث. ولهذا لا تفصل معرفته أبدا عن الفعل وأدوات التحقيق والتحكم والتنفيذ. إن عقله يتحرك دائما بين تجربتين، تجربة معطاة وأخرى متوقعة. ولهذا فكل معرفة تصدر عن القول أو تتحرك نحو الأفكار لا قيمة لها عنده. - ماذا تفعل الفلسفة وهي تفاجأ كل لحظة بعواصف الاكتشافات العلمية الحديثة؟ ماذا تفعل الميتافيزيقا وهي ترى نفسها مهجورة مخلوعة عن العرش، تندب حظها وتبكي فجيعتها في أبنائها (كأنها «هيكوبا» زوجة بريام ملك طروادة التي رأت أبناءها يذبحون أمام عينيها؟) ما مصير مشكلاتها العنيدة العريقة؟ ماذا تصنع ب «أنا أفكر» و«أنا موجود»؟ بفعل «الوجود» أو الكينونة الغامض الذي يدور منذ القدم في الفراغ بكل المشكلات والأسئلة التي تمخضت عنه؟
الجواب عسير. وقد كانت ردود فعل الفلسفة - ممثلة في أمها العجوز المحتجة أبدا المهانة على الدوام (الميتافيزيقا) - على الاكتشافات العلمية مدهشة أو غامضة أو مضحكة: أليس من الخير للفيلسوف أن يجعل فكره مستقلا عن جميع المعارف التي يمكن أن يقوضها الكشف عن تجربة جديدة، أي أن يكون فكرا يدور في فلك الممكن لا الواقع، ويحمل غايته وهدفه في ذاته؟ لكن هل يمكن أن يتحصن الفيلسوف في قلعة الفكر المحض أو يحبس نفسه في قفصه البلوري الصافي دون أن تحين منه نظرة إلى الواقع؟ - لو استطعنا أن نتحرر من عاداتنا الفكرية، أن نرتفع فوق تنوع الاتجاهات الفلسفية المعاصرة وفوق ضجيجها أيضا، لأمكننا أن نتفق بسهولة على أن الفلسفة - كما يحددها تراثها العريق المكتوب - نوع «أدبي» خاص، يتميز بموضوعات وأشكال واصطلاحات معينة تتردد فيه. هي نوع من العمل العقلي و«الإنتاج» اللغوي يطمح دائما إلى النظر الكلي العام، سواء في مواقفه وغاياته أو في صيغ التعبير عنه. ولما كان بطبيعته بعيدا عن كل تحقق في الخارج، ولا يهدف إلى أن يتمثل في قوة أو سلطة قائمة - باستثناء بعض الفلسفات التي حاولت تغيير الواقع بالعلم والتخطيط أو الخرافة العنصرية أو الثورة السياسية والاجتماعية - فإن هذا النظر الكلي العام ينبغي ألا يكون مؤقتا، ولا أن يكون وسيلة أو أداة، ولا تعبيرا عن نتاج، قابلة للتحقق، أعني أن تكون له غاية في ذاته. من هنا يمكننا أن نضعه غير بعيد من الشعر والفن . - غير أن المشكلة هي أن هؤلاء الفنانين الذين ذكرتهم من قبل - أي الفلاسفة - يجهلون أنهم فنانون ولا يريدون أيضا أن يكونوا فنانين. لا شك أن فنهم يختلف عن فن الشعراء. فهم لا يفكرون كثيرا في رنين الكلمات، وسحرها الخفي، وقراباتها الحميمة، بل يبدءون عادة من الإيمان بوجود قيمة مطلقة مستقلة عن حواسهم وإحساساتهم. الفيلسوف يسأل: ما الواقع؟ ما الوجود؟ ما الخير؟ ... إلخ، إنه لا يعني نفسه كثيرا بأصول هذه الكلمات وجذورها الممتدة في عروق الأسطورة والصورة والاستعارة، وفي حياة المجتمعات والشعوب، ولا يهتم بمعانيها الدقيقة العسيرة التي اكتسبتها على مر العصور، وعلى مختلف الشفاه، ولا بمجدها أو تماسكها وهي تنتقل من قلم إلى قلم، ومن لسان إلى لسان. إنها تصبح بالتأمل والتفكير والجدل أدوات عجيبة قادرة على تعذيب مجموعات ومجموعات من الأفكار، مفاتيح سحرية مخيفة صنعتها رءوس لحل مشكلات الوجود والواقع والإدراك، حفر واسعة عميقة على استعداد لابتلاع كل شيء، وتصور كل شيء. - ولكن هذا التعميم، هذا الاستخدام الكلي للكلمات، ألا يخفى وراء مظهره الشمولي هذا روح الفن؟ ألا ينطوي مع ذلك على وجه شخصي أو فردي يحاول أن يتنكر وراء قناع الكلي العام؟ أليس عمل الفيلسوف الذي يرى في «التعبير الشائع» آلاف الصعوبات التي لا يلحظها الرجل العادي، ويخلق آلات المشكلات والمتاعب والمتناقضات التي لا تراها عينه، ويبلبل العقول، ويزرع فيها أشواك الحيرة والاندهاش والاستغراب، حيث لا يحس الناس غير الطمأنينة والأمن والوضوح ... أليس هذا عملا شخصيا وفرديا، وإن ارتدى مسوح الشمول والتعميم؟ - وإذا كانت الكلمة هي أداة الفيلسوف وغايته، إذا كانت هي مادته التي ينفخ فيها ويعذبها ويستخلص أحشاءها، ويثبت عليها أجنحة التعميم، فإن الفنان ينظر إليها نظرة أخرى. إنه يعذب الكلمة، ويتعذب بها، وهي أيضا وسيلته وغايته، ولكنه يحس فيها إحساسات، ويرى ظلالا وأطيافا، ويسمع نبضات لا يراها الفيلسوف ولا يسمعها ولا يهتم بها. إن الكلمة هي مادته التي يشكلها ويصنع من «عدمها» مخلوقات حية. شعرا أو قصة أو مسرحا، ونحتا أو موسيقى (فكلاهما لغة أيضا) لهذا يمكننا القول بأن الكلمة هي أخطر أدواته وأقلها في نفس الوقت، هي الشيء الوحيد الذي يملكه ويريد من خلاله أن يصل إلى ما لا يملك. - فلنتأمل حال فنان عظيم من عصر النهضة ليوناردو دافنشي (1452-1519م) هناك (كما ذكرت لك) أمور تجمعه بالفلاسفة وتميزه عنهم. أهمها أن الرسم هو فلسفته. وهو نفسه يقول هذا. إنه يعبر بالرسم كما يعبر غيره بالفلسفة. أي إن الرسم عنده هو كل شيء. قد يرى غيره أن الرسم فن خاص بالنسبة للفكر، أو أنه أبعد ما يكون عن إرضاء كل رغبات العقل، ولكن ليوناردو يفكر تفكيرا آخر. فالرسم في نظره غاية أخيرة، هدف نهائي لجهد عقلي كلي. باختصار: إنه يفعل بالرسم ما يفعله الفيلسوف، بل يزيد عليه أنه يتعمق الأشياء بكل وسيلة، طبيعتها وتكوينها العضوي ونفسيتها، هندستها وتشريحها وبنيتها الخفية ولغتها السرية - الرسم عنده عمل يستلزم كل المعارف وجهد يحتضن كل الأساليب على وجه التقريب: الهندسة، والديناميكا، والجيولوجيا، والفسيولوجيا - تصوير معركة حربية يقتضي منه معرفة قوانين حركة الأعاصير وحركة الغبار المتطاير، تصوير شخص يستلزم منه بحوثا في تحليل حركاته وتشريح ملامحه وقسماته الفسيولوجية والنفسية، ودراسة التوافق بين العضو ووظيفته. - إن العلم والفن والفكر تمتزج في أعماله امتزاجا تاما. فالرسم عنده معرفة بكل شيء، تعبير عن جميع الظواهر، حتى الظواهر غير المنظورة. الصنعة عنده ملازمة للمعرفة، الفعل ضمان للفكر، العمل لا ينفصل عن الكلمة. اللغة عنده أداة مثلها مثل غيرها من الأدوات، كالعدد مثلا أو التخطيط الكروكي، إنه لم ينته أبدا إلى ما انتهت إليه معظم الفلسفات في عصرنا، فصارت كلمات بلا فعل، إنه باختصار يجد في العمل الفني المرسوم كل المشكلات التي يمكن أن يوحي بها للعقل نظام فكري أو فلسفي عن الطبيعة. - هل ليوناردو فيلسوف أم ليس فيلسوفا؟
المسألة ليست مسألة اختيار أو تردد في إطلاق هذا الوصف الجميل على هذا الرسام الذي اشتهر بأعمال عديدة غير مكتوبة. إنها مسألة تتصل بعلاقة النشاط الكلي لعقل ما بوسيلته التي اختارتها للتعبير أو بنوع الأعمال التي تجعله يحس بقوته أعمق إحساس وأشده. وحالة ليوناردو الخاصة - التي تجعلنا نلمح الفيلسوف وراء اللوحة - تقتضي منا إعادة النظر في كثير من عاداتنا العقلية، وتدعونا للانتباه إلى الأفكار التي تطل من وراء الخط والظل وبقعة اللون. وإذا كانت الفلسفة تقاس في حياة العقل بمدى ما تشهد عليه من عمق النظرة، والميل إلى التعميم وعدد الظواهر التي تتمثلها وتحتويها، والعطش الدائم للبحث عن الأسباب الخفية، فإن رسوم ليوناردو تنطوي على هذا كله. - لعل مثال ليوناردو أن يدعونا إلى مراجعة تفرقتنا المألوفة بين الفلسفة والفن، بين الفكر والشعر. ولعله أن يصحح نظرتنا القديمة في تقسيم الطبيعة الإنسانية، وكأن الفلاسفة بلا أيد ولا عيون، وكأن الفنانين رءوس خلت من كل شيء إلا من الغرائز والانفعالات؛ لأننا لو تشبثنا بهذه النظرة العرجاء، لأصبح رجال مثل ليوناردو أشبه بكائنات خرافية وحوش أو قنطورات (كائنات خرافية تقول الأسطورة اليونانية إن نصفها إنسان والنصف الآخر حصان). - لو قصرنا أنفسنا على النظر إلى الظواهر الحميمة الباطنة، على لحظات الحياة النفسية المتدفقة الدافئة، فلن نقدر على التمييز بين فيلسوف وفنان، إن الفروق بينهما ستكون غير محددة، بل قد لا تكون موجودة.
أما إذا التفتنا إلى الجانب الموضوعي من التعبير عند كل منهما، فسيكون الفارق هائلا. سنجد الفلسفة لا تنفصل عن اللغة التي هي غاية كل فيلسوف ووسيلته، ولهذا سنحكم بأنه ليس فنانا، وسنجد أن الرسم هو كل ما عند الرسام، فنحكم بأنه لا يمكن أن يكون فيلسوفا. وبهذا نظلم الاثنين معا. مع أن الإحساس المباشر يدلنا على الفن عند كثير من الفلاسفة، ويهدينا إلى الفلسفة عند كثير من الفنانين. - قد نرى هذا لأول وهلة، وقد ننساق مع النظرة السطحية فلا نشك في أن الفيلسوف يصف ما فكر فيه. والمذهب الفلسفي يمكن تلخيصه في تصنيف للكلمات أو قائمة من التعريفات. والمنطق هو طريقة استخدام هذه القائمة، أو هو الإطار الذي يضم الأنفع والأكمل من التفكير العادي، إن التفكير الأعمق لا بد أن يجرنا إلى أبعد من اللغة. ونحن لا نستطيع أن نفكر أو نحافظ على فكرنا، أو نوجهه، أو نتنبأ به بغير اللغة. اللغة هي وجودنا نحن. غير أننا لو نظرنا للمسألة عن قرب لوجدنا الأمر مختلفا. فكلما حاول فكرنا أن يتعمق نفسه وموضوعه، وأن يقترب من موضوعه - لا من الرموز والاصطلاحات التي تثير أفكاره عن هذا الموضوع - عشنا هذا الفكر، وأحسسنا أنه ينفصل بنفسه عن كل لغة متواضع عليها. هنالك نحس أن الكلمات تنقصنا، أو لا تستجيب لنا، أو تحاول أن تتدخل بيننا وبين الموضوع، أو تنوب عنا. صحيح أنها تخدمنا خدمة لا تقدر حين تقربنا من الموضوع الذي نفكر فيه ومن فكرنا نفسه حين تنظم هذا الفكر وتكرره، ولكن التفكير، التفكير «العميق» ليس هو التفكير الأدق. إن الفكر المعاش - الحميم والصميم - يحس أن اللغة تبعده عن نفسه، أنها عاجزة في ميدانه، إنها تثبت ما لا يثبت، إنها تستبدل شيئا بشيء، تستبدل الجامد البارد المحدد العام بالحي الشخصي الدافئ. - أترانا نظلم الفلاسفة؟ لا شك أنهم حاولوا دائما أن يربطوا لغتهم بأعماق فكرهم وحياتهم. وحاولوا دائما أن يعيدوا تنظيمها، أن يكملوا نقصها لتستجيب لحاجات تجربتهم الوحيدة، أن يجعلوا منها أداة أدق وألطف، وأقدر على المعرفة، بل على معرفة المعرفة! ربما استطعنا أن نتصور الفلسفة موقفا، أو اتجاها، أو وجهة نظر، أو وعدا، أو انتظارا، أو قيدا يقسر به بعض الناس أنفسهم على أن يفكر حياته أو يحيا فكره، في نوع من التعاون أو الانعكاس بين الوجود والمعرفة، إنهم يحاولون أن يوقفوا كل تعبير تقليدي أو مصطلح عليه لدى شعورهم بأن «الواقع» يقدم نفسه لهم، أو بأنهم سيستقبلونه، وأنه سينتظم ويتضح في تأليف أو مركب جديد أثمن وأدق من كل مركب آخر مطروق أو مسبوق إليه (وفي هذا العناء يشاركهم الشاعر والكاتب والرسام ويزيد عليهم). - غير أن طبيعة اللغة (التي خلقت أصلا للإشارة إلى الأشياء الثابتة والكائنات المحددة) لا تمكن من إنجاح هذا الجهد الذي يبذله كل الفلاسفة (وإن كان إحساسهم بخيبة الأمل فيها لا يبلغ من العمق والألم قدر إحساس الشاعر والأديب!) إن أقدر القادرين منهم قد استنفد جهده في محاولة دائبة لترجمة فكره، أو جعله ينطق ويتكلم. من هنا يضطر أغلبهم إلى نحت كلمات جديدة من كلمات قديمة أو تحويل معانيها عن المألوف المعتاد (لهذا يصدم الرجل العادي دائما في لغتهم. وهذا أمر طبيعي، فهم لا يستخدمون لغة أخرى غير لغته؛ إذ إن هذا محال، فلا بد أن تأتي لغتهم من نفس الطبيعية حتى يتمكنوا من فهم أنفسهم وإفهام غيرهم. ولكنهم يحولون بعض الكلمات عن معناها المألوف، يرتفعون بها إلى مستوى آخر. خذ مثلا كلمات كالوجود أو العدم أو الواقع أو الأنا أو المثال أو الفكرة ... إلخ، وستجدها في لغة الفيلسوف، وقد تحولت تحولا تاما، وإن لم تفقد بطبيعة الحال كل صلتها بالأصل الذي نبعت منه) لكن معظم جهودهم تذهب في النهاية هباء. فهم لم يستطيعوا نقل «حالاتهم» إلينا. إن أفكارهم التي يحدثوننا عنها كالطاقة أو الإمكان (ديناميس) أو الوجود أو النومين (الشيء في ذاته) أو الكوجيتو (أنا أعرف أو أفكر) ... إلخ ليست إلا «شفرات» لا يحدد معانيها إلا السياق الذي وردت فيه. وينبغي على القارئ أن يلجأ إلى قدرته على الإبداع الشخصي؛ لينفض أنفاس الحياة في أعمال تلوي عنق اللغة العادية للتعبير عن أشياء لا يستطيع الناس أن يتبادلوها فيما بينهم، أشياء لا وجود لها في المجال الذي تتردد فيه الكلمة الجارية (تأمل ما سبق هل يختلف موقف القارئ من عبارات الفلاسفة عن موقفه من قصائد الشعراء إلا من حيث الدرجة؟ ألا يشارك الفيلسوف والشاعر في الخلق والإبداع؟) - معنى هذا أن قصر اللغة على صيغ التعبير اللغوي - الذي يتميز به الفلاسفة بطبيعة الحال عن غيرهم من أصحاب القول - سيظلم الفلسفة ويحرمها ألوانا من الحرية، بل ألوانا من المتاعب التي تتمتع بها مختلف الفنون. ولكي نتصور هذا الظلم نقول إننا لن نشهد أبدا، ولا يمكن أن نتصور فلسفتين متطابقتين تمام التطابق. ولم نشهد ولا يمكن أن نتصور تفسيرا وحيدا خالدا لأي مذهب أو نسق فلسفي. ما من مشكلة أمكن التعبير عنها بطريقة «نهائية» أو بطريقة تقضي على الشك حتى في وجودها (من هنا تبقى الفلسفية صورة الفكر الإنساني الحر المتغير، كما تنعكس على صفحة نهره المتدفق أبدا أو بالأحرى تعكسه ... من يملك القدرة على تثبيت الصورة على الماء؟ من يملك تثبيت الماء في صورة أو إطار؟) - الفلسفة تواجه الآن خطرا جديدا: اكتشاف أبعاد جديدة للغة، بل اكتشاف لغات عديدة أصبحت تضيق من حدود آفاقها التقليدية (لغة الشكل التي تجرب ثورات التجريد الجسورة، لغة الموسيقى التي كانت وستظل أدق اللغات وأنقاها وأقدرها على التعبير عن أمواج العواطف والأفكار والأحاسيس، لغة الحساب والرياضة التي تقاوم التباس اللغة العادية وغموضها) بيد أن الفلسفة قد حاولت دائما، وستحاول باستمرار أن تؤكد أنها لا تسعى إلى هدف لفظي بحت. صحيح أن العلوم انتزعت منها آفاقا عديدة كانت طيورها ترفرف فيها على هواها، لكن الفنون أصبحت تجرب التعبير المجسم عن كثير من مشكلاتها المجردة. ولهذا نشهد غلبة المزاج الفني على العديد من الفلاسفة المعاصرين، سواء في الموضوع أو الأسلوب. كما نجدهم يطرقون ميادين شاسعة ومناطق مظلمة ويتغلغلون في دروب خطرة لم يكن يحلم بها الأقدمون. إن «الوعي بالذات» (الذي كان دائما - على اختلاف أسمائه وصفاته - وسيلتها الأساسية إلى الوجود، كما كان كذلك سبب انزلاقها إلى الشك والضياع والضلال) يدلها اليوم على حيويتها المتجددة، وضرورتها الباطنة والملازمة لوجود الإنسان، ولكنه يدلها في نفس الوقت على مصدر عجزها وكل ضعفها، ألا وهو الاعتماد على القول، بل على نوع معين منه. لهذا نلاحظ حرص جميع الفلاسفة على وجه التقريب على تمييز فكرهم عن كل فكر تقليدي أو مألوف كما نجد بعضهم - وبالأخص المهتمين بعالمهم الداخلي، ورصد تحولاته وحالاته - يتطلعون إلى ما وراء اللغة، إلى تلك الأرض البكر المجهولة التي يسميها بعضهم «الحدس» أو «الوجدان»، وينفذون إليها أو تنفذ إليهم بطريقة تلقائية، فتهديهم «نورا» مباشرا، وإجابات مفاجئة، وقرارات وذبذبات وإيحاءات غير متوقعة. وبعضهم الآخر يوجه انتباهه إلى ما يبقى ويثبت، ويحاولون أن يلتمسوا في اللغة نفسها سندا يؤيد مواقفهم الفكرية . إنهم يثقون في القوانين الصورية والعلاقات المنطقية الخالصة، يرون فيها بناء المعقول أو العقل نفسه، يكتشفون فيها الأشكال الأولية التي تستمد منها بقية اللغات أنماطها المختلفة في التعبير (لنذكر المحاولة الطموح التي بدأها ليبنتز لاكتشاف لغة رياضية كلية أو علم كلي، ومحاولات المحدثين لتكوين نسق صوري محكم يلخص الهيكل الخالد للفكر!)
الفريق الأول تجذبهم ميولهم «الباطنة» إلى طرق الفن، إنهم فلاسفة شعراء أو فلاسفة موسيقيون. والفريق الثاني يفرض على اللغة طوق العقل الجاد، ويخضعها لنير الاستدلال المحدد. إنهم فلاسفة «مهندسون»، يبنون قصورا شامخة؛ ليسكنها كل إنسان، ولا يسكنها أي إنسان (وغالبا ما ينزوون - كما يقول كيركجورد عن هيجل - في كوخ بائس مجاور لذلك القصر الساحر المخيف).
ترى ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن الفريقين استلهما نموذج ليوناردو دافنشي الذي استبدل الرسم بالفلسفة؟
هذا العبقري الذي رسم الفلسفة وفلسف الرسم؟! (1974م)
ما التنوير؟
تقديم
هذه مقالة مشهورة لكانط - أعظم فلاسفة العصر الحديث - يحدد فيها معنى التنوير الذي عاش هو نفسه في عصره، وكان بفلسفته النقدية الحرة الشامخة أنضج تعبير عن ذروة نضجه وازدهاره. وقد ظهرت هذه المقالة في عدد ديسمبر سنة 1784م من «مجلة برلين الشهرية»، ردا على ملاحظة جاءت في هامش مقال دافع فيه قس بروتستنتي مغمور من أهالي برلين (ويدعى يوهان فريدريش تسولنر 1753-1804م) عن الزواج الديني ضد الأصوات التي يبدو أنها كانت قد ارتفعت - باسم التنوير - للدعوة إلى الاكتفاء بالزواج المدني والاستغناء عن بركة الكنيسة. وقد ظهر المقال الأخير بما حواه من هجوم شديد على التنوير وأدعيائه في عدد ديسمبر سنة 1783م من المجلة المذكورة، وكان أهم ما فيه هو تعبير ذلك القس عن حيرته إزاء مفهوم التنوير، وبحثه عبثا عن إجابة على هذا السؤال المهم: ما هو التنوير؟! وانبرى الفيلسوف اليهودي موسى مندلسون (1729-1786م) للرد عليه بمقال نشر في عدد سبتمبر سنة 1784م من المجلة نفسها تحت هذا العنوان: «حول السؤال: ما هو التنوير؟» وقبل الحديث عن هذا المقال الأخير نود أن ننبه القارئ إلى أن كانط كتب مقاله قبل أن يطلع على مقال صديقه مندلسون، وأن التشابه في عنوان المقالين لم يأت بمحض المصادفة، وإنما كان تعبيرا عن قضية شغلت العقول في ذلك العصر، ألا وهي قضية تحديد معنى التنوير ومفهومه، ومن ثم الدفاع عن القضية الأساسية التي عاش لها عصر التنوير كله، ودعا إليها مفكروه وأدباؤه وعلماؤه ومصلحوه، وهي قضية حرية الإنسان وتفكيره المستقل الخالص من كل قيد، بجانب الإيمان بانتصار العلم، بعد الانتصار الذي حققه العقل في تأسيس المنهج العلمي (الطبيعي الرياضي)، وترسيخه والوصول إلى قوانين واكتشافات مهمة أحس رجل الشارع نفسه بأهميتها، وخطرها على حياته - والتفاؤل بمستقبل البشرية الحرة العاقلة التي خلصتها أنوار التنوير - التي أشعها العقل النقدي الحر الذي بنى المذاهب الفلسفية الشامخة والنظم العلمية المتسقة من ظلمات الخرافة والجهالة والخوف والاستعباد.
قلنا إن مقالي كانط ومندلسون نشرا في «مجلة برلين الشهرية» التي صدر أول عدد منها سنة 1783م، وظلت صامدة وفية لرسالتها في تنوير العقول والقلوب، حتى توقفت سنة 1796م. وتستحق هذه المجلة أن نذكرها بكلمة وفاء وعرفان. فقد كانت أهم المجلات التي عبرت عن عصر التنوير، واشترك في تحريرها عدد كبير من ألمع العقول الحريصة على الحرية والمعرفة والتقدم والاستنارة، سواء في ألمانيا نفسها أو في البلاد الأوروبية بوجه عام. كان الهدف الذي وضعه الناشران (الكتبي إريش بيستر والمربي فريدريش جيديكه) هو إشاعة «الغيرة على الحقيقة» والحث على «التنوير النافع، وطرد الأخطاء المفسدة» مع الحرص على تنوع المادة التي تجمع بين التعليم والتسلية. وسرعان ما بدأ الهجوم على المجلة ممن أساءوا فهم التنوير، وحقدوا على الداعين إليه في هذه المجلة، فسموهم «عصابة التنوير» ولا نستطيع أن نذكر أسماء الأدباء والفلاسفة الذين أسهموا في تحريرها؛ إذ يكفي أن يكون بينهم كانط (الذي نشرت له خمس عشرة مرة) وجوته وشيلر وفيلهلم فون همبولت، وغيرهم من أدباء الألمان ومفكريهم إلى جانب ميرابو وبنيامين فرانكلين وتوماس جيفرسون من أعلام الثورتين الفرنسية والأمريكية.
قلنا إن الإجابة على هذا السؤال المهم: «التنوير» قد كانت وليدة المصادفة البحتة، التي وقعت في مناسبة عارضة وتافهة. وذكرنا القس المغمور الذي حيره الشعار الرائج على كل لسان فهتف: ما هو معنى التنوير؟ ولا بد أن نشكر لهذا الرجل الطيب حسن نيته، وأن نذكر له فضوله المحمود؛ إذ يكفي أنه دفع اثنين من أهم فلاسفة القرن الثامن عشر إلى محاولة تقديم الإجابة على سؤاله. وليس المهم هنا هو السؤال والجواب، بل هو الموقف الذي اتخذه كانط ومندلسون وغيرهما من مفكري هذا العصر وأدبائه (ومن أشهرهم ليسينج وهيردر وفيلاند وشيلر) من حقيقة الإنسان وحقه في التقدم على طريق النور والمعرفة والتحرر، بل حقه في الثورة المتجددة على طواغيت الجهل والخرافة والنفاق والاستبداد. والغريب أن هذه الطواغيت كانت لا تزال تنفث سمومها، وتنشر ظلمات عدواتها للتنوير بعد مرور قرن على بداية عصر التنوير! ولعل انتشارها في ألمانيا بوجه خاص أن يكون دليلا على ما يؤكد نيتشه في كتابه الفجر (1881م) من عداء الألمان للتنوير (على الأقل حتى انهيار النازية وأواخر النصف الأول من القرن العشرين).
ينطلق موسى مندلسون في مقاله القصير «حول السؤال عن معنى التنوير» من الاستعمال اللغوي للكلمة التي لا تنفصل عنده عن كلمتي الثقافة والحضارة، ثم يحاول تقديم الجواب من وجهة نظر إنسانية تجعل الإنسان هو الهدف والمقياس، وتلقي الضوء عليه من حيث هو إنسان على الإطلاق، ومن حيث هو مواطن في مجتمع ودولة. وهو يرى أن الثقافة
Bildung
هي المفهوم الكلي الذي يندرج تحته مفهومان جزئيان هما الحضارة
Kultur «التي جاءت كما هو معروف من زراعة الأرض وتعميرها» والتنوير
Aufklarung
والحضارة تتعلق بالجانب العملي من حياة الإنسان (المهارة والدقة والجمال في الفنون والصنائع وآداب السلوك وعاداته)، أما التنوير فينصب على الجانب النظري منها، أي على المعرفة العقلية، والقدرة على تأمل العالم والأشياء والحياة الإنسانية. وتوضح اللغة طبيعة المفهومين، فتستنير أو تصل إلى درجة التنوير عن طريق العلوم، وتبلغ مستوى التحضر عن طريق «التعامل الاجتماعي والأدب والفصاحة».
هكذا تكون علاقة التنوير بالحضارة كعلاقة النظر بالتطبيق والممارسة. فإذا كانت الحضارة تهم الإنسان باعتباره «عضوا في المجتمع»، فلا غنى له من حيث هو إنسان عن التنوير. إن الإنسان بحاجة إلى التنوير. هذا مطلب أساسي لتحقيق إنسانيته وحقيقته، ولكن مندلسون يفرق مرة أخرى بين تنوير الإنسان كإنسان وتنويره كمواطن، وعضو حي مسئول من أعضاء المجتمع. ولعل هذه التفرقة أن تكون قريبة من تفرقة كانط في مقاله هذا بين الاستخدام العلني العام للعقل (أي حقه في النقد والتفكير الحر المستقل في كل شيء)، والاستخدام الخاص أو المحدود لهذا العقل في الأمور المتصلة بالوظيفة التي يؤديها الإنسان في ظل المجتمع والدولة والقوانين والأعراف المرعية.
إن تنوير الإنسان - كما يؤكد مندلسون - يتعلق بماهيته كإنسان، أما تنوير المواطن فيتصل بمطالب الوظيفة التي يؤديها، والوضع الاجتماعي الذي يشغله. والواقع أن هذين الجانبين المتكاملين من التنوير يمكن في بعض الظروف التاريخية والاجتماعية أن يبلغا حد الصراع والتناقض. وهنا ينتقل مندلسون إلى الجانب السياسي والاجتماعي من المشكلة، فيقول في وضوح: «شقية هي الدولة التي تحتم عليها الظروف أن تعترف بأن حقيقة الإنسان ومصيره فيها كإنسان لا ينسجم مع حقيقته ومصيره كمواطن، بأن التنوير - الذي لا غنى للبشرية عنه - لا يمكن أن يعم جميع الطبقات في الدولة بغير أن يتعرض دستورها للانهيار.»
