195

Sacat Bayna Kutub

ساعات بين الكتب

Genres

وليس من المعقول أن يتأصل حب العدل في نفس منكرة نافية كما تأصل في نفس فولتير، فالذي ينفي كل شيء ويستهزئ بكل شيء، لا يعجب للظلم يغشي أحدا في هذه الدنيا ولا يثور لنصرة المظلوم حتى لينصره بعد موته، أو لمكافحة الظالمين حتى ليغامر في سبيل ذلك بحياته ورغده، ولك أن تسمي هذه الثورة تحديا، وغرورا، وإفراطا، في القوة الغضبية والكبرياء، ولكنك لن تستطيع الرجوع بها إلى الإنكار البحت، والنفي المطلق، إذ المنكر النافي لا يعرف كيف يحارب في صف دون صف، ولا كيف ينجذب إلى ناحية دون أخرى، والمنكر النافي لا يعنيه أن يتغلب فريق على فريق أو نظام على نظام؛ لأنهم سواء كلهم عنده في الخواء، وقلة الجدوى، واستحقاق الغبن، أو المحاباة، فإذا شغلت الظواهر الخادعة ذهن فولتير عما وراءها فبقوة من الحقيقة الكامنة وراء الظواهر يشتغل ذهنه بتمزيق ذلك الرياء، وتحقير ذلك الاحترام الكاذب، ولن تضن بالاحترام على غير أهله نفس تجهل قيمة الاحترام الصحيح ولا تبالي أن يناله من يستحقه ومن لا يستحقه، وإلا فماذا يهمك أن تقف حياتك كلها على تحقير الحقراء إذا كان الاحترام الصحيح عندك ليس بالشيء الخطير الذي تأباه على أولئك الحقراء؟ وقد يكون فولتير قليل الشعور بمصائب الأرواح، فلا عزاء لها عنده، ولا محل لها في حسابه، وقد يكون زميله روسو أحس بهذه المصائب وأكفل لها بالعزاء، ولكن من أدرانا أنه لو لم يحمل السيف في الميدان لكان أقمن أن يحمل البلسم وخيمة الإسعاف! فطيبة الرجل وسخاؤه بالمال على المعوزين، مع حبه للمال وحرصه عليه، وغيرته على العدل، ووفاؤه للصديق، وتلهبه لنصرة المظلوم، وإيمانه بالله في عصر الجحود صفات لا تكون في غير العاطفة الحية والطبائع النبيلة، وما ينبغي للجندي القادر على الحرب في ميدان الكفاح أن يطالب بخصال الكهان، وأخوات الرحمة الذين يرافقون الجيش لجبر المكسور، ومؤاساة الأرواح، وفولتير كان جنديا طول حياته فلا نطالبه بما لا يتفرغ له الجنود، ولو كانوا من ذوي الرحمة، وحسن العزاء.

ولم يكن فولتير واسع الروح ولا عميقها، ولا فيلسوفا ولا شاعرا ولا مؤرخا بين النخبة المختارة من الفلاسفة والشعراء والمؤرخين - هذا حق كما يقول كارليل - أو أقرب منه إلى الحق أن نقول: إنه كان يعاب في الفلسفة والشعر والتاريخ، حيث يحتاج الأمر إلى سعة الروح وعمق الإدراك، ولكنه بعد فيلسوف وشاعر ومؤرخ في كل ما يتوفر لهؤلاء من جلاء النظرة، وسداد الفطنة، وحصافة اللب، وسرعة الخاطر، وقوة العارضة، وهذه ملكات لا يستغني عنها الفلاسفة والشعراء والمؤرخون، ولا يكون الذي تتوفر له صاحب نصيب قليل في هذه الأبواب.

كان فولتير فياضا كالعباب الزاخر، لا ينفد ولا يخذله القلم في مقام، أسلوبه أسلوب الوضوح والسهولة والترسل بلا كلفة ولا تمحل كثير، وذهنه يتساوى سخاؤه في البحوث وسخاؤه في كتابة الرسائل للأصدقاء والمعارف والسائلين والمستفسرين، فله الآن عشرة آلاف رسالة محفوظة غير ما ضاع بينه وبين مراسليه؛ وكلها بأسلوب واحد في الوضوح والقدوة والفصاحة والسلامة من نقائص التركيب، وكلها تكاد تضارع مؤلفاته المحتفل بها في صفاء العبارة، وحسن الأداء، أما هذه المؤلفات فكثيرة منها في الفلسفة معجم الفلسفة ومحاورات لا تحصى، وفي التاريخ عصر لويس الرابع وشارل الثاني عشر، وفي الروايات زيروميزوب ومحمد وتانكرد وروما الناجية، وفي القصص صديق وقنديد، وهذه الأخيرة خير ما كتب في تقدير نقاد الفن والحكمة، حتى لقدا قالوا: إنها تغنيه عن جميع تصانيفه لو قضي عليها بالفناء.

