إننا لا نقرأ التاريخ، بل فقدنا الذاكرة التاريخية، بل والحس الوطني والقومي ، وبقي المأثور وحده يرفع يده بعلامة النصر فوق رءوسنا! فلم نر المتغيرات؛ لأن الثبات هو المبدأ، والمبدأ هو الثبات، الحركة تخيفنا، والتغيير يرعبنا، والسؤال يبهتنا، والجديد بدعة، وكل بدعة ضلالة، إذن فليحيا الثبات على المبدأ، وليكن الإسرائيليون هم بناة حضارتنا القديمة جميعا كما يزعمون، أقصد كما نزعم نحن، ما دمنا نؤمن بعفاريت التراث، ونحمل على أكتافنا تراث العفاريت! وإذا كان جن سليمان قد قاموا بكل تلك الإنجازات، فهل يهون عليهم شفاء مرضى هذا الزمان؟ ثم نتساءل لماذا تنتشر كتب العفاريت على أرصفة الشوارع وفي المكتبات؟
ويبدو أن صديقنا أراد تأكيد ما سمعه عن الإنجازات الجنية للعفاريت السليمانية، فأورد ما جاء في كتاب «روبرت وود» - وللحقيقة أنا لا أعلم من هذا الوود - حيث قال: «إنه قد جاء في التوراة ما يفيد أن سيدنا سليمان هو الذي بنى تدمر، وأطلق عليها اسم بالميرا.» هذا رغم الفارق الزمني الكبير بين زمن زنوبيا وزمن سليمان.
بهذا المنطق يجب علينا أن نؤمن إيمان العجائز بفضل الإسرائيليين الذين فضلهم الله على العالمين، وأن نؤمن بهم كتاريخ لنا، وهو الحادث وفق تلك المنظومة المأسورة (آسف أقصد المأثورة)، بحيث تربعوا داخلنا منذ سنين طويلة مضت، منذ حفظنا قصص إسرائيل، وبني إسرائيل المؤمنين، وقصص الكافرين من أجدادنا الفراعين، لننقلب نحن على تاريخنا الحقيقي، ثم نتحدث اليوم بوجل عن الغزو الثقافي الإسرائيلي؟ ألا يستحق الأمر أن نقول: عجبي!
تاريخ العجول
ويقول الأستاذ السعدني: إنه قد رافقه في رحلته إلى تدمر، السيد «خالد الأسعد»، الذي وصفه بأنه «حجة في الآثار التدمرية»، وأن هذا الحجة قد أفاد صديقنا علما نافعا بقوله: إن المعبد هناك كان لعبادة إله باسم «بل»، وكان من الأوفق لو قال له اسمه بالعربية أو الحقيقي بالسامية القديمة، فاسمه العربي هو «بعل»، لكن المرافق الحجة قرأه في كتب الإفرنج، ومعلوم عدم احتواء الأحرف اللاتينية على حرف العين، مما أسقطها من لسان رجل الآثار، ومعلوم أن «بعل» كان إله المطر والخصب والصواعق، ولم يزل الفلاح المصري يطلق على النبات الذي سقته السماء بمطرها لقب «البعلي»، وهو ذات الإله الذي انتقلت عبادته إلى جزيرة العرب، على يد «عمرو بن لحي الخزاعي» فيما تزعم كتب السيرة ليعرف هناك باسم «هبل» بعد إضافة «ه» أداة التعريف في العربية الشمالية القديمة، ومع إضافة الهاء سقط حرف العين بقوانين اللسانيات نتيجة وجود الهاء المفخمة، فنطق «هبل» بدلا من «هبعل».
