196

Shicr Wa Fikr

شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة

Genres

هل يمكن أن تنهل الفلسفة من ينابيع الإبداع التي يحيا عليها الأدب والفن؟ وهل نتصور فيلسوفا كبيرا لم يكن خلاقا بمعنى من المعاني ألا يشارك مزاجه وطبعه الخاص في تأليف «وجهة النظر» التي يقدمها لنا في بناء عقلي محكم؟ ألا تختفي الروح الشخصية خلف قناع النظرة الكلية العامة، والنبض الفردي وراء قضايا الفكر ومبادئه، واليد الحية على أطراف سلسلة «المفاتيح» التي أعدها لمعالجة صناديق السر والمجهول، والنفاذ إلى مغاليق الوجود والمعرفة؟ كيف نتصور فلاسفة ملهمين (مثل هيراقليطس وأنبادوقليس وأفلاطون وأفلوطين والرواقيين وأوغسطين والفارابي وابن سينا وبرونو وديكارت واسبينوزا وليبنتز وهيجل وشيلنج ... إلخ، بالإضافة إلى فلاسفة الوجود والحياة والمتصوفة في كل مكان وزمان) كيف نتصور الأنظمة التي شادوها بغير العذاب والمعاناة، والأفكار التي رتبوها بغير الصورة الحسية والخيال المجنح والشرارة التي انقدحت في قلوبهم قبل أن تبرد وتسكن في بناء أو نظام أو نسق؟ وهذه الأنظمة والأنساق المجردة نفسها، ألم تصبح اليوم قصورا جليلة دارسة، نستمتع برؤيتها وتأملها كما نستمتع بأي عمل فني خالد؟ أليس الفلاسفة أيضا فنانين على طريقتهم؟ ألا يمكن أن تتفجر القصيدة والقصة والمسرحية والخاطرة والبحث والدراسة العميقة من نفس الفعل الخلاق؟

لا شك أن الإجابة تبدو سهلة. فما من عمل عظيم لا يصدر عن تجربة، وما من تجربة لا تنديها قطرة من نبع الخلق. وتاريخ العلم والعلماء، وحياة المبدعين في كل ميدان لا تخلو من مواقف ولحظات لا ينفع فيها تفسير أو تحليل. صحيح أن الطرق بعد ذلك تتشعب، والدروب تختلف، والغايات والنتائج تتفرق، ولكن النبع الخلاق دائما هناك، ولولا عطاؤه ما كانت للإنسان حضارة، ولا تفوق في علم أو فن أو صنعة أو فضيلة. هذه أمور يعرفها كل من عايش النابغين معايشة كافية، واستطاع أن ينصت إلى وجيب قلوبهم من خلال الكلمات والألحان والخطوط والظلال. هذا إلى توافر عدد كبير من الشعراء في تاريخ الفلسفة، ومن الفلاسفة في تاريخ الأدب والفن غير أن الفيلسوف لن يرضيه أن نصفه بأنه شاعر أو فنان، ولن يسعد الشاعر والفنان أن نخلع عليهما لقب الفيلسوف! وتبقى المشكلة قائمة (والمشكلات الحقيقية لا تعرف الحلول الأخيرة؛ لأن الحل النهائي معناه الموت النهائي، ولأننا لا نملك إلا محاولة الاقتراب منها، وتجربة أسلحتنا في اقتحام أسوارها).

عشت السنوات الأخيرة مع هذه الأسئلة التي تمزقني منذ أن «تورطت» في تدريس الفلسفة، فلا أنا بقادر على نزع أشواكها المغروسة في قلبي، ولا أنا بمستطيع أن أصم أذني عن نداء الخلق الذي يتردد صداه في كياني. لا العمل اليومي يحفظ شجرة التجربة من الذبول والسقوط في دوامة الثرثرة والتكرار والتسطيح والجفاف والابتذال، ولا لقمة العيش تسمح بترف الانتظار لبروق الإبداع والطاعة لقوانينه والاستسلام لمخاطره ومفاجآته ومفارقاته (وهو كما نعلم معبود يكره أن يشرك به، ولا يعطيك شيئا حتى يأخذ منك كل شيء!)

ووسط المحنة التي لا يدري إلا الله مصيرها، وقعت عيني مصادفة على هذه الصفحات التي كتبها الشاعر الفيلسوف الفرنسي بول فاليري (1871-1945م) عن «ليوناردو والفلاسفة».

ولا أزعم أنها هدتني إلى حل، أو قدمت لي عزاء. فمن المشكلات كما قلت ما لا يحل ولا ينفع فيه عزاء (اللهم إلا إذا أمكنك أن تقفز فوق ظلك وقدرك أو تتسلى برؤية «بنات» أفكارك وعذابك ووحدتك، وهي تغتال كل لحظة أمام عينيك!) ولكني وجدت نفسي أمد يدي للقلم، فأتابع هذه الصفحات العميقة الدقيقة المرهفة، وأختصر منها وأضيف إليها القليل من توابل شطحاتي وتجاربي. ثم تركتها وكدت أنساها حتى ذكرني بها احتفال الإنسانية المثقفة في سنة 1974م بنشر مخطوطات جديدة للعبقري الإيطالي المذهل دافنشي (وصدر بها العدد القيم من مجلة اليونسكو في طبعتها العربية في شهر ديسمبر من نفس السنة).

