Rihla Fi Fikr Zaki Najib Mahmud
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
Genres
43
وكأن هذه الحادثة التاريخية قد رسمت بوضوح ناصع حجم المشكلة الثقافية التي نعانيها: حدودها وأبعادها، كما كشفت عن ثلاثة حلول ما زال لها أنصارها حتى هذه الساعة: فريق استمر - كالشيخ الذي أسلفنا ذكره - يرفض ثقافة الغرب، مكتفيا بأن يملأ أوعيته من كتب التراث، فكان أصيلا لكنه غير معاصر، إذ إنه غض النظر عن العصر بكل ما يضطرب به من قضايا ومشكلات فكرية، ومع هذه الجماعة تذهب عامة الناس من غير المثقفين؛ وفريق آخر - وإن كان قلة قليلة - لم يجد بأسا في أن نمحو صفحتنا محوا لنملأها بثقافة العصر وحده، كما هي معروفة في مصادرها، بغير تحريف ولا تعديل. وهكذا كان هذا الفريق معاصرا يعيش قضايا العصر، لكنه غير أصيل لا يرتبط بجذوره الثقافية الأولى. بقي فريق ثالث اهتم بتراثه اهتماما واضحا، ثم راح يطوع فكر العصر بعض التطويع، فاستكان له ولو إلى حين، وفي رحاب هذا الفريق تقع الكثرة الغالبة من أعلام الأدب والفكر في تاريخنا الحديث: محمد عبده، ولطفي السيد، والعقاد، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وزكي نجيب محمود ... إلخ، وغيرهم مما يزدان بهم مسار نهضتنا، كما سبق أن ذكرنا بالتفصيل، على اختلاف نزعاتهم وأذواقهم، لم يرفضوا العصر، لكنهم حاولوا أن يصوغوه في قوالب الثقافة العربية الأصيلة، مع تفاوت بينهم في درجة النجاح، ومع هؤلاء القادة يذهب معظم المثقفين.
44
ولقد ركز هذا الفريق الثالث في حركته الشاملة، التي استهدفت النهوض بالحياة الثقافية العربية، لكي تواكب العصر من ناحية وترتبط بهويتنا التاريخية من ناحية أخرى؛ ركز خلاصة دعوته في فكرتين أساسيتين هما «الحرية» و«التعقيل»، وهما في الواقع وجهان لحقيقة واحدة. أما الحرية فلا تكون إلا من قيد، والقيد الذي كان قائما عندئذ، بل القيد الذي أخذ يزداد صلابة على مر القرون التي سادها الحكم التركي، هو قيد الجهل والخرافة في فهم الناس للظواهر والأحداث، وهو أيضا قيد النص المنقول الذي يفرض نفسه على الدارسين فرضا، بحيث لا يكون أمام هؤلاء الدارسين من منافذ الفكر المستقل، إلا أن يعلقوا على النص بشروح، ثم على الشروح بشروح ... وهلم جرا. وهي نفسها الحالة التي جاءت النهضة الأوروبية لتجدها جاثمة على عقول الدارسين، فكان التخلص منها والخروج عليها هو نفسه معنى النهضة ولبها .
وأما «التعقيل» فهو أن نجعل احتكامنا إلى العقل دون النزوة والهوى، وإلا وقعنا مرة أخرى عبيدا لسطوة العاطفة والانفعالات، وإذا قلنا «العقل» فقد قلنا أحد أمرين، أو الأمرين معا، فإما أن يستند الإنسان في أحكامه إلى شواهد الحس والتجربة، وذلك إذا كان موضوع البحث ظاهرة خارجية من ظواهر الطبيعة والمجتمع، أو أن يستند الإنسان في أحكامه إلى سلامة الاستدلال في استخراج تلك الأحكام من مقدماتها، وذلك حين يكون موضوع البحث فكرة نظرية، وقد يجتمع الطريقان معا في بحث واحد بعينه، فنجمع شواهد من تجاربنا أولا، ثم نكون فكرة نظرية نستدل منها إلى ما يسعنا من نتائج، وذلك هو سبيل العقل.
45
على أن الفكرتين - فكرة الحرية وفكرة التعقيل - مكملتان إحداهما للأخرى؛ لأنك إذا تحررت من قيود الجهل والوهم والخرافة، كنت بمثابة من قطع من الطريق نصفه السلبي، وبقي عليه أن يقطع النصف الآخر بعمل إيجابي يؤديه؛ كالسجين تخرجه من محبسه، فلا يكون هذا وحده كافيا لرسم الطريق الذي يسلكه بعد ذلك، وكذلك التحرر من خرافة قد يقع في خرافة أخرى؛ ولهذا كان لا بد لتكملة الطريق على الوجه الصحيح، أن تكون أمام المتحرر بعد تحرره خطة مرسومة يهتدي بها، وما تلك الخطة الهادية إلا خطة «العقل» في طريق سيره، ومعنى ذلك أن النهضة الثقافية التي جاءت بالدعوة إلى الحرية والتعقيل، قد كفلت أمامنا سواء السبيل بنصفها السلبي والإيجابي معا ...!
ولا شك أن العلوم المختلفة من طبيعة وكيمياء وطب وهندسة وغيرها، من شأنها أن تكفل «التحرر» من الخرافة، كما تكفل «تعقيل» السير إلى الهدف الذي تريده؛ ومن هنا جاء اهتمام مفكرنا الكبير بالعلم ومناهجه، والتصدي بكل جهد ممكن لإشاعة التفكير العلمي في كل ما يتعلق بالطبيعة وظواهرها، ولعل كتبه الأكاديمية كلها ليست سوى لبنات في هذا الصرح، هكذا كانت أهداف «خرافة الميتافيزيقا»، و«نحو فلسفة علمية»، و«المنطق الوضعي»، بجزئيه، الذي أعلن خطته في مقدمته بكل وضوح «أنا مؤمن بالعلم، كافر بهذا اللغو الذي لا يجدي على أصحابه، ولا على الناس شيئا ، وعندي أن الأمة تأخذ بنصيب من المدنية يكثر أو يقل بمقدار ما تأخذ بنصيب من العلم ومنهجه ...»
46
كان اهتمامه بالعلوم المختلفة نتيجة منطقية لاهتمامه «بالحرية والعقل» معا، وهما الدعامتان الأساسيتان لنهضتنا الحديثة، وهو بذلك إنما يكمل الشوط الطويل الذي قطعه المفكرون التنويريون منذ عصر رفاعة الطهطاوي حتى الآن.
Unknown page