طانيوس عبده
التوبة الكاذبة
1
في يوم صفت سماؤه واعتل هواؤه، كانت مركبة تسير سيرا حثيثا عائدة إلى باريس من الضواحي، وهي جميلة الرونق، تدل ظواهرها على أنها مركبة رجل من النبلاء، وقد جلس في مؤخرها خادمان مرتديان أجمل الملابس التي يرتدي بها خدمة الأغنياء، وكان في هذه المركبة رجل يناهز الأربعين من العمر، وامرأة لا تزال في عهد الشباب ونضارة الصبى، وبينهما طفل صغير تقف عند رؤيته الأبصار معجبة بجماله البديع.
وكان الأب والأم يعبثان بشعر هذا الطفل الجميل، وهما ينظران إليه نظرات حنو لا يفهم سره غير الأباء والأمهات.
وكان هذا الرجل الكونت أرمان دي كركاز والمرأة قرينته، والطفل طفلهما ولد على إثر زواجهما الذي عرفه القراء في القسم الأول من هذه الرواية، وكانت المركبة تسير بهما في طريق ضيق، وهما يتجاذبان أطراف الحديث، ودلائل البشر والسعادة تلوح بين ثنايا وجهيهما فتعرب عما يختلج بنفسيهما من الحب والحنان.
وكان أرمان ينظر إلى ولده، ثم ينظر إلى امرأته ويقول: ما أهنأ الحب! وما أجمل ثمرة الزواج! لقد جعلتني سعيدا في الأرض حتى بت غير طامع بسعادة السماء!
وكانت حنة تسمع قوله ويغلبها الحنو، ولا تجيبه بغير الدموع.
ثم جعل الزوجان يذكران ما لقياه من الهناء في إيطاليا، وكانت حنة تحن إلى هذه البلاد وتذكرها بالشوق والارتياح، وقال لها أرمان: ألعلك تؤثرينها على باريس؟ - إني أفضل كل بلد مهما صغرت في عيون الناس على تلك العاصمة السوداء؛ لقد لقينا بها من الأحداث السيئة ما يدفعني عند ذكرها إلى الحزن والاكتئاب.
فاضطرب أرمان وقال: لقد شغلت فؤادي أيتها الحبيبة، وما إخالك إلا تعسة في سكنى باريس، لقد سمعتك مرة تذكرينها بخوف، وتذكرين معها أخي أندريا؛ ألعلك تخافينه إلى الآن؟ - إني لا أكتمك أيها الحبيب، لقد كنت أخافه خوفا شديدا لما عرفت به من الميل إلى الانتقام وقدرته على الشر، أما الآن فقد زالت هذه الأوهام بتقادم الأيام عليها، وأنا لا أخاف باريس، ولكني أفضل البعد عن الناس؛ لأن العالم بأسره قد جمع فيك، ومتى كنت وإياك فردين أكون مع العالم أجمع.
Unknown page