Rifaca Tahtawi
رفاعة الطهطاوي: زعيم النهضة الفكرية في عصر محمد علي
Genres
الإهداء
مقدمة
نشأته الأولى
مقارنات وآمال
دور التحصيل في باريس
بعد العودة
مدرسة الألسن
قلم الترجمة
جهود أخرى
في السودان
Unknown page
أمير الآلاي رفاعة بك
رفاعة ناظر قلم الترجمة في عهد إسماعيل
إصلاحات رفاعة في التعليم والمجتمع
رفاعة ومونتسكيو
تلاميذ رفاعة من خريجي الألسن
رفاعة الرجل
كلمة ختامية
من مراجع البحث
الإهداء
مقدمة
Unknown page
نشأته الأولى
مقارنات وآمال
دور التحصيل في باريس
بعد العودة
مدرسة الألسن
قلم الترجمة
جهود أخرى
في السودان
أمير الآلاي رفاعة بك
رفاعة ناظر قلم الترجمة في عهد إسماعيل
Unknown page
إصلاحات رفاعة في التعليم والمجتمع
رفاعة ومونتسكيو
تلاميذ رفاعة من خريجي الألسن
رفاعة الرجل
كلمة ختامية
من مراجع البحث
رفاعة الطهطاوي
رفاعة الطهطاوي
زعيم النهضة الفكرية في عصر محمد علي
تأليف
Unknown page
جمال الدين الشيال
الإهداء
إلى روح والدتي:
اعترافا ببعض ما ضحت وبذلت في سبيل تربيتي وتكويني.
مقدمة
ثلاثة قرون طويلة خضعت مصر فيها للحكم العثماني، وفي هذه القرون كانت بلدان الشرق الأدنى - ومن بينها مصر - تنعم بسبات عميق، وفي إبان هذا السبات تأخرت نواحي حياتها الحربية والعلمية والصحية والاقتصادية.
وفي هذه القرون بالذات نهضت الدول الأوروبية نهضة قوية سريعة، انتقلت بها من ظلام العصور الوسطى وجهلها إلى نور العصور الحديثة وعلمها.
وكان من الممكن أن تفيد مصر من هذه النهضة لو أنها حافظت على صلاتها القديمة بالعالم الأوروبي، ولكن هذا الحكم العثماني قطع هذه الصلات، فلبثت مصر طول هذه القرون تعيش - كما كان يعيش صوفيوها ومريدوهم في ذلك العصر - في زاوية، أو رباط، أو خانقاه من حدودها.
وفي السنة الأخيرة من القرن الثامن عشر وفدت على مصر الحملة الفرنسية تحمل إليها كل جديد في الغرب، وكانت هزة عنيفة أيقظت الكنانة النائمة. ومنذ هذه السنة بدأت مصر تتصل بالغرب.
وقد آمن محمد علي منذ ولي عرش مصر بأن سر عظمة الغرب وتقدمه هو هذا العلم الجديد؛ ولهذا بذل الجهد كل الجهد لنقل هذا العلم إلى مصر والمصريين، فأنشأ المدارس، واستدعى الأساتذة الأوروبيين، وأوفد البعوث إلى الخارج، وبدأ حركة الترجمة الواسعة لنقل العلوم الأوروبية إلى اللغة العربية.
Unknown page
ورفاعة رافع الطهطاوي هو أنبغ المصريين الذين بعثوا إلى أوروبا، وقد كانت له بعد عودته جهود محمودة في حياة مصر الثقافية؛ مما يجعله بحق زعيما لنهضتنا الفكرية في ذلك العصر.
وحياة رفاعة توحي إلينا بأمور كثيرة يجب أن نأخذ بها ونحن نستكمل نهضتنا الثقافية: أولها وأهمها أننا يجب ألا نأخذ شبابنا بإحدى الثقافتين - الشرقية والغربية - دون الأخرى، بل يجب أن نأخذه بالثقافتين معا. وثانيهما: أننا يجب أن نضاعف العناية بالترجمة والنشر وألا نقصر عنايتنا على التأليف وحده.
وهذا الكتاب - وإن كان أول كتاب يكتب عن رفاعة - لازالت بعض فصوله - في رأيي - تحتاج إلى زيادة في البحث، واستيفاء في العرض، مما أرجو أن أوفق إليه في المستقبل إن شاء الله.
وقد رجعت عند وضع هذا الكتاب إلى كل ما كتب عن رفاعة، وإلى معظم المصادر العربية والأجنبية التي أرخت لنهضتنا الحديثة، فهو نتيجة لجهد علمي شاق طويل. غير أنني آثرت أن أعرض هذا العرض المبسط، واكتفيت بذكر قائمة كاملة بالمراجع في نهايته ليرجع إليها من شاء الاستزادة.
كما أنني أرى من واجبي أن أتقدم بالشكر الجزيل لصديقي الدكتور أحمد عزت عبد الكريم مدرس التاريخ الحديث بجامعة فؤاد الأول، فقد أفدت الكثير من كتابه القيم عن تاريخ التعليم في عصر محمد علي، كما أنه تفضل وسمح لي بالاطلاع على كتابه - الذي لم يطبع بعد - عن تاريخ التعليم في عصور عباس وسعيد وإسماعيل.
جمال الدين الشيال
الإسكندرية
في شوال 1364ه/سبتمبر 1945م
نشأته الأولى
ولد رفاعة في طهطا سنة 1216ه/1801م، وإليها ينسب، وفيها تلقى علومه الأولى، وفي سنة 1232ه/1817م وفد على القاهرة، والتحق بالأزهر ومكث به نحو خمس سنوات ختم فيها دروسه؛ فلما أتم الحادية والعشرين من عمره أصبح أهلا للتدريس، فدرس في الأزهر، وكان يتردد أحيانا على مدينته طهطا فيلقي على أهليها بعض دروسه، وقد كان رفاعة منذ عهده الأول مدرسا ممتازا، فأقبل عليه الطلاب وأفادوا منه، وكانت حلقات دروسه في السنتين التاليتين لتخرجه حافلة دائما بالمستمعين من التلامذة والمشايخ. يقول تلميذه ومؤرخ حياته صالح مجدي: «وكان رحمه الله حسن الإلقاء بحيث ينتفع بتدريسه كل من أخذ عنه، وقد اشتغل في الجامع الأزهر بتدريس كتب شتى في الحديث، والمنطق، والبيان، والبديع، والعروض، وغير ذلك، وكان درسه غاصا بالجم الغفير من الطلبة، وما منهم إلا من استفاد منه وبرع في جميع ما أخذه عنه؛ لما علمت أنه كان حسن الأسلوب، سهل التعبير، مدققا محققا، قادرا على الإفصاح عن المعنى الواحد بطرق مختلفة بحيث يفهم درسه الصغير والكبير بلا مشقة ولا تعب، ولا كد ولا نصب.»
Unknown page
ولقد كان من حسن حظ رفاعة أنه تتلمذ في الأزهر على الشيخ حسن العطار، فقد كان هذا الشيخ سابقا لعصره، طوف في الأرض، وسافر برا وبحرا، وزار الشام، ووصل في تطوافه إلى الآستانة وأقام بها سنوات، وأفاد من هذه الرحلات واتسع أفق تفكيره، ولما نزلت الحملة الفرنسية بأرض مصر اتصل ببعض علمائها ولقنهم اللغة العربية، كما أخذ عنهم بعض علومهم، وأعجب بما وصل إليه الشعب الفرنسي من رقي وحضارة، وقارن في نفسه بين علوم الفرنسيين التي رأى بعض مظاهرها في دار المجمع، واستمع لبعض أفكارها في حديثه إلى علماء المجمع، وبين علوم المصريين التي درسها ويدرسها في الأزهر، فرأى الفرق كبيرا والبون شاسعا، وتنبأ لهذا البلد بنهضة علمية سريعة ينهج فيها نهج فرنسا، قال: «لا بد أن تتغير حال بلادنا ويتجدد لها من المعارف ما ليس فيها.»
وبدأ هو بنفسه فأقبل على كتب لم تكن تدرس وقتذاك في الأزهر؛ أقبل على كتب التاريخ والجغرافيا، والطب والرياضة، والفلك والأدب، وقرأ الكثير من هذه الكتب وتفهمها. غير أنه يبدو أن نظام التدريس في الأزهر لم يكن ليسمح له أن يدرس بعض هذه الكتب أو ما أفاد منها. وإن سمحت النظم فإن المجموعة التي كانت تحيط به من شيوخ وطلاب ما كانت لتستسيغ هذه العلوم أو تقبلها، بل لعلها كانت تتهم المشتغلين بها بشيء من الزيغ عن الجادة والبعد عن علوم السلف وعما يجب أن يلزمه رجل الدين .
ولكن العطار كان ذا شخصية فذة وطريقة جديدة؛ لهذا لم يلبث أن اختص به نفر من تلاميذه الممتازين، فقربهم إليه، وأقرأهم ما كان يقرأ، ورغبهم في هذه العلوم الجديدة فأقبلوا عليها. فلما بدأ محمد علي نهضته واحتاج إلى بعض مشايخ الأزهر للتدريس في مدارسه الجديدة أو لتصحيح الكتب المترجمة، كان تلاميذ العطار أمثال: التونسي، والدسوقي، والطنطاوي ... إلخ خير من ندب، وخير من قام بالواجب الجديد في العهد الجديد.
وكان رفاعة أقرب تلاميذ العطار وأحبهم إليه. وقد فرح الأستاذ بنبوغ تلميذه في التدريس بعد تخرجه فلبث يشمله برعايته وحسن توجيهه. فلما طلب إليه محمد علي أن يختار له إماما لإحدى فرق الجيش الجديد، أسرع فرشح رفاعة لهذا المنصب. وعين الشيخ رفاعة في سنة 1240ه / 1824م واعظا وإماما في آلاي حسن بك المناسترلي، ثم انتقل إلى آلاي أحمد بك المنكلي.
وفي سنة 1242ه/1826م أوفدت أول بعثة كبيرة إلى فرنسا. وهنا أيضا طلب محمد علي إلى العطار أن ينتخب من علماء الأزهر إماما للبعثة «يرى فيه الأهلية واللياقة، فاختار الشيخ رفاعة لتلك الوظيفة.»