وكان من الطبيعي أن يتعرض مندلسون (ولو من بعيد وبأسلوب فلسفي مجرد) لأعداء التنوير الذين هم في الواقع أعداء الحرية والمساواة والعدالة، وانتشار المعرفة بين الناس. ولذلك نجده يدين الأفكار المغرضة، والأحكام والتصورات المتحيزة في مجال الدين بوجه خاص، مع ما يرتبط بها من تعصب وتطرف ونفاق. نقول إن هذا كان أمرا طبيعيا؛ لأن الدعوة إلى التسامح وتأكيد وحدة الأديان في جوهرها الأصيل قد كانت من الأعمدة الأساسية التي قام عليها التفكير في عصر التنوير (وأروع من عبر عن التسامح ووحدة الأديان هو ليسينج في مسرحيته ناتان الحكيم، وفي كتابه الصغير عن تربية الجنس البشري)، ويكفي أن مندلسون قد تنبه إلى «جدل التنوير» وإمكان تدهوره وفساده وهو في قمة مجده وازدهاره، وذلك قبل «لوكاتش» في كتابه عن جوته وعصره، وقبل تيودور أدورنو وماكس هوركهيمر في كتابهما المشهور عن جدل التنوير، ويكفيه أنه أشار إلى أخطار إساءة فهم التنوير، وسوء استخدامه، وحذر منها تحذير الملهم الذي تنفذ رؤياه من أستار الحاضر لتكشف عن كوارث المستقبل. وهل بعد محنة الجهل والتعصب والتطرف التي بلغت ذروتها المدمرة في كابوس النازية، وما أعقبه من كوابيس تزحف على بلادنا العربية من كارثة؟! لنقرأ هذه السطور التي يختم بها مقاله محذرا من مغبة سوء استخدام التنوير التي لا بد أن تؤدي إلى إضعاف الحس الأخلاقي، وخلق التصلب والأنانية والكفر والفوضى: «كلما زاد الشيء نبلا وكمالا، زادت بشاعة فساده وتحلله. فالخشب الذي يفسد ليس في بشاعة الوردة التي تفسد، وهذه لا تثير الاشمئزاز بقدر ما تثيره جثة حيوان متعفن، كما أن هذه بدورها ليست بأبشع من جثة إنسان تعرضت للفساد. والأمر كذلك مع الحضارة والتنوير. فكلما ازدادا نبلا في حالة ازدهارهما، زادت بشاعة تحللهما وفسادهما. إن إساءة استخدام التنوير يضعف الشعور الأخلاقي، ويؤدي إلى التصلب والأنانية والكفر والفوضى. وإساءة استخدام الحضارة يفضي إلى الترف والنفاق والطراوة والخرافة والعبودية. وكلما تقدم التنوير جنبا إلى جنب مع الحضارة، كانا أفضل وسيلة لوقف الفساد، والثقافة التي تسود في أمة من الأمم نتيجة امتزاج التنوير بالحضارة تجعل هذه الأمة أقل عرضة للفساد.» •••
إذا كان «مندلسون» قد استقرأ في مقاله معنى التنوير وأبعاده، والأخطار التي يمكن أن يتعرض لها، فإن كانط يتبع في مقاله منهجا استنباطيا يبدأ من مسلمة أو تعريف قاطع للتنوير. إنه في رأيه هو خروج الإنسان من حالة الوصاية المفروضة عليه. وهو يخرج أو بالأحرى يخرج نفسه منها عن طريق التفكير الحر المستقل أي عن طريق النقد! يشرح كانط في السطور التالية مفهوم التنوير، ويختمها بترديد الشعار الذي رفعه العصر كله في عبارة «هوراس»: «تشجع على المعرفة!» وهو شعار يمكن أن يكون بداية وخاتمة، بل لعله أن يكون «أمرا مطلقا» يتوجه به فيلسوف الواجب إلى ضمير القارئ. ويواصل شرح التعريف الذي وضعه في البداية مع تكرار صورة الوصي والقاصر التي يبدو من حديثه أنها صورة موفقة في التعبير عن عصر التنوير بقدر ما هي محببة إلى قلب «حكيم كونجزبرج»، الذي كانت فلسفته النقدية دعوة للتفكير والوجود الحر المستقل، بعيدا عن الفرض والوصاية التي عاناها في طفولته وشبابه وعانتها معه طبقات الأرقاء من الفلاحين والعمال وصغار الموظفين المضطهدين في ظل الإقطاع والاستبداد البروسي الصارم.
وينتقل كانط بعد ذلك من تنوير الفرد إلى تنوير الرأي العام، فيشترط وجود الحرية في الحالين. وعندما تتوفر هذه الحرية يصبح التنوير أمرا لا مفر منه، ولا غنى عنه، ولكن من ذا الذي سيقوم بالتنوير؟ من سيؤدي دوره في توجيه «الجمهور»؟ إنهم القلة أو الصفوة كما نقول اليوم، هم علماء الشعب وكتابه الذين يتجهون إليه، ويفتحون عيونه على العيوب والأخطاء والأحكام المغرضة التي تفسد عليه شئون حياته السياسية والاجتماعية والدينية والعلمية ... إلخ.
ويتطرق كانط إلى موضوع الثورة - التي نادى بها، وعمل لها الكثيرون في أيامه متأثرين بالثورة الفرنسية - فيرفضها من حيث المبدأ. فالثورة في رأيه تعجز عن إحداث «الإصلاح الحقيقي في أسلوب التفكير». ولهذا يستدل بهذا الإصلاح، أي تربية العقل الإنساني تربية تحفزه على التفكير النقدي الحر بنفسه ولنفسه، وترتفع به إلى الإنسانية المستنيرة المسئولة. ولا يصح أن نستنتج من هذا أن رفضه للثورة هو رفض للثورة الفرنسية. فقد رحب بها، واستبشر بفجر الخلاص على يديها عندما شبت نيرانها، واعترف صراحة بوقوفه إلى جانب أفكارها الأساسية عن الحرية والإخاء والمساواة، على الرغم من الأخطار التي كان يمكن أن يتعرض لها - وهو المعلم البروسي المتواضع الحال - بإدراج اسمه في القائمة السوداء! ولقد عبر عن موقفه الثابت من الثورة الفرنسية في أحد كتبه الصغيرة التي كتبها في أواخر حياته (وهو نزاع الكليات الذي صدر سنة 1798م)، وذلك بعد سنوات من انتهاء المجزرة التي أثارت سخط كبار الإنسانيين، وجعلتهم يتحفظون في حكمهم عليها (ومن أهمهم جوته وشيلر). يقول كانط في هذا الكتاب: «إن ثورة شعب ذكي، نراها في هذه الأيام دائرة أمام أعيننا، يمكن أن يكتب لها النجاح أو الإخفاق ، ويمكن أن تمتلئ بالشقاء والفظائع، بحيث يستحيل على إنسان حسن الطوية لو قدر له أن يقوم بها مرة أخرى، وينفذها بطريقة يرجى منها الخير - يستحيل عليه أن يقرر إجراء هذه التجربة مع كل التضحيات التي كلفتها - أقول إن هذه الثورة لتصادف في وجدان جميع المتابعين لها (الذين لم ينخرطوا في لعبتها) مشاركة حارة توشك أن تبلغ درجة الحماس، كما كان التصريح بها مرتبطا بالخطر، وليس لها من سبب إلا الاستعداد الأخلاقي المغروس في طبيعة الجنس البشري.»
الحرية إذا وقبل كل شيء! فهي الأساس الذي يقوم عليه التنوير، والشرط اللازم لوجوده وانتشاره بين الناس. والمقصود بهذه الحرية عند كانط هي حرية الكلام، وحق إبداء الرأي الحر قولا وكتابة، ولكنه يؤكد أقل أنواع الحريات ضررا، ألا وهي حرية الاستخدام العلني للعقل، أو حرية ممارسته صراحة في كل ما يمس الصالح العام، ولكن من الذي يملك هذا الحق؟ يعود كانط فيحدد مفهومه للاستخدام العلني للعقل، ويقصر حرية الكلام على الحرية الأكاديمية، أو حرية العلماء في استعمال عقولهم وعرض آرائهم على قرائهم. ويبدو أن كانط يعتمد في هذه الفكرة على ما يمكن أن نسميه دهاء العقل (وهو هنا شيء مختلف عما يقصده به هيجل!) فهو يصف هذه الحرية العلنية التي يطالب بها بأن تكفلها الدولة للعلماء بأنها «أقل الحريات ضررا»، وكأنه يريد أن يطمئن السلطة، ويهدئ خاطرها، ثم لا يلبث أن يضع ثقته في العقل الذي يبدأ عمله بإقناع المتخوفين بأقل الحريات ضررا؛ لكي ينتقل بعد ذلك إلى تبصيرهم بضرورة حريات أخرى أخطر وأكثر ضررا.
ويرتبط مفهوم الاستخدام العلني العام للعقل بمفهوم آخر استحدثه كانط في لغته، وهو مفهوم الاستخدام الخاص الذي يقتصر فيه العقل على مجال الوظيفة أو المهنة أو ما نسميه اليوم ب «الدور الاجتماعي». ويمثل كانط لذلك بالضابط ودافع الضرائب ورجل الدين الذين يسمح لهم - باعتبارهم علماء فحسب - أن يوجهوا النقد الحر كما يشاءون، ويحرم عليهم هذا النقد في دوائر عملهم وواجباتهم الوظيفية التي تفرض عليهم طاعة الأوامر، حتى لا يضطرب نظام الدولة وأمنها واستقرار نظمها ومؤسساتها ... والسؤال الذي يلح على الخاطر في هذا الصدد هو هذا السؤال: هل يمكن أن ينفصل «الشخص العاقل» عن «الموظف» في إنسان واحد؟ إن أحد الفلاسفة المعاصرين يرجع هذا الفصل العجيب إلى جذوره التاريخية عند لوثر، كما يجد نظيرا له عند روسو الذي فرق بين «الإنسان» و«المواطن»، وقابل بينهما مقابلة الضد للضد (هربرت ماركوزه، السلطة والعائلة، 1936م) والأسباب التي دعت كانط - سليل الفقراء الكادحين والمعلم المسكين في ظل التنين - إلى الاقتصار على الثورة العقلية أسباب متعددة ومتشابكة. فهو إذا كان يرفض الثورة من حيث المبدأ، فإنه ينادي بالإصلاح، ويؤكد إمكانه وضرورته عن طريق النقاش العلمي العلني الذي يبصر الحاكم أو الأمير بحقائق الأمور، وبحثه على تغيير الفاسد والمعوج منها. وطبيعي أنه لن يقدم على شيء من هذا، إلا إذا كان حاكما أو أميرا مستنيرا يتوفر لديه الاستعداد «لتوحيد الإرادة الشعبية بأكملها في إرادته». وكأن الفرصة الوحيدة للإصلاح في ظل الاستبداد المطلق - الذي عاش كانط نفسه في قبضته وواجهه بثوريته الحكيمة ولم ينج في النهاية من غضبه وتهديده - تكمن في خضوع صاحب السلطة الفعلية لأصحاب السلطة الفكرية والعلمية، ولكن متى خضع أولئك لهؤلاء؟ وهل يكفي أن يكون الحاكم مستنيرا ليستجيب لنور العقل الحر؟ أم أن هذا العقل الحر يحتاج إلى إرادة شعبية تنقل أفكاره إلى قلب الواقع، وتغير به وجهه الكئيب؟! كما أن هذه الإرادة الشعبية بحاجة هي الأخرى إلى الاستنارة، حتى يفرض التنوير نفسه، وينطلق من أسفل إلى أعلى، لا من أعلى إلى أسفل، كما حدث ويحدث في معظم الأماكن والأزمان، وخصوصا في الشرق المسكين منذ آلاف السنين؟!
نكتفي بعد إلقاء هذه الأسئلة بأن نقول إن لكانط عذره أو أعذاره التي ألمحنا إليها، وأنه لم يذكر في مشروعه هذا أي ضمانات قانونية أو دستورية لنشر التنوير من أسفل إلى أعلى، اللهم إلا صدق الأمير المستنير وحسن نيته. إنه يرسم صورة الإصلاح الممكن في مجتمع أبوي كان يرفضه من صميم قلبه، ولكنه لم يجد حيلة أمام ضعف حيلته، فقرر في النهاية - وبحكم إيمانه بالنظام والواجب والعقل - أن يقف في صف الأمن والنظام والاستقرار. ويبقى السؤال آخر المطاف قائما: ألا يؤدي الوقوف مع استقرار الدولة الغاشمة إلى تقويض فكرة التنوير العام لسائر طبقات الشعب، وتدمير التنوير نفسه؟ مهما يكن من شيء، فإن لموقف كانط جذوره وأسبابه التاريخية، التي ما تزال فعالة ومؤثرة، بحيث يمكن أن نتتبع خيوطها المتصلة من كانط - بل من لوثر وروسو كما ذكرنا - إلى شروح هربرت ماركوزة عن «التسامح المكبوت»، الذي يدفع بعض أنظمة الحكم إلى السماح لأعدائها بحرية الكلام والتعبير، بشرط ألا يجاوزوهما إلى السلوك والفعل (ماركوزة، نقد التسامح الخالص، فرانكفورت، 1966م، ص97) ويبدو أيضا أن الظروف التاريخية جعلت كانط يركز في مقاله على التنوير على «أمور الدين» التي جعلها محور حديثه. وحديثه في هذا السياق جدير بأن ننتبه إليه، ونتعلم منه، خصوصا في أيامنا هذه التي يحتدم فيها النقاش حول تطبيق الشريعة، ويتدخل فيه العلماء الأجلاء جنبا إلى جنب مع الجهلاء والأدعياء. إن عدم بلوغ الرشد والقصور في الأمور المتصلة بالدين هو في رأيه أشد أنواع القصور ضررا وأكثرها إهانة للإنسان. وأهم ما يهمه في هذا الشأن هو إعلان استقلال الإنسان - إن جاز هذا التعبير - والدفاع عن طبيعته وحقيقته، وحقه المقدس في التقدم على طريق التنوير. ولقد جاءت العقبة الكبرى أمام التنوير (في القرن الثامن عشر) من بعض رجال الدين الذين أساءوا فهم الدين نفسه، وتصوروا أو صوروا للناس أن التنوير مرادف للكفر ومعاد للكنيسة، ولم تأت أبدا من جانب العلوم والآداب والفنون، ولا من جانب العلماء والأدباء والفنانين الذين لم تقيد حرياتهم، ولم يخضعوا للرقابة الصارمة إلا في القرون التالية،
1
ولا عجب أن يصف كانط عصره بأنه عصر فريدريش؛ إذ كان هذا الملك البروسي المستنير مقتنعا تمام الاقتناع بحرية كل إنسان في أن يلتمس خلاصه الروحي بالطريقة التي يراها، ولكن الأحوال لم تدم لأحد؛ إذ سرعان ما تغيرت بعد موت فريدريش الثاني هذا، واصطدم كانط نفسه بالسلطة التي حذرته سنة 1794م (على إثر صدور كتابه عن الدين في حدود العقل وحده) من التعرض لأمور العقيدة المقدسة، وبدأ الهجوم الضاري على التنوير وعصره.
