ظل الحب
استيقظت في الضحى، وكان الجو حارا، والشمس ترسل أشعتها المتوهجة، فتبث في الدنيا نورا ونارا، وكان قميصها الرقيق يلتصق بجسدها اللدن، وشعرها مبعثرا، منه خصلات نائمة على صدرها، وخصلات ملقاة على الوسادة.
طوبى ليقظة تهيج في القلب أجمل الذكريات .. كان قلبها مرتعا للغبطة، والجو من حولها معطرا بأريج الأزهار، والدنيا تبسم عن السعادة والأفراح، فأحست لتجدد مشاعرها كأنما تكشف عالما جديدا جميلا، أو كأنها تبعث خلقا جديدا.
ومالت في نومتها إلى جانبها، ولاحت منها نظرة إلى الوسادة، فرأت آثار رأسه عليها واضحة، فاستل من عينيها منتهى العطف والحنان، وأدنت رأسها منه ولثمته، وقد تمتمت بفرح: ما أجمل كل شيء! .. وما أسعدني بكل شيء!
ثم جلست في فراشها هنيهة وغادرته - كما كانت تغادره كل صباح - نشطة مرحة كملحة بارعة في نفس عامرة بالفكاهة، واستحمت بالماء البارد، وتعطرت بماء الزهر، وارتدت ثيابها المبخرة ثم عادت إلى مائدة الطعام، وتناولت إفطارها المكون من بيض وفطير، وشربت كوبا من اللبن الحليب، وكأسا من الجعة.
واستقلت سفينتها إلى آبو، وقصدت إلى معبد الرب سوتيس، وولجت بابه العظيم بقلب خاشع، ونفس مفعمة بالرجاء والأمل، وطافت بأرجائه، وتبركت بجدرانه وعمده ذات النقوش المقدسة، وأودعت صندوق النذور ما جادت به يداها، وزارت حجرة الكاهنة الكبرى، وسألتها أن تغسلها بالزيت المقدس لتطهرها من شوائب الحياة وأحزانها، وترحض قلبها من الغي والعمى. وقد أحست وهي بين يدي الكاهنات المطهرات، أنها تودع، بلا رحمة، قبر الفناء؛ جسد رادوبيس الغانية اللعوب، التي كانت تعبث بالرجال وتهلك النفوس، وترقص على أشلاء الضحايا، وذوب القلوب، وأن دما جديدا يجري في عروقها، فينبض في قلبها وحواسها الطمأنينة، والسعادة، والطهر، ثم صلت صلاة حارة، جاثية على ركبتيها مغرورقة العينين، وضرعت في الختام إلى الرب أن يبارك حبها وحياتها الجديدة. وعادت إلى قصرها من فرط سعادتها كأنها طائر يرف بجناحيه في سماء صافية، واستقبلتها شيث فرحة متهللة، تكاد تطير من الفرح، وقالت: مبارك هذا اليوم السعيد يا مولاتي. ألا تعلمين من أتى قصرك في غيبتك؟
فخفق قلبها باضطراب فرح، وصاحت: من؟
فقالت الجارية: أتى رجال من أمهر الصناع بمصر مبعوثين من قبل فرعون، فشاهدوا الحجرات والأرواق والردهات، وقاسوا ارتفاع النوافذ والجدران تمهيدا لصنع أثاث جديد. - حقا؟ - نعم يا مولاتي، وسيغدو هذا القصر عما قليل أعجوبة الزمان، فيا لها من صفقة رابحة! ..
وتحيرت رادوبيس فيما تعنيه المرأة، ثم خطر لها خاطر، فقطبت جبينها وسألتها: أي صفقة تعنين يا شيث؟
فغمزت المرأة بعينيها، وقالت: صفقة الغرام الجديد، وحق الأرباب إن مولاي ليزن أمة من الأغنياء، ولن آسف بعد اليوم على ضياع تجار منف وقواد الجنوب.
Unknown page