القسم الأول: وثائق القضية من المصادرة إلى الإفراج
كلام خارج السياق
القسم الثاني: رب الزمان
إهداء
مقدمة الطبعة الأولى
إسرائيليات
الرد على خطاب شامير في مدريد1
الدين والتطبيع في فيلم المهاجر1
المصريون والإسرائيليون في التوراة وفي التاريخ1
فلسطين وإسرائيل: الخلل في التوراة أم في التاريخ؟1
قدماء العرب والإسرائيليين1
معارك فكرية
هل بنى الفراعنة الكعبة؟!1
عفاريت التراث، وتراث العفاريت1
الرد اليسير على توراة عسير1
حتى لا نفسد تاريخنا: قليل من العقل وبعض من الضمير1
محمد الغزالي وسقوط الأقنعة!1
يا أبا العزائم نظرة!1
ما بين «القمني» وهذا المترجم!1
الصهاينة مرة أخرى1
مقالات ودراسات
حول الحاجة لتحديد المفاهيم1
حول مفهوم التراث1 «النص» بين الأزلية والتاريخية1
كشف الخدع فيما جاء به الخطاب الديني من بدع1
ذبح المفكرين على الطريقة الإسلامية1
منذ فجر التاريخ والحج فريضة دينية1
العرب قبل الإسلام: العقائد، والتعدد، والأسلاف1
متى ظهر العرب في التاريخ؟1
رب الزمان1
قصة الخلق بين ثقافة الصحراء وثقافة النهر1
المرأة في المأثور الديني والأسطورة1
سر الأسماء المقدسة1
القسم الأول: وثائق القضية من المصادرة إلى الإفراج
كلام خارج السياق
القسم الثاني: رب الزمان
إهداء
مقدمة الطبعة الأولى
إسرائيليات
الرد على خطاب شامير في مدريد1
الدين والتطبيع في فيلم المهاجر1
المصريون والإسرائيليون في التوراة وفي التاريخ1
فلسطين وإسرائيل: الخلل في التوراة أم في التاريخ؟1
قدماء العرب والإسرائيليين1
معارك فكرية
هل بنى الفراعنة الكعبة؟!1
عفاريت التراث، وتراث العفاريت1
الرد اليسير على توراة عسير1
حتى لا نفسد تاريخنا: قليل من العقل وبعض من الضمير1
محمد الغزالي وسقوط الأقنعة!1
يا أبا العزائم نظرة!1
ما بين «القمني» وهذا المترجم!1
الصهاينة مرة أخرى1
مقالات ودراسات
حول الحاجة لتحديد المفاهيم1
حول مفهوم التراث1 «النص» بين الأزلية والتاريخية1
كشف الخدع فيما جاء به الخطاب الديني من بدع1
ذبح المفكرين على الطريقة الإسلامية1
منذ فجر التاريخ والحج فريضة دينية1
العرب قبل الإسلام: العقائد، والتعدد، والأسلاف1
متى ظهر العرب في التاريخ؟1
رب الزمان1
قصة الخلق بين ثقافة الصحراء وثقافة النهر1
المرأة في المأثور الديني والأسطورة1
سر الأسماء المقدسة1
رب الزمان
رب الزمان
الكتاب وملف القضية
تأليف
سيد القمني
القسم الأول
وثائق القضية من المصادرة إلى الإفراج
كلام خارج السياق
من نبوءات المتنبي وتنبيهاته
لتعلم مصر ومن بالعراق
ومن بالعواصم أني الفتى
وأني وفيت وأني أبيت
وأني عتوت على من عتا •••
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم •••
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم •••
علي نحت القوافي من مقاطعها
ليس علي إذا لم تفهم البقر
القسم الثاني
رب الزمان
ودراسات أخرى
إهداء
صديقي
أحمد صبري إبراهيم أغا
كنت متشددا في أمور الدين، وكثيرا ما كنت تعترض على منهجي في تجديد قراءة التراث، وتتوقع لما أكتب هزيمة منكرة، لكنك رحلت قبل أن ترى المنهج يصبح مدرسة، ولو كنت حيا لفرحت من قلبك، فأنا أعرف الناس بك، أعرف كيف كنت تحب الله والزهور وأفلام الكارتون، والنبي وسيدي «أبو العباس» والروايات الكلاسيكية، أعرف كيف كنت تحب طين مصر وشم النسيم ورياح الخماسين والحديقة اليابانية، والمتحف المصري وأم كلثوم وصديقنا التشكيلي «توران» البوذي، كذلك «بيكار».
برحيلك أيها الإنسان رحل صديقي الطفل الرائع، الأبيض الناصع، الذي آمن بالله صدقا فأحب الأرض والناس، وعاش من أجل الناس، طبق الأصل: مصري حقيقي ممن كنا نعرفهم أيام زمان.
كنت تكره منظر الدماء حتى لو كانت ذبحا حلالا، وتفرح من قلبك عندما ترى عاشقين، وتحزن بعمق لخبر عن كارثة أصابت بشرا على الشاطئ الآخر من بحر الظلمات، ثم كنت تنصت بكل جوارحك لمحدثك رغم أنك كنت تخالفه حتى النخاع، ولم ترد على من لا يعلم إساءته؛ لأنك كنت أعلم بقيمة الإنسان.
أخي يا إنسان، اسمح لي أن أقترب منك بهذا الكتاب كتبت نصفه وأنا بمستشفى القلب بين الموت والحياة، أحاول به التماس الدفء بالتماس مع ذكراك حتى آتيك أنيسا ورفيقا.
سيد
مقدمة الطبعة الأولى
قارئي!
أيها الصديق الرائع!
بك أمتلئ وأشعر صادقا أني كثير وقوي.
لقد قدر زماننا أن يفرزنا، فنحن فرز حراك واقع تلك الأيام؛ لذلك كان حتميا أن نلتقي هذه الحقبة تحديدا، وهو الفرز المطمئن الذي يدفع إلى التفاؤل، رغم الفرز غير المطمئن على الجانب الآخر ؛ لذلك أؤكد لك أنك وراء استمرار هذا المشروع، وبك، وبأصدقائنا - أنا وأنت - من المهمومين بقضايا الأمة والحاضر والمستقبل، الذين يتابعون معك ومعي خطواتنا الثابتة الواثقة، أقول: بكم جميعا يستمر العمل على دأبه دءوبا.
أصدقاؤك رفاق تلك السطور، يلتقون بي في كل موطن؛ في الندوة، في الشارع، في عواصم عربية متعددة، كثيرا ما تحدثنا، واستمعت بالشغف ذاته لما يطرحونه، لكنهم كانوا جميعا يحملون لي سؤالك: أين كتاب النبي موسى؟ وماذا تم بشأنه؟ بعدما انصرمت سبع سنوات على الإعلان عن بدء البحث فيه، ولما يظهر بعد؟
نعم أيها الصديق، لقد طالت الشقة، لكني أصدقك القول أن العمل لم يتوقف فيه لحظة، إلا عندما سقط الجسد صريعا منهوك القلب، ورغم الظروف الصحية التي تلابسني دون رحمة، فقد عدت إلى النبي موسى متابعا العمل لأوفيك وعدا تواعدناه، ومع تلك المصارحة، يجب إحاطتك علما أن هناك عددا من المشاكل لم تحل بعد، ويحتاج كشف آلياتها واكتشاف حلولها بعض الوقت، وبعض الصبر من جانبك.
ومن هنا - وكي أحافظ على حرارة التواصل بيني وبينك - فقد ارتأيت أن أواصلك بكتابين، أولهما هو الجزء الثاني من «حروب دولة الرسول»، والكتاب الذي تحمله بين يديك الآن ويحمل عنوان «رب الزمان».
و«رب الزمان» هو عنوان لواحدة من الدراسات التي تضمها دفتا هذا العمل، حيث يحتوي كتابنا هذا على أقسام ثلاثة: القسم الأول منها مجموعة دراسات يمكن أن تحمل جميعا عنوان «إسرائيليات»؛ لتعاملها مع المنظومة الإسرائيلية وثقافتها وخطابها المعلن، أما القسم الثاني فيضم بعض المعارك الفكرية، ارتأيت أن أجعلها متاحة لك من باب التوثيق ليس إلا، حيث انتهيت مؤخرا إلى قرار بعد الدخول في ذلك النوع من المعارك الذي يثيره أصحاب الأدلوجة السلفية، مستفيدين في ذلك مما آذى رفاقا لنا كبارا، فاكتمال المشروع أو المحاولة المستمرة في الإضافة إليه، هدف يجب ألا يضيع في صراعات قد تقبر الأمر كله.
وما دمنا بصدد التوثيق، فقد غامرنا بنشر بعض الدراسات الأولى الابتدائية هنا، وهي من محاولاتنا المبكرة التي لا شك تحمل سمات الحالة الأولية، ونماذج لها دراسة «منذ فجر التاريخ والحج فريضة دينية»، ودراسة «رب الزمان»، وغيرهما.
ثم قسم ثالث يضم مقالات ودراسات تتضافر مع منهجنا وخطواتنا التي ارتسمناها وتوافقنا عليها منذ البدء.
وغني عن التنويه، أن بعض ما ستقرأه هنا قد سبق نشره في دوريات عربية متباينة، وبعضه الآخر لم يسبق نشره، وقد كتبته إبان تواجدي في جناح القلب بمستشفى الهرم، واعتمدت في معلوماته على ذاكرتي وحدها؛ لذلك لن تجد لمثل تلك النماذج هوامش أو مراجع مدونة.
أضع هذا الحشد بين يديك أيها الصديق، من أجل مزيد من التلاحم بيننا، راجيا أن أكون قد عوضتك عن انتظارك - ظهور كتاب «النبي موسى» - بوقت مشحون بالقضايا التي يثيرها هذا الكتاب.
سيد القمني
إسرائيليات
الرد على خطاب شامير في مدريد1
يعنينا هنا أن نؤكد، أن كلمة «شامير» التي ألقاها على المؤتمرين بمدريد في 31 / 10 / 1991م، تشكل نموذجا - لا شك - مثاليا تماما للخطاب الصهيوني عامة بمنطقه ومحاوره الأساسية، فرغم الظروف التي ألقيت فيها كلمة إسرائيل، في ظل ضعف عربي عام وشامل، مهما سار العربان متبخترين، وتحت مظلة من السيطرة الأمريكية شبه الكاملة، ومع الاقتدار الإسرائيلي المتفوق على كافة المستويات، والذي لا يجادل فيه إلا مكابر، فإن كلمة شامير كانت على ذات الخط، وذات الدرجة، وذات القدر الذي كان الخطاب الصهيوني يراعيه دوما، ودون أن يحيد عنه أنملة. فراعت الكلمة بشكل ذكي وليس جديدا، أنها تلقى في ظرف عالمي، يتحدث عن نظام جديد، يزعم للدنيا أنه يسعى لإرساء قواعد السلام والأمن والمحبة على الكوكب الأرضي. وإن شاء فرض ذلك فرضا، وبخاصة في أشد مناطق العالم سخونة، حتى لو ثوى الجمر مؤقتا تحت رماد ظاهري، تصنعه أنظمة تابعة. كما لم يغب عن بال الخطاب أنه يتحدث إلى العالم كله، وأمام كل الشبكات الإعلامية الدولية. فوضع بحسبانه مشاعر الجماهير العريضة على تنوعها واختلاف توجهاتها، فجاءت صياغة الخطاب واضعة باعتبارها أنها كما لو كانت تخاطب كل فرد على حدة. ومن ثم فإننا نفترض أن الخطاب قد أحاط تماما بكل الاغراض المطلوبة منه، واستخدم كل الممكنات من أساليب متاحة تتناسب مع المقام، وعمد إلى كل طرق الإقناع وعرض قضيته كاملة تامة شاملة مانعة، بهدف كسب أكبر تأييد جماهيري ممكن، حيث إنه حاصل سلفا على تأييد النظام الجديد بزعامة الولايات المتحدة
الصهيوني، وسنحاول قراءة طبيعة هذا الخطاب ومكوناته وأغراضه ومناهجه، بعرض سريع قدر ما تسمح به المساحة المتاحة لعرض تلك القراءة.
والمدقق في الخطاب يمكنه أن يلحظه وهو يتحرك على عدة محاور، تم ربطها ببعضها في منظومة شديدة الجودة، ثم تركيبها معا بتقنية ومهارة عالية، فكان المحور الأساسي للحركة جيئة وذهابا. ومركز الحركة هو التركيز على الاستجابة النفسية للجماهير، فقدم افتراضه المسبق لهذه الجماهير بأنه يخاطب كل واحد منهم كشخص متحضر، بلغ من الحضارة قمتها، وهذا وحده لون من تملق المستمع، لكن بحيث يترك في نفسه أثرا مطلوبا، هو أن الخطاب يتعامل معه بكل احترام؛ لأنه شخص متحضر حتى لو لم يكن المستمع يستحق هذا الاحترام، أو يحوز تلك الدرجة الحضارية، لكنها على أية حال الطريقة المثلى لجعل المستمع يتجاوب مع كم الاحترام وكم الحضارة المفترض فيه! وهكذا فقد سلم الخطاب للمستمع أنه رجل متحضر، مسالم، ينفر من الحروب، يريد الرفاة لجميع الأمم وكل الشعوب، بلا استثناء، يرفض التعصب بكافة أشكاله، وينفر من الاضطهاد على أسس عرقية أو دينية، بسبب اللون أو الجنس أو العقيدة.
وبإيجاز، فالخطاب يفترض في المتلقي ليبرالية ملائكية، ومن هنا كان الكسب الأول المطلوب، على المستوى السيكولوجي، هو أن يقول للمتلقي أنت متحضر؛ ولهذا نحن نحترمك ونثق في حكمك على ما سنقول، حتى لو كان هذا المتلقي وغدا أمريكيا، استمتع يوما بحرق الأطفال في ملجأ العامرية في بغداد، وتعامل مع أزرار طائرته وقنابله وضحاياه، بحسبانها من ألعاب «الآتاري» التليفزيونية. هذا ما كان عن المحور الأساسي «التأثير النفسي» في طبيعة الخطاب الإسرائيلي، واستثماره أدوات منهجية، أهمها المعاني النظرية البحتة للتحضر، بغض النظر عن كون هذه المعاني حقيقة فعلية أم لا. «وهو ما يذكرنا برئيس دولة عربية يجد غاية لذته في السخرية من مستمعيه، ومن سلوك أبناء شعبه!»
أما المحور الثاني، الذي ترتبط حركته بحركة المحور الأول، فهو الذي يركز على الجانب الحقوقي، وهو لا شك أهم أعمدة التعامل بين المتحضرين، ويتم فيه تأكيد الحقوق التاريخية الثابتة لليهود في أرض فلسطين منذ آلاف السنين. وهنا يتداخل المحور الثالث على نفس الميكانيك، لينقل الأمر الحقوقي المسلم به حضاريا إلى اليد الإلهية، منتقلا بذلك إلى المحور الديني، فتلك الحقوق قرارات إلهية، وهبة سماوية، واختيار أحكم الحاكمين الذي فضلهم على العالمين، وهو القرار الذي يؤمن به إلى جانب اليهود، العالم المسيحي الغربي كله؛ وذلك باحتساب التوراة صاحبة ذلك القرار الحقوقي القدسي، بعهديه «القديم أو التوراة، والعهد الجديد أو الأناجيل» مع البصمة التأكيدية، والقول التوثيقي على الناموس التوراتي، بلسان المسيح: «ما جئت لأنقض الناموس. ما جئت لأنقض، بل جئت لأكمل.» وهنا، وبسرعة يتم إدخال المحورين الحقوقي والتاريخي، مع المحور الإيماني الديني على ميكانيك الحركة المحورية الأساسية «النفساني» لتتشابك الحلقات التي تؤدي إلى راحة ضمير المؤمن المسيحي الغربي تماما، والمتحضر جدا، إزاء مساهمته بالموافقة على تأمين حياة هؤلاء المؤمنين، لتحقيق كلمة الله الصادقة الثابتة، مع ما يفترض في المستمع المتحضر من رغبة في إثبات تحضره، بتأمين كل الحقوق لكل العقائد والديانات مهما اختلف معها.
ضمير العالم
ولإحداث الأثر المطلوب من المحور الأساسي «النفساني» فقد ترك الرجل أثرا طيبا فعلا؛ فكان رقيق الحاشية، عف اللسان، وديعا كالحملان، يمد يده إلى جيرانه يستجديهم الصداقة والأمان، رغم أنه الأقدر والأقوى، لكنه من جانب آخر قام يردد: «إن الموضوع ليس موضوع أرض، إنه موضوع وجودنا ذاته.» فأي لون من التنازل يعني دمار شعب إسرائيل المسالم وإزالته من الوجود. وذلك في ضوء المقارنة التي قدمها لتعداد شعب إسرائيل «4 ملايين»، مع من حولهم من عتاة القتلة المتعطشين للدماء، وعددهم «170 مليون عربي» مع ضآلة مساحة أرض إسرائيل التي تستدعي الشفقة «27 ألف كم»، وسط محيط عربي شرس يبلغ «24 مليون كم». والحجة على المستوى النفسي مع تغييب الحقائق الأخرى، تبدو غاية في الوجاهة، يبدو فيها شعب إسرائيل بطلا للخير يدافع عن وجوده وسط غابة من البشر، مما يستدعي مشاعر الاشمئزاز من العرب الذين يستأسدون على الدولة الوديعة!
وقد عمد الخطاب - بذكاء - إلى استحضار مشاعر أخرى تمتزج مع مشاعر الاشمئزاز، عندما ذكر أن كل عدوان عربي على إسرائيل تم دحره! فتمتزج مع المشاعر الأولى مشاعر الاحتقار أيضا مع الاستهانة والاستخفاف، من شأن أجلاف البوادي، الذين يتحينون فرصة لا يجيدون حتى صنعها والوصول إليها. رغم ذلك فالرجل يمد يده إلى جيرانه أمام كل العالم ويشرح ما وقع على شعبه من مظالم، وذلك في قوله: «وللأسف فإن الزعماء العرب الذين كنا نود مصادقتهم، رفضوا الدولة اليهودية في المنطقة، وادعوا أن أرض إسرائيل هي جزء من الأرض العربية! وانطلاقا من تحدي الشرعية الدولية، فقد حاولت الدول العربية احتلال وهدم الدولة اليهودية.»
وهكذا يختفي الفلسطينيون تماما ويصبح العرب - بلا سبب مفهوم أو واضح - يريدون تدمير إسرائيل المسالمة، التي تسعى لصداقتهم وحسن جيرتهم؛ لذلك أصبحت المسألة ليست مسألة أرض، إنما مسألة وجود شعب إسرائيل، وسط الحشد العربي الشرير! ومن ثم عمد الخطاب مباشرة إلى الضغط على ضمير العالم بمأساة الشعب اليهودي، الذي لاقى صنوف الاضطهاد، وأنه قد آن الأوان كي يصحو ضمير العالم، ليرد لهذا الشعب أبسط الحقوق، وهي الأمن، بل ويطلب من اليهود الصفح والمغفرة، «ألسنا عالما يدعي التحضر؟» ومن هنا أخذ يوجه حديثه إلى كل فرد في هذا العالم الخاطئ ويقول: «لقد تمت ملاحقة اليهود عبر التاريخ في كل القارات تقريبا، وتعرض اليهود للاضطهاد والتعذيب والذبح، وشهد هذا القرن خطة إبادة نفذت على أيدي النظام النازي، وهذه الكارثة والإبادة الجماعية المنقطعة النظير، والتي قضت على ثلث شعبنا، تمت في واقع الأمر، وأمكن تنفيذها؛ لأن أحدا لم يدافع عنا، فقد كنا بلا وطن، ولكن هذه الكارثة هي التي جعلت المجتمع الدولي يعترف بمطالبنا، القائمة على حقنا في أرض إسرائيل.» وهنا تجدنا مضطرين إلى تأجيل تناول المحورين «التاريخي والديني» لنحاول أن نفهم الآن: كيف أمكن للمذابح النازية ضد اليهود أن تؤدي إلى اعتراف العالم بحق إسرائيل في فلسطين، وقيام الدولة الصهيونية على أرضها؟ ونلاحظ أن الخطاب - بعد تهيئة المستمع نفسيا وعاطفيا - مع إشعال جذوة الضمير الحضاري وعقدة الذنب - ينتقل فورا إلى إعلان أنه رغم ظلم العالم لليهود، فليس لأحد حق الادعاء بقيام دولة إسرائيل؛ لأن ضحايا اليهود أيام النازي كانوا الثمن المدفوع سلفا، فقدموا أنفسهم قربانا على مذبح قيام الدولة. هذا بالطبع حق اليهود التاريخي الديني المعلوم في تلك الأرض، وكل ما في الأمر أن العالم ربما نسي تلك الحقيقة بعد طول اغتراب اليهود عن فلسطين، وما حدث من النازي كان فقط عامل الإنعاش للضمير العالمي الخاطئ.
الخطاب الصهيوني بذلك يعمد إلى لون فاضح من التزوير والتلفيق، فرغم أن المذنب هو النازي، فهو لا يذكر أبدا أنه ليس من المقبول حضاريا وحقوقيا وإنسانيا أن يدفع الفلسطينيون وزر الجريمة النازية، والمعلوم أنه في فلسطين تحديدا، وعندما وقع اضطهاد على اليهود كان بداية من جانب الرومان الذين دمروا الهيكل الثاني، وشتتوا اليهود في بقاع الدنيا، لأسباب تاريخية معلومة. أما الاضطهاد الثاني فقد جاء على يد الصليبيين، عندما استولوا على القدس عام 1099م، وقاموا بحرق اليهود داخل معابدهم؛ مما أدى إلى هروبهم الجماعي من فلسطين، وهو ما وضح في سقطة لسانية بخطاب شامير عندما قال: «إن اليهود كانوا موجودين باستمرار في فلسطين باستثناء فترة المملكة الصليبية القصيرة.» لكنه بالطبع لم يذكر السبب، كما لم يذكر أن سبب تواجدهم بعد ذلك في فلسطين، كان نتيجة سماح صلاح الدين لهم بالعودة بعد استعادة العرب لها من يد الصليبيين.
أما إشارة الخطاب إلى أن كل شعوب العالم قد اضطهدت اليهود الذين عاشوا بين ظهرانيهم ، فهو أمر يستحق الدهشة والتساؤل؟! لماذا تجمع شعوب مختلفة المواطن، متباينة المشارب والعقائد، على كراهية مواطنين مثلهم، ولكن من ملة اليهود؟! هذه فزورة لا يحلها إلا السيد شامير.
العلاج النفسي
واللافت للنظر هو تركيز الخطاب الصهيوني الدائم على الجريمة الهتلرية ضد اليهود، ففي كل «حدوته» وفي أي مناسبة (وبدون مناسبة) يتكرر ذكر المذبحة النازية لليهود التي اكتست بطابع ديني. بحيث لا يذكر هتلر، إلا وتذكر كراهيته للدين اليهودي وأتباعه. وأنه ما ذبح هؤلاء إلا لكونهم يهودا! حتى نسي العالم أن ضحايا النازية من غير اليهود قد بلغ ستين مليون إنسان، وأن الضحايا المدنيين فقط وصل عددهم إلى ثلاثة ملايين بولوني، وستة ملايين سلافي، وضاع ذكرهم وسط الضجيج والصخب الصهيوني، والندب والعويل على شهداء البشاعة البشرية من اليهود، والذين اتخذ موتهم طابعا قدسيا، كما لو كانت ضحايا هتلر من اليهود فقط! وأنهم فقط أصحاب حق في القداسة، وأصحاب حق في جلد ضمير الدنيا بالسياط، ووسيلة لكسب التأييد المادي والمعنوي. وإذا كانت هذه الجريمة كما يقول خطاب شامير بسبب صحوة الضمير العالمي لإقامة دولة إسرائيل، فلا شك أن الخطاب العربي الفاشل، كان وراء خمود ذات الضمير أمام إبادة وتشريد الفلسطينيين! إضافة إلى العوامل الأخرى المتعددة، البعيدة عن موضوعنا هنا بشأن طبيعة الخطاب الصهيوني. لكنها على أية حال توضح لنا لماذا لم تقم دولة إسرائيل على أشلاء ألمانيا المنهزمة، وقامت في فلسطين؟
ثم يعمد الخطاب الصهيوني مرة أخرى إلى تشغيل المحور السيكولوجي، فبعد أن يعدد خطايا العالم في حق شعب الرب المختار، ويضع الضمير العالمي في حالة أرق، وشعور حاد بالذنب والخطيئة، فإنه يسارع متبرعا بتقديم العلاج النفسي والبلسم الشافي لذلك الضمير المعذب، حتى يكون الجميع ممتنين وشاكرين، فيربط الخطاب بين الاضطهاد النازي وبين الأشرار العرب الذين يكيدون للدولة الوليدة، ليضع النازي والعرب داخل إطار واحد، فيمتزج الشر العربي بالشر النازي، ويصبح العالم مسئولا تمام المسئولية إزاء الشروع في الجريمة الجديدة، وأن يمنعها قبل أن تقع، وعلى الإنسانية أن تقوم بواجبها إزاء ما يمكن حدوثه، وهو ما يلقى صداه مع العقيدة المسيحية التي تقبل بفكرة الضحية، مقابل الفداء والخلاص، أو بالنص الإنجيلي الذي يضع مشروعية رفع الخطيئة: «بدون دم وسفك دم لا تحصل مغفرة.»
والضحية موجودة والحمد لله، وعلى الفلسطينيين أن يقدموا الفداء لخطايا العالم، ويرفعوا الإصر عن ضميره اليقظ؛ لأن المسيح نفسه، وهو الإله، قد تمت تضحيته على الصليب من أجل راحة ضمير البشرية ورفع الخطيئة عن بني آدم، فهل الفلسطينيون أحسن من الله؟
وهكذا تجد البشرية الغربية المتحضرة المعذبة، التواقة إلى التكفير عن ذنبها - لكن بعيدا عن جلدها - خروفا يذبح بدلا منها، لتعود لتلك النفس راحتها، واتزانها وتماسكها، وهو ما أجاد الخطاب الصهيوني صناعته على الدوام، وباقتدار. ومن ثم تبرز إلى جوار طبيعة الخطاب التي تستهدف الجانب النفسي، مع استثمار المعاني النظرية لمفهوم التحضر، التي لا بد أن تنفر من الاضطهاد بسبب اللون أو الجنس أو العقيدة، طبيعة أخرى تستثمر البعد الديني. فاليهود لم يضطهدوا إلا لأنهم يهود، ويصبح من المنطقي ألا يطلبوا التعويض ممن اضطهدوهم بأرض في أوروبا، لسبب ديني بسيط معلوم، هو أن أوروبا ليست أرض اليهود، أو كما قال موشى ديان لصحيفة لوموند في 5 / 10 / 1971م: «بما أننا نملك التوراة، وأننا شعب التوراة، فلا بد أن نملك أيضا أرض التوراة.»
وتتم المغالطة الكبرى بالخلط السريع للأوراق، ولا يبقى مكان في العالم يصلح لليهود، ومن حق اليهود، وترضى به النفس الأوروبية المعذبة دون أن تخسر أرضا، سوى الوطن اليهودي الذي سلبه الفلسطينيون، والأمر مشروع قدسيا بقرار إلهي بالكتاب المقدس المصدق وتلك إرادة الله الذي لا راد لقضائه!
التزوير في الخطاب
والوقوف مع الترنيمة المعذبة لليهود حول الجريمة النازية، يكشف لنا بعدا آخر بالخطاب الصهيوني، وهي وقفة للتذكير بمجموعة حقائق، تساعد على حل اللغز الذي طرحه السيد شامير، في قوله إن المذبحة الهتلرية، كانت السبب الحقيقي وراء قيام دولة إسرائيل!
ربما مازلنا نذكر ما حدث في بغداد مع بدء الهجرة اليهودية المنظمة إلى إسرائيل، بتخطيط وإشراف الصهاينة، عندما تردد يهود العراق في قيد أسمائهم بكشوف الهجرة، فلجأت العصابات الصهيونية المسلحة إلى إلقاء القنابل على مركز التجمع اليهودي لإشعارهم أنهم في خطر، لدفعهم للهجرة إلى إسرائيل. وهو الحدث الذي تزامن مع حالات أخرى شبيهة في مواقع أخرى من العالم. كما تزامن مع بداية النشاط الفعلي للصهيونية العالمية. وكان أخطر تلك الأساليب هو ما حدث في ألمانيا النازية، في قضية إنجمان المعروفة. وما كشفت عنه د. حنا أرندت في كتابها «إنجمان في القدس»، وأوردت به مجموعة وثائق تثبت وجود تعاون وثيق بين السلطات النازية، وبين المؤسسة الصهيونية في فلسطين، وأن من بنود ذلك التعاون، أنه كان بإمكان أي يهودي ألماني أن يهاجر إلى إسرائيل، شريطة أن يحول أمواله إلى بضائع ألمانية. وقد قدم إنجمان مساحات من الأرض للصهاينة كمعسكرات تجمع لليهود ولتهجيرهم بالإكراه إلى فلسطين.
أما ما حدث ليهود تلك المعسكرات، فهو البشاعات التي كشفت عنها قضية كاستنر، الذي باع يهود تلك المعسكرات للنازي، بالتعاون مع إنجمان، وهي من القضايا التي هزت إسرائيل، وكشفت أن زعماء الصهاينة وقياداتهم قاموا بتجهيز أغنياء اليهود إلى فلسطين للحصول على الأموال، إضافة للعناصر الفعالة كالعلماء والشباب، بينما تركت في المعسكرات بقية اليهود من عناصر غير مرغوب فيها، وهو من تمت إبادتهم على يد النازي، بعلم القيادات الصهيونية وتعاونها، لكسب العطف والتأييد العالمي، وهو ما أدى بعد ذلك وبالفعل إلى قيام دولة إسرائيل.
وبموجب الاتفاق، قام إنجمان بتأمين قطار خاص لحمل المهاجرين من النخبة المختارة الممتازة، ورافقهم بعض النازيين إلى الحدود لضمان سلامتهم، وقد قال كاستنر أن عددهم كان 1684 شخصا غادروا إلى إسرائيل، مقابل 476000 تمت التضحية بهم في المجزرة، وهو الأمر الذي يفسر لنا تأكيد شامير على أن تلك المجزرة كانت السبب وراء قيام إسرائيل.
وقد شهد على تلك المؤامرة الكبرى أحد القلائل الذين تمكنوا من الفرار من معسكر «أوشيتز»، هو «رودلف فربا»، وذلك في جريدة لندن ديلي هيرالد، عام 1961م، بقوله: «نعم أنا يهودي، لكني أتهم قادة اليهود بأنهم أبشع ممارسي الحروب، فتلك المجموعة كانت على علم مسبق بما سيحدث لإخوانهم في غرف الغاز النازية، ومن بينهم كاستنر رئيس مجلس يهود هنغاريا، وقد استقل عدد كبير من يهود هنغاريا الفقراء قطارات النقل طائعين دون مقاومة؛ لأنهم كانوا قد أخذوا تطمينات من القادة الصهاينة أنهم في طريقهم إلى الحرية، بينما كانوا يساقون إلى الإعدام.» أما جريدة صوت الشعب الإسرائيلية فقد قالت في عام 1955م: «إن كل أولئك الأشخاص، الذين ذبح الألمان أقرباءهم في هنغاريا، يعلمون الآن وبوضوح أن قيادات الصهاينة هي التي دبرت الجريمة مع النازي.»
ولما فاحت الفضيحة، وقدم كاستنر للمحاكمة في إسرائيل بضغط الرأي العام لكشف الحقائق، عقبت صحيفة يديعوت أحرونوت في 1955م بقولها: «إنه إذا تم تقديم كاستنر للمحاكمة فإن الدولة برمتها ستنهار، سياسيا ووطنيا، نتيجة ما ستكشف عنه تلك المحاكمة.» ولم يمض قليل على بدء المحاكمة، حتى سقط كاستنر صريعا رميا بالرصاص من مجهول، وكشف بعد ذلك أن قاتله هو إكشتاين العميل السري في جهاز الموساد.
وكان السؤال هل من المعقول أن تقدم القيادة الصهيونية هذا العدد الهائل من اليهود للذبح؟ يجد إجابته أولا في قيام الدولة، وثانيا شهادات منها شهادة «موشى شوايفر» مساعد كاستنر الذي قال بهدوء: نعم كان يهود هنغاريا عددا كبيرا، لكنهم للأسف لم يكونوا يتمتعون بأي أيديولوجية يهودية.
أما قائد الهاجاناه «فايفل بولكس»، فقد التقى بانجمان في جروبي القاهرة، وأبدى رضاه التام عن سير التعاون اليهودي مع النازي كما هو مرسوم له (انظر مجموعة وثائق التعاون النازي الصهيوني، كالتون، أستراليا).
لكن السؤال الأكثر منطقية هو إذا كانت الجريمة النازية قد حدثت بالفعل، فلماذا تطوع النازي وسمح للنخبة اليهودية بالهجرة؟ والسؤال وجيه، لكن الوقائع تقول ما يفيدنا بإجابة مقنعة، فلعلنا نذكر أن منظمة الأورجون اليهودية في فلسطين، قد قامت بإعلان الحرب رسميا ضد حكومة الانتداب البريطانية عام 1944م. ونظمت نشاطات إرهابية متتالية ضد القوات البريطانية في فلسطين، وهو ما جاء في سقطة أخرى بخطاب السيد شامير في مدريد، في قوله: «لقد قامت الدولة اليهودية وتكونت؛ لأن الطائفة اليهودية الصغيرة بفلسطين أيام الانتداب ثارت على الاحتلال الإمبريالي!» وسقطة السيد شامير هنا فاضحة، ففي الوقت المفترض فيه، أن اليهود يحاربون الألمان، وأنهم ضحية المجازر النازية، كان اليهود في فلسطين يقومون بنشاطات إرهابية ضد بريطانيا! الأمر واضح تماما، تؤيده العلاقات غير الخفية التي قامت بين عصابة «شيترن» اليهودية بفلسطين، وبين إيطاليا الفاشية، وشنت بموجبها عددا من الهجمات الإرهابية على البريطانيين بفلسطين، أما مناحيم بيجن زعيم عصابة الأورجون، فقد وصل لفلسطين كجندي في الجيش البولوني لمقاتله النازية، ثم فر من الجندية، ونظم عصابته لقتال البريطانيين وقتل الفلسطينيين.
هكذا تمت الخطة الصهيونية على ثلاث محاور: محور يهود أوروبا، ومهمته قتال النازية لكسب تأييد الحلفاء، ومحور ألمانيا للتخلص من نفايات يهودية لا تؤمن باليهودية وحقوقها التاريخية، ليتم بها كسب عطف العالم والضغط على ضميره في أشد الظروف العالمية توترا. ومحور ثالث كان فيه صهاينة فلسطين يقدمون للنازي خدماتهم الجليلة، ويقاتلون بريطانيا لصالح دول المحور، تنفيذا للاتفاق غير المعلن.
وهكذا تنكشف لنا أهم جوانب طبيعة الخطاب الصهيوني، وهو التزوير الفاضح، وتهديد ضمير العالم دوما بدم اليهود المسفوك، لأنه إذا كان بدون دم وسفك دم لا تحصل مغفرة، فإن ناموس الصهيونية قد أكد أنه بدون دم وسفك دم لا تقوم لإسرائيل دولة.
الدين والعنصر
وقد كان مناط احتجاج الخطاب الصهيوني في مدريد، هو أن الزعماء العرب الذين كنا نود أن نصادقهم رفضوا الدولة اليهودية في المنطقة، وادعوا أن أرض إسرائيل هي جزء من الأرض العربية. وهنا تحتشد مجموعة من المغالطات والتلفيقات، فالخطاب لا يذكر الأرض باسمها التاريخي الصادق «فلسطين»، إنما يشير إليها بوصفها «أرض إسرائيل»، هو ما يستدعي مجموعة تداعيات تاريخية، مع مداخلات تلفيقية تربط تلك الأرض بشعب واحد فقط، عاش مع مجموعة شعوب أخرى على تلك الأرض على مر العصور التاريخية، لكن بحيث يبدو أنه لم يكن هناك سوى شعب واحد هو الشعب الإسرائيلي.
والخلط مقصود، وينطلق من خلط أساسي في مفهوم الخطاب الصهيوني وأدلوجته، ما بين مفهوم العرق أو الجنس وبين مفهوم الدين، بحيث يتداخلان ويصبح العرق دينا، والدين عرقا. كما يسمح بتداخل آخر مع التراث الديني للمسيحيين، بإجراء التطابق في الخطاب بمهارة علاقات التطابق الدائري في علم المنطق، أو أنظمة التكافؤ الرياضية، فالخطاب يتحدث عن رفض العرب «للدولة اليهودية»، وادعائهم أن أرض إسرائيل عربية فتتطابق هنا الدائرة الكلية لمفهوم الدين اليهودي، وتتكافأ مع الدائرة الكلية لأرض فلسطين. لكن بعد حذف «فلسطين» ووضع «إسرائيل»، لتصبح فلسطين إسرائيل، ويصبح شعبها الوحيد هو الشعب الإسرائيلي، والدين الوحيد الذي تواجد فيها على مر العصور، هو الدين اليهودي وحده دون بقية الأديان.
والمغالطة الثانية تتضح في إشارته إلى من ناصبوا الدولة الإسرائيلية العداء، هم «الزعماء العرب». المسألة هنا طموحات من الزعامات، مع غزل رقيق للشعوب العربية، فنحن أصدقاء؛ كشعبين، وأهل، وبنو عمومة. المشكلة فقط في طموحات الزعماء للتوسع.