ربما يدهشك حديثي عن دافنشي الفيلسوف، بعد أن عرفته مصورا خالدا ونحاتا وموسيقيا وعالما طبيعيا ومهندسا وأديبا، وستتكفل الخواطر التالية بتسليط الضوء على صورة جديدة للعبقري الذي «رسم» فلسفته، ونزهها عن كل نظام لغوي أو عقلي. وقد يريبك الكلام عن فاليري «الفيلسوف» بعد أن قرأت له أو قرأت عنه، واطلعت على درر من شعره ونثره وتأملاته النفسية عن فعل الخلق الفني (في الشعر بوجه خاص)، وسمعت عن مكانته المرموقة في الأدب الفرنسي والعالمي، ووقفته النبيلة في وجه البربرية النازية، وانتصاره للسلام العالمي والتعاون الثقافي بين الأمم. فما الذي يبرر وصفه بالفيلسوف؟ وما الذي يدعو بعض المعاجم الفلسفية (مثل معجم لاروس) إلى أن يفسح له مكانا بين الفلاسفة؟

لا مشاحة في الأسماء كما يقال، فلو فهمت الفلسفة بالمعنى التقليدي الذي يتمثل في نظام أو نسق أو مذهب مغلق يحيط بمسائل الوجود والمعرفة، ويصدر عنها وجهة نظر كلية من خلال فكرة أو مبدأ واحد يتفرع عنه كل شيء، أو عدة مبادئ وقضايا عامة تلخص الواقع كله، ولو فهمت الفيلسوف بمعنى المتخصص في الكلي العام، المعبر عن تخصصه بلغة برهانية وعقلية مجردة، فلن يكون فاليري فيلسوفا، ولن يحتمل أن تلصق عليه بطاقة الفلسفة. أما إذا أخذت الفلسفة بمعناها العام، وروحها الخالد الباقي - النظر المتعالي، القدرة على السؤال عن ال «ما» وال «لماذا» نزعة التحليل والبحث والفهم، الوقوف بين الأنا والأنا، أو تأمل التأمل، ونقد النقد والتعمق في فعل الخلق نفسه، فسيحتل فاليري مقعدا مريحا في صفوف الشعراء الفلاسفة. وسوف يكفيك - للاقتناع بهذا الرأي - أن تنظر في بعض شعره الناصع الغامض، الباهر الملغز (وكأن كل بيت فيه ماسة يخطف ضوءها البصر ويغشاه في آن واحد) كالمقبرة البحرية، وربة القدر الشابة، وغيرهما من القصائد التي يضمها ديوانه «رقي» (1922م). ويكفي أن تتأمل بعض كتبه التي يدور معظمها حول فعل الخلق المتأرجح بين مثال الجمال والكمال المطلق، وعاطفة الجسد والحس الدافئ الحي مثل «المدخل إلى منهج ليوناردو دافنشي» (1895م)، و«أمسية مع السيد تست» (1906م)، و«أويبالينوس أو المهندس المعماري» (1923م)، و«النفس والرقص» (1925م)، و«ليوناردو والفلاسفة» (1929م)، و«حديث عن العقل» (1929م)، و«نظرات على العالم المعاصر» (1933م)، وألوان (من 1924 إلى 1944م)، ومقاله عن استندال (1927م)، ورسالته عن معلمه مالارميه (1928م)، وحواره الفكري فاوست كما أراه (1945م) يكفي أن تطلع على شيء من هذا كله لتواجه العقل الذكي الباهر، والثقافة الشاملة الجامعة، والأسلوب الكلاسيكي الصافي، والروح الديكارتية الواضحة المتشككة، والسخرية السقراطية السمحة، والاطلاع الواسع على مختلف العلوم والفنون، وفي مقدمتها الرياضيات والعمارة والتاريخ والرسم والموسيقى. ثم تلمس أنفاس هيراقليطس وبارمنيدز في شذراتهما الدقيقة المقتصدة التي يتضوع منها عبير الشعر والنبوة والسحر والرمز، وتتأكد في النهاية من صدق العبارة التي وصفه بها عميد أدبنا العربي - رحمه الله - في مقاله الرائع عنه (في كتابه ألوان، ص51-64، سنة 1958م)، وقال عنه فيها إنه «شاعر العقل وعقل الشعر.»

اقرأ معي هذه المقطوعة التي تبدأ بها قصيدته الشهيرة «المقبرة البحرية» التي تعد من أروع و«أفظع» الشعر على الإطلاق:

هذا السقف الهادئ، الذي يخطو عليه الحمام

يرف بين أشجار الصنوبر، بين القبور،

Unknown page