مقارنات وآمال
كانت نصيحة العطار لرفاعة أن يسجل مشاهداته في رحلته في كتاب خاص، وقد استجاب التلميذ لنصيحة أستاذه، فبدأ منذ ركوبه السفينة في الإسكندرية يفتح عينيه وأذنيه ليرى كل شيء ويسمع كل شيء. وكان كلما رأى جديدا أو سمع جديدا، انطوى على نفسه يفكر فيما رأى وفيما سمع، ثم لا يلبث أن يستحضر في مخيلته الصورة المقابلة - لما رأى أو سمع - في وطنه، أو في ديار الإسلام عامة، ثم يترك نفسه على سجيتها يلقي النظرة بعد النظرة على الصورتين: الصورة القديمة التي عرفها في وطنه أو في ديار الإسلام، والصورة الجديدة التي رآها في الغرب أو في ديار النصرانية، فإذا ملأ نظره من الصورتين انقلب يحلل ويقارن؛ لأنه كان يرى دائما أن الصورة القديمة باهتة كريهة وأن الصورة الجديدة زاهية حية محبوبة.
وقد حملته هذه المقارنات إلى عالم من الآمال العريضة، فهو كلما رأى خيرا تمناه لبلده ولمواطنيه. ورحلته إلى باريس معرض غني بهذه الصور وهذه المقارنات والآمال.
ترك رفاعة مصر والعلم فيها مقصور على رجال الدين من خريجي الأزهر - وهو واحد منهم - ولكنه ألفى العلم في باريس ميادين واسعة، له فروع كثيرة، وللفروع فروع، وهكذا ... وقد تخصص كل عالم في دراسة فرع من هذه الفروع فوهبه كل وقته وجهده فأنتج فيه وابتكر. ووجد أن علماء الدين ليست لهم المكانة الأولى كما هي الحال في مصر أو في بلدان العالم الإسلامي، فرسم لمواطنيه الصورة الجديدة للعلم والعلماء وكأنه يوحي إليهم في كل سطر من السطور بأن هذه هي الطريقة المثلى والصورة الحقة للعلم والعلماء. وفي رأيي أن محاولتنا وصف هذه الصور التي رسمها رفاعة قد تؤدي إلى تشويه معالمها. والخير كل الخير أن ننقل للقارئ بعض هذه الصور كما رسمها رفاعة بقلمه. قال مقارنا بين العلم والعلماء في مصر وفي باريس: «وأما علماؤهم فإنهم منزع آخر، لتعلمهم تعلما تاما عدة أمور، واعتنائهم زيادة على ذلك بفرع مخصوص، وكشفهم كثيرا من الأشياء، وتجديدهم فوائد غير مسبوقين بها، فإن هذه عندهم هي أوصاف العالم، وليس عندهم كل مدرس عالما، ولا كل مؤلف علامة، بل لا بد من كونه بتلك الأوصاف، ولا بد له من درجات معلومة، فلا يطلق عليه ذلك الاسم إلا بعد استيفائها والارتقاء. ولا تتوهم أن علماء الفرنسيس هم القسوس؛ لأن القسوس إنما هم علماء في الدين فقط، وقد يوجد من القسوس من هو عالم أيضا. وأما ما يطلق عليه اسم العلماء فهو من له معرفة في العلوم العقلية، ومعرفة العلماء في فروع الشريعة النصرانية هينة جدا، فإذا قيل في فرنسا: «هذا الإنسان عالم.» لا يفهم منه أنه يعرف في دينه، بل إنه يعرف علما من العلوم الأخر. وسيظهر لك فضل هؤلاء النصارى في العلوم عمن عداهم؛ وبذلك تعرف خلو بلادنا من كثير منها، وأن الجامع الأزهر المعمور بمصر القاهرة، وجامع بني أمية بالشام، وجامع الزيتونة بتونس، وجامع القرويين بفاس، ومدارس بخارى ، ونحو ذلك، كلها زاهرة بالعلوم النقلية، وبعض العقلية: كعلوم العربية ، والمنطق، ونحوه من العلوم الآلية. والعلوم في مدينة باريس تتقدم كل يوم، فهي دائما في الزيادة، فإنها لا تمضي سنة إلا ويكشفون شيئا جديدا، فإنهم قد يكشفون في السنة عدة فنون جديدة، أو صناعات جديدة، أو وسائط، أو تكميلات ...»
وقال يصف انتشار الثقافة العامة بين أفراد الشعب الفرنسي كبارا وصغارا: «ثم إن الفرنسيس يميلون بالطبيعة إلى تحصيل المعارف، ويتشوفون إلى معرفة سائر الأشياء؛ فلذلك ترى أن سائرهم له معرفة مستوعبة إجمالا لسائر الأشياء، فليس غريبا عنها، حتى إنك إذا خاطبته تكلم معك بكلام العلماء ولو لم يكن منهم؛ فلذلك ترى عامة الفرنساوية يبحثون ويتنازعون في بعض مسائل علمية عويصة. وكذلك أطفالهم فإنهم بارعون الغاية من صغرهم ... فإنك قد تخاطب الصغير الذي خرج من سن الطفولية عن رأيه في كذا وكذا، فيجيبك، بدلا عن قوله «لا أعرف»: «أصل هذا الشيء ما معناه الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ونحو ذلك، فأولادهم دائما متأهلون للتعلم والتحصيل، ولهم تربية عظيمة، وهذا في الفرنسيس على الإطلاق »...»
Unknown page
وبعد هذه التقدمة انطلق رفاعة يصف دور الكتب ومعاهد العلم في باريس، فهو يلاحظ أن «لكل إنسان من العلماء أو الطلبة أو الأغنياء خزانة كتب على قدر حاله، ويندر وجود إنسان بباريس من غير أن يكون تحت ملكه شيء من الكتب؛ لما أن سائر الناس تعرف القراءة والكتابة ... إلخ ... إلخ.» وهو يعرض بعد هذا وصفا مسهبا لمعاهد العلم المختلفة، وكلها غريب عن مصر في ذلك الوقت، والمسميات غريبة عن اللغة العربية؛ لهذا بدأ رفاعة محاولاته لترجمة هذه المسميات، فهو يعرب بعضها تارة، وهو يرسم البعض الآخر كما هو تارة أخرى. فالدور التي نحفظ فيها النماذج والآثار، سميناها في القرن الماضي أسماء كثيرة، فكنا نطلق عليها دور العاديات أو دور الآثار ثم انتهينا إلى تسميتها بالمتاحف. أما رفاعة فقد سماها: «خزائن المستغربات»، وفسر اللفظ ليدل مواطنيه على معناه، فقال: «ويوجد بها ما تتشوق إليه نفوس الفضلاء، ليستعينوا به على الغرض في الطبيعيات، كالمعادن، والأحجار، والحيوانات البرية والبحرية المحفوظة الجثة ، وسائر المواليد من الأحجار والنباتات وسائر الأشياء التي فيها آثار القدماء ... إلخ.»
وانتقل من هذا إلى وصف «بستان النباتات السلطاني» وما به من أنواع النبات والحيوان المختلفة، و«الرصد السلطاني» وما به من آلات لرصد الكواكب؛ و«الكنسروتوار ... ومعناه المخزن أو المحفظ ... وفيه جميع الآلات ... خصوصا الآلات الهندسية كآلات الحيل وتحويل الأثقال.»
وذكر رفاعة بعد ذلك أن في باريس المدارس الكثيرة لدراسة العلوم والفنون، ومنها «ما يسمى أكدمة، ومنها ما يسمى مجمعا أو مجلسا، والأنسطيوت عندهم اسم عام يشتمل على جميع اجتماع الأكدمات، أي المجالس الخمسة، وهي: أكدمية اللغة الفرنساوية، وأكدمية العلوم الأدبية ومعرفة الأخبار والآثار، وأكدمية العلوم الطبيعية والهندسية، وأكدمية الصنائع الظريفة، وأكدمية الفلسفة ...» وبعد أن وصف كل «أكدمية» من هذه «الأكدميات» وصفا مسهبا، ذكر أن في باريس أيضا «مدارس سلطانية تسمى الكوليچ، وهي مدارس يتعلم فيها الإنسان العلوم المهمة التي تكون وسائل في الأمور المقصودة منها، وهي خمسة كوليچات ... إلخ.»
كان طبيعيا أن تحظى الحياة العلمية في باريس بهذه اللفتات من رفاعة وهو خريج الأزهر والمبعوث إلى باريس لإتمام علومه، ولكننا نلاحظ أنه لم يغمض عينيه عن مظاهر الحياة الأخرى، بل لقد كانت له نظرات ولفتات إلى مختلف نواحي الحياة الاجتماعية والسياسية في فرنسا. والسمة الواضحة لهذه اللفتات جميعا هي الظاهرة التي سجلناها قبلا، أي المقارنة والأمل، فهو إذا وصف نهر السين تذكر نهر النيل فقال: «... وشتان بين هذا وبين النيل والروضة والمقياس، فإن نزهة الإنسان في الروضة والمقياس لا تضاهى؛ لأن الخليج يعبر مصر، والسين يعبر باريس، إلا أن نهر السين بتمامه يشق باريز، وتجري به السفن العظيمة الوسق، وبه الأرصفة الجيدة، والنظافة على حوافيه، ومع ذلك فنزهته غير سارة. وشتان أيضا بين ماء النيل والسين من جهة الطعم وغيره؛ فإن ماء النيل لو كانت العادة جرت بترويقه قبل استعماله كما هي العادة في ماء نهر السين لكان من أعظم الأدواء. وأقول أيضا إنه فرق بعيد بين طعم ماء نهر السين وماء العيون والقطوع والسواقي ببلاد صعيد مصر ...» وينتقل بعد هذا إلى المقارنة بين الجو في مصر وفي فرنسا، فيصف شدة البرد في باريس إلى أن يقول: «وأما مصر فإنها سليمة من مكاره برد باريس، كما أنها خالية أيضا عن الأمور المحتاج إليها في وقت الحر، مثل الاستعانة على تطرية الزمن. فإن أهل باريس مثلا سهل عندهم رش ميدان متسع من الأرض وقت الحر، فإنهم يصنعون دنا عظيما ذا عجلات، ويمشون العجلة بالخيل؛ ولهذا الدن عدة بزابيز مصنوعة بالهندسة تدفع الماء بقوة عظيمة وعزم سريع، فلا تزال ماشية والبزابيز مفتوحة حتى ترش قطعة عظيمة في نحو ربع ساعة لا يمكن رشها بجملة رجال في أبلغ من ساعة. ولهم غير ذلك من الحيل، فمصرنا أولى بهذا لغلبة حرها ... ومن الأمور المستحسنة أيضا أنهم يصنعون مجاري تحت الأرض توصل ماء النهر إلى حمامات أخرى وسط المدينة أو إلى صهاريج بهندسة مكملة، فانظر أين سهولة هذا مع صهاريج مصر بحمل الجمال، فإن ذلك أهون مصرفا وأيسر في كل زمن ... وفي هذه المدينة (أي باريس) عدة فسحات عظيمة تسمى المواضع يعني الميادين، كفسحة الرميلة بالقاهرة، في مجرد الاتساع لا في الوساخة، وعددها خمسة وسبعون ميدانا ... إلخ.»