أما المغالطة الثالثة فهي إجراء المطابقة السريعة بين مفهوم الدين اليهودي، وبين العنصر أو الجنس الإسرائيلي، الذي عاش كقبيلة ضمن عدد كبير من الشعوب الأخرى - التي ذكرتها التوراة - في فلسطين، مثل الكنعانيين «الفلسطينيين»، والحيثيين، والعمونيين والأدوميين، والموابيين، والفرزيين، واليبوسيين ... إلى آخر القائمة المعروفة. ثم تجري المطابقة الدائرية مرة أخرى بين اليهودية كدين بعد أن أصبحت جنسا، وبين يهود اليوم المتناثرين بين جنسيات العالم على تفرقها، بحيث يظهر هذا الشتات غير المؤتلف كما لو كان جنسا واحدا، وعرقا بذاته، لمجرد أنهم يدينون بدين واحد هو اليهودي، بحيث تنطلي الأكذوبة الكبرى على جماهير الدنيا، تأسيسا على مدخل منطقي سافر التزوير، وعلى أساس ديني عقائدي، ينهض على أسس أسطورية، خلقت تتابعا عرقيا عنصريا بالكتاب المقدس لشعب إسرائيل القديم، بحيث يبدو يهود اليوم كما لو كانوا ينحدرون عن الآباء التوراتيين الأوائل، إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
وربما ساهم في ابتلاع البعض لتلك الفرية، خاصة المتدينين، هو انعزال أصحاب الديانة اليهودية عن غيرهم في كل المواطن التي عاشوا فيها، بحيث بدوا كما لو كانوا محافظين تماما على نقاء البذرة الإبراهيمية منذ ألوف السنين في أصلابهم الطاهرة، وهو افتراض يقوم على التسليم بلون خارق من العفاف الجنسي المنقطع النظير، وهو ما لا تنطق به سيرة بنات اليهود، لا اليوم، ولا حتى في العصور التوراتية
وبنظرة سريعة عجلى على إصحاحات الكتاب المقدس يمكنك أن تجده يموج بالصخب الجنسي. ونموذجا لذلك ما جاء به مع الرجل الأول في تاريخهم، البطرك إبراهيم، الذي حكى الكتاب عنه: «فانحدر إبرام إلى مصر، وقال لساراي امرأته: إني قد علمت أنك امرأة حسنة
فرعون، فصنع إبرام خيرا بسببها، وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال» (سفر التكوين، 21).
وهكذا نجد البداية لا تبشر بخير، مع هذا الادعاء بالنقاء الجنسي على مر العصور. ولسنا هنا في مقام الدفاع عن نبي جليل، لكن المتابع للأسفار يجد النبي «إرميا» ينوح على تفشي الزنا بين بنات مملكتي يهوذا وإسرائيل، ويقول: «هل رأيت ما فعلت العاصية إسرائيل، انطلقت إلى كل جبل عال وإلى كل شجرة خضراء، وزنت هناك، ولم تخف الخائنة يهوذا أختها، ولم تخف الخائنة يهوذا أختها، بل مضت وزنت هي أيضا» (سفر إرميا، 30). «وصهلوا كل واحد على امرأة صاحبة» (إرميا، 50). بل إن الرب يهوه أخذ ينادي نساء شعبه المختار: «أرفع ذيلك على وجهك فيرى خزيك، فسقك وصهيلك، ورذالة زناك على الآكام، في الحقل رأيت مكرهاتك، ويل لك أورشليم، لا تطهرين حتى متى؟» (إرميا، 13) ثم ينادي مملكة يهوذا: «زنيت على اسمك وسكبت زناك على كل عابر، وصنعت لنفسك مرتفعات موشاة وزنيت عليها، وصنعت لنفسك صور ذكور وزنيت بها، وفرجت رجليك لكل عابر، وأكثر زناك، وزنيت مع جيرانك بني مصر الغلاظ اللحم الذين منيهم كمني الحمير، وزدت في زناك لإغاظتي، وأسلمتك لمرام مبغضاتك بنات الفلسطينيين، اللائي يخجلن من طريقك الرذيلة، أعطيت كل محبيك هداياك ورشيتهم ليأتوك من كل جانب للزنا بك، وصار فيك عكس عادة النساء في زناك؛ إذ لم يزن وراءك، بل أنت تعطين أجرة، ولا أجرة تعطى لك، فصرت بالعكس» (سفر حزقيال، 16).
وهذا قليل من كثير. وربما كان شبق بنات صهيون، الذي كان يدفعهن إلى الصهيل عند الوصال «بتعبير الكتاب المقدس»، وإلى صناعة ذكور صناعية لمزيد من الإشباع، ودفع الأجور للرجال، وهو الذي دفع دولة إسرائيل الحالية، إلى وضع قانون لا يعتبر الفرد بموجبه يهوديا، إلا إذا كانت أمه يهودية، ومن ثم أصبح النسب اليهودي للأم لا للأب. ولو طبقنا ذلك القانون على «داود» مؤسس المملكة التوراتية القديمة، وعلى ولده «سليمان» أشهر ملوكهم، فسنجد الأول حفيدا لامرأة تدعى «راعوث» لم تكن من بني إسرائيل جنسا ولا تدين باليهودية. بل كانت موآبية، أما سليمان فقد رزق به أبوه «داود» من امرأة حيثية، لا يهودية ولا إسرائيلية، وطبقا للقانون، فإن كليهما ليس يهوديا ولا إسرائيليا، وإنما فلسطينيان، لأن الأمهات فلسطينيات.
الجانب الحقوقي
أما المغالطة الكبرى في كلمة السيد شامير فكانت في قوله إن الزعم بأن أرض إسرائيل أرض عربية مجرد ادعاء، فينتقل الخطاب إلى المحور التاريخي، أو «الحقوقي الديني التاريخي معا»، ليقول دون أن يرف له جفن: «إننا الشعب الوحيد الذي ظل على أرض إسرائيل بدون توقف لمدة أربعة آلاف عام متصلة، ونحن الشعب الوحيد الذي كانت أورشليم عاصمته، ونحن الشعب الوحيد الذي توجد أماكنه المقدسة فقط في أرض إسرائيل.» ورغم ما في مقولة الأربع آلاف سنة من مغالطة تاريخية صارخة، ولا تمت للأمانة بصلة، ولأننا هنا في مقام قراءة طبيعة الخطاب وليس الرد بالوثائق، فإن الخطاب يريد أن يقول للجماهير ببساطة: إن بني إسرائيل «متطابقا معهم يهود اليوم» كانوا أصحاب أرض فلسطين من أقدم العصور التاريخية.
وما دام الرجل يتحدث كمؤمن صادق الإيمان، حريص على عقيدته ومحارم دينه. صادق العلاقة بتوراته إلى الحد الذي دفعه إلى ترك المؤتمرين في مدريد، ليقضي عطلة السبت متهجدا مع بني جلدته، فلا مشاحة في أن اختبار صدق الخطاب بالمطابقة مع الكتاب المقدس، يمكن أن يضع طبيعة ذلك الخطاب على محك المصداقية من عدمها.
وبالعودة إلى الكتاب المقدس نجده يحكي لنا أن إبراهيم أرومة اليهود، وأول رجل ذا شأن في تاريخهم، لم يكن فلسطينيا ، إنما جاء فلسطين غريبا من بلد بعيد يدعى «أور الكلدانيين» في رحلة استغرقت خمسة عشر عاما. وعندما وصل فلسطين مع عائلته الصغيرة، يقول الكتاب المقدس: «كان الكنعانيون حينئذ في الأرض» (سفر التكوين، 12)، وإن إبراهيم قد هبط ضيفا على ملك مدينة جرار المدعو أبيمالك، ويصف المقدس تلك الأرض بأنها «أرض الفلسطينيين» (تكوين، 21)، وإن أبيمالك كان «مالك الفلسطينيين» (تكوين، 26)، وعندما قتل أبناء يعقوب حفيد إبراهيم بعض الفلسطينيين بعد حالة زنى مع شقيقتهم، قال لهم يعقوب المعروف باسم إسرائيل «كدرتماني بتكريهكما إياي عند سكان الأرض الكنعانيين، وأنا نفر قليل» (تكوين، 34). وعليه لو سلمنا للرجل الحريص على محارم دينه يوم سبته بأن الآباء التوراتيين الأوائل كانوا في فلسطين منذ أربعة آلاف عام، فإن مقدسه يؤكد أنهم دخلوها ضيوفا قليلي العدد على أهلها الكنعانيين «الفلسطينيين» بل كانت فلسطين عندما وصولها ممالك ذات حضارة ونظام اجتماعي وسياسي، أما مهجر الأب الأول إبراهيم، وموطنه الأصلي، فقد أثبتنا أنه لا يقع ضمن المنطقة بكاملها وعلى الإطلاق، وإنما يقع في جبال أرارات بأرمينيا، وذلك في كتابنا «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول»، وقدمنا بسبيل ذلك مجموعة من القرائن والبراهين، التي ستظل صادقة حتى تجد من يرد عليها ويدحضها بأدلة أقوى وقرائن تثقل كفتها، وحتى الآن لم يحدث ذلك، ولا نظنه بحادث في المستقبل المنظور.
يهود فلسطين
وإعمالا لما قلناه، فإن طبيعة الخطاب الصهيوني كما هو واضح جلي، طبيعة قبلية، لا ترى قبيلة غير قبيلتها، ولا تراثا مقبولا غير تراثها، ولا دينا صحيحا غير دينها، ولا صدقا إلا في توراتها، وكأن تراث الآخرين غير موجود لشعوب عديدة عاشت في فلسطين، كان لها مقومات الشعب والعنصر والدين والحضارة والنظام الاجتماعي والسياسي، قبل قيام مملكة داود بأكثر من ألفي عام.
ولمجرد التذكرة، ومنعا للإطالة، يكفينا ذكر أن الملك «داود» المؤسس الحقيقي لدولة إسرائيل التوراتية، حوالي 1000 قبل الميلاد، أقام دولته مستفيدا من توازن القوى بين القوتين العظميين حينذاك «مصر والرافدين»، فكون جيشا من أهل الأرض الفلسطينيين، وأقام لونا من الائتلاف ووحد القبائل في وحدة سياسية ، وصهر الممالك الصغيرة معا، بل كان حراس «داود» أيضا من الفلسطينيين، كذلك قائد جيشه، وسواء هو أو ابنه «سليمان»، فقد أقاما الدولة على أساس تعدد القوميات، ولم تقم أبدا كدولة ذات جنس واحد ودين واحد، والكتاب المقدس شاهد بذلك، وحتى لو أغفلنا كل ما سبق، وسلمنا للخطاب الصهيوني بالصدق التام، فإن مسألة جمع روس وألمان وبلغار وأمريكان وأحباش ... إلخ من مواطنهم، للإقامة في فلسطين بالحق التاريخي، لمجرد أنهم يهود، يجعل الأمر مزحة بشعة، ستظل وصمة، وربما بصقة في جبين هذا العصر إلى ما يشاء الله، لأنه بمقارنة شديدة البساطة، سنجد أن الحقوق التاريخية للهنود الحمر في أمريكا، أوضح من ادعاءات الخطاب الصهيوني في فلسطين؛ لأن الهنود لم يكونوا أول من استوطن أمريكا منذ فجر التاريخ، بل كانوا الشعب الوحيد فيها.
إن طبيعة الخطاب الصهيوني إذن، تعتمد على عدد هائل من المغالطات والتمريرات، التي تبدو في ظاهرها صادقة الحقوقية «مع الخلط لمفهوم العنصر بمفهوم العقيدة»، وحتى لا يتيح الخطاب الفرصة لمقارنة يهود اليوم بآباء العصر التوراتي، فإنه يقفز فورا إلى تأكيد «أننا الشعب الوحيد الذي ظل على أرض إسرائيل بدون توقف نحو أربعة آلاف عام.» لتستمر المطابقة بين مفهوم الدين والعنصر، لدعم محور الحق التاريخي، ليظهر الأمر كما لو أن اليهود فقط هم من عاشوا في فلسطين على مر العصور، أو على الأقل الجماعة الأكثر عددا، لكن السائح اليهودي بنيامين الطليطلي الذي زار القدس عام 1170 ميلادية، سجل أنه لم يجد في فلسطين بكاملها سوى 1440 يهوديا! كما لم يعثر اليهودي «ناحوم جيروندي» في زيارته لفلسطين عام 1257م إلا على عائلتين يهوديتين. أما الأطرف فعلا أنه حتى هذا القرن نجد الشهادة في خطاب شامير تقول: «لقد قامت الطائفة اليهودية الصغيرة - ولاحظ الصغيرة - التي كانت تقيم بفلسطين تحت الانتداب، بالثورة على الاستعمار الإمبريالي.»
شالوم
وأمام عدسات الإعلام العالمي في مدريد، لم ينس الرجل الشهم أن يبدي مروءته وأسفه وأساه على الفلسطينيين المشردين، بينما قنابله الجهنمية تدك مخيماتهم في لبنان، حيث قال بكل تراحم وحنان : «إنه لا يوجد يهودي واحد في هذا الزمان، يستطيع أن يكون غير مبال بمعاناة الفلسطينيين.» هذا رغم سرده لبشاعات العرب مدمجة ببشاعات النازي ضد اليهود، لكنه رأى من واجبه كرجل متحضر أن يعلن ذلك الأسى والحزن مع ندائه لجيرانه البرابرة حتى يظهروا كسبب فيما حدث للفلسطينيين: «أظهروا استعدادكم لقبول إسرائيل، إن التخاطب أفضل بكثير من سفك الدماء، فالحروب لن تحل قضية في منطقتنا، لكنها تسببت في المآسي والمعاناة والقتل والكراهية.» وهكذا فطبيعة الخطاب تشهد العالم أن العرب يشردون الفلسطينيين بحروبهم؛ لأنهم يريدون قتلنا لمجرد أننا متدينون، إنهم يريدون أن يقتلوا رجلا يقول: «ربي الله.»
الخطاب مستمر - كما هو واضح - في التركيز على المحور النفسي والمشاعر الدينية المسيحية الأوروبية، التي تشهد بالحقوق التاريخية على أساس الشهادة المقدسة بالتوراة، هذا بالطبع مع صورة العربي المعلومة لدى الرجل الأوروبي، منذ تزييف تاريخ الأندلس والحروب الصليبية حتى صورة العربي الخليجي في حانات ومواخير أوروبا.
ومرة أخرى نعود للكتاب المقدس لنرى مدى المصداقية في الخطاب، وإلى أي حد يتطابق مع المقدس، ومع ما يحدث بالفعل بل بالقول، مسايرة للخطاب المتدين الحريص على محارم الدين، والحريص في الوقت ذاته على إقناع عقل العالم وضميره بحقوقه التاريخية.
يقول الرب «يهوه» في شريعته، مفصحا عن طبيعته وهويته، التي لا تلتقي بحال مع طبيعة الخطاب الصهيوني، قدر ما تلتقي مع ما يحدث بالفعل: «الرب رجل حرب» (سفر الخروج، 15). لذلك كانت شريعة هذا المحارب السماوي تأمر عبيده الأتقياء بالأسلوب الأمثل للتعامل مع شعوب المنطقة، ومن تلك الشرائع إليك المقاطع اللطيفة الآتية: «أحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار» (سفر العدد، 13). «اقتلوا كل ذكر من الأطفال وكل امرأة» (سفر العدد، 31). «أحرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار» (سفر التثنية، 12).
أما الخطة المثلى في أوامر الرب، فهي أن يبدأ شعبه بدعوة الشعوب الأخرى إلى السلام والصلح، أو بالنص: «حين تقترب من مدينة، استدعها للصلح. فإن أجابتك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير، ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا، فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كلها غنيمة تغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا، التي ليست مدن هؤلاء الأمم هنا» (تثنية، 20).
هذا عن المدن البعيدة ، أما المدن القريبة: «فضربا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف، وتحرقها بكل ما فيها مع بهائمها. تجمع أمتعتها إلى وسطها وتحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها» (تثنية، 13).
أما المدن الفلسطينية فلها شأن آخر، إذ يأمر يهوه قائلا: «أما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا، فلا تستبق منه نسمة ما» (تثنية، 20).
ومن هنا، وبمطابقة المقدس، فهو يتطابق تماما مع الفعل الصهيوني، لكنه لا يطابق الخطاب بحال، لكن الفعل بمطابقة المقدس إنما يصبح فعلا مقدسا ويصبح من تلك المقدسات تدمير صور وصيدا ومذابح صبرا وشاتيلا وقبية وكفر قاسم ودير ياسين، ومجازر منظمة الأورجون البيجنية، وسفاحي الوحدة 101 التابعة لأريل شارون، فالأمر مقدس؛ لذلك هو نبيل وسامي، وباسم رسالة إسرائيل التوراتية يتم التعامل مع عرب اليوم، كما تم التعامل مع الكنعانيين بالأمس، فقط تغيرت لغة الخطاب أما الفعل فمقدس، والمقدس خير وأبقى!
العصر السعيد
ثم يختم شامير خطابه وهو يبتسم سعيدا، استطلاعا للعصر السعيد الآتي، عصر الأمان والسلام لكل الشعوب الذي تنبأ به إشعيا، وردد شامير نبوءته وهو يقول: «فيطبعون سيوفهم سككا ورماحهم مناجل، ولا ترفع أمة على أمة سيفا، ولا يتعلمون الحرب فيما بعد» (إشعيا، 2).
هذا فقط ما ذكره الرجل من كتابه المقدس، ليتطابق مع خطاب السلام؛ كي يبرز التطابق في الخطاب مع العنصر المقدس مع الحق التاريخي، إتباعا لكتاب يأمر بالسلام وينبئ بالسلام، فإشعيا النبي يتحدث عن اليوم الذي سيتم فيه صهر السيوف لتحول إلى محاريث ومناجل، ولا تكون هناك حرب بين الأمم إنما تعاون وسلام وإنتاج ورفاهية، لكن في أي مقام قال إشعيا نبوءته؟ الخطاب يصمت، وهنا فقط يذكر النبوءة منزوعة من سياقها، ليقدم مقدساته للعالم وهي تدعو للسلام، وبحيث يكون الرجل مستمرا على الدرب، ومكررا لدعوة أبطال العهد القديم من أجل السلام.
ومن المستحب في هذا المقام أن نتأسى برغبة شامير في استدعاء نبوءة إشعيا فنجدها تتحدث عن يوم يثبت فيه دين يهوه وحده في قمة جبل صهيون «وتجري إليه كل الأمم» (إشعيا، 2)، لكن ذلك لن يكون قبل أن يحدث الآتي لبلدان المنطقة:
لسوريا: «هو ذا دمشق تزال من بين المدن وتكون رجمة ردم» (إشعيا، 17).
لمصر: «في ذلك اليوم تكون مصر كالنساء، فترتعد وترتجف من هزة يد رب الجنود، وتكون أرض يهوذا رعبا لمصر» (إشعيا، 17: 19).
لجزيرة العرب: «بلاد العرب من أمام السيوف قد هربوا، يفنى كل مجد قيدار؛ لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم» (إشعيا، 21).
للبنان: «وحي من وجهة صور، ولولي يا سفن ترشيش؛ لأنها خربت، ولولوا يا سكان الساحل، ورب الجنود قضى به ليدنس كبرياء كل مجد، أرضك كالنيل يا بنت ترشيش، أيتها العذراء المتهتكة بنت صيدون، ولبنان ليس كافيا للإيقاد، وحيوانه ليس كافيا للمحرقة» (إشعيا، 23: 40).
للعراق: «انزلي واجلسي على التراب أيتها العذراء ابنة بابل، اجلسي على الأرض بلا كرسي يا ابنة الكلدانيين؛ لأنك لا تعودين تدعين ناعمة ومترفة، تنكشف عورتك وترى معاريك، اجلسي صامتة وادخلي في الظلام يا ابنة الكلدانيين؛ لأنك لا تعودين تدعين سيدة الممالك» (إشعيا، 47).
والآن، ترى هل حقق الخطاب الصهيوني القديم أغراضه بفعل أصحاب الخطاب الصهيوني الجديد؟ سؤال لا يجيب عليه إلا الزعماء العرب المؤتمرون في مدريد، يحلمون بنبوءة إشعيا بالعصر السعيد.
الدين والتطبيع في فيلم المهاجر1
بينما كنت أجري جراحة القلب بأمريكا، بدأ عرض فيلم المهاجر، وبدأت أيضا التداعيات حوله، ووصلني بعض ما كتب حول الفيلم، وفاتني الكثير، وتابعت القضية حتى انجلى الأمر وتمكنت من مشاهدة الفيلم بعد إعادة عرضه، وآثرت التريث قليلا حتى تهدأ العاصفة لتفسح مكانا للعقل. وإبان متابعتي لما تكبته الصحف السيارة والمجلات، طالعت عددا من وجهات النظر بعضها كان يهاجم بحجة أن الفيلم عمد إلى تشويه الشخصية المصرية والتاريخ المصري لصالح الصهاينة، والبعض الآخر كان يهاجم، لأن الفيلم في رأيه كان دعوة صريحة للتطبيع مع دولة إسرائيل، هذا ناهيك عن المهاجم الأساسي الذي وقف مؤسسيا وراء فرد رفع دعوى ضد الفيلم. باعتباره يجسد شخصية النبي يوسف، وسط أحداث وحوار لا يليق بشخصية النبي. وتأسيسا على هذا الموقف، تأسس موقف آخر على النقيض تماما، وقف إلى جوار المخرج والفيلم بدون تحفظ ، منطلقا من حق الفنان في طرح ما يراه دون أية قيود، وتم إبان ذلك خلط كثير من الأوراق المتناقضة، بحجة أن المسألة هي مستقبل الثقافة في مصر، وأن المبدعين والمثقفين قد أصبحوا في مواجهة تيار سلفي شديد الجمود والنصية.
تلفيق لا يليق
وبداية لا يمكن هنا بالطبع أن نلقي بالا إلى الاتجاه الذي أدان الفيلم لمجرد أنه يشخص الأنبياء. كما يجب في هذا الإطار أن نتجاهل أيضا وتماما ردود المخرج وحوارييه ومؤيديه، الذين أخذوا يؤكدون أن الفيلم لم يقصد تصوير قصة النبي يوسف كما وردت في القرآن الكريم، إنما دارت أحداث الفيلم على نحو مشابه لقصة ذلك النبي؛ لتتخذ من عبرة القصة نموذجا وقدوة ومثلا أعلى للشباب، للثبات أمام المغريات الدنيوية والشهوات البهيمية كما ورد في صحيفة الدفاع، وتجاهلنا هنا لتلك الردود يعمد إلى المصداقية بعيدا عن لعب كل من الطرفين لكسب القضية القانونية وقضية الرأي العام بأي أوراق ممكنة حتى لو كانت فاقدة للمصداقية.
ومن ثم سيكون من التلفيق غير اللائق بل ومن الغباء ألا نرى في الفيلم قصة الأب الإسرائيلي التوراتي «يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم» التي قدمت بوضوح شديد، مع بعض التحوير الطفيف هنا وهناك لتلافي ما يمكن حدوثه من عواقب إزاء المفاهيم السائدة، ولتلافي ما قد يطرأ من مساءلة قانونية لإيجاد عدد من المخارج الممكنة عندما تبدأ ردود الفعل، ومن نماذج ذلك تقديم عدد إخوة بطل الفيلم «رام»، المفترض أنهم الأسباط إخوة يوسف في عدد مخالف لما قدمته التوراة، أو مثل تحوير موقف إلقاء يوسف في بئر «جب» إلى إلقائه في الحجرة السفلية لسفينة مصرية لكن فتحة الغرفة كانت موحية تماما بالبئر أو الجب، هذا إضافة إلى مخالفة السيناريو والقصة للخاتمة التوراتية، فتتم عودة بطل الفيلم من مصر إلى بلاده البدوية رغم موت بطل القصة التوراتية وتحنيطه ودفنه في مصر على الطريقة المصرية، حتى يمكن بذلك إيجاد المخرج بالقول: إن الأمر مجرد رؤية فنية تجسد رحلة المخرج وهجرته إلى أمريكا ثم عودته إلى بلاده ، وأن الأمر فقط كان استلهاما لبعض المواقف النبوية إزاء المغريات الدنيوية.
وربما جاز للمشتغلين بالنقد الفني أن يضعوا لنا مصادرة في شكل مقدمة ثابتة لا تقبل نقاشا، وهي أنه لا يجوز التعامل مع الفيلم إلا بالمعايير الفنية وحدها، فالفيلم فيلم وليس بحثا تاريخيا، أو عملا فقهيا، لكن الحال هنا سيختلف تماما مع فيلم المهاجر لعدد من الأسباب الواضحة والمهمة التي لا يمكن تجاوزها لصالح الموقف الفني وحده، حيث اشتبك الفيلم مع عدد من المسائل شديدة الحساسية وتداخل معها إلى الحد الذي لا يسمح بالوقوف عند أدوات النقد الفني وحده ومعاييره في التعامل مع الفيلم، وقد جاء اشتباك الفيلم مع غير الفني على ثلاثة مستويات.
صدمة الذاكرة
المستوى الأول هو مستوى الحالي، الآني الراهن، حيث بدأ التطبيع العربي مع الدولة الإسرائيلية يسير حثيثا مع متغيرات كبرى بالمنطقة، «واختيار قصة يوسف بن يعقوب» تحديدا في هذا الوقت، وبالصورة التي عولج بها، تحمل أكثر من علامة استفهام حول مقاصد الفيلم الذي تلامس مع ما يريد في نقاط التقاء كاشفة واضحة، في أكثر من لقطة وأكثر من ترميزة.
فالعجز الجنسي لقائد الجند المصري يكشف في وجهه الآخر عن القول المأثور بحاجز نفسي، إضافة إلى أنه يعبر عن عجز القوة والقدرة إزاء الشاب المهاجر القوي المليح وعلاقته بالزوجة الشابة، ثم كانت زراعة الصحراء بوضع يد المصري في يد المهاجر الغريب التي تشي ببساطة بنصيحة واضحة: لنضع أيدينا مع بعضها، نزدهر وننتج ونخضر الصحاري، وهو الأمر الذي لا يمر دون التأكيد عليه في الحوار، فهذا المزارع المصري «أوزير» يتعاون مع «رام» المهاجر في زراعة الصحراء، وعندما يتقدم «رام» ليشكره يجيبه المصري: «كلنا محتاجون لبعض.» أو في نص آخر بالحوار ينضح بالغرض المفصح في استهجان «رام/يوسف» للمصريين الذين لم يقبلوه مواطنا رغم طول إقامته بينهم ويلقي باستنكاره هذا مفصحا عن إجابة السؤال: كيف لا نقبل إسرائيل بيننا بعد جيرتها لنا زمنا؟!
على أية حال هذا مستوى من مستويات الاشتباك مع الراهن، يوعز بأنه ربما تأسس بشكل ذكي وخبيث على نص ديني، بحيث يفضح «يوسف شاهين» بقصد أو بدون قصد مدى التناقض الذي يقع فيه «القوموي العروبي» مع نفسه عندما يؤمن بعقائد تسلم بهذه القصة التي تسفه المصريين تماما وتاريخهم لصالح الإسرائيليين، وتجعل من الإسرائيليين الحكمة كلها والطهارة كلها والعفة كلها وتجعل من المصريين رموزا للحمق والشهوانية والدنيوية الفجة.
إن الفيلم يضع العقل العروبي أمام تناقضه، فهو يؤمن بأديان تدين تاريخ المنطقة القديم لصالح التاريخ الإسرائيلي بينما يرفع شعارات النضال والتحرير من النهر إلى البحر! إن الفيلم يصنع هنا ما يمكن تسميته «صدمة الذاكرة» أو صدمة الإيمان لأولئك الذين لم يحاولوا حتى الآن فك الاشتباك بين الديني والقومي. وإذا كانوا يرفضون التطبيع بظاهر وعيهم فإنهم يؤسسون القومي لديهم على الديني، والديني أشد تطبيعا وطراوة مع بني إسرائيل الذين فضلهم الله على العالمين.
ولا أحد يكابر أن المأثور الإسلامي كمثال كان دوما إلى جانب الإسرائيلي ضد كل حضارات المنطقة فكان مع يوسف بن يعقوب وموسى بن عمران وبقية بني إسرائيل ضد مصر وحضارتها وشعبها وحكامها، وكان مع شاءول/طالوت أول ملك إسرائيلي، ومع داود مؤسس الدولة الإسرائيلية، ضد جالوت/جوليات البطل الفلسطيني الذي مات وهو يدافع عن أرضه ضد الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني لبلاده، وكان مع أبيهم إبراهيم أرومة القبيلة العبرية ضد العراق القديم وحضارته ممثلا في شخص ملكها النمرود. وكان مع البدو العبران جميعا ممثلين في جدهم الأسطوري سام بن نوح ضد كل حضارات المنطقة ممثلة في حام بن نوح وأبنائه كنعان الفلسطيني ومصرايم المصري ونمرود العراقي.
حضارة موت
إن الوسيلة التي استخدمها الفيلم كانت شديدة الذكاء، لكن الغرض والهدف كان إلى جانب إجابة واحدة فقط على السؤال الذي يحتمل إجابات أخرى كثيرة. ومن ثم كان الفيلم يتساءل: إذا كان هذا هو ما نؤمن به فلماذا نتناقض معه؟ لماذا بصريح العبارة لا نطيع إذن؟ غافلا عن إجابة أخرى أصر عليها كاتب هذا المقال دوما تتمثل في ضرورة فك الاشتباك بين الديني والقومي إذا أردنا الاتساق مع أنفسنا ومع قضيتنا ومع آمالنا الوطنية والقومية.
وهكذا كانت التلميحات والترميزات الواضحة مدعاة للوقوف مع تلميحات أخرى يمكن أن يرى فيها المشاهد العربي بخاصة المصري في الظرف الراهن؛ لونا من تسفيه الإنسان المصري صاحب الحضارة التي شاخت في فيلم شاهين، وأخذت في التهاوي إزاء العبراني الطموح المتوثب للمعرفة والعلم. وعليه جاء الفيلم بتركيزه على القول: إن حضارة المصريين قد تم تكهينها وإن مصر قد حبست علومها داخل الجدران المسحورة للمعابد، وتحولت من حضارة حياة إلى حضارة موت، لا تهتم إلا بالتحنيط وبما بعد الموت، وكانت مشاهد «حرق الزرع» تصويرا لشعب أنعم الله عليه بالنهر والخصب، لكنه كان شعبا همجيا، يحرق آلاف الأفدنة في صراعاته، بينما رام العبراني يكرس حياته ليزرع سنبلة في الصحراء! أما تركيز الفيلم على الأقزام وإيداعهم أمانة لدى رام، فكان رمية أخرى موجعة للمصري القزم إزاء العبراني الأمين، هذا ناهيك عن الرمز الواضح في تحويل النهر نحو الصحراء لزراعتها، وكيف أمكن لرام بذلك الفرع الضئيل أن يزرع الصحراء.
وكان على شاهين أن يدرك أن المشاهد العادي لا يعلم أن القزم كان محببا في بيوتات الارستقراطية المصرية، وكانت تلك البيوتات تستجلبهم من أفريقيا للخدمة البيتية والترويح الفكاهي، حتى جعل المصريون للأقزام إلها هو الإله القزم «بس». ونعم كانت العلوم داخل المعابد، ونعم اهتم المصري بالتحنيط وبالموت اهتماما عظيما، وكان يمكن أن يمر ذلك بهدوء، باعتباره تصويرا للحياة المصرية في الزمن القديم، لكن أن يتم ذلك داخل إطار قصة إسرائيلية تتحدث عن تفوق الإسرائيلي الطموح في قصتها الأصلية أو في الفيلم فهو أمر آخر لا يمكن معه افتراض حسن النوايا!
ومن ثم يلقي الفيلم برؤيته «التطبيعية» في عمق التاريخ وفي أصول الدين ليجذرها ، فيركن بدهاء إلى القصة الدينية التوراتية التي وزرت يوسف خزانة المصريين، ويقدم لنا «رام» مكتشفا لأسلوب تخزين الحبوب في سنوات الجفاف التي استبدلها بحرق المحاصيل، ليذهب إلى ما هو أبعد من التطبيع. إنه يلمح إلى إدارة المنطقة بالعقل الإسرائيلي المتوثب المتفوق، عندما يسلم قائد الجند لرام جنوده وبلاده وأرضه ليكون أمينا على خزائنها ومستثمرا لها وراعيا!
مرة أخرى نعود إلى أسباب التعامل مع الفيلم على مستويات غير المستوى الفني وحده، في اشتباك الفيلم على مستوى ثان مع الديني والإيماني، وعندما فعل ذلك خرج من دائرة الفني وحده، حيث جعل مرجعيته ملكية عامة لجماهير المؤمنين في الأديان الشرق أوسطية الكبرى الثلاثة؛ فشخص يوسف بن يعقوب مقدس في اليهودية باعتباره أحد آباء القبيلة الإسرائيلية الأوائل، وهو مقدس في الإسلام لذات السبب بحسبان المسيح بدوره من ذات النسل الإسرائيلي المبارك، ثم هو مقدس في الإسلام لذات السبب، ثم لسبب آخر هو أنه أضاف ليوسف صفة النبوة، وهي ليست ملكية عامة فقط، بل ملكية مقدسة، ومن ثم فقد خرج الفيلم من دائرة الفني ليخوض في الديني، فوضع نفسه في موقع التعامل معه على هذا الأساس. ليس هذا فقط، بل إن الفيلم اختار لنفسه رؤية دينية دون أخرى، فحدد لنفسه بذلك موقفا من الروايات الدينية حول يوسف، وهو ما يضعه أمام مسئولية اختياره.
رواية التوراة
والواضح تماما أن المخرج حتى لا يقع في مأزق المحاكمات الإسلامية، فقد ركن إلى الرواية التوراتية حول الأب يوسف، بدليل إيراده المنمنمات وتفاصيل لم يذكرها القرآن إطلاقا، وإنما ذكرت تفصيلا في التوراة، وذلك مثل قصة رئيس الشرطة «فوطيفار» الذي اشترى يوسف الموصوف بجمال فاتن، والحب الشديد من «فوطيفار» ليوسف الصبي، ومن ثم لجأت التوراة لتطويش فوطيفار ووصفه بأنه كان خصي فرعون، وهو ما لم يذكره القرآن الكريم إطلاقا.
وكم كان بإمكان السيد شاهين أن يتلافى كل ما حدث في المحاكم، لو طلع على المشاهدين بتقرير واضح يقول: «هذه قصة يوسف بن يعقوب، أحد الآباء الإسرائيليين الأوائل وعلاقته بمصر، كما جاءت بالتوراة.» ولا علاقة للفيلم بقصة يوسف النبي التي وردت بالقرآن الكريم، لكن المخرج ورط نفسه، إن كان قاصدا الإثارة التي حدثت أم غير قاصد، بوضعه لافتة إعلانية في مقدمة فيلمه باللغة العربية تؤكد أنه لا علاقة للفيلم بالنبي يوسف، وتحتها مباشرة لوحة أخرى باللغة الفرنسية تؤكد أن هذه القصة قصة البطرك يوسف!
ويبدو أن المخرج قد أراد أن يوصل للمشاهد أن تلك قصة الأب يوسف، لكن بشكل غير مباشر، ولأن أغلب المشاهدين مسلمون بالضرورة، فقد عمد إلى خلط بعض المفاهيم الإسلامية بالراوية التوراتية، مما أثار عليه المتأسلمين وأوجبوا محاسبته، وهو بسبيل ذلك أوقع نفسه في أكثر من ورطة وأكثر من خطأ حقيقي، فبينما قد اختار الرواية التوراتية، نجده يضع على لسان بطل قصته عبارات تعبر عن مفاهيم وعقائد إسلامية، لا علاقة لها بالمفاهيم التوراتية ولا عقائدها، وذلك مثل قول رام المعبر عن الإيمان بإله واحد أحد هو رب العالمين، وهذه سقطة لا تليق بمخرج يراه البعض أهم مخرجينا، وكان عليه أن يلجأ في ذلك للمتخصصين كي يعلم، فالمعلوم لدارس التوراة بالمنهج العلمي أن التوراة زمن البطاركة الأوائل: إبراهيم وولديه إسماعيل وإسحاق، وولد إسحاق يعقوب، ثم أبناء يعقوب الأسباط الاثني عشر وضمنهم يوسف، تتحدث عن زمان كانت فيه القبيلة العبرية لم ترتق بعد إلى مفهوم التوحيد الإسلامي الذي ساقه شاهين على لسان بطله رام، حيث كان التقديس والعبادة توجه إلى «إلوهيم»؛ أي الآلهة، وهو اسم الجمع للفظ الجلالة السامي المفرد «إيل»؛ أي الإله. ومن هذه الآلهة ما وردت بأسمائها في سفر التكوين التوراتي، مثل: إيل صبأوت، وإيل يراه، وإيل شداي، والإله القدير، وأدوناي، وغيرها، كما تمثل كبار الآلهة لإبراهيم في ثلاثة شخوص، ثم جاء بعد ذلك إله آخر زمن موسى هو الإله «يهوه» الذي لم ينف الآلهة الأخرى، بل أوجب على الإسرائيليين تقديسه وحده دونهم، وكان الخطاب الموسوي في التوراة ليهوه يقول: «من مثلك بين الآلهة يا رب؟»
وربما لم يقصد شاهين تلبيس الرواية التوراتية بمفاهيم إسلامية، إنما التبس عليه الأمر ، مع التطور المتأخر للمفاهيم الدينية اليهودية زمن الأنبياء المتأخرين حزقيال ودانيال وإرميا، حيث بدأ هؤلاء ينحون نحو توحيد يهوه وحده وتنزيهه، فظن شاهين أن الأمر كان كذلك منذ البدء.
ومثال آخر على الالتباسات التي وقع فيها السيد شاهين، قوله على لسان رام بطل الفيلم بما يشي بإيمان يوسف بن يعقوب بعالم آخر تخلد فيه الأرواح، وأن الجسد الذي يعمد المصريون تحنيطه ليس أبدا قيمة في مسألة الخلود، وهنا خلط ما بعده خلط، وخبط ما بعده خبط؛ لأن الإسرائيليين الأوائل منذ فجر تاريخهم وحتى القرون الأولى للميلاد، لم يعتقدوا إطلاقا في خلود للروح في عالم آخر، وأن الشعب الأوحد في ذلك الزمان الذي ابتدع فكرة الخلود من بعد الموت، والبعث والحساب أمام موازين العدالة الإلهية، هو الشعب المصري وحده مطلقا ودون شريك؛ لذلك عمدوا إلى تحنيط الأجساد حتى تجد فيها الروح سماتها المادية عند البعث، فتعود وتتلبس جسدها المحنط استعدادا للحساب الأخروي، وهو ما ركز عليه الفيلم واعتبره حطة في المصريين! وقد مرت تلك الفكرة بأطوار عدة شرحناها في كتابنا «أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة»، ولم يدخل عليها أي تطور بعد نهاية العصور الفرعونية.
ولما جاءت المسيحية وأخذت بعقيدة الخلود، استبدلت فقط رب الخلود المصري «أوزيريس» بيسوع المسيح، ثم جاء الإسلام فأقر عقيدة الخلود، ولم يخرج عن التصور المصري للبعث والحساب، فقال بضرورة عودة الروح لتتلبس بالجسد، وكان الفارق هو أن المصري القديم اهتم بتحنيط الجسد لتجد الروح قسماتها فيه، بينما اعتبر الإسلام أن فناء الجسد ليس مشكلة بعد تطور مفهوم الألوهية إلى إله كلي القدرة، حيث يصبح بإمكانه الكلي أن يحيي تلك العظام الرميم مرة أخرى، وهو اعتقاد سبق تطويره والقول به في الزمن السابق للإسلام بجزيرة العرب، وهو ما تفصح عنه أشعار الجاهليين حول الخلود والحشر.