وبعد فما الكتابة عن فولتير في هذه العجالة؟ هي تحية ليس إلا في هذه الذكرى التي يجددون بها عمله اليوم، وإلا فقد كان فولتير دولة أدبية لا تماثلها دولة أديب، وكان أوسع نطاقا من أن تحصره مقالة أو سفر كبير.

سير العظماء1

أطلعني كاتب زميل على كراسات مطبوعة من سير فلوطرخس التي ينقلها إلى العربية؛ لأكتب لها مقدمتها، وليس أحب إلي من ظهور هذه السير باللغة العربية؛ لأنها معرض واسع للعظمة في نواحيها المختلفة من حرب، وخطابة، وسياسة، وفلسفة، كما أدركها رجل واسع الإدراك حصيف الذهن نقادة مميز بين اللباب والقشور والحقائق والأباطيل. كشف النقاب بنافذ بصره عن أوهام كثيرة طالما انخدع بها أبناء عصره، ويخيل إليك وأنت تقرأ تراجمه للعظماء أن الترجمة خرجت مكتوبة وحدها لفرط بساطتها، وانساجمها وموافقتها لمجرى الأمور الطبيعية وملابستها للعظيم الذي تمثله وتكسوه بغير فضول ولا تعمل، ومشابهتها للخلائق الحية التي تحيا لنفسها، وتسير على قدميها، وتتماسك أعضاؤها وأنت لا تدري كيف كان مساكها، ولكنك إذا أقبلت تدرس المقدرة التي أتاحت لفلوطرخس أن «يعاطف» العظمة في كل نوع من أنواعها هذه المعاطفة السهلة البديهية التي توهمك أن الرجل يتكلم عن أبنائه أو معارفه وأهل جيرته بعلم أصيل ، واسترسال لا أثر للكلفة فيه تبين لك أنه عظيم، خلق لفهم العظماء ودرسهم كأنه لا يدرسهم، والحكاية عنهم كأنه يحكي عن حوادث كل يوم، أو عن أبناء الأغمار التي لا غرابة فيها، ونقص كبير في المنقولات العربية أن تظل محرومة من سير فلوطرخس وهي تغص بالمترجمات من أبطال القصص الفارغة التي لا فائدة فيها، ولا هي تداني تلك السير في المتعة والإيحاء، واستجاشة العواطف والأفكار.

أطلعني الكاتب الزميل على تلك الكراسات وأنا أتبع سير فلوطرخس حديث ظهرت مؤلفاته وانتشرت بعد الحرب العظمى، وإن كانت له سمعة سابقة في وطنه بترجمة النوابغ والأبطال، وهذا ال «فلوطرخس» الحديث هو «إميل لدفج» الألماني الإسرائيلي مترجم المسيح، وجيتي، وبسمارك، وولهلم الثاني، ونابليون، وكاتب عشرات من التراجم الصغيرة الموجزة التي لم ينقل منها إلى اللغات الأخرى إلا القليل، و«إميل لدفج» هذا حقيق بأن يعد في طليعة المختصين بالترجمة للأبطال والعظماء بسهولة تداني سهولة فلوطرخس، وبساطة تماثل بساطة الأساتذة الأقدمين، لم يفسدها تعمد التحليل، واعتساف «النظريات»، وكانت دراسته الأولى للقانون ثم تحول عنه إلى الرواية التمثيلية، ودون سيرة بسمارك في هذا القالب، فنبهته هذه المزاولة إلى استعداده الفطري، وملكة التخصص فيه، فعدل إلى كتابة «السير»، وجرى فيها على نمط شائق يعنى فيه بالحياة الداخلية أشد من عنايته بالوقائع الخارجية، ويفرغ به شيئا من الجدة على السير التي ألفها القارئ، ومسحة من الإنسانية المألوفة على كل عظمة، يرفعها التطويب والتقديس إلى مراتب الغرابة المنقطعة والإعجاز المعزول.

يقول «لدفج» في الفصل الأخير من كتابه على نابليون: «إن كتابة تاريخ إنسان وكتابة تاريخ حقبة من الزمن عملان منفصلان يختلفان في الاسم وفي الصنعة، وقد فشلت كل محاولة أريد بها التوفيق بينهما، وأنكر فلوطرخس إحدى الطريقتين، وأنكر كارليل الأخرى، ولهذا أفلح كلا الأستاذين في إنجاز عمله، ومن الإنصاف أن نقول: إن مثال فلوطرخس لم ينسج على منواله ناسج، فلا أحد بعد قد صرف همه إلى كتابة تواريخ العقول الكبيرة على أساس تاريخي بغير تصرف.»

