Sharkh Bukhnir Cala Madhhab Darwin
شرح بخنر على مذهب دارون
Genres
وقد وصفه بعض واصفيه قال: «لو أراد المصور أن يصور رأس بلاتون أو أرسطو لما وجد أليق لذلك من رأس ديدرو؛ فإن جبينه العريض الصلت يدل على ذكاء فائق، وهو وإن كان في هيئته تراخ إلا أنه لما كان يحتد في الكلام كان يكتسي وجهه هيبة وجلالا. وربما دلت هيئته وهو في حالة السكون على اضطراب أو سذاجة أو تعب أيضا، ولكن ديدرو لم يكن غير ديدرو لما كانت قوة فكره تمتلكه.»
وكان على جانب عظيم من الرأفة والدعة، حليما غير متعصب ضد الذين ليسوا من مشربه، قيل: إن الدوك دورليان اقترح رسالة في هجوه وعين ثمنها خمسة وعشرين ذهبا تدفع لمؤلفها، فكتب ديدرو رسالة هجا بها نفسه، ونسبها إلى أحد المعوزين ليكسبه هذا المال. وقد وصف ديدرو نفسه في بعض كتاباته قال:
إني لا أحتقر لذات الحواس، فلي حلق يحب الأطعمة الشهية والخمرة الجيدة، ولي قلب ولي عينان، وأحب أن يكون لي امرأة جميلة أضمها إلى صدري، وأقبل شفتيها بشفتي، ولا أكره الاجتماع بالأحباب في ليلة طرب، بل في ليلة متهتكة، إلا أني لا أخفي عنك أن مساعدة مسكين، وإتمام عمل شاق، وإعطاء نصيحة جيدة، وقراءة كتاب مفيد، والتنزه مع صاحب صديق، وصرف أوقات مفيدة مع أولادي، وكتابة صفحة جيدا، وذكر أشياء رقيقة لطيفة لحليلتي، تجعلني أستحق منها قبلة؛ لأحب إلي من ذلك كله.
وقد مر ديدرو بدرجات ثلاث: فآمن أولا بالوحي، ثم بالله وحده، ثم صار ماديا معطلا، وجعل أصل كل شيء في المادة وأدق أجزائها المتحركة منذ الأزل. وأهم ما له في هذا الموضوع (1770) رسالة في «المادة والحركة»، ورسالة موسومة «مباحثة دلامبرت وديدرو وحلم دلامبرت»، وهذه الأخيرة لم تنشر حتى سنة 1831، ومن جملة ما يذكره ديدرو مثال البيضة كيف أنه بالحرارة فقط يخرج من كتلة لا حركة فيها ولا حس كائن حي، قال: «إنك بذلك تنقض كل تعاليم اللاهوتيين، وتهدم كل هياكل الأرض.» فالوجود عنده اختمار دائم، وتبادل في المادة لا يفتر، وحركة في الحياة لا تسكن، فلا شيء ثابت، بل كل شيء متغير، والأفراد ليست سوى أجزاء لكل عظيم هو واحد، ولا موت فالولادة والحياة والموت تغير في الصورة فقط، والنفس ليست سوى نتيجة التكوين والبسيكولوجية، أو علم النفس ليست إلا فسيولوجية الأعصاب. ولا يوجد إرادة حرة ولا نفس خالدة، وخلود الإنسان في عمله؛ لأن علمه لا يزول ويبقى إلى الأبد، والسعادة والفضيلة شيء واحد. ولا يجب مقاومة الأميال؛ لأنها سبب الأعمال العظيمة. وبالجملة، لا توجد مسألة من الرأي المادي إلا وقد بحث ديدرو فيها، وبلغ بها إلى قمتها. والرأي المادي الحديث يسعى بواسطة تقدم العلوم الطبيعية لتأييد هذه القمم التي هي واحدة بنفسها.
أما دلامبرت فمن أشهر كتبة فرنسا؛ بسبب تعليق اسمه على الأنسيكلوبيذية. وشهرته في العلوم الرياضية، وكان من أعضاء الأكاذمية ، ومن أخص أصدقاء فريدريك الكبير والإمبراطورة كاترينا. ولد في باريز سنة 1717، واشتهر منذ حداثته بكتابات في العلوم الرياضية والفلسفة الطبيعية، ثم في علم الهيئة. وكان نبيل الطبع، حسن الأخلاق، محسنا كريما عفيفا، مكتفيا بنفسه على أنه كان ضعيفا قليل الحزم حتى في حجته. وهو على مذهب باكون ولوك في الفلسفة والمنطق؛ أي مادي حسي إلا أنه لا يتعرض لله، ولا لخلود النفس، ولا لروحانيتها، ولا للإرادة الحرة أو بالحري يشك فيها؛ لأنه بالحقيقة شكوكي أو من اللادريين كما يظهر من كلامه حيث كتب إلى فولطير (سنة 1769) قال: «أقسم بي إني لا أجد في ظلمات ما وراء الطبيعة إلا الشك أمرا معقولا، فإني لا أفهم المادة ولا أي شيء آخر، وأتيه كلما افتكرت بذلك، وأراني ميالا للتصديق بأن كل ما نراه وهم من الحواس، وأنه لا يوجد شيء خارج عنا يشبه ما نظن أننا نراه. وكثيرا ما أردد في نفسي سؤال الملك الهندي: لماذا يوجد شيء؟ فهذا هو بالحقيقة العجب العجاب!» وفي سنة 1770 كتب إلى فريدريك الكبير يقول له: «يظهر لي أن عبارة مونتين «لا أدري» هي المعقولة وحدها في المسائل الفلسفية، ولا سيما في أمر الله، على أن في نظام العالم ما يدل على صانع صنعه، كما تدل الساعة على صانع صنعها، ولكن كيف هو هذا الصانع؟ وهل خلق المادة أم نظمها فقط؟ وهل الخلق ممكن؟ وإن لم يكن ممكنا فهل المادة أزلية؟ وإن كانت أزلية فهل هذا الصانع متصل بها أو منفصل عنها؟ وإن كان متصلا بها، فهل المادة الله والله المادة؟ وإن كان منفصلا عنها، فكيف الصانع الذي ليس مادة يفعل في المادة؟ فلا جواب على ذلك سوى «لا أدري».» وهكذا يقول في أمر النفس وخلودها على أن في شكه هذا من المادية ما هو ظاهر في كلامه.