أما التوراة فلم تقل أبدا ببعث أو حساب ثم خلود زمن البطاركة، زمن يوسف، ولا بعد ذلك بقرون طويلة تصل إلى الألف عام، حتى زمن أنبياء التجديد عند انهيار مملكتهم. وقد ظهر الاعتقاد في عالم آخر آنذاك بتأثير العقائد المصرية والفارسية في فلسطين في العصر الهلليني الروماني، المعروف بعصر الآلام، حيث بحث اليهود عن تعويض وسلوان في عالم آخر، ومن هنا يظهر مدى فساد الحوار في فيلم السيد شاهين.
ورواية جوزيفيوس
وعليه فقد التبست كل تلك المتداخلات على السيد شاهين ، فخلط وخبط خبطا عشوائيا. ليوقع نفسه والآخرين في مأزق كان في غنى عنه لو درس الأمر بشكل أفضل، المهم أنه ساق الأمر كله في ثوب تاريخي أسهمت فيه الكاميرا والديكورات بعامل الإبهار، لنعيش جوا مصريا فرعونيا على مدى زمن الفيلم. هذا بينما التاريخ كعلم لا يعرف في وثائقه المدونة ولا في حفائره الأركيولوجية على الإطلاق، شخصا باسم يوسف، ولا جماعة باسم الأسباط ولا صديقا للإله باسم إبراهيم، ولا نبيا باسم موسى، ولا عظيما باسم داود، ولا حكيما حاز شهرة فلكية ملك على مملكة أسطورية باسم سليمان. فكل تلك الأسماء الإسرائيلية لا يعرفها التاريخ كعلم، فقط حكاها لنا كتاب مقدس باسم التوراة في كتاب العهد القديم، وآمن بها المسيحيون من بعد اليهود عبر كتاب مقدس آخر هو العهد الجديد، ثم علمناها إيمانا عبر الكتاب المقدس الأخير القرآن الكريم.
لكن ذلك لم يفت في أعضاد المؤرخين، خاصة من أرادوا أن يجدوا لبني إسرائيل موطئ قدم في التاريخ، وقد بدأت تلك المحاولات مبكرا على يد المؤرخ اليهودي يوسف بن متى المعروف باسم «جوزيفيوس»، الذي ألقى بتاريخ القبيلة البدوية الإسرائيلية في عمق أعرق تاريخ المنطقة، تاريخ الشعب المصري، وهي الرواية التي ركن إليها السيد شاهين واختارها دون روايات أخرى ومحاولات اجتهادية تاريخية أخرى، حاولت البحث التاريخي وراء المأثور الإسرائيلي، وهو الاختيار الذي يجب أن يتحمل مسئوليته لتتم بموجبه محاكمة ما ساقه، ليس على المستوى الفني وحده، لكن أيضا على المستوى التاريخي.
وحتى نضع بيد القارئ أصول المسألة، نقف وقفة نحيطه معها علما أن «جوزيفيوس» كتب عدة مؤلفات تتعلق بتاريخ الإسرائيليين، منها كتاب باسم «ضد آبيون»، وكان آبيون هذا مؤرخا يكره اليهود كراهية شديدة، ووصفهم بكل ما هو خسيس، وأفاد أنهم دخلوا مصر عبيدا جوعى ثم طردوا منها، بعد أن تفشت بينهم الأوبئة الناشئة عن عدم النظافة والعلاقات الجنسية غير السوية، ولم يتعلموا أي شيء متحضر من المصريين، مما أدى لطردهم خشية تفشي الداء في البلاد.
وهنا قام اليهودي «جوزيفيوس» يرد على «آبيون» ليقول: إن بني جلدته دخلوا مصر ملوكا لا عبيدا، وأنهم من عرفهم التاريخ باسم الهكسوس، وأنه استقى ذلك الخبر من المؤرخ المصري «مانيتون»، الذي عاش حوالي عام 300 قبل الميلاد، وأنه بعد الثورة التي قام بها «أحمس» ضد الهكسوس، أخذ منهم عددا كبيرا من الأسرى، عاشوا عبيدا في مصر بعد ذلك حتى زمن الفرعون «أمنوفيس/أمنحتب الثالث» وولده «أخناتون»، حيث قام هؤلاء العبيد بثورة ضد الفرعون «أمنوفيس» هربوا على إثرها من البلاد، وهو الهروب الذي سجلته التوراة في سفر الخروج، وقد اتضح لنا اعتماد يوسف شاهين على تلك الرواية من إشارته في فيلمه إلى دخول «يوسف بن يعقوب/رام» إلى مصر زمن الفرعون «أمنوفيس/أمنحتب»، وهذا قول «جوزيفيوس» اليهودي، وقد تعمد أن يظهر خلف الفرعون «أمنوفيس» شخصا يشبه إلى حد بعيد ولي عهده أخناتون، وجعله يتصرف بطراوة جعلته يظهر في حالة ميوعة أو تخنث ألقت في روع البعض آنذلك مزيدا من تشويه المصريين، لكن شاهين كان يريد القول إن ذلك الشخص تحديدا هو «أخناتون»؛ لأن تلك كانت صفاته الناتجة عن مرضه العضال، إن شاهين كان طول الوقت يريد التأكيد على وجهة نظر تاريخية بعينها، هي وجهة نظر «جوزيفيوس».
ولكن الأكثر أهمية هنا، هو أن شاهين وهو يأخذ برواية اليهودي «جوزيفيوس» وحدها، ويستبعد ما عداها، وقع في أكثر من خطأ حتى في فهم ما قال «جوزيفيوس»، حيث إن «جوزيفيوس» جعل دخول اليهود مصر مع يوسف هو دخول الهكسوس زمن فرعون باسم «توتيمايوس»، وأن طردهم من مصر تم زمن الفرعون «أموزيس/أحمس»، وأن من بقي منهم أسيرا بمصر تم استعباده حتى خرج زمن الفرعون «أمنحتب الثالث» وولده «أخناتون»، ولم يفهم السيد شاهين أن هناك فارقا زمنيا طويلا بين الدخول والخروج، وأن الدخول عند «جوزيفيوس» جاء في زمن قديم، وأن قصة الدخول إلى مصر كانت قصة يوسف، أما الخروج فهو قصة موسى زمن أمنحتب وولده «أخناتون» فيما يزعم «جوزيفيوس»، وكان موسى حفيدا بعيدا للسبط لاوي شقيق يوسف بعد زمن بعيد من الدخول.
وهكذا خلط شاهين بين أول القصة وآخرها، وخلط بين يوسف وموسى، وبين الفرعون «توتيمايوس» وبين الفرعون «أمنحتب» وولده «أخناتون»، وكان الأولى به ما دام قد قرر أن يخوض غمار التاريخ ويتبنى وجهة نظر دون أخرى، أن يجهد نفسه في المعرفة، أو يرجع لذوي الاختصاص، كما يفعل الفيلم الأوروبي والأمريكي عند التعرض لمسائل من هذا النوع، لكن السيد شاهين احتسب ما لديه من معارف كافية للتعرض لمثل هذا الأمر الكبير، فطرح ما تصوره حلولا لإشكاليات عميقة أدت به إلى أخطاء عظيمة، فلم يصل إلى مواقف صحيحة، لا على المستوى الديني، ولا على المستوى التاريخي، بل إنه حتى لم يوفق في عرض وجهات النظر التي انحاز إليها عرضا أمينا كما حدث في تناوله لتاريخ «جوزيفيوس».
أحبوا إسرائيل!
وأثناء ذلك عن للسيد شاهين أن يضيف للقصة الدينية ملمحا تاريخيا تصور أنه يرفع من شأن جماهير الشعب المصري فصور ديانة الإله آمون، وقد أصبحت ديانة دولة متجبرة ظالمة، وأن إرهاصات الثورة الشعبية ضد الفرعون والحكومة قد بدأت، وأن الشعب المصري قد آمن بديانة التوحيد الآتونية، فقام بثورة جماهيرية ضد الحكومة وضد الإله آمون لصالح آتون الواحد، وقدم قمة العمل في مشهد مبهر لجماهير الشعب وهي تكسر تمثال آمون العملاق، متصورا بذلك أنه يمنح جماهير المصريين مزية معرفة الإله الأوحد.
وبما أننا نعلم أن أخناتون هو صاحب ديانة التوحيد الآتونية، فالمعنى أنه كان يتآمر على أبيه أمنحتب الثالث مع الجماهير الموحدة، وهكذا يتحول المصريون نحو التوحيد بتولي أخناتون للحكم بعد نجاح الثورة الآتونية ويتحول نظام الحكم المصري من العداء للعبرانيين ممثلين في رام، إلى أحبة وأشقاء في حب الله الواحد، فهذا موحد، وهذا موحد، والشعب موحد، فلماذا لا يكون هناك توحد ؟ وفي مشهد مؤثر ينزل الفرعون أخناتون عن عرشه ليحيى رام وهو عائد إلى أهله بحب شديد، ويزجيه عبارات المودة والتقدير، والمغزى مفهوم والهدف واضح، حيث خالف السيد شاهين كل ما تعارف عليه علم التاريخ لصالح الراهن التطبيعي، ولعب فيه لصالح الهدف المرتجى، ليلتقي الموحدان بالوجد والإيمان، أخناتون ويوسف ، ليلقي بظله على الحاضر، ووحدوا الله وصلوا على النبي، وأحبوا بعضكم بعضا، ويا موحدي العالم اتحدوا، فبعضكم مسلم موحد، وبعضكم يهودي موحد، وكل من له نبي يصلي عليه.
المصريون والإسرائيليون في التوراة وفي التاريخ1
من استهلاك الوقت أن نتحدث عن مصر في التاريخ، والكلام بشأنها من نوافل القول، فشأنها معلوم وأنشر من أي حديث، حتى أصبح من فساد الرأي أن يؤرخ باحث لأي علم من العلوم دون الرجوع إلى أصول تلك العلوم في مصر القديمة، هذا في مجال العلوم، وفي ميدان التاريخ كعلم، أما في ميدان الاعتقاد، وفي الصحائف المقدسة، فلها شأن عظيم أيضا، لكن بوضعها ذلك البلد الضال أهله، الذي تأله حاكمه، فكفر، فوصم مع شعبه بأنهم من المجرمين؛ لذلك استحقوا أن يكونوا من المغرقين، بقرار من «يهوه» رب التوراة، وبضربة من عصا إعجازية دمرت الزرع والضرع في وادي النيل، قبل أن تطبق البحر المفلوق على من بقي منهم، أليسوا مجرمين؟
أما إسرائيل فهي عمدة المقدس وعقدته الجامعة، هي المحور منه والقلب الخافق، فهي شعب مقدس، فضله الله على العالمين، سلسلة من النجباء الأنبياء المطهرين؛ فالأب نبي ينجب نبيا، في سلسال توارث النبوة كما توارث أرض فلسطين، خير خلف عن خير سلف، فكانوا في المقدسات هم المقدمين على غيرهم من الأمم الضالة، جدهم البعيد هو إبراهيم الخليل، وآباؤهم إسحاق، ويعقوب الملقب بإسرائيل، وبنوه بنو إسرائيل الأسباط المكرمون، ومنهم يوسف الصبي الفاتك الجمال الذي توزر على خزانة المصريين، وعلم خبراء الزارعة ومهندسيها في مصر، كيف يواجهون قحط السنين، ومن بعده جاء «موسى» أعظم أنبياء إسرائيل، ويغص التاريخ المقدس بعد ذلك بسيرة أولئك الهداة المطهرين، فهذا «شاءول» يقيم لهم دولة في فلسطين، ليترك تأسيسها وتعميدها لداود الملك وولده سليمان، بينما أصبح ذلك الأخير سيدا على مملكة عظمى تغنت بها كتب الدين وكتب الأساطير، فتسلط على الوحوش والهوام والجن والعفاريت، وأصبحت إسرائيل في زمانه أغنى الدول، حتى كانت الفضة في الشوارع مثل التراب (بتعبير التوراة)، أما في المأثور الإسلامي فكان أحد أربعة ملوك ملكوا العالم الأرضي من أقصاه إلى أقصاه.
هذا شأن إسرائيل في مأثورات الدين، لكن الغريب والمشكل الحقيقي أمام هذا الرتل العقائدي الهائل، أن التاريخ كعلم، يعلم يقينا تاريخ مصر بحفائره وعلمائه وأركيولوجيته، بأعلامها الآثارية الشاهدة، كما انتهى ترتيب أوضاعها الزمني عبر أسرات ودول، من مينا موحد القطرين مرورا ببناة الأهرام إلى التحامسة ثم المناتحة فالرعامسة حتى الشناشقة والبطالمة، فأرض مصر تفيض بالحفائر، غنية بالأحداث، لكن ذلك العلم نفسه، علم الحفائر والآثار، علم التاريخ، رغم الهوس الحفائري في إسرائيل الآن، يجد الأرض ضنينة بأي معلومة ذات شأن، فالتاريخ كعلم لا يعرف عظيما أقام لإسرائيل مملكة باسم «شاءول»، ولا يعلم بشأن محارب ذي بأس أسس لإسرائيل قوميتها باسم «داود»، ولم ترد في وثائقه بالمرة أية إشارة لملك حكيم حاز شهرة فلكية باسم «سليمان»، كما لم يسمع أبدا ولم يسجل في مدونات مصر ولا في مدونات الدول المجاورة، خبر جيش الدولة العظمى وهو يغرق في بحر تفلقه عصا، وإطلاقا لا يدري شيئا عن صبي جميل فتن نساء مصر وأذهلهن بجماله فقطعوا الأيادي وهن في الهيام به ساهمات. كلا لا يعلم التاريخ من كل ذلك شيئا ولو يسيرا، وكل ما يعلمه عن إسرائيل حكايات متناثرة عن شوارد قبائل من شذاذ الآفاق باسم «الخابيرو، العابيرو»، وإيماءة هنا ولفتة هناك تتحدث بإهمال عن جماعة باسم إسرائيل سحقتها كتائب الفرعون «مرنبتاح»، أو ما جاء في نصوص الرافدين عرضا عن مملكة باسم «عمري»، ربما ويحتمل ويظن ومن الجائز وقد تكون هي مملكة إسرائيل زمن ملكها «عمري» وابنه «آخاب». لكن الأسماء المعظمة المبجلة المفخمة في التاريخ الديني، فلا شيء منها البتة وقطعا في التاريخ كعلم.
الإسرائيليون يدخلون مصر
تقول التوراة - ولا يقول التاريخ هنا شيئا - إن أول احتكاك للبدو العبرانيين بمصر والمصريين، كان زمن الأب إبراهيم، الذي هبط مصر مع زوجته سارة هربا من القحط الذي حل بأرض كنعان، فحصل هناك على فضل عظيم وخير عميم، يأتي خبره في نص التوراة القائل عن هدية فرعون لإبراهيم: «فصنع إلى إبرام خيرا بسببها - أي بسبب سارة - وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال ... فصعد إبرام من مصر، وكان إبرام غنيا جدا في المواشي والفضة والذهب» (سفر التكوين، 12 و13).
ثم تحدثنا التوراة - ولا يحدثنا التاريخ - عن قصة الصبي الأخاذ في جماله «يوسف» ابن إسرائيل «يعقوب»، وقصة بيعه في مصر، وكيف أثبت مهارة إسرائيلية أوصلته إلى كرسي الوزارة، ليصبح الرجل الثاني في مصر بعد الفرعون، وكيف أرسل يوسف يستدعي أهله لينعموا بخير مصر كملجأ للإسرائيليين كلما قحطت بهم الحياة ولحقت بهم المجاعات.
لكن التوراة لا تخبرنا بالسبب الذي أثار حنق الفرعون التالي على العرش، إلى حد تسخيره ضيوف مصر في الأعمال الشاقة، عقابا لهم على أمر مجهول، ونحن نعلم أن «ماعت/العدالة/القانون الكوني» كانت تاج القانون المصري الدائم، ومن هنا يظن أغلب الباحثين أن الإسرائيليين لعبوا دورا مع الهكسوس الغزاة ضد المصريين، وتعاونوا مع أعداء البلاد فحقت عليهم النقمة، وتم أسرهم مع فلول الهكسوس الأسيرة بمصر.
وبدورنا نذهب مع هذا الظن، ونحتمل دخول يوسف وأهله مصر في عهد «أسيس» آخر الحكام الهكسوس على مصر، وهو ما يلتقي مع الاسم «عزيز» الذي جاء بالقرآن الكريم، خاصة أن الآيات كانت تتحدث دوما عن حاكم مصر باسم الفرعون، عدا زمن يوسف، زمن دخول الإسرائيليين إلى مصر، ناهيك عما سجلته التوراة عن سياسة يوسف في مصر أثناء السنين القحط السبع، حيث احتكر «الميرة» جميعا في خزائنه وباعها للمصريين الذي يموتون جوعا مقابل الاستيلاء على أرضهم ثم مواشيهم ثم أنفسهم هم ليتحولوا إلى عبيد لصالح الحاكم الهكسوسي، أما مشاعر المصريين تجاه هؤلاء الإسرائيليين فقد تبدت بوضوح في اعتبارهم الإسرائيليين نجسا يجب اجتنابه، وهو ما ورد جميعه في نصوص توراتية من قبيل: «اشترى يوسف كل أرض مصر لفرعون؛ إذ باع المصريون كل واحد حقله؛ لأن الجوع اشتد عليهم، فصارت الأرض لفرعون، أما الشعب فنقلهم إلى المدن من أقصى مصر إلى أقصاها، فقال يوسف للشعب إني اشتريتكم اليوم وأرضكم للفرعون» (سفر التكوين، 48). وفي نفس السفر كان يوسف يقول لإخوته: «جواسيس أنتم، لتروا عورة الأرض جئتم.» وكان ينصحهم دوما بالابتعاد عن المصريين؛ «لأن كل راعي غنم رجس عند المصريين» (سفر التكوين، 46).
الإسرائيليون يخرجون من مصر
هذه حكاية التوراة عن الدخول إلى مصر، فماذا عن الخروج؟ تقول التوراة: إن موسى قد ولد في مصر إبان أزمة الإسرائيليين بمصر، والقصة معروفة، فقد ربي في القصر الملكي، وتبنته ابنة الفرعون وأكرمت مثواه، لكن الصبي يكبر فيقتل مصريا تعصبا لبني جلدته، فيطلبه القصاص وتطارده العدالة، فيهرب إلى مديان بسيناء، حيث يلتقي هناك برب سينائي يدعى «يهوه» على هيئة نار في عليقة، ويحمل منه أوامر صريحة لبني إسرائيل، ليخرجوا من مصر تحت قيادة موسى إلى فلسطين، وعاد موسى إلى مصر بتلك الأوامر، وبالعصا الثعبان، مع وعد إلهي يقول: «الآن تنظر ما أنا فاعله بفرعون، فإنه بيد قوية يطلقهم، وبيد قوية يطردهم من أرضه، أنا أعطيهم أرض كنعان أرض غربتهم» (سفر الخروج، 6).
وتتتالى الأحداث فيضرب موسى بعصاه النيل ليتحول دما، وتصير مصر خرابا، ثم يضرب بعصاه ضربات متتالية، فتمتلئ مصر بالضفادع والبعوض والذباب والطاعون والجراد مع برد وظلام، ثم يهبط الرب يهوه بنفسه لتحقيق الضربة الأخيرة بقتل أطفال المصريين، وذلك في النص «وقال موسى: هكذا يقول الرب: إني نحو منتصف الليل، أخرج في وسط مصر، فيموت كل بكر في أرض مصر؛ من بكر الفرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الجارية التي خلف الرحى، وكل بكر بهيمة، ويكون صراخ عظيم في كل أرض مصر» (سفر الخروج، 11). «وفي تلك الليلة كان صراخ عظيم في مصر؛ لأنه لم يكن بيت ليس فيه ميت» (خروج، 12). ولم ينس الإسرائيليون عادتهم في الخروج من مصر بالخير الوفير، فقد «فعل بنو إسرائيل بحسب قول موسى، طلبوا من المصريين أمتعة فضة وأمتعة ذهبا وثيابا، وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين حتى أعاروهم، فسلبوا المصريين، فارتحل بنو إسرائيل من رعمسيس» (خروج، 12).
ثم تأتي الضربة الحقيقية لإفناء المصريين، في رواية التوراة عن قيام ملك مصر وجيوشه بمطاردة الفارين بالذهب، حيث أدركوهم عند البحر، وهنا تحدث المعجزة الكبرى «ومد موسى يده على البحر، فأجرى الرب بريح شرقية شديدة كل الليل، وجعل البحر يابسة وانشق الماء فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم، وتبعهم المصريون ودخلوا وراءهم، فمد موسى يده على البحر، فرجع البحر عند إقبال الصبح إلى حاله الدائمة، فدفع الرب المصريين وسط البحر» (خروج، 14). ويتوجه الخارجون من مصر إلى فلسطين ليغزوها ويحتلوها ويقيموا لهم هناك دولة، تلك الدولة التي قيض لأحد ملوكها «سليمان» أن يحوز في مقدسات المنطقة شهرة لا تضارع، ومع ذلك فقد قال «ه. ج. ويلز» ونقل عنه الباحثون العرب مثل د. أحمد سوسة ود. أحمد شلبي قوله: «أما الوصف الذي اعتاد الباحثون ترديده عن اتساع وامتداد حدود مملكة سليمان، فيعده أكثر الباحثين من قبيل المبالغات التي درجت عليها دويلات تلك العصور، والحقيقة أن مملكة سليمان التي تبجحت التوراة بعظمتها كانت أشبه بمحمية مصرية مرابطة على حدود مصر، قائمة على حراب أسيادها الفراعنة، وكان سليمان يريد أن يجاري الفراعنة في البذخ والظهور بما هو فوق طاقاته وإمكانياته الاقتصادية، فأثقل كاهل الشعب بكثرة الضرائب، ولما عسر على سليمان أن يحتل أرض فلسطين الساحلية طلب معونة فرعون مصر، فأرسل جيشا مصريا صغيرا احتلها وسلمها له مهرا لابنته.» ثم يتساءل: «كيف صور كتبة التوراة مملكة سليمان في صورة تفوق الواقع بكثير؟ فسليمان لم يكن وهو في أوج مجده إلا ملكا صغيرا يحكم مدينة صغيرة، وكانت دولته من الهزال وسرعة الزوال بحيث لم تنقض بضعة أعوام على وفاته، حتى استولى شيشنق أول فراعنة الأسرة الثانية والعشرين على أورشليم.» ثم يتابع قوله: «إن أمور مصر في عهده كانت مرتبكة فخفت هيمنتها على فلسطين وبلاد الشام، وكانت أمور الدولة الآشورية مرتبكة كذلك، وقد منح هذا لسليمان شيئا من الحركة والنشاط والتبسط في ممارسة السيادة، أما ما جاء عن قصة ملك سليمان وحكمته التي أوردها الكتاب المقدس، فقد تعرضت لحشو وإضافات على نطاق واسع، على يد كاتب متأخر شغوف بالمبالغة، في وصف رخاء عصر سليمان، مولها بتمجيد حكمه، وقد استطاعت هذه الرواية أن تحمل العالم المسيحي بل والإسلامي على الاعتقاد بأن الملك سليمان كان من أشد الملوك عظمة وأبهة، لكن الحق أنه إذا قيست منشآت سليمان بمنشآت تحتمس الثالث أو رمسيس الثاني أو نبوخذ نصر، فإن منشآت سليمان تبدو من التوافه الهيئات، أما مملكته فهي رهينة تتجاذبها مصر وفينيقيا، وترجع أهميتها في معظم أمرها إلى ضعف مصر المؤقت.»
ماذا يقول التاريخ؟
وهكذا يتضح أن الباحثين عندما يريدون الحديث عن أحداث التوراة حديث المؤرخين، يضطرون إلى المقارنات والاستنتاجات، بالنظر إلى أن تاريخ مصر، على كثرة ما اكتشف منه، لا يشير إلا لماما في لمحات سريعة إلى القبائل البدوية، بينما تتحدث التوراة بالتفاصيل عن مصر وملوكها ومدنها وطبائع أهلها، مما يشير إلى معرفة واضحة من جانب الإسرائيليين بشئون مصر والمصريين، وهو أمر طبيعي تماما؛ حيث إن وضع إسرائيل كقبائل هامشية ما كان يشغل حيزا هاما في المدونات المصرية، بينما كان المدون الإسرائيلي لا يستطيع إغفال مصر.
المهم أن أول ذكر لإسرائيل في مدونات مصر، جاء في قصيدة منقوشة على لوح تذكاري من الجرانيت الأسود، أقيم في معبد الملك «مرنبتاح» الجنائزي، والقصيدة تتغنى ببطولات الملك وانتصاراته، حيث تقول: «الأمراء منبطحون أرضا يصرخون طالبين الرحمة، وليس بين الأقواس التسعة من يرفع رأسه، لقد دمرت أرض التحنو (ليبيا)، وخاتي (تركيا) هادئة، وكنعان قد استلبت بقسوة، وعسقلون تم الاستيلاء عليها، وجازر قد أخذت، وينوعام أصبحت كأن لم تكن، وإسرائيل أقفرت وليس لها بذر، وخورى (أرض فلسطين) عدت أرملة لمصر.»
وقد وقف علماء كثر مع هذا النص واعتبروه دالا على حدث الخروج من مصر، حيث ترد كلمة إسرائيل في نصوص مصر لأول مرة، واعتبروا الفرعون «مرنبتاح» هو فرعون موسى والخروج، بينما ذهب آخرون إلى أن النص يتحدث عن حرب شنها مرنبتاح على عدد من الشعوب خارج مصر، وأنه هاجم أراضيهم وضمنها إسرائيل.
هذا كل ما ورد من التاريخ التوراتي المهول في تاريخ مصر «إسرائيل أقفرت وليس لها بذر ». ويبدو أن الأمر لم يكن يستأهل الفخار به والإطالة بشأنه قياسا على أعمال الفرعون الأخرى، فاكتفى بتلك الإشارة السريعة، التي قامت عليها ألوف الأبحاث في جامعات العالم، مقارنة بالتوراة، ولم تزل.
أما قول «ويلز» السالف: «إن إسرائيل كانت مجرد دويلة رهينة لمصر، وأنها كانت تابعا متقدما في آسيا للفراعنة.» فهو استنتاج يطابق أحداث التاريخ، وما ورد في تاريخ
في حال أي تمرد أو عصيان، مع تركهم على أحوالهم، ويحكمون فقط بوال من قبل الفرعون غالبا ما يكون منهم، مع بعض كتائب مصرية لمنع أي شغب.
وتتحدث التوراة عن زمن حكم «رحبعام» بن الملك سليمان، ولم يمض على موت سليمان خمس سنوات، فتخبرنا بشأن حملة قام بها فرعون مصري باسم «شيشق» على دولة يهوذا في فلسطين، حيث تقول: «وفي السنة الخامسة للمك رحبعام صعد شيشق ملك مصر إلى أورشليم، وأخذ خزائن بيت الرب وخزائن الملك، وأخذ كل شيء، وجمع أتراس الذهب التي عملها سليمان» (سفر ملوك أول، 14).
وهو الخبر الذي يلتقي مع الوجود التاريخي لفرعون باسم «شيشنق»، وبأخبار لحملة قام بها على فلسطين، مع جدول بالمدن التي هاجمها، لكن دون أن يذكر كلمة إسرائيل إطلاقا ولا كلمة يهوذا ولا حتى أورشليم، وهو ذات الفرعون الذي قالت التوراة: إنه كان صهر سليمان، وأن سليمان طلب منه مساعدته للاستيلاء على مدينة جازر الفلسطينية الساحلية، فأرسل إليه شيشنق بضعة كتائب مصرية احتلتها له وتركها له هدية، وقد عثر مؤخرا في مجدو على نصب تذكاري أقامه شيشنق هناك تذكارا لحملته على المملكة السليمانية بعد موت سليمان، وهو الأمر الذي يشير إلى أن سليمان كان تابعا مخلصا لشيشنق، كما يشير في جانب آخر إلى عصيان ما ارتكبه ولده «رحبعام» بحق الفرعون فاستحق التأديب.
ومن المعلوم أن مصر ظلت ترعى فلسطين وتزودها بالميرة أيام القحط والجفاف، كما ظلت ملجأ آمنا لأهلها عند أي خطب أو غزو خارجي، وهو بالضبط ما حدث زمن هجوم الملك الكلداني نبوخذ نصر على يهوذا، حيث لجأ أهلها بالألوف المؤلفة إلى مصر، التي استقبلتهم بالترحاب زمن الفرعون «واح اف رع» المسمى باليونانية إفريس (587-568ق.م) أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين، وهو ما حكته التوراة في الإصحاح 25 من سفر ملوك ثاني، وتأكد بوجود جالية يهودية تعيش بعد ذلك في جزر الفنتين جنوبي أسوان بمصر.
وتحكي لنا التوراة عن معركة بين مصر وأشور وقعت في بلاد الشام، مما يشير إلى خروج الجيوش المصرية للدفاع عن بلاد الشام ضد غزو آشوري، وتقول التوراة إن ملك إسرائيل «يوشيا» اعترض طريق الفرعون نخاو ليمنعه عن نجدة سوريا، فاضطر الفرعون إلى قتل الملك الإسرائيلي، كما اضطر بعد ذلك لأسر ابنه «يهوآحاز» الذي تخابر مع الآشوريين، وتم ترحيل الملك الإسرائيلي «يهوآحاز» إلى مصر، وهي رواية سفر الملوك الثاني بالإصحاح الثالث والعشرين، ولا نجد في مدونات التاريخ نظيرا للرواية، لكنا نجد ما يصادق عليها، حيث تم العثور على لوح عليه نقش ورسم وكتابة عن شخص باسم «يوده ملك» وترجمتها «ملك يهوذا»، وتعود إلى زمن الفرعون نخاو، وهو ما جعل المؤرخون يتأكدون أنه بعينه الملك الإسرائيلي الأسير «يهوآحاز».
وبينما كانت التوراة تصف مصر بأنها «جنة الرب أرض مصر»، حيث الراحة والهدوء والرخاء والدعة، نجد أيوب النبي يحلم بأيام مصر «قد كنت مضطجعا الآن ساكنا، كنت نمت مستريحا، مع ملوك ومشيري الأرض، الذين بنوا أهراما لأنفسهم» (أيوب، 3)، وفي سفر الخروج نجد الإسرائيليين يعانون الجوع بسيناء، فيحتجون على موسى معبرين عن ندمهم لترك أسر مصر قائلين: «ليتنا كنا بمصر، جالسين إلى جوار قدور اللحم.» وهي كلها الأمور التي تفسر ما استقر في نفوس الإسرائيليين تجاه المصريين، متمثلا في نبوءات ترد لمصر الجميل.
نبوءات التوراة لمصر
في الأزمنة الأخيرة لإسرائيل، زمن أنبياء إرميا وإشعيا، وقبل زمن من تدمير الهيكل على يد طيطس الروماني وتشتيتهم في بقاع العالم، وقف أنبياء إسرائيل على عتبات النهاية، يتنبئون بعودة المجد السليماني وقيام دولة إسرائيل مرة أخرى، وأنها حينذاك ستسود العالم، لكن قيامها كان يشترط أولا وأخيرا خرابا تاما لمصر، وإذلالا لها، وهو ما يفصح عن التكوين النفسي والعقلي ومدى التشوه الذي لحق بنفوس القوم تجاه مصر.
يقول إشعيا في الإصحاح التاسع عشر من سفره: «وحي من جهة مصر، هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر، يذوب قلب مصر في داخلها، تنشف المياه من البحر، ويجف النهر وييبس، وتنتن الأنهار، والرياض على النيل على حافة النيل، وكل مزرعة على النيل تيبس وتتبدد ولا تكون، في ذلك اليوم تكون مصر كالنساء، فترتعد وترتجف من هزة يد رب الجنود التي يهزها عليها، وتكون أرض يهوذا رعبا لمصر.»
ثم يؤنب إشعيا بني جلدته الذين يلجئون إلى مصر وفيئها في الملمات، بقوله في إصحاحه الثلاثين: «ويل للبنين المتمردين يقول الرب، الذين يذهبون لينزلوا إلى مصر للمعونة؛ ليلتجئوا إلى حصن فرعون ويحتموا بظل مصر، فيصير لكم حصن فرعون خجلا، والاحتماء بظل مصر عارا.»
أما النبي إرميا في الإصحاح 46، فقد وقف يعبر عن مكنون كل إسرائيلي تجاه مصر في قوله: «أخبروا مصر، واسمعوا في مجدل، واسمعوا في نوف «منف» وفي تحفنحيس، قولوا انتصب وتهيأ الآن؛ لأن السيف يأكل حواليك، نادوا هناك فرعون ملك مصر هالك، نوف تصير خربة وتحرق فلا ساكن، ها أنا ذا أعاقب آمون نو، وفرعون مصر، وآلهتها، والمتوكلين عليه.»
أما حزقيال النبي فلم يبخل على مصر وهو يوجه كلام الرب الإسرائيلي إلى الفرعون المصري المقبل، بالإصحاح 29 حيث يقول: «ها أنا ذا المليك على أنهارك، أجعل من أرض مصر خربة مقفرة من مجدل إلى أسوان، وأشتت المصريين وأبددهم من الأرض.»
فلسطين وإسرائيل: الخلل في التوراة أم في التاريخ؟1
حدث هذا أوائل القرن الثاني عشر قبل الميلاد، عندما انقضت موجات بشرية على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، قادمة من جزر البحر الإيجي، كان أكبرها تلك التي اكتسحت العاصمة الحيثية «خاتوشاش/بوغاز كوى حاليا، تركيا» ودمرتها، لتتركها خرابا بلقعا إلى الأبد، ثم تزحف منها جنوبا لتقضي على «قرقميش/جرابلس حاليا شمالي حلب»، لتحتل بعدها «أوغاريت/رأسي شمرا الآن قرب اللاذقية»، ومن بعدها «أرواد»، لينحدر السيل الجارف جنوبا باتجاه حدود مصر الشرقية عبر سيناء، مترافقا مع جناح بحري لمهاجمة شواطئ مصر الشمالية، مصحوبا في الوقت نفسه بجناح ثالث هبط على السواحل الليبية ليهاجم حدود مصر الغربية، وكان ذلك الهجوم الثلاثي أكبر كماشة عسكرية تعرضت لها مصر.
ويحكي لنا «رمسيس الثالث» أحد المحاربين العظماء في التاريخ، أنه قد تصدى بجيوش مصر لهذا العدوان الثلاثي، وألحق به هزيمة مروعة في ثلاث معارك برية وبحرية، وكان ذلك عام 1180 قبل الميلاد. أما علم التاريخ فقد حاول تفسير وجود عناصر من هؤلاء المهاجمين على الساحل الفلسطيني بعد ذلك، يعيشون هناك في شكل ممالك مستقرة، بأن انكسار الهجوم البحري الكاسح للمنطقة، الذي جاء من جزر البحر الإيجي وعاصمتها «كريت»، قد انكسر على الحدود المصرية انكسارا شديدا، لكن الفرعون المصري المنتصر ترك لهم سواحل فلسطين ليقيموا بها، ويكونوا من رعايا الفرعون وجنوده، وفيالقه المتقدمة في آسيا.
أما «هيرودوت» أبو التاريخ، فيقول: إن هؤلاء المهاجمين هم من حملوا اسم «اليلست»، ويضيف المؤرخون من بعد أن هيرودوت اليوناني أول من أطلق على بلاد كنعان شرقي المتوسط اسم «بلسيتا» و«بالاستين»، نسبة إلى هؤلاء الغزاة «البلست»، لتحمل بعد ذلك اسم فلسطين.
موجات الهجوم
ويعلمنا علم التاريخ من وثائقه أن ذلك الهجوم الفلسطيني القادم من كريت والجزر الإيجية، قد هجم على منطقتنا في شكل موجات متتابعة، بعد أن شكلت قبائل بحر إيجة اتحادا قويا في نهاية 1300 قبل الميلاد، وأن أول تلك الموجات قد اضطر مصر إلى التخلي عن مستعمراتها في سوريا وفلسطين، وأن أول الموجات قد تمكنت تماما من احتلال ساحل فلسطين في زمن قياسي.
وكان أول ذكر في وثائق التاريخ لهؤلاء «البلست»، هو ذلك الذي نقرأه في وثائق الفرعون «أمنحتب الثالث 1397-1360 قبل الميلاد» ذلك الزمن الرخي الذي ضمت فيه مصر دول الشرق القديم تحت جناحيها، وتدفقت عليها الجزيات، منذ زمن الفاتح الكبير «تحتمس الثالث»، فكان عصر «أمنحتب الثالث» عصر رخاء عظيم.
وقد تلا الموجة التي وصلت زمن «أمنحتب الثالث 1397-1360 قبل الميلاد» ذكر لموجات أخرى كان تاليها تلك الموجة التي وصلت زمن «رمسيس الثاني 1292-1225 قبل الميلاد»، ويبدو أن المصريين قد أسروا منهم أعدادا كبيرة، حيث نجدهم بعد ذلك يعملون كمرتزقة في جيوش مصر باسم الشردانيين «نسبة إلى جزيرة سردينيا».
وعلى نصب عثر عليه في «صان الحجر» بمحافظة الشرقية، نجد حكايات عن سفن البلست الضخمة، ونقوشا تصورهم يلبسون خوذا ذات قرون، ويحملون دروعا مستديرة، ويمتشقون سيوفا طويلة ضخمة، وهو النصب الذي روى لنا كيف صد الفرعون «مرنبتاح بن رمسيس الثاني» هجومهم، ليردهم عن الحدود المصرية.
أما في فلسطين ذاتها، فقد نظم «البلست» أنفسهم عندما دخلوها، في هيئة ممالك صغيرة مستقلة في إدارتها، منها جرار وغزة وعسقلان وأشدود وجازر وغيرها، لكن ضمن اتحاد فيدرالي، مركزه الرئيسي مدينة أشدود، أما قوتهم العظيمة فتكمن فيما نعلمه من نصوص مصر ومن التوراة، أنهم صنعوا أدوات القتال من الحديد، وأن الحديد كان عندهم مادة اعتيادية ووفيرة، حتى إنهم صنعوا منه عجلاتهم المقاتلة.
