ولا يظن القارئ أن «لدفج» أهمل تعليل العظائم في تراجم عظمائه، أو خفيت عليه معجزاتهم، وغابت عنه العناصر الإلهية في خلائقهم الآدمية. كلا! إن لدفج لم يهمل علة ولم تخف عليه معجزة، ولا سها عن عنصر من عناصر القدرة الخارقة في تلك الخلائق المعهودة ولكنه صب معادنهم صبا في قالبها الجامع حتى تاهت العظائم في الزحام، واحتاجت في ذلك الحشد الزاخر إلى تنويه وإعلام، وحتى خيف على العظمة من فرط التسهيل والتبسيط أن يجترئ على هيبتها كل مجترئ ويستباح ذمارها لكل طامع.
وهنا نسأل: أيهما أفضل في تاريخ الأبطال، أن نسلك في تصويرهم سبيل التطويب والتقديس والتوجه إلى الغريب والمعجزات، أو سبيل التبسيط والتسهيل والتوجه إلى المألوف المشاع المطمع في التحدي والمحاكاة؟
والواجب أن نعلم : لم نكتب ترجمة العظماء قبل أن نتفق على الأسلوب لترجمة العظماء؛ فنحن نكتب هذه التراجم لإرضاء الشغف النفسي بالوقوف على كل سر، والإحاطة بخفايا الوجود، ولا سيما خفايا النفس الإنسانية التي هي قبلة الإنسان، وغاية ما يشغله ويستجيش عطفه وتفكيره، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نكتب تراجم العظماء لإنصافهم وتقديرهم وإعطائهم حقهم من جزاء التبجيل والإعجاب، ثم نكتبها من جهة غير هذه وتلك؛ لنستحث المقتدين بهم على ترسم خطواتهم والتطلع إلى مراتبهم؛ وفي كل غرض من هذه الأغراض لا ينفعنا أن ننفي عنصر الغرابة والتقديس من تراجم العظماء، أو ندمجه في سياق العرف المألوف، إذ العرف المألوف لا يستفز القدوة، ولا ينصف العظمة، ولا يبعث الشوق إلى المعرفة، فإبراز جوانب الغرابة والتنويه بها هو الأساس في تراجم الأفذاذ الذين ما كانوا أفذاذا إلا لأنهم غرباء يختلفون عن سواد الناس، فإذا دعانا الحق إلى الأمانة والتدقيق في تصوير حياة العظيم، ورد عناصرها إلى أسبابها المعقولة بحيث لا تبدو عليها مناقضة للحقائق الطبيعية، فلا بد أن نشفع ذلك بما يوازن هذه الأسباب المعقولة والحقائق الطبيعية، فلا بد أن نشفعه بما يظهر للناس أن تلك الأسباب لا تكون معقولة ولا طبيعية إلا مع نابليون مثلا، أو جيتي، أو ولهلم الثاني، أو المسيح، فمعقول وموافق للطبيعة وغير عجيب ولا مدهش أن يعمل هؤلاء ما عملوا ويحدثوا في تاريخ الإنسان ما أحدثوا، ولكن لماذا كان ذلك معقولا منهم وموافقا للطبيعة منهم وغير عجيب ولا مدهش منهم وإن كان فيه العجب كل العجب، والدهشة كل الدهشة من الآخرين؟ ذلك لأنهم غرباء عن المألوف، لا لأنهم مألوفون يدخلون مع سواد الناس في نسق واحد، وهذا الذي يجب أن يبين، وهذا هو الغرض من ترجمة العظيم، سواء كان ذلك الغرض إرضاء الشوق النفسي، أو إرضاء العظيم، أو حفز الهمم الطامحة إلى الاقتداء.
وقد يكون هناك محال لسؤال آخر وهو: هل الأفضل تاريخ العظيم في نفسه، أو في ظروفه الخارجية؟ ولكننا نعتقد أن الرأي في هذا مجمع عليه ، أو ينبغي أن يكون مجمعا عليه؛ لأن الظروف الخارجية لن تعنينا في شيء إن لم يكن وراءها كشف عن حقيقة نفسية في حياة المترجم له. نعم إن الحربيين - مثلا - يدرسون وقائع نابليون ويرتبون عليها ما يرتبون في علم التعبئة وقيادة الجيوش، ولكنهم يدرسونها علما مستقلا عن كل إنسان، كعلم الرياضة الذي تتساوى حقائقه في جميع الأزمنة وبين جميع الأفراد، أما إذا التفتوا إلى إحصائها ودرسها لأنها جزء من نفس نابليون، فهنالك تكون الحقيقة النفسية هي المقدمة في التصوير، وتكون الوقائع الخارجية هي الوسيلة إلى ذلك الغرض الأصيل.