ويلحق بالأنسيكلوبيذيين ومدرستهم اثنان آخران؛ أحدهما: الأب كونديلياك المولود قبل دلامبرت بسنتين؛ أي سنة 1715 تعلق على البحث في مسألة الإدراك، وانتهى بها إلى نتائج حسية. والثاني: الطبيب كبانيس المولود سنة 1757 حذا حذو كونديلياك، ولا سيما في المسائل الفسيولوجية، وكتابه في «نسبة الجسد والنفس في الإنسان» (سنة 1789-1799) ترجم إلى سائر لغات أوروبا، وما زال يطبع حتى أخيرا. فكبانيس يقول: إن الجسد والنفس لا يرتبطان بعضهما ببعض ارتباطا شديدا فقط، بل هما شيء واحد، فالفسيولوجية والبسيكولوجية - أي علم النفس وعلم الأخلاق - فروع ثلاثة لعلم واحد هو الأنثروبولوجية؛ أي علم الإنسان. والنفس والعقل ليسا إلا حركات الأعصاب والدماغ وإحساساتها. وإليه ينسب المثل الشهير: «الإنسان كله أعصاب.» ويؤكد أن الدماغ عضو الفكر. وهو كشارل فوجت حيث يقول: «الدماغ للفكر كالمعدة للهضم، أو الكبد لإفراز الصفراء من الدم، والمؤثرات الداخلة إليه تحركه كما تحرك الأطعمة المعدة، ووظيفة الدماغ حفظ صورة لكل تأثير وجمع هذه الصور، ثم المقابلة بينها واستخراج أحكام منها، كما أن وظيفة المعدة حل الأطعمة وتحويلها إلى دم.»
وكما يكون الإنسان كذلك يكون إلهه. وأمر الله ليس سوى النظام اللازم للكون؛ أي ناموس المادة الطبيعي، قال: «إن جميع ظواهر الكون لم تكن ولا هي كائنة، ولن تكون سوى نتيجة لازمة للمادة أو للنواميس التي تسوس جميع العوالم؛ فسبب كل شيء في هذه الصفات أو النواميس، وهي التي يسميها فان هلمونت: أمر الله.»
وبواسطة كونديلياك وكبانيس والأنسيكلوبيذيين تأيد الرأي الحسي في فرنسا، وصار له أتباع في عهد الجمهورية الأولى عند سائر المتنورين، وامتد تأثيره أيضا جدا في القرن التاسع عشر.
ومن مشاهير الفرنساويين أيضا هلفتيوس، واسمه لا ينفصل عن اسم دلامتري؛ لتوسعه بالمادية نظيره. ولد بباريز سنة 1715 من أبوين ألمانيين، وكان يحب المجد جدا فترك كل شيء وتعلق على العلم. وبعد تعب عشر سنين نشر كتابه «في العقل» فاشتهر به جدا. وبين أن الحس مصدر كل معرفة، وهو يعبر عن قوة الحس بالنفس، وعن جملة التأثيرات والمعارف المتحصلة للنفس بالعقل، فالعقل نتيجة النفس، وحالة تكويننا من الدقة والخشونة. وكل الأفكار ناشئة عن الحواس وبدون الحواس لا فكر، والطفل له نفس؛ أي هو قادر أن يحس، وليس له عقل؛ لأن العقل ينمو شيئا فشيئا بما يتحصل للنفس من المعلومات بواسطة الحواس. فالإنسان يولد إذن مع كل نفسه، ولكن ليس مع كل عقله.
فمحبة الذات والمصلحة الخصوصية هما حسب هلفتيوس مصدر كل أعمالنا وأحكامنا، فالإنسان لا يعمل عملا إلا لمصلحته، وأما عمل الخير لأنه خير فقول فاسد، كعمل الشر لأنه شر. وقاعدته الأدبية هي هذه: «فتش عن الراحة، وابعد عن الشقاء.» والفضيلة عنده قائمة بتقديم مصلحة الحكومة والجمعية والإنسانية على المصلحة الذاتية.
Unknown page