وكل هذا إنما يعني ببساطة، القول: إن الفلسطينيين جاءوا المنطقة كعنصر دخيل، قادم من كريت وبحر إيجة، وهو أمر يشكل عمودا لأعمال بحثية كثيرة، تشكل الخلفية التاريخية للأحداث التي تجري في منطقتنا، منذ قيام دولة إسرائيل مرة أخرى في عام 1948م.
ماذا تقول التوراة؟
إذا التاريخ قال: إن الفلسطينيين جاءوا مهاجرين من كريت إلى فلسطين، ليستقروا بها زمن الفرعون «رمسيس الثالث» حوالي عام 1180 قبل الميلاد، أي بعد خروج بني إسرائيل من مصر بحوالي خمسين عاما، ومعلوم أن كبرى المدارس البحثية قد استقر رأيها على خروج الإسرائيليين من مصر زمن الفرعون «مرنبتاح ابن رمسيس الثاني» حوالي عام 1229 قبل الميلاد.
ومثل ذلك التاريخ وتلك التزمينات، تستتبع عددا من النتائج والدلالات، حيث تقول التوراة: إن الإسرائيليين قد سبق لهم أن استقروا بفلسطين قبل زمن الدخول إلى مصر بحوالي خمسة قرون، وهو ذلك الزمن الأسطوري الممتد من إبراهيم إلى إسحاق إلى يعقوب المسمى إسرائيل، وأنه إذا كان الإسرائيلي والفلسطيني وافدين على كنعان، غريبين عليها، فإن إبراهيم كان داخلها الأول، حيث سكن بين أهلها الكنعانيين وتكلم بلسانهم، وذلك قبل مجيء الهجرة الفلسطينية بحوالي ستة قرون كاملة.
هذا كلام، لكن التوراة نفسها لها كلام آخر وقول آخر فماذا تقول التوراة؟
أولا:
لقد جاء إبراهيم وأسرته الصغيرة إلى أرض تسميها التوراة أرض كنعان، قادما من موطنه «أوركسديم»، وأن إبراهيم قد تنقل في كنعان بين عدة مواضع، أهمها ذلك الموضع المعروف بمملكة «جرار» التي كان يحكمها ملك اسمه «أبي مالك»، وتصف التوراة تلك المملكة بأنها مملكة فلسطينية، وذلك في قولها: «وتغرب إبراهيم في أرض الفلسطينيين أياما كثيرة» (سفر التكوين، 21).
ثانيا:
يتكرر ذكر جرار بذات التوصيف في زمن إسحاق بن إبراهيم في قول التوراة: «فذهب إسحاق إلى أبي مالك ملك الفلسطينيين إلى جرار، وزرع إسحاق في تلك الأرض فأصاب في تلك السنة مائة ضعف، فحسده الفلسطينيون» (سفر التكوين، 26).
وهكذا، ومع إبراهيم أول رجل مهم في التاريخ التوراتي، نجد مملكة باسم «جرار» توصف بأنها فلسطينية، وهو ما يعني اعترافا من جانب التوراة بوجود العنصر الفلسطيني في فلسطين قبل زمن الأب إبراهيم بزمن أبعد، يسمح بإقامتهم ممالك مستقرة، ويصبح القول: إن «هيرودوت» أول من أطلق على أرض كنعان اسم فلسطين قولا مردودا بشهادة التوراة ذاتها، أما عند خروج الإسرائيليين من مصر، نجد نصا توراتيا صريحا يسمي أرض كنعان بكاملها، وليس جرار وحدها، باسم فلسطين، وذلك في قوله: «يسمع الشعوب فيرتعدون، تأخذ الرعدة سكان فلسطين» (سفر الخروج، 15). وفي نبوءة متأخرة للنبي اليهودي «صفنيا»، نجده يخاطب تلك الأرض بلسان رب اليهود قائلا: «يا كنعان أرض الفلسطينيين، إني أخربك بلا ساكن» (سفر صفنيا، 2).
وهكذا اكتسبت أرض كنعان اسم أرض الفلسطينيين زمن خروج الإسرائيليين من مصر، رغم أن الفلسطينيين كانوا عنصرا يقطن بساحل فلسطين ضمن عناصرها الأخرى، وقد حددت التوراة مساكن الفلسطينيين كمجموعة ممالك متحدة على الساحل، بترتيب يصعد من الجنوب إلى الشمال، بدءا من غزة على حدود مصر، وذلك في قولها: «من الشيحور الذي هو أمام مصر إلى تخم عقرون شمالا، تحسب للكنعانيين، أقطاب الفلسطينيين الخمسة: الغزي والأشدودي والأشقلوني والعقروني والعويين» (يشوع ، 13)، وفي قول آخر تمزج فيه التوراة بين الكنعاني والفلسطيني نجد: «وكانت تخوم الكنعاني من صيدون حينما تجيء نحو جرار إلى غزة» (تكوين، 10)، لكن الترتيب هنا كان من صيدا في الشمال إلى غزة في الجنوب.
وقد بات من المشكوك فيه عند الباحثين الآن، أن يكون الإسرائيليون الذين خرجوا من مصر، لهم علاقة بذلك الرعيل الأول المسمى بالبطاركة أو الآباء (إبراهيم، إسحاق، يعقوب، الأسباط)، ناهيك عن كون مسألة البطاركة برمتها - كما حكتها التوراة - تدخل في عداد الأساطير عند باحثين محترمين، إضافة إلى جلة محترمة من باحثين آخرين، يرون أن قصة إبراهيم والبطاركة الأوائل لون من الصياغة التي تمت متأخرة بعد الخروج لربط الخارجين بتاريخ قديم، لإلقاء تاريخ إسرائيل المقدس في عمق التاريخ القديم، وأن كل الأمر ربما تم بعد قيام مملكة داود في أورشليم، بتدوين إسرائيل في خضم تاريخ أعرق، وأبعد في القدم، من باب إيجاد موطئ قدم لإسرائيل في التاريخ القديم للمنطقة.
مصداقية التوراة وخلل التاريخ
لكن تظهر هنا مشكلة كبيرة، تثيرها مصداقية مدهشة للتوراة، من حيث تطابقها مع نصوص التاريخ الآثارية، حيث تنسب التوراة الفلسطينيين إلى أصول من جزيرة تسمى مرة «كفتور» ومرة «كريت»، وتسجل بهذا الشأن نصوصها من قبيل: «وهكذا قال السيد الرب: ها أنا ذا أمد يدي على الفلسطينيين، وأستأصل الكريتيين، وأهلك بقية ساحل البحر» (حزقيال، 25)، و«الرب يهلك الفلسطينيين بقية جزيرة كفتور» (إرميا، 47)، و«ويل لسكان ساحل البحر أمة الكريتيين، كلمة الرب تكون عليكم يا كنعان أرض الفلسطينيين» (صفنيا، 2)، وفي تعبير واضح لا يقبل لبسا يقول: إن بعض الهجرات تمت بفعل إلهي، يقول النص: «يقول الرب: ألم أصعد إسرائيل من أرض مصر، والفلسطينيين من كفتور ، والآراميين من قير؟» (رعاموس، 9).
وهنا المشكلة، والخلل بعينه، فإذا كانت رواية التوراة ككتاب في التاريخ قد تطابقت مع المكتشفات والسجلات الآثارية في هذه المسألة، وإذا كان كلاهما قد أكد قدوم الفلسطينيين من جزيرة كريت وبحر إيجة، فإن هناك خللا يتمثل في كيف نوفق بين قول التاريخ باستقرارهم على الساحل الفلسطيني في عهد الرعامسة، حول القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وبين وجودهم حسب التوراة في فلسطين قبل خروج الإسرائيليين من مصر، ناهيك عن قول التوراة بوجودهم زمن البطاركة الأوائل.
وبالحسابات يقول علم التاريخ: إن الفلسطينيين قد استقروا على سواحل فلسطين بعد أن سمح لهم رمسيس الثالث بذلك، أي بعد الزمن المفترض للخروج الإسرائيلي من مصر بحوالي خمسين عاما، وبحسابات التوراة نعلم أن الإسرائيليين أقاموا بمصر 430 عاما حسب الرواية العبرية المازورية، ويضاف إليهم أربعون عاما زمن التيه في سيناء، يكون المجموع 520 سنة كاملة، إضافة إلى حوالي سبعين سنة افتراضية بين إبراهيم وحفيده يعقوب، فيكون المجموع ستة قرون كاملة، هي الفارق بين تزمين المؤرخين للخروج وبين زمن الغزو البلستي التاريخي لفلسطين، وهذا إنما يعني وجود الإسرائيليين بفلسطين قبل وصول الفلسطينيين إليها بست قرون كاملة، وهو ما لا تقول به التوراة ذاتها، أليس ذلك خللا حقيقيا؟
والإشكالية في محاولة إيجاد حل يتطلب أحد فرضين، فإما أن نتأخر بعصر الرعامسة ستة قرون إلى الوراء قبل التزمين المتفق عليه حاليا بين المؤرخين، وهو ما سيترتب عليه إشكاليات كبرى، حيث سيلحق الخلل بكل تاريخ المنطقة، الذي تم تزمينه قياسا على تزمين التاريخ المصري، وإما أن نتقدم بزمن الخروج الإسرائيلي من مصر ستة قرون، أي يكون الخروج قد حدث عام 600 قبل الميلاد، وهو غير ممكن علميا؛ لأنه سيتضارب تضاربا صارخا مع حقائق تاريخية ثابتة، وتفصيلات شتى لا تسمح بهذا الجموح في الافتراض المستحيل.
إشكالية تبحث عن حل
نعود هنا مرة أخرى لزمن البطاركة الأوائل، وقول التوراة بوجود الفلسطينيين في ذلك الزمن الأسطوري، زمن إبراهيم وإسحاق ويعقوب، لندقق النظر مرة أخرى، فنجدها إطلاقا لا تذكر أرض كنعان إلا باسم أرض كنعان، ولا ذكر لفلسطين ولا لفلسطينيين إلا عند الحديث عن مدينة واحدة بالذات هي «جرار» التي يسكنها فلسطينيون، وهو ما يضعنا أمام واحد من احتمالين: فإما أن يكون الكاتب التوراتي لهذا الجزء من التوراة - والذي كتب متأخرا بعد الألف الأولى قبل الميلاد - قد استقر في ذهنه اسم فلسطين للدلالة على تلك الأرض، فاستخدمه في غير موضعه من الزمن وأطلق اسم فلسطين السائد في زمانه على أرض كانت تحمل فقط اسم كنعان في الزمن السحيق، وإما أن تكون جرار تحديدا ووحدها دون غيرها كانت موئلا للفلسطينيين زمن البطاركة، وأن الفلسطينيين قد سكنوها كجند مرتزقة أو جالية بموافقة الفرعون، وهو الاحتمال المرجح لدينا، حيث نعلم من التاريخ أن حيا بكامله شمال شرقي مصر قد حمل اسم «الحي الجزري» زمن الرعامسة، لسكنى الإيجيين فيه، وكانت جرار أقرب المدن الفلسطينية إلى الشيحور المصري الواقع شرقي الحي الجزري تماما، وقد سمي «الجزري» نسبة للجزر، وعبدت هناك آلهة غريبة تماما على مصر، تليق بالأغراب الملتحقين بخدمة الفرعون.
والأسباب في وضع الاحتمالين واستبعاد أن تكون فلسطين مسكونة بجنس البلست زمن البطاركة، هو كما قلنا إن التوراة كانت تصفها بأرض الكنعانيين، وأنها لم تصف أي مكان فيها بالفلسطيني سوى مدينة «جرار»، هذا إضافة إلى أن الأحداث التي رافقت زمن البطاركة لم يأت فيها ذكر الفلسطينيين إطلاقا في أي وثيقة تاريخية، لا في مصر ولا في أي من دول المنطقة ولا بفلسطين ذاتها، علما أن ذلك الزمن لحقته أحداث جسام، تمثلت في غزو الهكسوس لمصر، وتذهب جلة محترمة من الباحثين إلى أن دخول بني إسرائيل إلى مصر قد حدث زمن الهكسوس، وهو زمن ما كان يسمح بدخول البلست، حيث كان الهكسوس قوة كبرى تحتل مصر ذاتها وتقهرها، مع عدم وجود أي إشارة لفلسطين بهذا الاسم ولا لهجرة باسم البلست في أركيولوجيا ذلك الزمن.
لكن التوراة من جانبها تصر زمن الخروج على وجود الفلسطينيين في فلسطين كحقيقة واقعة، والأمر هنا ليس كما في عهد البطاركة حديثا عن مدينة واحدة ، بل عن مجموعة ممالك قوية ومقتدرة للفلسطينيين بشكل لا يدع سبيلا للشك فيه، بنصوص غزيرة كثيفة ومتعددة، تحدثنا عن قراهم وأسماء زعمائهم، بل وشخصيات هامة من بنيهم، وقواد عسكريين، وشكل أسلحتهم، وحروبهم مع الإسرائيليين عند دخول الأرض، وعباداتهم، وآلهتهم، مما يشير إلى أن الفلسطينيين كانوا قد أصبحوا حقيقة مسلما بها في فلسطين ، حتى إنهم أعطوا أرض كنعان اسما جديدا هو أرض الفلسطينيين، وأن ذلك قد حدث أثناء تواجد الإسرائيليين في مصر.
محاولة حل
رغم أن آخر النظريات وأكثرها اعتمادا في الأكاديميات العالمية، تلك التي تقول باضطهاد الإسرائيليين في مصر زمن الفرعون «رمسيس الثاني»، وبخروجهم من مصر في عهد ولده الفرعون «مرنبتاح»، فإننا لا نعلم كيف وجد هؤلاء السبيل، «مثل بروغش، وبيير مونتيه، وغيرهم»، كيف وجدوا السبيل إلى التوفيق بين ذلك وبين الحقيقة التي تؤكد مجيء الفلسطينيين واستقرارهم على الساحل الكنعاني زمن «رمسيس الثالث»، أي بعد خروج الإسرائيليين من مصر حسب ذلك التزمين بحوالي خمسين عاما، بينما التوراة التي تعد لدى هؤلاء مرجعا تاريخيا أساسيا في حسابات تزمينهم للأحداث، تقول إن الخارجين قبل خروجهم كانوا يطلقون على الطريق السينائي طريق فلسطين، وعلى كنعان كلها اسم الفلسطينيين، وأنهم عندما وصلوا إليها وجدوا الفلسطينيين قوة قائمة في ممالك دخلوا معها حروبا طاحنة قبل أن يستقروا إلى جوارهم هناك.
ومن ثم لا يبقى أمامنا سوى اقتراح فرض لا ينزلق إلى الاصطدام بما استقر عليه علم التاريخ في تزمينه للأحداث وللأسر الحاكمة في مصر، إنما هو فرض يرجع قليلا بزمن الخروج إلى الوراء، فنحن نعلم أن أول الهجمات البلستية قد حدثت زمن «أمنحتب الثالث» 1405-1367 قبل الميلاد، وهنا نفترض نجاح تلك الهجمة واستقرارها على الساحل الفلسطيني، أي إننا بوضوح نستبعد الخروج زمن «مرنبتاح» 1229 قبل الميلاد، ونرجع به إلى تلك الفترة الواقعة زمن خلو العرش بعد سقوط «أخناتون ابن أمنحتب الثالث» الذي حكم بين 1367 و1350 قبل الميلاد، وهو الزمن المناسب للخروج؛ لأن زمن مرنبتاح كان زمن قوة مصرية تسيطر على فلسطين ذاتها، أما زمن خلو العرش بعد سقوط أخناتون فكان فترة ضعف تسمح بوقوع أحداث الخروج، ومهاجمة الخارجين لفلسطين التابعة لمصر، لكن ليجد الخارجون أن الفلسطينيين قد استقروا هناك زمن «أمنحتب الثالث» وربما قبله بقليل وأسسوا ممالكهم هناك.
وبالحسابات الافتراضية، نحن ندفع بزمن الخروج الإسرائيلي إلى الخلف إلى عام يقع قبل 1350 قبل الميلاد، وبإضافة زمن التيه في سيناء وهو أربعون عاما، فإن وصول الإسرائيليين إلى فلسطين يكون قد حدث حوالي عام 1310 قبل الميلاد، وبذلك نكون قد أرجعنا زمن الخروج مائة وعشرين عاما إضافية عن الزمن المفترض لخروجهم زمن مرنبتاح، وهو ما يعني أنهم قد دخلوا فلسطين قبل قرن من زمن الفرعون مرنبتاح.
وإن فرضنا هذا سيحل عددا من المشاكل الكبرى في التاريخ غير المحلولة حتى الآن، فسيحل أولا مشكلة وجود الفلسطينيين بفلسطين قبل الخروج الإسرائيلي من مصر، وثانيا سيعيد الاعتبار إلى المؤرخ المصري «مانيتون السمنودي» (القرن الثالث قبل الميلاد) الذي أثبت مصداقية عالية في كثير مما أورده، ومع ذلك استبعد ما ذكره عن الخروج زمن فرعون باسم «أمنوفيس» لصالح فكرة الخروج زمن مرنبتاح، استنادا إلى لوح مرنبتاح الذي يقول فيه إنه هاجم قوما باسم إسرائيل ودمر بذرتهم. وهنا بالتحديد يكمن الخلل في رأينا، حيث نحتسب أن لوح مرنبتاح كان يتحدث عن حملة تمت بعد خروج الإسرائيليين واستقرارهم في فلسطين، ضمن الحملات التأديبية التي كان يشنها الفراعين على مستعمراتهم، بينما «أمنوفيس» الذي ذكره مانيتو كفرعون للخروج هو النطق اليوناني للاسم المصري «أمنحتب» وكان أخناتون يحمل اسم «أمنحتب الرابع».
هذا ناهيك عن كون ذلك الفرض يجعل الخارجين من مصر، ربما كانوا أتباعا مباشرين لأخناتون كأول داعية للتوحيد في التاريخ، وهو ما يفسر التوحيد الإسرائيلي بعد ذلك، إضافة إلى حل معضلة كأداء كانت تقف دوما في وجه القائلين بالخروج زمن مرنبتاح، وتتمثل في أن التوراة قد أكدت أن الإسرائيليين عند غزوهم فلسطين، قد دمروا مدينة أريحا وأحرقوها بالكامل، وقد قامت بعثة حفائر بريطانية بقيادة العالمة الأركيولوجية «ك. كينون» عام 1950م، بإجراء حفائر في مدينة أريحا للكشف عن أي أدلة، تشير لتدمير أريحا، ومدى صدق الرواية التوراتية.
وقد تأكد للبعثة البريطانية أن أريحا قد دمرت بالفعل، لكن في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وهو ما شكل معضلة لأصحاب نظرية الخروج زمن مرنبتاح؛ لأن أريحا تكون بذلك قد دمرت قبل زمن مرنبتاح بقرن من الزمان، وقد اعتمدت البعثة البريطانية في تزمينها لدمار أريحا، على ما عثرت عليه من جعلان وكسرات فخارية تحمل أسماء ملوك مصريين، حكموا خلال القرن الرابع عشر قبل الميلاد، هذا مع آثار الحريق المدمر، وآثار التهديم الذي تعرضت له أريحا.
ونقصد من هذا كله القول: إن العودة بزمن الخروج 120 سنة إلى الخلف، إلى فترة خلو العرش بعد سقوط أخناتون، يحل معضلة آثارية كبرى ومشكلة تاريخية حقيقية، ويتطابق موعد دمار أريحا مع موعد دخول الإسرائيليين إليها، كما يحل لنا مشكلة مستعصية تفسر وجود الفلسطينيين بفلسطين قبل دخول الإسرائيليين إليها، ولماذا حملت كنعان اسم أرض الفلسطينيين حتى في التوراة ذاتها، لكنها لم تحمل يوما اسم أرض الإسرائيليين، وهو الأمر الذي لم يزل بعد قيد البحث في كتابنا: النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة.
قدماء العرب والإسرائيليين1
رغم أن ذكر العرب في التوراة لا يظهر بوضوح كاشف، إلا مع الأحداث التي يفترض أنها دارت حوالي عام ألف قبل الميلاد، أي مع قيام مملكة إسرائيل التي أسسها «شاءول» ودعمها «داود»، ويعد مؤسسها الحقيقي «سليمان بن داود»، فإن ذات التوراة تذكر أمورا يمكنا أن نستنتج منها أن العرب أحد أقدم العروق في التاريخ، حسب شجرة الأنساب التوراتية، لكن من البداية يجب أن نقر أنهم هم أنفسهم لم يشعروا بوحدة جنسهم إلا في المرحلة القبل إسلامية مباشرة.
وفي السفر المعروف بسفر التكوين، أول أسفار التوراة، نجد ذلك الشخص القديم المعروف باسم «عابر»، وهو ابن شالح ابن أرفكشاد ابن سام ابن نوح، وتقول: إن «عابر» هذا كان أبا لفرعين أو عرقين من البشر؛ «العرق العبري» الذي جاء منه الإسرائيليون فيما بعد، وينتسب ذلك العرق «العبري» باسمه للأب «عابر»، وعرق آخر هو «اليقطاني» (نسبة إلى يقطان بن عابر)، ثم يستطرد النص قائلا: «ويقطان ولد الموداد وشالف وحضرموت وبارح وأوزال ودقلة وعيبال وأبيمال وشبا وأوفير وحويلة ويوباب، كل هؤلاء بنو يقطان» (انظر سفر أخبار الأيام الأولى).
وبإعمال النظر في أبناء «يقطان» ستجد أنها أسماء تشير جميعا إلى مواضع في الجنوب العربي «اليمن»، ومعلوم أن أسماء المواضع كانت تسمى بأسماء أشخاص كما هي عادة التوراة. كما أن اسم «يقطان» نفسه يحيلنا إلى نطقه العربي «قحطان»، ومن ثم فإن المقصود هنا هم العرب القحطانية سكان الجنوب اليمني. وقد رصد المؤرخون للعرب اسم «قحطان» كجد بعيد لقبائل عرب الجنوب مقابل «عدنان» الجد البعيد لعرب الشمال.
وسيكون المعنى أن حفيد نوح المعروف باسم «عابر»، كان الأب المشترك لكل من العبريين في جانب، والعرب الأقحاح «القحطانية» في جانب آخر، ولنلحظ أن المفردات «عابر» و«عبري» و«عربي» تعود جميعا إلى جذر لغوي واحد، كما أن «عربي» بالقلب اللساني تصبح «عبري».
الخط العبري في الجزيرة
ويمتد خط النسل من عابر حفيد نوح ليصل إلى إبراهيم الخليل، وتوضح التوراة أن إبراهيم قد أنجب ولدين هما: إسماعيل وإسحاق، وأن أسحاق أنجب ولده يعقوب المعروف باسم إسرائيل، وعنه تناسل الإسرائيليون، بينما على الجانب الآخر أنجب إسماعيل أولادا يحملون أسماء واضحة العروبية، منها قيدار، وتيماء، ودومة «دومة الجندل»، ونبايوت ... إلخ.
ومن ثم سنجدنا في جزيرة العرب، بإزاء خطين لعرقين منفصلين، عرق أصيل في الجنوب هو العرق القحطاني، والذي أطلقت عليه كتب السير والأخبار الإسلامية لقب العرب العاربة، أي العرب الأصيلة في العروبية، وعرق آخر جاء عبر إسماعيل «العبري» شقيق إسحاق وعم إسرائيل وابن إبراهيم، ونحن نعلم من كتب الأخبار الإسلامية، أن إسماعيل كان أب العرب الشمالية «من الحجاز فما نحو الشمال» المنعوتة بالعرب العدنانية، ومعلوم أيضا في ذات المأثور أن العرب العدنانية ليست أصيلة العروبية، إنما اكتسبت العروبية اكتسابا بنزوحها إلى الحجاز قادمة من الشمال؛ لذلك أطلق عليها التراثيون المسلمون لقب «العرب المستعربة»؛ أي التي استعربت ولم تكن من الأصل عربية، والمطالع لمأثورنا الإسلامي التاريخي، سيجد اتفاقا واضحا على أن إبراهيم وولده إسماعيل لم يكونا من العرب، إنما وفدوا على أرض العرب أغرابا عنها، وأنهما كانا يتحدثان السريانية، وبمعيشة إسماعيل بين العرب اكتسب اللسان العربي (!).
ولعله من الواضح سواء فيما أوردته التوراة، أو أوردته كتب السير الإسلامية، أن كليهما ليس إلا رجع صدى لأيام خوال وذكريات قديمة، تشير لعنصر عربي أصيل هو العنصر القحطاني، وعنصر غريب وافد هو العنصر العدناني، وأن الأول كان يسكن الجنوب اليمني، بينما استقر الثاني شمالا في الحجاز، وهو والأمر الذي يلتقي مع الواقع الجغرافي للجزيرة المنفتحة شمالا على ما جاورها، تستقبل هجرات وتدفع بأخرى، وهو ما يعني ثانيا أن سكان الجزيرة الأصلاء دوما خلال التاريخ البعيد، هم العرب الذين عرفوا باسم العرب اليقطانية أو القحطانية.
لكن الغريب في الأمر جميعه، أن يصبح حديث التاريخ المطول عن العرب العدنانية المستعربة، وساعد على ذلك قربهم أو انفتاحهم على الحضارات المجاورة «جغرافيا»، وهي الحضارات التي تركت مدونات سجلت لنا بعض ما يتعلق بعرب الحجاز العدنانية، حيث نجد في نصوص التوراة أن من ولد إسماعيل كان «قيدار» و«نبايوت»، ويبدو أن «قيدار» هذا سكن شمالا على تخوم الحضارات القديمة، بينما استقر «نبايوت» في أرض الحجاز، وقد رصدت نصوص بلاد الرافدين، وبخاصة نصوص الملك «آشور باني بعل» قصة صراع حدث بينه وبين قبيلة «قيدار»، كذلك رصدت التوراة صراعا آخر حدث بين ملوك دولة يهوذا والقيداريين، مما يشير إلى قيدار كقوة لا يستهان بها آنذاك، ويبدو أن القيداريين قد اشتغلوا بما أدر عليهم ربحا كثيرا جعل منهم قوة، ومضربا للمثل في الفخامة، وهو ما يؤخذ من سفر نشيد الإنشاد بالتوراة، المنسوب لسليمان، والذي تصف فيه شولميت «سلمى بالعربية» نفسها، بقولها تجملا: «أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم، كخيام قيدار، كشقق سليمان.» فساوت في الجمال بين خيام قبيلة قيدار العربية وبين شقق أو قصور سليمان المعروفة في التراث الديني بالفخامة إلى حد الأسطورية.
أما «نبايوت» فهو ما سجلته كتبنا الإخبارية باسم «نابت بن إسماعيل»، واحتسبته الأصل الحقيقي للعرب العدنانية التي استقرت في الحجاز، وكثر ذكره في أشعار العرب مما يشير إليه كحقيقة واقعة. ونموذجا لذلك شعر «عمرو بن مضاض الجرهمي» الذي يسجل صراعا حدث بين العرب القحطانية ومنهم قبيلته جرهم، وبين العرب العدنانية، ويشير إلى انتصار مؤقت للقحطانيين اليمنيين استولوا بموجبه على سيادة الحجاز بحيازة الكعبة المكية، وللاختصار نورد بيتين من ذلك الشعر القائل:
وكنا ولاة البيت من بعد نابت
نطوف بذاك البيت والخير ظاهر
ونحن ولينا البيت من بعد نابت
بعز، فما يحظى لدينا المكاثر
ولا تفوتنا هنا ملحوظة أساس، فنحن نعرف عن اليمن القحطاني أنه عرف الكتابة ودونها فيما يعرف بالخط المسند، لكن استمرار الغرابة، وللتاريخ أفاعيله، أن اللغة العربية الحالية لم تتطور عن أصول عربية قحطانية أصيلة، وإنما تطورت عن الخط النبطي الذي وجد مدونا في مملكة أنباط على حدود الجزيرة الشمالية، وهو ما يوعز بارتباط ما مع «نابت» أو «نابط» أو «نبايوت» ابن إسماعيل العبراني المستعرب، فعربيتنا الحالية هي الخط التطوري عن خط نابت أو الخط النبطي المستعرب وليس العارب.
أما الصراع بين العرب العاربة والعرب المستعربة، فيبدو أنه قد استمر طويلا، حول مكة بالذات، باعتبارها أهم محطة تجارية على الخط التجاري العالمي القادم ببضائع الهند وأفريقيا من اليمن إلى أرض الحضارات الشرق أوسطية، كما يبدو أن العرب الأصلاء ظلوا على انتصاراتهم وعدم تفريطهم للمستعربة حتى زمن «قصي بن كلاب»، الذي أقصى آخر قبيلة عاربة يمنية عن مكة، وهي قبيلة خزاعة، ليقرش عرب الشمال المستعربة تقريشا، أي يجمعهم ويؤلفهم ويوحدهم، ويأخذوا سمت السيادة العروبية في زمنه، وما تلا ذلك من أزمان.
لكن ما لا يفوت المدقق هنا، أنه قبل زمن تلك الأحداث بأزمان، ترقى إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، كان عرب الجنوب القحطانية، الحمر أو الحميرية، قد اندفعوا بهجرة كبرى من الجنوب نحو بوادي الشام ليستقر فرعهم المهاجر على سواحل المتوسط الشرقية بطول الساحل السوري اللبناني الفلسطيني، والذين عرفوا هناك باسم الكنعانيين أو الفينيقيين، وذلك قبل ظهور الفرع الإبراهيمي بكل خطوطه أصلا، وأن ذلك الفرع الإبراهيمي عندما هبط فلسطين تكلم بلسان كنعان، أو بشفة كنعان كما قرر سفر إشعيا بالتوراة، لكن اللسان كان قد تغير بمرور الزمن والمكان، وهو ما يعني أن التطور التالي للعربية عن العربية العدنانية النبطية أو النابتية، كان بضاعة عربية ردت للعرب بعد تحولات ومفردات كثيرة جديدة دخلت المعجم العربي الأصلي، جعلت الفارق بينا شاسعا، لكنه إشارة للأصل، ما دمنا نتحدث عن الأصول، ومن وجهة نظر أخرى يمكن القول إن ذلك جميعه كان إثراء للغة العرب.
أصول العرب العدنانية
هنا لا يملك الباحث إلا أن يقف مدهوشا أمام الترميزة الإسرائيلية التي تربط العنصر الإسماعيلي العدناني بالعنصر العبراني الإسرائيلي بصلات قرابية، وتعود بكليهما إلى أصول أولى واحدة، وحتى يمكن بدء المحاولة لفك الرموز، يجب البحث عن هجرة حدثت، كان اتجاهها قادما من دول الحضارات المجاورة لبوابة الجزيرة المفتوحة من الشمال، وأن تلك الهجرة لسبب أو لآخر قد اتجهت نحو عمق الجزيرة لتستقر أولا في شماليها، بينما يوغل آخرون من المهاجرين إلى الحجاز وما حواليه. وبشرط أن تكون تلك الهجرة قد تمت قبل عام ألف قبل الميلاد بمدة مناسبة، تسمح بظهور قبائل قيدار التي ذكرها سليمان وأسفار الكتاب المقدس التي تحدثت عن أحداث بداية الألف الأولى قبل الميلاد.
وهنا سنجد أمامنا ثلاثة احتمالات ترتبط بهجرات حدثت على التوالي؛ الأولى هي هجرة الهكسوس إلى المنطقة واحتلالها، واحتلال مصر ضمن مناطق أخرى، أما الثانية فهي خروج الهكسوس من مصر في هجرة مضادة عند طردهم منها، ثم تأتي الثالثة في خروج بني إسرائيل وبقايا أسرى الهكسوس من مصر أيضا، وقد حدثت الهجرات الثلاث في زمن متقارب وعلى التوالي، ويكاد الفارق بين الهجرات الثلاث يذوب عندما نعلم أن هجرة أساسية إلى داخل مصر ومنها إلى الخارج كانت لعنصر واحد هو الهكسوس، وأن هجرة بني إسرائيل بدورها لم تكن غريبة على الهكسوس، فهم، فيما تحت أيدينا من وثائق، ليس هنا مجال مناقشتها، أحد البطون القرابية لهؤلاء الهكسوس.
وقد سبق لنا وناقشنا مصدر الهجرة الهكسوسية في كتابنا «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول»، وأعدناها إلى المنطقة الكاسية الواقعة على الفرات الأعلى عند بحيرة فان «أرمينيا حاليا»، وأنهم الذين احتلوا العراق باسم الكاسيين، واحتلوا مصر باسم «ه-كاس» أو «الهكسوس» بأداة التعريف العبرية أو العربية الشمالية «ه». وقد كان الهكسوس عدة بطون وأفخاذ تزعمهم عنصر من بينهم، وقد دخل بنو إسرائيل في زمرتهم آخر سنين حكمهم في مصر ، وكانت الصلات القرابية والثقافية واللغوية مبررا كافيا ليرتقي أحد الإسرائيليين سدة وزارة المال والخزانة في مصر، وهو ما تمثله قصة يوسف بن يعقوب في التوراة. ومن بين عناصر الهكسوس تلك القبيلة التي حملت لقب «قاطعو الرقاب»، والتي كتبت بالمصرية «سا-جاز» «ه-كاس» أو «ه-كاز»، ويبدو أنها كانت القبيلة الزعيمة التي أعطت لجموعهم اسم الهكسوس، وربما كان الدكتور لويس عوض محقا في ربطة ذلك في إشارته إلى أنهم هم من أكسب الحجاز اسمه بعد طردهم من مصر.
وربما عن لنا أن نضيف هنا، أن الإسرائيليين الذين خرجوا من مصر بعد ذلك، متأثرين بعقيدة أخناتون التوحيدية، وعبادة إله أوحد كتبه المصريون «آتون»، وكتبه الإسرائيليون «أدون»، أي السيد/الرب، ربما كانوا هم أصل كلمة «عدن» في العرب العدنانية، حيث إن «أدون» أو «أدن» يمكن ببساطة أن تنطق «عدن» بلقب الهمزة عينا، وهو أمر وارد في الساميات، وربما أحلنا هبوط هؤلاء التابعين لعدن أو أدن جنوبا نحو جزيرة العرب، إلى الصراع الذي دار في قادش على حدود سيناء الشرقية، بين الخارجين من مصر، والذي لا شك أدى إلى انفصال اتجه بموجبه كل فريق وجهة تخالف الآخر، فاتجه أحدهم نحو فلسطين، بينما اتجه الآخر نحو الحجاز وهو الأمر الذي يفسر لنا ذلك المدهش في عمل على فهمي خشيم في كتابه «آلهة مصر العربية»، وهو الكتاب الذي قدم جهدا، للتدليل على أن اللغة العربية واللغة المصرية القديمة ليستا توءمتين، بل هما لغة واحدة، وقدم لنا معجما وافرا رائعا حقا، وهو ما يجعلنا نظن أن تلك الهجرة التي حدثت في مصر، بعد أن عاش المهاجرون في مصر نحو أربعة قرون ، اكتسبوا فيها عقائدها ولغتها، هي تلك التي عرفت بعد ذلك بهجرة العرب العدنانية إلى جزيرة العرب، خاصة وأن التوراة قد أشارت بما لا يدع مجالا للشك، أن لفيفا عظيما من المصريين، قد خرج مع الخارجين، وهم من نظنهم الأتباع المخلصين لعبادة «أتن» أو «عدن» الإله الواحد، وهم من نظنهم كانوا الطرف الثاني في صراع قادش مع الطرف الإسرائيلي الذي عبد «يهوه» إله البراكين والثيران في سيناء، وأنهم هم من اتخذ سبيله جنوبا إلى جزيرة العرب ليحملوا اسم العرب العدنانية، احتمالات نرجحها، وهي قيد البحث المطول بين أيدينا الآن في كتاب: «النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة»، ولا نعلم الآن هل سيؤيدها البحث أم سينفيها.
أما النبي إبراهيم نفسه فقد كان من المنطقة الكاسية التي قدمت منها هجرة الهكسوس إلى مصر، وبالتحديد من الولايات الآرامية أو الأرمينية؛ لذلك كان يعقوب «إسرائيل» يردد دائما «آراميا تائها كان أبي»، وهو التعبير الذي يشير إلى حركة انتقالية واسعة للأب إبراهيم ونسله في المنطقة.
وبعد، لا يغرب عن بال قارئنا أن كل هذا الحديث عن ذلك الموغل في التاريخ القديم، لا علاقة له بدولة إسرائيل الحالية، فلا علاقة البتة بين الشراذم المؤتلفة الآن في إسرائيل، والتي تجمعت من أنحاء مختلفة وأوطان شتى، لا يجمعها سوى العنصرية الدينية، وبين قبيلة بنى إسرائيل التاريخية من بني يعقوب، إن الموجودين الآن في إسرائيل ليسوا عنصرا ولا جنسا واحدا، إنهم فقط مجرد يهود، وعلاقة أي فرد منهم بأبطال التاريخ الإسرائيلي مثل موسى أو إبراهيم، لا تزيد عن علاقة مسلم من بلاد الصين بنبي الإسلام.
معارك فكرية
هل بنى الفراعنة الكعبة؟!1
تصحيح مغالطات
دأب د. سيد كريم على مطالعتنا بمجلة الهلال، بنظريته حول علاقة الديانة المصرية القديمة بديانات البدو الساميين، وبخاصة عقائد أهل جزيرة العرب، وهو رأي بحد ذاته يتسم بكثير من الصحة والوجاهة. وقد ذهبت كثير من المدارس العلمية إلى القول بتأثير مصر القديمة في عقائد جيرانها، وألف أصحابها في ذلك مؤلفات شتى، ولنا في ذلك مؤلف خاص حول عقيدة الخلود المصرية، بحسبانها النبع الأصيل لعقيدة الخلود، التي ظهرت بعد ذلك في ديانات حوض المتوسط الشرقي، بعنوان «رب الثورة: أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة.»
لكن التحفظ الأساسي على كتابات د. كريم يتأسس من البداية، على طريقة المعالجة، ومدى التزامه بشروط البحث العلمي ومنهجه، وعلى مدى صدق مقدماته التي كثيرا ما أدت إلى نتائج أكثر بطلانا منها. ولما كانت معالجة كل موضوعات السيد الدكتور المنشورة، إطالة لا حاجة إليها، لأنه يدور باستمرار حول فكرة واحدة وهدف واحد، فقد تخيرنا أخطر هذه الموضوعات، وأكثرها شمولا لأفكاره المكررة في مختلف كتاباته، وهو المعنون ب «قدماء المصريين وبناء الكعبة».
2
والغريب أنه رغم خطورة هذا الموضوع فقد مر مرور الكرام، ولم نسمع أو نقرأ عليه تعقيبا، على حد ما نعلم، مما أعطى السيد الدكتور الضوء الأخضر للاستمرار والمثابرة.