هذه صورة قد تبدو عادية للقارئ المصري الحديث، ولكنها كانت غريبة الغرابة كلها لرفاعة وزملائه؛ فقد كانت الحياة في مصر في أوائل القرن الماضي تختلف عن مثيلتها في باريس اختلافا بينا، وهذه الصور لا تعدو أن تكون نماذج لما أثار انتباه رفاعة. أما الرحلة فمليئة بعشرات من الصور الأخرى، وكلها طريف يستحق القراءة والدراسة.
دور التحصيل في باريس
في يوم الخميس السادس من شهر رمضان سنة 1241ه/14 أبريل 1826م أبحرت السفينة من الإسكندرية تحمل رفاعة وزملاءه. وفي التاسع من شهر شوال وصلت بهم إلى «مارسيليا»، ومذ وطئت قدما رفاعة أرض هذه المدينة بدأ يتعلم اللغة الفرنسية. يقول في رحلته: «وتعلمنا في نحو ثلاثين يوما التهجي.»
وفي باريس قضى تلاميذ البعثة جميعا نحو سنة وهم يقيمون معا في بيت واحد، ويشتركون معا في دراسة مواد واحدة. يقول رفاعة : «كنا نقرأ في الصباح كتاب تاريخ ساعتين، ثم بعد الظهر درس رسم، ثم درس نحو فرنساوي، وفي كل جمعة ثلاثة دروس من علمي الحساب والهندسة.»
وكانت هذه الخطة ترمي إلى عزل تلاميذ البعثة حتى لا يفسدهم الاختلاط أو الحياة في باريس، وحتى يستطيعوا التوفر على دراستهم ليحصلوا العلوم التي يريدون على أحسن وجه وفي أسرع وقت، ولكن هذه العلوم التي أوفدوا لدراستها مودعة في بطون المؤلفات الفرنسية، ولا سبيل إليها إلا إتقان هذه اللغة حديثا وقراءة وفهما. ولا سبيل إلى هذا الإتقان إلا أن يختلط هؤلاء الشبان بأندادهم من الفرنسيين حتى تستقيم ألسنتهم.
أحس هذا النقص المشرفون على البعثة، كما أحس به أعضاء البعثة أنفسهم. يقول رفاعة: «مكثنا جميعا في بيت واحد دون سنة نقرأ معا في اللغة الفرنسية وفي هذه الفنون المتقدمة، ولكن لم يحصل لنا عظيم مزية إلا مجرد تعلم النحو الفرنساوي؛ لهذا صدرت الأوامر بتوزيع هؤلاء المبعوثين، فتفرقوا «في مكاتب متعددة، كل اثنين أو ثلاثة أو واحد في مكتب مع أولاد الفرنساوية، أو في بيت مخصوص، عند معلم مخصوص، بقدر معلوم من الدراهم في نظير الأكل والشرب والسكنى والتعليم ...» وفي هذه المكاتب، أو «البانسيونات» كان التلاميذ المصريون يقضون ليلهم ونهارهم في التحصيل، ولم يكن يسمح لهم بالخروج إلا في يوم الأحد أو بعد ظهر الخميس أو في الأعياد الفرنسية. وكان يحدث أحيانا أن يخرج بعضهم بعد العشاء إن لم يكن يشغله درس أو واجب.»
Unknown page
وكان رفاعة أكثرهم انهماكا في عمله وأشدهم إقبالا عليه، ولم تكن تسعفه أوقات فراغه في النهار، فكان يقضي معظم ساعات الليل ساهرا بين كتبه ودروسه، يقرأ ويتفهم ويترجم، حتى أصيبت عينه اليسرى بضعف، ونصحه الطبيب بالراحة ونهاه عن المطالعة في الليل، ولكنه «لم يمتثل لخوف تعويق تقدمه.»
ولم يقنع رفاعة بالكتب التي تشترى له على حساب البعثة، فقد أحس لذة المعرفة، فأقبل يشتري كتبا أخرى من ماله الخاص، ثم أحس أن دروس أساتذته لا تكفي لإشباع فهمه، فاستأجر معلما خاصا ظل يدرس له أكثر من سنة وكان يدفع له أجره من مرتبه الخاص.
أرسل رفاعة إلى فرنسا ليكون إماما للبعثة، ولكن يبدو أن الأوامر صدرت في آخر لحظة أن يسمح له بالدراسة، فإن أقبل ووفق فليوجه إلى إتقان الترجمة؛ وذلك لأن ثقافته الأزهرية في اللغة العربية ترشحه لهذا العمل إذا ألم باللغة الفرنسية وأتقنها. وهذا عمل واسع عريض لأنه غير محدود، فحكومة محمد علي كانت مقبلة على الترجمة في كل علم وفن: في الهندسة، والطب، والفنون العسكرية، والتاريخ، والجغرافيا ... إلخ؛ فواجب رفاعة إذن أن يقرأ كتبا في كل هذه العلوم وأن يمرن على الترجمة فيها جميعا، ويا له من واجب شاق! ولكن همة رفاعة كانت همة عالية، فاستسهل الصعب، وأقبل ووفق.
وقد ذكر رفاعة في رحلته العلوم والفنون التي درسها، وعين الكتب التي قرأها والتي ترجمها أو بدأ يترجمها وهو في باريس. ومنها نلحظ أن ثقافته كانت موسوعية، فقد قرأ كتبا كثيرة في مختلف العلوم مع أساتذته، ثم قرأ كتبا كثيرة أخرى وحده. وبرهن بهذا على أنه كان يتمتع بروح جامعية حقة. ولا عجب فقد ساعد على تزويده بهذه الروح أمور أربعة: المران الذي اكتسبه وهو يطلب العلم في الأزهر، والنفحة التي أضفاها عليه أستاذه العطار، وحبه العجيب للعلم وشغفه بالتحصيل، ثم نفسه العالية الطموح ورغبته في إشباع هذه النفس وإرضاء باعثه وباعث النهضة الجديدة في مصر «ولي النعم» محمد علي.
وكان هناك عامل آخر، أو حافز آخر بعث رفاعة على الجد والاجتهاد لا يقل عن العوامل السابقة إن لم يكن أقوى منها. ذلك أن رفاعة درس دراسة دينية في أكبر جامعة دينية، ثم تخرج عالما دينيا، وكان تلميذا لشيخ الأزهر، كما كان قوي الإيمان متين العقيدة، وقد راعه منذ اللحظة الأولى الفارق الكبير بين ما كانت تتمتع به ديار المسيحية من تقدم في مختلف نواحي الحياة، وبين ما كانت تتمتع به مصر وديار الإسلام من تأخر وخمود وجمود في مختلف نواحي الحياة وخاصة في الناحية العلمية. ورحلته مليئة بهذه المقارنات كما سبق أن ذكرنا؛ لهذا نحس في جهوده التي ذكرها أنه ما كان يفرغ من قراءة كتاب في أي علم أو فن حتى يقبل على ترجمته؛ يريد بذلك أن ينقل لديار الإسلام وبنيه هذا العلم الجديد؛ عله يبعثهم إلى نهضة جديدة تنتهي بهم إلى أن يكونوا كأبناء المسيحية حضارة ورقيا، ولكن أنى له الوقت لترجمة هذه الكتب جميعا؟ ومع هذا فقد بدأ وترجم كتبا أو رسالات صغيرة ثم ترجم فصولا من الكتب الكبيرة. وكأني به قد ترك الباقي حتى يعود لمصر فيتم ما بدأ، وقد فعل، ولكن جهده جهد إنساني محدود، ووقته وقت محدود، وهنا ترقب الفرص حتى سنحت له فعرض على محمد علي مشروعه لإنشاء مدرسة الألسن، وقد أنشئت. واتسعت بعد إنشائها حركة الترجمة، واستطاع رفاعة أن يحقق بعض آماله. ويؤيدنا في رأينا هذا أن معظم الكتب الأولى التي ترجمها خريجو الألسن هي الكتب التي قرأها رفاعة في باريس والتي كان يتمنى أن يترجمها بنفسه.
والآن ليس أحسن من أن ننقل هنا تقرير رفاعة نفسه عن الكتب التي قرأها، وعن جهوده في الدراسة والترجمة وهو في باريس، قال في رحلته:
في التاريخ: «ابتدأنا في بيت الأفندية حين كنا معا بكتاب سير فلاسفة اليونان فقرأناه وتممناه، ثم ابتدأنا بعده في كتاب تاريخ عام مختصر يشتمل على سير قدماء المصريين والعراقيين وأهل الشام واليونان وقدماء العجم والرومانيين والهنود، وفي آخره نبذة مختصرة في علم «الميثولوجيا» يعني جاهلية اليونان وخرافاتهم، ثم قرأت عند مسيو «شواليه» كتابا يسمى لطائف التاريخ، يتضمن قصصا وحكايات ونوادر، ثم بعده قرأت كتابا يسمى سير أخلاق الأمم وعوائدهم وآدابهم، ثم تاريخ سبب عظم دولة قياصرة الروم وانقراضها، ثم كتاب رحلة «أنخرسيس» الأصغر إلى بلاد اليونان، ثم قرأت كتاب «سيغور» في التاريخ العام، ثم سيرة نابليون، ثم كتابا في علم التواريخ والأنساب، ثم كتابا يسمى «بانوراما» العالم، يعني مرآة الدنيا، ثم رحلة صنفها بعض المسافرين في بلاد الدولة العثمانية ، ثم رحلة في بلاد الجزائر.»