يختتم كانط مقاله بالتعرض لمشكلة التنوير من الناحية السياسية والاجتماعية. والواقع أن من يقرأ الفقرات الأخيرة من المقالة، لا يستطيع أن يقرر إن كان الباعث عليها هو خوفه من الفوضى والتمرد، أو حرصه على بيان الاعتراضات والحجج التي يبديها أنصار الأمن والاستقرار وأعداؤه على السواء، فالصورة التي يلجأ إليها عن القشرة والبذرة توحي بأنه يساند المفارقة القديمة المتجددة التي تدعي أن التنوير لا ينتشر، ولا يزدهر إلا في حماية جيش منظم كبير العدد «يضمن الأمن العام»، هل يلجأ كانط مرة أخرى إلى «دهاء» العقل؟ إنه يقدم في العبارات الأخيرة من المقال نوعا من «جدل التنوير» الزاخر بالمفارقات العجيبة؛ إذ يمكن في النهاية أن تؤثر بذرة التنوير أو الميل الفطري إلى التفكير الحر على الشعب، فتزيد حريته الفكرية، وربما أثرت على المبادئ والأصول التي يرتكز عليها نظام الحكم نفسه. ويكفي كانط شرفا أنه أكد أن هذه البذرة لا بد أن تشق القشرة الصلبة المحيطة بها، ولا بد أن يستنير الشعب، ويخترق الوصاية المفروضة عليه، ويحقق حريته الحقة في النقد والتفكير بنفسه؛ لكي يتسنى له تغيير نفسه وواقعه ومجتمعه. •••
توالت المقالات في المجلة السابقة الذكر - قبل أن تصادر نهائيا ويرحل أصحابها من برلين - وشارك في إلقاء الأضواء على التنوير مختلف الأدباء والمفكرين. وقد أسهم في الدعوة إلى التنوير - قبل كانط ومندلسون وبعدهما - رجال من أمثال ليسنج وهيردر وشيلر وفيلاند، كما هاجمه وحمل عليه رجال آخرون - مثل هامان وياكوبي - مهدوا لظهور حركة مضادة اتهمت حركة التنوير بالسطحية والضحالة، وتبلورت في النهاية في الحركة الرومانتيكية. ومن الصعب أن نتابع كل ما كتب في هذا المجال ، وما يزال يكتب إلى يومنا الحاضر. ويكفي في هذا المجال المحدود أن نسجل لحركة التنوير أنها اهتمت بتقدم الإنسان على طريق العقل، والعلم، والحقيقة، والديمقراطية، والإنسانية، والتسامح، والإخاء البشري، وأن الهجوم عليها واتهام أصحابها بالكفر والخروج على نظم الجماعة وتقاليدها لم يستطع أن يلغي تراثها العظيم في تأكيد إنسانية الإنسان، وحقه المقدس في الحرية والتطلع إلى مستقبل لا تلبد سماءه خفافيش الجهالة والتعصب وظلمات الخرافة والوصاية. وليتنا - نحن العرب وأبناء العالم الثالث بوجه عام - نتعلم من درس التنوير، ونرفع راياته؛ لنواجه بها جحافل الجهل والتطرف والتخلف الزاحفة علينا. ليتنا نقتنع أخيرا بأن تنوير عقول الناس لا غنى عنه للحياة الجديرة بأن يحياها الإنسان، وأن التنوير نفسه لا يستغني عن نظام الحكم الحر الذي يحقق إرادة الشعب في التقدم. وأخيرا ليت هذا المقال يساعد على السير خطوة واحدة على هذا الطريق.
الإجابة على سؤال: ما هو التنوير؟
أمانويل كانط
التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه. وهذا القصور هو عجزه عن استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر. ويجلب الإنسان على نفسه ذنب هذا القصور عندما لا يكون السبب فيه هو الافتقار إلى العقل، بل إلى العزم والشجاعة اللذين يحفزانه على استخدام العقل بغير توجيه من إنسان آخر. لتكن لديك الشجاعة لاستخدام عقلك،
1
ذلك هو شعار التنوير.
إن الكسل والجبن هما علة رضاء طائفة كبيرة من الناس بأن يبقوا طوال حياتهم قاصرين، بعد أن خلصتهم الطبيعة
2
منذ أمد بعيد من كل وصاية غريبة عليهم، وهما كذلك علة تطوع الآخرين بفرض الوصاية عليهم. ويبدو الأمر وكأن كل واحد منهم يقول لنفسه: إن الوصاية علي لمريحة! وما دمت أجد الكتاب الذي يفكر لي، والراعي الروحي الذي يغني ضميره عن ضميري، والطبيب الذي يقرر لي نوع الطعام الصحي الذي أتناوله، فما حاجتي لأن أجهد نفسي؟ ليست هناك ضرورة تدعوني للتفكير، ما دمت أقدر على دفع الثمن، وسوف يتكفل غيري بتحمل مشقة هذه المهمة الثقيلة. أما أن أغلب الناس (وفيهم الجنس اللطيف بأكمله) يشفق على نفسه من التقدم خطوة واحدة على الطريق إلى الرشد، ويعدونه أمرا شديد الخطر عليهم بجانب صعوبته ومشقته، فقد تكفل بإقناعهم بذلك أولئك الأوصياء الذين تكرموا بالإمساك بزمام أمورهم، وتفضلوا بفرض رقابتهم عليهم. فبعد أن دمغوا بالغباء حيواناتهم الأليفة، وحرصوا كل الحرص على أن يحولوا بين هذه المخلوقات الوديعة، وبين التجرؤ على القيام بخطوة واحدة خارج «المشاية»،
3
التي حبسوا فيها خطاهم، أخذوا يبينون لهم هول الخطر الذي يتهددهم لو حاولوا السير بمفردهم. بيد أن هذا الخطر ليس كبيرا كما يدعون؛ لأنهم سيتعلمون في النهاية كيف يسيرون على أقدامهم بعد أن يتعثروا عدة مرات، ولكن مثلا واحدا يضرب لهم على بعض من سقط في الطريق كفيل بأن يخيف الناس، ويصدهم عن الشروع في أية محاولة أخرى.
من العسير إذا على أي إنسان أن يتمكن بمفرده من التخلص من هذا القصور الذي أوشك أن يصبح طبيعة ملازمة له. بل إن الأمر قد وصل إلى حد أن يعشق هذا القصور، بحيث أصبح عاجزا عجزا حقيقيا عن استخدام عقله؛ لأن أحدا لم يتح له أبدا أن يقوم بهذه المحاولة. وبقيت التعليمات والقواعد - هذه الوسائل الآلية لتلقينه كيفية الاستخدام المعقول لمواهبه الفطرية - بقيت هي أغلال القصور المستديم، وكل من تمكن من التحرر من هذه الأغلال لم يستطع أن يقفز فوق أضيق الحفر إلا قفزة غير مطمئنة؛ وذلك لأنه لم يتعود على مثل هذه الحركة الحرة. ولهذا لن نجد إلا قلة ضئيلة استطاعت بفضل استخدامها لعقولها أن تنتزع نفسها من الوصاية المفروضة عليها، وتسير بخطى واثقة مطمئنة.
ومع ذلك، فإن قيام الجمهور
4
بتنوير نفسه هو أولى الأمور وأقربها إلى الاحتمال، بل إنه - إذا أوتي الحرية التي تمكنه من ذلك - لأمر لا مناص منه تقريبا. إذ سيتوفر في هذه الحالة - حتى بين أولئك الذين عينوا أوصياء على عامة الناس - عدد ممن يفكرون بأنفسهم وينشرون حولهم، بعد أن ينفضوا عن كاهلهم نير الوصاية، روح التقدير العقلي لقيمة كل إنسان وواجبه في أن يفكر بنفسه. والأمر الجدي بالنظر في هذه الحالة أن الجمهور الذي سبق أن وضعوا هذا النير على كاهله سيجبرهم بنفسه بعد ذلك على البقاء تحته، عندما يحرضه على ذلك بعض أوصيائه الذين تعوزهم القدرة على التنوير، ولهذا كان غرس الأحكام المتحيزة أمرا بالغ الضرر؛ لأنها تثأر في النهاية، حتى من أولئك الذي تسببوا هم أو أسلافهم في غرسها. ولهذا السبب أيضا لا يمكن أن يصل الجمهور إلى التنوير إلا ببطء شديد. وربما نجحت ثورة في القضاء على الاستبداد الفردي والقهر القائم على الجشع والتسلط، ولكنها لا يمكن أبدا أن تؤدي إلى إصلاح حقيقي لأسلوب التفكير، بل إن ما يستجد من أحكام متحيزة لن يستخدم - شأنه في هذا شأن الأحكام القديمة - إلا في تضليل عامة الناس وجرهم وراءه.
لكن مثل هذا التنوير لا يتطلب شيئا غير الحرية، وهو في الحقيقة لا يتطلب إلا أبعد أنواع الحرية عن الضرر، ألا وهي حرية الاستخدام العلني للعقل في كل الأمور.
بيد أنني أسمع أصوات المنادين تتردد من كل جانب: لا تفكروا،
5
فالضابط يقول: لا تفكروا، بل تدربوا. والخازن يقول: لا تفكروا، بل ادفعوا. ورجل الدين يقول: لا تفكروا، بل آمنوا (إلا سيدا واحدا في العالم
6
يقول: فكروا ما شئتم وفيما شئتم، ولكن أطيعوا!) إن في كل هذا تقييدا للحرية. فأي هذه القيود يقف عقبة في سبيل التنوير؟ وأيها لا يعرقله وإنما يسانده؟ أجيب على هذه الأسئلة بقولي: إن الاستخدام العلني العام للعقل
7
ينبغي أن يبقى حرا في كل الأوقات، وهو وحده القادر على نشر التنوير بين الناس، أما استعمال العقل استعمالا خاصا، فيجوز في أحيان كثيرة أن يقيد تقييدا شديدا، دون أن يؤدي هذا بالضرورة إلى إعاقة تقدم التنوير بصورة خطيرة. ولكني أقصد باستعمال الإنسان لعقله الخاص، ذلك النوع الذي يمارسه العالم قبل جمهور قرائه. وأما الاستعمال الخاص للعقل، فأعني به حق هذا العالم في استعماله في منصب يشغله أو وظيفة عهد إليه القيام بها في المجتمع المدني. والواقع أن هنالك بعض الأعمال المتصلة بالصالح العام للمجتمع يتطلب تدبيرها نوعا من الآلية التي تفرض على بعض أعضاء هذا المجتمع أن يكونوا في سلوكهم سلبيين، حتى يتسنى للحكومة - من خلال الإجماع الذي تصطنعه اصطناعا - أن توجههم نحو تحقيق الأهداف العامة، أو تمنعهم على أقل تقدير من تدمير هذه الأهداف. ومن الطبيعي ألا يسمح في هذا المجال بالتفكير (العقلي المستقل)؛ إذ إن الطاعة هنا واجبة. فإذا ما نظر هذا الجزء من أجزاء الآلة إلى نفسه باعتباره عضوا في مجتمع، وإذا توسع في هذه النظرة، فاعتبر نفسه عضوا في المجتمع العالمي بأسره، واتخذ صفة العالم الذي يتجه بكتاباته التي تحمل رأيه الخاص إلى الجمهور، فإن في إمكانه في هذه الحالة أن يفكر تفكيرا حرا مستقلا دون أن يكون في هذا إضرار بالأعمال التي أسند إليه القيام بها، وحكمت عليه وظيفته من هذه الناحية أن يكون سلبيا إلى حد ما. ولو أن أحد الضباط العاملين عمد إلى إثارة الجدل حول الهدف من أمر صدر إليه من رئيسه، وحول المنفعة التي يمكن أن تترتب على هذا الأمر لكان في ذلك الضرر أشد الضرر؛ لأن الواجب سيحتم عليه الطاعة. ومع ذلك فلا يصح - إن كان من العلماء الملمين بالأمور - أن يحرم من حقه المشروع في إبداء ملاحظاته على الأخطاء التي تقع في الخدمة العسكرية، وأن يعرض هذه الملاحظات على جمهوره ليحكم عليها. وليس من حق المواطن أن يمتنع عن سداد الضرائب المفروضة عليه، بل إنه ليستحق العقاب لو تعمد توجيه الانتقادات إلى هذا النوع من الضرائب الذي ينبغي عليه تسديده باعتبار ذلك فضيحة يمكن أن تتسبب في خلق متاعب عامة. ومع ذلك فإن هذا المواطن نفسه لن يخل بواجبات المواطن إذا ما استغل حقه كعالم في التعبير علنا عن رأيه في خروج هذه الضرائب عن الحدود المعقولة، أو مجافاتها للعدالة. وقل مثل هذا عن رجل الدين الذي يفرض عليه واجبه أن يجعل عظاته لتلاميذه والمؤمنين من أتباع ملته على مذهب الكنيسة
8
التي عين في خدمتها بناء على هذا الشرط.
أما من حيث هو عالم فله الحرية الكاملة، بل عليه واجب نشر أفكاره - التي وصل إليها بعد فحص دقيق وبنية خالصة - عن الأخطاء التي يرى أنها لحقت بالمذهب، كما يقضي عليه الواجب كذلك بأن يعرض على الجمهور اقتراحاته لإصلاح أمور العقيدة والكنيسة. وليس في هذا أي شيء يمكن أن يكون عبئا على ضميره؛ لأن ما يعلمه بحكم منصبه كقائم بأعمال الكنيسة إنما يقدمه باعتباره شيئا لا سلطان له عليه ولا حرية له في تعليمه حسب ما يتراءى له؛ إذ إنه يتولى تقديمه للناس نزولا على التعليمات، وباسم جهة أخرى عينته لهذا الغرض. سوف يقول: إن كنيستنا تعلم هذا أو ذاك، وهذه هي الأدلة والبراهين التي تعتمد عليها. ثم إنه يستخلص للمؤمنين من جماعته كل فائدة عملية يمكنه استخلاصها من التعاليم التي قد لا يكون مقتنعا بها تمام الاقتناع، ومع ذلك يبذل كل ما في وسعه لكي يقدمها لهم؛ إذ ليس من المستحيل أن تكون منطوية على حقيقة كامنة، وليس من المستبعد في كل الأحوال أن تكون خالية مما يناقض الدين في صميمه. فلو خالجه الظن بأن فيها ما يتناقض مع الدين لما أمكنه أن يؤدي عمله بضمير مستريح، ولتحتم عليه عندئذ أن يعتزله. وإذن فاستخدام معلم الدين المعين في هذه الوظيفة لعقله قبل جماعته المؤمنة ليس سوى استخدام خاص؛ لأن هذه الجماعة تظل على الدوام جماعة عائلية مهما زاد عدد أعضائها، ولهذا الاعتبار لا يكون رجل الدين، بوصفه قسا، حرا في تصرفاته، ولا ينبغي له أن يكون كذلك ما دام ينفذ تكليفا عهد به إليه من جهة أخرى. أما بصفته عالما يتحدث من خلال كتاباته إلى الجمهور الحقيقي، أي إلى العالم كله، أي بصفته رجل دين يستخدم عقله بصورة علنية عامة، فإنه يتمتع بحرية كاملة ولا يقيده أي قيد في استعمال عقله الخاص والتعبير عن شخصيته. ذلك أن تحويل الأوصياء على الشعب (في أمور دينه) إلى قصر يحتاجون بدورهم إلى فرض الوصاية عليهم، إنما هو تناقض سخيف، يمكن أن يؤدي إلى سلسلة لا نهاية لها من التناقضات السخيفة.
