Sharkh Bukhnir Cala Madhhab Darwin
شرح بخنر على مذهب دارون
Genres
وخطأ هولباخ في اعتباره تغيرات المادة، هو أنه كهرقليط وإبيقورس ولوكرس وجسندي يجعل النار مبدأ كل حياة، ثم بعد أربع سنوات من ذلك اكتشف بريستلي الأكسيجين، وفي هذا العهد اشتهرت امتحانات لافوازيه العظيمة التي اتضحت بها ظواهر الاشتعال، وكانت قاعدة مذهب التغيرات الكيماوية الواسع.
وعلل هولباخ حركة الأجزاء الصغيرة المادية بالجذب والدفع، كما عللها أمبيدقل بالمحبة والنفور، وقال: «إن كل ما يحدث في الطبيعة شديد الانتظام، وسبب هذا الانتظام قوى الطبيعة الأساسية الأزلية، ولداعي الأسباب والمسببات كانت الضرورة ناموس الأعمال في العالم الحسي كما في العالم المعنوي؛ أي كل حادث حادث بالاضطرار.»
وقد بين في فصل النظام أن المراد بهذه اللفظة تعاقب الظواهر الناشئة عن النواميس الطبيعية الثابتة تعاقبا منتظما. ولا يصح إطلاق لفظة عدم النظام على شيء من حوادث الطبيعة، كما أنه لا يصح إطلاق الصدفة العمياء عليها، ولا صحة لذلك إلا في جهلنا، فكل ما تفوتنا أسبابه نظنه صدفة. وهذا النظام في الطبيعة ليس فيه شيء من المعجزة، «فليس في الطبيعة أمر عجيب إلا للذين لم يدرسوها جيدا.» والجيد والرديء اعتباريان نسبيان في الوجود، مثل النظام والصدفة وما شاكل.
وقد تظاهر ضد ديكارتوس وتعليمه؛ لأنه جعل ما يفتكر منفصلا عن المادة، قال: لو جعلت المادة ذات خاصة لأن ترتفع في الإنسان إلى درجة الافتكار، لكان ذلك أبسط وأصح. وسائر تغيرات النفس على رأيه متوقف على عمل الدماغ، وهذا العمل تنبهه المنبهات، وتدعوه إلى خارج، قال في هذا المعنى ما نصه:
إن الذين يفصلون النفس عن الجسد لا يفصلون عنهم إلا دماغهم، والدماغ هو المركز الذي تجتمع إليه الأعصاب من جميع جهات الجسد، وكل الأعمال التي ينسبونها للنفس يعملها هذا العضو. وهو ينفعل للمؤثرات الخارجية فيحرك أعضاء الجسد، أو يفعل على نفسه ويولد أنواعا مختلفة من الحركة سميت قوى النفس.
فالنفس ليست سوى خاصة من خصائص المادة أو عملا من أعمالها، وبالحصر من أعمال الدماغ، قال: «إذا حركت النفس ذراعي - على فرض ألا يكون هناك مانع يمنع ذلك - وحمل ثقلا كبيرا فلا تعود تقدر على تحريكه، فيتعطل عملها إذن بسبب مادي. ولو كانت النفس روحا لا نسبة بينها وبين المادة، لما كان يقتضي أن يكون كذلك؛ لأن الروح لا ينبغي لها أن تجد صعوبة في تحريك العالم أعظم منها في تحريك ذرة منه، فمثل هذا الروح إذن وهم.»
وبالنتيجة لا يوجد أفكار غريزية ولا أميال أدبية غريزية، ولا إرادة حرة مطلقة، بل كل شيء ناتج من الحواس والتربية والتشبه والعادة. وتعليم الإرادة الحرة يجعل الإنسان يجهل ضرورة ارتباطه الكلي بالطبيعة، فإرادة الإنسان لا تطلب النافع، وتنفر من الضار لما لها من الحرية، بل لما في ذلك من الضرورة لكيانها، فإننا نظن أنها تختار مما بين الأشياء عن حرية. والحال أن في الأمر سببا قوي على الإرادة فمال بها من حيث غلبت. وإذا كان يصعب علينا معرفة الأسباب الأخيرة التي نعتمد عليها في أفعالنا؛ فلكثرة الأسباب التي تنازعنا قبل اعتمادنا ولشدة اختلاطها.
وقال فيما خص خلود النفس ما معناه، أن من يزعم أن النفس لا تزال تحس وتفتكر بعد الموت، يلزمه أن يقول: إن الساعة المكسورة لا تزال تعين الوقت بعد الكسر كما كانت قبله. ومن الغريب أنك ترى شديدي الاعتقاد بخلود النفس أحرص الناس على الحياة الدنيا، وأجبنهم لدى الموت. على أن هذا الاعتقاد لا فائدة فيه؛ إذ لا يمنع الأشرار عن ارتكاب الشر. وأما الذي لا يعتقد الحياة الأخرى فيسعى بأنه يجعل الحياة الدنيا سعيدة، وهذه السعادة لا يجدها إلا بنيل محبة قريبه.
وفي الفصول السياسية من هذا الكتاب يندد كثيرا بالأحوال المقررة، ويبسط أفكاره وآرائه بكل جسارة فيما هو كائن، وما يلزم أن يكون. ولا شك أن تعليمه كان من جملة بواعث الثورة الفرنساوية، قال في هذا المعنى ما نصه:
إننا لا نرى هذا القدر من الجنايات على الأرض إلا لتضافر كل شيء على جعل البشر أشرارا جانين، فإن دياناتهم وحكوماتهم وتربيتهم، والأمثلة التي يرونها نصب أعينهم تدفعهم إلى الشر. فما عسى أن ينفع تعليم الفضيلة التي يذهب أصحابها غنيمة باردة في هيئات اجتماعية ترفع شأن الجاني وجنايته، وتجل قدر المسيء وإساءته، ولا تقاص أقبح الذنوب إلا إذا كان مرتكبوها ضعافا؛ فإن الهيئة الاجتماعية تقاص الصعاليك لذنوب ترفع شأن أصحابها إذا كانوا كبارا، وكثيرا ما تقضي بالموت على أناس لم يرتكبوا القبيح إلا لفساد أحكامهم بالاعتقادات الفاسدة التي تكون الحكومة قائمة بتعزيز شأنها.
Unknown page