في الرياضيات: «وقرأت في الحساب كتاب «بزوت
Bezout ».
وفي الهندسة: الأربع المقالات الأول من كتاب «لوجندر
Unknown page
Legendre ».
في الجغرافيا: «وقرأت مع المسيو «شواليه» كتاب جغرافية يشتمل على الجغرافية التاريخية والطبيعية والرياضية والسياسية، ثم قرأت رسالة أخرى في الجغرافية الطبيعية مقدمة لقاموس في الجغرافية يعني معجم البلدان، ثم قرأت الكتاب الأول بعينه مع معلم آخر غير مسيو «شواليه». وقرأت أيضا مع مسيو «شواليه» جملا عظيمة من جغرافية «ملطبرون» ورسالة ألفها لتعليم بنته في هيئة الدنيا. وقرأت وحدي مؤلفات عديدة في هذا الفن.»
في علوم وفنون مختلفة كالمنطق والفلسفة والقوانين والاجتماع والأدب والمعادن والفنون الحربية: «وقرأت كتابا في علم المنطق الفرنساوي مع مسيو «شواليه» ومسيو «المونري»، وعدة مواضع من كتاب «ليبر تروايال» من جملتها المقولات، وكتابا آخر في المنطق يقال له: كتاب «قندلياق
Condillac » غير فيه منطق أرسطو. وقرأت مع مسيو «شواليه» كتابا صغيرا في المعادن، وترجمته. وقرأت كثيرا من كتب الأدب، فمنها مجموع «نويل»، ومنها عدة مواضع من ديوان «ولتير
Voltaire » و«رسين
Racine » وديوان «روسو
Rousseau »، خصوصا «مراسلاته الفارسية
Lettres Persanes » التي يعرف بها الفرق بين آداب الفرنج والعجم، وهي أشبه بميزان بين الآداب المغربية والمشرقية. وقرأت أيضا وحدي مراسلات إنقليزية صنفها «القونت شسترفيلد» لتربية ولده وتعليمه، وكثيرا من مقامات الفرنساوية. وبالجملة فقد اطلعت في الآداب الفرنساوية على كثير من مؤلفاتها الشهيرة، وقرأت في «الحقوق الطبيعية
Droit naturel » مع معلمها كتاب «برلماكي
Burlamaqui » وترجمته وفهمته فهما جيدا. وهذا الفن عبارة عن التحسين والتقبيح العقليين يجعله الإفرنج أساسا لأحكامهم السياسية المسماة عندهم شرعية. وقرأت أيضا مع مسيو «شواليه» جزأين من كتاب يسمى «روح الشرائع
Unknown page
l’Esprit des lois » ومؤلفه شهير بين الفرنساوية يقال له: «منتسكوا
Montesquieu »، وهو أشبه بميزان بين المذاهب الشرعية والسياسية، ومبني على التحسين والتقبيح العقليين، ويلقب عندهم بابن خلدون الإفرنجي، كما أن ابن خلدون يقال له عندهم أيضا منتسكو الشرق أي منتسكو الإسلام. وقرأت أيضا في هذا المعنى كتابا يسمى «عقد التآنس والاجتماع الإنساني
Le Contrat Social »، مؤلفه يقال له: «روسو»، وهو عظيم في معناه. وقرأت في الفلسفة تاريخ الفلاسفة المتقدم المشتمل على مذاهبهم وعقائدهم وحكمهم ومواعظهم. وقرأت عدة محال نفيسة في معجم الفلسفة للخواجة «ولتير»، وعدة محال في كتب فلسفة «قندلياق». وقرأت في فن الطبيعة رسالة صغيرة مع مسيو «شواليه» من غير تعرض للعمليات. وقرأت في فن العسكرية من كتاب يسمى «عمليات كبار الضباط» مع مسيو «شواليه» مائة صفحة، وترجمتها. وقرأت كثيرا في «كازيطات» العلوم اليومية والشهرية التي تذكر كل يوم ما يصل خبره من الأخبار الداخلية والخارجية المسماة «البوليتيقة». وكنت متولعا بها غاية التولع، وبها استعنت على فهم اللغة الفرنساوية. وربما كنت أترجم منها مسائل علمية وسياسية خصوصا وقت حرابة الدولة العثمانية مع الدولة الموسقوبية.»
هذه هي العلوم التي درسها رفاعة، والكتب التي قرأها، وهي تدل - كما سبق أن ذكرنا - على أنه ثقف ثقافة موسوعية. وقد كان لا بد له أن يتثقف هذه الثقافة ما دام قد بعث للتخصص في الترجمة؛ حتى إذا طلب له بعد عودته أن يترجم في أي علم من العلوم لبى الطلب ونفذ الأمر. وهذا ما حدث مثلا، فإنه عين بعد عودته مترجما بمدرسة الطب، ثم نقل مترجما بمكتب طرة الحربي. ولما أنشئت الألسن كان يشرف على أعمال خريجيها الذين ترجموا كتبا في كل هذه العلوم والفنون.
قضى رفاعة سنة في باريس، ثم عقد له ولزملائه امتحان في نهاية هذه السنة، فنجح رفاعة بتفوق، وأرسل إليه مسيو «جومار» مدير البعثة جائزة التفوق، وهي كتاب «رحلة أنخرسيس في بلاد اليونان» وهو «سبعة مجلدات جيدة التجليد مموهة بالذهب»، وأرسل إليه مع الجائزة خطابا تاريخه أول أغسطس سنة 1827م كله تشجيع وتقدير لما بذل رفاعة من جهد ولما نال من نجاح. جاء فيه: «قد استحقيت هدية اللغة الفرنساوية بالتقدم الذي حصلته فيها، وبالثمرة التي نلتها في الامتحان العام الأخير. ولقد حق لي أن أهنئ نفسي بإرسالي لك هذه الهدية من الأفندية النظار دليلا على التفاتك في التعليم. ولا شك أن ولي النعمة يسر متى أخبر أن اجتهادك وثمرة تعليمك يكافآن المصاريف العظيمة التي يصرفها عليك في تربيتك وتعليمك. وعليك مني السلام مصحوبا بالمودة ...»
وبعد عام آخر عقد امتحان ثان فوفق فيه كما وفق في سابقه، وكانت جائزته في هذه المرة كتابين من تأليف المستشرق الفرنسي «دي ساسي»، وهما: «الأنيس المفيد للطالب المستفيد» و«جامع الشذور من منظوم ومنثور».
وفي باريس اتصل الشيخ رفاعة بكبار المستشرقين الفرنسيين، وخاصة المسيو «سلفستر دي ساسي» والمسيو «كوسان دي برسيڨال» ونشأت بينه وبين هذين العالمين صداقة متينة، وكان كل منهما يقدر جهد الشيخ التلميذ وعلمه، وقد تبودلت بينه وبينهم كثير من الرسائل أثبت بعضها رفاعة في رحلته، وقد أطلعهما قبيل سفره على مخطوطة رحلته فأعجبا بها وكتبا عنها تقريظا، وأرسل كل منهما للمسيو جومار بصفته مدير البعثة خطابا كله ثناء وتقريظ لرفاعة وكتابه. قال دي ساسي: «إن مسيو رفاعة أحسن صرف زمنه مدة إقامته في فرنسا، وإنه اكتسب فيها معارف عظيمة وتمكن منها كل التمكن حتى تأهل لأن يكون نافعا في بلاده. وقد شهدت له بذلك عن طيب نفس، وله عندي منزلة عظيمة ومحبة جسيمة ...» وقال دي برسيڨال: «إن هذا التأليف «الرحلة» يستحق كثيرا من المدح، وإنه مصنوع على وجه يكون به نفع عظيم لأهالي بلد المؤلف؛ فإنه أهدى لهم نبذات صحيحة من فنون فرنسا وعوائدها وأخلاق أهلها وسياسة دولتها. ولما رأى أن وطنه أدنى من بلاد أوروبا في العلوم البشرية والفنون النافعة، أظهر التأسف على ذلك، وأراد أن يوقظ بكتابه أهل الإسلام، ويدخل عندهم الرغبة في المعارف المفيدة، ويولد عندهم محبة تعلم التمدن الإفرنجي والترقي في صنايع المعاش. وما تكلم عليه من المباني السلطانية والتعليمات وغيرها، أراد أن يذكر به لأهالي بلده أنه ينبغي لهم تقليد ذلك. وما نظر فيه في بعض العبارات يدل في الغالب على سلامة عقله وخلوه من التعسف والتحامل. وعبارة هذا الكتاب بسيطة، أي غير متكلف فيها التنميق، ومع ذلك فهي لطيفة ... إلخ.»
وبعد خمس سنوات عقد لرفاعة الامتحان النهائي، فجمع المسيو «جومار» «مجلسا فيه عدة أناس مشاهير، ومن جملتهم وزير التعليمات الموسقوبي رئيس الامتحان.» يقول رفاعة: «وكان القصد بهذا المجلس معرفة قوة الفقير في صناعة الترجمة التي اشتغلت بها مدة مكثي في فرنسا ...»