ولكن ألا يحق لجماعة من رجال الدين كالمجمع الكنسي أو الطبقة الجليلة (كما يسميها الهولنديون)
9
أن تلتزم فيما بينها بمذهب ثابت يخول لها أن تفرض على كل واحد من أعضائها، ومن ثم على الشعب، وصاية عليا مستديمة تجعلهم يرسخونها إلى الأبد؟ أجيب على هذا السؤال فأقول: إن هذا لأمر مستحيل تمام الاستحالة. فمثل هذا التعاقد الذي يهدف إلى القضاء قضاء مبرما على كل محاولة لمواصلة تنوير الجنس البشري لا بد أن يكون تعاقدا باطلا كل البطلان، مهما أيدته أعلى السلطات، وأقرته المجالس الشعبية، وروجته لجان السلام. فلا يجوز لعصر من العصور أن يجمع على التآمر على العصر اللاحق، بحيث يزج به في وضع يستحيل عليه فيه أن يوسع معارفه (وبخاصة الملحة منها)، وينقيها من الأخطاء، وأن يتقدم بوجه عام على طريق التنوير. إن ذلك لو حدث لكان جريمة ترتكب ضد الطبيعة البشرية التي تقوم ماهيتها الأصلية على هذا التقدم، وسيكون من حق الأجيال التالية أن تدين تلك القرارات التي اتخذها قوم ليسوا من أهل الاختصاص، وتعدوا فيها حدودهم بصورة آثمة. والواقع أن محك النظر في كل قانون يقرر على شعب من الشعوب يتمثل في هذا السؤال: هل يمكن أن يفرض الشعب على نفسه مثل هذا القانون؟ قد يكون هذا أمرا ممكنا، في انتظار قانون أفضل ولفترة محدودة بغية الأخذ بنظام معين، وذلك بأن يترك لكل مواطن، وبخاصة لرجل الدين بوصفه أحد العلماء، أي عن طريق مؤلفاته، حرية إبداء ملاحظاته عن عيوب النظام السابق، بحيث يستمر النظام المأخوذ به ساريا إلى أن يبلغ التبصر بهذه الأمور عند الرأي العام حد التأييد والإقرار، فتجمع الأصوات (وإن خرج البعض على هذا الإجماع) على التقدم باقتراح إلى العرش، فيكون في ذلك ما يعوق أولئك الذين يرون الإبقاء على القديم عن التمسك برأيهم. أما الاتفاق على مفهوم ديني ثابت لا يسمح لأحد بانتقاده علنا، حتى لو اقتصر ذلك على فترة تبلغ عمر إنسان واحد، والقضاء بذلك على مرحلة من مراحل تطور البشرية، وتقدمها نحو أوضاع أحسن، وجعلها مرحلة عقيمة، وبالتالي ضارة بالأجيال التالية، فذلك أمر غير جائز على الإطلاق. ربما كان لفرد واحد من الناس أن يؤجل التنوير فيما يتصل بشخصه، ولفترة مؤقتة فحسب، وفيما يلزمه العلم به ، أما أن يتخلى عنه تماما سواء بالنسبة لشخصه أو بالنسبة للأجيال القادمة، فذلك معناه انتهاك الحقوق المقدسة للبشرية ووطؤها بالأقدام. وما لا يجوز أن يقرره شعب على نفسه لا يجوز بالأولى أن يقرره ملك على شعبه. ذلك أن هيبته التشريعية إنما تقوم على أن الإرادة الشعبية في مجموعها تتحد في إرادته. وإذا كان حريصا على أن يكون كل إصلاح حقيقي أو مزعوم متجانسا مع النظام المدني، فما عليه إلا أن يدع رعاياه يفعلون ما يجدونه ضروريا لخلاص أرواحهم، إن هذا أمر لا شأن له به، وإنما شأنه أن يحول دون أن يتجرأ مواطن على منع مواطن آخر بالقوة من أن يعمل على تحقيق خلاصه الروحي بقدر ما في طاقته. وإن صاحب الجلالة ليسيء إلى نفسه بتدخله في هذه الأمور، وذلك بأن يضع المؤلفات التي يشرح رعاياه آراءهم فيها تحت رقابة الحكومة، سواء استند في هذا على رأيه السامي الخاص به، فعرض نفسه للوم وفقا للمثل القائل بأن القيصر ليس فوق النحاة،
10
أو عمد إلى ما هو شر من ذلك فحط من سلطته العليا بحماية الاستبداد الديني لبعض الطغاة في مملكته الذين يتسلطون على سائر رعاياه.
لو سأل سائل: هل نحيا اليوم في عصر متنور؟ لكان الجواب: لا، بل في عصر التنوير. ولو قسنا الأمور بالأوضاع الراهنة في مجموعها لقلنا أن الناس ما يزالون بعيدين عن استخدام عقولهم المستقلة في أمور الدين استخداما صالحا واثقا بدون توجيه من غيرهم، وأنهم ليسوا على استعداد لذلك، ولا هيئوا للقيام بهذه المهمة. ومع ذلك يمكن القول بأن هنالك من الدلائل ما يشير إلى أن المجال قد فتح أمامهم للسعي نحو تحقيق هذا الهدف بحريتهم، وأن العقبات التي تقف في وجه التنوير العام أو في وجه الخروج من حالة القصور التي اقترفوها في حق أنفسهم قد بدأت تقل بالتدريج، ومن هذه الناحية يحق لنا القول بأن هذا العصر هو عصر التنوير أو عصر فريدريش.
11
إن أميرا لا يستنكف أن يقول إنه يعتقد أن من واجبه ألا يفرض على الناس شيئا في أمور الدين، وإنما يترك لهم الحرية الكاملة في هذا الشأن، حتى ليبلغ به الأمر حد الترفع عن أن يطلق على نفسه تلك الصفة المتكبرة، وهي صفة التسامح، مثل هذا الأمير رجل مستنير يستحق ثناء العارفين بالجميل في عصره، وفي العصور التالية؛ لأنه أول من خلص الجنس البشري من القصور، على الأقل من ناحية الحكومة، وترك لكل إنسان حرية استخدام عقله في كل ما يتصل بالضمير. وفي ظل هذا الأمير يتاح لرجال الدين الأجلاء بغير مساس بواجبات وظائفهم أن يعرضوا على الجمهور - باعتبارهم من العلماء - علنا وبحرية أحكاما وآراء تخرج في هذا الجانب أو ذاك عن نصوص العقيدة التي يتفقون على الإيمان بها، وذلك لكي يفحصها الجمهور ويمحصها بنفسه، بل إن هذا ليتاح بصورة أوسع لكل رجل دين لا تقيده واجبات وظيفته. وإن روح الحرية هذه لتنتشر كذلك في الخارج، حتى في تلك البلاد التي تجد نفسها مضطرة لمناهضة المعوقات التي تضعها حكومة تسيء فهم نفسها.
12
ذلك أن مثل هذه الحكومة لا بد أن يتضح لها من المثل السابق أن الأمن العام ووحدة المجتمع لا خوف عليهما على الإطلاق في ظل الحرية. إن الناس هنا يسعون من تلقاء أنفسهم إلى الخروج من حالة الفظاظة؛ إذ لم يكن هناك تدبير متعمد للإبقاء عليهم فيها.
لقد حرصت على أن أحدد النقطة الأساسية في التنوير - وهو خروج البشر من حالة القصور التي يتحملون مسئوليتها - بالأمور الدينية بوجه خاص؛ لأن ولاة الأمر فينا لا يهتمون بأن يقوموا بدور الوصي على رعاياهم في شئون الفنون والعلوم، فضلا عن أن الوصاية في أمور الدين هي أشد أنواع الوصاية ضررا وامتهانا لكرامة الإنسان. ومع ذلك فإن تفكير رئيس الدولة الذي يساند التنوير في أمور الدين ، يمضي إلى أبعد من ذلك، ويقتنع بأن تشريعه لن يتعرض لأي خطر إذا سمح لرعاياه أن يستخدموا عقولهم في الأمور التي تتصل بالصالح العام، وأن يقدموا للناس اقتراحاتهم عن صيغة أفضل لذلك التشريع القائم مصحوبة بالنقد الحر النزيه، وملكنا الذي نجله يقدم على هذا كله المثل الرائع الذي لم يفقه فيه ملك آخر من قبل.
ولكن حتى ذلك الملك (أو الأمير) المستنير، الذي يخاف الأشباح، ولديه في الوقت نفسه جيش كبير منظم لضمان الأمن العام، يمكنه أن يقول ما لا تجرؤ على قوله دولة حرة: فكروا ما شئتم فيما تشاءون، ولكن أطيعوا! وهكذا يظهر هنا مسار غريب غير متوقع للأمور البشرية، على نحو ما يظهر في ميادين أخرى، فيبدو كل شيء فيه، إذا نظرنا إليه في مجموعه، عجيبا زاخرا بالمفارقات. فإتاحة درجة أكبر من الحرية المدنية أمر يبدو في صالح حرية التفكير العقلي عند الشعب، وإن كان يفرض عليها قيودا لا فكاك منها، وكلما قلت درجة تلك الحرية (المدنية) عمل هذا على إفساح المجال للحرية الفكرية عند الشعب؛ لكي تزدهر بقدر ما في وسعها. وإذا كانت الطبيعة قد أظهرت، من تحت هذه القشرة الصلبة، بذرة تتعهدها بالرعاية والحنو الشديد، ألا وهي بذرة الميل إلى التفكير الحر والإخلاص والتفاني في سبيله، فإن هذه البذرة ستعود وتؤثر من جديد على وجدان الشعب (بحيث يصبح بالتدريج أكثر قدرة على السلوك الحر)، بل إنها ستؤثر على الأصول والمبادئ التي ترتكز عليها الحكومة التي سيرضيها أن تعامل الإنسان - الذي ليس مجرد آلة
13 - معاملة تليق بكرامته. (1985م)
إلى أين يسير العالم؟
هبط الإنسان على سطح القمر مرتين.
وكان من حظنا - نحن أبناء هذا الزمان - أن نشهد تجربة رائعة ومخيفة في آن واحد. رائعة لأنها لا تقل في معناها عن غزو المحيطات في القرن الخامس عشر أو اكتشاف القارة الجديدة، أو الوصول إلى القطبين، أو الطيران في الفضاء. ومخيفة لأن هذه الانتصارات كان لها أثر كبير على حياة البشر؛ إذ وسعت المجال الذي يعيشون فيه، ويتنفسون ويزرعون ويحصدون ويستمدون الطاقة والغذاء، بينما الهبوط على القمر لا يمثل حتى الآن أكثر من انتصار علمي لا ندري هل ستكون نتيجته خيرا أو شرا على الإنسانية. ومن سوء الحظ أن الجهاز الضخم الذي تولى إطلاق الصاروخ والمركبة القمرية لم يرسل مع روادها شاعرا ولا فيلسوفا ليعبر لنا عن عواطفه وأفكاره، وهو يخطو على سطح ذلك الكوكب الهادئ الشاحب الجميل، ومع ذلك فلا شك عندي أن رواد الفضاء سألوا أنفسهم وهم يطئون بأقدامهم أرض القمر عن مصير أرضهم وجنسهم الذي يعيش ويتصارع عليها.
ولا شك عندي أيضا أنهم في قمة فرحتهم واعتزازهم بهذا النصر العلمي قد سألوا أنفسهم بشكل واضح أو غامض هذا السؤال الذي يؤرق زميلا لهم على الأرض يشغل نفسه بالتاريخ وفلسفة التاريخ: ماذا بعد؟ وإلى أين يسير العالم؟
والسؤال يرتبط بتاريخ البشرية العام، بهدفه ومصيره ومعناه. وليس أحق منا - نحن أبناء القرن العشرين الذين نعايش صراعا عالميا لم يسبق له مثيل أيضا - ليس أحق منا بطرح هذا السؤال الذي يتصل بمستقبل الجنس البشري على الأرض. والكلام عن تاريخ البشرية العام ومصيرها ليس مجرد كلام عن «يوتيوبيا» خيالية أو فرض علمي جذاب أو حلم جميل عن السلام. إنه ينبع من شعور عام يشترك فيه العالم والمؤرخ مع رجل الشارع الذي يقرأ الجريدة اليومية، أو يسمع الأخبار كل صباح ومساء. ففي الوقت الذي بلغ فيه العلم والتقنية (التكنيك) ذروتهما، وتطورت سرعة المواصلات ونقل الأنباء إلى حد مخيف، وتكاثر عدد السكان حتى وصل أو كاد إلى درجة الانفجار، وازداد في مقابل ذلك ضحايا الجوع أو المهددين به في وقت قريب أو بعيد، ووصلت الحرب الباردة أو الساخنة إلى مأزق لا يدري أحد كيف يكون المخرج منه، وتعددت التجارب النووية، حتى صارت أخطارها حديث كل يوم، وبلغ تأثير الإعلام والدعاية النفسية وغسيل المخ درجة تنذر بالقضاء على شخصية الفرد، وقدرته على النقد واستقلال الرأي، وكثر كذلك الكلام عن واجب التربية والمربين وأصحاب العلوم الإنسانية في إنقاذ حرية الإنسان وخلقه وتراثه أمام هذا الطوفان - في هذا الوقت المضطرب العصيب يزداد شعور البشر بطبيعة الحال بارتباط مصيرهم على هذه الأرض، وتصبح مسألة البقاء أو الفناء مسألة يطرحها الناس على أنفسهم كل يوم كما قلت - سواء في ذلك العالم الذي يشترك في صنع وتصميم القنابل والصواريخ، أو الخباز الذي يصنع رغيفنا اليومي، أو الأم التي ترضع طفلها الصغير، أو المفكر الذي يسأل عن معنى التاريخ. إن هذا المفكر يعلم أنه يجب عليه أن ينظر في الماضي والحاضر والمستقبل - لا لكي يخرج بفلسفة أو نظرية جديدة، بل لكي يوقظ الوعي بالأخطار التي تهدد الناس، ويجعل من السؤال عن معنى التاريخ العام مسألة تهم كل الذين يعيشون معه. إنه يجمع لهم حقائق الماضي، ويعرض عليهم أزماته وكوارثه ليفكروا معه في مخرج من الموقف الحاضر، هل يكون في عقيدة واحدة أو فكرة واحدة أو حكومة عالمية واحدة؟ هل يكون في مجتمع أخير تنتهي فيه كل تناقضات المصالح والطبقات كما قال «ماركس»، أم في الوصول إلى الشول والتكامل الذي تهدف إليه كل تربية إنسانية صحيحة كما قال «شيلر» وغيره من أصحاب النزعة المثالية؟ - وليس الحل هو المهم؛ لأن وظيفة المفكرين ليست هي إيجاد الحلول، بل المهم هو إيقاظ الضمير على وحدة البشر - وحدتهم من حيث الطبيعة والعقل، وحدتهم الباقية وراء اختلاف الديانات والحضارات والأجناس والمذاهب والألوان، وحدتهم من حيث النوع البشري نفسه، الذي تشغله الآن مشكلة واحدة: هل يبقى أم يفنى؟ هل يوجد أو لا يوجد؟ •••
إلى أين يسير العالم؟
سؤال ينصب على المستقبل. والمستقبل ابن الحاضر. والحاضر لا يفهم إلا من لحظات أخرى كانت حاضرة ثم انقضت، أي من الماضي. فلنرجع إلى الوراء قليلا «وهو قليل بالنسبة لعمر الحياة، بل لعمر الإنسان نفسه على الأرض.» «كل تاريخ فلسفة، وكل فلسفة تاريخ.» عبارة قالها هيجل، ولكن أليس من التهور أو الطموح الشديد أن نبدأ بهيجل؟ فلنكن أكثر تواضعا، ولنحاول أن نبدأ من البداية، من الجذور.
