وفكت سيسي رباط خصرها فانطلقت من عقالها حزمة من الثنيات المطرزة بيضاء كالزبد، وشريط له لون وردي داكن، وامتلأت الحجرة بعبير عذب انبعث من قارورة الطيب المثير الذي تستعمله، وحملق جوني وهي تحل الرباط المعقد وترخي غطاء شعرها، وتذكر الرجل المسكين سمعتها المعروفة وأساء فهم الأمر، وأن قائلا: لا، لا يا سيسي، أرجوك. - لا تكن غبيا يا جوني، لكل شيء مكانه وأوانه، ولكن ليس هذا هو الأوان.
وانتزعت الزجاجة، واختطفها منها، وكانت قد دفئت من دفء جسدها، وتركته يعب منها جرعة كبيرة، ثم انتزعت الزجاجة من بين أصابعه المتشنجة، وهدأ جوني بعد أن شرب، وشعر برغبة في النوم، ورجاها ألا تتركه، ووعدته بذلك، ونامت على السرير بجواره دون أن تكلف نفسها عناء عقد أشرطتها أو ربط خصرها، ووضعت ذراعها تحت كتفيه، وأسند جوني خده على صدرها العاري الفواح العبير، وراح في النوم والدموع تطفر من تحت جفونه المغلقة، وزادت حرارتهما على حرارة جسديهما المتلاصقين.
ورقدت سيسي يقظى تحتضنه بين ذراعيها وتحملق في الظلام، وهي تشعر نحوه بما كانت خليقة بأن تشعر به حيال أطفالها، لو أنهم عاشوا ليستشعروا دفء حبها، وربتت على شعره المجعد وتحسست خده في رفق، ولاطفته وهدأت ثائرته حين راح يئن في نومه بالكلمات الرحيمة، التي كانت خليقة بأن تناجي بها أطفالها، وتقلص ذراعها وحاولت أن تحركه فاستيقظ جوني لحظة وأمسك بها في قوة، ورجاها مستعطفا ألا تتركه، وكان يناديها حين يخاطبها: أماه.
وكانت تعطيه كلما استيقظ وشعر بالخوف جرعة من الويسكي، ثم استيقظ قبل الصبح ووجد عقله أكثر صفاء، ولكنه قال إنه يشعر بألم في رأسه، وانتفض مبتعدا عن أحضان سيسي، وراح يئن، وقالت في صوتها العذب الرقراق: عد إلى أحضان أمك.
وفتحت ذراعيها عن آخرهما، واندس جوني بينهما مرة أخرى، وأسند خده على صدرها الرحب، وبكى في صمت ثم انتحب ينفس عن مخاوفه وهمومه وحيرته من مجرى الأمور في هذا العالم، وتركته يتكلم، تركته يبكي، واحتضنته كما لو كنت أمه تحتضنه وهو بعد طفل، (الشيء الذي لم تفعله أبدا)، وكانت سيسي تبكي معه في بعض الأحيان، وناولته ما بقي من الويسكي حين أفرغ ما في جعبته من حديث، ثم انخرط آخر الأمر في نوم عميق يخلد إليه المرء بعد إرهاق.
ورقدت سيسي لا تبدي حراكا وقتا طويلا، حتى لا يشعر بها وهي تنسل من بين أحضانه، وارتخت قبيل الفجر أصابعه التي كانت تمسك يدها في قوة وعنف، وبدت على وجهه أمارات الأمن والطمأنينة، وتمثلت فيه ملامح الطفولة من جديد، ووضعت سيسي رأسه على الوسادة وخلعت عنه ملابسه في مهارة ووضعت عليه الأغطية، ثم ألقت زجاجة الخمر الفارغة في بئر التهوية (المنور)، وتخيلت أن كاتي لا يمكن لها أن تعبأ بشيء لم تعرفه، وربطت أشرطتها الوردية بإهمال، وأحكمت خصرها، ثم أغلقت الباب في رفق كبير، وهي تدلف إلى الخارج.
وهناك ضعفان كبيران يلازمان سيسي على الدوام، كان قلبها قلب المحب العاشق، وقلب الأم الرحيم، وكان في أعماقها حنان غامر، ورغبة عارمة في أن تبذل من نفسها لكل من يحس بالحاجة إلى ما تملكه، سواء كان هذا مالها أو وقتها أو ملابسها التي تسترها، أو شفقتها، أو فهمها للأمور، أو صداقتها، أو صحبتها أو حبها، كانت أما لكل عابر سبيل، صحيح أنها تحب الرجال، ولكنها تحب النساء أيضا، والعجائز، والأطفال بوجه خاص، ولشد ما كانت تحب الأطفال، وتحب كسيري الخاطر والضالين من الناس، وتريد أن تجعل كل الناس سعداء، وقد حاولت أن تغري القسيس الصالح الذي سمع اعترافاتها الكثيرة؛ لأنها شعرت بالأسى من أجله، فقد اعتقدت أنه يفقد أروع متعة على ظهر الأرض، بأن نذر نفسه للعزوبة.
كانت تحب الكلاب التي تنبش في الطريق، وتبكي من أجل القطط الهزيلة التي تلتقط القمامة، وتنسل حول أركان بروكلين، وقد انتفخت جنوبها باحثة عن شق تضع فيه ما قد تلده من الصغار. كما أنها تحب العصافير الداكنة اللون، وترى الجمال في العشب الذي ينمو على الأرض، وتلتقط زهور البرسيم البيضاء النامية في الأرض، وتعتقد أنها أجمل زهور خلقها الله، ورأت ذات مرة فأرا في حجرتها فأفردت له في الليلة التالية صندوقا صغيرا ملأته بفتات الجبن، أجل كانت تستمع لهموم كل شخص، ولكن أحدا لم يكن يستمع إلى همومها، بيد أن ذلك كان هو العدل؛ لأن سيسي خلقت لتبذل من نفسها دائما ولا تأخذ شيئا أبدا.
ولما دخلت سيسي المطبخ، نظرت كاتي إلى ملابسها المضطربة بعينين منتفختين يطل منهما الشك، وقالت في كبرياء يبعث على الشفقة: أنا لا أنسى أنك أختي، وإني لآمل ألا يكون ذلك قد غاب عنك أيضا.
وقالت سيسي وقد عرفت ما تعنيه كاتي: لا تكوني كالأتان اللئيمة.
Unknown page