وواضح من البداية أني لن أكون مجاملا، وفق حسابات بسيطة تماما؛ أولها أن ميدان البحث العلمي ميدان لا يصح فيه لفارس تجاوز شروط الفروسية، وقواعد اللعبة، لتحقيق قصب السبق. وأعتذر عن استخدام تعبير «اللعبة»، في حديثي عن العلم وشروطه؛ لأن الموضوع برمته كان عند د. كريم مجرد لعبة. وثاني هذه الحسابات هو أن القارئ أمانة، والكلمة أمانة، وأول شروط البحث العلمي هي الأمانة، ورغم بساطة الحسابات، فإنها لم تترك لنا بصرامة حقوقها (وهي لوجه الحق، حق، وأحق أن تتبع)، أي فرصة للمحاباة أو المجاملة.
موجز الأمر
ويقوم مقال د. كريم على فكرة أساسية تسلطت عليه، مفادها: أن المصريين القدماء قد اكتشفوا مبدأ التوحيد في العقيدة الإلهية، منذ بداية الأسرات الفرعونية الحاكمة، وربما قبلها، ومن ثم قام يبني على فكرته قصة، ملخصها: أنه عندما قامت الثورة الكبرى في مصر القديمة ضد الملك، وضد الكهنة ورجال الدين، في نهاية الأسرة السادسة الفرعونية،
3
هرب كهان مدينة «منف» - ويزعم الكاتب أنهم قوم موحدون - إلى الجزيرة العربية، حيث اكتنوا هناك بالكنية «بني مناف»، أو أهل منف، بينما أطلق عليهم الفراعنة اسم «جرهم»، أي مهاجري مصر، وأن النبي إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) عندما ترك سريته «هاجر» مع رضيعها «إسماعيل» في جزيرة العرب، ووجدت نفسها وسط أعراب لا تعرف لغاتهم، لجأت إلى قبائل «جرهم» المصرية، الذين آووها، وأمكنها التفاهم معهم. وكان «بنو مناف أو الجراهمة» قد أقاموا في هذا المكان بيتا للرب هو «الكعبة»، على غرار كعبتهم المصرية التي تركوها في منف، وتعرف حاليا ب «هرم ميدوم »، ثم يلقي القول بذكاء: «وليس هناك من شك في أن زيارة جميع الأنبياء إلى الكعبة، ابتداء من سيدنا إبراهيم إلى إسماعيل وشعيب وموسى، قد بدأت جميعها بعد زيارتهم لمصر، وتفهم عقيدة التوحيد وإيمان المصريين بالبعث والحساب والآخرة وخلود الروح.» ثم يزيد فيقول: إن إشارة النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
أنه خيار من خيار، من خيار قريش، وأن قريشا من كنانة، فإن كنانة لم تكن قبيلة في جزيرة العرب كما كنا نتصور، إنما هي «مصر الكنانة»، وأن النبي
صلى الله عليه وسلم
يشير بذلك إلى أن أسلافه إنما كانوا مصريين.
والعجيب في أمري مع د. كريم، أني ألتقي تماما معه في القول بهجرة مصرية إلى جزيرة العرب، كانت سببا في نشوء اتجاه ديني هناك. وقد عالجت هذا الأمر في بحث خاص، كنت أود إرفاقه بهذا التعقيب لولا أنه سيضيف مساحة يضيق بها المتاح في عدد واحد، إلا أن أول ما يزعج أي عارف بتاريخ مصر هنا، هو قول د. كريم: إن الثورة المصرية ضد الملك والكهنة في نهاية الأسرة السادسة، هي التي أدت إلى هجرة أصحاب «منف» إلى جزيرة العرب. وقوله بصريح العبارة إنهم أصحاب عبادة الإله «رع». ومصدر الإزعاج هنا هو أن «منف» كانت مقرا لعبادة الإله «فتاح»، وليس «رع»، وأن الإله «فتاح» قد توارى في الظل مع مدينته «منف» بعد أن قام كهنة الإله «رع» بانقلاب ديني وسياسي في الوقت ذاته، واستولوا على الحكم في نهاية الأسرة الرابعة، وأسسوا الأسرة الخامسة الحاكمة، واستمروا في الحكم في الأسرة السادسة. وكانت مدينة الإله «رع» المقدسة، هي مدينة «أون» عين شمس الحالية، وليس مدينة «منف».
وبذلك تكون الثورة الشعبية التي قامت ضد الملوك والكهنة، قامت ضد ملوك وكهنة الإله «رع» في «أون» وليس في «منف»، ويكون الإله «رع» إله مدينة «أون» وليس إله مدينة «منف»، مما يشير إلى خلل خطير فيما قدمه السيد الدكتور لقارئه، أما إن أراد صدق المراد، فإن هجرة أهل «منف» تكون قد سبقت الثورة الشعبية بحوالي ثلاث قرون أو أكثر، عندما حدث الصدام بين «منف» و«أون»، أو بين أتباع «فتاح» وأتباع «رع»، الذي انتهى باستيلاء «رع» وأتباعه على سدة الحكم.
ومن هنا، فإذا كنا نلتقي مع السيد الدكتور في أمور، فإنا نخالفه في أخرى، وهي ليست مخالفة لمجرد المخالفة، إنما سيرا مع صحيح الأمور وتاريخيتها. أما أشد تحفظاتنا فهي تتعلق بمدى التزام الكاتب - أي كاتب - بالحياد والموضوعية وتحري الحقيقة، بحيث لا يميل مع هواه كل الميل، فيفسر النصوص على الرأي الخاص ليؤكد فكرته. ومن هنا، وتأسيسا على ذلك، سنناقش ما كتبه د. كريم بمعيار واحد، هو مدى التزام الصدق العلمي وشروط تحقيقه.
الآلهة المصرية
لقد كان جميلا من د. كريم أن يحاول اكتشاف جديد، يضيفه إلى مجموعة إبداعات وكشوف المصريين القدماء، فقام يختار «مبدأ التوحيد» ليضعه من بين أول الكشوف التي وصل إليها المصريون في «منف»، منذ بداية الأسرات وقيام الدولة المركزية، أي منذ حوالي خمسة آلاف عام مضت، وبذلك يؤكد في موضوعه أنهم كانوا أساتذة عرب الجزيرة في ذلك، عبر الأنبياء الذين زاروا مصر وتعلموا فيها التوحيد، ثم عادوا يعلمونه في جزيرتهم، وعبر الهجرة الكبرى لكهان «منف» بعد الثورة إلى الجزيرة.
والسيد الدكتور - لا شك بمقصده - يريد أن يرفع أكثر من شأن قدامى المصريين وينزع عنهم شبهة التعدد في العبادة. وهو في ذلك يبرهن على وفاء لمصر، وحب نادر المثال مشكور، لكن البحث العلمي شيء، ومعاني الحب والكره والوفاء أو عدمه، شيء آخر، لا مكان لها في قاموس البحث العلمي، ولعله لم يغب عن بال السيد الدكتور أن مصر العظيمة بإفضالها على الإنسانية، وبكشوفها في مجال الفكر والتحضر، ليست بحاجة إلى محاولات جديدة، كأن تكون أصل التوحيد الإبراهيمي، خصوصا أن المصدر الأقدم عن رواية النبي إبراهيم ورحلاته وعبادته (أقصد التوراة، وكانت المصدر الوحيد في ذلك حتى مجيء الإسلام)، ليس فيها ما يشير إلى عبادة واحدة، ولا تشير التوراة في قصتها عن النبي إبراهيم وعهده إلى إله واحد، بل إلى «إلوهيم»، أي مجموعة الآلهة. ولم نعرف عن النبي إبراهيم أنه كان موحدا إلا عندما جاء القرآن الكريم، وأوضح أن إبراهيم النبي هو أصل التوحيد الحنفي.
نعم ولا شك أن القول بكشف المصريين لهذا المبدأ الديني الذي يمركز العبادة في ذات واحدة، ينسب لهم قصب السبق في أمر هو من الفتوح المبينة، لكن المشكلة أن ذلك لم يحدث، وإن كان قد حدث فلم يحدث إلا بعد ذلك بقرون في عهد أخناتون على ما يزعم البعض. هذا إضافة إلى أن د. كريم لم يكن موفقا كل التوفيق وهو ويحاول ذلك.
ولعل أول ما يعترض مقولة د. كريم، القائلة: إن أهل «منف» في الأسرة القديمة أول الموحدين، هو أن المصريين القدماء لم يعرفوا التوحيد بالمعنى المطلق الذي عرفناه في الإسلام، (الذي يقصده د. كريم) طوال تاريخهم الديني الطويل، فكانت الآلهة تربو على المئات، «آلهة أقاليم، وآلهة مدن، وآلهة عواصم، وآلهة للدولة، وآلهة لقوى الطبيعة، وآلهة للملوك، وآلهة الشعب» تنطبع بوجه عام بالشكل الطوطمي الممثل في رأس الحيوان على الجسد الآدمي. وكان واضحا أن المصريين قد توقفوا عن تطوير شئون الآلهة، ولم تشكل المسألة بالنسبة لهم قضية شاغلة، بعد أن انصرفوا إلى أمرين: الأول هو البناء السياسي والحضاري وتأمين الحدود عسكريا والتقدم العلمي الدنيوي، والثاني: هو التجهيز لعالم آخر مقبل يجازى فيه الإنسان على ما أتاه من أعمال في دنياه. وكان هذا المبدأ الثاني بدوره مسألة حضارية ملحة، حيث يقوم التعامل الاجتماعي بمقتضاها على أسس خلقية تضمن للمجتمع سلامته وتماسكه وأمنه؛ كي ينصرف أكثر إلى شئون الارتقاء بدولته وبحياته الأرضية، هذا إضافة إلى العامل البيئي الذي ارتبط به التعدد وسنناقشه بعد قليل.
ولعل د. كريم لم يقصد بالتوحيد ما عرفه المصريون بإله الدولة، فهو لم يكن بالمرة توحيدا إنما اعتراف بسيادة «إله الدولة» على بقية الآلهة الإقليمية تدعيما لمركزية الحكم ليس إلا، وحتى هذا الإله السيد كان يتغير مع تغير الدولة الحاكمة، فهو بداية كان «حور»، ثم في الدولة القديمة «فتاح»، ثم «أتوم رع»، ثم في الدولة الوسطى الإله «آمين » أو «آمون» المندمج ب «رع»، بل وكان هذا الإله السيد يدخل باستمرار كضلع أكبر في أسرة ثالوثية «أب وأم وابن». وهو أمر طبيعي يتسق وفكر الإنسان في المراحل الأولى من تطوره، عندما كان يتصور الإله على شبهه ومثاله، ويسلك مثل سلوكه، ويتزوج، وينجب، ثم يدخل هذا التثليث في تتسيع، حتى كان لكل مدينة تثليثها وتتسيعها الخاص، ولم يكن الإنسان في باقي أنحاء المعمورة أكثر توفيقا من ذلك. فرغم استفادة اليونان والرومان من علوم الشرق وبخاصة مصر، وكان يفترض فيهم ارتقاء أكثر سيرا مع سنة التطور، ولما ورثوه من تراث ثقافي عن مصر، فإنهم فعلا تقدموا وكونوا إمبراطوريات عظمى، وأضافوا للإنسانية رصيدا جديدا، ومع ذلك كانت آلهة الأولمب بالمئات، إضافة إلى كم هائل من مغامرات الآلهة، كان يتلى هناك بكرة وأصيلا.
لكن يبدو أن د. كريم قد رأى في التعدد لدى المصريين مثلبة ونقيصة، تعيب بقية علومهم وفنونهم، فأراد أن ينزههم عنها، وغاب عنه أن ذلك كان أمرا طبيعيا سواء كان آلهة بالمئات، أم تثليثا أم تتسيعا. أم تسبيعا كما حدث لدى الرافدين من قدامى الساميين، ولم يكن له أي أثر مباشر في تخلف اجتماعي أو حضاري، بل كانت مصر رائدة في كافة الميادين العلمية، بينما كان الآخرون في بداءة بداوتهم ينعمون (من الأنعام) أو على الأصح يتمرغون، أيا كانت ادعاءاتهم، ولعله يعلم أن العالم المتقدم اليوم - سواء في الغرب الذي يعتقد بالتثليث، أو في الشرق الذي يدين بالاشتراكية العلمية - يسمى العالم المتقدم؛ لإنجازاته في العلوم الدنيوية. ولو قسناه بمنطق د. كريم، لكان أشد العوالم تخلفا. أو يصبح واجبا عليه إثبات أن الأمريكان والسوفييت موحدون! وهو أمر لا شك عسير.
التوحيد والتعديد
وكانت فكرة التوحيد في مصر فكرة طارئة، وحالة واحدة ونادرة، حدثت فيما يزعم بعض الباحثين، إبان حكم الفرعون الشاب «أخناتون»، وانطفأت سريعا ولم يمض عليه في الحكم سبعة عشر عاما، وانقضى أمرها وانتهى، بعد ثورة قضت على حكمه، ولم يعرف مصيره بعدها. ويذهب د. كريم وراء هذا المذهب - وهو في ذلك معذور - لأن ذهابه كان وراء الرأي السائد والاتجاه الغالب بين الجمهرة، ثم هو يضيف إلى حديثه عن التوحيد «الأخناتوني» لوحة جميلة للفرعون يسجد إماما وخلفه صفوف الساجدين. ولكن الذي لم يلحظه د. كريم وهو يدلل باللوحة على معنى التوحيد، أن السجود معروف في غالبية الأديان، لدى عباد مظاهر الطبيعة والوثنيين، وليس سمة خاصة بطقس الصلاة لدى الموحدين وحدهم، والعجب في أمر أخناتون (وليس بعجيب) أن تفرغه لعقيدته لم يجن على دولته الإمبراطورية سوى الانهيار، بعد أن انصرف عن شئون دولته الدنيوية، وما تحتاجه من فنون سياسية وعسكرية وإدارية إلى تصوفه وغيابه عن واقع دولته في غيبوبة غيبية، وبعد أن ترك له أجداده إمبراطورية تمتد من الجندل الرابع جنوبا في العمق الأفريقي، إلى تركيا وأرمينيا شمالا، إلى إيران شرقا. فقد حلت بركات الفرعون الشاب بعد أن تفرغ لشئون الدين، وصم أذنيه عن نداءات الاستغاثة التي كانت تصله من الحاميات المصرية في بقاع الإمبراطورية تباعا، والتي حفظتها لنا رسائل تل العمارنة. تجأر بطلب العون ضد الثورات الإقليمية التي أخذت تنهش جسد الإمبراطورية وتقتطعه جزءا فجزء، وصاحبنا لاه في دروشته الغيبية عن غرور الدنيا، حتى عادت مصر من بعده تنكمش داخل حدودها الدولية مرة أخرى.
4
لكن الأعجب من كل هذا هو الإصرار على أن «أخناتون» كان موحدا توحيدا مطلقا، وهو أمر يثير الشك، فمن يذهبون هذا المذهب، من أصحاب الرأي الذين تابعهم د. كريم؛ لأن التدقيق في منمنمات هذه العقيدة وفسيفسائها، يكشف أن كل أشعار أخناتون وأناشيده، تشير إلى اعتقاده الجازم أنه هو شخصيا ابن الإله «آتون»، وأن فيه قد حلت قدرات هذا الإله وبركاته،
5
كما أن هناك شواهد قاطعة على تقديس الثور المنفي في مدينة أخناتون، التي أطلق عليها اسم «أخت آتون».
6
أما الشك فمدعاته عندنا هو أن أخناتون قد تربى في طفولته خارج بلاده مصر عند أخواله الساميين في بلاد ميتاني
7 (كانت أمه سامية، ترجم اسمها عن المصرية تاي، ونرى صدق الترجمة ضي أو ضياء)، وأنه عاد إلى مصر عند موت أبيه ليتولى الحكم. ومن هنا كانت جنسيته مصرية، أما ثقافته فسامية. ويبدو أن ذلك هو الدافع الخفي الذي دفع الباحثين للتغاضي عن عبادة الثور في أخت آتون وتأليه أخناتون لنفسه، وإغفالهم المتعمد لذلك، بحسبانهم الساميين أصحاب الاكتشاف التوحيدي، بينما كل ما فعله «أخناتون» في رأينا هو محاولته تسييد إله سامي غريب على مصر، اعتاد عبادته في ميتاني هو المعروف باسم «أدونيس»،
8
أو باللسان المصري الأرق «أتونيس»، وأصله «آدون» أو «آتون».
ويبدو أن المصريين قد رأوا في ذلك خيانة لآلهة البلاد الوطنية التي عادة ما كانت ترتبط بمعنى المواطنة وبالوطن ذاته، ومن ثم كانت عبادة آتون خيانة عظمى، استوجبت الثورة على البدعة الوافدة، التي لم تكن ثورة من وثنيين مصريين متخلفين، على ديانة راقية بدوية سامية موحدة، كما حاولوا تصوير الأمر، واستحق أخناتون بعد ذلك أن يلقبه مواطنوه «مجرم أخت آتون»، أما تلاميذ المدارس فقد ظلوا زمانا يتدربون على كتابة مواضيع إنشاء عن «الخائن من أخت آتون».
9
ولعلي أكون مخطئا، وربما أكون مصيبا، عندما أطرح تصوري لمسألة التوحيد والتعدد في التاريخ الديني، مرتبطة بالظرف البيئي، لكنه اجتهاد شخصي يصح قبوله أو رفضه، ويقوم هذا التصور على الفصل والتفريق بين البيئة الزراعية النهرية، والبيئة البدوية الصحراوية؛ ففي البيئة الزراعية تتعدد أشكال الطبيعة ومظاهر الحياة تعددا ثريا هائلا، أنهار دافقة، شلالات، أحجار جامدة، شجر، طيور، حيوان نافع، حيوان ضاري، كائن ضخم قوي، حشرة ضعيفة، موسم خصب، موسم جفاف، أصوات وضجيج من كل نوع، سيمفونية نعرفها نحن أهل الوديان الخصبة، تضج بالنقيق والعواء والثغاء والتغريد والهدير.
وفي المقابل نجد البيئة الصحراوية ضنية بالشكل واللون والصوت، مظاهر الحياة محدودة جدا وتكاد تنعدم؛ فالصحراء تترامى أطرافها دون طارئ جديد، فهي رتيبة الوقع متشابهة دائما، مشهد واحد باستمرار، ولون واحد باستمرار، أصفر مسترخي يتمطى في كثبان ملتوية، وزمن هادئ التوقيع، نادر المفاجآت، والإيقاع الدائم تثاؤب وقيلولة في صمت ممتد أبدا. ومن هنا نزعم أن العامل البيئي أدى دائما بالبدو إلى نظرة مصبوغة بالتوحد والوحدانية، مقابل أثر التعدد الهائل للحياة وصخبها في الحياة النهرية الزراعية، مما دعا إلى اقتراب البدوي من معنى الواحد مقابل المتعدد عند المزارع.
ومع ذلك عندما كانت تتعدد المظاهر، كان البدوي يعدد، فهو مرة يعبد التيس، ومرة يسجد للصخر، ومرة يثور البركان فيسجد للبركان مرتعدا، لكنه كان التعدد البسيط السهل، بما لا يقارن بمظاهر بيئة المزارع الضجوج الخجوج المتغيرة المتلونة دوما، وما كان أسهل أن يكشف البدوي قيمة خروفه، وأهمية القمر في ليل الصحراء الصامت المفزع، فيقرن بين قرني الخروف وقرني الهلال فيسجد عابدا ويهتف الباحثون مهللين لقد تم التوحيد، وأصبح الخروف قمرا في أقنوم واحد!
مغالطات
ويبدو أن د. كريم لم تتقبل نفسه أن تكون هاجر مجرد جارية، منحها فرعون مصر للنبي إبراهيم ليتسرى بها، على ما جاء في التوراة، ولا نعلم هل كان ذلك ترفعا بها عن ذلك، أم ترفعا بالنبي عن معاشرة الجواري؟ وكلاهما كان واقعا في العهود الخوالي. فلم يكن هناك حرج على الأنبياء والمؤمنين من إتيان ملك اليمين والتسري بالجواري والإماء. لكن د. كريم يعامل الماضي بذوق الحاضر، فيؤكد أن هاجر كانت إحدى أميرات البيت المصري المالك، في الأسرة الثانية عشر الفرعونية، حوالي عام 1890ق.م، بالتحديد والتدقيق والتمحيص والتفحيص المبين، ثم لا يعطينا أي إفادة بالمرة عن مصدر هذا اليقين، ولا من أي مصدر أثاري أو آركيولوجي استقاه! ونؤكد له، ولقارئنا الذي نحترمه ونحترم وقفته لمطالعتنا، أنه ليس هناك مصدر أثاري واحد يقول ذلك، ولم يعثر حتى الآن على وثيقة مصرية واحدة تشير إلى النبي إبراهيم وإلى زيارته مصر، لا من قريب ولا من بعيد، ولا بالرمز، ولا بالإشارة، ولا حتى بنص يحتمل التأويل، كما لم تشر النصوص المصرية إلى دخول اليهود مصر زمن النبي يعقوب، مع ولده النبي يوسف ولا حتى لموسى، ولا لرحلة الخروج الشهيرة في التوراة، وهو أمر أثار حيرة الباحثين طويلا حتى اليوم، وكتب في ذلك مصنفات شتى لعلماء أجلاء، لم يستطع واحد منهم أن يعطي مثل جزم د. كريم الواثق القطعي هذا . ونحن بالطبع لا ننكر أن ما جاء في قصص الأنبياء وزيارتهم لمصر قد حدث، لأن ذلك أمر يعد لدينا بدهية تتأسس على إيمان راسخ بالكتب السماوية، لكن ما ننكره هو الادعاء بما لم تكشف عنه آثار مصر حتى الآن، وما نستنكره هو أن يقدم لنا د. كريم ذلك في صيغة التقرير، في حين كان يجب عليه تقديمه في صيغة التقدير، كرأي وتقدير شخصي، وحتى الرأي الشخصي لا يلقى على عواهنه دون توثيق أو مبررات كافية.
ثم يجازف الدكتور مجازفة مفزعة حقا، تصيب الباحث بهلع شديد، فيرفق بموضوعه لوحة فرعونية تصور شخصيات توضح سيماهم أنهم من البدو الساميين، وسبق لي أن لاحقت هذه اللوحة في المصادر، فلم أجد عليها تعليقا أكثر من كونها شخصيات بدوية سامية في مصر بزعامة شخص يدعى أبيشا. لكن الأخ الدكتور يعلق بالقول الجهير: «سيدنا إبراهيم عليه السلام، لوحة اكتشفت في حفريات مدينة منف حيث زار معابدها، وتزوج الأميرة المصرية هاجر عام 1980ق.م.» وهكذا وببساطة يتصورها هينة، هان معها عقل القارئ، عندما يلقمه الأقصوصة وهو يطالع بحسن نية وثقة، ليؤكد فكرة، هي لوجه الحق جميلة، لكنها لوجه الحق أيضا قد صيغت بأسلوب أقل ما يوصف به أنه نوع من ال «فهلوة» وغير جميل.
ولا يقنع د. كريم بذلك، إنما يتمادى، فيعرض لنا صورة لهرم «ميدوم» الواقع غربي مدينة الواسطى (تبعد عن القاهرة 90 كم جنوبا)، المعروف بالهرم الكاذب لضآلة الكشوف فيه، مقارنا بلوحة للكعبة المكية، مع التعليق على صورة هرم «ميدوم» بالقول: «كعبة منف، هرم ميدوم الكاذب، بناه الملك سنفرو مؤسس الأسرة الرابعة، بني قبل الهرم الأكبر كرمز لإله التوحيد رع ، كان ثالوث معبوداته أليت وعيزت ومنى.» ولا ندري كيف ساغ له أن يتحدث عن توحيد وتثليث في آن معا، بل وتربيع بإضافة كبيرهم «رع». ثم يضيف معقبا: «عندما وصل بنو مناف أو جرهم إلى أرض مكة، أقاموا بيتا للرب مماثلا لمعبدهم الجنائزي بمنف، الذي يطلق عليه حاليا هرم اللاهون، الذي بناه الملك «سنفرو» مؤسس الأسرة الرابعة ليكون كعبة للتوحيد.»
والآن خلط د. كريم الأوراق جميعا: فاصطلاح «المعبد الجنائزي» شيء، و«الهرم» شيء آخر. و«هرم منف» شيء، و«هرم اللاهون» شيء ثان. و«هرم ميدوم» شيء ثالث؛ فهرم اللاهون يقع قرب هوارة من أعمال مدينة الفيوم الحالية، وهرم ميدوم علمنا أنه يقع قرب مدينة الواسطى، وكلاهما غير هرم منف المعروف بهرم سقارة المدرج الذي بناه الملك «زوسر»، مؤسس الأسرة الثالثة حوالي عام 2800ق.م.
10
وما يبدو لنا الآن هو أن د. كريم عمد إلى خلط الأوراق كلها بسرعة خاطفة. وهو عالم بما يفعل تحقيقا لهدف مقصود، هو أن ينقل هرم «ميدوم» إلى منف ليصبح هو الهرم «المنفي» بدلا من هرم سقارة، وذلك عبر ورقة ثالثة هي هرم «اللاهون»، بحيث يصبح هرم اللاهون هو «الجوكر»، الذي يصرف انتباه المشاهد (آسف: أقصد القارئ) عن الورقتين الأخريين في الثلاث ورقات (هرم ميدوم بالواسطى وهو المقصود وعليه العين، هرم سقارة وهو هرم منف الحقيقي وهو المطلوب نسيانه، وهرم اللاهون بالفيوم وهو الجوكر المستخدم لإرباك الصيد: آسف: أقصد القارئ)، وقبل أن يفيق القارئ لما حدث، يمد يده يريد ورقة الهرم المنفي، فيطالعه هرم ميدوم بدلا من سقارة، فيسلم القارئ بعد أن تحول الأمر إلى «فزورة» محيرة، فينسى سقارة ولا يذكر سوى ميدوم، وبقدرة قادر ينتقل هرم ميدوم إلى منف، وينتهي دور هرم اللاهون عند هذا الحد بعد انتفاء الحاجة إليه ويدور عقل القارئ في الطريق المرسوم له بعد أن أصابه الدوار، «ويقنع بأن الذي عدى البحر ولم يبتل، العجل في بطن أمه!» ويحقق الدكتور ما يريده. وما يريده هو ميدوم بدلا من سقارة هرما لمنف ، لا لشيء إلا لأن صورة هرم ميدوم تشبه الكعبة، وهو شبه لا يمكن لمسه في الواقع، إنما يمكن تمريره عبر صور مطبوعة غير واضحة وملتقطة عن بعد، تزيد في ضبابيتها عوامل الطبع أو الطبخ، ومع الطبخ لا يأكل القارئ ملبن إنما يأكل مقلب.
وهرم «ميدوم» مصاطب تهدم أعلاها، إضافة إلى أنه أقرب إلى التكعيب، وكان للعوامل الجوية وللتعرية أثرها في تآكل الطبقة الملساء من صفائح الجير الأبيض التي تشكل كسوة للأحجار، وقد حدث التآكل على شكل شريط عند الثلث الأعلى من الهرم، فبدا لعيون د. كريم شبيها بالشريط الذي يحيط بالثلث الأعلى من الكعبة، وهو عمل فني حديث جدا قام به المصريون المحدثون المسلمون، عندما كانت مصر ترسل للكعبة كسوتها، وكان الغرض من هذا الشريط غرضا جماليا فنيا بحتا، كتبت عليه آيات من القرآن الكريم ليس أكثر، ولم يكن أصيلا في بناء الكعبة ذاتها. ومن هنا قام د. كريم بمجازفته الهائلة ليقول: إن الكعبة أنشأها أهل منف المهاجرون في الحجاز على غرار كعبتهم المنفية «هرم ميدوم» الذي ليس أصلا في منف، إنما في الواسطى، ولا هو بكعبة، إنما مثوى لجسد الملك «والمصادفة الطريفة هنا أني من مواطني مدينة الواسطى أصلا، وجلا لي أن أزور غرفة المدفن الملكي مجددا، عند معالجة الموضوع، وكتبت هذا الجزء وأنا جالس في استراحة هرم ميدوم أطالعه عن كثب، أقلب أمره وأتساءل: هل ظلمه د. كريم أم أنصفه؟ لكني على أية حال لم أجازف بقراءة الفاتحة على روح الملك.»
رمسيس يؤمن أخيرا
وطوال موضوعه يقدم د. كريم الفكرة الجميلة، ثم لا يلقيها في صيغة الاحتمال أو الظن، إنما يؤكدها! وحتى يكسب لها ثقة القارئ، يقدم لها الدعم من نصوص آثارية، لكنه للأسف يتدخل في النصوص، ويردف بها ما ليس فيها، ويقولها ما لم تقل؛ ليكتسب لرأيه ثقة القارئ المسلم، وهو ما فعله مع الحكيم «آيبوور»؛ ذلك الحكيم المصري العظيم، الذي بلغت حكمته وشهرته حدا دفع «برستد» إلى وصفه بالنبي،
11
وهو إذ يختار رجلا محل ثقة واحترام مثل «آيبوور»، يقول: «ويضيف آيبوور كيف هرب أهل منف إلى الصحراء الشرقية وجنوب الوادي.» ثم يردف مستمرا كما أن الحديث لم يزل لآيبوور: «وعبروا البحر إلى الجزيرة العربية، حيث أطلق عليهم هناك اسم بني مناف أو منف»! وهكذا رغم جمال فكرته واحتمال صدقها، يدمر الأمر كله بنسبة كلام للرجل الحكيم، هو منه بريء.
وحتى يزيدنا السيد الدكتور تحسرا على جمال أفكاره، وإمكان إثبات صدقها بالأسلوب العلمي، يضيف من عندياته القول: إن فرعون موسى المعروف بأنه رمسيس الثاني (وبالمناسبة هذا فرض مررته الكتابات الصهيونية ولم يتأكد صدقه العلمي)، كانت له زوجة مؤمنة موحدة، فأرسلت مع قائد الجيش المصري الذي كان بدوره مؤمنا موحدا، كسوة إلى الكعبة، صنعت خصيصا لهذا الغرض، وقد حدث هذا الأمر سرا بالطبع؛ لأن زوجها رمسيس الثاني كان كافرا أثيما، (ولا يغيب عن القارئ أنه هو الفرعون الذي ترك لمصر أهم الأعمال المعمارية والفنية العظيمة، وصاحب غزوات وفتوحات تحسب لمصر كلها)، وهكذا يكون المصريون قد بدءوا صناعة كسوة الكعبة وإرسال المحمل للحجاز من ألوف السنين، ولا مانع أن نتخيل هنا «ليلى مراد» تلبس تاج القطرين، وتغني على صوت الدفوف وهي تودع قائد الجند: «يا رايحين للنبي الغالي، هنيا لكم وعقبالي.» وندخل مع د. كريم إلى تمثيلية رمضانية، يتسلط فيها فرعون الجبار، وتلتقي فيها الزوجة الملكية سرا بأخيها في الإيمان، قائد الجند المغوار، ويتعاهدان عند أستار الكعبة في حب الله، وحتى تأتي النهاية السعيدة، فإن حبكة الدكتور كريم الدراماتيكية استلزمت أن يخالف حتى النص الديني، ويؤكد أن رمسيس الجبار قد أكرمه الله بالإيمان بعد أن رأى معجزة فلق البحر بالعصا، فنجا من الغرق والحمد لله.
ثم وفي نهاية موضوعه، يقول بذكاء أريب: «... وبعد، فهذه مجرد آراء تاريخية قد يصح بعضها، ويخطئ بعضها، ولكن في قراءتها فائدة.» وبذلك يعتذر مقدما لمن يكتشف أمرا؛ فيؤكد أنها «مجرد آراء»، والرأي يحتمل الصواب والخطأ، لكنه ينثني للقارئ العادي المستسلم ليكمل عملية الحقن قائلا: إنها مجرد آراء، ولكنها «تاريخية»، حتى يثبت الأمر عنده، ثم يصيب هدفا ثالثا «سيرا على سنة الثلاث ورقات» فيحقق لنفسه أهم صفات العالم وهي التواضع، متصورا ذلك يعفيه من المآخذ.
ولوجه الحق فلا شيء خاص بيننا وبين الرجل إلا الحرص على القارئ الذي يتلقى المعلومة بحسن نية وثقة في الكاتب، والحرص على سيادة المنهج العلمي وشروط البحث العلمي دون الأشخاص، خاصة في ظروفنا الحالية، ومحاسبة من يتخطاه حتى ولو كان الغرض نبيلا وجميلا، فالغاية لا يمكن أن تبرر الوسيلة، خاصة في مجال البحث العلمي. ونحن أشد ما نكون حاجة إلى الصدق العلمي، فإن ذهب بدوره، فكل إذن إلى ضياع.
ومرة أخرى أكرر للسيد الدكتور أنه ليس من الضروري أن يكون التوحيد هو المجد الذي يجب أن تكون مصر قد اكتشفته، فمجد مصر لا ينكره إلا حاقد أو متجاهل أو كلاهما، وهو إنكار لا يشكل أية قيمة؛ لأننا نعلمه اعترافا بدواخلهم، وعجزا في طوايا ضمائرهم، وقصورا في هممهم، وشللا قعيدا في تاريخهم، هذا إن كان لهم تاريخ.
عفاريت التراث، وتراث العفاريت1
في يوم 6 / 8 / 1994م، احتفلت في غرفتي رقم 437 بالجناح التاسع بمستشفى الهرم، برفع أهم الممنوعات: القراءة، واستعدت نظارتي العزيزة بسعادة غامرة، وفتحت صحيفة أهرام ذلك اليوم، بعد انقطاع دام حوالي الشهر عن القراءة لتستوقفني مرثية الصديق «عزت السعدني» على أيام زمان وحضارة زمان، عندما كنا جوهرة التاريخ ودرة الزمان والمكان، وإمعانا في الاحتفال المقام على شرف النظارة والسماح بالقراءة رأيت مشاكسة الرجل بمناقشة سريعة لما قال في مقاله «زنوبيا، امرأة بألف رجل» لكن طبيعة العلم غالبة، فانجرف منى المقال من المشاكسة إلى مرثية كاملة على حال الأمة، رفع الله عنها الغمة.
امرأة بألف رجل
لفت نظري العنوان بداية، وأدهشني تخصيص «زنوبيا» بتلك المقارنة أو المفارقة، وهي لا شك تستحق أن توصف بكونها تساوي ألف رجل، لكن صياغة العنوان، التي تبدي الدهشة من أمر «زنوبيا»، جعلتها تبدو كما لو كانت حالة نادرة في التاريخ، وخارجة على القاعدة وعلى المألوف. بينما تاريخنا، بل تاريخ الإنسانية جميعا، يمتلئ بإناث تعدل الواحدة منهن آلاف الرجال ، رغم سيادة المنظومة الذكورية، والتفوق السيادي للذكر. بل إنك ستجد اليوم كثيرات تعادل الواحدة منهن آلاف الرجال، عالمات متخصصات، يضفن إلى رصيد البشرية العلمي كل يوم، بينما هناك رجال لا يستحق أحدهم أن تضعه في رتبة بني الإنسان.
ومع ذلك، فإن شهادة واحد من هؤلاء النكرات، تعدل شهادة اثنتين من عالمات الذرة، وما زالت المهندسة أو الطبيبة أو المحامية، تساوي نصف بائع الملوخية أو أحد صبيان بائعي الباطنية، ولا نفهم عن عالمة الأنثروبولوجيا أو البيولوجيا، سوى أنها عورة يجب أن تستتر وأنها للسيد الذكر مجرد متاع، ثم نقف نتساءل لماذا نحن في ضياع؟ إنه السؤال الزائف زيف الوهم الذكوري، والخيانة الذكورية للمرأة كأم، وكزوجة، وكشقيقة، وكابنة، وكصديقة، وككاتبة، وكعالمة، وكمناضلة، وكحبيبة، وكجمال خصيب تتصحر بدونه الأرض الخضراء. إنه السؤال الملتوي الملتف الهارب من السؤال الحقيقي حول حجم الخيانة الذكورية للتاريخ نفسه، ولا ريب أننا بحاجة إلى صدق كاف لنمتلك جرأة طرح السؤال الحقيقي دون خجل.
والمسألة بالأساس مسألة منهج، فالعنوان المندهش يدلل بوضوح على مدى تكريس منهج الثبات المسبق في عقولنا، الذي كرس في داخلنا نظرة دونية تبخيسية للمرأة، حتى لو أظهرنا التقدمية، إنه منهج الذكورة البدوي.
زنوبيا والجن
يحكي الأستاذ عزت السعدني، أنه ذهب إلى مدينة زنوبيا «تدمر» فأبهرته عظمة البناء وفنون الهندسة وروعة التخطيط حتى ردد قول أهالي المنطقة: «إن الجن من أعوان سيدنا سليمان عليه السلام، هم الذين بنوا وشيدوا تدمر العظيمة، ومعابدها وأسواقها وحماماتها ومسارحها.» وهذه آفة أخرى من آفات منهجنا في التفكير، أودت بنا إلى ما نحن فيه، في قاع العالم مع الجن والشياطين، فالحديث نموذج أمثل لمنهج تفكير جماهير أمتنا العريضة الغليظة (والعدد في الليمون كما تعلمون)، لكن المصيبة أعظم، حيث إن ذلك ليس حديث العامة، بل أصبح حديث الخاصة، والأنكى أنه حديث كتبنا التراثية، التي تملأ أرفف المكتبة العربية، ويوصف أصحابها بأنهم علماء الأمة! وستجد في كل صفحة من تلك المصنفات شتى أنواع العفاريت، ورتبهم، ودياناتهم، وصفاتهم، ودورهم في بناء كل ألوان المعمار العظيم في الحضارات القديمة. وهو ما يحمل دلالات واضحة على تهافت منهج عاجز عن التفسير يلجأ إلى منطق المعجزة، ويكشف عن عدم تصور أي بدائل، وعن مدى كسل ذلك العقل لإيجاد تفسير سليم، فأي نموذج معماري عظيم الشأن، يستدعي على الفور مقاولين ومهندسين مهرة من السعالي والغيلان وشمهورش وجمهورش وطراطيش. فالبدوي في تفرقه القبلي، لم يكن يتصور أبدا إمكان قيام الإنسان بمثل تلك الأعمال الهائلة، وهو ما قيل في بناء سور الصين الذي بناه ذو القرنين والجن من أتباع سليمان، كما قيل في قصور بابل وحدائقها المعلقة، وإن ثبت عدم وصول جن سليمان إلى وادي النيل، فلا شك إذن أن بناة الكرنك والأهرام، كانوا عمالقة الأجسام، حتى يتمكنوا من ذلك الإنشاء الهائل. إنها عقلية الدونية والقزمية والكسل والاسترخاء، بل والتكاسل عن مجرد تصور بشر يقومون بتلك الأعمال العظيمة، فالعظمة ليست للإنسان الغر المفتون، إنها دوما لذلك القابع وراء الطبيعة، للجن والعفاريت! ثم إن الأمر على المستوى الاجتماعي، يعبر عن فرقة أصيلة، وقبلية متجذرة، وعقلية لا تعرف التوحد في وحدات سياسية كبرى تقوم بالمشاريع الضخمة، وتكاتف البشر في توحد منتظم متين.
