فقال أرمان: إني أشكرك لثقتك بي، ولكني أخاف ما يمكن أن يكون اتفق من موت تلك الابنة، وربما لم يكن لك منها ولد، فإن مناجاة الضمير قد تخطئ أحيانا. - إذا كانت الابنة قد ماتت ولم يكن لي منها ولد، فإن ثروتي تكون لك تنفقها في سبل الخير فتكون كفارة عن ذنبي، وأنا أعلم بأنك رجل كثير المال، ولكن ثروتي هي طائلة فإذا أنفقتها على المصابين مع ما تنفقه من مالك خففت من بلوى التعساء وأعانتك على بلوغ أمانيك، والآن فإني أرى على وجهك علائم الانذهال وأراك تشير بالرفض، فبالله لا تضع الوقت في الجدال، وانظر إلى الساعة فلم يعد لي من الحياة في هذا العالم غير ساعات معدودة، فانظر الآن إلى هذا الصندوق الذي هو بقربك، وهذا مفتاحه معلق بعنقي، تأخذه بعد موتي وتفتح الصندوق فتجد فيه وصيتين مختلفتين، إحداهما تثبت أنك أنت وريثي، والثانية تثبت أن تريزا هي الوارثة أو ولدها إذا كان لها ولد، ثم إنك تجد في طي هذه الوصية الأخيرة ذلك النوط الذهبي الذي وقع من عنقها في جيبي في تلك الليلة الهائلة، فإذا فتحته تجد فيه خصلة من الشعر وصورة امرأة هي صورة أمها لا ريب، فعسى أن تعينك على وجودها، وليس لدي غير هذا الدليل.
ثم سكت هنيهة وقد أعياه التعب، إلى أن عاد إليه شيء من قواه، فاستحلف أرمان على قبول الوصية، وقال وقد سمع قرعا على الباب: هو ذا الكاهن الذي دعوته قد حضر، فأدخله إلي فإني أريد أن أعترف وأستعد لملاقاة الديان.
ففتح أرمان الباب للكاهن، وخرج من الغرفة عندما شرع بالاعتراف، ولم يمض على ذلك ساعتان حتى صدق نبأ الطبيب ومات البارون، فدعا أرمان رجال الشرع في الحال، وختم على جميع موجودات المنزل، فلم يأخذ منها غير الوصيتين، وذهب الجميع ولم يبق في المنزل غير كولار الذي جعل ينظر إلى تلك الجثة التي لم تزل حارة، ويقول ضاحكا: أيها الأبله، إنك لو علمت السبب لدخولي في خدمتك لما أطقت أن تنظر إلي، والآن فطب نفسا فإن أرمان دي كركاز رجل صافي السريرة طاهر القلب، وسيعرف السير فيليام كيف يجد الابنة وكيف يغنم تلك الملايين. (3) سريز وباكارا
بعد هذه الحادثة بخمسة عشر يوما كان في الطبقة الخامسة من أحد المنازل الحقيرة ابنة تشتغل في غرفتها بغيرة ونشاط، وأمامها على منضدة جميع الأدوات اللازمة لعمل الزهور الصناعية.
وكان يظهر من ملامح وجهها أن لها من العمر ست عشرة سنة، وهي ممشوقة القامة بيضاء كالزنبق سوداء الشعر، وقد سميت بسريز، أي الكرز لحمرة شفتيها.
وكانت تشتغل وتغني، وأشعة شمس الصباح الذهبية قد ملأت غرفتها الصغيرة التي كان معلقا في جدارها قفص فيه عصفور من نوع الكناري كان يشاركها في الغناء من حين إلى حين.
فعندما كادت تصل في جمع طاقة الزهر إلى آخرها، ولم يبق لها إلا أن تحيطها بالورق، ألقتها من يديها على المنضدة، ثم تنهدت وقالت: إني سأتمم هذه الطاقة بعد عشر دقائق، فأسير بها إلى المعمل وبطريقي أراه.
إن يوم الأحد قد قرب، وسأكون فيه من أسعد النساء؛ فإن ليون سيصحبني مع أمه إلى المنتزه في بلفيل. قالت هذا وتبسمت بعد أن تنهدت قليلا، ثم عادت إلى شغلها وهي تحدث نفسها فتقول: إن ليون سيسافر إلى بلده فيبيع أرضا له فيها، وسيرقيه سيده فيجعله رئيس المعمل بعد شهرين حيث يتزوج بي في ذلك الحين، ولكني أرى ذينك الشهرين بمثابة جيلين، وما أصعب الانتظار على المحبين.
وفيما هي تناجي نفسها بمثل هذه الأحاديث إذ سمعت صوت غناء على السلم، تبينت منه صوت أختها فقالت: هذه هي باكارا التي لا أعلم السبب في كثرة زياراتها لي في هذه الأيام بعد أن كان يمر العام ولا أراها!
ثم فتح الباب ودخلت منه باكارا.
Unknown page