213

Risala Fi Lahut Wa Siyasa

رسالة في اللاهوت والسياسة

Genres

نلحظ عند العبرانيين أن النقباء والجند لم يكن من الممكن أن يفضلوا الحرب على السلم، فقد كان الجيش - كما قلنا من قبل - مكونا من المواطنين وحدهم، وكانوا هم أنفسهم الذين يتولون أمور الحرب والسلم، فمن كان جنديا وقت الحرب كان مواطنا عاديا في الحياة المدنية، ومن كان ضابطا آمرا، كان قاضيا في دائرته، أما القائد الأعلى فكان قاضي قضاة المدينة. فلم يكن من الممكن إذن أن يرغب أحد في الحرب من أجل الحرب، بل لإقامة السلام وللدفاع عن الحرية. والأرجح أن نقيب السبط كان يتجنب بقدر ما يستطيع أي تغيير في النظام القائم، حتى لا يتوجه إلى الحبر ويهين كرامته.

هذه هي الأسباب التي منعت النقباء من الخروج على حد الاعتدال. ولنبحث الآن في الكيفية التي تم بها ضبط انفعالات الشعب، وهو بدوره أمر تبينه لنا أسس التنظيم الاجتماعي بوضوح، فحتى لو ألقينا على هذه الأسس نظرة عابرة لوجدنا أنها كان لا بد أن تبث في قلوب المواطنين حبا فريدا لوطنهم، يستحيل عليهم معه التفكير في خيانته أو التخلي عنه، بل لقد تعلق الجميع به إلى حد أنهم كانوا يفضلون الموت على أية سيطرة أجنبية عليهم. فالواقع أنهم بعد أن فوضوا حقهم إلى الله واعتقدوا أن مملكتهم مملكة الله، وأنهم وحدهم أبناء الله، وأن الشعوب الأخرى أعداء الله؛ ولهذا السبب كانوا يكنون لهذه الشعوب كراهية شديدة (وهي كراهية كانت تبدو لهم علامة على التقوى، انظر: المزمور 139: 21-22).

20

وكانوا يشعرون بفزع شديد إزاء فكرة التعهد بالولاء للأجنبي أو وعده بالطاعة، ولم يكن هناك أشنع أو أبغض، في نظرهم، من خيانة وطنهم، أي مملكة الله الذي يعبدونه، وكانت مجرد الإقامة في أرض أجنبية تبدو لهم عارا، لأنه لم يكن يسمح لهم بإقامة شعائر دينهم، التي هم أحرص الناس عليها، في أي مكان آخر؛ ولهذا السبب أيضا كانوا يرون أرض وطنهم مقدسة وكل أرض أخرى دنسة لا قدسية فيها. ومن هنا فإن داود عندما اضطر إلى هجر وطنه، ندب على حاله أمام شاءول قائلا: «إن كان من يحنقوك علي بشر فعليهم اللعنة لأنهم يسلبون مني ميراثي الإلهي وينزعونني منه ويقولون لي: اذهب واعبد آلهة أجنبية.» لذلك لم يحكم على مواطن بالنفي مطلقا، وهذا أمر يجب ملاحظته جيدا؛ لأن من يرتكب جرما كان في نظرهم يستحق العقاب، لا العار، لذلك لم يكن حب العبرانيين لوطنهم مجرد حب، بل كان تقوى تحييها العبادة اليومية وتغذيها، كما تثيرها في الوقت نفسه كراهيتهم للشعوب الأخرى، بحيث أصبحت هاتان العاطفتان طبيعة ثانية عند العبرانيين. الواقع أن شعائر الدين العبري لم تكن تختلف عن شعائر باقي الأديان فحسب بحيث يشعر المؤمنون بأنهم مختلفون كل الاختلاف عن غيرهم، بل كانت مناقضة لها أشد التناقض، وقد كان لا بد أن يتولد عن العار الذي كانوا يلحقونه بالأجنبي كل يوم، كراهية شديدة له، كانت أشد تملكا لقلوبهم من أية عاطفة أخرى، وهي كراهية تتولد عن الإيمان والتقوى، بل كانت هي نفسها تعد تقوى، وتلك بحق هي أقوى أنواع الكراهية وأشدها تأملا. ولقد كان يتمثل في هذه الحالة بدورها ذلك العامل المألوف الذي كان يزيد من حدة الكراهية على الدوام، وأعني به الكراهية المتبادلة والمتأصلة التي كانت تكنها الشعوب الأخرى بدورها للعبرانيين. كل هذه الظروف مجتمعة؛ أعني حرية المواطنين في الدولة إزاء غيرهم من المواطنين، والولاء للوطن، والحق المطلق ضد الأجنبي، وإباحة الكراهية الشديدة لكل من هو غير يهودي وجعلها واجبا مقدسا، والتميز بالعادات والشعائر. أقول: إن هذه الظروف كلها قد ساعدت على تثبيت قلوبهم، بحيث تعلم المواطنون أن يتحملوا دائما بصبر وشجاعة في سبيل وطنهم أي امتحان. وهذا أمر يوضحه لنا العقل وتشهد به التجربة. وطالما كانت مدينتهم قائمة لم يستطع العبرانيون الخضوع طويلا للأجنبي، حتى تعود الناس تسمية أورشليم بالمدينة المتمردة (انظر: عزرا، 4: 12، 15)