لماذا دائما سليمان؟
أما الملحوظة التي يجب ألا تفوتنا، فهي حديث المقال الموقن بما قال، فالبناء لجن سليمان، وتكسير الإله البابلي مردوك على يد النبي إبراهيم و... إلخ. وهو ترديد لحديث مأثورنا التراثي المفرط المبالغ كثير التهاويل، لكن كان لسليمان وجنه دوما الدور الأعظم، سليمان بالتحديد وبالذات.
والمعلوم أن «سليمان» هو المؤسس الحقيقي لدولة إسرائيل في فلسطين، حوالي عام ألف قبل الميلاد، والغريب هو ذلك الإيمان الثابت في العقل بصدق ما جاء عنه في المأثور، والأعجب هو استمرار ذلك الإيمان حتى الآن، لينسب للإسرائيليين كل الأمجاد رغم تحولات الزمان، ودخول بلاد الحضارات القديمة إلى الدائرة العروبية، ثم مزيد من التبدلات، وما يحدث اليوم بقيام دولة إسرائيل في فلسطين مرة أخرى، بعد أن دمرها لنا الرومان في سالف الأزمان.
إننا لا نقرأ التاريخ، بل فقدنا الذاكرة التاريخية، بل والحس الوطني والقومي ، وبقي المأثور وحده يرفع يده بعلامة النصر فوق رءوسنا! فلم نر المتغيرات؛ لأن الثبات هو المبدأ، والمبدأ هو الثبات، الحركة تخيفنا، والتغيير يرعبنا، والسؤال يبهتنا، والجديد بدعة، وكل بدعة ضلالة، إذن فليحيا الثبات على المبدأ، وليكن الإسرائيليون هم بناة حضارتنا القديمة جميعا كما يزعمون، أقصد كما نزعم نحن، ما دمنا نؤمن بعفاريت التراث، ونحمل على أكتافنا تراث العفاريت! وإذا كان جن سليمان قد قاموا بكل تلك الإنجازات، فهل يهون عليهم شفاء مرضى هذا الزمان؟ ثم نتساءل لماذا تنتشر كتب العفاريت على أرصفة الشوارع وفي المكتبات؟
ويبدو أن صديقنا أراد تأكيد ما سمعه عن الإنجازات الجنية للعفاريت السليمانية، فأورد ما جاء في كتاب «روبرت وود» - وللحقيقة أنا لا أعلم من هذا الوود - حيث قال: «إنه قد جاء في التوراة ما يفيد أن سيدنا سليمان هو الذي بنى تدمر، وأطلق عليها اسم بالميرا.» هذا رغم الفارق الزمني الكبير بين زمن زنوبيا وزمن سليمان.
بهذا المنطق يجب علينا أن نؤمن إيمان العجائز بفضل الإسرائيليين الذين فضلهم الله على العالمين، وأن نؤمن بهم كتاريخ لنا، وهو الحادث وفق تلك المنظومة المأسورة (آسف أقصد المأثورة)، بحيث تربعوا داخلنا منذ سنين طويلة مضت، منذ حفظنا قصص إسرائيل، وبني إسرائيل المؤمنين، وقصص الكافرين من أجدادنا الفراعين، لننقلب نحن على تاريخنا الحقيقي، ثم نتحدث اليوم بوجل عن الغزو الثقافي الإسرائيلي؟ ألا يستحق الأمر أن نقول: عجبي!
تاريخ العجول
ويقول الأستاذ السعدني: إنه قد رافقه في رحلته إلى تدمر، السيد «خالد الأسعد»، الذي وصفه بأنه «حجة في الآثار التدمرية»، وأن هذا الحجة قد أفاد صديقنا علما نافعا بقوله: إن المعبد هناك كان لعبادة إله باسم «بل»، وكان من الأوفق لو قال له اسمه بالعربية أو الحقيقي بالسامية القديمة، فاسمه العربي هو «بعل»، لكن المرافق الحجة قرأه في كتب الإفرنج، ومعلوم عدم احتواء الأحرف اللاتينية على حرف العين، مما أسقطها من لسان رجل الآثار، ومعلوم أن «بعل» كان إله المطر والخصب والصواعق، ولم يزل الفلاح المصري يطلق على النبات الذي سقته السماء بمطرها لقب «البعلي»، وهو ذات الإله الذي انتقلت عبادته إلى جزيرة العرب، على يد «عمرو بن لحي الخزاعي» فيما تزعم كتب السيرة ليعرف هناك باسم «هبل» بعد إضافة «ه» أداة التعريف في العربية الشمالية القديمة، ومع إضافة الهاء سقط حرف العين بقوانين اللسانيات نتيجة وجود الهاء المفخمة، فنطق «هبل» بدلا من «هبعل».
أما ما جاء بالموضوع عن عبادة إلهين آخرين في تدمر هما «يرحبول» و«عجلبول»، وتفسير الأستاذ السعدني بأنهما إلها الشمس والقمر، فهو ما يحتاج إلى تقويم، فكلا الإلهين بعلي، فالمذكور باسم «يرحبول» مركب من ملصقين هما «يرح» و«بعل»، وكان القمر يسمى «يرح وأرح»، ومنه أخذ اسم «أريحا»، أي القمرية، كما كان ينطق «يرخ وأرخ»، ومنه أخذت كلمة «التاريخ» باعتبار القمر رمزا لدورات الزمان، وبعل المرأة ربها وسيدها، وعليه فمعنى «يرحبول» هو السيد أو الإله القمر، وعليه يقاس أيضا «عجلبول»، فهو الإله العجل، ولا عجب، فقد قدس الأقدمون العجل أو الثور، حتى لقب الملوك أنفسهم بلقب «ثور» تشبها بالآلهة القوية، الآلهة الثيران، وقد قرن الثور أو العجل بعبادة القمر، بالمقارنة بين شكل الهلال وشكل قرني الثور، وما بينهما من تشابه، فكان الهلال هو ثور السماء الإلهي، ومن ثم فإن «يرحبول» إنما يرمز للقمر عندما يكون بدرا، أما عجلبول فيرمز للقمر عندما يكون هلالا، لقد كانت عبادة قمرية، ذات دلالة عروبية. ولم تزل للهلال قدسيته؛ فالشهور قمرية، والتاريخ قمري، والصيام قمري، والزمن العربي كله قمري، كله يرحبول، كله عجلبول، بمنهج الثبات على المبدأ.
حكاية المنهج
ما الذي دفعني وأنا على سرير المرض إلى كتابة ما كتبت الآن؟ لقد بدأ الأمر بمشاكسة صديق من باب المداعبة التي لا تفسد قضية الود، لكن يبدو أن موضوعه قد نكأ الجراح واستدعى استنفارا داخليا إزاء كل النماذج التي تملأ أرفف المكتبة العربية، وأرفف العقل العربي، وبالطبع صحفنا الغراء، تكرر وتردد بثبات ويقين، تزيد وتضيف من ذات الرصيد إلى ذات الرصيد، ولا تضيف إلا مزيدا من المعلومات المتحفية إلى معلومات حجرية، وتتنافس في ذلك مع التلفاز الميمون، لينافسوا جميعا الرصيد الأصيل في «دوجمته» وثباته عند الأصول، وإن أرادت المعاصرة والتحدث بحداثة، رددت معلومات مغلوطة، مغلفة بأسلوب حكائي مزوق، دون النظر إلى ما تفعله في عقول الناس، ثم نسأل أنفسنا: لماذا الأصولية؟ لماذا الإرهاب؟ إنها النتيجة الأخرى لذات المنهج! أسئلة يكمن وراءها الثبات على المنهج الأوحد، فكل شيء واضح لكنا لا نريد أن نرى، فقط هذه المسألة!
لذلك كله انتهزت فرصة ذلك المقال، لأملأ فراغ الوقت لحين استكمال المشوار العلاجي الطويل؛ لأنه فتح كل الجراح دفعة واحدة، وتحدث في صميم همومي، وبقدر ما كان «روتين» وزارة الصحة مزعجا بل وبشعا، بقدر ما كان «روتين» التاريخ ثابتا ساكنا مترهلا نائما يرنم تشخيرة واحدة رتيبة، وبقدر ما شعرت بطعن ألم المرض في قلبي، بقدر ما لم يعد بالإمكان تحمل مزيد من الطعن في رأسي وآمالي وأحلامي في مستقبل هذا البلد وتلك الأمة. إنهم يقتلون أحلامنا يا سادة!
المنهج يا سادة، «الدوجمة» المسبقة، واليقين القطعي، وغياب العقل النقدي، والتكاسل المخيف عن بذل الجهد، يفرش ظله السحري على حياتنا ليفسد علينا كل شيء، الرؤية الإستاتيكية للتراث، التي لا تربطه بواقع، بقدر ما تعتبره شيئا فضائيا جاء من فراغ، رغم تزلزل كل البنى التحتية التي قام فوقها، حقا نحن أغرب أمة أخرجت للناس. نخلط التراث بمسلمات ما أنزل الله بها من سلطان، بالحكي الشعبي، بالتاريخ الحقيقي مع تزييف نموذجي ليلتقي بالمأثور الديني، كما نفعل في حكاية العلم والإيمان التليفزيوني لنرضي في النهاية الإيمان التليفزيوني، ونرضي أنفسنا التي تركن للسكون والترهل، ويرضى المتاجرون بمصير الأمة بما ربحوا.
وأثناء ذلك نسقط دون وعي في شباك التاريخ الإسرائيلي، لنكتب لهم، نيابة عنهم، أمجد التاريخ، ونسب أسلافنا وبناة حضاراتنا الكبرى بأقذع سباب اخترعه الإنسان، وهو النموذج الذي مثله هنا بناء جن سليمان لمدنية تدمر! وهو نموذج بسيط إزاء الكم الهائل المتراكم على أرففنا من زاد لا تنفد خزائنه، وهو التراكم الذي يجعلنا نتخذ من المأثور مرجعية ومقياسا ومعيارا لكل شيء، ونزنقه حشرا في كل أمر، ومثله ما جاء في المقال المذكور أن «بعل» هو الإله البابلي «مردوك»، وأن «مردوك» قد تم تكسيره على يد النبي إبراهيم.
هكذا ببساطة نلقي القول، فقط لأن إبراهيم كسر أصناما كما جاء بالقرآن الكريم، ولأن بعض المؤرخين قالوا إنه عراقي الأصل، ولأن مردوك كان أحد آلهة العراق، فلا بد إذن أنه لم يسلم من فأس إبراهيم! بالله ماذا يمكن أن يفعل مثل ذلك الكلام بقلبي المريض؟ إن قولا كهذا كي تثبته أو تنفيه، عليك أن تكرس له من عمرك سنوات، وعندما تكون أي دراسة من دراساتي قد استغرقت من عمري زمنا، وأعملت المرض في قلبي، فإن إلقاء القول هكذا على الناس، وفي ظروفنا، ومع حالتي، يصبح قتلا حقيقيا.
مرة أخرى إنه منهج الترديد، وأقول لصديقي الذي لا أشك في نواياه: إن البحث عن المعرفة الصادقة هدف إنساني وعظيم، والبحث الذي يسعى لتحقيق مطامحنا الوطنية والقومية لا شك أعظم، لكن كي يكون الأمر بحثا، وكي يثمر نتائج لا تدفعنا إلى مزيد مما نحن فيه، فحاجتنا أكبر للتخلص من أوهام المنهج الثابت الأوحد، حتى لا نتصور أننا ندافع بإخلاص عن قوميتنا، ونقع في التعصب القبلي، لنصحو يوما ونكتشف أننا داخل القبيلة الإسرائيلية، وسبط من أسباطها، خاصة في هذه الأيام، التي بدأ فيها التاريخ يردد صداه، ويعكسه على رءوسنا. سلام، سلام. وعليكم السلام.
الرد اليسير على توراة عسير1
«كمال الصليبي»، أصبح اسما مطروحا في المنتديات الثقافية، ومتواترا في هوامش البحوث التي تتناول تاريخ القبائل الإسرائيلية، أو ما تعلق بها من أبحاث في المجتمع أو الدين أو الاقتصاد أو السياسة، وعلى مستوى الانتشار أخذ اسم «الصليبي» موقعه من غرابة النظرية التي يطرحها في مؤلفاته، وعلى مستوى البحوث العلمية أخذ مكانه من باب تثمين مضطر للنظرية، سواء بالاتفاق أو الاختلاف، لما قدمه الرجل من جهد وقرائن على نظريته، الأمر الذي يجعل من فساد الرأي التغاضي عنها، عند بحث شأن من شئون الجماعة الإسرائيلية.
ونظرية «الصليبي» تذهب - عموما وبإيجاز - إلى احتساب القبائل الإسرائيلية ، قبائل عربية قحة، سبق أن عاشت في جزيرة العرب في الأزمنة التوراتية القديمة وبالتحديد في منطقة عسير غربي الجزيرة، وأن جميع الأحداث التي قدمتها التوراة كمادة تاريخية وثائقية عن بني إسرائيل من فجر تاريخهم، إنما حدثت جميعا في بلاد عسير العربية، وكانت أهم براهين الباحث وقرائنه، ومكمن قوة نظريته قد جمعت تقريبا وحشدت في كتابه الأول
The Bible Come From Arabia ، المترجم عن الأصل الألماني
Die Bible Kam aus dem Lande ASIR ، وقد ترجمت النسخة الإنجليزية إلى العربية تحت عنوان: «التوراة جاءت من جزيرة العرب».
وقد أتبع الباحث ذلك الكتاب بكتابين آخرين وإن كانا أقل تماسكا وأدنى في الدرجة وفي قدرة الإقناع عن كتابه الأول، قدمها للتخديم على نظريته الأساس التي ضمنها كتابه الأول، ومن ثم جاءا على قدر واضح من الهزال والضعف والتعسف، أولهما بعنوان «خفايا التوراة»، والثاني بعنوان «حروب داود»؛ لذلك سيكون مناط حديثنا هنا مادته الأساس وملاطه الخرساني من كتابه الأول «التوراة جاءت من جزيرة العرب».
والدكتور «كمال الصليبي» يعمل رئيسا لدائرة التاريخ بالجامعة اللبنانية، فهو أستاذ درس مادة التاريخ - فيما علمنا - لأكثر من ثلاثة عقود متصلة، ويبدو لنا أنه قد ركن إلى قناعة تنضح بها سطور العهد القديم من الكتاب المقدس، عند حديثها عن الرب التوراتي «يهوه»، وهي القناعة التي لا تهتز أمام الصفات التوراتية ليهوه، بأنه لم يكن أكثر من بركان، أو على الأقل أن البركان كان أبرز رمز تجلى فيه، وهو البركان الذي توجه إليه الخارجون من مصر بقيادة موسى النبي، في جبل باسم «حوريب»، ويذكر مرات باسم جبل «سيناء». فإن المتوقع تماما أمام التفاصيل التي تحدثت عن صفات «يهوه»، أن نجد ذلك الجبل البركاني في شبه جزيرة سيناء، لكن المشكلة التي واجهت الجميع، هي تأكيدات جاءت تؤكد أن سيناء لم تعرف البراكين إطلاقا طوال تاريخها.
وربما كان من الأوفق الرجوع إلى بعض نماذج صفات الرب «يهوه» في التوراة، والتي كونت القناعة بالرب البركاني لدي «صليبي» - دون أن يذكرها - ولدى كثير من الباحثين، ولدى كاتب هذه السطور، ومن تلك النماذج:
وكان الرب يسير أمامهم نهارا في عمود سحاب، وليلا في عمود نار (خروج، 13: 21).
وحدث في اليوم الثالث لما كان الصباح، أنه صارت رعود وبروق وسحاب ثقيل على الجبل، وأخرج موسى الشعب لملاقاة الله، وكان جبل سيناء كله يدخن من أجل أن الرب قد نزل عليه بالنار، وصعد دخانه كدخان الآتون، وارتجف كل الجبل جدا، ونزل الرب على جبل سيناء إلى رأس الجبل (خروج، 19: 16-20).
الرب إلهك هو نار آكلة (تثنية، 4: 24).
على الأرض أراك ناره العظيمة، وسمعت كلامه من وسط النار (تثنية، 4: 36).
يمطر على الأشرار فخاخا، نارا وكبريتا وريح السموم (مزمور، 11: 6).
فارتجت الأرض وارتعشت أسس الجبال، ارتعدت؛ لأنه غضب، صعد دخان من أنفه ونار من فمه (مزمور، 18: 6-12).
صوت الرب يقدح لهب نار، صوت الرب يزلزل البرية (مزمور، 29: 7).
وكان منظر مجد الرب كنار آكلة على رأس الجبل، أمام عيون بني إسرائيل (خروج، 24: 17).
وهنا، لن يجد أي مهتم بدراسة التاريخ الإسرائيلي سوى التسليم ببركانية الإله، ثم التسليم أيضا بالمأزق الشديد المحير، إزاء ما أفادنا به الباحثون أن شبه جزيرة سيناء لم تعرف البراكين طوال تاريخها. ويبدو أن المأزق ظل علامة استفهام مؤرقة لصليبي، حتى تصادف وطالع كتبا تفصيلية لجغرافية شبه جزيرة العرب، أشعلت لديه فكرة جديدة تماما، يمكن أن يكون فيها الخروج من المأزق الذهني الملحاح، وأسئلته الحائرة المؤرقة، حيث وجد تطابقا مدهشا بين مواضع أسماء كثيرة بجبال عسير - وهي جبال بركانية عموما - وبين الأسماء التي وردت في التوراة للمواضع الجغرافية القديمة في تاريخ إسرائيل التوراتي. وعندما قام بعملية تدقيق لإحداثيات تلك المواضع، انتهى إلى يقينه الذي وضعه في شكل كشف خطير بحق، يؤكد أن كل الأحداث التوراتية إنما جرت في جبال عسير، وأن الإسرائيليين عرب أقحاح، وأنهم لم يدخلوا إطلاقا مصر الفرعونية، ولم يخرجوا منها قط، وأن هناك مغالطة تاريخية هائلة، أدت إلى هذا الخطأ التاريخي العظيم في معارفنا، وأنه مما يدعم وجود تلك المغالطة، هو غياب أي دليل وثائقي مباشر في مدونات مصر القديمة، يشير إلى دخول الإسرائيليين إليها أو خروجهم منها، أو إقامتهم فيها. ومن هنا شمر الدكتور الصليبي عن همته بإعادة النظر في الجغرافيا التوراتية محاولا إثبات أن جميع الأحداث التي جرت والمواقع التي حدثت بها تلك الأحداث، لم تقع لا في مصر، ولا في فلسطين، ولا فيما بينهما «سيناء»، بل وقعت جميعا بلا استثناء في مرتفعات عسير بجزيرة العرب، معتمدا على تحليل لغوي مقارن، طابق فيه بين المواضع الجغرافية التي أوردتها التوراة، وبين مقابلها في غربي جزيرة العرب.
أساس الكتاب
وكان أهم تبرير قدمه «صليبي» لمذهبه ونظريته، هو ما جاء في قوله: «ففي حين أن تاريخية عدد من الروايات التوراتية بقيت عرضة للنقاش الحاد، فإن جغرافية هذه الروايات استمرت معتبرة من المسلمات، والحقيقة الساطعة هي أن الأراضي الشمالية للشرق الأدنى قد مسحت وحفرت من قبل أجيال متوالية من علماء الآثار، ومن أقصاها إلى أقصاها، وأن بقايا العديد من الحضارات المنسية قد نبشت من تحت الأرض ودرست وأرخت، في حين أنه لم يعثر في أي مكان كان على أثر يتعلق مباشرة إلى أي حد بالتاريخ التوراتي. وأكثر من ذلك، فإن التوراة العبرية تذكر الآلاف من أسماء الأمكنة من قلة قليلة تماثلت لغويا مع أسماء أمكنة في فلسطين، وحتى في الحالات القليلة التي تحمل فيها مواقع فلسطينية أسماء توراتية، فإن الإحداثيات المعطاة في النصوص التوراتية للأماكن التي تحمل هذه الأسماء في إطار الموقع أو المسافة المطلقة أو النسبية، لا تنطبق على المواقع الفلسطينية. وسجلات مصر والعراق القديم قد قرئت على ضوء النصوص التوراتية، والتي أجبرت على إعطاء مؤشرات جغرافية أو تاريخية تتوافق مع الأحكام المسبقة لدي الباحثين التوراتيين»
2
ومن هنا أسس الباحث عمله بالركون إلى تلك السلبيات التي طرحها حول التاريخ التوراتي وتاريخ المنطقة المدون، ميمما شطر عسير، بادئا بتحديد منهجه ومواد عمله في مقدمة كتابه بقوله: «وأساس هذا الكتاب هو المقابلة اللغوية بين أسماء الأماكن المضبوطة في التوراة بالحرف العبري، وأسماء أماكن تاريخية أو حالية في جنوب الحجاز وفي بلاد عسير.» ثم يحدثنا عن الصدفة التي جعلته يعثر على عالم التوراة القديم «المفقود» في جزيرة العرب بقوله: «لقد كان الأمر عبارة عن اكتشاف تم بالصدفة، كنت أبحث عن أسماء الأمكنة ذات الأصول غير العربية في غرب شبه الجزيرة العربية، عندما فوجئت بوجود أرض التوراة كلها هناك، وذلك في منطقة بطول يصل إلى 600كم، وبعرض يبلغ حوالي 200كم، تشمل ما يسمى اليوم «عسير» والجزء الجنوبي من الحجاز، وكان أول ما تنبهت إليه أن في هذه المنطقة أسماء أمكنة كثيرة تشبه أسماء الأمكنة المذكورة في التوراة، وسرعان ما تبين لي أن جميع أسماء الأمكنة التوراتية العالقة في ذهني، أو جلها ما زال موجودا فيها، وقد تبين لي أيضا أن الخريطة التي تستخلص من نصوص التوراة في أصلها العبري، سواء من ناحية أسماء الأماكن، أو من ناحية القرائن أو الإحداثيات، تتطابق تماما مع خريطة هذه الأرض الموصوفة في التوراة، مع خريطة الأرض بين النيل والفرات التي اعتبرت حتى اليوم أنها كانت بلاد التوراة، وهنا قدم الاستنتاج المذهل نفسه بنفسه، فاليهودية لم تولد في فلسطين بل في غرب شبه الجزيرة العربية وليس في أي مكان آخر، ويجب البحث عن الأصول الحقيقية لليهودية، في ثنايا الاتجاه في منحى التوحيد في عسير القديمة.»
3
مشكلة اللغة
وهنا كان على «الصليبي» أن يبدأ - بالطبع - من مشكلة اللغة، ليجد ما يشير إلى أن اللغة العبرية القديمة (وهي أيضا اللغة الكنعانية بإقرار الكتاب المقدس)، وكذلك اللغة الآرامية، وكلتاهما: العبرية والآرامية، كانتا لغة إبرام (إبراهيم). فاللغة الأصلية لآله وأسلافه هي اللغة الآرامية، واللغة التي اكتسبها بهبوط «كنعان»، أو أرض التوراة القديمة هي العبرية/الكنعانية. لقد وجد صليبي - فيما يزعم - كلتا اللغتين، وبالطبع وبالتبعية كلا الشعبين، الآرامي والعبري «وبالضرورة الكنعاني»، في بلاد عسير العربية، ولأنه قرر أن يعمل على أساس المقابلة اللغوية لأسماء الأماكن، فقد جاء اكتشافه لوجود تلك الشعوب ولغاتها فيما جاء بسفر التكوين، 31: 47-49 عن الميثاق الذي تم بين يعقوب (العبري)، وخاله لابان (الآرامي)، وهو الميثاق الذي أقيم بموجبه شاهد تمثل في كوم من الأحجار، أطلق عليه لابان بلسانه الآرامي «يجر سهدوثا»، وأطلق عليه يعقوب بلسانه العبراني «جلعيد والمصفاة». وقد وجد صليبي أن تلك الأسماء ما زالت تطلق حتى اليوم على ثلاث قرى صغيرة متجاورة، في منحدرات عسير البحرية، في منطقة «رجال ألمع» غربي أبها، وهي: قرية الهضبة، وهي في الآرامية «يجر»، وقرية «الجعد»، وهي عند الصليبي المقابل لاسم «جلعيد»، ثم قرية «المضاف» التي هي بقلب الصاد «المصفاة».
4
وعليه يذهب إلى نتيجة يؤكدها، وهي أن المملكة الإسرائيلية، قد تأسست في غرب شبه جزيرة العرب، بين أواخر القرن الحادي عشر، وبين مطلع القرن العاشر الميلادي، قياسا على تاريخ هجرات الفلسطينيين والكنعانيين من عسير إلى فلسطين، بضغط افتراضه قد حدث من قبل الإسرائيليين عليهم في عسير، وهناك أطلق المهاجرون إلى فلسطين أسماء مواطنهم القديمة في عسير على مقار استيطانهم الجديدة بفلسطين، وهو ما يفسر لنا التشابه بين أسماء المواضع الجغرافية الفلسطينية، وبين أسماء المواضع التوراتية، وهي الظاهرة المرتبطة بالهجرة في كل زمن وفي كل أنحاء العالم؛ فالمهاجرون يحنون دوما إلى الوطن الأصلي، فيطلقون على مواضع مهجرهم الجديد أسماء البلدان والأقاليم والجبال والأنهار التي تركوها في مواطنهم الأولى.
5
وإعمالا لنظريته، يرى الدكتور صليبي أن جميع الهجرات المصرية التي تم تجريدها على فلسطين، كانت في حقيقتها موجهة ضد بلاد عسير غربي جزيرة العرب، وبخاصة حملة «شيشانق الأول» الفرعون المصري ضد مملكة يهوذا في أواخر القرن العاشر قبل الميلاد. كذلك الحملة الثانية التي قد قادها الفرعون «نخاو الثاني» في أواخر القرن السابع قبل الميلاد، حيث كان البابليون قد حاولوا السيطرة على عسير، مما أدى إلى صدام حتمي بين المصريين والبابليين في عسير، ومن ثم فإن وقعة «كركميش» التي وردت في العهد القديم (أخبار الأيام الثاني، 35: 20؛ إشعيا، 10: 9؛ إرميا، 46: 2)، لم تجر في داخل الأراضي التركية، وأن موقع «كركميش» ليس «جرابلس» الحالية كما ذهب المؤرخون، إنما وقعت المعركة بين جيوش الإمبراطوريتين: المصرية والبابلية قرب مدينة «الطائف» جنوبي الحجاز، حيث الدليل عند الصليبي يقوم في قريتين: الأولى تحمل اسم «القمر»، والثانية تحمل اسم «قماشة»، وبجمعهما يصبحان «قرقميش».
بل ويذهب السيد الدكتور إلى أن الحملات المصرية الأبكر ، التي تعود بتاريخها إلى الألف الثانية قبل الميلاد، والمفترض علميا أنها كانت موجهة لاحتلال مواضع بعينها في فلسطين وبلاد الشام، إنما كانت في حقيقتها موجهة ضد «عسير»،
6
والدليل الدامغ على ذلك، هو أنه لو كان داود وسليمان وقتذاك هما السيدان الفعليان لدولة كبرى في فلسطين، تسيطر على الإقليم الاستراتيجي الذي يفصل مصر عن العراق، كما هو الافتراض الشائع، لأشارت إليهما السجلات المصرية والآشورية المتعاصرة، بينما لا نجد في تلك السجلات، أيا كانت سياسية أو عسكرية، أية إشارة لهذين الاسمين، بخاصة في أخبار غزوات مصر وآشور على فلسطين.
ثم يقدم لنا تفسيره لوجود الإسرائيليين والديانة اليهودية في فلسطين، بأنه أمر حدث متأخرا عن الأحداث الكبرى في التاريخ التوراتي القديم، وأن الأمر كان ناتجا عن التدخلات المصرية المستمرة والدائبة في بلاد عسير، مما أدى إلى انقسام مملكة سليمان الكبرى في غربي جزيرة العرب، ونشوب الحرب بين شقيها المنفصلين: يهوذا وإسرائيل. وما تبع ذلك من غزوات الآشوريين والبابليين، التي انتهت بتصفية «سرجون الثاني» الآشوري لمملكة إسرائيل عام 771ق.م حيث احتل عاصمتها «السامرة» التي هي عند صليبي قرية «شمران» الحالية بعسير، ثم تبعه «نبوخذ نصر» الكلداني البابلي ليقضي على مملكة يهوذا سنه 586ق.م، حيث ساق الآلاف منها إلى بابل أسرى، وعندما قامت مملكة فارس الإخمينية أفرج «قورش» عن الأسرى، فعادوا مع عائلاتهم إلى عسير، ولكن ليجدوا أن كل شيء هناك قد أصبح خرابا، فعاد أغلبهم إلى فارس والعراق، وتوجه التيار الرئيسي نحو فلسطين ليقيم هناك بينما دخلت - في زحمة الأحداث - الأصول العربية لبني إسرائيل في غيابات النسيان، وساعد على ذلك الغياب التحول الذي طرأ على اللغة بحلول القرن السادس قبل الميلاد، حيث ماتت اللغة العبرية/الكنعانية، وحلت محلها اللغة الآرامية في كل مكان، وظهرت اللغة العربية كمنافس للآرامية، فتغلبت في النهاية بحلول القرون الأولى من العصر المسيحي،
7
هذا بينما كان يهود الجزيرة العربية يتحولون نهائيا إلى اللغة العربية، وهي التحولات التي توافقت مع نسيان كامل للأصول العبرية القديمة في عسير العربية.
8
نماذج لغوية مقارنة
بطول كتابه لا يني الدكتور صليبي ولا تفتر همته عن دعم ما ذهب إليه بنماذج لأسماء الأماكن التوراتية، وما عثر عليه مقابلا لها في خريطة عسير العربية وفق تلك النماذج التي وضعها جميعا غربي الجزيرة، وحسب تخريجاته اللغوية المقارنة، يمكن تقديم النماذج الأساس الآتية:
أرض جاسان التي سكنها بنو إسرائيل بمصر، هي قرية «غثن» بعسير.
مدينة رعمسيس هي «مصاص».
فيتوم هي «آل فطيمة ».
9
سكوت هي «سيكة» بالطائف.
10
مصر ليست مصر الفرعونية، إنما هي «مصر» في وادي بيشة، أو «المضروم» في مرتفعات غامد، أو هي «آل مصري» في منطقة الطائف. ولو احتججنا بأن مصر التوراتية كان يحكمها فرعون، فإنه يرد بأن كلمة فرعون تلك مأخوذة من اسم قبلية «فرعا» الموجودة الآن في وادي بيشه
11 «وبالطبع منذ أكثر من ثلاثين قرنا دون أن تتحرك رغم أنها قبيلة بدوية مرتحلة دوما». ونهر مصر الوارد في التوراة مصحوبا بأحداث عظيمة حول شأنه، ليس سوى واد جاف، اسمه «وادي لية»، وأن التوراة لم تسمه وادي مصر، إلا لأن هناك تقع قرية في حوضه باسم «المصرمة»،
12
ثم لم يكن خروج بني إسرائيل من مصر، وعبورهم البحر المعروف في التوراة باسم «بحر سوف»، بالعصا المعجزة ثم عبورهم الأردن بالدوران حول دول آدوم وموآب وعمون، لفتح فلسطين، كل هذا لم يكن سوى عبور جبال السراة بمنطقة الطائف إلى الليث.
13
الدول الكبرى التي وردت في المدونات المصرية كما وردت في التوراة تقع بدورها في جبال عسير، فمعلوم أن مملكة «دمشق» الآرامية كانت الحد الشمالي لدولة إسرائيل الفلسطينية، ومن هنا وجب نقلها بدورها إلى عسير، لتصبح قرية «مسقو» في ناحية العارضة شرقي «أبو عريش»،
14
و«مجدو» الفلسطينية، أعظم فتوحات تحتمس الثالث الفرعون المظفر، إنما هي قرية «قصوى» في منطقة القنفذة،
15
أما بلاد لبنان بمدنها وقراها وجبالها وأرزها، لم تكن في الحقيقة سوى «لبينان» شمال اليمن بجوار نجران.
16
ودولة «ميتاني» بجيوشها وملوكها وحضارتها وتاريخها، والتي حدثنا جدول الفرعون «شيشانق» عن هزيمتها وإخضاعها لسلطان مصر، فهي لا تقع في أقصى شمال الفرات، إنما هي «وادي مثان» بالطائف، وأن كل ما فعله «شيشانق»، هو أنه استولى هناك على مجموعة قرى متناثرة بذلك الوادي. ولما كانت النصوص المصرية تشير إلى «ميتاني» باسم ثان هو «نهارين»، لوقوعها بين نهري دجلة والفرات في أقصى اتساعهما داخل الأراضي التركية، فقد رأي الدكتور صليبي أن ذلك خطأ فادح، حيث وجد في وادي «مثان» بالطائف قرية باسم «النهارين»، بل إن حديث الفرعون «شيشانق» عن هزيمته لجيوش دولة آشور تفسير خاطئ من المؤرخين؛ لأنه إنما هزم جيوش قرية «يسير» الحالية! بمنطقة رابغ في تهامة الحجاز.
17
أما الإشارات التوراتية لنهر «الفرات» فإنها كانت تعني واديا باسم «أضم»، حيث توجد بجواره قرية باسم «الفرات»،
18
أو ربما كان واديا آخر باسم «خارف» بجوار تنوقة شمال أبها،
19
وللقارئ أن يختار ما يحلو له.
وللقارئ أيضا أن يختار أو (يحتار) بين اثني عشر اسما لاثني عشر موقعا لقرى تقابل اسم (إسرائيل) الدولة، منها على سبيل المثال: السراة، آل يسير، يسير، أبو سرية ... إلخ.
20
كذلك المدن الواردة بالتوراة باعتبارها مدنا فلسطينية، إنما تقع بكاملها في جبال عسير؛ فبئر سبع لا تقع جنوبي فلسطين؛ لأنها هي قرية «الشباعة» قرب خميس مشيط،
21
وكذلك «جرار» لا تقع على الساحل في أقصى جنوب فلسطين؛ لأنها هي قرية «القرارة»،
22
وقادش هي «الكدس»، و«شور» المفترض أن تقع على حدود مصر الشرقية هي «آل أبوتور» في وادي بيشه،
23
وميناء «يافا» ليس على ساحل المتوسط؛ لأنه هو «الوافية» قرب خميس مشيط، والزرقا ليست شرق الأردن، لأنها هي «الزرقة» في جيزان
24
أما حصن صهيون بأورشليم، فليس سوى قرية «قعوة الصيان» في مرتفعات رجال ألمع غربي أبها.
25
كذلك بقية المدن الفلسطينية المشهورة، التي يتم نقلها جميعا إلى عسير، فتصبح «بيت إيل» هي «البطيلة» في سراة زهران
26
وبيت لحم تصبح «أم لحم» في منطقة الليث،
27
وحبرون المصطلح على أنها الخليل الحالية جنوبي فلسطين، يتم وضعها في قرية «الخربان» في منطقة المجاردة.
28
والمدن الفلسطينية الخمس على الساحل المشار إليها في التوراة بالأقطاب الخمسة، تصبح عنده كالتالي:
غزة = «عزة» في وادي أضم،
29
وفي موضوع بعيد في كتابه تصبح «آل عزة» في بلحمر جنوبي النماص،
30
ثم في صفحات أخرى أكثر بعدا نجدها منسوبة إلى قبيلة «خزاعة».
31
أشدود = السدود في رجال المع.
عسقلان أو أشقلون = شقلة بجوار القنفذة.
جت = الغاط في جيزان.
عقرون = عرقين في وادي عتود بين رجال ألمع وجيزان.
32
وسكان فلسطين القديمة، ومنهم العبرانيون، إنما كانوا في الحقيقة سكان قرية «آل غبراني» في ظهران الجنوب،
33
والكنعانيون كانوا سكان قرية «القنعة» القديمة، لكن ربما كانوا من قرية أخرى هي «قناع»،
34
وصيدا ليست على الساحل اللبناني؛ لأنها هي قرية «آل زيدان» في مرتفعات شهدان في أراضي جيزان الداخلية،
35
وجبل حوريب المقدس بسيناء، يقع في الحقيقة قرب قرية «خارب» في وادي بقرة.
36
وأسماء أسباط بني إسرائيل جميعا تقع بدورها في جبال عسير، كالتالي: - رءوبين نسبة لقرية «أعربيان» في سراة زهران مع مواقع أخرى محتملة نختار من بينها. - شمعون نسبة لقرية «الشعنون» جنوب جيزان مع مواقع أخرى محتملة نختار من بينها. - يهوذا نسبة لقرية «الوهدة» في رجال ألمع مع مواقع محتملة نختار من بينها. - دان نسبة لقرية «الدنانة» مع مواقع أخرى محتملة نختار من بينها. - نفتالي نسبة لقرية «آل مفتله» مع مواقع أخرى محتملة نختار من بينها. - جاد نسبة لقرية «الجادية» في سراة غامد مع مواقع أخرى محتملة نختار من بينها. - أشير نسبة لقرية «وشر» في جيزان مع مواقع أخرى محتملة نختار من بينها. - يساكر نسبة لقبيلة «يشكر» الحالية مع قبائل أخرى محتملة نختار من بينها. - زبولون نسبة لقبيلة «الزبالة» مع قبائل أخرى محتملة نختار من بينها. - يوسف نسبة لقرية «آل يوسف» في بلسمر مع قرى أخرى محتملة نختار من بينها. - بنيامين وهو الاسم الذي أطلقه الشعر الجاهلي على أهل اليمن.
37 (وربما كانت القرى والقبائل المذكورة - بالعكس - نسبة للأسباط).
المنهج والنظرية
هذه بإيجاز نظرة سريعة على أطروحة «كمال الصليبي»، لا تغني، بالقطع عن قراءة الكتاب، كما لا تعبر، باليقين، عن الجهد المبذول بإخلاص في هذا العمل الثري، والذي أبهر مثقفينا إلى الحد الذي لم يلتفتوا فيه إلى مجرد إعادة التصنيف. ونموذجا له ما قدمناه، وكان كفيلا وحده بهذا الترتيب وبالقراءة والدراسة المقارنة، أن يبدل أسباب الدهشة، بل وطبيعة الدهشة.