أما ما جاء بالموضوع عن عبادة إلهين آخرين في تدمر هما «يرحبول» و«عجلبول»، وتفسير الأستاذ السعدني بأنهما إلها الشمس والقمر، فهو ما يحتاج إلى تقويم، فكلا الإلهين بعلي، فالمذكور باسم «يرحبول» مركب من ملصقين هما «يرح» و«بعل»، وكان القمر يسمى «يرح وأرح»، ومنه أخذ اسم «أريحا»، أي القمرية، كما كان ينطق «يرخ وأرخ»، ومنه أخذت كلمة «التاريخ» باعتبار القمر رمزا لدورات الزمان، وبعل المرأة ربها وسيدها، وعليه فمعنى «يرحبول» هو السيد أو الإله القمر، وعليه يقاس أيضا «عجلبول»، فهو الإله العجل، ولا عجب، فقد قدس الأقدمون العجل أو الثور، حتى لقب الملوك أنفسهم بلقب «ثور» تشبها بالآلهة القوية، الآلهة الثيران، وقد قرن الثور أو العجل بعبادة القمر، بالمقارنة بين شكل الهلال وشكل قرني الثور، وما بينهما من تشابه، فكان الهلال هو ثور السماء الإلهي، ومن ثم فإن «يرحبول» إنما يرمز للقمر عندما يكون بدرا، أما عجلبول فيرمز للقمر عندما يكون هلالا، لقد كانت عبادة قمرية، ذات دلالة عروبية. ولم تزل للهلال قدسيته؛ فالشهور قمرية، والتاريخ قمري، والصيام قمري، والزمن العربي كله قمري، كله يرحبول، كله عجلبول، بمنهج الثبات على المبدأ.
حكاية المنهج
ما الذي دفعني وأنا على سرير المرض إلى كتابة ما كتبت الآن؟ لقد بدأ الأمر بمشاكسة صديق من باب المداعبة التي لا تفسد قضية الود، لكن يبدو أن موضوعه قد نكأ الجراح واستدعى استنفارا داخليا إزاء كل النماذج التي تملأ أرفف المكتبة العربية، وأرفف العقل العربي، وبالطبع صحفنا الغراء، تكرر وتردد بثبات ويقين، تزيد وتضيف من ذات الرصيد إلى ذات الرصيد، ولا تضيف إلا مزيدا من المعلومات المتحفية إلى معلومات حجرية، وتتنافس في ذلك مع التلفاز الميمون، لينافسوا جميعا الرصيد الأصيل في «دوجمته» وثباته عند الأصول، وإن أرادت المعاصرة والتحدث بحداثة، رددت معلومات مغلوطة، مغلفة بأسلوب حكائي مزوق، دون النظر إلى ما تفعله في عقول الناس، ثم نسأل أنفسنا: لماذا الأصولية؟ لماذا الإرهاب؟ إنها النتيجة الأخرى لذات المنهج! أسئلة يكمن وراءها الثبات على المنهج الأوحد، فكل شيء واضح لكنا لا نريد أن نرى، فقط هذه المسألة!
لذلك كله انتهزت فرصة ذلك المقال، لأملأ فراغ الوقت لحين استكمال المشوار العلاجي الطويل؛ لأنه فتح كل الجراح دفعة واحدة، وتحدث في صميم همومي، وبقدر ما كان «روتين» وزارة الصحة مزعجا بل وبشعا، بقدر ما كان «روتين» التاريخ ثابتا ساكنا مترهلا نائما يرنم تشخيرة واحدة رتيبة، وبقدر ما شعرت بطعن ألم المرض في قلبي، بقدر ما لم يعد بالإمكان تحمل مزيد من الطعن في رأسي وآمالي وأحلامي في مستقبل هذا البلد وتلك الأمة. إنهم يقتلون أحلامنا يا سادة!
المنهج يا سادة، «الدوجمة» المسبقة، واليقين القطعي، وغياب العقل النقدي، والتكاسل المخيف عن بذل الجهد، يفرش ظله السحري على حياتنا ليفسد علينا كل شيء، الرؤية الإستاتيكية للتراث، التي لا تربطه بواقع، بقدر ما تعتبره شيئا فضائيا جاء من فراغ، رغم تزلزل كل البنى التحتية التي قام فوقها، حقا نحن أغرب أمة أخرجت للناس. نخلط التراث بمسلمات ما أنزل الله بها من سلطان، بالحكي الشعبي، بالتاريخ الحقيقي مع تزييف نموذجي ليلتقي بالمأثور الديني، كما نفعل في حكاية العلم والإيمان التليفزيوني لنرضي في النهاية الإيمان التليفزيوني، ونرضي أنفسنا التي تركن للسكون والترهل، ويرضى المتاجرون بمصير الأمة بما ربحوا.
Unknown page