وتقدم رفاعة إلى لجنة الامتحان بخلاصة مجهوداته في الترجمة طوال هذه السنوات الخمس، وهي اثنتا عشرة رسالة ترجمها عن الفرنسية إلى العربية، وهذا بيانها: (1)
نبذة في تاريخ إسكندر الأكبر مأخوذة من تاريخ القدماء. (2)
Unknown page
كتاب أصول المعادن. (3)
روزنامة (يقصد تقويم) سنة 1244ه، ألفه مسيو «جومار» لاستعمال مصر والشام، متضمنا لشذرات علمية وتدبيرية. (4)
كتاب دائرة العلوم في أخلاق الأمم وعوائدهم. (5)
مقدم جغرافية طبيعية مصححة على مسيو «دهنلبض». (6)
قطعة من كتاب «ملطبرون» في الجغرافية. (7)
ثلاث مقالات من كتاب «لجندر» في علم الهندسة. (8)
نبذة في علم هيئة الدنيا. (9)
قطعة من عمليات رؤساء ضباط العسكرية. (10)
أصول الحقوق الطبيعية التي تعتبرها الإفرنج. (11)
نبذة في الميثولوجيا يعني جاهلية اليونان وخرافاتهم. (12)
Unknown page
نبذة في علم سياسات الصحة.
كذلك قدم رفاعة للجنة الامتحان كراسة أخرى فيها مخطوطة رحلته إلى باريس؛ وذلك لأن هذه الرحلة ليست تأليفا كلها، بل فيها نبذ كثيرة مترجمة في مختلف العلوم، قصد بها رفاعة إلى تقريب هذه العلوم إلى القارئ المصري، وشرح نهضة الفرنسيين العلمية ومدى إقبالهم على الدروس والتحصيل. وفي هذه الرحلة أيضا ترجم رفاعة الدستور الفرنسي الذي وضعه «لويس الثامن عشر»، وسماه: «شرطة». وفيها أيضا ترجم بعض الأشعار الفرنسية إلى شعر عربي، وبعض هذا الشعر لشعراء مجهولين، وبعضه أبيات «من القصيدة المسماة نظم العقود في كسر العود، للخواجة يعقوب، المصري منشأ الفرنساوي استيطانا ...» وقد ذكر رفاعة أنه ترجمها في سنة 1242ه/1826-1827م، أي بعيد وصوله إلى باريس بقليل. وقد أحس أن الشعر يفقد كثيرا من روعته إذا ترجم من لغة إلى أخرى، فقال في نهاية القصائد التي ترجمها: «وهذه القصيدة كغيرها من الأشعار المترجمة من اللغة الفرنساوية عالية النفس في أصلها، ولكن بالترجمة تذهب بلاغتها فلا يظهر علو نفس صاحبها. ومثل ذلك لطائف القصائد العربية، فإنه لا يمكن ترجمتها إلى غالب اللغات الإفرنجية من غير أن يذهب حسنها، بل ربما صارت باردة ...»
ولم تقنع لجنة الامتحان بهذه الجهود المكتوبة ، ورأت أن تختبره اختبارا شفهيا لتتأكد من مقدرته على الترجمة الصحيحة، فأحضرت له بعض الكتب المطبوعة في بولاق فترجم بعض فقراتها بسرعة، «ثم قرأ بالفرنساوي مواضع، منها ما هو صغير ومنها ما هو كبير في «كازيطة» مصر المطبوعة في بولاق» (يقصد الوقائع المصرية).
وبهذا تم اختباره في الترجمة عن العربية إلى الفرنسية، ثم أعطته اللجنة النص العربي للرسالة التي ترجمها عن «عمليات رؤساء الضباط العسكرية»، وأمسك أحد أعضاء اللجنة النص الفرنسي، وأعاد رفاعة ترجمة النص الذي بيده إلى الفرنسية. والممتحنون يقابلون بين ما يقول وبين النص الأصلي الذي بأيديهم. ووفق في ترجمته، وقررت اللجنة أنه تخلص من هذا الامتحان على وجه حسن «فأدى العبارات حقها من غير تغيير في معنى الأصل المترجم.» ولكنها أخذت عليه أنه «ربما أحوجه اصطلاح اللغة العربية أن يضع مجازا بدل مجاز آخر من غير خلل في المعنى المراد. مثلا في تشبيه أصل علم العسكرية بمعدن مشبع يستخرج منه كذا، غير العبارة بقوله: علم العسكرية بحر عظيم تستخرج منه الدرر. وقد اعترض عليه في الامتحان بأنه في بعض الأحيان قد لا يكون في ترجمته مطابقة تامة بين المترجم والمترجم عنه، وأنه ربما كرر، وربما ترجم الجملة بجمل والكلمة بجملة، ولكن من غير أن يقع في الخلط، بل هو دائما محافظ على روح المعنى الأصلي. وقد عرف الشيخ الآن أنه إذا أراد أن يترجم كتب علوم، فلا بد له أن يترك التقطيع، وعليه أن يخترع عند الحاجة تغييرا مناسبا للمقصود ...»
وبنفس الطريقة اختبر في كتاب آخر مما ترجمه، وهو: «مقدمة القاموس العام المتعلقة بالجغرافية الطبيعية»، ولاحظت اللجنة أن ترجمة هذا الكتاب ضعيفة، ولكنها التمست لرفاعة العذر لأنه ترجمه بعيد وصوله إلى فرنسا ولم يكن قد وصل حينذاك إلى «درجته الآن في اللغة الفرنساوية»؛ ولهذا كانت ترجمته لهذا الكتاب أضعف من ترجمته للكتاب السابق، «وكان عيبه أنه لم يحافظ على تأدية عبارة الأصل بجميع أطرافها. وعلى كل حال فلم يغير في المعنى شيئا، بل طريقته في الترجمة كانت مناسبة.» وتفرق الممتحنون أخيرا وهم مجمعون على إتقانه صناعة الترجمة، وعلى «أنه يمكنه أن ينفع في دولته بأن يترجم الكتب المهمة المحتاج إليها في نشر العلوم والمرغوب في تكثيرها في البلاد المتمدنة ...»
اجتاز رفاعة الامتحان بعد أن قضى في فرنسا خمس سنوات طوال أقبل فيها على الدرس والتحصيل إقبال الطالب المجد المحب لعمله. وقد قرأ في هذه السنوات كتبا شتى في علوم متباينة وترجم الكثير من هذه الكتب، ولكنه - متأثرا بميله الخاص وبدراسته الأدبية الأولى في الأزهر - شغف أكثر ما شغف بعلمي التاريخ والجغرافيا، ورشح نفسه لترجمة هذين العلمين. فهو يقول في خاتمة رحلته: «وإن شاء الله تعالى بأنفاس ولي النعم يصير التاريخ على اختلافه منقولا من الفرنساوية إلى لغتنا ... فقد تكفلنا بترجمة علمي التاريخ والجغرافيا بمصر السعيدة بمشيئته تعالى، وبهمة صاحب السعادة محب العلوم والفنون، حتى تعد دولته من الأزمنة التي تؤرخ بها العلوم والمعارف المتجددة في مصر مثل تجددها في زمن خلفاء بغداد ...»
بعد العودة
في رمضان سنة 1241ه غادر رفاعة الإسكندرية مرتحلا إلى فرنسا، وفي رمضان سنة 1246ه غادر باريس عائدا إلى مصر. خمس سنوات كاملة تغير فيها الشيخ عقلا وعلما، وتفكيرا وآمالا، لكنه لم يتغير، بل لم يتأثر دينا وأخلاقا. يقول علي مبارك: «ولم تؤثر إقامته بباريز أدنى تأثير في عقائده، ولا في أخلاقه وعوائده ...»
وفي الإسكندرية تشرف بمقابلة إبراهيم باشا، فرحب به لأنه سمع عنه ثناء جما أثناء زيارته لباريس، ولأنه كان يعرف أسرته في طهطا معرفة وثيقة. وفي ختام المقابلة وعده إبراهيم باشا «بدوام الالتفات إليه»، وأنعم عليه بستة وثلاثين فدانا في الخانقاه، فكانت أول مكافأة مادية نالها رفاعة على جده واجتهاده. وأول الغيث قطرة. (1) في مدرسة الطب
وسافر إلى القاهرة، وحظي بمقابلة ولي النعم محمد علي باشا، وكان محمد علي قد عرفه معرفة أكيدة من تقارير مسيو «جومار» الكثيرة عنه، وكلها مدح وتقريظ لجهوده وتقدير لعمله. وفي هذه المقابلة لقي رفاعة من مولاه كل عطف وتشجيع «ورأى من ميله إليه ما حمله على الثقة بنجاح البدء والنهاية». وصدر أمره العالي بتعيينه مترجما بمدرسة الطب، فكان أول مصري يعين مترجما بهذه المدرسة؛ فقد كانت هيئة المترجمين جميعا حتى ذلك الوقت من السوريين؛ لهذا لم يلبث رفاعة أن تفوق عليهم في عمله، فهو يتقن اللغة العربية إتقانا لا يدانيه فيه أحد من هؤلاء المترجمين السوريين وهو يجيد الفرنسية مثلما يجيدونها. وترجمته في النهاية صحيحة سليمة لا تحتاج - كترجمة السوريين - إلى مراجعة أو تصحيح شيخ من شيوخ الأزهر المحررين بالمدرسة.
Unknown page
لبث رفاعة مترجما في مدرسة الطب نحو سنتين، ولكنه يبدو أنه كان في هذه المدرسة مصححا ومحررا أكثر منه مترجما، إذ لم يعرف أنه ترجم في الطب غير الرسالة الصغيرة التي ترجمها وهو في باريس وضمنها رحلته، ولكنه قام في هذه الفترة بمراجعة كتاب «التوضيح لألفاظ التشريح» في الطب البيطري، الذي ترجمه يوسف فرعون وصححه الشيخ مصطفى حسن كساب. فقد قرر مجلس الجهادية في 20 جمادى الأولى سنة 1248ه «بناء على ما ورد على مجلس المشورة في مدرسة الطب البيطري الموافقة على طبع كتاب التشريح الذي ترجم بعد مراجعة الترجمة بمعرفة الشيخ رفاعة أفندي وهرقل البيكباشي واتضاح صحتها ...» وقد ذكر في خاتمة الكتاب أنه تم ترجمة في التاسع عشر من شعبان سنة 1247ه، وأنه تم طبعا في بولاق في غرة صفر سنة 1249ه. (2) في مدرسة الطوبجية
وفي سنة 1249ه نقل رفاعة من مدرسة الطب ليكون مترجما بمدرسة الطوبجية بطرة خلفا للمستشرق الشاب «كنيك
Koenig ». وفي هذه المدرسة قام رفاعة بترجمة بعض الكتب الهندسية والجغرافية اللازمة لمدرسة الطوبجية وغيرها من المدارس الحربية، فأتم أولا ترجمة كتاب «مبادئ الهندسة» الذي طبع في سنة 1249ه.
