192

Sharḥ Nahj al-Balāgha

شرح نهج البلاغة

Editor

محمد عبد الكريم النمري

Publisher

دار الكتب العلمية

Edition Number

الأولى

Publication Year

1418 AH

Publisher Location

بيروت

فدخل عليه فخبره بمجيئنا إليه ، ومقالتنا له ، فأذن لنا ، فدخلنا عليه ، فقال : ما هذا الخبر الذي جاءني به عنكم الوليد ؟ فقلنا : هذا خبر في الناس سائر ، فشمر للحرب ، وناهض الأعداء ، واهتبل الفرصة ، واغتنم الغرة ، فإنك لا تدري متى تقدر على عدوك على مثل حالهم التي هم عليها ، وأن تسير إلى عدوك أعز لك من أن يسيروا إليك . واعلم والله أنه لولا تفرق الناس عن صاحبك لقد نهض إليك . فقال لنا : ما أستغني عن رأيكم ومشورتكم ، ومتى أحتج إلى ذلك منكم أدعكم . إن هؤلاء الذي تذكرون تفرقهم على صاحبهم ، واختلاف أهوائهم ، لم يبلغ ذلك عندي بهم أن أكون أطمع في استئصالهم واجتياحهم ، وأن أسير إليهم مخاطرا بجندي ، لا أدري علي تكون الدائرة أم لي ! فإياكم واستبطائي ، فإني آخذ بهم في وجه هو أرفق بكم ، وأبلغ في هلكتهم . قد شننت عليهم الغارات من كل جانب ؛ فخيلي مرة بالجزيرة ، ومرة بالحجاز ، وقد فتح الله فيما بين ذلك مصر ، فأعز بفتحها ولينا ، وأذل به عدونا ، فأشراف أهل العراق لما يرون من حسن صنيع الله لنا ، يأتوننا على قلائصهم في كل الأيام ، وهذا مما يزيدكم الله به وينقصهم ، ويقويكم ويضعفهم ، ويعزكم ويذلهم ؛ فاصبروا ولا تعجلوا ، فإني لو رأيت فرصتي لاهتبلتها . فخرجنا من عنده ونحن نعرف الفضل فيما ذكر ، فجلسنا ناحية ، وبعث معاوية عند خروجنا من عنده إلى بسر بن أبي أرطأة ، فبعثه في ثلاثة آلاف ، وقال : سر حتى تمر بالمدينة ، فاطرد الناس ، وأخف من مررت به ، وانهب أموال كل من أصبت له مالا ؛ ممن لم يكن دخل في طاعتنا ؛ فإذا دخلت المدينة ، فأرهم أنك تريد أنفسهم ، وأخبرهم أنه لا براءة لهم عندك ولا عذر ، حتى إذا ظنوا أنك موقع بهمم فاكفف عنهم ، ثم سر حتى تدخل مكة ، ولا تعرض فيها لأحد ، وأرهب الناس عنك فيما بين المدينة ومكة ، واجعلها شردا ، حتى تأتي صنعاء والجند ، فإن لنا بهما شيعة ، وقد جاءني كتابهم .

فخرج بسر في ذلك البعث ، حتى أتى دير مروان ، فعرضهم فسقط منهم أربعمائة ، فمضى في ألفين وستمائة ، فقال الوليد بن عقبة : أشرنا على معاوية برأينا أن يسير إلى الكوفة ، فبعث الجيش إلى المدينة ، فمثلنا ومثله ، كما قال الأول : أريها السها وتريني القمر .

فبلغ ذلك معاوية ، فغضب وقال : والله لقد هممت بمساءة هذا الأحمق الذي لا يحسن التدبير ، ولا يدري سياسة الأمور . ثم كف عنه .

قلت : الوليد كان لشدة بغضه عليا عليه السلام القديم التالد ، لا يرى الأناة في حربه ، ولا يستصلح الغارات على أطراف بلاده ، ولا يشفي غيظه ولا يبرد حزازات قلبه ، إلا باستئصاله نفسه بالجيوش ، وتسييرها إلى دار ملكه ، وسرير خلافته ، وهي الكوفة ، وأن يكون معاوية بنفسه هو الذي يسير بالجيوش إليه ، ليكون ذلك أبلغ في هلاك علي عليه السلام ، واجتثاث أصل سلطانه . ومعاوية كان يرى غير هذا الرأي ، ويعلم أن السير بالجيش للقاء علي عليه السلام خطر عظيم ؛ فاقتضت المصلحة عنده وما يغلب على ظنه من حسن التدبير ، أن يثبت بمركزه بالشام في جمهور جيشه ، ويسرب الغارات على أعمال علي عليه السلام وبلاده ، فتجوس خلال الديار وتضعفها ؛ فإذا أضعفتها بيضة ملك علي عليه السلام ؛ لأن ضعف الأطراف يوجب ضعف البيضة ، وإذا أضعفت البيضة كان على بلوغ إرادته ، والمسير حينئذ - إن استصوب المسير - أقدر .

ولا يلام الوليد على ما في نفسه ؛ فإن عليا عليه السلام قتل أباه عقبة بن أبي معيط صبرا يوم بدر وسمي الفاسق بعد ذلك في القرآن ، لنزاع وقع بينه وبينه ، ثم جلده الحد في خلافة عثمان ، وعزله عن الكوفة ، وكان عاملها . وببعض هذا عند العرب أرباب الدين والتقى تستحل المحارم ، وتستباح الدماء ، ولا تبقى مراقبة في شفاء الغيظ لدين ولا لعقاب ولا لثواب ، فكيف الوليد المشتمل على الفسوق والفجور ، مجاهرا بذلك ! وكان المؤلفة قلوبهم ، مطعونا في نسبه ، مرميا بالإلحاد والزندقة .

قال إبراهيم بن هلال : روى عوانة عن الكلبي ولوط بن يحيى أن بسرا لما أسقط من أسقط من جيشه ، سار بمن تخلف معه ، وكانوا إذا وردوا ماء أخذوا إبل أهل ذلك الماء فركبوها ، وقادوا خيولهم حتى يردوا الماء الآخر ، فيردون تلك الإبل ، ويركبون إبل هؤلاء ، فلم يزل يصنع ذلك حتى قرب إلى المدينة .

Page 6