ليست «فلسفة التاريخ» بالكلمة القديمة. إنها ترجع للقرن الثامن عشر، وتنسب فيما أعلم لفولتير. غير أن الموضوع الذي تدل عليه أقدم من ذلك بكثير. وإن شئنا الدقة قلنا الموضوعات؛ لأن الكلمة توحي بأكثر من معنى، وأكثر من قضية ...
ما من أحد يتصدى لكتابة التاريخ لمعاصريه أو للأجيال اللاحقة إلا ويفعل ذلك عن قصد أو غير قصد في إطار فلسفة معينة، ومهما حاول أن يكون علميا وموضوعيا في تقريره للحوادث، فلا بد أن يواجه أسئلة ومشكلات تتجاوز حدود العلم، أسئلة ومشكلات عامة بطبيعتها، لا يمكن الإجابة عليها إجابة قاطعة، ومع ذلك فلا بد من مواجهتها لفهم التاريخ وموقف الإنسان: ما المصادفة وما الضرورة؟ هل هناك قوانين تحكم التاريخ؟ هل يعيد التاريخ نفسه؟ أيمكن التنبؤ بالأحداث قبل وقوعها؟ ما أثر الدور الذي قام به بعض الأفراد وهل ننسبه إليه أم إلى عصرهم؟ إلى أي مدى يمكننا أن نقارن عصرا بعصر وتطورا بتطور؟ ما الحرب؟ ما الثورة؟ ما الأزمات؟ كيف يؤثر الاقتصاد والحضارة والأديان والسياسة على مسار التاريخ، وكيف تؤثر هذه القوى على بعضها البعض؟ أسئلة كثيرة لا يستطيع المؤرخ أن يتجنبها، ولأنه لا يستطيع أن يتجنبها فلا بد أن يجد نفسه على حدود الفلسفة. ولأنه لا يريد أن يصبح فيلسوفا، بل يحب أن يظل مؤرخا، فلا بد أن يجد نفسه على حدود فلسفة التاريخ.
وهو يفلسف التاريخ أيضا كلما أعاد النظر في منهجه، وكلما سأل نفسه: ماذا يمكنني أن أعرف وبأي طريقة أعرفه؟ ماذا أستطيع أن أعرف على وجه اليقين؟ وماذا يخرج عن هذه المعرفة؟ ما الذي يستحق أن أبحث عنه؟ وما الذي لا يساوي جهد البحث؟ أي كلما وضع علمه كله موضع السؤال، وحاول أن يقيمه على أساس وطيد. قد نستطيع أن نسمي هذا نظرية المعرفة في علم التاريخ - ونظرية المعرفة فرع من فروع الفلسفة ... ومعرفة التاريخ أو نقده شيء لم يقم به الفلاسفة المتخصصون وحدهم - مثل ابن خلدون وفيكو وهيجل وكروتشه - بل قام به كذلك كثير من المؤرخين.
وأخيرا نصل إلى المعنى المألوف من فلسفة التاريخ. إنها مجموعة الآراء والأفكار التي تتأمل تاريخ الإنسان ككل ، سره الخفي، سياقه، حركته، قوانينه، القوى التي تتحكم في سيره. بهذا المفهوم تكون فلسفة التاريخ فلسفة بالمعنى الدقيق، فكرا يتأمل الإنسان والعالم، لا لأجل التأمل، بل لأن تاريخ الإنسان أو وجوده في الزمان وتغيره وتطوره عنصر أساسي في بناء كيانه. من هنا يصبح لفلسفة التاريخ معنى شامل. ومن هنا نجدها تنشأ غالبا في عصور القلق والأزمات والاضطرابات. إنها تريد عندئذ أن تفهم الحاضر - سواء اعترفت بذلك صراحة أو لم تعترف به - وربما تحاول أن تتنبأ بالمستقبل، فترجع إلى الماضي كله لتسأله عن متاعب هذا الحاضر، وما الحاضر إلا ابن ذلك الماضي. هكذا فعل هيجل، وفلسفته في التاريخ أعمق الفلسفات وأغناها. لقد رأى عصره - عصر الثورة الفرنسية ونابليون - يمر بأزمة لم يسبق لها نظير، واستنتج من هذه الأزمة نتائج طبقها على الماضي كله، فكانت فلسفته في التاريخ فلسفة الأزمات. ويصدق هذا على كارل ماركس ويعقوب بورخارت، وكلاهما - على ما بينهما بالطبع من اختلاف - مفكر أزمات. كما يصدق أيضا على أزفالد أشبنجار الذي وجد في الحرب العالمية الأولى أزمة تشبه الأزمة التي وجدها هيجل في حروب نابليون، وعلى أرنولد توينبي وما رآه في حربين عالميتين. وهو ينطبق كذلك على ذلك القديس الأفريقي الذي نستطيع أن ننظر إليه نظرتنا إلى فيلسوف للتاريخ، على القديس أوغسطين. لقد شعر أنه يحيا في عصر مضطرب حافل بالأزمات الخطيرة، ومن هذا الشعور نشأ كتابه المعروف عن مدينة الله.
هذه الأشكال المختلفة من فلسفة التاريخ يمكن أن تتداخل وتتشابك. غير أننا سنحاول أن نفرق بينها توضيحا للأمور. فالمؤرخ - طالما كان له عقل، وكان لديه الاستعداد لاستخدام هذا العقل - لا بد أن يكون فيلسوفا للتاريخ. وهو مضطر أن يفعل ذلك كما قلت سواء قصد إليه عن وعي أو لم يقصد إليه. إنه يواجه بالضرورة مشكلات تتصل بفلسفة التاريخ، ولا بد أن يدلي فيها برأي. هناك مؤرخون أصبحوا فلاسفة للتاريخ عندما وضعوا علمهم كله موضع السؤال، أي عندما حاولوا أن يقيموه على أسس جديدة. ثم هناك المؤلفات الكبرى في فلسفة التاريخ، أي التأملات النظرية في معنى التاريخ وغايته، أي ما يمكن أن نسميه ميتافيزيقا التاريخ. •••
لننظر الآن نظرة سريعة فيما حققته وما فكرت فيه فلسفة التاريخ منذ نشأتها الأولى. إن كلمة التاريخ - مثلها في هذا مثل كلمة الفلسفة - ترجع من حيث اللفظ والمضمون إلى اليونان. فالتاريخ - أو الهستوريا
Historia - كلمة تدل على البحث والفحص والنظر. واليونان الذين وضعوا أسس الفلسفة الغربية هم كذلك الذين وضعوا أسس التاريخ. ومع ذلك فإن اليونان لم يفهموا من التاريخ ما نفهمه اليوم منه، بل لم يكن من طبيعة الفكر اليوناني أن يفهمه. والسبب أنه كان يبحث دائما عن الوجود الخالد، والحقيقة الخالدة، والجمال والخير الخالدين، أي كان يبحث عن شيء، ثابت لا يتغير، في حين أن ماهية التاريخ، أي ما يحدث في الزمن، هي التغير. كان في استطاعتهم أن يعرفوا الرياضة والهندسة والأخلاق، أما التاريخ، هذا الذي يتغير ويتحول ويزول على الدوام، فلم يكن في استطاعتهم أن يعرفوه، ومن ثم فلم يكن في نهاية الأمر جديرا بالمعرفة. قد يصعب علينا أن نصدق أن مفكرا عظيما مثل أفلاطون لم يكن يهتم كثيرا بالتاريخ، ولكن هذه هي الحقيقة. إن الدولة أو الجمهورية التي فكر فيها معزولة عن جيرانها بقدر ما هي معزولة عن التاريخ. لقد تصور أنها يجب أن تبقى كما هي، أو كما كانت في تفكيره وفي محاوراته المشهورة، وهو شيء يستحيل تصوره عن دولة تعيش في التاريخ، ولا بد أن تتغير بتغيره.
وجاء أرسطو فكان أوفر حظا منه في السياسة، أو كان - كما نقول اليوم وكما أراد هو لنفسه - أكثر واقعية من أستاذه. جمع في كتبه مادة تاريخية غنية، وقارن بين الدساتير المختلفة، ونظر في مزاياها وعيوبها كما يفعل اليوم أستاذ في العلوم السياسية، ولكن اهتمامه ظل منصبا على كل ما يبقى ويدوم ويتكرر كأنه قانون لا يتغير، ونظرته ظلت معلقة بالنظام الشامل المحدود المغلق على نفسه. وقل مثل هذا عن أعظم مؤرخي الإغريق، وهو الأثيني «توكيديوس»، الذي كتب عن الحرب البليبونيزية (وهي الحرب الأهلية التي دارت على ثلاث مراحل بين أثينا وإسبرطة من سنة 431 إلى 404ق.م.) أروع تاريخ يمكن أن يخطه قلم. إنه ينظر نظرات عميقة في النشاط السياسي لبني الإنسان، في الحروب والثورات، في الصراع بين الدول والأحزاب والطبقات، في الكفاح من أجل تحقيق التوازن أو التسلط على الغير، في تأثير المصالح الاقتصادية على السياسة ودورها في التفوق في البر أو البحر. وهو كاتب موهوب، يملك القدرة على تصوير الناس والمشاهد في صور حية نكاد نراها ونلمسها، ولكن هذا المؤرخ العظيم يبحث أيضا عما يبقى ويدوم ويتكرر. إنه رجل يائس محدود الأفق ... يروي لنا تاريخ تلك الحروب البيلوبوينزية أو الحرب العالمية اليونانية، ويمر على ما سبقها مر الكرام، بل إنه ليصرح بأنه لم يسبق أن وقع حادث يمكن أن يقارن بهذا الحادث الخطير. لذلك لم يواصل أحد هذا التاريخ، ولم يكن من الممكن أن يواصله أحد. إنه كاللوحة التي لا تحتاج لمن يكملها؛ لأنها كاملة ومكتفية بذاتها، هو أقرب إلى «تاريخ معين» منه إلى «التاريخ». إنه يروي للأجيال المقبلة لكي تتهيأ لمواجهة تواريخ أخرى مشابهة قد تعرض لها؛ لأن ما حدث بين أثينا وإسبرطة سوف يحدث بين غيرها من المدن ويتكرر حدوثه طالما بقيت الطبيعة البشرية على حالها. وهل تتغير طبيعة البشر؟
إن كانت هذه فلسفة تاريخ فهي فلسفة يائسة، خالية من كل عزاء، بل هي لا تبحث عن معنى ولا أمل ولا عزاء؛ لأن التاريخ في نظرها يتساوى مع الطبيعة، ولأنها لا تجد فيه غير حلقات مملة متكررة من آلام وكوارث، وميلاد ونمو وموت، وصراع من أجل الوجود، وغرور وانتقام واندثار. •••
هذه الأفكار كلها تتردد في العصر الحديث. فكتابات شوبنهور عن التاريخ لا تختلف كثيرا عن هذه المعاني، وفهمه له لا يكاد يفترق عن فهم أفلاطون. إنه يشبهه في ضعف إحساسه بالتاريخ، وقلة اهتمامه به، وعدم إيمانه بقيمته أو جدواه. ما من جديد عنده، فنفس الشيء يتكرر على الدوام، والاختراعات التي اكتشفت في حياته كالسكة الحديدية والبرق لم تغير من الأمر شيئا . نفس الشيء دائما. شر كثير وخير قليل. نفس الشيء إلى الأبد ومنذ الأزل. سواء اختلف فلاحان على قطعة أرض أو تنازع ملكان على دولة. سواء تعلق الأمر بأثينا وإسبرطة، أو بروسيا وفرنسا، أو أمريكا وروسيا . من العبث أن نبحث في التاريخ عن حقيقة أو رجاء. نفس الرأي الذي قاله به شوبنهور منذ مائة وعشر سنوات، وتوكوديدس منذ ألفين وثلاثمائة وخمسين سنة. وهو أيضا نفس الرأي عند الإغريق والرومان الأقدمين، مع فروق قليلة. صحيح أن الرومان أضافوا للوعي التاريخي أبعادا جديدة في المكان والزمان. فقد امتدت حدود دولتهم من اسكتلندا إلى شواطئ الفرات، وأحسوا إحساسا واعيا بتاريخ دولتهم الطويل منذ تأسيسها - وهو مشروع جريء، لم يكن ليقدم عليه مؤرخ إغريقي، بل لم يكن ليتصوره أو يفكر فيه - وصحيح أيضا أن إشبنجلر زعم أن الرومان لم يكن لديهم إحساس بالديمومة أو البقاء، ولم يكن يعنيهم الماضي ولا المستقبل، وذلك على عكس المصريين القدماء. وقد يتفق هذا الزعم مع تصور إشبنجلر لتاريخ الحضارة بوجه عام، ولكنه لا يتفق مع الواقع في شيء. فالأهرامات قد بقيت حقا إلى يومنا الراهن، ولكن ألم تبق كذلك قبور الرومان ومعابدهم على طريق آبيا (الفيا آبيا)؟ ألم تبق الكتابات والنقوش التي حفروها عليها؟ الرومان لا ينقصهم الإحساس بالبقاء، ولكن ينقصهم شيء آخر. شيء هو عكس البقاء تماما. ينقصهم الإحساس بالتغير، بالتحول، بالصيرورة، بالجدة، أي الإحساس بالتاريخ كما نفهمه اليوم. عجز الرومان عن فهم التاريخ وعن إدراك التغير كقوة حقيقية. وعاش مؤرخوهم وسياسيوهم الكبار - مثل بوليبيوس وشيشرون وسالوست وليكيوس وتاسيتوس وبلوتارك - في عصور شهدت تغيرات حقيقية، ولكن التغير في رأيهم كان معناه التدهور والخطر والفساد. والعصر الذهبي لا وجود له إلا في الماضي. وإحياء العادات والنظم القديمة التي أسسها الآباء هو واجب المؤرخ ورجل السياسة. كانوا محافظين في تفكيرهم، وحتى لو لم يكونوا كذلك في قرارة نفوسهم، فقد كانوا يؤكدونه في خطبهم وكتابات - هكذا حاول أغسطس أن يصور أعماله بأنها بعث للماضي وإحياء للقديم - وإن خالهم الشعور مرة بأنهم يعيشون في الحاضر أو في عصر يختلف كل الاختلاف عن العصور السابقة، فهو الشعور بأن الزمان فاسد، وأن العالم متدهور. يستوي في ذلك أن نسمع الشكوى المريرة في كتابات تاسيتوس، أو نجد الشك والارتياب في أعمال سالوست. هكذا صارت الأحوال، صار الحاضر (السيكولوم)، فما أعظم الفرق بينه وبين الماضي السعيد. لم يخطر على بال الرومان أن التغير ليس دائما دليلا على التدهور والفساد، أو أنه ليس شيئا يدعو للأسف والبكاء في كل الأحوال لم يدركوا أن التغير هو جوهر التاريخ، وأنه قد يحمل في أحشائه التطور والتقدم والأمل ... تلك فكرة ظلت غريبة عن الرومان. نحن نختلف الآن عنهم في إحساسنا بالتاريخ، واستعدادنا للتغير، وقدرتنا على التكيف. وما أكثر ما تمكن السياسيون في العصر الحاضر من مواجهة التغيرات الحاسمة بالحكمة، والتخلي عن النظم القديمة أمام الواقع الجديد (تحول الإمبراطورية البريطانية إلى ما يسمى الآن بالكومونولث من أوضح الأمثلة على هذا). أما الرومان فقد عجزوا عن هذا التكيف. لذلك انهارت الجمهورية الرومانية القديمة، وسقطت الدولة الدستورية. اعتقد الجمهوريون أنهم يستطيعون أن يحكموا الدولة الواسعة المترامية الأطراف على أساس دستور دولة المدينة الصغيرة، بل إن الدكتاتورية العسكرية التي أقامها القياصرة ظلت تتدثر بالرداء الجمهوري القديم. أما الجديد (الريس نوفا
Res nova )، فقد ظل بالنسبة إليهم شيئا محرما، شيئا غير جائز ولا مشروع.
