Rihla Fi Fikr Zaki Najib Mahmud
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
Genres
ومنها السماء لا تجود بالغيث، تيبس الأرض من تحتها وتتشقق، ويجف الزرع ويموت، وتشخص الأبصار إليها ضارعة، وتصعد الدعوات إليها مسترحمة، لكنها كالحة مصفرة الوجه لا تجود ...
ومنها الوردة تذبل وتذوي، طار عنها الشذى وجف من عرقها الماء ... ومنها الجدول غيض ماؤه، تعبره ماشيا على قدميك فترن أصداء خطاك بين صخور لخلائه وفراغه ... ومنها الجيوب تخلو من المال ...
لكن لا اليباب القفر الذي تلتهب رماله بوقدة الشمس، ولا الصخر الأجرد الذي صلد صدره، ولا السماء اليابسة ولا الوردة الذابلة، ولا الجدول غيض ماؤه ولا الجيوب الخالية من المال، بمستطيعة أن تعبر عن الفقر بأبلغ مما تعبر عنه النفوس الفقيرة.
فقيرة هي تلك النفوس التي يعيش أصحابها فيما نعيش فيه ولا تتأثر، كأنما تنظر العين ولا ترى، وتسمع الأذن ولا تعي، وكأنما قد القلب من صوان ... صاحب النفس الفقيرة كالمذياع التالف، فيه المفاتيح والصمامات والأسلاك، لكن الهواء من حوله يعج بموجات الصوت، وهو أبكم لا يلتقط ولا يذيع ... فقيرة هي النفس التي تنظر إلى باطنها فتجد خواء، فتمتد إلى خارجها لتقتني ما يسد لها هذا الخواء، فتتصيد أناسا آخرين لتخضعهم لسلطانها. إنها علامة لا تخطئ في تمييز أصحاب النفوس الفقيرة من سواهم، فحيثما وجدت طاغية - صغيرا كان أو كبيرا - فاعلم أن مصدر طغيانه هو فقر نفسه، أن المكتفي بنفسه لا يطغى ... فقيرة هي النفس التي لا تستطيع أن تقف موقف سواها، لترى ما ترى وتحس ما تحس ... فقيرة هي تلك النفوس التي لا يستطيع أصحابها أن ينظروا من وراء الأشخاص إلى حيث ظروفهم، ولو قد فعلوا لاشتد بهم التسامح واتسع فيهم العفو والمغفرة.
فقيرة هي تلك النفوس التي تبطش بالأشياء والأحياء بطش الصبيان؛ فقيرة، يا أبا العلاء، هي تلك النفوس التي لا تخفف الوطء؛ لأنها لا تدري أن أديم الأرض هو من هذه الأجسام ...
127 (د) الكوميديا الأرضية
وهو في مقال عنوانه «الكوميديا الأرضية» يتخيل أن دانتي «قد بعث حيا، وأنه كتب هذه القصيدة الجيدة، التي اتخذ فيها أيضا من أستاذه القديم «فرجيل» دليلا وهاديا، ويصور أستاذنا بسخرية مريرة كيف وجد دانتي في الجحيم كل من فعل خيرا أو قال صدقا، لأنه أراد أن يصور القيم المقلوبة في مجتمعنا، فماذا وجد الشاعر في أول حلقة من حلقات الجحيم: «ها هنا وجد عبدة المبادئ الذين أنهكوا قواهم وأضاعوا حيواتهم في سبيل مبادئهم ... ولهذا فقد حق عليهم الحرمان من نعيم الفردوس!» وماذا وجد في الحلقة الثانية من الجحيم «أولئك الذين شغلتهم في الدنيا عقولهم عن إشباع شهوات أجسادهم ...» أما في الحلقة الثالثة فقد أعد العقاب لمن عف فلم يلحف في السؤال عن حقه لدى أصحاب السلطان، وفي الحلقة الرابعة جماعة كانت تشغل نفسها بالإصلاح فتفسد على غيرهم نعاسهم وأحلامهم، أما الحلقة الخامسة فقد خصصت لمن أخذ زمانه بالدقة، فلا يؤخر موعدا ولا يؤجل عملا إلى غد ... وهكذا نجد في كل حلقة من الجحيم «أفاضل الناس»، حتى الحلقة العاشرة تجد فيها من لم يتشفعوا بشفيع أو يتوسطوا بوسيط وعملوا في صمت.
وفي استطاعتك أن تقول إن خصائص المقالة الأدبية بارزة في كثير جدا من المقالات التي كتبها في كتبه المتقدمة: «جنة العبيط» و«الثورة على الأبواب»، و«شروق من الغرب» حيث تغلب النغمة الأدبية، ولك أن تقرأ فيها «ظلم» و«خيوط العنكبوت»، و«عروس المواد»، و«الكراهية الصامتة»، و«عند السفح» ... إلخ، وفي كتبه المتأخرة «رؤية إسلامية»، «عن الحرية أتحدث» و«تحديث الثقافة العربية» ... مقالات «أستاذ يحلم»، و«ذبابة تعقبتها»، و«نافخ النار» ... وغيرها كثير.
خاتمة
بعد هذه الرحلة الطويلة التي قطعناها في فكر زكي نجيب محمود، علينا أن نقف في هذه الخاتمة لنتأمل مجموعة من الملاحظات، أهمها ما يأتي: (1)
Unknown page