ولكنه لم يطمئن له خاطر لأنه كان يخشاها لما عرفه من شدة دهائها، وبقي يمعن الفكرة إلى الصباح، فلم يغمض له جفن حتى استقر على رأي وهو الحكم بالموت على باكارا؛ وذلك لاعتقاده أنها إذا عرفت بمقاصده فلا بد من موتها، وإذا كانت تعتقد بصدق توبته فلا بد من موتها أيضا كي لا تزاحمه بغيرتها.
وقد تركناه في منزل باكارا الجديد، وإنما قدم إليها لسببين: أحدهما بغية الوقوف على أسرارها، والآخر رجاؤه أن يرى تلك الفتاة اليهودية التي عزم على اختطافها لما لقي من حبها، فإن هذا الرجل الذي جردته أمياله الشريرة من عواطف الإنسانية لم يلبث أن رأى تلك الفتاة حتى شغف بها شغفا لم يكن يخطر له في بال، وكان إذا رآها يضطرب وتبدو علائم غرامه الفاسد بين ثنايا وجهه، وبمثل هذا الاضراب تمكنت باكارا من الشك والريبة بإخلاصه في توبته.
وأما باكارا فإنها لما علمت من اليهودية حين نومتها ما أرادت أن تعلمه، تركتها وأقبلت إلى قاعة الاستقبال التي كان ينتظرها أندريا فيها، فتظاهرت بالاندهاش حين رؤياه، ثم اعتذرت إليه لتأخرها عن الحضور.
وذهل أندريا لما رآه من مظاهر انقلابها ولباسها الجديد، أما هي فإنها دنت منه وقالت له: إنك يا سيدي الفيكونت كنت في مقدمة المذنبين، ثم أصبحت على أتم الصلاح، فلا بد لك من أن تشفق على خاطئة مثلي إذا كان قد دعاها الحب إلى التوبة، فقد حملها هذا المحب نفسه على نقضها؛ وذلك أني حين علمت أن فرناند مولع ببغي مثلي، خلعت ثوب التوبة وعدت إلى البغي، أي إني كنت مدام شارمت فأصبحت باكارا، والآن وقد بات يفصل بيني وبينك هوة عميقة، وإنك ستشفق علي دون ريب لصلاحك، ولكنك لا تراني بعد الآن، أليس كذلك؟
ثم تراجعت عنه والتفتت إلى صديقة لها كانت أتت لزيارتها، فقالت لها: أتذهبين معي إلى الغرفة؟
فلبس أندريا قبعته وخرج مطرق الرأس، وهو يقول بصوت مرتفع كي تسمعه: ليأخذ الله بيدك ويرشدك إلى محجة الصواب. ثم خرج من المنزل، وذهب إلى الفيروزة وهو مقتنع بأن باكارا واثقة من توبته أشد الوثوق.
وبعد حين خرجت باكارا مع صديقتها القديمة، فركبت مركبة ذهبت بهما إلى غابة بولينا، وكان من يعرفها من المتنزهين ينظر إليها، وهو منذهل مما يراه من رجوعها إلى سبل الفساد بعد أن اشتهرت بتوبتها منذ أربعة أعوام.
وكان بين المتنزهين رجل يقال له البارون دي مينيرف، يصحب في مركبته شابا روسيا يدعى الكونت أرتوف، فلما رأى باكارا مع إحدى بنات الهوى لم يتمالك عن إظهار دهشته ولفظ اسمها، فقال له الروسي: من هي باكارا؟ ولماذا انذهلت حين رأيتها؟ - عجبا! ألم تسمع بهذه الفتاة؟ - كلا، فإني ما برحت بطرسبرج إلا منذ بضعة أسابيع. - ألم تسمع بها في تلك العاصمة؛ فإن اسمها قد اشتهر في جميع العواصم. ثم سأله وقد تنبه إلى حداثة سنه: كم عمرك؟ - عشرون عاما. - لقد كنت صبيا في عهد هذه الفاتنة، فإنها أشد أمثالها خطرا، وهي زكية اللسان رشيقة التعابير، حتى إن رجال المراسح يختلفون إليها كي يسرقوا من ألفاظها ما يدمجونه في سلك رواياتهم، ولقد فتن بها كثير من الأمراء وأعاظم الرجال، فإن أحد كبار الموسيقيين بلغ به هواها إلى الجنون ولا يزال مجنونا إلى الآن، والبارون ... باع ما لديه لإرضائها ثم انتحر بعد إفلاسه، والبرنس لي ... قتل نفسه في سبيلها.
فارتعد الكونت وقال: ما هذه المرأة؟ ألعلها دون قلب؟ - هو ذاك أيها الصبي، فإذا أحببت أن أعرفك بها فأسرع بجوادك كي ندركها.
فامتثل الروسي وسار الاثنان يعدو بهما الجوادان حتى وقفت المركبة في ظل شجرة باسقة، فدنا البارون مع رفيقه من المركبة وقال: إنها باكارا ولم أخطئ.
Unknown page