أما علم الجغرافيا، وهو العلم الحبيب إلى رفاعة منذ كان يتلقى العلم في باريس، فقد كان علما هاما وضروريا لتلاميذ المدارس الحربية، ولم يكن في متناول أيديهم حتى ذلك الحين كتاب واحد في هذا العلم باللغة العربية أو التركية، فأشار «سكويرابيك
Don Antonio de Seguera Bey » ناظر المدرسة بأن يعيد طبع كتاب «الكنز المختار في كشف الأراضي والبحار»، وهو كتاب جغرافي صغير سبق أن طبع في مالطة. غير أن رفاعة وجد أن عبارة الكتاب «مالطية وحشية»، فأعاد تصحيحها وتحريرها حتى خرجت الطبعة الثانية «بالنسبة للعبارة أظرف من طبعة مالطة وأجمل.» ومع هذا فإن رفاعة لم يقنع بأن يعتمد على مجهود غيره، وقد كان في عزمه منذ عاد من البعثة أن ينقل كتب الجغرافية التي قرأها إلى العربية، فبدأ بترجمة كتاب خاص أسماه: «التعريبات الشافية لمريد الجغرافية»، وهو - كما يتضح من مقدمته - أصول دروسه في هذا العلم، تخيرها من كتب فرنسية مختلفة، لا من كتاب واحد، وألقاها على تلاميذ مدرسة خاصة أنشئت فيما يبدو ملحقة بمدرسة طرة لتدريس علم الجغرافيا ولتخريج مدرسين مختصين في هذا العلم يتولون تدريسه في المدارس الحربية الأخرى. (3) في مدرسة التاريخ والجغرافيا
لم تشر المراجع التي كتبت عن تاريخ التعليم في عصر محمد علي إلى هذه المدرسة، ولكن بعض وثائق العصر أشارت إلى وجودها. وأيد هذا الوجود رفاعة نفسه في مقدمته للكتاب السابق الذكر، فقد صدر أمر من محمد علي باشا إلى ناظر الجهادية في 14 جمادى الآخرة سنة 1251ه (قبيل إنشاء مدرسة الألسن) بتعيين «عبده» «مدرسا للجغرافيا بمكتب البيادة بدمياط، وهو من ضمن الأربعة المتممين السابق إرسالهم لطرة للقيام بتدريس (يقصد تعلم) الجغرافيا بمدرستها، وهم من الذين رباهم الشيخ رفاعة؛ وإرسال 10 شبان للشيخ لتربيتهم ...»
وهذه كما يتضح من نص الأمر السابق لم تكن مدرسة بالمعنى الصحيح، ولكنها لم تعد أن تكون فصلا ملحقا بمدرسة المدفعية خصص لتعليم بعض الطلبة علم الجغرافية ليتخرجوا مدرسين لهذا العلم في المدارس الحربية الأخرى. غير أن رفاعة يسمي هذا الفصل مدرسة، ويذكر أنها أنشئت بموافقة «مشورة الجهادية» لتعليم الجغرافيا والتاريخ، فلا بأس إذن من أن نحاول شرح الأسباب التي أدت إلى فتح هذا الفصل، أو المدرسة؛ فإنها في نظري النواة التي نشأت عنها مدرسة الألسن بعد قليل.
لم يكن رفاعة على اتفاق مع «سكويرابك» ناظر مدرسة الطوبجية، فقد عرف هذا الرجل باعتداده الزائد بنفسه، وبحدة طبعه، وبعدائه للفرنسيين، وبالتالي للمثقفين ثقافة فرنسية، فهو إسباني الأصل، وكان قبل حضوره إلى مصر ضابطا برتبة «كولونل» في سلاح المدفعية في الجيش الإسباني، وإليه كما يقول الدكتور عزت عبد الكريم «يرجع الفضل في إنشاء المدفعية المصرية ومدرسة المدفعية بطرة.» غير أنه للأسباب السابق ذكرها كان يرفض أن يستمع لأوامر مختار بك مدير المدارس، كما كان يكره سليمان باشا الفرنساوي مفتش المدارس الحربية كرها شديدا ويطعن في معارفه العسكرية وخاصة في فن المدفعية. وقد أدت هذه السياسة وهذا الخلق إلى عزله في سنة 1836م/1251ه، ففي تلك السنة صدرت أوامر محمد علي بتكوين لجنة لتنظيم التعليم في مصر. ورأت اللجنة أن يكتب كل عضو فيها اقتراحاته، ثم يجتمع الأعضاء فينظرون في هذه المقترحات مجتمعين، ولكن «سكويرابك» رفض وحده هذا الرأي، قائلا إنه لا يخضع لرأي غيره، ولا يعمل إلا ما يراه هو صالحا، «فكان ذلك سبب عزله لاعتباره أجنبيا عن مصلحة الجناب العالي، وليس من العقل ائتمان الأجنبي المتجنب على المصالح، كما كان عزله سببا في طاعة بقية نظار المدارس، فانصرفوا ينفذون القرار ويدونون مقترحاتهم ...»
1
لم يكن من المنتظر إذن أن تحسن العلاقات بين رفاعة وبين هذا الناظر المتعجرف. وكان رفاعة قد شغف - منذ كان طالبا في باريس - بدراسة وترجمة علمي التاريخ والجغرافيا، ورسم لنفسه أن يقوم بترجمة الكتب فيهما بعد عودته. فقد قال في رحلته: «وإن شاء الله تعالى بأنفاس ولي النعم يصير التاريخ على اختلافه منقولا عن الفرنسية إلى لغتنا، وبالجملة فقد تكفلنا بترجمة علمي التاريخ والجغرافيا بمصر السعيدة بمشيئته تعالى وبهمة صاحب السعادة محب العلوم والفنون ...» فلعله رفع - وهو يدرس الجغرافية بمدرسة طرة - إلى محمد علي باشا أو إلى مشورة الجهادية اقتراحه بأن ينشئ مدرسة لتدريس هذين العلمين وترجمتهما، ولعل المشورة وافقت على إنشاء هذا الفصل كتجربة، فإذا تبين نجاحه أكملته وزادت في اختصاصه. يقول رفاعة في مقدمة «التعريبات الشافية» موضحا لهذه الفكرة وداعيا لها ومبينا الغرض من ترجمة هذا الكتاب وطريقة ترجمته: «لما سمحت مشورة الجهادية، ذات الآراء السنية الذكية، أن أفتح لفنون الجغرافيا والتاريخ مدرسة، تكون على قراءة هذه العلوم مؤسسة، لتشتهر ثمراتها الزاهرة، في إيالات أفندينا الفاخرة العامرة، فإن ذلك مما تدعو الحاجة إليه، ويتأكد العمل به والوقوف عليه، لا سيما لأرباب الدولة والسياسة المدنية، وأصحاب التدبير والإدارة الملكية، وأصول أهل المناصب وضباط الطوائف العسكرية، وكامل ذوي الصنايع والحرف والمهمات التجارية. فكل من تأمل فيها وعرف، رقي فيها إلى أعلى مراتب الفضل والشرف. على أن كثيرا منها ما تبنى عليه أحكام شرعية، وحكم وآداب عرفية، وقوانين بين سائر ملوك البرية. فهو لمثل هذا الغرض، يعد عند أرباب الصناعة من المفترض. أخذت عدة تلامذة لهذا المعنى الممدوح، وتوجهت بالقلب والقالب لتعليمهم بصدر مشروح. وليس بيدي من كتب الجغرافيا شيء باللغة العربية يحتوي على التفصيل والترتيب على نسق ما في الكتب الإفرنجية؛ فلهذا اعتمدت كتابا موجزا في هذا الفن النفيس، موضوعا لمدارس مبادئ العلوم بمدينة باريس، وشرعت في ترجمته درسا بعد درس لهذا القصد؛ حتى لا يضيع السعي ولا يخيب الجد. ولما رأيت أن مؤلفه أطنب في أوروبا لكونها وطنه، وأوجز في غيرها حيث لم تكن داره ولا سكنه، فبهذا الوصف لا يكون لنا كافيا، ولا لغليل المتطلعين إليه شافيا. وكنت اطلعت على غيره من كتب العلوم الجغرافية، ومارست كثيرا منها وراعيتها حق رعايتها مدة إقامتي بمملكة الفرنساوية، أردت أن أتمم المرام، بتلخيص ما يناسب المقام؛ حتى تحصل الموازاة والموازنة، والمعادلة والمقارنة.» إلى أن قال: «... وإن شاء الله يترجم من اللغة العربية إلى اللغة التركية، حتى تكون ثمرته عامة جلية ... إلخ.»
Unknown page
ولعل الأمر الصادر من محمد علي في 5 ذي الحجة سنة 1249ه «بطبع ألف نسخة من كتاب الجغرافيا المترجم عن الفرنسية للعربية بمعرفة الشيخ رفاعة.» خاص بذلك الكتاب؛ فقد تم طبعه في سنة 1250ه، وهو أول ما ترجم من الكتب الجغرافية. وقد أشير في نفس الأمر إلى طبع «ألف نسخة من الأطلس بعد إتمام ترجمته بمعرفة المذكور.» وذلك «لما في هذين الكتابين من المنفعة الكلية التي تعود على تلامذة المدارس.» غير أنني لم أعثر في فهارس الكتب العربية المطبوعة على أثر لهذا الأطلس، فلعله لم يتم ترجمة، أو لعله ترجم ولم يطبع.