تاريخ المسيح لإميل لدفج1
1
كان إميل لدفج الذي أشرنا إلى تراجمه للعظماء في المقال السابق موفقا في ترجمته لنابليون وبسمارك، وأقل من ذلك توفيقا فيما ظهر من ترجمته للشاعر جيتي باللغة الإنجليزية، ولكنه لم يصب توفيقا يذكر في ترجمته لولهلم الثاني، ولا في ترجمته للسيد المسيح.
فأما ولهلم الثاني فقد رسمه من جانب واحد لم يلتفت إلى غيره، هو الجانب المعيب المبالغ فيه، أو هو الجانب الذي أظهرته الدعاية السياسية من لدن أعدائه في البلاد الخارجية، وخصومه في الأحزاب الألمانية، وزاده تحيزا على تحيز أنه إسرائيلي يكتب عن عاهل كان معروفا بالغلو في الوطنية الجرمانية والاحتراس من معاشرة الإسرائيليين، فالذي يقرأ سيرة ولهلهم الثاني بقلم إميل لدفج، يخيل إليه أنه يقرأ قصة إنجليزية من قصص الحرب العظمى أو حملة من حملات الحلفاء التي كانت تروجها مكاتب الدعاية في أشد أيام اللدد والتناحر بين الحلفاء والجرمان، ولكنه لا يرى في كل مائة صفحة صفحة واحدة تومئ إلى ولهلم الثاني الذي حكم الأمة الألمانية جيلا كاملا، أزهرت فيه حضارتها أيما إزهار وارتفع فيه مقامها في العلم والصناعة والثروة والقوة والنظام إلى الأوج الذي لم ترتفع إليه قبل حكمه، والذي لولا نكبة الحرب - وهي نكبة كان مسوقا إليها أكثر مما كان سائقا - لاطرد في سبيله اطرادا يعيي المنافس، ويبهر النظير.
وأما في سيرة السيد المسيح فقد كانت الإسرائيلية آفة الكاتب كما كانت آفته في سيرة الإمبراطور؛ لأنها غلت يده عن تصوير بطله فلم يشارفه إلا على حذر وتقية، ولأنه جنح بطبعه إلى تمثيل المسيح يهوديا من اليهود وإسرائيليا من إسرائيل، فلم تكمل الصورة بين يديه ولم يكن يرسل عليها النور إلا من جانب الموافقة للبيئة دون جانب المخالفة، فالذي يرى السيد المسيح في هذه الصورة يرى ألوانا باهتة، كأنما رسمت على أضواء النجوم لا على ضوء النهار الساطع، ويعجب لماذا يجشم المؤلف نفسه مشقة الكتابة في هذا الموضوع بعد رينان؟ وما هي المزية الجديدة التي جاء بها بعد ذلك المؤرخ الأديب الجسور الذي خرجت صورة المسيح من بين يديه وهي تنضج بالغضارة وتتنفس أنفاس الحياة، فإن كانت المزية عنده أنه مسح عنها ألوانها وكبح بعض الشيء من حماسة الناظرين إليها فقد تم له ما أراد وباعد في الملامح ما استطاع بين صورته وصورة رينان، وإلا فقد كان رينان أجرأ منه على مواجهة الحقائق، وأجسر على الإنكار الحاسم حين تظهر لها ضرورة الإنكار، فلم تكن صور أجمل ألوانا وأوضح معارف وأحيا حياة؛ لأنه صدق من الأسانيد والمعجزات ما لم يصدقه «لدفج»، أو لأنه كان يجامل حيث يجترئ لدفج. كلا! فربما كان ذلك القس المسيحي أشد إنكارا من هذا الشاك الإسرائيلي، وكل ما في الأمر أن رينان كان أقدر على فنه وأحب لموضوعه، وأشبه بالسيد المسيح الذي تخيله، ونسج وشيجة العطف بينه وبينه.
ومن أوجه العذر ل «لدفج» أنه - كما قال - كتب تاريخ يسوع الرجل، ولم يكتب تاريخ المسيح صاحب الرسالة، فهذا عذر يقوله المؤلف ويدل على قصده من كتابة تاريخه، ولكن هل في وسعنا نحن الآن أن نفرق بين التاريخين جد التفريق وأن نتكلم عن يسوع بمعزل عن السيد المسيح؟ إن الذي يحق له أن يفرق بينهما هو الذي يستطيع أن يستحدث لنا أسانيد غير هذه الأسانيد التي بين أيدينا، والتي كتبت كلها عن «المسيح صاحب الرسالة»، ولم تكتب عن الإنسان البحت من يوم مولده إلى يوم انتهى العهد به، وهو الذي يستطيع أن يملأ الفجوات الخالية من ذلك التاريخ ويقرب الأطراف البعيدة، ويفسر ما يفتقر إلى التفسير، ولم يفعل «لدفج» ذلك أو هو عالجه فكان كل علاجه له أنه نفى ما هو منفي بذاته، وترك البقية للاحتمال المقبول عنده وليس هو بأقرب احتمال.
Unknown page