103

وكانت الآنسة تجيبه ضاحكة كلما صاح هذه الصيحة: قلمك يقول إننا أولاد القرد ولسانك يقول إننا أولاد الكلب، فمن من الوالدين الكريمين تستقر نسبتنا إليه؟!

وكان للأستاذ «داود بركات» مثل هذا الدور الأبوي المتحرر من الفتاة الرصينة المتحرجة، وقد يتجاوز النصيحة الكلامية إلى الأخذ بيدها في محافل العائلات التي يسمح فيها بمراقصة الفتيان والفتيات، ليجذبها جذبا إلى مراقصة هذا أو ذاك من زوار الدار، وكانت هي تتملص من يده بلطف ووداعة، ولكن بعناد وإصرار.

والأستاذ «الجميل» كان كصديقه «شبيلي» و«بركات» في هذه الأبوة الأدبية، ولكنه كان يؤثر نصيحتها برعاية صحتها وراحتها على النصيحة بالتحرر والانطلاق من قيود التحرج والاحتجاز، وقد كانت له شدة تبلغ منه غاية ما يستطيعه بمزاجه «الدبلوماسي» المطبوع، كلما لحظ عليها نوبات العناد والإصرار في أيام مرضها الأخير، فربما قال لها وهو يظهر قلة المبالاة: ماذا تظنين وأنت تهملين صحتك هذا الإهمال؟! أتظنين أن العالم الأدبي يجفل في احتجاجك الصامت هذا ويجلس للبكاء عليك أو للضراعة بين يديك؟! التفتي إلى نفسك، التفتي لمصلحتك، وإلا فأنت الباكية وحدك لما يصيبك من هذا الإهمال، وهذا العناد.

أما الأستاذ «خليل مطران» فقد كان دوره في الأبوة الأدبية كهذا الدور بعينه، ولكن من ناحيته الفنية الشعرية، ولعله كان دور «الأب» الممراح في صورة من صور أبطال «موليير» تلقى القبول والاختيار؛ حيث تكون الأبوة هناك أبوة جد وإلزام.

كانت طريقته معها طريقة الدعابة السمحة والنقد المباح، وكان في دعابته أحيانا يضع تكلفها الاجتماعي أو العاطفي موضع «الرياء» المتفق عليه، ويغايظها بإبراز هذا الرياء للعيان، فلا تغضب منه ولا تأباه، بل تضحك منه كما يضحك الزوار.

خرجت يوما لتودع سيدة جليلة وكريماتها من أصدقاء «مطران» فخرج معهن، وطال بهن الموقف عند باب الندوة بين التوديع، وإعادة التوديع، والحزن للفراق والرجاء في قرب اللقاء، فلما انقضى هذا «الفصل» الذي لا حيلة في تمثيله على البداهة أو على الروية، سبقهم الشاعر الكبير عائدا إلينا وهو يفرك يديه ويتباكى من الحسرة والأسى، وراح يقول وهو ينظر إلى الآنسة: يا سلام! يا سلام! «الجماعة دول وداعهم مؤثر. مؤثر قوي!»

فقلت له متشككا كأنني أقتص من دعابته التمثيلية: «مش باين» يا أستاذ.

قال: رحمتك يا أخ، أتريد أن ألطم؟

وحضر في أثناء ذلك زائر كبير من زوار الندوة وهو يغالب الضحك على خلاف عادته من الوقار، فقال «مطران»: الحمد لله، ماذا يضحك يا أستاذنا الجليل؟!

وكان الزائر الحاضر هو العالم الفيلسوف الأمثل الأستاذ «مصطفى عبد الرازق»، وقد مر ببار اللواء في طريقه إلى دار الآنسة، فاستوقفه صديقه الإداري الأديب «أمين واصف» وحدثه عن رئيسها «أحمد شفيق باشا» في جماعة الرابطة الشرقية، وراح يحكيه وهو يمشي إلى محطة العاصمة بملابسه التي اخترعها لتوحيد الأزياء الشرقية، وكان من حديثه عنه أنه لم يسلم عليه حين رآه للوهلة الأولى؛ لأنه حسبه في ذلك الزي مسجونا يسفرونه تحت الحراسة إلى الليمان!

Unknown page