وقد اختار الرجل مع براعته، منهجه المخلص بتواضع جم، رغم ما وضح من ممكناته العظيمة في مجال اللغة تحديدا، وإن ذهب في مواضع أخرى إلى الاعتداد الشديد، إلا أن المشكلة الحقيقية التي تواجه عمله بالكامل، وباعترافه هو نفسه في مقدمة كتابه، هي أنه لم يأخذ علم الآثار باعتباره على الإطلاق، وحين تناول بعض المدونات التاريخية القديمة، كان ينزعها من سياقات عدة ترتبط بها، ليدعم بها رؤيته في شموليتها، محتجا بأن المسح الآثاري لمناطق غربي الجزيرة لم يتم بعد بشكل تام، كما لو كانت نظريته قد ثبتت وانتهى القول بشأنها فعلا، ولم يبق سوى التنقيب وراءه، لنجد هناك تحت الرمال عالم التوراة القديم برمته، وهو التصريح الذي أكده دوما في أكثر من حديث صحفي. وفي المقابل أهمل الرجل تماما أثريات المنطقة في مصر والرافدين والشام، ومدوناتها. وهو ما يمكن أن ينطق بالكثير كما سنرى؛ لذلك كانت خطورة عملة القاصمة لأساسه، هو أحاديثه التي أهملت تماما جميع النظريات الأخرى حول التاريخ التوراتي، مع إهداره المطلق للجانب التاريخي الوثائقي، حتى داخل الكتاب المقدس ذاته باعتباره وثيقة تاريخية، وبخاصة المرتبط منه بمصر وفلسطين.
وكان اعتماده على المقارنات اللغوية وحدها، وفي حدود أسماء الأشخاص والمواضع ثم حذفه للحركات والضوابط، التي دخلت على المأثور التوراتي في القرن السادس الميلادي من قبل أهله، كناتج ملاحظته لبعض الأخطاء في التصويت والإعراب، وهو ما حور بعض المعاني، ونحن نثق في قدرته المتبحرة في هذا الجانب، لكن المأخذ هنا أنه أعاد النص التوراتي الهائل برمته إلى أصله غير المتحرك؛ لأنه اقتنص خطأ هنا وفلتة هناك، في بضع كلمات أدى تصويتها إلى تبديل معناها - على ذمته - ضمن حوالي نصف مليون كلمة تشكل ذلك المأثور، لكنه استمر على دربه غير هياب، فقام بتسكين كل الأحرف، ليعيد هو تحريكها بما يوافق حركته بين المواضع التي رآها أهلا للتطابق معها في بلاد عسير.
ولو ألقينا نظرة سريعة فيما عرضناه هنا، سنجد «الدكتور الصليبي» يحل كل المشكلات الهائلة، التي حارت فيها أفهام العلماء لقرون، حلا نهائيا تاما مانعا، بمجرد إيجاد الصلة أو التطابق بين اسم موضع ورد بالتوراة، واسم موضع عثر عليه في خرائط جزيرة العرب الغربية، مثلما فعل في تأكيده أن أهل عسير كانوا يتكلمون العبرية، وإلى جوارهم مباشرة كان هناك قوم آخرون يتكلمون لغة أخرى هي الآرامية! فقط لأن كوم الأحجار الشاهدة على ميثاق يعقوب العبري، وخاله لابان الآرامي، المسمى بالآرامية «يجر سهدوثا»، وبالعبرية «جلعيد والمصفاة»، يتطابق كأسماء مواضع، مع قريتين عثر عليهما على خريطة رجال ألمع باسم «مزعة آل شهدا» و«الجعد».
ثم إنه لم يلتفت قط إلى أنه من الممكن افتراض العكس، وسيكون هو الافتراض الصحيح علميا وتاريخيا، حول فرضه أن الأسماء التوراتية الموجودة بفلسطين أطلقها هناك المهاجرون من عسير كذكرى لموطنهم القديم، بمعنى أن العكس ممكن أيضا وأكثر علمية، فتصبح الأسماء الواردة بجزيرة العرب مشابهة لأسماء توراتية، ناتجة عن هجرة إسرائيلية من فلسطين إلى جزيرة العرب، وهو ما نعلمه نتيجة هجوم «آشور» و«كلديا» على فلسطين، ومن بعدهم هجوم «طيطس» الروماني عليها وتدمير الهيكل وتشتيت بني إسرائيل، الذين انحدر أغلبهم جنوبا ليشكلوا فيما بعد يهود شبه الجزيرة العربية الذين تناثروا في مواضع عدة أشهرها خيبر ويثرب واليمن، هذا بالطبع إذا سلمنا له بصدق بعض، وليس كل مقابلاته اللغوية لمواضع الأمكنة وأسمائها.
أما الأشد غرابة فهو اعتماده أسماء موجودة اليوم بالجزيرة لمواضع وقبائل، يراها هي ذات الأسماء التوراتية، بعد مرور أكثر من ثلاثين قرنا، كانت كافية لتبديل أسماء الموضع التي ذكرها عشرات المرات، ونسيان قديمها وهو أمر معلوم، ومعلوم أيضا أن أسماء المواضع عادة ما تتغير بتغير سكان المنطقة. وهو أمر دائم التكرار في بلاد البداوة القبلية أكثر من المناطق المستقرة؛ وذلك للسعي وراء الكلأ والتحرك للإغارة أو هربا من الإغارة، هذا ناهيك أنه قال بنسيان العالم كله للأصل العسيري العربي للإسرائيليين في عسير، بعد أسر في بابل لم يدم لأكثر من نصف قرن، فما باله يرى جزئيات وتفاصيل أجدر بالنسيان، خلال قرون طويلة، يراها باقية شاهدة على الأصل العسيري للتوراة القديمة وأهلها في بلاد العرب.
وفي موضع آخر من كتابه يلتفت إلى نقاط ضعف يحاول تبريرها، فهو يشير إلى النصوص الأسطورية التي وردت في التوراة، وضرب منها مثلا بقصة «الطوفان»، التي تحتاج غمرا مائيا وبلادا ممطرة ونهرية كأرضية للحادثة، وهو ما لا يتطابق مع حال جزيرة العرب ليؤكد لنا أنه لا يمكن التأكد أين ولدت مثل تلك الأساطير؟ ومن استعارها؟ ومن أصحابها الأصليون؟ ولكنه لا شك يعلم أصولها المصرية والعراقية والشامية، وسر انتقالها إلى الكتاب المقدس وظروف ذلك! وسبق لنا أن قدمنا في ذلك بحوثا نشرناها في كتابنا «الأسطورة والتراث»
38
يمكن للقارئ الرجوع إليها، وهو ما لا يمكن أن يتطابق بحال، مع ما ذهب إليه الدكتور الصليبي.
ثم في موضع آخر يجد شاهدا أركيولوجيا لا يقبل دحضا، يتمثل في «الحجر الموآبي»، الذي عثر عليه شرقي البحر الميت، بلاد موآب القديمة، ويتحدث فيه «ميشع» الملك الموآبي عن حروبه مع إسرائيل، فيتحايل على الأمر برمته، ويقول إن النصب قد أقامه «ميشع» في تلك المنطقة التي حددتها التوراة شرقي فلسطين بعد أن هاجر من عسير بعد حروبه مع إسرائيل في عسير!
ويتمادى فيبالغ ليرى أن حملات المصريين جميعا على البلاد التي كان مظنونا أنها فلسطين وبلاد الشام وجنوب تركيا، إنما كانت جميعا على شبه الجزيرة العربية، وتحديدا ضد عسير، بما فيها حملتا «شيشانق» و«نخاو» المدونتان في التوراة وفي النصوص المصرية القديمة، كذلك حملات البابليين والآشوريين اتجهت بدورها جميعا إلى بلاد عسير، وترك العالم الإمبراطوري بقاع الثروة والخصب، والموقع الفلسطيني الشامي الاستراتيجي العالمي، ليتصارع جميعه في بلاد عسير، ولأجل عيون قرى عسير! وهو أمر نافر تماما ومتكلف، ناهيك عن فقده لأي مصداقية أركيولوجية أو وثائقية إضافة لمخالفته للمدونات القديمة التي تحدثت عن تلك الحملات الإمبراطورية!
نعم لا يكابر أحدا أو يجادل في أن المصريين قد اخترقوا بلاد العرب، وأنشئوا هناك مستعمرات متقدمة، لضمان السيطرة على الطريق التجاري البري الذي ينقل بضائع الهند وأفريقيا الشرقية إلى عالم الشرق الأوسط القديم، وهو أمر سبق أن قدمنا عليه قرائن في أعمالنا المنشورة، (انظر مثلا: النبي إبراهيم والتاريخ المجهول)، لكن أن تكون دولة إسرائيل القديمة قد قامت هناك، وأن كل الصراعات الإمبراطورية قد دارت هناك من أجل تلك الدويلة والتي سيقل شأنها أكثر في حال نقلها من موقعها الاستراتيجي بفلسطين، إلى جبال عسير، فهو الأمر الذي يصعب قبوله تماما.
وما يجعل أمر «عسير» هنا، عسيرا تماما، هو قول «الصليبي» إن الحملات المصرية جميعا لم تكن متجهة من مصر إلى حوض المتوسط الشرقي (فلسطين، سوريا، تركيا، العراق)، بل دوما إلى عسير، حيث إن هناك مراجعات شاملة قد جرت للروايات القديمة بهذا الشأن، خصوصا المدون المصري منها، وهي إن لم تقطع بأمر موقع أو آخر، فهو أمر طبيعي تماما في دراسة القديم، لكن هناك من الشواهد ما يكفي لضمان سلامة تحديد خطوط سير تلك الحملات، فإن نجد - كمثال - نصبا لرمسيس الثاني على مصب نهر «الكلب» بمواجهة البحر المتوسط، بين بيروت وجبيل، يتحدث عن حملته الأولى على بلاد الشام سنة 1297ق.م فإنه سيكون دلالة لا تقبل جدلا ودليلا شاهدا يكمل أي نقص في المعلومات المدونة حول تلك الحملة، وخط سيرها.
39
ومثله عندما تتحدث النصوص عن استيلاء «رمسيس الثاني» على بيروت وجبيل، فنحن نصدقها بهذا الشاهد الأثري، ولا نذهب مع «صليبي» إلى فيافي الجزيرة العربية البلقع لنبحث هناك عن «لبينان»، بل نصدق تماما أن «رمسيس الثاني» قد غطى بحملته نصف الشاطئ الشرقي للمتوسط بتلك الحملة الصغيرة، ثم لا بد أن نصدق مرة أخرى، لوجود عناصر أخرى ترتبط بالحادثة؛ لأن الحملة كانت إنذارا للملك الحيثي «ما تتيوالي» سنة 1306-1282ق.م، ليكف عن تدخلاته في سوريا، ودواعي التصديق هي الحرب التي خاضها «رمسيس الثاني» بعد ذلك مع الملك الحيثي ملك تركيا القديمة، في موقعة قادش على نهر العاصي السوري، والتي انتهت بتوقيع اتفاق سلام من نسختين، نسخة بالمصرية ونسخة بالحيثية، وقد تم العثور على كلتا النسختين واحدة في مصر، والثانية في «بوغازكوي» العاصمة الحيثية القديمة في داخل تركيا، وهو السلام الذي لجأ إليه الملك الحيثي، سعيا وراء مصلحة التفرغ لحماية بلاده، أمام جيرانه «الآشوريين» وقوتهم المتصاعدة في بلاد الرافدين الشمالية، وليس في قرية «أبي ثور» في بلقع عسير.
وشواهد أثرية أخرى
وإذا كانت قرية «النهارين» في وادي مثان بالطائف، هي «نهارينا» المذكورة في مدونات مصر، للإشارة إلى دولة الميتانيين، فماذا سنفعل في تلك الحال باللوحة التذكارية التي أقامها «تحتمس» في كركميش «جرابلس الحالية على حدود تركيا الجنوبية». والتي يحكي فيها عن انتصاراته هناك، وأخذه الأسرى بأعداد غفيرة، وعن احتفال الملك في رحلة العودة بنجاحه في المعركة، وكان احتفاله بصيد الأفيال، حيث اصطاد فيلا ضخما من مستنقعات «ني» قرب «أباميا» السورية. ولو حتى غضضنا الطرف عن اللوحة التذكارية التي ربما نقلها شخص ما، في زمان ما، من قرية النهارين في وادي مثان بالطائف، ليضعها في نهارينا دولة الميتاني، كما حدث للحجر الموآبي، فماذا عسانا نفعل بالفيل الذي اصطاده الملك في مستنقعات أباميا؟ وهو أمر معتاد في سوريا القديمة، لكنه لم يكن موجودا إطلاقا في تلك العصور بجزيرة العرب، ولا في العصور التالية، والفيل الوحيد اليتيم الذي عرفته جزيرة العرب، جاء بعد ذلك بقرون طوال قادما من بلاد الحبش، في حملة الفيل المشهورة على مكة.
أما مدونات بلاد الرافدين، فلم تبخل بالتدوين، ولضرب المثل فقط نجد الملك «تجلاتبليزر الأول» الآشوري، يحكي في مدوناته، أنه غزا سوريا ووصل إلى الساحل الفينيقي، وأخذ الإتاوة من المدن الفينيقية «أوراد، وجبيل، وصيدا»، وقد قتل في ميتاني عشرة أفيال ضخمة، وبالتحديد في منطقة حاران، كما اصطاد أفراس البحر من المياه قرب أرواد.
40
وبالطبع ما كان بالإمكان حدوث ذلك في بوداي العرب عند «آل زيدان التي يقابلها بصيدا» في أراضي جيزان، وعليه لا يمكنا بالطبع التسليم بأن حملة «تحتمس الأول» لتثبيت حدود الدولة المصرية على نهر الفرات، بواسطة نصب تذكاري أقامه على الضفة اليسرى للنهر، بعد ما تجاوزه قرب كركميش،
41
لا نستطيع أبدا أن نسلم أن تلك الحملة إنما قطعت كثبان جزيرة العرب الرملية مئات الأميال لضرب قريتي «القر» و«قماشة»، هذا إذا غضضنا الطرف عن النصب التذكاري، أو افتراضنا انتقاله هو الآخر من القمر وقماشة إلى الضفة اليسرى لنهر الفرات.
وسيادته عندما يؤكد لنا أن مصر كانت هي «المضروم»، في مرتفعات غامد، أو «آل مصري» في الطائف ، وأن مدينة «رعمسيس» التي عاشوا فيها بمصر حسب نص التوراة، إنما هي قرية «مصاص»، وأن بحر «سوف» الذي عبروه إنما كان مرتفعات «السراة» نجدنا مشدوهين تماما، إزاء النص المصري الذي جاءنا في شكل تقرير قدمه «بينيبس» كاتب البلاط الفرعوني، لرئيس قلم الكتاب بالقصر «آمنموبي»، ويحكي فيه عن مدينة «رعمسيس»، ونقتطع منه ما يعني الموضوع هنا، في قول «بينيبس»:
إن الكاتب بينيبس يرحب بسيده الكاتب آمنموني.
في حياة وفلاح وصحة،
لقد وصلت إلى مدينة بيت رعمسيس محبوب آمون،
ووجدتها في غاية الازدهار.
لديها مؤن وذخيرة كل يوم،
بركها تزخر بالسمك، وبحيراتها بالطيور، حقولها يانعة بالبقل،
وشواطئها محملة بالبلح،
ومخازنها مفعمة بالشعير والقمح. •••
وشيحور تنتج الملح،
وسفنها تروح وتجيء إلى الميناء. •••
إن مستنقعات زوف تنبت لها البردي،
وشيحور تمدها باليراع،
وشباب عظيمة الانتصارات يلبسون حلل العيد كل يوم،
ويقفون بجوار أبوابهم، وأيديهم مثقلة بالأزهار،
وبالنبات الأخضر من بيت حتحور.
42
والمثال هنا يوضح أن مدينة «رعمسيس» ميناء، ملئ بالخيرات مما يشير إلى الأراضي الخصبة، وأنها القريبة من موضعين بحريين هما «شيحور» و«زوف»، إضافة لمنطقة خصيبة باسم «بيت حتحور». والتوراة تقول لنا: إن بني إسرائيل عاشوا بمصر في مدينة باسم «رعمسيس»، وأنهم عبروا بحرا باسم «سوف/زوف»، وأنهم عبروا البحر في منطقة باسم «بي حيروت» وهي «بيت حتحور»، أما «شيحور» فهو موضع يتردد في التوراة كمكان بمدينة رعمسيس، كانوا يشربون منه هم وبهائمهم، فهل نهمل كل ذلك، ونلقيه جانبا، لنذهب إلى عسير مع صليبي؟ وهل لم يطالع أستاذ التاريخ المتخصص مثل تلك النماذج التي نضرب منها مجرد أمثلة سريعة لقارئ غير متخصص لا نريد أن نثقل عليه؟
ولا يفوتنا، أنه في حديثه عن حملة الفرعون «شيشانق» على مملكة «سليمان»، بعد وفاة سليمان بأربع سنوات فقط، والتي حدثتنا عنها التوراة، وذكرت أن شيشانق قد هاجم أورشليم بفلسطين ونهب كنوز الهيكل، فقد وقف «الصليبي» مع نقطة هامة، وضعها ضمن رصيده لرفض أن تكون فلسطين هي محل تلك الحملة، لتأكيد أن تلك الحملة كانت على عسير ، وتلك النقطة - وهي جديرة بالاعتبار حقا - أنه بمراجعة جداول «شيشانق» الذي ذكر فيها عدد وأسماء المدن التي استولى عليها، مع الدول التي أخضعها للسلطان المصري، لم يأت على ذكر أورشليم إطلاقا بين تلك الأسماء التي ذكرها في جدوله! لكن الدكتور صليبي وهو يمسك تلك الفجوة لينقل الحملة بكاملها إلى عسير، بيد أنه قد تغافل تماما عن دليل حاسم يؤكد دخول شيشانق أورشليم، وهو النصب التذكاري الذي عثر عليه مؤخرا بمجدو في فلسطين، ويتحدث بوضوح عن هجوم شيشانق على أورشليم،
43
وهو يملأ ذلك الفراغ الساقط في جدوله الذي اعتمده «صليبي».
التوحيد العسير
وإذا كان أستاذ التاريخ المتخصص، قد ترك الجانب التاريخي برمته، ليتعامل مع اللغة وحدها لإثبات نظريته، فهو الأمر الغريب، أما الأغرب فهو تأكيده أن التوحيد اليهودي في العبادة، قد نشأ في ذلك العصر الموغل في القدم (حوالي 1200ق.م فيما يذهب إليه)، بين تلك القبائل التي قطنت «عسير»، وهو أمر إضافة لعسر قبوله، فإنه يخالف منطق التطور التاريخي وشروطه المجتمعية والاقتصادية والسياسية، حسبما تعلمنا في فلسفة التاريخ، وقوانين الحراك الاجتماعي عبر بقية المنظومات على سلم الارتقاء التاريخي. فنحن نقبل مثلا ما أخبرنا به علم التاريخ عن الفرعون «أمنحتب الرابع» أو «أخناتون»، كأول داعية لفكرة توحيد الآلهة في إله واحد، في تاريخ الفكر الديني، (وبالمناسبة فإن الصليبي يؤخر أخناتون زمنيا عن موسى)، وقبولنا للتوحيد عند «أخناتون»، ناتج قراءة تفيد بنضوج الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية آنذاك، حيث كانت الأوضاع قابلة لظهور ذلك الطارئ وتلك الطفرة، فقد تحولت الدولة المصرية المركزية إلى إمبراطورية كبرى تضم تحت جناحيها دول شرقي المتوسط، وغذى نموها الاقتصادي ذلك التراكم الثروي الذي تدفق من بقاع الإمبراطورية على مصر، والنضوج التجاري، مما أدى لوضوح طبقي بين المعالم، أما الإتاوات والضرائب والجزى التي تراكمت مع اتساع الإمبراطورية، فقد أدت إلى إفراز فوقي ينزع نحو سيادة إله واحد يرعى مصالح الطبقات السائدة ودولتها الإمبراطورية.
ولما كانت تلك السيادة تتمثل في شخص الفرعون وتتماهى في سيادته، فإنه سيكون مقبولا أن تظهر في مصر فكرة إله يرعى مصالح الطبقة السائدة، ويعبر عن سيادتها، سيكون مقبولا أيضا انتشار ذات الفكرة التوحيدية لدى الفئات المطحونة التي تريد إلها لا يفرق في توزيع الأرزاق، ومن ثم سيكون مقبولا بالتالي أن تتأثر جماعة «موسى» في مصر بظروف مصر، رغم أن نظامها القبلي شوه الفكرة وقصرها على توحيد إله القبيلة الإسرائيلية، بمعنى الاعتراف بآلهة الشعوب والقبائل الأخرى، لكن مع عدم توقير أي إله آخر سوى إله بني إسرائيل، أما أن تقفز فكرة التوحيد فجأة دون بنية تحتية تسمح بها في جزيرة العرب، في ذلك الزمن العتيق، في وسط قبلي متشرذم لا يسمح، ولا تسمح معه قوانين التاريخ التي لا شك يعلمها الأستاذ الصليبي جيدا، بظهور ذلك التوحيد، حتى لو كان توحيدا ابتدائيا، فهو الأمر الذي يجافي منطق العلم بالكلية.
لكن الأستاذ هنا لا يرى الوسط قبليا متشرذما، بل دولة قامت هناك، أقامها شاءول وداود وسليمان، ويرى في ذلك دليله الأقوى، الذي رفض بموجبه تفسير العلماء لسجلات التاريخ التقليدية في مصر وآشور، باعتبارها تتحدث عن فلسطين، حين قال إنه لو كانت دول الإمبراطورية تتعارك في فلسطين، لدونت أسماء هؤلاء الملوك «شاول، داود، سليمان» وهو ما لم يحدث، ونتيجته الحتمية أن هؤلاء الملوك لم يتواجدوا بفلسطين، دون أن يفطن سيادته أن الحجة مردودة عليه، فإذا كانت تلك الحملات الإمبراطورية موجهة ضد مملكة إسرائيل اليهودية في عسير، وكان «صليبي» صادقا في مذهبه، فإن الطبيعي أن تذكر نصوص مصر والرافدين أسماء هؤلاء الملوك الذين حكموا في عسير، وهو أيضا ما لم يحدث، ويتعادل الموقف ، ثم يرجح لصالح فلسطين.
هذا ناهيك عن كوننا لو اعتمدنا أسلوب الأستاذ الباحث في المطابقة لأسماء المواضع والأماكن والأشخاص، مع نصوص التوراة أو حتى مع نصوص لدولة ما، لأمكن أن نكتشف ببعض التعسف ولي التفاسير، أن مصر كانت في فلسطين، وأن فلسطين كانت في سيناء، وأن الدول الفينيقية كانت في شمال أفريقيا وإسبانيا، دون مشاكل كثيرة، كما يمكننا ببساطة أن نضع جزيرة العرب في صعيد مصر حيث حلت هناك القبائل العربية مع الفتح الإسلامي وأعادت التسميات، والأمر كله يعود إلى حركة الهجرات القديمة وإعادة تسمية المواضع، وهو الأمر الذي أشار إليه الصليبي نفسه، وهو الأساس الذي بنى عليه عمله بالكامل، وهو الأساس الذي لا يعول عليه إطلاقا، لبناء مثل تلك النظرية التي طرحها، والتي تتسم بغرابة وخطورة هائلة، لا تتناسب وأدوات البحث المستخدمة في سبيل إثباتها.
أما الدافع الذي نظنه كان بداية الخيط في اندفاع الصليبي، هو اسم جبل «عسير» متقاطعا بالميتاتيز «القلب اللغوي» مع جبال «سعير» التي ذكرت التوراة ونصوص مصر أنها كانت جبالا ودولة تقع ما بين خليج العقبة، وبين البحر الميت، أي على حدود سيناء الشرقية مع بادية الشام. وقد تحدثت التوراة عن «سعير/بلاد إدوم»، باعتبارها دولة مستقلة عن فلسطين، وعن دولة إسرائيل عموما، ودخلت في حروب مع دولة إسرائيل مرات، وفي تحالفات مرات أخرى، أي أنها لم تكن ذات دولة إسرائيل، لكن الدكتور «الصليبي» عمد إلى نقل إسرائيل الدولة، وفلسطين الأرض بكاملها إلى جبال «سعير» في دولة «إدوم»، ثم نقل جبال «سعير» إلى بلاد العرب محتسبا إياها جبال «عسير»، وأن الأمر لا يعدو قلبا لسانيا كما في «زوج/جوز»، وهو المثال الذي ضربه بكتابه للتدليل على نظريته، بينما تم إلغاء دولة «إدوم» التي قامت في جبال «سعير» على حدود مصر، والتي تحدثت بشأنها نصوص مصر في إبان حديثها عن حملات مصر التأديبية للدولة المشاغبة المجاورة، كما أفاضت في الحديث عنها نصوص التوراة حتى آخر سفر فيها.
هذه لمحات سريعة موجزة مقتضبة، لم نقصد بها النقد المفصل والتوثيق الكامل، فمثل ذلك الرد الناقد يحتاج إلى كتاب قد لا يقل حجما عن كتاب الصليبي نفسه، وهو ما يخرج الآن عن دائرة همومنا، فقط رأينا في ضوء الحماس الغريب في أوساط مثقفينا للصليبي أن هناك واجبا علينا للتوضيح والتبيان ليس إلا، ولعل قارئنا قد لاحظ أننا لم نحاول أن نسقط على الرجل أي اتهامات سياسية؛ لقوله بعروبة الإسرائيليين، أو تكفيرات دينية؛ لإنكاره عبور البحر بالعصا المعجزة ، أو نعوت بالخيانة القومية، كما حدث في بعض صحفنا العربية الغراء، فتصوروه ينظر لمطلب جديد لإسرائيل بالعربية السعودية، وهو نقد يعبر عن خصاء ذهني ونفسي وشلل في القدرات، وعدم ثقة لا بالذات ولا بالوطن، إضافة إلى أننا نرفض أي تعامل من منطق الإدانة والتكفير؛ فهو المنطق الأعرج الذي انتهى بنا إلى مقلب نفايات الأمم.
حتى لا نفسد تاريخنا: قليل من العقل وبعض من الضمير1
تحت عنوان رئيسي «بلاغ إلى شيخ الأزهر والمفتي وعلماء الإسلام»، وعنوان فرعي «وزارة التعليم تفتري على أمير المؤمنين عثمان بن عفان»، نشرت صحيفة إسلاموية ما أسمته تحقيقا تقول: إنها تكشف فيه بالوثائق افتراءات الوزارة على عثمان وتبرئتها لليهودي «ابن سبأ» من دم عثمان! وأن الوزارة في أحد كتبها المدرسية اتهمت الخليفة باللين وتقريب أهله من بني أمية واختصاصهم برعايته، فكان أن طالبت وفود الأمصار الإسلامية عثمان بعزل ولاته، وانتهى الأمر بمقتله، وهو ما أدى إلى الفتنة والانقسام في صفوف المسلمين، ولم تنس الصحيفة الهمز من الدكتور «بهاء الدين» والغمز من قناته، وبإشارتها إلى أن تلك الافتراءات جاءت مع مجيء الوزير الحالي، ثم ترد على ما أسمته افتراءات بما رأته حقيقة ثم إغماض العين عنها. والحقيقة هي أنه في عهد سيدنا عثمان كانت الشريعة مطبقة والحدود مقامة والإسلام الذي يوجه حياة الأمة، وصارت الدولة الإسلامية أعظم دول العالم، وعم الرخاء وكثر المال على عهد عثمان حتى بيعت جارية بوزنها.
إذا كانت الدولة الإسلامية قد أصبحت أعظم دولة في العالم زمن الخليفة عثمان، وأن الرجل قد طبق الحدود وأقام الشرائع وحكم بالإسلام، ففيم قتل إذن؟ ثم تساؤل أكثر براءة: هل عصمت المؤسسة الإسلامية البلاد من الفتن والتمزق وقتل رأسها وخليفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟ ومع منهج التقديس المفرط، الذي يتحول بالبشر غير المعصومين إلى قدسية العصمة، لا يجد دعاته سوى البحث عن سبب خارج إطار الأحداث الموضوعية، فما دامت الشريعة مطبقة، والحدود مقامة، والدولة في أوج قوتها، وأهل ذلك الزمان هم من الصحابة الأجلاء، فليس هناك إذن من سبب واضح، وأن ضرب تلك القوة التي شرعت أسباب الأمان والتوحيد يحتاج إلى شيء أسطوري يملك قدرات خرافية، يتلبس لبوسا شيطانيا، ولا بأس هنا أن يتم اختياره من اليهود المبغضين، ليصبح هو المحرك الخفي وراء الأحداث الكبرى في أنحاء الإمبراطورية الإسلامية بغرض إجهاض الإسلام، وحيث تمكن ذلك الشيطان اليهودي من إقناع الصحابة بالتحريض على عثمان، ثم قتله تلك القتلة المهينة، ثم تحريضهم بعضهم على بعض، ليقتلوا بعضهم بعضا، ويتقاذفوا التهم، ويتراموا بالكفر والفسوق، ويصبح ذلك الهلامي الغامض الشيطاني الهائل «ابن سبأ» تفسيرا سهلا يريح نوازعنا التي تنزع إلى تنزيه الصحابة، والتي تدفعنا لتكوين رأي في الصحابة هو أحسن من رأي الصحابة في أنفسهم، ونستبعد - كدأبنا دوما في كل نكساتنا - الأسباب الحقيقية للكوارث التي تحيق بنا، ونبحث دوما عن مؤامرات تحاك هنا وهناك يقودها حزب الشيطان لأمة الإسلام، خير أمة أخرجت للناس.
ثم لا نسأل أنفسنا: كيف تمكن شخص متفرد من فعل كل ما حل لدولة الإسلام وهي في أوج قوتها؟ وهي تلتزم كافة الفروض والسنن مما يعني - حسب منهجهم - أنها تحت رعاية الله مباشرة وحمايته؟ وأمر «ابن سبأ» بهذا التصور يجعل الأمة هزيلة ضعيفة مترنحة، يستمع أهلها للوشايات، كلهم آذان، يسارعون إلى الفتنة مع أول همسة، وبينما «ابن سبأ» ينشر ما يخالف كل مفاهيم الإسلام، أي إنه بات معلوم الأمر مشهور الكفر، فإن الصحابة يستجيبون له من فورهم، فينقسمون شيعا، ويقتلون بعضهم بعضا! وهو ذات المنهج الذي لا زال يمارس حتى اليوم، فلا نرى في كبواتنا أسبابها الحقيقة، ولا نعترف بهدوء بتلك الأسباب، إنما نبحث عن سبب خارجنا، وأن تلك الأسباب شياطين عظمية القدرة والشأن تبغي تخلفنا ودمارنا، غير مدركين أن انتصار الأعداء الدائم ليس إلا نتيجة لذلك التخلف أصلا.
وعم الرخاء
يقول بلاغ الصحيفة الإسلاموية: «عم الرخاء وكثر المال بشكل لم يسبق له مثيل. وقال المؤرخ الشهير ابن سيرين: كثر المال في عهد عثمان حتى بيعت جارية بوزنها.» دون أن يلتفت صاحب البلاغ أبدا إلى الظروف الاجتماعية زمن عثمان والتي أدت إلى نشوء طبقة ثرية عظمية الثراء من قريش، ومن البيت الأموي - بيت عثمان - تحديدا، وأن ذلك الثراء الذي أصابت حظوظه بعض أصحاب الحظوة والمحاسيب، هو ما قصده بالرخاء وكثرة المال، وهو الثراء الذي رافقه إسراف وصل حد السفه والتهتك، فبيعت جارية بوزنها، خاصة إذا ما وضعنا بالحسبان الوظيفة التي ستؤديها تلك الجارية! فمع كل المغازي والأموال والسبايا التي تدفقت على المدينة مع حركة الفتوح، ظل هناك نفر من الناس في حالة جشع وتهتك وصل بهم إلى المزايدة على الجارية المليحة لتباع بوزنها ذهبا، وهو الذهب الذي كان متفرقا يوما ما في بهيمة لفلاح مصري بسيط، وفي محصول حنطة لعراقي يعيش في الأهوار، وفي بعض الشياه لشامي يرعى في البوادي، ليجمع جميعه ويصب في كفة ميزان تقف على كفته الأخرى جارية حسناء.
وكتب التاريخ الإسلامية والسير والأخبار ثرية بالأمثلة التوضيحية لأصحاب العقول، ومن تلك النماذج ما حدث عندما أطلق عثمان يد أخيه في الرضاع «ابن أبي سرح» في البلاد المصرية، وأرسل مما جمع في مصر إلى عثمان غنائم وأموالا عظمية، وكان قبله عليها «عمرو بن العاص»، الذي سبق وجبى بدوره من مصر جباية مرهقة، لكن جباية «ابن أبي سرح» كانت أعظم وأكثر إرضاء للخليفة؛ مما دعاه أن يأتي بعمرو بن العاص ويسأله معرضا بأمانته: «هل تعلم يا عمرو أن تلك اللقاح قد درت بعدك؟» فما كان من عمرو إلا أن أوضح ما آلت إليه أمور مصر بهذا الاستنزاف برده البليغ: «وقد هلكت فصالها!»
فهل نعجب من كثرة المال في عاصمة الدولة وهكذا كان الحال، أم نعجب ممن ترك إرثا - من الصحابة - يربو على الخمسين مليونا، أو ممن ترك ثروته ذهبا يقطع بالفئوس، أم نعجب وسط كل تلك الأموال من حال الرعية، خاصة في البلدان المفتوحة؟! أم من أرقاء الحال من صحابة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في عاصمة الدولة الثرية، حيث كان أبو ذر الغفاري يدور بها يندد بالأثرياء، متحدثا بلسان الفقراء، ثم أخذ يحتج على عثمان ويندد بأعطياته الضخمة لأهله من بيت المال، وبأعطياته لمن أراد تألفه من المعارضين لسياسته، لينتهي أمره بالنفي إلى الربذة ليموت فيها غريبا معدما، وأيضا حيث كان «عمار بن ياسر» الذي أعلن احتجاجه على المنح التي يأخذها تجار مكة الطلقاء، ووقف إلى جوار أبي ذر يدافع عن قضية الفقراء، فأمر عثمان بنفيه بدوره إلى الربذة، فاعترض الإمام علي، فأمر بنفيه بدوره، لولا احتجاج الصحابة على عثمان بقولهم: أكلما غضبت على رجل نفيته؟! ولم يتم نفي عمار. وفي موقف آخر اعترض عمار على أخذ عثمان للجواهر القادمة من الأمصار وتحليته بها لبناته ونسائه، فرد عثمان: لنأخذ حاجاتنا من هذا الفيء وإن رغمت أنوف أقوام، فقال عمار بن ياسر: أشهد الله أن أنفي أول راغم، فرد عليه عثمان بسب قبيح قائلا: أعلي يا ابن المتكاء تجتري؟ ثم أمر الجند بضربه حتى غاب عن الوعي، ولم يهدأ عمار بل حمل كتابا من بعض الصحابة يلوم عثمان ويعظه، فشتمه عثمان وضربه برجليه وهما في نعل قاس، فأصاب الصحابي الجليل العجوز بالفتق.
بنو أمية وعثمان
ولعله من المعلوم أمر الصراع الذي كان يدور خفية حينا، وعلنا جهارا أحيانا أخرى، بين أبناء العمومة من البيتين الهاشمي والأموي، قبل الإسلام وبعده، وبتولي عثمان الخلافة آثر قريشا دون الأنصار، مما ترك في مدينته معارضة لا يستهان بها فهي مدينة الأنصار، ثم آثر الأمويين بشكل خاص، وهو الأمر الواضح بكتبنا الإخبارية، ودونه المسلمون الثقات دون انزعاج، لكنه أزعج صاحب البلاغ المذكور إزعاجا شديدا، فهل علم صاحبنا أن عثمان قد رد عمه الحكم بن العاص وأهله للمدينة، رغم أن جميع المسلمين كانوا يعلمون أن النبي أمر بطرده منها، بعد أن كان يمشي وراء النبي يسخر منه ويقلد حركاته ويتجسس عليه في بيته، ترى ماذا يترك تصرف عثمان هذا في نفوس المسلمين؟ خاصة وهم يرونه يأوي عدو النبي ويسبغ عليه مالا كثيرا، ثم يولي ابنه الحارث سوق المدينة ويسبغ عليه بدوره، ثم يجعل مروان بن الحكم وزيرا ومستشارا، ثم يرونه يولي عدوا آخر للنبي صلي الله عليه وسلم هو «ابن أبي سرح» أخي عثمان من الرضاعة أمر مصر، بينما المسلمون يقرءون قرآنا نزل بتكفير ابن أبي سرح وذمه، فكان ابن أبي سرح يقول: سأنزل مثلما أنزل الله، ولما اعتصر الرجل مصر أرسلوا وفدا لعثمان يشكون «ابن أبي سرح»، فعاقب الشاكين وضرب أحدهم فقتله، ثم يرونه يولي أخاه لأمه «الوليد بن عقبة» ولاية الكوفة، وهم يعلمون كيف غش النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكيف كفر بعد إسلام؟ ويذهب الوليد إلى الكوفة ليصلي بالناس وهو سكران، ثم يقر معاوية بن أبي سفيان الأموي على دمشق والأردن، ثم يضم إليه ولاية فلسطين وحمص ليملك بعدها الشام جميعا، ويوطئ لمملكة الأمويين الوراثية العضود من بعده! هل كان الناس مع هذا كله بحاجة إلى ابن سبأ أم كان ابن سبأ وراء هذا كله؟ أم نعترف بهدوء ولو مرة واحدة بخطأ حساباتنا في قراءة التاريخ، أم نحن أكثر رؤية من ابن الأشتر الذي أرسل من الكوفة لعثمان بعد تولية الوليد ثم سعيد الأمويين يقول: «من مالك بن الحارث إلى الخليفة المبتلى الخاطئ الحائد عن سنة نبيه النابذ لحكم القرآن وراء ظهره. احبس عنا وليدك وسعيدك ومن يدعوك إليه الهوى من أهل بيتك، والسلام.»
