Shicr Wa Fikr
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
Genres
مع ذلك فهو دائم القلق من زواله، دائم البكاء على ضياع عمره ومجده، والشكوى من عبث كفاحه وتعبه. لو أرهفنا السمع قليلا، فربما هزتنا الأنات الآتية من أناشيد المغني الفرعوني الأعمى على قيثارته، وزفرات أيوب في العهد القديم ومن قبله «أيوب البابلي» المبتلى ظلما في الألواح الأربعة التي حملت شكواه وعرفت باسم «لدلول بيل نيميقي»، سأمجد رب الحكمة، وحسرات سليمان وداود في المزامير، وبكائيات الشاعر الجاهلي على أطلال الأحباب، وأناشيد الجوقة في المسرح الإغريقي، ودعوة هوراس «اقطف يومك»، ونقوش المقابر والمعابد، وربما انتهت إلينا لعنات أبي العلاء التي صبها على الزمان، مختلطة بآهات «الخيام» و«دانتي» و«ليوباردي» و«هلدرلين» و«إليوت».
والإنسان يحاول منذ القدم أن يستمهل هذا الضيف العزيز الذي لا يزورنا إلا لكي يودعنا، كما يحاول أن يعرف طبيعته، ويحدد موقعه بين ضيف سبقه ولن يعود، وضيف سيأتي بعده ولن يقيم.
من منا لا يرثي أو يضحك للجهود التي بذلها المفكرون والفلاسفة لاصطياد اللحظة الحاضرة التي نحياها ولا نمسك بها، ونحاول قياسها وتحديدها فتفلت منا، وتسرع بها دورة الفلك وعقارب الساعة كالشبح الهارب، بينما تدوم وتتمدد في أعماق الشعور، حتى توشك أن تضم «الأزل والأبد» في ومضة واحدة؟
من منا لا يحن لهذه اللحظة المواتية العابرة التي دعا أحد حكماء اليونان السبعة «بيتاكوس» لمعرفة قيمتها، والقبض على خصلات شعرها الذهبية المتدلية من جبينها قبل أن تعبر بنا، ونحاول بعد ذلك أن نجري وراءها لنوقفها، فإذا هي صلعاء الرأس من الخلف.
10
ومن منا لا يؤثر عليه سعى «فاوست» الدائب إلى لحظة الخلود التي يستريح على صدرها حين يتحد بالمنبع الخالد؟ من منا لا يتعاطف معه وهو يراه يجد في البحث عنها في لحظة «الحب» أو «المجد» أو «العمل النافع لشعب حر على أرض حرة»، فإذا به يتعثر في هاوية الخطيئة أو يسقط في حفرة الندم، بينما يتردد هتافه بها: «تريثي قليلا فما أجملك؟!»
ثم من منا لم يعش مع محاولات الفلاسفة لتثبيتها أو إنكارها؟! من منا لم يدهش لمفارقات «زينون» الإيلي العنيدة التي تلغي الزمان والحركة لتثبت الأبدية؟ ومن منا لا يعجب لتساؤلات «أفلاطون» عن «الآن» وجهود «أرسطو» لتحديدها، وجعلها وحدة قياس الزمان، وحيرة «أوغسطين» أمام سرها حتى هداه الله إلى أنها «توتر النفس التي تستجمع الماضي وتتأهب للمستقبل» و«مواقف المتصوفة» ومواجدهم وأشواقهم إلى جعلها بيت السرمدية، واكتشاف «ديكارت» لضوئها الخاطف وفعلها الحدسي في يقين «الأنا»، وكل يقين مترتب عليه، وفي فعل الخلق والحفظ الإلهي المتصل للطبيعة والإنسان!
ومن منا لم يهزه جدل «كيركيجارد» المعذب، وهو يفتش عنها داخل الزمان، فإذا بها لا «تتكرر» إلا في «الأبدية»، وإلهام «نيتشه» المحير بلحظة «العود الأبدي» التي صعد معها فكره إلى القمة الخطرة، ووجد عندها السلام والطمأنينة في «حب القدر»، وقلق «هيدجر» الذي وجدها في لحظة التصميم على مفترق الطرق إلى تحقيق الوجود الأصيل، وجمع فيها بين ماض كناه وعلينا أن نكرره فيها، ومستقبل علينا أن نصر عليه ونحققه فنحقق ذواتنا معه في وجه الموت المتربص المحتوم؟!
كلنا يحس سر الزمن. قد لا نتمكن من التعبير عنه، ولكنا نحس بزمانيتنا في كل قول وكل تجربة وكل موقف نمر به. فالزمن قدرنا، والزمن أملنا ويأسنا. وتجربة الإنسان بزمانيته هي تجربته الحزينة بزواله وانقضائه وتناهيه. فالزمان نهر متدفق أبدا يجرف كل أبنائه معه، وشكوى الإنسان من الزمان شكوى أزلية، وأغلب الظن أنها ستبقى شكوى أبدية. ولم يكن من قبيل المصادفة أن تسجل شواهد التاريخ والحضارة والدين والفكر والأدب هذه الشكوى المرة في صور مختلفة.
لم يكن البحث في سر الزمان عند مفكري اليونان قضية تفلسف مجرد، بل شعورا مأساويا ودينيا عميقا ترددت فيه أصداء الشكوى القديمة المتجددة. وإلا فما الذي دفع «أنكسماندر» في شذرته الوحيدة الباقية إلى القول بأن الأشياء ينبغي أن ترجع لأصلها، وأن تكفر عن ذنبها وفقا لنظام الزمان؟! وما الذي دفع «زينون» الإيلي لإلغاء الزمان ومعه التغير والصيرورة؟ ألم يكن هو البحث عن ملجأ ثابت يتيح للإنسان السكينة في حضن الأبدية، وتجربة العناق بين الفكر والوجود الذي علمته الربة المجهولة «أستاذة أستاذه بارمنيدز » أنهما متساويان وثابتان؟
Unknown page