انتهى رفاعة من ترجمة هذا الكتاب في الشهر الأخير من سنة 1249ه، ثم أسلمه للمطبعة في أوائل سنة 1250ه، فطبع. وكان قد قدم للمطبعة في هذه السنوات الثلاث التي مرت منذ عودته من فرنسا (1246-1249ه) كتابين مما ترجم وهو في باريس، وهما: (1)
كتاب المعادن النافعة، تأليف «فرارد»، وهو رسالة صغيرة في 47 صفحة من القطع المتوسط. ذكر رفاعة في خاتمته أنه ترجمه «بمشورة جناب مسيو جومار ناظر الأفندية بباريس، ومحب الديار المصرية وعزيزها ولي النعم.» وقد تم طبع هذا الكتاب في بولاق في شوال سنة 1248ه. (2)
قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر، وهو رسالة صغيرة أيضا تقع في 112 صفحة من القطع المتوسط. ذكر رفاعة كذلك أنه ترجمها إجابة لطلب المسيو جومار. فقد قال في مقدمته ص3: «قد اشتهر بين الخاص والعام أن طائفة الإفرنج قد امتازت الآن بين الطوائف بالتجارات، والمخالطة لسائر البلاد، بل لقد اتخذت معرفة البلاد وأحوالها سببا، وانتخبت بذلك نخبا، فاتسعت معارفها في الجغرافيا والميقات، ولا زالت في الزيادة في العلوم على سائر الأوقات، فلا سبيل حينئذ في معرفة أحوال البلدان والخلائق إلا بنقلها عمن حققها من الإفرنج. ولا شك أن من أعلم الإفرنج وأحكمهم طائفة الإفرنسيس؛ فإنها الآن بلاد الفنون والصنائع من غير شك وتلبيس. ولما كان للفقير معرفة هذه اللغة، وفيه ملكة مطالعة عظيم كتبها وتمييز الغث من السمين، طلب مني الخواجة «جومار» مدير تعليم الأفندية المصريين المبعوثين من طرف حضرة ولي النعمة إلى باريس، كرسي الفرنسيس، أن أترجم إلى العربية كتابا لطيفا يسمى بما معناه: ديوان قلائد المفاخر ... إلخ، فأجبته لذلك، علما بأنه نصوح في محبة أفندينا ولي النعم، ومحب لبلاد مصر كأنها وطنه. ولما كان هذا الكتاب غير مقصور على مجرد نقل العوائد، بل هو مشتمل على استحسان واستقباح بعضها، أشار علي مدير التعليم المذكور أن أحذف ما يذكره مؤلف الكتاب من الحط والتشنيع على بعض العوائد الإسلامية أو مما لا ثمرة لذكره في هذا الكتاب ... إلخ.»
وقد ذكر رفاعة في خاتمة الكتاب أنه أتم ترجمته في يوم الاثنين من العشر الأوائل من جمادى الآخرة سنة 1254ه، أي وهو في باريس ، وأنه تم طبعا في بولاق في غرة شعبان سنة 1249ه.
ولم يذكر رفاعة في المقدمة أو الخاتمة اسم مؤلف الكتاب. وقد رجح المستشرق الفرنسي «بيانكي
Bianchi » - في مقاله عن الكتب التي طبعت في مطبعة بولاق الذي نشره في مجلة الجمعية الآسيوية سنة 1843ه - أنه من تأليف
Depping ، فقد قال عند ذكر هذا الكتاب:
Ceci est, Je pense, l’ouvrage de Depping, intitulé: “Moeurs et usage des nations” .
وقد أكد رفاعة نفسه هذا الترجيح؛ فقد أورد في رحلته ترجمة رسالة وصلته - قبيل عودته إلى مصر - من المستشرق الفرنسي مسيو «رينو
Unknown page
Reinaud »، جاء فيها: «... قد حملني مسيو «دبنغ» أن أسأل عن ترجمتك لكتاب العلوم الصغير المشتمل على أخلاق الأمم وعوائدهم وآدابهم؛ لأن مسيو «دبنغ» مؤلف هذا الكتاب. فإذا كانت ترجمتك تنطبع في مصر، هل يتيسر لمؤلف الأصل أن يقيد اسمه لتحصيل عدة نسخ من هذا الكتاب بالشراء؟»
وهكذا كان رفاعة بعد عودته، كما كان قبل عودته، دائم العمل، دائب النشاط. فقد استطاع في السنوات الثلاث التي تلت عودته أن يراجع كتبا مترجمة في الطب والجغرافية. وقدم للمطبعة كتابين مما ترجم في باريس: أحدهما في علم المعادن، والثاني في علم الاجتماع، وترجم كتابين جديدين طبعا أيضا في بولاق: أولهما في الهندسة، وثانيهما في الجغرافية. واستطاع بعد هذا كله أن يوفق لفتح مدرسة صغيرة تولى وحده فيها تدريس علمي التاريخ والجغرافيا ...» (4) التمهيد لإنشاء مدرسة الألسن
وفي أوائل سنة 1250ه ظهر في مصر مرض الطاعون، وانتشر في القاهرة وكثير من البلدان الأخرى، فطلب رفاعة إجازة وسافر إلى بلده طهطا، ولبث هناك نحو ستة أشهر زار خلالها الأهل والأقارب، ولكنه لم ينعم في خلالها بالراحة، بل حمل معه الجزء الأول من جغرافية «ملطبرون
Malte Brun »، وكان قد بدأ فترجم منه صفحات وهو في باريس، فأكمل ترجمة الجزء الأول كله. يقول في المقدمة: «وكان ذلك في نحو سبعة أشهر مع تراكم غيره من الأشغال علي من ترجمة هندسة أو طبع ما كان وقت تعريبه بين يدي.» ويتضح من مقدمة هذا الجزء أن رفاعة عرض على محمد علي رغبته في ترجمة هذا الكتاب، فطلب منه الباشا أن يترجم هذا الجزء في مدة لا تزيد على هذه الشهور السبعة؛ ولهذا بذل رفاعة الجهد كل الجهد ليفي بوعده، وقد فعل، وذلك: «قصدا لكسب رضاء ولي النعم الأكرم، الذي أمر بترجمته في نحو هذا الزمن وحتم ...» وقد عاونه في تبييض الكتاب وتحريره أثناء الترجمة الشيخ محمد هدهد الطنتدائي «فقام بواجبات هذه الوظيفة وزيادة من غير ارتياب، وربما تصرف بعد مشاورتي في بعض عبارات، وأشار علي بتغيير ما يظن أنه يعسر فهمه على من لم يسبق له في هذا الفن علمه، فأجبته حيث قام عندي على صحة ذلك أمارات ... إلخ»
تقدم رفاعة بهذا الجزء من الجغرافيا العمومية إلى محمد علي، فحاز الكتاب القبول، وحاز رفاعة الرضاء؛ فقد كان محمد علي معنيا - منذ بدأت حرب الشام الأولى - بالكتب والمصورات الجغرافية، يريد أن يعرف - وهو يبني ملكه الجديد - أين هو من الشرق القديم المنحل وأين هو من الغرب الجديد الناهض. وفي الوثائق المعاصرة شواهد كثيرة على هذه العناية؛ فقد كتب سامي بك إلى الديوان الخديوي في 12 جمادى الأولى سنة 1248ه يخبره «برغبة الجناب العالي في الاطلاع على خرائط الشام والأناضول، وبوجوب استدعاء أرتين أفندي للتفتيش عن هذه الخرائط في خزينة الأمتعة أو في خزينة القصر العيني أو في أي محل آخر ...»
وبعد عشرة أيام من هذا الخطاب (22 جمادى الأولى) صدر أمر من محمد علي إلى حبيب أفندي أشار فيه إلى أنه سبق أن طلب منه «خرائط رسم عن بر الشام والأناضول»، وأنه «علم مما ورد منه عدم وجود ذلك.» وأشار في هذا الأمر إلى أنه «متذكر وجود أطلس فلمنك، وآخر فرنساوي به رسم جميع الكرة الأرضية؛ فيجري البحث عن هذين الكتابين بخزينة الأمتعة أو بمحل وجودها وإرسالها لطرفه متى وجدت ...»
وفي 18 ذي القعدة سنة 1248ه كتب إبراهيم باشا إلى سامي بك يأمره «بوجوب ترجمة الجغرافيتين البرية والبحرية بمعرفة إستيفان أفندي وأرتين أفندي، وبوجوب حفر الخرائط اللازمة بمعرفة الشيخ أحمد العطار الذي عاد من باريز.» وفي 5 من ذي الحجة سنة 1249ه صدر أمر من محمد علي إلى وكيل الجهادية بطبع ألف نسخة من كتاب التعريبات الجغرافية «وكذلك ألف نسخة من الأطلس بعد إتمام ترجمته بمعرفة المذكور لما في هذين الكتابين من المنفعة الكلية ...»
وفي غرة ذي القعدة سنة 1250ه أرسلت إلى باغوص بك إفادة سنية «تقتضي تقديم خريطة نهر الفرات ونواحيه إلى المقر العالي.» ... إلخ ... إلخ.
كانت الفرصة سانحة إذن - ومحمد علي معني هذه العناية بالدراسات والرسوم الجغرافية - أن يتقدم إليه رفاعة باقتراحه الجديد لتحقيق أمنيته القديمة. كان ذلك الاقتراح يتلخص في أن يؤذن لرفاعة بافتتاح مدرسة للترجمة تعلم فيها الألسن الشرقية والغربية، وبعض المواد المساعدة كالتاريخ والجغرافية والرياضة، ليقوم خريجوها بترجمة الكتب في العلوم المختلفة.
ووافق محمد علي. وأنشئت المدرسة في أوائل سنة 1250ه. وفي الفصل التالي تفصيل الحديث عنها وعن قلم الترجمة الذي أنشئ ملحقا لها في سنة 1258ه/1841م.
Unknown page
مدرسة الألسن
(1) الخطوات التمهيدية (1-1) مدرسة الإدارة الملكية
كان محمد علي في حاجة إلى عدد كبير من الموظفين المثقفين ثقافة جديدة لمساعدته في إدارة ما أنشأت حكومته من «دواوين» ومصالح وأقلام؛ ولذلك بادر فحاول المحاولة الأولى، فأنشأ في جمادى الأولى سنة 1250ه/1834م مدرسة الإدارة الملكية، واختير لها ثلاثون تلميذا من تلاميذ الدرسخانة الملكية، وعين للتدريس بها أرتين شكري أفندي وإسطفان رسمي أفندي عضوا البعثة إلى فرنسا اللذان تخصصا في دراسة الإدارة الملكية.
