Sharkh Bukhnir Cala Madhhab Darwin
شرح بخنر على مذهب دارون
Genres
فهذا ما نبسطه فيما خص تنازع البقاء الذي هو في الحياة الأدبية أيضا كما هو في الحياة الطبيعية. وبقي علينا لتتمة الموضوع أن نبسط الكلام على الأقسام الثلاثة الباقية، وهي تكون التباينات، ثم انتقال هذه التباينات بالوراثة، وأخيرا انتخاب الطبيعة لما هو أكثر صلاحية. فالأول وهو:
تكون التباينات
مبني على القاعدة المتحصلة من الاختبار، والتي وضعها دارون، وهي أن الأجسام الحية ميالة إلى التغير على أوجه مختلفة، وإلى حد محدود؛ أي إنها تنحرف عن الأصل الصادرة عنه ببعض صفات خصوصية، إما في السحنة أو اللون أو الكساء أو القد أو القوة أو تكوين بعض الأعضاء، فلا تشبه الأبناء الآباء شبها تاما مطلقا، ولا يجتمع اثنان مع كثرة الأجسام العضوية على شبه واحد، حتى ولا ورقتان على شجرة واحدة، بل يوجد دائما اختلاف ولو مهما كان قليلا. فالتحول إلى حد محدود هو إذن ناموس عام يطلق على جميع الأحياء. ولا يقال إن الحي يلد حيا نظيره، ولا يصح أن يقال أيضا إنه يلد حيا مختلفا عنه؛ لأن الوراثة ليست راسخة كما أنها غير متخلقة، فلو كانت راسخة لاقتضى أن يبقى العالم العضوي واحدا في جميع الأدوار وفي سائر الأحوال، وذلك بخلاف الواقع لما يعلم من اختلاف الأحياء العظيم في الأدوار الجيولوجية. ولو كانت متخلقة لاقتضى أن يحصل في الصور العضوية شذوذ يشرد بها ولا يرد إلى قياس، وهو ليس كذلك أيضا. والصحيح أن يقال: إن كل حي يلد حيا شبيها به، وعلى هذه القاعدة يشبه الابن أبويه بالصفات الجوهرية، ولا يشبههما أبدا بكل الصفات، ولو أن الاختلاف جزئي غير محسوس. ويشتد هذا الاختلاف كلما كانت سلسلة التسلسل أطول، فإن النباتات والأشجار الفسيلية أكثر شبها بأصلها من النباتات البزرية، والأشجار المثمرة المطعمة لا تنبت كذلك إلا إذا زرعت بالفسيلة، وترجع إلى أصلها البري إذا زرعت بالبزرة. على أن الاختلاف بين الأبناء والآباء هو غالبا جزئي جدا بحيث يخفى على غير المحقق؛ فإن قطيع الغنم قد يظهر للبعض أن كل واحد منه نظير الآخر، وأما الراعي فيعرف كل فرد منه بعلامة خصوصية. وهكذا كل زوج في سرب من الطير، فإنه يعرف بعضه ويجتمع به بسهولة.
فهذا الميل في الأحياء إلى التغير نتيجته تكوين التباينات، ولا يخفى ما له من الأهمية في صناعة تحسين الحيوانات الأهلية والأثمار والأزهار، سواء كان ذلك بتوليد تباينات جديدة بالتصالب أو بتثبيتها بعد توليدها.
وهذا على رأي دارون أصل الأنواع فإنها حاصلة عن انحصار بعض الصفات في بعض الأفراد، وانتقالها في النسل بالوراثة، وثبوتها فيه مع الزمان الطويل، فالتباينات على رأيه أنواع في حالة النشأة والأنواع تباينات واضحة جيدا وثابتة.
وربما لم يظهر الانتخاب الطبيعي واضحا حتى يتوهم الضد كما في الأماكن التي لا تتغير فيها أحوال الحياة الخارجية، كالإقليم والتربة والقوت والهواء وأقسام اليابسة والمياه، أو تتغير قليلا جدا مثل بلاد مصر، فإنها لموقعها الجغرافي لم يعرض لها منذ ألوف من السنين أدنى تغير يعتد به لا في إقليمها، ولا في سائر أحوالها الخصوصية، فلم تتغير نباتاتها ولا حيواناتها ولا أناسها. وأما في الأماكن المتغيرة أحوالها فبالضد من ذلك يكون الانتخاب الطبيعي ظاهرا واضحا جدا.
ولا يسع خصوم دارون أن ينكروا ميل الأحياء إلى الاختلاف وتكوين التباينات لما هو واضح ومسلم به عموما، إلا أنهم يزعمون أنه لا يتناول إلا الأعراض فقط كاللون والجلد والقد وغير ذلك، ولا يصل تأثيره إلى جوهر التكوين. وقد بين دارون بطلان زعمهم هذا، وأثبت أن الميل المذكور يصل إلى الجوهر أيضا، قال: إن الفرق بين النوع والتباين يمتنع تبيينه علميا، والاختلاف بين العلماء من هذا القبيل كبير، وليس لهم فيه تعريف مقبول، والذي أوقعهم في هذا الارتباك اعتبارهم النتاج حدا يفصل به النوع.
ولا تمر سنة إلا ويضع العلماء أنواعا جديدة، وكل منهم يميزها على هواه، فقد ذكر دارون أن النباتي الإنكليزي وستن يذكر 182 نباتا إنكليزيا عدها غيره أنواعا مع أنها تباينات . وقد قال هوكر في هذا المعنى ما نصه:
إن النباتيين يعدون الآن من 8000 إلى 15000 نوع من النبات، فالنوع إذن غير محدود. وإذا كنا لا نستطيع أن نتحقق انتقال الأنواع بأنفسنا؛ فلانحصارنا في دائرة من الاختبار ضيقة جدا.
وما قيل عن النبات يقال أيضا عن الحيوان؛ فإن فيه أصولا كثيرة يعدها بعضهم تباينات وبعضهم أنواعا. وقد قال جيبل أستاذ الحيوان، وقد بين لخصومه بطلان اعتقادهم في النوع: «إنهم كثيرا ما يعتمدون في تمييز الأنواع على اختلافات هي فيها أقل منها في فروع الجنس البشري.» وقال هكل: «إنه في صناعة تحسين النبات والحيوان كثيرا ما يحصل على اختلافات أهم من الاختلافات الطبيعية التي يعتبرها بعض الطبيعيين كافية لتقرير النوع والجنس أيضا.» والأستاذ برن مترجم دارون يقول أيضا: «إن القول بالأنواع لا أساس له، وليس ما يسوغه في طبيعة الأشياء.» ولأمر معلوم أنه كلما كان الطبيعي واسع الاطلاع في فنه أشكل عليه تمييز الأنواع؛ لزيادة علمه بالتباينات والصور التي بين بين. وعليه، فكلما اتسع العلم قل التصديق بالنوع؛ وهذا مما يدل على أن القول به لا أساس له إلا في عقل الإنسان.
Unknown page