260

ولكل منا حقوق أدبية نفسية ليس فوقها غير سنة الله السائدة في الأكوان والأشياء لا نخضع فيها لسواها، لسنة الله التي تنير في الإنسان الضمير كما تنير في السماء الكواكب والنجوم، لسنة الله التي تقرن نور الشمس بنور اليراعة، وقوس القزح بألوان الطاووس، وزئير الأسد بصوت النبي، وتغريد البلابل بقوافي الشعراء، فحقوقنا الأدبية النفسية التي لا نخضع فيها لغير سنة الله إنما هي برهاننا على وجود الله ولا حق أثبت منها وأعلى. قد ألقى في السجن فأحرم حقوقي المدنية، وقد أحرم قوتي وأسام العذاب فتمتهن حقوقي الطبيعية، ولكن السجن والجوع والعذاب لا تذهب بذرة من حقوقي الأدبية الروحية.

إنك إذا استطعت حبس نور الشمس، أو إيقاف ريح السموم، أو تقييد أمواج البحار؛ لتستطيع سلب حق من حقوق أخيك النفسية، ولكنها قد تغفل فيها فتفسد فتضعف فتموت، وكذلك حقوقه المادية كلها. ولا حاجة لأن أضرب لكم الأمثال إيضاحا، فحرية الحركة مثلا من حقوقي الطبيعية، وحرية التابعية من حقوقي السياسية، وحرية الفكر والضمير من حقوقي النفسية، وسياج هاته الحقوق كلها الأخلاق، بل الأخلاق الطيبة السليمة المجيدة السامية. فإذا فسدت الأخلاق في أمة نامت تلك الأمة عن حقوقها، وإذا نامت عن حقوقها استبد حاكمها، وإذا استبد حاكمها ساء حالها، وإذا ساء حالها خربت ديارها، وإذا خربت ديارها حق لأمة ياقظة ناشطة راقية أن تتولاها فتعمرها.

ملك أساس الجهل والسفه، وقوامه الاستبداد والجور، ومظاهره الفقر والبؤس والقذارة، له يوم من الدهر فيزول، أمة لا تسمع فيها غير التأوه والأنين، والصراخ والشكوى، لها يوم من الشقاء فيزول، ثم يبعث الله من يحل قيودها، ويمسح دمعها، وينعش بالعدل نفسها، وبالعلم يجدد قواها. كانت أيام تباد فيها الأمم، يبيدها الجهل أو الوباء أو المجاعة أو الظلم أو الحرب، وأما اليوم فالأمم تجدد شبابها؛ لأن المعارف والعلوم غير منحصرة في فئة صغيرة من الناس، والأوبئة التي تساعد في إفشائها الأضاليل كعقيدة القضاء والقدر وغيرها يكاد العلم يستأصلها.

وعاطفة في الأمم الراقية شريفة تمدها أموال كثرت في البلاد المتمدنة لا تمكن المجاعات من البشر، والحكومات الاستبدادية لم تعد تطاق، والحروب شبه حروب أتلأ وجنكيز خان أمست في خبر كان. فلا خوف على الأمم اليوم إذا إلا منها وفيها، الخطر على حياتها في قلبها، في نفسها، في حكومتها، في الخاسئ الجامد من علومها ومذاهبها وتقاليدها، في فساد أخلاقها وأحكامها وشرائعها.

وجدت الشرع تخلقه الليالي

كما خلق الرداء الشرعبي

فالاخلاق السليمة السامية المجيدة إنما هي سياج حقوقنا كلها بل هي من أهم أركان الترقي والعمران. إنها لنور العدل في الملك، ونور الإيمان في الدين، ونور الصدق في العلوم، ونور الحياة الحقة في الأمة. ولنا أن نسأل: ما هو مصدر هاته الأنوار المعنوية وما هي خاصتها وغايتها، وبكلمة أوضح: ما هي الأخلاق؟ وما هي أصولها وأسباب رقيها؟ وما هي عوامل الفساد فيها؟ وكيف تصلح إذا فسدت في الأمة؟ سأجيب مختصرا عن كل من هذه المسائل ثم أقابل بين ما تسامى من أخلاقنا ومن أخلاق الغربيين؛ لعلنا نهتدي إلى الأسمى فنتخلق بها.

1

الخلق غير الطبع والمزاج، الخلق إطلاقا ما يظهر من الفكر والنفس، والمزاج ما يظهر من الشعور. وفي القاموس الخلق الطبع والسجية والمروءة والعادة والدين، فجاء في التحديد بين الطبع والدين ما قد يكون من أهم مظاهر الأخلاق وأصولها، ففي الطباع والسجايا شيء من الوراثة التي ليست من بحثي الليلة، وأما المروءة مثلا فخلق في الناس، المروءة مظهر من مظاهر النفس بل صفحة راسخة من صفاتها لا يحتاج صاحبها إلى اجتهاد أو تكلف في إظهارها.

وكذلك الشجاعة والكرم والحلم، وكذلك الجبن والبخل والغضب. هذه أخلاق قد تكون خاصيتها معنوية ومادية معا، قد تكون في كريات الدم وفي الجهاز العصبي وقد تتصل أسبابها بنجوم السماء. إن مزايا النفس السامية التي لا يأتي عليها كيل ولا قياس ليراها الناس فيقدرونها إنما هي مادية روحية، ومصدر المادة فيها لم يزل غامضا نوعا كمصدر الروح.

Unknown page