182

Shicr Wa Fikr

شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة

Genres

إن الحاضر الحق يشبه دائما أن يكون كيانا ينظر للإنسان، عينا تصيب وجوده وتغوص به في أعماق وراء أعماق. ولا بد في هذه الحالة أن تستجيب «أناه» للأنت التي تخاطبه. ولا بد أيضا أن تكون أقصى درجات الحضور هي درجة «الجذب» أو «الوجد» - أو ما شاء أن يسميه أصحاب الرؤية من أفلوطين إلى اليوم - حين يتم حضور الواقع الحق، وتتعانق «الأنا» و«الأنت»، بحيث لا يبقى في النهاية إلا الوجود اللانهائي.

ليس من قصدنا أن نطرق باب هذه الحضرة بكلمات اللغة وتصورات الفهم العاجزة بطبعها عن ولوجه. ولن نتخذ موقفا من الخلاف بين أهل البصيرة حول هذا اللقاء أهو إثبات للأنا أم اتحادها في الآخر وتلاشيها. فكل ما يهمنا هو أن نشير إلى معجزة الحضور في اللحظة الخالدة، حيث يجد الإنسان نفسه، ويكون لقاء الأنا مع الأنت هو في نفس الوقت لقاء الأنا مع ذاتها.

في تجربة اللحظة الخالدة يكتمل وجود الإنسان كما يكتمل الوجود نفسه. تبقى نظرة عين واحدة - كالشمس - تحاول أعيننا أن تتملى فيها، حيث نشارك في الأبد الخالد، أو نصبح نحن الأبد الخالد. وليس أقدر من «الحب» على التعبير عما نعجز عن التعبير عنه. وشواهد الحب ماثلة في حياتنا اليومية مثولها في قلوب المحبين الخالدين. فلننظر إلى ما يقوله الشاعر «جوته» على لسان الحبيبة في قصيدته «الحبيبة مرة أخرى»: «هكذا وقفت أمامك، كي أتطلع إليك،

ولم أقل شيئا. وماذا كان لي أن أقول؟

كان كياني كله قد اكتمل في ذاته.»

لقد اعتاد الناس أن يمروا ببعضهم البعض مرور العابرين دون أن يرى أحدهم الآخر رؤية حقة. ويظل الحال كذلك حتى تصيبهم النظرة الخالدة، ويسطع الحاضر سطوع البرق ، (تجربة الحب الحقيقي عند المحبين الحقيقيين) وقل نفس الشيء عن لقائنا المعتاد بالسماء والأرض، بأشكال الوجود المختلفة، بالأحداث الكبرى والصغرى، فكلها يمر بنا ويعبرنا. وإذا التفتت إلينا أو التفتنا إليها، نظرت إلينا من خلف قناع. وبينما نحن تائهون عنها في حلم أو كابوس لا نفيق منه، إذا باللقاء يتم فجأة، تشرق الحقيقة، يتفتح الوجود، ندخل تجربة الحضور. فإذا توافر للتجربة العمق، ولعين الروح الدهشة والصدق، بدا كأن إلها يمعن النظر فينا من خلال لقائنا بالأحباب والأعزاء ومختلف الصور والأشكال والأحداث مهما تكن ضئيلة أو تافهة الشأن في عين الحياة اليومية والعملية. «كن نفسك» تلك هي الحكمة التي لم يكف عن ترديدها الحكماء. وفي «المواجهة» و«اللقاء» يكون الإنسان هو نفسه، وحين يفنى في الآخر يكون بكليته. والعكس صحيح. «من عرف نفسه فقد عرف الله.» هكذا يقول الحديث الشريف. «كوني أنت نفسك أكن لك.» هكذا يخاطب الله نفس الإنسان على لسان «نيقولا الكوزاني» (1401-1464م)، وعندما يرى الإنسان بحق ويخاطب بحق، أي عندما تصيبه نظرة الآخر أو كلمته في الصميم، يصبح هو نفسه. عندئذ تتم معجزة الحضور، معجزة التحرر من الوسائل والأهداف، والهموم والعادات، من سيطرة الرغبة، من كل ما ليس وجودا خالصا وحقيقة محضة. عندئذ يتحول الجسد والروح إلى كيانهما الخالد، يستجيبان لحضور كيان رائع. يجد الجسد نفسه فيرقص استجابة لمعجزة الحضور (فينطلق بالغناء المعبر عن روعة الكيان الذي حل فيه وتملكه، كما نجد في الشعر الغنائي عند كبار المحبين عندنا أو عند غيرنا).

كذلك يخطو الإنسان الذي مسته روح الإله، وهو يؤدي الطقوس أو بالأحرى يتركها تؤدي نفسها فيه. ويصبح هذا الحضور الكامل علامة على حضور الإله، بالخطوة الخفية، والإشارة الرائعة، والإيماءة المهيبة، بوقفة التعظيم والإجلال. هنا مهد الدراما والشعر البطولي، فلم يكن كلاهما سوى الترحيب بالإله.

وأخيرا نقول إن الحضور ليس مقصورا على الطقوس وحدها. إنه يمتد إلى أشكال الوجود وكل مواقف الوعي الحاسمة في تاريخ الإنسان في فعل الخلق المبدع، في لحظة حسم ثوري، في كل لقاء حق ، ساعة يولد طفل أو يحتضر الشيخ، في لحظة العلو فوق الكل، ولحظة التحدي للفناء والزوال، في لحظة القرار والاختيار، لحظة استغراق في فضاء الكون الظاهر أو الباطن، في خيبة الأمل أو نشوة النصر، فيما نسميه اليوم بالمواقف الحدية ... إلخ.

ولقد عبر الأب العظيم ولا يزال إلى اليوم يعبر عن أشكال الوجود الأصيلة التي تجسدت قديما في الأسطورة والطقوس.

وكان الشعر وسيظل أقدر من غيره على التعبير عن تجربة الحضور السرمدي التي يكشف عنها الماضي والحاضر والمستقبل. وتصبح «الخطوات الثلاث» التي تغنى بها شيلر ثلاثة وجوه للخلود والسرمدية. إنها لتفقد أشكالها الزمنية التي طالما اختلفت حولها العقول، وطالما حاولت قياسها كما يقاس المكان، ومدت لها حبال الديمومة في التذكر أو الانتظار، ولو التقى بها الإنسان كما ينبغي أن يكون اللقاء لأصبحت كلها حاضرا ممتدا في وعيه، ولأصبح وعيه الباطن هو وعاء الحاضر السرمدي (فأن تكون واعيا معناه أن تكون خارج الزمان، على حد قول إليوت في رباعياته الأربع ...) عندئذ يعي الموجود نفسه، كما يتم وعيه بالآخر وبوجوده هو نفسه وكيانه. عندئذ تتكشف له معاني كلمات نسمعها كل يوم، يثرثر بها معظمنا، ويسعى أقلنا إلى فهمها والعمل بها، كالحرية، والتفتح، والشخصية، والمعنى، والواجب ، والمسئولية، والخلق، والإبداع، والقلق، والشجاعة، والحب، والتفاني، والصدق، والأصالة ... إلخ.

Unknown page