فأجابته باسمة: لنفرض أني أنا تلك الفتاة وأني كنت عاملة فقيرة حين كنت تحبني، فلا بد لي إذن أن أكون من بنات الجن، وإلا فكيف تتبدل حالي من الفقر المدقع إلى أقصى درجات الغنى في مدة ثمانية أيام. وإذا كنت لا تزال بعد هذا على اعتقادك فلندخل في باب الافتراض، فإنه باب واسع، ولنفرض أولا أن والدي غارين كما تقول كان له أخ، وأن هذا الأخ قد سافر إلى البلاد الأمريكية ثم عاد في هذه الأيام وهو من أصحاب الملايين، فأقام ابنة أخيه في هذا القصر.
فهز ليون رأسه وقال: هذا مستحيل. - إذن لنفرض افتراضا ثانيا، وهو أن هذه الفتاة العاملة حين احتجبت عنك لقيت غنيا هنديا أو أميرا روسيا، فأحبها وخرجت منك إليه.
فعضت الغيرة قلب هذا المسكين، ووثب عن كرسيه يصيح: هو ذاك، أرأيت الآن كيف أني لم أخطئ؟ - لا تنس يا سيدي أني أفترض افتراضا، ثم إنه إذا كانت ثروتي قد تغيرت بثمانية أيام، فإن آثار العمل لا تزول من يدي في هذا الزمان الوجيز، انظر إلى يدي أترى عليها آثار الاشتغال بالصناعة؟
وأطرق بنظره إلى الأرض دون أن يجيب، فقالت الفيروزة: لنفترض أيضا فرضا ثالثا، وهو أن ابنة غارين لم تكن ابنة غارين، ولم تكن عاملة حين عرفتها، بل كانت على ما أنا عليه الآن. - كلا، إن هذا محال. - إذن، اختر ما تشاء بين أن أكون ابنة غارين العاملة، أو مدام دلاكور التي تراها الآن.
فغطى ليون عينيه بيديه وقال: رباه! أحقيقة ما أراه أو حلم من الأحلام؟ - اسمع بقية الافتراض، إن هذه الفتاة كانت من أشد بنات الهوى دلالا، ولكنها كانت تحب الحوادث والأسرار والغرائب، وقد اتفق أنها رأتك يوما فشغفت بك؛ وذلك لأن الحب كثير العجائب، فقد يحب المرء بنظرة واحدة، فتزيت بزي عاملة فقيرة حتى يحبها هذا العامل الفقير؛ لأنها لو بدت له بمظاهر ترفها لأحجم عنها، ثم لما عاشرته علمت أنه رجل محتهد شريف وأن له امرأة تحبه وطفلا صغيرا.
فصرخ ليون بسرور كاد يقتله: إذن أنت هي، ولا سبيل بعد للإنكار.
فابتسمت الفيروزة وأجابته: ربما.
فحاول ليون أن يركع أيضا أمامها، ولكنها نظرت إليه نظرة اضطراب لها، ولبث في مكانه فأتمت حديثها تقول: إن ما تريده المرأة يريده الله، وهو مثل صادق، ولهذا فإن تلك الفتاة تزيت بزي العاملة كي تحملك على حبها، ففازت بك وبلغت منك ما تريد، إلا أنه لنكد الناس أن لكل شيء نهاية، وعلى هذا فإن الحب مهما اشتد فإنه يزول عند حدوث طارىء، وقد كان هذا الطارئ أن تلك الفتاة ذكرت أنها تسيء إلى رجل شريف، وأنها من بنات الهوى الشهيرات، وأنها تلقب بالفيروزة، ولكنها كانت تحب هذا العامل حبا شديدا، فآثرت أن تعيش تعسة منكودة بالبعد عنه، وقاطعته كي لا تسيء إليه بحمله على الافتتان بها، لأنها تحبه حبا أكيدا، ولكنه متزوج وله طفل صغير أولى بحبه منها، فإذا جفته فقد ينساها بتقادم الأيام ، دون أن تغادر في فؤاده أثرا من الاحتقار.
وكانت تقول هذا القول وهي تتظاهر بالتأثر الشديد، حتى إن ليون نظر إليها فرأى دمعة قد سقطت على وجهها، ولم يستطع أن يضبط نفسه بل أكب عليها يقبلها، وهو يقول باكيا: أنت هي ... لا تنكري بالله وكفاني ما صبرت.
فجعلت تبكي لبكائه وتقول: أنا، أجل أنا هي ... أنا التي أحبتك وخدعتك، ولا تريد أن تراك ... اذهب عني فقد عرفت الآن من أنا، وعرفت أنك لا تستطيع أن تحبني. - كيف أستطيع فراقك؟ - كيف تحبني وأنا امرأة ساقطة، أؤثر أن يقتلني الغرام على أن تحتقرني، فانساني ولا تفتكر بغير امرأتك وولدك، فإني مسافرة إلى البلاد الأمريكية. - إني أسافر معك، ولو ذهبت إلى أقصى المعمورة. - كلا، بل أسافر وحدي لأنك مقيد بحب سواي.
Unknown page