Sahyuniyya Calamiyya
الصهيونية العالمية
Genres
وقبل الصهيونيون هذا الحل ببعض التحفظ إلى حين، واحتج العرب عليه، واستعصى الأمر على الدولة المنتدبة، فنظر مجلس الأمن فيه، وقرر بجلسة الثاني من أبريل سنة 1948 إحالته إلى هيئة الأمم لإعادة النظر في التقسيم وبحث مسألة الانتداب على احتمال إسناد الوصاية الموقوتة إلى هيئة الأمم، فتركت الهيئة مشروع التقسيم كما كان، وقررت أن توفد إلى فلسطين رسولا يصلح بين الفريقين ويبسط للهيئة حلا يرضيانه أو ترضاه وتفرضه على الموافقين والمخالفين.
وكانت بريطانيا العظمى قد أعلنت عزمها على الجلاء عن فلسطين والتخلي عن مهمة الانتداب، وعينت للجلاء موعدا في الرابع عشر من شهر مايو سنة 1948، فكأنما كان هذا اليوم موعدا لقيام دولة إسرائيل واعتراف الولايات المتحدة بها قبل انقضاء ساعة من لحظة الإعلان.
ودخلت الجيوش العربية فلسطين، واجتاحت أمامها عصابات اليهود، ولأول مرة من تاريخ مجلس الأمن تعمل المادة التاسعة والثلاثون من ميثاق الأمم المتحدة عملها الناجز في وقف القتال حرصا على سلام العالم ... فكانت الهدنة فرصة لتزويد الدولة اليهودية بالسلاح والعتاد، وتهديد كل دولة عربية على انفراد للكف عن القتال، مع الحرمان من كل مدد تستطيع أن تحصل عليه.
وقد تجددت في هذه المرحلة مناورات السياسة من الدول الكبرى التي تسيطر على سياسة العالم، فاعتقدت كل دولة منها أنها آمنة من مساعدة الصهيونية؛ لأن الصهيونية في حاجة إليها، فالولايات المتحدة تعطي القروض وتأوي في بلادها خمسة ملايين من اليهود، وبريطانيا العظمى صاحبة النفوذ الأكبر في الشرق الأدنى وعلى مقربة من حدود إسرائيل، وروسيا يسكنها ملايين من اليهود وتدين بالمذهب الذي نشره اليهودي كارل ماركس وتابعه عليه الكثيرون من أبناء جلدته في جميع البلدان.
ثم كان ما هو مذكور من وقف القتال في السابع عشر من شهر يونيو سنة 1949 وطغيان اليهود على بلاد فلسطين جميعا إلى أقصى الجنوب، وذهب أبناء البلاد مشردين بالعراء، محرومين من المأوى والمرتزق في مواطن آبائهم وأجدادهم منذ آلاف السنين، وشذاذ الآفاق ينعمون بخيرات تلك المواطن ويتدفقون عليها بغير حائل ولا مانع، حتى بلغ سكان إسرائيل أكثر من مليون وستمائة ألف عند نهاية سنة 1952.
لقد رأينا كيف يتدرج الصهيونيون من طمع إلى طمع كلما أنسوا التشجيع أو الإغضاء من دول الاستعمار. كانوا يقنعون بالسكن حتى وجدوا من يطمعهم في الوطن القومي، فطلبوه وزادوا عليه إقامة الدولة في ذلك الوطن المغصوب، وكانوا يقنعون بالقسمة فهم لا يقنعون اليوم بما دون السيطرة الكاملة على جميع البلاد. ووضح من تسمية الدولة الناشئة باسم إسرائيل أنهم يتطلعون إلى مملكة يهوذا في الجنوب، ووضح من دعوتهم ودعواهم على ألسنة المتهوسين منهم أنهم يطمعون في الدولة التي رسمت حدودها في سفر التكوين «من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات ...» والتي رسمت حدودها في كلام يشوع «من البرية ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات ... وإلى البحر الكبير نحو مغرب الشمس».
وليست دعوة المتهوسين بين هؤلاء القوم غير دعوة العقلاء والحكماء كلما سنحت الفرصة وواتاها من الأقوياء تشجيع وإغراء. وحسب صهيون من تشجيعهم وإغرائهم حتى الساعة أنها لم تحاسب قط على مخالفة، ولم تحفل قط بقرار يتفق عليه الأقوياء أو يختلفون. وتنقضي الأيام على مصرع رسول الأمم، وعلى اقتحام بيت المقدس، وعلى اختراق الحدود، وإهدار دماء الأبرياء، وترويع المشردين فوق ما أصابهم من ترويع وتشريد، فلا تدان صهيون بجريمة من هذه الجرائم، بل تتجنى على غيرها وتشكوه. فتنفتح الآذان والصدور لاستماع شكواها، ثم لا يقال لها أقل ما ينبغي أن يقال في هذا المجال: اذهبي فأطيعي الهيئة التي ترزئينها ثم تستمدين العون منها. ولعلها ستعان ثم تعان قبل أن تؤمر يوما بأن تسمع وتطيع.
وفي وسع الدول الكبرى أن تصنع كثيرا لإسرائيل، إلا شيئا واحدا لا تستطيعه، لأنه لا يستطاع.
ليس في وسعها أن تقيمها على قدميها وأن تغنيها عن معونتها، وهي لا تفتأ تستعين بها على نفقات الدفاع، ونفقات الإيواء والتعمير، وسداد الديون، وإن طال صبرها على معونتها فليس في وسعها أن تضمن لها دوام «التقلبات السياسية» في مصلحتها، ولا أن تقتلع من طباع أبنائها جذور ذلك الداء الذي شكاه أنبياؤها قديما، وسيشكونه لا محالة أصبر الساسة من الأقوياء والضعفاء: داء الرقبة الغليظة، وليس له دواء.
أما الأمم العربية فهي في الحق ضعيفة أمام أنصار إسرائيل، ولكنها تحبط ما يعملون بعمل واحد: وهو الإعراض عنها والكف عن معاملتها. وإن دولا أقوى من إسرائيل وأسلم منها بناء في موطنها لتنخذل مع الزمن إذا طالت المسافة بين من تعاملهم ويعاملونها، ونضبت مواردها عن تعويض منافعها من أقرب الناس إلى مصانعها وأسواقها، وليس للأمم العربية من خيار إلا هذه المقاطعة، أو سيطرة إسرائيل عليها بما تأخذه من خيراتها وتستفيده من جهودها.
Unknown page