ولكن ما مضى أيام حتى صادفته في بيت خليل بك رئيس مجلس النواب أو المبعوثين كما يقولون؛ فأراد خليل بك أن يقدمني للأمير سعيد الصدر الأعظم بصفته رئيسا للمجلس وبصفتي أنا من أعضائه، فضحك الأمير وقال له: أنا أعرفه قبلك بكثير، وهذا هو أرسلان اسم على مسمى، يشير إلى معنى هذا الاسم بالتركية والفارسية وهو الأسد؛ فإن هذه اللفظة هي من جملة ألفاظ دخلت بين العرب من القديم وسموا بها أعلاما، ولو لم يكن سعيد حليم صاحب أخلاق لما كان رضي عني بعد ذلك الجدال العنيف، ولكنه كان عالي الهمة صحيح المبدأ حافظ الذمام، وكان يعلم نبالة مقصدي في ذلك الاقتراح ولم يكن يسيء الظن بي، فتحمل مني ذلك الكلام الذي كله تأنيب ولم يتغير فكره من جهتي، وبقيت بيننا الصداقة مثل ذي قبل لم يشبها شائبة.
ثم نعود إلى اقتراح شوقي، فإنه جاءني بعد يومين يستطلع نتيجة المسعى، فأخبرته بأنني قابلت طلعت واقتنع بكلامي وأسعف في المسألة، ولكنه أرسلني إلى الصدر الأعظم وربط المسألة به، وهذا حتى هذه الساعة يبدي شيئا من الصعوبة. ولم أزد على هذه الجملة، ولا أخبرت شوقي بما حصل بيني وبين الصدر من الجدال والحدة حتى لا أزيد الفتنة بينه وبين الخديوي، ونحن كنا نسعى في رأب الصدع لا في توسيعه، وكنت في جوابي لشوقي آسفا كاسفا؛ إذ كنت أؤمل تحقيق أمله وأملي فخاب أملنا نحن الاثنين. وكان الوقت رمضان فدعوت ثاني يوم المرحوم عبد الحميد بك عمار من أعيان المصريين للإفطار معي في «بك أوغلي»، ورويت له القصة محتجنا منها ما وقع من معارضة الصدر الشديدة، ومكتفيا بالقول إن هذه المسألة لا تزال قيد المذاكرة. فذهب عبد الحميد بك عمار إلى الخديوي وأخبره بالقصة، ولم أعلم كيف كان وقعها عنده.
ودخلنا بعد ذلك في الحرب العامة وانقطع كل اتصال عادي بين الدولة وبين مصر، وأصبحت لا أعلم عن أصحابي بمصر كثيرا ولا قليلا إلى أن مضى على هذا عام أو عامان، فعلمنا أن الإنكليز دفعوا إلى مالطة جما غفيرا وأزعجوا آخرين إلى أوروبا، وكان فيمن أزعج عن بلاده إلى أوروبا أحمد شوقي فانتجع إسبانية وناح على الأندلس، ولكنه خفض هناك في عيشة راضية وبيئة هادية، ولم يعد إلى وطنه إلا بعد أن انطفأت نار الحرب.
لقاء في باريز بعد الحرب العامة
ولم يسعدني القدر بعد ذلك بلقاء أخي شوقي إلى سنة 1926، وذلك في باريز، حيث كان شوقي جاء يقيظ في أوروبا، وكنت أنا مع زميلي إحسان بك الجابري نتذاكر مع الحكومة الإفرنسية بدعوة منها في القضية السورية، وكنا نازلين في أوتل «ماجستيك»، فما أنا ذات يوم إلا وشوقي قد طلع علي بدون ميعاد ولا سابق علم لي بوجوده في باريز، فدخل على قلبي من السرور برؤيته ما يدخل على الأخ الذي غاب عنه أخوه منذ بضع عشرة سنة ومن لا تسمح له دواعي السياسة أن يراه كلما أراد؛ لأنه من قبل ذلك الحين كانت صدرت الأوامر بمنعي من دخول مصر، وفشل كل سعي في حل هذه العقدة، فكيف يمكنني بعد هذا أن أشاهد شوقي إلا بقدر لا يخطر في الفكر وفي بلاد الغربة، وقد كان لا يؤذن لي بدخول باريز - والآن لا يؤذن لي فيه - إلا بدعوة خاصة من حكومة فرنسة:
هيهات هيهات قد أمست مجاورة
أهل العقيق وأمسينا على سرف
حي يمانون والبطحاء منزلنا
هذا لعمرك شمل غير مؤتلف
فذهبت أرد الزيارة لشوقي في الفندق الذي كان فيه في الحي اللاتيني فلم أجده، وبينما أنا صادر إذا بمقهى جالس فيه شوقي مع محمد أفندي عبد الوهاب وآخرين حسبما تقدم الكلام على هذه النكتة؛ لأن هذا المقهى هو المسمى بقهوة داركور، وكنا نجلس فيها منذ ست وثلاثين سنة ونحن شبان فعدنا نجلس فيها ونحن شيوخ. (1) في مقهى الجامع
Unknown page