وجاء يوم الثلاثاء وكان موعد السفر الأربعاء، أي بعد يوم واحد، وذهبت إلى موظف الأمن وسألت: لماذا تأخرت التأشيرة؟
ورد: إنها تتأخر دائما.
وقلت: ألا سبيل إلى استعجالها؛ فالمفروض أنني سأسافر غدا؟
قال: لا سبيل إلى استعجال أي شيء.
وعدت إلى بيتي، جدران الشقة تطبق على صدري، مددت يدي نحو قرص التليفون، رنين الجرس يدوي في أذني. لا أحد في العالم، وأنا وحدي تماما، سرت إلى النافذة لأطل على الناس في الشارع، رائحة كطفح المجاري تملأ الجو، الهواء محمل بغبار وصهد، الناس تتحرك في الطريق كأشباح ميتة في عالم آخر، عربة بوليس تجري ومن خلفها سيارة تطلق صفارة حادة، إحساس جارف بالغربة يسري في جسدي.
وفجأة توقف أتوبيس أحمر، وهبطت منه ابنتي، ترتدي مريلة زرقاء لها كولة بيضاء، وفي يدها حقيبة المدرسة، رفعت رأسها نحو النافذة ورأتني، ابتسمت ولمعت عيناها العسليتان بالفرح، جريت إلى الباب، وانتظرت حتى خرجت من باب المصعد فحملتها بين ذراعي، دفنت رأسها في صدري، رائحة الطفولة في شعرها توقظ أمومتي وتبدد الغربة.
أعددت لها الطعام وجلست أرقبها وهي تأكل بشهية، تقلص وجودي في الحياة إلى ذلك الصحن تمتد إليه يدها الصغيرة ثم ترتفع إلى فمها، وحركة فكيها الصغيرتين وهي تمضغ الطعام بلذة.
وفي الليل نمت وذراعي حولها، كأنما أحتضن العالم كله، ولا شيء في العالم يمنحني هذه النشوة. لا رجل ولا عمل ولا سفر. وترددت لحظة: هل ركوب الطائرة أكثر متعة؟ وكيف يبدو العالم تحت عيني وأنا فوق السحاب؟ والأرض هل سأراها كروية؟ وهل سأطل على القارات الخمس في آن واحد؟ والتضاريس والجبال والأنهار والبحار هل سأراها بشكلها على الخريطة؟
خيالي تلك الليلة ظل راكدا، وصورة قائمة واحدة سيطرت على عقلي: أن الطائرة سقطت في البحر وأنا داخلها، وتحولت خيبة الأمل في السفر إلى فرحة النجاة من الموت، ونمت نوما عميقا.
وفي الصباح فتحت عيني وقد تبددت تماما كل رغبتي في السفر، وذهبت إلى المستشفى كأي يوم، لكن جرس التليفون رن إلى جواري وجاءني الصوت المتعالي ويقول: لقد وصلت تأشيرة الأمن.
Unknown page