مع هذا كله فقد أخرجت روما عددا من أعظم كتاب التاريخ. وليست عظمة هؤلاء الكتاب في أنهم عرفوا ماهية التاريخ والتطور، بل في قدرتهم الرائعة على التصوير المعبر الحي، والأسلوب المؤثر الدقيق، في الرواية الموجزة الكاملة عند سالوست، وفي العرض النفسي المتشائم العميق عند تاسيتوس. انظر إلى هذه العبارات التي لا يقدر عليها إلا كاتب عظيم: «ما من أحد توصل إلى السلطة بالوسائل الشريرة، ثم استطاع أن يستخدمها في الأهداف الخيرة»، «من طبيعة القلب البشري أن يكره من ألحق به الظلم.» ما من مؤرخ حديث استطاع أن يكتب عن الطغيان بأصدق ولا أروع من تاسيتوس. ومع ذلك فكم من مؤرخ حديث تفوق عليه وهو أقل منه شأنا. والسر بسيط أن المحدثين يحسون بالتحول في الزمن، بالتغير، بالاستمرار، بالتفرد، وكلها أشياء غريبة على الرومان. •••
هذا الإحساس، هذه الفكرة، جاءت إلى العالم الغربي عن طريق المسيحية. وصلت إليها عن طريق العهد القديم، ثم تأكدت في العهد الجديد، وظلت زمنا طويلا تحتفظ بطابعها الديني. وأصبح العالم يؤرخ للزمن بظهور المسيح، وما زلنا نؤرخ له اليوم ونحن في بداية سنة 1970م. فظهور المسيح أعطى للتاريخ معنى، خلع عليه نظاما لم يكن يعرفه في العصور القديمة. صارت السنون تحسب بين ظهور المخلص للمرة الأولى وظهوره للمرة الثانية. أصبح الزمن الذي امتد قبل ظهوره هو زمن الأمل والوعد والانتظار. أما الرومان فكانت طريقتهم في حساب التاريخ أن يسموا السنين بأسماء الماجستيرات والقناصلة، وكم كانت طريقة معقدة!
فرق كبير بين التاريخ عند الرومان وبينه بعد ظهور المسيحية. صحيح أن الوعي التاريخي في ظل المسيحية كان له وجهان مختلفان. كان هناك من آمن بأن أفعال الإنسان وأحداث العالم لا أمل فيها ولا نجاة - فالقديس أوغسطين مثلا ومن بعده البابا جريجور السابع بستة قرون يحتقران الدولة والسلطة أشد الاحتقار - ولكننا لا ندري على وجه اليقين إن كانت المملكة الأخرى، مملكة الله أو مدينته، ستتحقق في رأيهما على الأرض أم في عالم آخر. وكان هناك الوجه الآخر. فالمسيحية هي التي جعلت لفكرة الزمن قيمة وشأنا، هي التي جعلت التاريخ وكتابة التاريخ أمرا ممكنا. لا تاريخ مدينة أو دولة فحسب، بل تاريخ العالم، تاريخ البشرية «على الأرض السلام وبالناس المسرة». هكذا كانت بشارة الملائكة.
السلام على الأرض، والمسرة والمحبة للناس أجمعين. لا لشعب من الشعوب، أو دولة من الدول فحسب. هكذا كان أيضا رأي فلاسفة القرن الثامن عشر، هؤلاء الذين انفصلوا عن التراث المسيحي، وراح بعضهم - مثل فولتير وكوندورسيه - يهزءون بالكنيسة ويناصبونها العداء. المهم أن التأمل في التاريخ ككل، في منشأه وحركته وهدفه، صار أمرا ممكنا بعد المسيحية ومن بعدها الإسلام، ولم يزل كذلك إلى اليوم (والكتابة عن تصور المؤرخين المسلمين لفكرة الزمن يستحق دراسة مستقلة).
بلغ الوعي التاريخي ذروته الأولى في أوروبا في القرن الثامن عشر، أراد الإنسان أن يعرف مكانه في التاريخ، أراد أن يفهم إلى أين تسير البشرية. حاول أن يعرف سر الأحداث التي تجري حوله : كيف أصبحت فرنسا قوة ضخمة، كيف ظهرت روسيا على مسرح السياسة الأوروبية، كيف توغل الأوروبيون في العالم الأمريكي، كيف نشأ النظام البرلماني في إنجلترا. من هنا الإقبال على دراسة التاريخ الروماني (مونتسكيو وجيبون)، من هنا الاهتمام بدراسة الحضارات البعيدة كالحضارة الصينية. ومن هنا الخلاف الذي بدأ في القرن السابع عشر: لمن التفوق؟ للإغريق والرومان أم للمحدثين؟ وأخيرا هذا النشاط الهائل في جمع الوثائق وتفسير الوقائع التاريخية بشكل لم يسبق له نظير. وكم يدهشنا اليوم أن ننظر في التاريخ الذي كتبه فولتير عن عصر لويس الرابع عشر! لم يقتصر هذا الكاتب الكبير على تدوين تاريخ سياسي، بل راح يضيف إليه التاريخ الحضاري والسياسي، ويربط بينها جميعا.
صحيح أن فولتير - ومعه عدد كبير من معاصريه - قد وقفوا من الماضي موقف الرفض والاحتقار. كان من رأيهم أن ساعة الإنسانية الحقة قد بدأت، أو ستبدأ في مستقبل أفضل، ولكنهم وجدوا أنفسهم مضطرين إلى معرفة الماضي معرفة تامة؛ لكي يستطيعوا التحرر من خرافاته وأنظمته البالية. لذلك فقد يدهشنا أن هؤلاء الكتاب الثائرين قد أسهموا في تجميع قدر كبير من المعلومات والحقائق التاريخية الحية، على الرغم من ازدرائهم للعصور الوسطى المسيحية، وتجنيهم عليها بصورة تبدو لنا اليوم ظالمة بعيدة عن الإنصاف.
على أن غرورهم واحتقارهم للماضي لم يبق بغير أثر. فإذا كان فولتير قد أسرف في السخرية بالعصور المظلمة، وخرافات رجال الدين، وإذا كان العصر الوسيط لم ينج من هجوم رجل حكيم مثل كانط الذي وصفه بأنه «ضلال غير مفهوم للعقل البشري»، فقد كان هناك من أنصف الماضي، وأحس بقيمته وجماله. كذلك فعل «جوته» في شبابه، وكذلك فعل الرومانتيكيون الإنجليز. من هذه الاتجاهات المتعارضة المتباينة من حركة «عصر التنوير»، التي أسرفت في ثقتها بالعقل، وفي عدائها للماضي، من الحركة الرومانتيكية التي أحبت ذلك الماضي، وعكفت على إحياء أدبه وجمع تاريخه، ومن الأحداث المهمة التي اضطرب بها العصر، انتصارات بروسيا على عهد فردريك الأكبر، حصول أمريكا على الاستقلال، الإصلاحات التي تمت في النمسا، وأخيرا تلك الكارثة الرائعة - الثورة الفرنسية - من هذا كله انبثق عدد كبير من المؤلفات التي حددت الوعي التاريخي الأوروبي في العقود الأولى من القرن التاسع عشر، نذكر منها كتاب «هردر» أفكار في فلسفة تاريخ الإنسانية، ومقال كانط «أفكار عن تاريخ عام من وجهة نظر عالمية»، ورسالة «شيلر» معنى التاريخ العام والغاية من دراسته، وأخيرا أعمال ذلك الرجل الذي عرف هذه المؤلفات كلها، وأفاد منها وحقق في فلسفة التاريخ شيئا لم يسبق إليه، وقد لا يلحق فيه، ونعني به هيجل.
كل هؤلاء المفكرين يتفقون في إيمانهم بمعنى التاريخ وبرسالة الإنسانية. ومع أنهم يختلفون في موقفهم من المسيحية، فلولا التراث المسيحي لما كان من الممكن أن يصلوا إلى هذا الإيمان، ولا إلى هذا الوعي التاريخي، إنهم جميعا - وهردر يقل عنهم بعض الشيء - يعتقدون أن الحضارة الأوروبية هي الحضارة التي ألقى عليها القدر العبء التاريخي الأكبر، وهي التي ينبغي أن تنهض به في المستقبل. •••
في سنة 1784م ألف «كانط» مقاله الرائع السابق الذكر «أفكار عن تاريخ عام من وجهة نظر عالمية» (وقد ترجمه أستاذنا عبد الرحمن بدوي في كتابه عن النقد التاريخي)، ثم عالج الموضوع بصورة أوسع في كتابه عن السلام الدائم (وقد ترجمه أستاذنا عثمان أمين). والمقال والكتاب يتناولان مشكلة التاريخ البشري العام، ويبدو أن شيئا غريبا لا يكاد الإنسان يصدق أنه صدر عن مفكر وحيد وبعيد عن صراع المصالح ومشكلات السياسة والسياسيين في عصره، ولكنهما مع ذلك يبدوان لنا اليوم معاصرين إلى أقصى حد، حتى ليوشك الحكيم الطيب العجوز الذي لم يغادر مدينته كونجسبرج أن يكون قد تنبأ بمشكلتنا الكبرى التي نعاني منها صباح مساء. ويقوم المقال والكتاب على افتراض - لا مجرد حسن نية - أن الإنسان قادر على أن يصل بنفسه إلى الكمال الذي تحدث عنه شيلر والمثاليون الإنسانيون من قبل، كما يقوم على الثقة في الانتصار النهائي للإنسان، باعتباره الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يحكم عقله. اقترح كانط في مقاله أن يكون الهدف من تاريخ الإنسانية هو تحقيق الإنسان نفسه بكل ملكاته ومواهبه النبيلة ، في ظل اتحاد أو عصبة أمم، ولغاية كبرى هي ضمان سلام دائم منظم وطيد الأركان. ولا تتحقق هذه الغاية إلا إذا توفرت للإنسان فكرة عن ماضيه بالمعنى الشامل، الذي لا يقف عند حدود الأمم والجماعات. وكانط يمهد لهذا التاريخ حين يبين الخط الصاعد، الذي سار فيه العقل الإنساني إلى مزيد من الوضوح، ومزيد من الإنجازات العلمية.
غير أنه يلاحظ - في حزن لا يستغرب من الحكماء - أن هذا التطور في الحضارة والمدنية لم يصاحبه تطور في الضمير والأخلاق نفس العلة التي نشكو منها اليوم، وتكاد تدفع بالشرية إلى حافة الهاوية. ولذلك فإن واجب الإنسان في المستقبل هو الوصول بالأخلاق إلى مستوى العلم، وإلا جاء اليوم الذي تضطره فيه الطبيعة أو على الأصح يضطره التاريخ إلى شيء كان من الممكن أن تعلمه إياه الأخلاق أو العقل العملي كما يسميه، أي يأتي اليوم الذي تتطور فيه أساليب الحرب المهلكة إلى الحد الذي تجد فيه الدول نفسها أمام اختيار واحد لا مناص منه، فأما فناء الحضارة وانتحار البشرية جمعاء، أو تنظيم الدول ذات السيادة على أساس العقل في عصبة أمم ترعى السلام العالمي.
ولكن ما هو موقف كانط من عذاب البشرية المتصل على مر التاريخ؟ ما رأيه في الكوارث والأزمات التي ألمت بها، وألوان الخراب والدمار التي لم تكف عن تدبيرها لنفسها؟ الجواب أنه ينظر إلى الإنسانية «ككل»، بحيث تبدو كل الكوارث والأزمات أشياء مؤقتة أو محلية. أما التقدم والتطور - تقدم العقل وتطوره - فهو ثابت ومستمر، بل إن العناية الإلهية قد شاءت أن تكون ألوان الدمار والعذاب التي عانتها الإنسانية وتعانيها هي الطريق الذي يصل بها إلى التبصر والتعقل، لا بل يفرضها عليها فرضا، ولكن هل تقطع هذه الثقة في العقل كل أسباب الشك واليأس؟ هل صحيح أن الإنسان يتطور وينضج جيلا بعد جيل؟ وما العمل إذا احتكم لغريزته الأصلية كما فعل في كل العصور؟ وما العمل إذا كانت الهوة لا تزال سحيقة بين العلم والسلوك، بين العقل والضمير، بين التقنية والأخلاق؟ الغريب أن هذه الشكوك ليست جديدة. لقد ثارت في نفوس الناس في حياة كانط. ففي سنة 1800م رد أحد الصحفيين من أهالي برلين، ويدعى فريدريش جنس، على كانط بكتاب من تأليفه سماه «عن السلام الدائم»، وحاول أن يرد فيه على تفاؤله، فقال بالحرف الواحد: «... وحتى لو استطاع الجنس البشري بأسره أن يصل إلى أكمل دستور شرعي بين أعضائه، فإن المادة العدوانية الكامنة في الدوافع الغريزية الغلابة سوف تزعج هذا النظام في كل لحظة، وسوف تبقي على التناقض الأبدي بين قانون العقل الذي يوحي دائما بالسلام، وبين قانون الطبيعة والفطرة الفجة الذي يريد الحرب على الدوام.»