ثم يقول لدفج: «إذا أردنا أن نصور حياة حافلة كحياة هذا الرجل لم يكن لنا بد من أن نصبغها بألوانه، فلا غنى للكاتب عن الرجوع إلى كلام صاحب الترجمة، ولا خوف من الإفراط في هذا الصدد مهما أفرط، إذ الواقع أن كل إنسان أقدر على شرح نفسه من أي إنسان غيره، فهو وإن خطأ أو كذب يكشف عن ذات نفسه للذين يخلفونه، ويعرفون الحق من أمره، على أن الكاتب أيضا ينبغي أن ينسى أنه يعرف الخاتمة؛ لأنه لا يسعه بغير الانتقال من لحظة إلى لحظة ووصف الإحساسات المرهونة بأوقاتها كما يحسها من لم يسبقها إلى النهاية المحجوبة، أن يحدث ذلك الشوق الذي يملأ ملاحقة الحوادث بالخوالج الحية.»

هذا هو مذهب لدفج في كتابة الترجمة، فهو لا يفصل بين الأبواب والعهود، ولا يعير الحوادث الضخمة عنوانا أكبر من عناوين الأخبار الدارجة والكلمات التي تقذفها المناسبة في عرض الكلام، ولكنه يمزج بين حوادث اليوم الواحد أتم المزج إذا كانت كلها ترجع إلى العوامل التي خلقها ذلك اليوم في سريرة البطل المترجم، منظورا فيها إلى أيامه المتتابعة وظروفه الحاضرة، فربما عرض لك الكارثة الحربية إلى جنب النكتة المرتجلة، وجمع بين الاثنين وبين وسواس العاشق وحنان الأب وضعف الطبيعة الآدمية، فتحس وأنت تقرأ هذا جميعه أنه وليد حالة نفسية واحدة حقا، وأن الأثر الكبير كالأثر الصغير في مرجعه إلى تلك الحالة النفسية، وعن هذا الأسلوب يقول لدفج: «إنه من السهولة بمكان لكل كاتب عرف أن جدود الإنسانية كبيرها وصغيرها مقدرة على السواء، فعرف من ثم أن الله هو المؤلف الأكبر لرواية الإنسان.» ولكن الحقيقة أن الأسلوب الذي اختاره لدفج وبرز فيه هو أصعب أساليب التراجم؛ لأنه بمثابة خلق رجل تصدر عنه أعماله وأقواله عفو البديهة، وفاقا للأخبار التي رويت عنه والظروف التي أحاطت به، وأسهل جدا من هذا أن يؤرخ الكاتب الحوادث بعناوينها ولا يضعها في موضعها من نفس صاحبها، أو يقرنها هناك إلى بواعثها وهو يتجاهل الخواتم التي يعلمها ليحس كل حادثة في حينها، كما أحسها العائشون معها ، فليس كل كاتب تهيأت له المعلومات من تاريخ نابليون أو جيتي أو المسيح أو ولهلم الثاني بقادر على أن يصنع كما صنع لدفج، وينشئ نفسا يعيدها في الحياة يوما فيوما بغير غفلة عن الماضي ولا تعجل للمستقبل، حتى ليبلغ من ارتباط الأمور بمجراها المألوف أن ينسى القارئ كل غرابة ويذهل عن مواضع الامتياز في طبائع أولئك الأفذاذ الممتازين؛ لأن كل شيء في مكانه وكل خبر في سياقه المعهود، فلا محل للدهشة ولا مثار للإعجاب والاستغراب، وتلك مزية بولغ في استيفائها حتى انقلبت إلى هفوة يلام عليها بعض اللوم، فقد أرضى الكاتب حاسة «التوقع» في كل صغيرة حتى أخلف التوقع في جملة الصغائر والكبائر، فإذا قرأت نابليون مثلا وأنت تتوقع أن ترى فيه «شيئا خارقا للعادة» كدت أن تنتهي منه جزءا جزءا وأنت لا ترى شيئا خارقا للعادة في نابليون بحذافيره؛ لأن أجزاء نابليون قد تناسقت لديك كما تتوقع بغير خلاف، ولهذا كنا نفضل ألا يستطرد المؤرخ الكبير في أسلوبه بتلك السهولة وذلك الانسجام، وأن يعمد إلى التركيز من حين إلى حين ليستوقف السياق المألوف، ويطلع قراءه على مواضع الغرابة والتقديس في البطل الممتاز، كما أطلعهم على شئونه التي تجري في الحياة مجرى العادة والعرف المشاع.

Unknown page