كانت كالمخمورة، ولكن ساورها القلق، فسألته: أيريدني مولاي على أن أنتقل إلى حريمه؟
فهز رأسه قائلا: ستنزلين بأعز مكان به.
فخفضت عينيها ووجمت، ولم تدر ما تقول فأنكر سكوتها، ووضع أنامل يمناه تحت ذقنها الصغير، ورفع وجهها إليه وسألها: ما لك؟
فسألته بعد تردد : أأمر هو يا مولاي؟
فانقبض صدره لذكر الأمر، وقال: أمر؟ .. كلا يا رادوبيس، إن لغة الأمر لا تجدي مع الحب، وإني ما تمنيت قبل اليوم لو أجرد من شخصيتي! .. وأعود واحدا من البشر يشق طريقه بلا عون، ويلقى حظه بغير محاباة، انسي فرعون مليا، وأخبريني ألا ترغبين في اللحاق بي؟
وخشيت أن يسيء فهم وجومها وترددها، فقالت بلهجة صادقة: أرغب فيك يا مولاي رغبتي في الحياة، بل الحقيقة أجمل من هذا. الحقيقة أني لم أحب الحياة حبا صادقا إلا منذ أحببتك، وأن قيمتها في نظري أنها تشعرني بحبك، وتسعد حواسي بوجودك، أليس للمحبين غريزة تصدقهم القول؟ .. سلها عن قلب رادوبيس يا مولاي تعد على أذنيك ما جرى على لساني، ولكني أتساءل حيرى: لماذا أهجر هذا القصر، ولماذا أغلق أبوابه إلى الأبد؟ .. إنه أنا بالذات يا مولاي، فينبغي أن تحبه كما تحبني. لا يوجد فيه موضع يخلو من أثر لي، إما صورتي أو اسمي أو تمثال لي. كيف لي بهجره وقد هبط فيه النسر الذي طار إليك برسالة الحب الخالدة؟ .. كيف لي بهجره وقد خفق قلبي فيه بالحب لأول مرة؟ .. كيف لي بهجره يا مولاي وقد زرتني فيه بذاتك العالية؟ .. حري بأي مكان تطؤه قدماك أن يصير - كقلبي - لك وحدك، ولا يغلق أبوابه أبدا.
كان يصغي إليه بحواسه المرهفة، وقلبه المشبوب الجامح، فتؤمن نفسه بكل كلمة من كلماتها. ثم لمس بحنو جدائل شعرها الفاحم، واحتواها بين ذراعيه، وطبع على شفتيها قبلة رطبت شفتيه برحيق عذب، وقال لها: رادوبيس .. أيتها الحب الممتزج بروحي .. لن يغلق هذا القصر أبوابه ولن تظلم حجراته، سيبقى ما بقينا مهدا للحب، وجنة للهوى، وحديقة ناضرة تغرس فيها بذور الذكريات، سأجعل منه محرابا للحب، وأصير أرضه وجدرانه ذهبا مصفى.
فأشرق وجهها بابتسامة سعيدة، وقالت تناجيه: لتكن مشيئتك يا مولاي، وإني أقسم بحبي لأذهبن الغداة إلى معبد الرب سوتيس، وأغسل جسدي بالزيت المقدس، لأرحض نفسي من الماضي الشقي، وأعود إلى المحراب بقلب طاهر جديد، بزهرة تشق الأكمام وتتصدى لشعاع الشمس.
فوضع يدها على قلبه، ونظر إلى عينيها وقال: رادوبيس أنا اليوم سعيد، وأشهد الدنيا والآلهة على سعادتي، حياتي وحسبي بها من حياة .. انظري إلي؛ فسواد عينيك أشهى لقلبي من نور الدنيا.
في تلك الليلة نامت جزيرة بيجة، وسهر الحب بقصرها الأبيض، حتى انحسر في ظلمة الليل الحالكة عن زرقة الفجر الحالمة.
Unknown page