Rifaca Tahtawi
رفاعة الطهطاوي: زعيم النهضة الفكرية في عصر محمد علي
Genres
Reinaud »، جاء فيها: «... قد حملني مسيو «دبنغ» أن أسأل عن ترجمتك لكتاب العلوم الصغير المشتمل على أخلاق الأمم وعوائدهم وآدابهم؛ لأن مسيو «دبنغ» مؤلف هذا الكتاب. فإذا كانت ترجمتك تنطبع في مصر، هل يتيسر لمؤلف الأصل أن يقيد اسمه لتحصيل عدة نسخ من هذا الكتاب بالشراء؟»
وهكذا كان رفاعة بعد عودته، كما كان قبل عودته، دائم العمل، دائب النشاط. فقد استطاع في السنوات الثلاث التي تلت عودته أن يراجع كتبا مترجمة في الطب والجغرافية. وقدم للمطبعة كتابين مما ترجم في باريس: أحدهما في علم المعادن، والثاني في علم الاجتماع، وترجم كتابين جديدين طبعا أيضا في بولاق: أولهما في الهندسة، وثانيهما في الجغرافية. واستطاع بعد هذا كله أن يوفق لفتح مدرسة صغيرة تولى وحده فيها تدريس علمي التاريخ والجغرافيا ...» (4) التمهيد لإنشاء مدرسة الألسن
وفي أوائل سنة 1250ه ظهر في مصر مرض الطاعون، وانتشر في القاهرة وكثير من البلدان الأخرى، فطلب رفاعة إجازة وسافر إلى بلده طهطا، ولبث هناك نحو ستة أشهر زار خلالها الأهل والأقارب، ولكنه لم ينعم في خلالها بالراحة، بل حمل معه الجزء الأول من جغرافية «ملطبرون
Malte Brun »، وكان قد بدأ فترجم منه صفحات وهو في باريس، فأكمل ترجمة الجزء الأول كله. يقول في المقدمة: «وكان ذلك في نحو سبعة أشهر مع تراكم غيره من الأشغال علي من ترجمة هندسة أو طبع ما كان وقت تعريبه بين يدي.» ويتضح من مقدمة هذا الجزء أن رفاعة عرض على محمد علي رغبته في ترجمة هذا الكتاب، فطلب منه الباشا أن يترجم هذا الجزء في مدة لا تزيد على هذه الشهور السبعة؛ ولهذا بذل رفاعة الجهد كل الجهد ليفي بوعده، وقد فعل، وذلك: «قصدا لكسب رضاء ولي النعم الأكرم، الذي أمر بترجمته في نحو هذا الزمن وحتم ...» وقد عاونه في تبييض الكتاب وتحريره أثناء الترجمة الشيخ محمد هدهد الطنتدائي «فقام بواجبات هذه الوظيفة وزيادة من غير ارتياب، وربما تصرف بعد مشاورتي في بعض عبارات، وأشار علي بتغيير ما يظن أنه يعسر فهمه على من لم يسبق له في هذا الفن علمه، فأجبته حيث قام عندي على صحة ذلك أمارات ... إلخ»
تقدم رفاعة بهذا الجزء من الجغرافيا العمومية إلى محمد علي، فحاز الكتاب القبول، وحاز رفاعة الرضاء؛ فقد كان محمد علي معنيا - منذ بدأت حرب الشام الأولى - بالكتب والمصورات الجغرافية، يريد أن يعرف - وهو يبني ملكه الجديد - أين هو من الشرق القديم المنحل وأين هو من الغرب الجديد الناهض. وفي الوثائق المعاصرة شواهد كثيرة على هذه العناية؛ فقد كتب سامي بك إلى الديوان الخديوي في 12 جمادى الأولى سنة 1248ه يخبره «برغبة الجناب العالي في الاطلاع على خرائط الشام والأناضول، وبوجوب استدعاء أرتين أفندي للتفتيش عن هذه الخرائط في خزينة الأمتعة أو في خزينة القصر العيني أو في أي محل آخر ...»
وبعد عشرة أيام من هذا الخطاب (22 جمادى الأولى) صدر أمر من محمد علي إلى حبيب أفندي أشار فيه إلى أنه سبق أن طلب منه «خرائط رسم عن بر الشام والأناضول»، وأنه «علم مما ورد منه عدم وجود ذلك.» وأشار في هذا الأمر إلى أنه «متذكر وجود أطلس فلمنك، وآخر فرنساوي به رسم جميع الكرة الأرضية؛ فيجري البحث عن هذين الكتابين بخزينة الأمتعة أو بمحل وجودها وإرسالها لطرفه متى وجدت ...»
وفي 18 ذي القعدة سنة 1248ه كتب إبراهيم باشا إلى سامي بك يأمره «بوجوب ترجمة الجغرافيتين البرية والبحرية بمعرفة إستيفان أفندي وأرتين أفندي، وبوجوب حفر الخرائط اللازمة بمعرفة الشيخ أحمد العطار الذي عاد من باريز.» وفي 5 من ذي الحجة سنة 1249ه صدر أمر من محمد علي إلى وكيل الجهادية بطبع ألف نسخة من كتاب التعريبات الجغرافية «وكذلك ألف نسخة من الأطلس بعد إتمام ترجمته بمعرفة المذكور لما في هذين الكتابين من المنفعة الكلية ...»
وفي غرة ذي القعدة سنة 1250ه أرسلت إلى باغوص بك إفادة سنية «تقتضي تقديم خريطة نهر الفرات ونواحيه إلى المقر العالي.» ... إلخ ... إلخ.
كانت الفرصة سانحة إذن - ومحمد علي معني هذه العناية بالدراسات والرسوم الجغرافية - أن يتقدم إليه رفاعة باقتراحه الجديد لتحقيق أمنيته القديمة. كان ذلك الاقتراح يتلخص في أن يؤذن لرفاعة بافتتاح مدرسة للترجمة تعلم فيها الألسن الشرقية والغربية، وبعض المواد المساعدة كالتاريخ والجغرافية والرياضة، ليقوم خريجوها بترجمة الكتب في العلوم المختلفة.
ووافق محمد علي. وأنشئت المدرسة في أوائل سنة 1250ه. وفي الفصل التالي تفصيل الحديث عنها وعن قلم الترجمة الذي أنشئ ملحقا لها في سنة 1258ه/1841م.
Unknown page