21

فلم يستطع الرومان بسهولة هدم الدولة العبرية الثانية (التي كانت على أكثر تقدير ظلا للدولة الأولى، بعد أن سلب الأحبار حقوق نقباء الأسباط) ويشهد تاكيتوس على ذلك في الكتاب الثاني من تاريخه بقوله: «لقد انتصر فسباسيان في حربه ضد اليهود، ولكنه لم يستطع اقتحام أورشليم، فقد كانت تلك مهمة صعبة وشاقة، ويرجع ذلك إلى الاستعداد النفسي الخاص للشعب وشدة تعصبه، أكثر مما يرجع إلى قواته الحقيقية الباقية المحاصرين لمواجهة ضرورات الموقف.» وبالإضافة إلى هذا الباعث، الذي يختلف تقديره من فرد لآخر، كان هناك باعث آخر فريد له في الدولة العبرية أعظم الأثر في تثبيت نفوس المواطنين، في المحافظة عليهم من أي ضعف أو رغبة في هجر وطنهم، وأعني به عامل المنفعة الذي يعطي الأفعال الإنسانية قوتها وحياتها. ففي هذه الدولة كان للمصلحة الخاصة أهمية فريدة؛ إذ لم يكن المواطنون في أي مكان آخر يملكون أموالهم عن حق مضمون بقدر ما كانوا يملكونها في هذه الدولة، فقد كان نصيب كل منهم من الأرض والحقول مساويا لنصيب النقيب، وكان كل منهم هو السيد الدائم لأرضه، فإذا اضطر أحد بسبب الفقر إلى أن يبيع ممتلكاته أو حقه ردت إليه الأرض في وقت العيد (اليوبيل)، وكانت هناك أنظمة أخرى من هذا النوع تمنع من سلب أحد نصيبه المعتاد من الممتلكات. وكان الفقر محتملا في هذا البلد أكثر منه في أي بلد آخر؛ إذ كان الإحسان للآخرين أي للمواطنين عملا صالحا يتقرب به الناس إلى الملك الإله. وإذن فلم يكن في استطاعة العبرانيين أن يعيشوا سعداء خارج وطنهم، إذ كانوا معرضين لجميع ألوان العوز والخزي في كل مكان. ومما كان له أكبر الأثر في ربطهم بأرض الوطن، وفي حثهم على تجنب الحرب الأهلية وكل أسباب الشقاق، أن أحدا لم يكن سيدا للآخر، بل كان الله سيدا للجميع، وكان حب المواطنين والإحسان إليهم أفضل مظاهر التقوى، وكان يقوي من هذا الحب كراهيتهم للشعوب وكراهية الشعوب لهم. وفضلا عن ذلك فقد كانت الطاعة نتيجة للنظام الصارم الذي نشئوا عليه؛ فقد كانت جميع أفعالهم خاضعة لأحكام الشريعة، ولم يكن حرث الأرض مصرحا به في كل الظروف، بل في أوقات معينة وفي سنوات معينة فقط، وبمواش من نوع معين، كذلك لم يكن البذر والحصد مسموحا بهما إلا بطريقة معينة وفي وقت معين. وبوجه عام كانت حياة العبرانيين كلها طاعة مستمرة (انظر في هذا الموضوع الفصل الخامس عن فائدة الشعائر)، ونظرا إلى اعتيادهم هذه الحياة فإنها لم تعد في نظرهم عبودية، بل بدت لهم هي والحرية شيئا واحدا، بحيث لم يعد الممنوع مرغوبا فيه من أحد، بل أصبح الفعل الذي يؤمرون به هو وحده المرغوب. وذلك كان التزامهم بأيام الراحة والمتعة الدورية في الجيش طاعة لله لا إمتاعا لأنفسهم، وكانوا يحلون ضيوفا على الله ثلاث مرات سنويا (انظر التثنية، 16)،

22

كما كان عليهم التوقف عن العمل والإخلاد إلى الراحة في اليوم السابع، وفي مناسبات أخرى لم تكن المتع البريئة وإقامة المآدب مصرحا بها فقط بل كانت مفروضة بالأمر، ولا أعتقد أن هناك تدابير أكثر فاعلية من هذه في التأثير على قلوب الناس، فليس هناك شيء أقوى تأثيرا في النفس من الفرح المنبعث من الإيمان، أي من الحب والإعجاب.

23

ومع ذلك لم يكن هناك خوف من أن ينتابهم ملل التكرار المستمر لأن الشعائر الخاصة بأيام العيد كانت نادرة ومتنوعة. يضاف إلى ذلك احترامهم الشديد للمعبد فكانوا يحافظون عليه بدافع ديني نظرا إلى الطابع الفريد الذي كانت تتسم به شعائره والطقوس الواجب اتباعها حتى يسمح بالدخول فيه. وحتى في أيامنا هذه، ما زال ينتاب اليهود فزع شديد كلما قرءوا قصة تدنيس منسي للمعبد

Unknown page