هذا التناقض القائم بين العقل والطبع أو بين العلم والخلق مسألة قديمة، وإن كان وعينا بها اليوم قد ازداد حدة. وتاريخ الحضارات المعروفة ليس في الحقيقة إلا سجلا عامرا بالضعف والتهور والكذب والشر والغدر والاضطراب. وليس هذا كله كامنا في الطبيعة أو الغريزة الفطرية وحدها كما يقول الصحفي البرليني، بل المشكلة أن «الدودة» كامنة في العقل نفسه منذ البداية ... مهما يكن من شيء، فلا يسع المتأمل للظروف التي نمر بها اليوم إلا الإعجاب بهذه الفكرة التي تعد من أعمق وأصدق ما عبر عنه حكيم كونجسبرج الطيب العظيم. •••
فإذا انتقلنا إلى «شيلر» وجدناه يسير في أفكاره التاريخية في نفس الخط الذي سار فيه «كانط». لقد كان في شبابه أشد حماسة من هذا «الحكيم العالمي»، كما كان يسميه في نظرته إلى الحاضر السعيد، بل كان من رأيه أن الماضي كله لم يكن له هدف إلا الوصول إلى هذا الحاضر المنعم بالحرية والكرامة والأمل. فلما بدأ يكتب التاريخ بنفسه بدلا من الاكتفاء بتأمله من بعيد، شغله الواقع الحي عن فكرته الكانطية الأولى، وأخذ يصور الناس والأحداث كما كانوا في الواقع، دون أن يعني نفسه بالأهداف والنتائج البعيدة. لم يكن كانط مؤرخا. أما شيلر، فكان يملك الحاسة الدرامية القوية بالتاريخ، بالصراع الرهيب بين الدول، بالعواطف الرفيعة أو الوضيعة التي تتحكم في الأفراد، وربما استغرقه هذا الإحساس الدرامي بالماضي، فأنساه تأملاته المثالية في التاريخ العام. ويكفي أن نقرأ مسرحياته التاريخية - وفي مقدمتها ثلاثيته الكبرى عن فالنشتين - لنعرف أنه شاعر التاريخ الأكبر بغير نزاع. •••
كذلك كان هيجل مؤرخا أصيلا، يملك النظرة الناقدة التي تلم بحقيقة الدولة الحديثة، وتميز بين روح عصر وعصر. وإذا كانت المثالية والواقعية لا تجتمعان دائما عند شيلر - فكثيرا ما نسي تأملاته الفلسفية كما قدمت في غمرة انشغاله بالوثائق والوقائع - فقد تلاقى الجانبان تلاقيا تاما عند هيجل، وكان المثال والواقع عنده شيئا واحدا. ولعل هذا هو سر مشروعه التاريخي والفلسفي الهائل الذي يأخذ النفس بطموحه وروعته، كما يحيرها بطموحه وتعقيده.
تاريخ العالم في رأي هيجل هو تاريخ العنف والقسوة.
وإذا كانت قد مرت به عصور عرف فيها السعادة والأمن والسلام، فإن هذه العصور لا تهم فيلسوف التاريخ في شيء. إن عصور السعادة هي أوراق التاريخ الجافة الذابلة. أما أوقات الرعب والهول، والحروب والثورات، وآلام الوضع ومتاعب النمو، وعذابات الاحتضار في تاريخ شعب أو حضارة. أما هذه فكانت هي المعقول، كانت هي الفكرة في تحققها.
سار تاريخ العالم دائما بمقتضى العقل. وكانت النتيجة دائما هي الصواب، انتصر من يستحق الانتصار، واندثر من وجب عليه الاندثار. القوة والحق هنا شيء واحد. العقل والواقع نفس الشيء.
كل أشكال السلطة والحكم والحضارة عاشت فترة من الزمن، ثم اختفت من المسرح عندما آن أوان اختفائها. كان المؤرخون وفلاسفة التاريخ الأوروبيون قبل هيجل يعتقدون في وجود أزمة واحدة كبيرة مرت بها الإنسانية الحديثة وتحررت. واعتقد هيجل أيضا بوجود هذه الأزمة، وتأثرت أعمق التأثر بأحداث الثورة في أمريكا وفرنسا. غير أنه عمم هذه الفكرة الجديدة عن أزمة التاريخ على الماضي كله. فالتاريخ عنده هو تاريخ الأزمات، سواء أكانت أزمات سياسية أو عقلية أو أخلاقية. من خلال كل أزمة، وكل ثورة، وكل اندحار أصاب إحدى الحضارات لترتفع مكانها حضارة جديدة بلغ العقل البشري أو العقل الكلي درجة أعلى، والنتيجة أن العقل قد بلغ الآن - أي في عصر هيجل - أعلى درجة في تنظيم الدول الأوروبية - في الدولة الدستورية أو الدولة الليبرالية التي لم تصل بعد إلى الديمقراطية - كما بلغ أعلى درجات في التفكير الفلسفي (أي في فلسفة هيجل نفسه). انتهى الفيلسوف إلى هذه النتيجة دون أن يكشف لقرائه عن تصوره لما سيكون عليه المستقبل. ولم تكن فلسفته فلسفة مستقبل، بل كانت تحتقر كل تفكير مثالي (أو يوتوبي). فاليوتوبيا (بمعناها المشتق من الكلمة اليونانية) تدل على ما لا وجود له في أي مكان، أي ما لا وجود له إلا في رأس المفكر وحده. أما هيجل، فيريد أن يفهم ما هو موجود «فالموجود أو الواقعي هو العقل أو المعقول». ولا وجود في الواقع إلا للحاضر وحده، وللماضي الذي أدى إلى هذا الحاضر، ويمكن معرفته والإلمام به. وليس يليق بالفيلسوف أن يفكر فيما يمكن أن يصير إليه هذا الحاضر حين يصبح ماضيا، أي لا يليق به أن يفكر في مستقبل ليس له وجود.
بهذا المعنى كان هيجل مفكرا محافظا إلى أقصد حد، مفكرا تأمليا لا يريد أن يصل إلى شيء عملي. فالشيء العملي قد تحقق بالفعل، والمهم الآن أن يفهم ويوضع في الصيغة الفلسفية المناسبة. وبهذا المعنى أيضا أحس هيجل أنه يمثل حضارة متأخرة، ناضجة، وجدت الراحة بعد أن أصابتها هزات عنيفة في الماضي القريب (وأعماله المتأخرة تعبر كثيرا عن هذا الإحساس). ولعل هذا هو السر في أن هذا العمل الضخم لم يجد ولا كان من الممكن أن يجد من يواصله ويستمر فيه. أراد له صاحبه أن يكون خاتمة ونهاية. وقد كان بالفعل كذلك. ولهذا السبب اضطر تلاميذه - الذين لم يقف بهم طموحهم عند الشرح والتفسير - إلى البحث عن أدوات أخرى وغايات أخرى.
هكذا أصبحت فلسفة التاريخ بعد هيجل أكثر قلقا وحدة مما كانت عليه قبله. إن كارل ماركس - وهو تلميذه الذي لا يمكن فهمه بدونه - لم يعد يكفيه أن يفهم العالم - أي الماضي - بل يريد أن يغيره بالفلسفة، أي يحدد صورة المستقبل، بحيث يصبح هذا التحديد المسبق قوة فعالة. وهو لا يصبح كذلك حتى يتطابق مع الواقع، ويعرف قانونه العلمي. كل ما كان قبله - وبالأخص عند هيجل - فلسفة ولا شيء غير الفلسفة، أي تأملات بغير أثر فعلي، أصبح عنده فعلا سياسيا يستمد قوته من الفلسفة أو من العلم (فكلاهما شيء واحد في رأي ماركس). من ثم نشأت وحدة جديدة من الفكر والوجود غير التي ذهب إليها هيجل. وصارت وحدة جديدة من الفكر والوجود غير التي ذهب إليها هيجل. وصارت فلسفة التاريخ - التي ظلت حتى الآن شيئا لا ضرر منه - نظرية للثورة، وصار فيلسوف التاريخ ثائرا ومعلما وداعيا إلى الثورة.
هكذا كان ماركس وإنجلز، وإن خلت حياتهما مما يلفت أنظار رجال الشرطة. وهكذا كانت بعدهما حياة لينين وتروتسكي وستالين، الذين أضافوا إلى نظرية الثورة نظرية «الاستراتيجية الثورية»، والرعب والإرهاب، ثم طبقوها بالفعل عندما جاء الوقت المناسب. هؤلاء رجال ثلاثة ظلوا ينظرون للواقع أو يكتبون تاريخه بأنفسهم كما فعل تروتسكي. أهم ما يميزهم هو اعتقادهم القاطع بأنهم يعرفون دورهم التاريخي تمام المعرفة، وأن أعمالهم معصومة من الخطأ؛ لأنها مستمدة من العلم بقوانين التاريخ نفسه. كل من يحيد عن وجهة نظرهم فالويل له. كل من يخالفهم فهو مرتد وخائن وعميل.
الصراع العالمي الذي نعيش اليوم في ظله بين شرق وغرب، يرجع إلى طموح ماركس الضخم، إلى دعواه الهائلة رغم أنه عرف قوانين التاريخ العلمية، وحدد مسيرته وهدفه إلى الأبد. كل من يقسم عهد الولاء لماركس ولينين فهو على حق. وكل من يخالفهما فهو عدو وملعون ومطرود. تلك هي النهاية. لا نهاية فلسفة التاريخ بالطبع، فهذه لا تنتهي. بل نهاية جانب من تراثها الذي وصل به هيجل إلى الذروة. نهاية مؤلمة، أقل ما يقال فيها أنها مسئولة عن المأزق الذي نجد أنفسنا اليوم فيه، وليس أمامنا إلا الاختيار بين فناء مطلق أو سلام مضطرب. أيكون الإنسان قد حمل نفسه أكثر مما تستطيع أو ما ينبغي أن تحتمل، عندما زعم أنه عرف معنى التاريخ وحدد هدفه واكتشف قوانين حركته؟ هذا الزعم ليس جديدا. والمحاولة كذلك ليست جديدة. لقد جرب الإنسان ما يشبهها القرن التاسع عشر. أحس أنه يحيا في عصر تاريخي فريد، يحمل في أحشائه الأمل أو الخطر أو كليهما، ولكنه على كل حال عصر لم يسبق له نظير، فالعواصف السياسية والاجتماعية تجتاح أوروبا، وانتصارات التقنية (أو التكنيك) والعلوم الطبيعية والبيولوجية تتوالى مؤذنة بانتصارات أكبر وأعجب، والدين يهتز في القلوب، والكنيسة تضعف بصورة واضحة، والتوسع والغرور الاستعماري يصلان إلى أقصاهما، كل هذه ظواهر قوت شعور الناس بأنهم يعيشون في عصر فريد، فأرادوا أن يعرفوه ويحددوه. أرادوا أن يسموا أبا الهول باسمه، ليأمنوا بعد ذلك شره. وأقدموا على المحاولة بجهاز مثير يعين للأبد قوانين التاريخ. هكذا فعل «أوجست كونت» مؤسس النزعة الوضعية الحديثة. أعتقد أنه اكتشف القانون الذي تسير كل الحضارات بمقتضاه في ثلاث مراحل: مرحلة يسودها الدين، وثانية تسيطر عليها الميتافيزيقا أو التأمل، وثالثة وأخيرة يحكمها العلم الوضعي. العالم الغربي - في رأي كونت - قد دخل هذه المرحلة الأخيرة بالفعل. معنى هذا أن العلميين والخبراء الفنيين قد احتلوا مكان الملوك والكهنة والعسكريين.
نفس الشعور بتفرد العصر، نفس الإحساس بأزمة تاريخية لم يسبق لها مثيل - نجده أيضا عند هذا الفيلسوف الشاعر العجيب - عند نيتشه. إنه يثور على المعرفة التاريخية التي ازدحم بها عصره، حتى حجبت أكوام الوثائق والمعلومات عنه الرؤية، وشت إرادته، وقتلت فيه روح المخاطرة، وجعلت من المؤرخين أشباحا ضعيفة متهاوية تفترس الكتب القديمة، وتضع النظارات على عيونها. فلنطرح هذه المعرفة التاريخية، ولنقبل على الحياة على اللحظة الراهنة لنحقق أنفسنا فيها بقوة وحرية، وبلا وساوس أو أحزان.
بيد أن هذه اللغة الغاضبة الجارفة لم تستطع أن تخفي الإحساس بأزمة تاريخية متوقعة، تنبأ نيتشه بأن القرن العشرين سيشهد حربا طاحنة لن يعرف لها العالم مثيلا من قبل. وزعم أنه سيفرح فرحة كبرى بهذه الحرب. وهو في هذا يخطئ تقدير نفسه النقية الطاهرة، كما ينسى أنه أعلن عن نفسه في كتابه الأكبر الذي لم يستطع أن يتمه (وهو إرادة القوة) أنه آخر العدميين. فكيف كان يرضى لنفسه أن يشهد ذلك العدم والدمار الرهيب الذي شهده العالم في حربين عالميتين ؟ وكيف كان يتردد لحظة واحدة في التبرؤ مما اقترفه النازيون باسمه، وتحت شعار فلسفته التي أخطئوا فهمها وتجنوا عليها؟
ها هو ذا رجل آخر يأتي بعده - مؤرخ أصيل بحق - (يعقوب بوخارت) فيشك في معنى التاريخ، وييأس من هدفه الذي بحث عنه كانط وشيلر وهيجل، ويعود مرة أخرى إلى رأي العصور القديمة عند اليونان والرومان تعب الإنسان لا يتغير. موجة تعلو موجة تهبط. كما في الماضي كذلك في الحاضر والمستقبل. لا جديد هناك. لا أمل ولا نجاة. ومع هذا فلم يستطع بورخارت أن يخفي إحساسه بالأزمة. صحيح أن روح التشاؤم تظلل تأملاته في تاريخ العالم كالسحابة الهادئة القائمة، ولكن رؤاه القلقة على مصير الإنسان تلمح كالبروق في ثنايا رسائله وخطاباته الشخصية.
لم يختف الإحساس بالأزمة منذ ذلك الحين من فلسفة التاريخ، لم يختف من أي تفكير في مستقبل العالم والحضارة والإنسان. سواء بالأمل أو باليأس، سواء تنبأ بنهاية التاريخ كله، أو تنبأ بنهاية التاريخ الماضي، وراح يعلن عن بداية التاريخ الحق، التاريخ الحر العادل المجيد. •••
لا نستطيع أن نختم هذا العرض السريع بغير أن نذكر اسم أزفالد إشبنجلر. قد تكون فلسفته اليوم خاطئة في بنائها العام، وهناك بالفعل أكثر من دليل على خطئها، ولكن لا شك أن إشبلنجر - الذي وضع كتابه عن تدهور الغرب تحت تأثير الحرب العالمية الأولى - قد خاطب جيله، وعبر عن عصره، ورسم صورا تاريخية غنية رائعة تدل على نفاذ بصيرته، وقدم مجموعة من الملاحظات عن الحاضر والمستقبل أثبتت الأيام صدقها، وإن كان قد حشاها في ذلك البناء العام، الذي لا يتسع المجال لبيان خطئه. المهم أنه يثبت لنا كما أثبت كل من حاول ذلك قبله أن تصور التاريخ في صورة شاملة تامة مغلقة لم يعد أمرا ممكنا ولا مفيدا، وأن محاول الإنسان أن يحدد معنى التاريخ وهدفه، ويتنبأ بمستقبله محاولة مقضي عليها بالفشل؛ ذلك لأنها تفوق طموحه وقدرته وطبيعته المحدودة الفانية، ولأنه - أي الإنسان - يحيا في الزمن ويرتبط به، ولذلك فلا يمكنه أن يحدد معناه وهدفه من داخله. إن فلاسفة التاريخ قد وضعوا لغز الوجود والإنسان في قلب الزمن، وأرادوا أن يلتمسوا التحقق التام - أي الوحدة الكاملة بين الوجود والفكرة، أو بين الواقع والواجب - في هذا الزمن المتحول نفسه، مع أن هذه الوحدة لا يمكن أن توجد على الأرض ولا في الزمن.