Rihla Fi Fikr Zaki Najib Mahmud
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
Genres
39
كذلك كان طه حسين فيما كتب داعيا إلى الفكرتين معا «الحرية» و«العقل»، أو قل إنه كان يدعو إلى الحرية الفكرية بالتزام المنهج العقلي الصرف، حتى في البحوث التي قد تبدو غير خاضعة لذلك المنهج، فها هو يقول: «أريد أن أصطنع في الأدب، هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث، والناس جميعا يعلمون أن القاعدة الأساسية في هذا المنهج، هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحث خالي الذهن مما قيل فيه خلوا تاما.»
40
وهنا أحمد أمين (1887-1954م) ولجنة التأليف والترجمة والنشر بما رفعته من مصابيح، يرى الناس على أضوائها ثقافة الأقدمين والمحدثين.
41
وأخيرا نصل إلى زكي نجيب محمود الذي يكمل بإنتاجه الغزير وفكره القوي الواضح، وتحليلاته العقلية لكثير من المفاهيم والأفكار السائدة، هذه الحركة التنويرية الكبرى التي بدأت في القرن الماضي وامتدت حتى يومنا الراهن، وهو نفسه يلخص دعوته في عناصر رئيسية تجمع الأفكار التنويرية السابقة وتزيد عليها، يقول: «أنا أدعو بكل قوتي إلى أن نزيد من اهتمامنا «بالعلم»، حتى ولو جاء ذلك على حساب الجانب الوجداني، وأدعو إلى الأخذ بأسس الحضارة العصرية وما يتبعها من ثقافة، ثم أدعو إلى البحث عن صيغة تصون لنا هويتنا، دون أن يضيع منا العيش في عصرنا ... تلك خطوط واضحة أدرت عليها كل ما بذلته من جهود ...»
42
وسوف نرى بعد قليل كيف أنه يلخص في أعماقه مسار النهضة السابقة كلها، وكيف أنه يقدم مشروعا حضاريا يضم كثرة من الثنائيات، هي التي ظهرت في نهضتنا الثقافية طوال قرن ونصف: ثنائية بين «العقل والوجدان»، ثنائية بين «المادة والروح»، «بين السماء والأرض» ... إلخ ... والحق أنه هو نفسه يجسد، بما له من إمكانات في مجالات شتى هذه الثنائية، يقول: «إنني بمثابة عدة أشخاص في جلد واحد، فهناك من تجرفه العاطفة ولا يقوى على إلجامها، ولكن هناك إلى جانبه من يوجه إليه اللوم، ويحاول أن يشكمه حتى يقيد فيه الحركة التي تقذف به إلى الهاوية، على أن هذا الشد والجذب في داخل النفس بين عاطفة تشتعل وعقل يزيد اشتعالها، لا يمنع أن ينعم الإنسان بلحظات هادئة تتصالح فيها العاطفة والعقل، فيسيران معا في اتجاه واحد ...»
43
علينا الآن أن نبدأ من البداية لنعرف قصة هذه الثنائيات، ومحاولة التصالح التي حاول أن يقوم بها مفكرنا الكبير، ناظرا إليها على أنها «قطب الرحى» في نهضتنا الثقافية الحديثة.
Unknown page