وما زال على أتم الذهول حتى قرع الباب ودخل بستيان فقال: إن تلك الابنة التي أرسلتني لأبحث عنها تسكن في الطبقة الرابعة من المنزل، وقد توفقت لإيجاد منزل مقابل له فاستأجرته بستمائة فرنك، وبعد ذلك ذهبت إلى البواب واستطلعت منه كنه أمر الصبية، فقال لي: إنها تدعى حنة بالدر وإنها حسنة التربية، أما أجرة منزلها فهي ثلاثمائة فرنك، وهي عائشة مع خادمة لها طاعنة في السن شديدة الطوع لها، وهي حسنة السيرة جدا لا تزور ولا تزار، وقد أخبرني البواب أنه شاهد منذ يومين نورا في غرفتها بعد منتصف الليل، ففحص عن ذلك فعلم أنها تشتغل أشغالا يدوية، ولم يكن يراها تشتغل قبل هذا العهد.
وقد كانت من قبل تسكن منزلا كبيرا في شارع شابون إلى أن ماتت أمها، ولم يبق لديها من المال ما يتيح لها أن تعيش في بذخها السابق، فتركت ذلك المنزل الأنيق، واستبدلته بهذا المنزل الحقير بغية الاقتصاد، ويظهر أنها اضطرت لفقرها أن تعيش من أشغال يدها، وهي حسنة الصيت وافرة الأدب، وجميع معارفها من الأعيان.
وبينما كان بستيان يقص أخبار حنة كان قلب أرمان يختلج بعاطفة سرية، وقد طفح سرورا بما سمع.
ثم قال بستيان: وقد علمت أيضا من البواب أنه كان عندها في منزلها القديم بيانو، وعندما استبدلت منزلها لم تنقله إليه، مما يدل على أنها اضطرت لفقرها إلى بيعه.
فقال أرمان: إذن اذهب واشتري بيانو قديم الطراز، وأنا أعلم أنك لا تعرف أن تعزف على هذه الآلة، ولكني أرغب إليك أن تشتريها وتنقلها لمنزلك، ثم تدعي أن منزلك ضيق، وأن هذه الآلة لا يمكنك أن تبيعها؛ لأنها كانت لابنتك وهي آخر تذكار بقي لك منها، فترجو السيدة أن تسمح لك بأن تودعها عندها.
فامتثل بستيان ومضى لينفذ أمر سيده. أما أرمان فإنه وضع رأسه بين يديه، وانتقل إلى عالم التصور والخيال، فصورت له أوهامه تذكار تلك الفتاة مرتا، التي طالما أحبها وطالما حاول إنقاذها من أندريا الخائن، فلم يقدر على ذلك.
وكان هذا الخيال الذي هو خيال حبه الماضي المشئوم، قد تجلى لديه بكمال صورته كأنه يغالب غرامه الجديد، ولكنه لم يمكنه أن يقوى عليه؛ لأن ذلك الحب القديم لم يبق منه إلا أثر صغير، وقد محت باقيه تقلبات الأيام في ذلك القلب الذي ملأته ظلمة الأحزان، حتى لم يعد يغير فيه الأمل إلا نورا ضعيفا يحلي من وراءه صورة المحبوبة الجديدة، وتنبت من تحت أكداره زهرة الحب الجديد كما تنبت الوردة تحت الشوك، وكما يخضر غصن الآس بين المقابر، وإنما كان ذلك لأن القلب لا يزال يحب ما دام حيا، وكل حب قديم يحدث فيه لا يكون إلا رمادا تلوح من تحته نيران الحب الكامن؛ ولذلك لم يكد خيال مرتا يمتثل لعينيه إلا نظر من ورائه تلك البسمة الحلوة على شفتي حنة، كأنها اليقظة تمحو الأحلام، والنور يبدد غياهب الظلام، والذي كان يساعده على زوال تلك الصورة الماضية هو ما كان يتصور معها من تذكار أندريا عدوه، الذي طالما طبع على فؤاده من ذكرى المصائب ما لا يكاد يمحوه كرور الأيام، ثم قال في نفسه: كيف يكون حظي لو أحببت هذه الفتاة، ثم ظهر بيننا خيال أندريا الجهنمي وعرف بحبنا، وكاد لنا كيدا كما فعل في أمي وأمه وحبيبتي وحبيبته؟ (21) بستيان
وكانت حنة قد أصيبت بنفس ما أصيب به أرمان من الحب، وهي وإن تكن قد رأته بملابس الفعلة غير أنها أيقنت لما رأته من حسن أدبه وكرم أخلاقه أنه بلباس التخفي، وأنه يستر تحت تلك الملابس نفسا طاهرة، وأدبا وافرا، ومنزلة عالية بين أرباب المقامات، ولم تكن تعرف الحب من قبل، فصرفت معظم ليلتها بالتصورات المقلقة، ونهضت في الصباح باكرا، وهي على ما كانت عليه من الاضطراب، فاستسلمت إلى التأملات ولم يوقظها من تلك الغفلة غير صوت بستيان الذي كان منهمكا حينئذ في نقل أثاثه وهو يتباحث مع البواب بصوت مرتفع في شأن البيانو، وأين يجب أن يضعه، فأشار عليه البواب أن يودعه في منزل السيدة حنة، وكان على اتفاق مع بستيان في ذلك الشأن، بحيث إنه كان يتكلم بصوت مرتفع بلغ إلى مسمع حنة، فاختلج له فؤادها اختلاجا شديدا.
وكان بعد ذلك أن بستيان دخل إلى حنة، فتعرف بها واستأذنها بوضع البيانو عندها، حسبما أوعز إليه أرمان، ولما رتب منزله ولم يعد لديه ما يشغله فيه أقفله وخرج منه، فاستأجر مركبة، وأمر السائق بالذهاب إلى شارع سنت كاترين، وفيما تسير به المركبة حانت منه التفاتة، فرأى مركبة قادمة من جهة الباستيل وهي تسابق في مسيرها الهواء، وكان يقود هذه المركبة شاب عليه ملامح الأشراف، وبالقرب منه خادم كان جالسا وراءه مكتوف اليدين، فحدق بستيان نظره في ذلك الشاب، ولم يكد ينتبه إليه حتى صاح منذعرا: يا إلهي! إن هذا أندريا وقد صبغ شعره بالسواد.
ثم نظر إلى السائق وقال: إنك إذا تمكنت من أن تسير في إثر هذه المركبة بحيث لا تحتجب عنك، فإني أجازيك خير الجزاء.
Unknown page