229

Shicr Wa Fikr

شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة

Genres

ومع ذلك فهنالك «داخل» مطلق آخر لم يره هسرل، وسوف يتحتم علينا أن نسأل أنفسنا إن كان هذا المطلق مرتبطا بالعالم، وعلى أي نحو يتم ارتباطه به، بل إن كان يشمل هذا العالم ويحيط به.

إن اكتشاف هسرل للأفق ومن ثم للعالم يأتي من فلسفة تركز على الرؤية. وقد كان هسرل نفسه على وعي كامل بهذا، تشهد على ذلك رسالة وجهها إلى أ. ميتسجر وقال له فيها: «أنا الذي وهبت حياتي كلها لتعلم الرؤية والمران عليها ، وتأكيد حقوقها، أقول: من بلغ درجة الرؤية الخالصة (بالعمل على كشف العيانات أو الحدوس) فقد بلغ اليقين الكامل بالمرئي، بوصفه عملية إتمام لما هو «معطى عطاء أوليا» (...) ثم أضيف عن المنهج وآفاق مجالات البحث عن الأفكار هذه الكلمة الوحيدة» (انظر الحولية الفلسفية لجمعية جوريس، 62، 1، المجلد النصفي، ص196).

ومع أن التاريخ يشغل مكانا مهما من مؤلفات هسرل التي وضعها في أخريات حياته، فإننا لا نكاد نجد فيها شيئا عن الأساس الذي يقوم عليه التاريخ، ونقصد به العمل. وإن فيلسوفا ينطلق من الرؤية كما يفعل هسرل، لا بد له - كما كان من الممكن أن يقول بنفسه - أن «يكف» العمل، على الرغم من أنه يتساوى مع الرؤية في أهميته. (11)

وقد عثرت على نقطة الانطلاق الوحيدة لظاهريات العمل - التي يمكن أن تقف على قدم المساواة مع ظاهريات الرؤية، أو بالأحرى يمكن أن ترتبط بها - في بعض الفقرات الموجزة أشد الإيجاز، وفي موضعين يشغلان عدة صفحات من المخطوطات التي تركها وراءه، وتناول فيها موضوع «الذاتية المشتركة». وهي المخطوطات التي لم تنشر إلا منذ ثلاث سنوات. وما سأعرضه عليكم الآن مستمد من مخطوطات هسرل التي ترجع إلى بداية العشرينيات، والذين يعرفون منكم فلسفة هيدجر سيدهشون قليلا مما يسمعون.

يصف هسرل العالم، كما يعطي لنا عطاء مباشرا، بأنه عالم عملي. إنني - بصفتي «أنا» جسمية، جسدية أو متجسدة - لا أعيش في بيئة وعالم جسميين أو ماديين. فبيئتي وعالمي هما في الأصل بيئة عملية. ولهذه البيئة جانبان، فأنا أتدخل فيها، وأشكلها أو أغير شكلها، وأسعى لتحقيق أهداف وغايات فيها .

بيد أن غائية العالم العملي ليست «موضوعية» بحتة، بل تنطوي على الحالة الوجدانية (المزاج) والتعبير. والآخرون، الذين يعطون لي في صورة جسدية، يعطون لي كذلك مع تعبيرهم عطاء مباشرا. وأنا نفسي معطي لنفسي مباشرة في أحوال وجدانية متغيرة، أعرف عن طريق الآخرين أنها معبرة: «إن العالم في مواجهتي (...) العالم الذي هو «مسرحي»، ومجال نشاطي، العالم الذي يصيبني بالفزع والخوف وسائر الأحوال الوجدانية، هذا العالم كان دائما مثل هذا المسرح، وهو يستمد ملامحه من أوجه نشاطي وفاعليتي، ومن مختلف الأحوال والأمزجة التي تعرض لي.» (الحولية الفلسفية لجمعية جوريس، المجلد الثاني، قبل سنة 1924م).

إن الجسد والتعبير متشابكان ومتلازمان. ولما كان العالم في جوهره عالما عمليا، فإن التعبير والحالة الوجدانية ينتقلان من الأجساد إلى الأجساد (الأشياء المادية)، بحيث «تعبر» كثير من الأشياء، وتثير في معظم الأحيان نوعا من المزاج أو الحالة الوجدانية.

وفي العالم العملي يكون الجسد أداة الأدوات، بحيث تعد الأدوات (الآلية) امتدادا لجسدي.

إننا نقوم بتشكيل البيئة تشكيلا مناسبا، ويكون للأشياء التي شكلناها جانبا، فهي في الجانب الأول تشير إلى الإنتاج البشري، كما تتصف في الجانب الثاني بأنها يمكن أن تخدم أهدافا وغايات معينة. والمعنى العملي (أو النفعي) للأداة نفسها يحيل بدوره إلي من ناحيتين؛ فهو من ناحية يحيل إلي بوصفي «أنا» جسدية قادرة على استخدام هذه الأداة بطريقة أو بأخرى، وهو من ناحية أخرى يحيل إلى كوني «أنا» ذات رغبات، وقيم، وغايات عملية، تتصرف في تلك الأشياء المشكلة لتحقيق هذه الرغبات والقيم والغايات: «إن عالم البيئة لا يتكون فقط من طبيعة مادية ومجموعة موحدة من الظواهر، بل هو كذلك بيئة أقوم أنا (وغيري من الناس) بتشكيلها. إنه تغيير في شكل الأشياء يتم وفقا للغايات المقصود، وبأفعال غائية أو عملية، تكشف عن الجانب المزدوج الذي أشرنا إليه. والشكل نفسه، على النحو الذي انتهى إليه، سواء أكان ساكنا أم متحركا، يحيل إلى أفعال موجهة لتحقيق هدف، وإلى إنتاج مقصود، وينطوي على معنى غائي باطن، وخاصية قابليته الدائمة لأن يوضع موضع التصرف من جهة الأفعال التي تتوخى غاية، وذلك باعتباره أداة أو أية وسيلة أخرى من وسائل التشكيل. هنا أيضا نجد الجانب المزدوج المشار إليه. فالمعنى المرتبط بتحقيق غاية أو هدف يحيل إلى «أنا» ذات جسد وقدرات جسدية، ولكنها كذلك «أنا» تشعر برغبات، وتصدر أحكام القيمة، وتسعى للوفاء بأهداف وغايات» (الحولية الفلسفية لجمعية جوريس، المجلد الثاني، ص330، سنة 1924م).

هكذا نرى بوضوح تام كيف يدخل العمل في نسيج العالم العملي.

Unknown page