157

Shicr Wa Fikr

شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة

Genres

14

على الرغم من هذا كله فإن الحديث عن الزمنية كان على الدوام هو الحديث عن تناهي الإنسان الذي يظهر في صورته الحادة في زمانيته المنطوية على فنائه وزواله وموته. ولهذا كان التفكير في الإنسان من حيث هو كائن فان أو «مائت» مساويا للتفكير فيه من جهة الزمان وفي أفق الزمان. ولهذا أيضا كثر الحديث في الفكر المعاصر عن كون الإنسان ملقى أو مقذوفا به في هذا العالم، أي في مكان وزمن محددين كل التحديد. وهو يعيش فيه - وهذا هو أوضح تعبير وأقساه عن تناهيه - دون أن يدري لماذا يحيا في هذا الزمن لا في زمن آخر. ولقد عبر «بسكال» في ختام القطعة السابقة عن هذا أقوى تعبير حين أنهاها بقوله: «بلا عودة» معبرا بذلك عن واحدية البعد الزمني، وأن اتجاهه لا يقبل أن يعكس. فالإنسان يشبه ظلا لا يدوم إلا لحظة واحدة، بلا عودة.

إن السر الأول للزمان هو أنه يلتهم كل ما فيه ويلقي به في قبره الذي لا يشبع. ولهذا ارتبط الزمان بالزوال والانقضاء. فالماضي لم يعد له وجود، والمستقبل لم يكن بعد، وإذا أقبل فسرعان ما يتحول إلى ماض. والماضي والمستقبل كلاهما لا وجود لهما في وجدان الإنسان، إلا من حيث هما حاضر، أي في تذكر الماضي وتوقع المستقبل. أما الحاضر فلا وجود له في تجربتنا اليومية. كلما مددنا أيدينا للتشبث به، تسربت منها حبات رمال الزمن (أو «آناته»). وكلما حاولنا أن نمد في أجل هذه اللحظة الخالية من الامتداد - في لحظات الصفاء والحب والأنس، أو في لحظات الرعب واليأس - روعتنا الحقيقة المحتومة التي تقول إن كل مستقبل يصبح فيها ماضيا، وأن حاضرها حد وهمي أرق ملمسا من الحد الفاصل بين نقطة البحر والنقطة التي تليها، أو نسمة الريح والنسمة الرفافة في ذيلها ...

ولهذا ربما عذرنا «أرسطو» الذي أغاظه «الآن»، فأخرجه من الزمان؛ ليجعله وحدة قياسه ...

أنعيش إذا بلا حاضر على الإطلاق؟ أتكون حياتنا حلما؟ أنخطو على الطريق بلا أرض نقف عليها؟! أتكون حياتنا حياة الأسرى المغلولين الذين يتعثرون في الهاوية باستمرار؟!

أكتب علينا الزوال والانقضاء في كل لحظة من لحظات مدتنا المحدودة، بلا عودة ولا سبيل للرجوع؟!

أهذه هي نهاية المطاف في تفكيرنا في الإنسان؟! ألا يبقى أمامنا إلا الاستسلام للبكاء أو الوثوب فوق جواد الزمن إلى حظيرة «الأبدية» لنلتمس فيها الخلود والبقاء، ونجفف على صدرها دموع السفر والشقاء، أو نتعلل بالسعادة والهناء؟

هنا نبلغ باب السر الثاني للزمن. فنحن زمانيون، ولا نملك الهروب من الزمان ولا المكان،

15

ولكننا في نفس الوقت لا زمانيون، لا بمعنى الخروج من الزمن - كما نرى في لا زمانية القوانين المنطقية مثلا - ولكن بمعنى أن الزمن هو المرآة التي نرى عليها السرمدية ... فنحن قادرون على المشاركة فيما فوق الزمن، أي في السرمدية ولو للحظات كالبرق الخاطف. ومفهوم السرمدية شيء مختلف عن الزمانية، كما يختلف عن الديمومة الزمانية اللامتناهية ويتفوق عليها. والأولى بنا أن نفكر في الزمان من جهة السرمدية لا أن نفكر في السرمدية من جهة الزمان. إن علاقة السرمدية بالزمان لا يمكن أن تتصور تصورا زمانيا؛ لأنها ترتفع فوق الزمان وتشمله بصورة ما.

Unknown page