وكان على هؤلاء التلاميذ أن يدرسوا في الدرسخانة الملكية من الصباح إلى الظهر، ثم يتوفرون من الظهر إلى ما قبل غروب الشمس على دراسة المواد الإعدادية لدراسة الأمور الملكية. وأهمها اللغة الفرنسية والمحاسبة ومبادئ الهندسة والجغرافية.
وكان على هذين المدرسين - إلى جانب قيامهما بالتدريس - أن يبذلا جهودا أخرى في الترجمة في هذا الفن - فن الإدارة الملكية - فنصت لائحة المدرسة على: (1)
أن يعهد إليهما في الصباح بترجمة ما يحال إليهما ترجمته. (2)
أن يقوما بترجمة دروس في الإدارة المدنية وإعدادها.
كذلك نصت اللائحة على أن تدرس مادة الترجمة دراسة عملية لتلاميذ المدرسة، فإنه «لما كان من أغراض المدرسة تخريج مترجمين وموظفين لفروع الإدارة المصرية، فقد أشارت اللائحة بأن يقدم للتلاميذ بعد تقدمهم في اللغة الفرنسية كتب في التاريخ سهلة، وتترجم لهم درسا درسا، حتى إذا تمت ترجمة الكتاب وإصلاحه قامت المطبعة على طبعه. وإنه لأجل حصول ائتلاف التلامذة بالمصالح المصرية تقدم للمدرسة نسختان من الوقائع المصرية، وتترجم لتلاميذها المواد المشتملة على عمارية الملك بجرنالات أوروبا.»
1
غير أن هذه المدرسة لم تعمر طويلا، فقد ألغيت بعد قليل، ونقل تلاميذها إلى مدرسة الألسن في آخر سنة 1251ه/1836م. (1-2) مدرسة التاريخ والجغرافيا
Unknown page
أنشئت في حدود سنة 1250ه، وألحقت بمدرسة المدفعية. وكان ناظرها ومدرسها الوحيد هو رفاعة رافع الطهطاوي. وكان القصد من إنشائها تخريج مدرسين للجغرافيا في المدارس الحربية المختلفة. وقد ألغيت هذه المدرسة عند إنشاء مدرسة الألسن. وقد فصلنا الكلام عنها في الفصل السابق.
وبهذا كانت هاتان المدرستان الخطوتين التمهيديتين لإنشاء مدرسة الألسن. (1-3) مدرسة الألسن
أنشئت في أوائل سنة 1251ه/1835م باسم مدرسة الترجمة، ثم غير اسمها فأصبح مدرسة الألسن، وجعل مقرها السراي المعروفة ببيت الدفتردار بحي الأزبكية حيث فندق شبرد الآن.
وقد أنشئت هذه المدرسة تحقيقا لاقتراح تقدم به رفاعة لمحمد علي باشا. يقول علي مبارك: «ثم عرض (أي رفاعة) للجناب العالي أن في إمكانه أن يؤسس مدرسة ألسن يمكن أن ينتفع بها الوطن ويستغني عن الدخيل، فأجابه إلى ذلك، ووجه به إلى مكاتب الأقاليم لينتخب منها من التلامذة ما يتم به المشروع، فأسس المدرسة.»
وكان تلاميذ المدرسة في أول عهدها ثمانين تلميذا. اختار رفاعة معظمهم من مكاتب الأقاليم، وضم إليهم تلاميذ مدرسة الإدارة الملكية بعد إلغائها، ولكن هذا العدد زاد بعد ذلك حتى أصبح مائة وخمسين. وكانوا ينقسمون إلى قسمين ويرأس كل قسم أستاذه ويساعده بعض التلاميذ المتقدمين.
وكانت مدة الدراسة بالمدرسة 5 سنوات قد تزداد إلى ست ، كما أنه كان «لشورى المدرسة الداخلي - أي مجلس إدارتها - الحق في تعديل منهاج الدراسة بها. وكان هذا المنهاج ينص على أن تدرس بها اللغات العربية والتركية والفرنسية، والحساب، والجغرافيا، ثم أضيفت بعد ذلك دراسة التاريخ، وأرسلت المدرسة إلى أوروبا لشراء كتب فرنسية في الأدب والقصص والتاريخ.»
وفي سنة 1255ه/1839م اكتملت المدرسة، وأصبح بها 5 فرق ، وخرجت أول فريق من تلامذتها. وكان تلاميذ الفرقة الأولى (أي الأخيرة) «يترجمون كتبا في التاريخ والأدب، ويقوم على إصلاحها أستاذهم ومدير مدرستهم رفاعة رافع، ثم تقدم إلى المطبعة فتطبع وتنشر كتبا يقرؤها المدرسون والتلاميذ ...»
غير أن العناية بتدريس اللغات في مدرسة الألسن لم تكن في درجة واحدة؛ فقد كانت العناية كبيرة بتدريس اللغتين العربية والفرنسية؛ وذلك لأسباب واضحة، منها: أن كل التلاميذ كانوا من المصريين الذين يعرفون العربية ولا يعرفون التركية. ومنها أن ناظر المدرسة وأستاذها رفاعة كان يتقن هاتين اللغتين.
ومع هذا فقد درست اللغة الإنجليزية وقتا ما بمدرسة الألسن كما يقرر الدكتور عزت عبد الكريم، وقام على تدريسها مدرس إنجليزي، وقرأ التلاميذ قصصا وكتبا في قواعد اللغة الإنجليزية. وقد ذكر السيد صالح مجدي في كتابه «حلية الزمن» - عند كلامه عن تلاميذ رفاعة - أن من بين من نبغ في اللغة الإنجليزية من خريجي الألسن «محمد أفندي سليمان مدرس اللغة الإنجليزية بالمدارس الحربية، وأول من برع في الترجمة من الإنجليزية.» أما اللغة التركية فكانت العناية بها ضعيفة للأسباب السابقة، ولأنه «كان من الصعوبة بمكان أن تجد الحكومة مترجما يحذق اللغات العربية والتركية والفرنسية جميعا.»
2
Unknown page
مدرسو المدرسة
ذكر في لائحة المدرسة أن هيئة التدريس بها تتكون من: (1)
مديرها. (2)
مراقبان للمدرسة. (3)
أستاذان للغة العربية. (4)
أستاذ للغة التركية. (5)
ثلاثة أساتذة لتدريس اللغة الفرنسية والرياضة والتاريخ والجغرافيا. أما مدير المدرسة فهو زعيم النهضة العلمية في عصر محمد علي، العالم الكبير رفاعة رافع الطهطاوي، وقد كان من واجباته: (1)
أن يشرف على المدرسة من الناحيتين الفنية والإدارية. (2)
أن يدرس للتلاميذ الأدب والشرائع الإسلامية والغربية. (3)
أن يختار الكتب التي يرى ضرورة ترجمتها ، ويوزعها على المترجمين من تلاميذ المدرسة وخريجيها الملتحقين بقلم الترجمة، ويشرف على توجيههم أثناء قيامهم بالترجمة، ويقوم بمراجعة الكتب وتهذيبها بعد ترجمتها. يقول حسن قاسم أحد خريجي الألسن في مقدمة كتاب «تاريخ ملوك فرنسا»: «ولما تم هذا التعريب لحظه بنظر التصحيح والتهذيب حضرة رفاعة بك ناظر مدرسة الألسن وقلم الترجمة، فشيد مبنى ألفاظه وأحكامه.» (4)
Unknown page
وكان رفاعة يرأس كل عام لجنة امتحان تلاميذ مكاتب المبتديان بالأقاليم، فيسافر إليها في النيل، ويمتحن تلاميذها، ويصطحب المتفوقين منهم ليلحقهم بالمدرسة التجهيزية الملحقة بمدرسة الألسن.
وكان إخلاص رفاعة لمهنته يدفعه إلى عدم التقيد بأوقات محددة للدراسة، فكان يستمر في الدرس ثلاث أو أربع ساعات ما دام يجد في نفسه رغبة وفي تلاميذه قبولا. يقول علي مبارك باشا: «كان دأبه في مدرسة الألسن، وفيما اختاره للتلاميذ من الكتب التي أراد ترجمتها منهم، وفي تأليفاته وتراجمه خصوصا، أنه لا يقف في ذلك اليوم أو الليلة على وقت محدود، فكان ربما عقد الدرس للتلامذة بعد العشاء أو عند ثلث الليل الأخير، ومكث نحو ثلاث أو أربع ساعات على قدميه في درس اللغة أو فنون الإدارة أو الشرائع الإسلامية والقوانين الأجنبية، وله في الأولى مجاميع لم تطبع. وكذلك كان دأبه معهم في تدريس كتب فنون الأدب العالية، بحيث أمسى جميعهم في الإنشاءات نظما ونثرا أطروفة مصرهم، وتحفة عصرهم. ومع ذلك كان هو بشخصه لا يفتر عن الاشتغال بالترجمة والتأليف. وكانت مجامع الامتحانات لا تزهو إلا به.»
وقد أرهقت هذه الأعمال الكثيرة رفاعة فعين له ديوان المدارس مدرسا فرنسيا ليقوم بمساعدته في إدارة المدرسة والتفتيش على الدروس وأمانة المكتبة.
أما مدرسو اللغة العربية فكانوا نخبة من مشايخ الأزهر الممتازين في معرفتهم وحبهم للقراءة والبحث والتنقيب. ذكر منهم علي مبارك: (1)
الشيخ الدمنهوري. (2)
الشيخ علي الفرغلي الأنصاري (ابن خال رفاعة). (3)
الشيخ حسنين حريز الغمراوي. (4)
الشيخ محمد قطة العدوي. (5)
الشيخ أحمد عبد الرحيم الطهطاوي. (6)
الشيخ عبد المنعم الجرجاوي. (7)
Unknown page