المحرضون الحقيقيون
بعد تلك الأحداث التي تدافعت على صفحات الزمن العثماني بكتب السير والأخبار، وما انتهت إليه من نتائج حتمية صبت الأمر كله بيد البيت الأموي المنتصر، يصر دعاة القداسة الغير المعصومين، على البحث عن أسباب خارج التاريخ، ويهرولون وراء شيء اسمه «ابن سبأ» يمسكون بتلابيبه ليجعلوا منه شخصا فريدا فذا عبقريا، تغلب قدراته حكمة الأمة جميعا، وتدهم الصحابة ولم تزل آثار النبوة باقية بينهم، ليظهروا مسلوبي الإرادة والعقول، وهو الأمر الذي يزري بتلك الأمة إن صدقناه، ويبعدنا عن بحث الأسباب الموضوعية لأحداث تاريخنا، مما يجعل ذلك المنهج في التفكير قائما يفرش ظله السحري على حياتنا دون أن نلتفت إلى الأسباب الحقيقية لكبواتنا، ونطمئن إلى أوهامنا سادرين في السمادير ونحن نهوي إلى قاع الأمم، بينما نظرة ناقدة فاحصة لكتب الأخبار تكشف ببساطة أن رواة الأخبار المتقدمين، لا ذكر لابن سبأ عندهم، فلا تجده عند ابن سعد في طبقاته الكبرى، على كثرة ما بها من دقائق السرد وتفاصيل الأحداث والشخصيات، كما لا تجده أيضا معلوما من البلاذري، وهما أهم المصادر بشأن فتنة عثمان، وكان أول ما ذكره الطبري عن رواية لسيف بن عمرو يأخذها عنه المؤرخون من بعد، ممن ذهبوا مذهب صاحب البلاغ؛ لإيجاد تفسير يرضي هواهم في تنزيه الصحابة وتقديسهم.
وبصدد قصة عثمان جمع أهل السير والأخبار تقريبا أهم الأسباب الموضوعية التي أدت للفتنه، والتي ذكرنا طرفا منها، وكانوا موضوعيين أكثر من أصحابنا هذه الأيام، ناهيك عن إشارتهم بالتلميح تارة وبالتصريح أطوارا، للمحرضين الحقيقيين، ونماذج لذلك ما رأيناه فيما سبق، إضافة إلى كون عثمان قد استعدى ضده نفرا من الناس ذوي التأثير البالغ، فقد استعدى عمرو بن العاص عندما غمزه في ذمته وهو أحد دهاة العرب الكبار، ثم سار هو وولاته سيرة خشنة مع أهل الأمصار، وهو ما استنفرهم كما استنفر حاسة الحق والإنسان داخل الصحابة في المدينة، ومعلوم أن ثورة المصريين كانت بسبب اشتداد الولاة عليهم، مع عامل آخر، حيث نجد محرضين حقيقيين لا وهميين، مثل محمد بن أبي حذيفة، ومحمد بن أبي بكر الصديق، اللذين تركا المدينة وذهبا إلى مصر تحديدا، ليحرضوا الناس على الثورة، ثم انضم إليهما بعد ذلك عمار بن ياسر.
ثم جاءت قمة الأحداث عند جمع المصحف وإبقاء صحف وإحراق أخرى، مما أدى إلى معارضة الصحابي الجليل حبيب رسول الله «ابن مسعود»، وتنديده بما يفعل عثمان بآيات الله، حتى أمر عثمان بإخراجه من المسجد وضربه حتى كسرت أضلاعه، ثم حدد إقامته بالمدينة، حتى حصب عثمان مع الحاصبين من ثوار مصر وأهل المدينة وهو على المنبر.
وفي كتبنا الإخبارية لا تبدو المدينة بمعزل عن التمرد والاحتجاج، بل نجد المدينة ذاتها والصحابة أنفسهم هم أساس المعارضة المنكرين لسياسة عثمان، بل تجد صهر عثمان، «عبد الرحمن بن عوف» الذي سبق ورشح عثمان للخلافة ، وقد أصبح من كبار المعارضين لعثمان، وكان يحرض على قتله، وهو أحد رجالات الهيئة التي رشحها عمر بن الخطاب للخلافة، وهو بذلك ليس خارجا فبقية رجال تلك الهيئة كانوا على ذات الحال، ولهم مواقف مشابهة؛ فطلحة بن عبد الله شارك بنفسه في حصار عثمان، كذلك سعد بن أبي وقاص شارك في الثورة، أما الزبير بن العوام فقد اكتفى مع منح وأعطيات عثمان الجزيلة بالنصح له، أما علي فكان معارضا للخلفاء الثلاثة على سواء، وقاوم عثمان أكثر من مرة خصوصا بشأن الأموال التي كان يأخذها من بيت المال، وسبق وعلمنا رأي أبي ذر وعمار بن ياسر.
فأين ابن سبأ من هذا؟
ومن المفتري بالله عليكم؟
محمد الغزالي وسقوط الأقنعة!1
الشيخ محمد الغزالي منزعج هذه الأيام بشدة ممن ناقشوا موضوع «الردة» بعدما أفصح عنه الشيخ في محاكمة القتيل (وليس القاتل)، وبعدما ردوه عليه على المستوى الفقهي والتشريعي، خاصة وأن الشيخ كان رمز الهزيمة النكراء في المناظرة التي جرت أمام الدكتور فرج فودة، وأن الشيخ ذاته هو من جاء الآن ليحكم على ضمير رجل ميت، لإدانة القتيل وتبرئة القاتل، وما يمكن أن يلحق الموقف مما قد تهجس به النفس بين الأمرين، عن صاحب القرار الخفي وراء مقتل الدكتور فرج.
ويبدو أن مزعجا جديدا بدأ يقلق راحة الرجل، حتى دفعه إلى نسيان حذره وتقيته، التي أشاعت عنه حينا شائعة الاعتدال، فخرج عن حذره ليقول في صحيفة الشعب (عدد 7 سبتمبر 1993م): «إن من يناقشون حد الردة، يطلبون من علماء المسلمين فتوى تبيح الارتداد وتنسى عقوبته، لتقرير حرية الكفر والإيمان والسكر والنهب والسلب، وهم بذلك يصيحون: افتحوا أبواب الحانات ودعونا نلتقي بالنساء كما نشاء، وأن الآية التي يحتجون بها
فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر
ليس لها سوى تفسير حقيقي أوحد، هو عرض الإسلام على الناس فإن قبلوه التزموا به، ولا مكان بعد ذلك لحرية الاعتقاد، ومن يرى للآية تفسيرا آخر فهو كافر في دولة مؤمنة، وعليه أن يطوي نفسه على ما بها، أو ليرحل إلى مكان آخر، أما إن أصر على التصريح بما يرى، فقد أطلق صيحات كفور تقرب أجله.»
ورغم قوله: إن الدولة مؤمنة، فإنه يعود إلى الغمز واللمز، بقوله: إن أصحاب هذه التصريحات عصابات قليلة تستعين بالاستبداد السياسي لتفرض ضلالها، مشيرا إلى تحالف الدولة مع هذه العصابات الكفور.
حرية الاعتقاد
والرجل إذ يقول: مطلوب من علماء الدين فتوى تبيح الارتداد وتنسى عقوبته، يغالط مغالطة فاضحة، فهو يعلم يقينا أنه ليس مطلوبا منهم ذلك على الإطلاق، أولا: لأنه ليس في صحيح الإسلام شيء اسمه حد الردة، وثانيا: لأنه يعطي نفسه وجماعته سلطة موهومة، متصورا أن أي أمر يمس مصير الناس يجب أن تصدر عنه فتوى من رجال الدين أولا، وهو الأمر الذي تجاوزه الزمن، اللهم إلا إذا كان الرجل يعيش حلم سيادة مقبلة، يحتكر فيها الرأي الأوحد والتفسير الأوحد، حيث وضح في خطابه المذكور أنه ليس للآية سوى تفسير أوحد هو ما ساقه بشأنها.
وهو الأمر الذي يشير إلى ما يمكن أن يترتب على أي خلاف في التفسير (ناهيك مثلا عن الخلاف المذهبي أو الديني)، في دولة يحكمها رجال الدين، فتهمة التكفير مشهرة، ولا مجال حتى للخلاف في الرأي أو الاجتهاد، ولنا أن نتصور حمامات الدم التي ستحدث حينذاك، لخلاف في مصالح الرجال وأهوائهم، حول تفسير آية، أو حديث يخدم تلك المصالح أو يتعارض معها.
وهكذا، فالرجل قبل أن يتملك على العباد ويحكم في الرقاب، يصدر قراراته بتكميم الأفواه أو النفي والتشريد أو القتل، كما لو كنا نعيش في العزبة التي ورثها عن آل غزالي .
الجموح
والشيخ عندما يرى للآية تفسيرا أوحد، يعطي نفسه قدرا حاشا لإنسان أن يجمح به طموحه إليه، فهو بذلك إنما يعطي نفسه قدرة الاطلاع على المقصد الإلهي، بل ويفرض تفسيره على ذلك المقصد الرفيع فرضا، فيسوق للآية تخريجا يقول: إنها إنما تعني عرض الإسلام على الناس دون إكراه، فإن آمنوا وكونوا جماعتهم ودولتهم، التزموا بذلك العقد الإيماني.
ولوجه الحق، فإن هذا الرأي التفسيري سليم إلى حد بعيد، لكنه لا ينفي آراء أخرى وتفاسير أخرى، وليس هناك شيء اسمه التفسير الوحيد الصحيح، وكان أولى بالشيخ إن أراد صدق المقصد، أن يلجأ إلى حيثيات الناسخ والمنسوخ مرتبطة بواقعها وظرفها الموضوعي، وكيف نسخت آية السيف ما سلفها من آيات حرية الاعتقاد، وأصبح الكفر ملة واحدة، وأصبح الدين عند الله الإسلام، لكنه لم يرد أن يورط نفسه إزاء ما يزعمونه عن تمسكهم الإيماني بحرية الاعتقاد لأصحاب الديانات الأخرى في ظل دولة دينية يحكمون فيها.
هذا ناهيك عن كون ذلك التفسير للآية يسقط دعواه حول حد الردة؛ لأن الآية بذلك قد عرضت الإسلام على الجاهليين وغيرهم في جزيرة العرب زمن الدعوة، عرضته على أناس غير مسلمين عند تأسيس الجماعة «النواة» الأولى المؤسسة للدولة، وكان الخروج عليها حينذاك يعني فرط عقدها حيث حلت محل القبيلة، وأصبحت وطنا في وسط قبلي لا يعرف غير القبيلة وطنا، لكن مسلم اليوم، ولد مسلما، ولم يعرض عليه الإسلام وهو راشد بالغ عاقل، ولم يدع إلى عقد أو بيعة يقبل بشروطها أو يرفضها، ومن ثم فإن الظرف يختلف تماما عن وضع من قبلوا الإسلام عند تكوين الجماعة الأولى، ويبقى سؤال لا يحتاج إلى إجابة: هل يطبق على مسلم اليوم إن أراد اتخاذ موقف جديد بإرادته الحرة حد الارتداد، الذي هو غير مقرر أصلا؟ وهل نستحق أن نكون بشرا حقا، عندما نهلل لمسيحي يخرج على دينه ليدخل الإسلام، ونقتل مسلما ليس لأنه خرج إلى دين آخر، بل فقط لأنه أراد أن ينتمي إلى بني الإنسان، فقرر لنفسه حرية الإرادة والتفكير، وناقش أمرا من أمور دينه ليطمئن إلى طوية فؤاده، أو لأنه ناهض أمرا يراه ضد مصلحة البلاد والعباد.
التهديد بالقتل
وإن ما يؤكد الهواجس ويدعمها، أن الرجل ساق حديثه هذه المرة في هيئة من يملك سلطانا أو يتوقعه، بشكل يشبه بيانات المسئولين وتصريحاتهم، فهو يصدر الأوامر، ويتحدث عن سيطرة الإسلام وسيطرة الدولة، ثم يلقي بما لم يكن متوقعا، فيهدد المخالفين، «المؤمنين بأن الإسلام قرر حرية الاعتقاد»، بالقتل إن لم يصمتوا، لكنه في هذه الفقرة الأخيرة القاتلة تحديدا، تحول خطابه عن الجماعة إلى المفرد، كما لو كان يعني شخصا بعينه وبالذات، يعلمه ويوجه له رسالته الموجزة: اصمت أو ارحل، أو تقتل، ويبدو أن هذا الشخص ممن تصعب مناقشتهم أو اتهامهم بشيء من سيل الاتهامات المعتادة، والرجل بذلك يتصور أن بمقدوره أن يخيف، غير مدرك أن الموت دفاعا عن قضية شريفة هو الخلود الحق، وأن من عرض نفسه على أمانة الكلمة ومصير الناس في هذا الوطن لا يخشى تهديدات الشيخ ولا قنابل صبيته، وإن كانت ثقة الرجل وهو يلقي بهذا الكلام الفلوت تعكس تخطيطا بعينه يوقن بسلامة برمجته حتى النهاية، فمرحبا بموت يرحل بنا عن عالم أقنان تحت عرش عمائم وسيوف مشرعة، فموت صاحب المبدأ بشرف يختلف تماما عن موت جهول يطمع في الخمور والحور، فلسنا نحن أيها الشيخ من يطلب الحانات والنساء (؟!) فقط لتتذكر أن من قتل لافوازيه لا يعرف أحد اسمه وبقي ذكر لافوازيه خالدا، ولتذكر أن من ذبح الحلاج ذهب إلى سلة مهملات التاريخ وبقي ذكر الحلاج، ونحن نؤمن تماما أن ما نطمع إليه من حياة أفضل للأجيال المقبلة، لن يكون دون تضحيات نحن أهل لها، ولو كانت بقرارات قاتلة أنتم أهل لها.
يا أبا العزائم نظرة!1
بعد عملنا الذي نشرناه بمصر الفتاة «الرد على الأضاليل في تنظيرة بني إسرائيل»، والذي تم نشره على مدى عشرة أسابيع متصلة، كان مفترضا ومتوقعا أن تتم مهاجمتنا بشكل ما، وكان من الفطنة أن نترقب حملة قريبة علينا، ربما تأخذ أبعادا تتسم بالخطورة، وأن نتهيأ لما سيحدث، وبالفعل بدأت البوادر ولكن بسرعة وسفور مدهشين! متمثلة في هجمة شرسة شنتها علينا مجلة تدعى الإسلام وطن (عدد 52)، وعلى واحد من أعمالنا، هو كتاب الحزب الهاشمي، بحيث لبس الهجوم زيا مألوفا ومعتادا في تأليب الجماهير وخداعها ضد مصالحها، ولا جدال أن ربطنا لهذا الهجوم بأول الموجات ضدنا وضد أعمالنا مقابل المؤسسة الصهيونية العالمية يجد تبريره في ذلك التزامن الغريب وفي طبيعة الجهة المهاجمة ومناهجها وهو الأمر الذي كان لا بد يحمل ذلك المغزى الذي لا يخفى على لبيب.
ويزداد ذلك الترابط تبريرا إذا ما نظرنا إلى ذكاء الاختيار، وترتيب الأدوار، وطبيعة الخطاب الموجه ضدنا، واستفزازه للمشاعر الدينية، بأسلوب معلوم، استخدم ضد من سبقونا من باحثين مثلنا، كانوا يؤدون المقدمات لما نؤديه نحن الآن، وقد أدى ذلك الدور أحد كتاب المجلة المذكورة أعلاه، وهو أيضا أحد أصحابها وهو نائب رئيس مجلس إدارتها الذي هو شقيقه، فهو سماحة صاحب الفضيلة القطب الصوفي العزمي حفيد الإمام المجدد وابن الخليفة الأول، وشقيق الخليفة القائم لمشيخة الطريقة العزمية الشيخ السيد اللواء عصام الدين ماضي أبو العزائم، وهو فيما تزعم المجلة المذكورة سليل الحسن والحسين، أي إنه من آل البيت، أي إنه هاشمي في حساب الأنساب. ومن هنا حشد الشيخ اللواء ما ينوء به من ألقاب ضدنا ليتناول كتاب «الحزب الهاشمي» وصاحبه بالقذف والتشهير والسب والتفكير، لكن كل ذلك في رأينا، رغم تجاوزه لآداب الخطاب وقواعد اللياقة لم يشكل سوى زوبعة كلامية لم تغنها تجاوزاتها وأغراضها عن أن تكون كالعهن المنفوش، بحيث كشفت عن سوء فهم متعمد، وإسقاط لسوء الغرض على نوايانا وما تخفي صدورنا، وهو الأمر الذي يكشف عنه وضع السيد اللواء الطبقي وانتماؤه الوظيفي، وظرفه السيادي، ومنظومته التي يحتل فيها مكانا ومكانة، وعليه فإن كل ما قدمه السيد اللواء ليس فيه رد موضوعي واحد يستحق المناقشة، بقدر ما هو لون من التحريض الواضح؛ لذلك رأيناها من جانبنا استفزازا وتهجما نعلم خلفياته، ومن هنا فقط وليس من قيمة الموضوع يأتي اهتمامنا بالاستجابة له حتى يكون هناك تقييم دقيق للقدرات، وممكنات الطرفين في تلك المعمعة التي توشك على البدء والله المستعان.
منهج الخطاب
وقد اتبع الشيخ اللواء منهجا معتادا، ليس له غرض سوى هزيمة الخصم بأي أسلوب ممكن، حتى لو كان تزييفا متعمدا على القارئ لتحقيق الغرض الأساسي وهو التحريض! ومن هنا قام السيد اللواء يقتطع من كلامنا على هواه، وينتزع عبارات كتابنا من سياقها على نمط «لا تقربوا الصلاة» بحيث شوه ما كتبنا ، وقال غير ما قلناه، غير مدرك إلى أي منزلق ذهب، لكنه لم ينس تخويفنا، فوضع في صدر لعناته وسبابه صورة لسيادته بزي الشرطة الرسمي، تعمد فيها أن يلقي بكتفه الأيمن أمام عدسة المصور، ليظهر ما يحمله كاهله من أثقال، ولبيان صورة النسر والسيفين لكل ذي عينين.
وهكذا يعلم القارئ من الصورة البهية، والألقاب السنية، أننا أمام مهاجم ذي شأن، يجمع بين قدرات العارفين الواصلين، وسلطان أهل السلاطين، إضافة إلى ما أبانه من إحاطة بالقول المأثور، والدر المكنون، مثل أقوال «برنارد شو» و«كارلايل» والمؤرخ «ديورانت»، ومدائح السيد «ويلز» ومواجيد المستر «هارت»، فأبان عن علم واضح بالأقوال الابتدائية التي كنا نحفظها من كتاب المطالعة الرشيدة، ليكسب بها ثقة من لا يفقهون القول فيتبعون أسوأه، وأول ما يسترعي العجب في هجوم السيد اللواء، أنه لم يضع لموضوعه عنوانا، إنما صدره بلافتة عريضة، تحمل الآية الكريمة:
وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ، وهكذا بدأ الرجل موضوعه بأحسن الكلام، لكن اختياره للآية وانتقاءه لها مع ربطها بما نسبه إلينا يكشف أنه بدأ بالغمز الصريح واللمز الواضح «ويل لكل همزة لمزة»، مستغلا كلام الحق تعالى في غير موضعه، موظفا كلمات القرآن الكريم لغرض السب والقذف! وبحيث تحول ضابط الأمن من الحفاظ على أمن المواطن والذي يتقاضى عليه راتبه ضرائب من جيوبنا إلى محرض لشذاذ الآفاق، من تتر هذا الزمان الرديء ليستأصلوا شأفتنا وشأفة ولدنا من أطفال أبرياء، بعد أن ألصق بنا تهمة الكفر والضلال.
فلا تطالع أول كلماته إلا وتجده يقول عن كتابنا: إن به آراء وأفكارا ضد الإسلام ونبي الإسلام وضربات خفية وظاهرة للإسلام وكعبة الإسلام! وأننا فعلنا ذلك بوضع السم في العسل؛ وهكذا ورط ذو السيفين نفسه بإصداره الأحكام، بزعمه القدرة على قراءة النوايا بغير بيان؛ لذلك بات من حقه علينا لوجه الأمانة أن نعلمه بحقيقة موقفه معنا، بقولنا يا ذا السيفين لقد تجاوزت حدود وظيفتك، بل وعكست الأدوار ووظفت قلمك بتسرعك غير المحمود، فأصبحت أهلا لما يمكن أن نقول.
ونتابع مع السيد اللواء القطب الصوفي مسيرته التكفيرية في تكفيرنا دون بيان، سوى قراءة النوايا ربما في المندل أو في الفنجان! فيقول باجتراء غريب إننا لا نؤمن بالرسالة التي أرسلها الله دون أن يشق بأحد سيفيه عن قلبنا ويقرأ ما فيه، بل ويذهب إلى حد الزعم أن كلامنا في الحزب الهاشمي لم ينطق به كافر يعادي الإسلام، بل ونقف الآن مع أخطر انتقاءات السيد اللواء المختلة؛ حيث يقول: «جاء في كتاب الحزب الهاشمي أن عبد المطلب بن هاشم كان من ذوي النظر الثاقب، والفكر المنهجي المخطط، استطاع أن يقرأ الظروف الموضوعية لمدينة مكة، وأن يخرج من قراءته برؤية واضحة، هي إمكان قيام وحدة سياسية بين عرب الجزيرة، تكون نواتها ومركزها مكة تحديدا، رغم واقع الجزيرة المتشرذم آنذاك.» ويؤيد ذلك بقول عبد المطلب إذا أراد الله إنشاء دولة خلق لها أمثال هؤلاء، وهو يشير إلى أبنائه وحفدته. ويقصد الكاتب أن عبد المطلب كان يسعى لإنشاء دولة هاشمية يكون هو ملكها ومن بعده أولاده. وصل إلى حد اتهامنا بالطعن في الرسالة والقرآن، وأننا قمنا نضرب آيات الكتاب الكريم بعضها ببعض.
ثم ينهال علينا سماحة الشيخ، الذي لا يتسم بسماحة القول، سبابا قائلا: «فإن لم يكن هناك رد لمن يسب الإسلام، فيكفينا رد غير المسلمين عليه وخاصة كارلايل.» وقد أتى بهذا الرد في نماذج منها «البله، المجانين، السفهاء، نتاج جبل الكفر والجحود والإلحاد، دليل خبث القلوب وفساد الضمائر وموت الأرواح» إلى آخر قائمة ما في جعبة القطب العزمي من بديع الألفاظ منسوبة إلى «كارلايل».
اللواء يلوي الكلام
ولأن انتقاءات الشيخ اللواء لكلامنا، حتى وهي مقطوعة من سياقها، لم يكن فيها ما يدين أو يشين، فقد كان يردف بعد كل مقطع تعليقا من عنده يقول فيه: «ويقصد الكاتب كذا وكذا، ويعني الكاتب كذا وكذا، وكأن الكاتب يريد كذا وكذا، إلخ.» فيدس أنفه في عملنا، ويملي على القارئ البريء الموقف المطلوب منا ويحمل نوايانا ما لا تحتمل من نواياه، ونموذج لذلك أمثلة منها: «ويقصد الكاتب أن عبد المطلب كان يسعى لإنشاء دولة هاشمية يكون هو ملكها ومن بعده أولاده (ص20)، وكأنه يقول إن الكعبة المشرفة هي من صنع العرب لأنها صنعت كعبات أخرى كثيرة (ص21)، وكأنه يريد أن يضرب الآيات بعضها ببعض «ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله» (ص23)، ويعني الكاتب بقوله إن النبي
صلى الله عليه وسلم
قد توعد القوم بالذبح، ونفذ هذه الرغبة في غزوة بدر الكبرى (ص23).»
ونقول للسيد اللواء: نعم، لقد قلنا بالفعل ما نصه: «عندما غمز أشراف قريش من قناة النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو يطوف بالكعبة، التفت إليهم هاتفا: أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح.» وكان طبيعيا عندما يقسم نبي أن يبر بقسمه؛ لذلك عقبنا بالقول: «وقد بر النبي
صلى الله عليه وسلم
بقسمه في بدر الكبرى.» لكن القطب الصوفي يرفض ذلك الخبر برمته كما لو كنا قد افتريناه، أو ليجعل القارئ يعتقد ذلك، بينما الخبر متواتر في كتب السير والأخبار الإسلامية، فإذا كان في الأمر ملامة فهي على السيد اللواء؛ لأنه لا يقرأ، وإذا كان مصرا فليتوجه بمعركته إلى التاريخ الإسلامي ولا نظنه بفارس لهذا الميدان.
ونعم قلنا إنه كان للعرب في زمن بعيد، عدد من بيوت الآلهة التي كانت تبنى على هيئة المكعب؛ لذلك سميت كعبات، وذكرنا منها بيت اللات وكعبة نجران، وكعبة شداد الأيادي، وكعبة غطفان، والكعبة اليمانية، وكعبة ذي الشرى، وكعبة ذي غابة، وأرفقنا مصادرنا في الهوامش (الإكليل الهمداني، وتاج العروس للزبيدي، وأصنام ابن الكلبي، والمفصل لجواد علي) مع كل معلومات النشر وأرقام الصفحات، فلم نفتر شيئا من عندنا، ثم ماذا في الأمر من مزعجات يريد بها فتنة القارئ؟ إنه يسرب للقارئ قوله: «إن الكاتب يقصد أن كعبة مكة بدورها من صنع العرب.» نعم إنها من صنع العرب، فقد تهدمت وبنيت عدة مرات، وكل مرة كانت تبنى من طين الأرض وحصبائها وخشبها، وكان بناتها هم العرب أيها القارئ الكريم، ولا شك أن ذلك أمر معلوم، والغرض عند السيد اللواء - مما يقول - أيضا مفهوم.
وفي أقوال الشيخ اللواء متفرقات أخرى، مثل قوله: إننا تجرأنا في تفسير القرآن، كما في تفسير الزنيم بأنه ابن الزانية في الآية الكريمة
هماز مشاء بنميم * عتل بعد ذلك زنيم
والمضحك المبكي في أمر اللواء وهو يلوي الكلام ليحرض علينا، نفيه لذلك المعنى، وإتيانه بالمعاني التي يراها صادقة؛ ومنها «الزنيم هو الذي لا أصل معروف له. وقيل هو الدعي الملحق بقوم وليس منهم.» وهكذا يتوهم سيادته في القارئ عدم الفطنة، غير مدرك أن القارئ سيلمس بوضوح أن حضرة اللواء لم يأت بجديد؛ ومعلوم أن مكة قبل الإسلام كانت تغص بصاحبات الرايات الحمر (الزانيات بالأجر)؛ لذلك كان طبيعيا أن يكثر أبناء الزنى والأدعياء. وفي حادثة نسب لعمرو بن العاص إشارة واضحة لكيفية حل مثل تلك الإشكاليات في الجاهلية، فهل كان السيد اللواء يعلم، أم كان يلوي الكلام، أم هو بحاجة لأن يعلم؟ على أية حال كلنا دائما بحاجة لأن نعلم ونتعلم، فقط يجب أن يتسم بنزاهة الغرض وعلمية المقصد.
ويأتي الشيخ اللواء بقولنا: «إن النبي
صلى الله عليه وسلم
قام يؤلب العبيد على أسيادهم بندائه اتبعوني أجعلكم أنسابا.» ويحتج على قصرنا ذلك النداء على العبيد، ويزعم أنه كان موجها للعرب كافة، وأننا بذلك لا نعلم من التاريخ الإسلامي شيئا! لذلك، وفي حدود علمنا الضعيف نفهم أن ذلك النداء لو كان شاملا للعرب جميعا، لكان معنى ذلك أن جميعهم كانوا بلا نسب، حيث كان النسب له أهميته القصوى في البيئة القبلية، حيث لا شرطة، ولا أولوية لحفظ الأمن، فقط كانت قوة النسب هي الضامن القبلي لحماية الفرد، وحيث لا حماية لمن لا نسب له، وعليه لا يصح التوجه بالنداء «اتبعوني أجعلكم أنسابا» إلا لفاقد النسب؛ لذلك منح النبي
صلى الله عليه وسلم
نسبه لعبده زيد بن حارثة بعد أن أعتقه، وهو المثال الذي ضربناه ولم يعجب السيد اللواء.
الظروف الاجتماعية
ثم يستمر الشيخ اللواء مقتبسا من كتابنا قراءة تاريخية، يوهم القارئ أنه على علم مسبق بها، فيقول: «وإذا رجعنا إلى تاريخ العرب، نجدها لا تقبل النظام الملكي وسيطرة الملك على القبائل العربية؛ لأن ذلك يجعل لعشيرة الملك سيادة على بقية العشائر، وهو ما تأباه أنفة الكبرياء القبلي وتنفر منه، وقد ذكر الكاتب هذا المعنى في ص10 من كتابه، فإذا كانت هذه صفات العرب، فكيف يحلم عبد المطلب بتأسيس دولة هو ملك لها؟»
ومرة أخرى نقول: نعم ولا نتراجع قيد أنملة عما قلنا، فالكملة أمانة، لكن اللواء رفيع المقامات نزع ما قلناه من سياقه، وأعاد ترتيب الفقرات بحيث تؤدي التأثير المطلوب لتحقيق التحريض وما يليه، لكن ذلك لا يعني أننا لم نقل، بل وأيم الحق قلنا غير هيابين، فلم نقدم فرية مفتراة، ولا أضعنا العمر ندرس المنهج العلمي، ونطبق أصوله في بحوثنا، لننسحب مع مثل ذلك تلك الزمجرات الأولية، وهنا نجدنا مضطرين إلى إعطاء ذي السيفين درسا في معنى قراءة الواقع قراءة علمية، والتي طبقناها على جزيرة العرب قبل الإسلام، والتي كانت هدف كتابنا وغرضه، وهو ما رأيناه بحاجة إليه، فأردنا به كسب الثواب.
ومن هنا نقول: إن كتابنا كتاب في التاريخ الاجتماعي وليس كتابا في الدين ولا أي من علومه، وضع بغرض قراءة وفرز أحداث المرحلة القبل إسلامية، وقد تعمد القطب العزمي عدم الإشارة لتلك القراءة الاجتماعية بالمرة، رغم أنها العماد الأساسي للكتاب، تلك القراءة التي تكشف أنه لم يكن عبد المطلب وحده هو الذي أدرك تهيؤ الواقع لقبول الوحدة السياسية، بل أدركه آخرون، وسعوا إلى تحقيقه، مثل أمية بن عبد الله الذي أراد لنفسه النبوة والملك، ومثل عبد الله بن أبي سلول، الذي كاد يلبس التاج الملوكي لولا مجيء الدعوة، ومثل زهير الجنابي وغيرهم كثير، لم تعننا أشخاصهم قدر ما عنانا الأدوار الهامة المؤثرة، أثناء تقديمنا لقراءة الواقع الذي أفرز توجهاتهم.
وهكذا فقد كانت مهمة الكتاب هي الكشف عن أوضاع الجزيرة الاجتماعية والاقتصادية وبخاصة مكة، وبهذا الكشف علمنا أن تلك الأوضاع، قد دخلت مرحلة متسارعة من التغيرات الكيفية الناتجة عن تغيرات عديدة متراكمة، ومرتبطة بظروف أدت إليها، مما هيأ مكة للتحول من كونها مجرد استراحة ومنتدى وثني دنيوي على الطريق التجاري، للقيام بدور تاريخي حتمته مجموعة من الظروف التطورية في الواقع العربي والعالمي، وكان ذلك الدور هو توحيد عرب الجزيرة، في وحدة سياسية مركزية كبرى.
ومعلوم أن ذلك التطور ترافق معه صراع أولاد وأحفاد قصي بن كلاب على ألوية التشريف والسيادة في مكة، مما انتهى إلى انقسامهم إلى حزبين كبيرين متصارعين هما «الحزب الأموي» نسبة لأمية بن عبد شمس، و«الحزب الهاشمي» نسبة لهاشم بن عبد مناف، بينما كانت الساحة تتهيأ لفرز فكرة الوحدة، عبر سريان العقيدة الحنفية وانتشارها، بحيث ساهمت في تحطيم العصبية القبلية لسلف كل قبيلة، وأعادت صهر الجميع بإعادتهم معا لسلف واحد مشترك هو إسماعيل بن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - كما ساهمت في القضاء على التشرذم القبلي، الذي كان يتأسس على تعصب كل قبيلة لنسبها وسلفها الذي هو ربها دون أرباب القبائل الأخرى. وذلك بالعودة إلى إله واحد هو سيد الجميع، ومن هنا تهيأت الجزيرة لقبول فكرة الوحدة السياسية، عندما تهيأت لقبول فكرة السلف المشترك والإله الواحد، ومن هنا يكون توحيد الأرباب في إله واحد قد جاء عند الرواد الحنفيين كناتج طبيعي لهدير الواقع بذات السبيل، لكنه يسبق الواقع؛ لأن الفكرة تسبق الحدوث والتحقيق. وعليه فقد كان قبول الأرباب القبلية الانضواء تحت سيادة إله واحد، مقدمة نظرية، تترك الباب مفتوحا للقبيلة التي يمكنها تحقيق الأمل، كما كان يعني التوطئة المنطقية لقبول ما حدث في عالم السماء «عالم الفكرة» ليحدث في عالم الأرض «عالم الواقع» وقد حتمت الظروف وتضافرت الأحداث بحيث صبت الأقدار في يد قريش، وفي البيت الهاشمي الذي أخذ على عاتقه تحقيق هذه الأمر العظيم، والذي ترافق وتزامن مع تواصل الأرض والسماء وتطابق الفكرة مع حاجة الواقع وضروراته، ومع هبوط الوحي الذي تهيأت له الأسباب فمهدت له أرض الواقع، بحكمة لا تخضع لمؤامرات في التاريخ، ولا لرغبة قبيلة، ولا لإرادة عبد المطلب أو غيره من أفراد ، إنما تضافرت له الأسباب التي تراكمت عبر فترة زمنية حتى نضجت لفرز واستقبال الإسلام تحديدا، فهل شرحنا وأوفينا؟ ويا أبا العزائم لا بأس إن شددت من عزائمك بمزيد من المثابرة على الاطلاع والتحصيل، ففيهما فضل آخر إضافة لفضل الأذكار والمواجيد، ويا أبا العزائم نظرة، ولكن في الكتب!
ما بين «القمني» وهذا المترجم!1
يسجل مترجم هذا الكتاب الطبيب د. رفعت السيد واقعة مرة المذاق في مقدمة ترجمته لكتاب «عصور في فوضى، من الخروج إلى الملك أخناتون» لمؤلفه عالم الطبيعة اليهودي الروسي «إيمانويل فلايكوفسكي»، والواقعة نسبها المترجم بما نصه: «ثم التقيت بالدكتور سيد محمود القمني عام 1992م، وكنت أكن له من خلال كتاباته كل تقدير نظرا لرؤيته المتميزة لبعض جوانب التراث الشعبي الديني في الشرق العربي ومدلولاته التاريخية، وحين طلب استعارة المخطوطة المترجمة للاطلاع عليها نظرا لما ترامى إلى سمعه عنها وتشوقه لقراءتها لاستخلاص ما يمكن استخلاصه منها في إعداد مادة كتابه الذي كان مشتغلا فيه في ذلك الوقت، وهو كتاب «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول»، لم أتوان عن إعارته المخطوطة مع وعد منه بعدم نشر أية أجزاء منها. ولم تكد تمر بضعة أسابيع حتى فوجئت بالفصل الأول منشورا على هيئة مقالات أسبوعية في جريدة «مصر الفتاة» مع تعليقات وحواش، والمقالات تحمل اسم د. سيد القمني. وهالني أن ينكث عالم جليل مثله بوعود كان قد قطعها على نفسه، وبذلت كل جهد ممكن لوقف النشر، ولم أنجح في ذلك إلا بعد أن كان الفصل الأول قد نشر بأكمله، وغني عن البيان أنه قد جمع تلك المقالات بعد ذلك مع بعض الإضافات في كتاب آخر أصدره باسم: «إسرائيل: التوراة، التاريخ، التضليل».»
والكتاب الذي وردت فيه هذه الواقعة صدر عن دار سينا للنشر هذا العام في شهوره الأخيرة، ومعنى ما ورد أن المترجم يوجه اتهاما صريحا إلى د. سيد القمني بأنه لم ينكث بوعوده له فقط! بل ونشر الفصل الأول من المخطوطة المترجمة مقالات باسمه دون نسبتها إلى المترجم! الذي سعى بالطبع إلى وقف النشر فتم له ما أراد بعد لأي!
ولولا أن هذا قد أصبح منشورا ما كنا تعرضنا له هنا بالتعليق، كما أننا لا نملك تأكيد ما ورد أو نفيه، والحقيقة فيه عند د. سيد القمني، لكننا نسعى لجلاء هذا الأمر، لاسيما وأن المسألة تخص باحثا كبيرا وكاتبا ومفكرا مبدعا وصاحب اجتهاد متميز وملحوظ فيما يختص بالدراسات التراثية العربية والإسلامية، والصلة نراها منعقدة بين المترجم ومخطوطته وبين د. سيد القمني. ليس فيما كتبه المترجم فقط، بل وفي كتاب د. سيد القمني «إسرائيل: التوراة، التاريخ، التضليل» الذي ذكر المترجم أنه يحوي تلك المقالات التي نشرها د. القمني في جريدة «مصر الفتاة» محتوى الفصل الأول من مخطوطة المترجم! والكتاب نشرته «دار كنعان» للدراسات والنشر ومقرها دمشق، وطبعت منه ألف نسخة في طبعته الأولى عام 1994م، ونلاحظ في هذا الكتاب أن المترجم صاحب المخطوطة يرد ذكره في صفحة رقم 97 بعنوان «التأسيس» في الهامش أسفل الصفحة هكذا «إيمانويل فليكوفسكي: عصور في فوضى عن ترجمة مخطوطة قام بها الطبيب د. رفعت السيد»، وفي حين أن هذه الصفحة بداية لفصل طويل موضوعه كله مناقشة د. القمني لوجهات نظر «فليكوفسكي» في الكتاب الأصلي «عصور في فوضى» من خلال المخطوطة المترجمة، فإننا لا نجد بعد ذلك أية إشارة إلى المترجم ومخطوطته إلا هذه المرة الوحيدة! حتى في ثبت المراجع واستشهادات البحث الواردة في آخر الكتاب لا يرد ذكر المترجم ولا مخطوطته! مع أن د. القمني نراه يورد في هوامش بعض الصفحات المراجع وأصحابها ويعود إلى ذكرها مرة أخرى في ثبت المراجع واستشهادات البحث آخر الكتاب! وفي نص إهداء «فليكوفسكي» كتابه لأبيه، يلتزم د. القمني بترجمة د. رفعت السيد بالنص! وفي كثير من المواضع يفعل نفس الشيء مع إضافات وتعليقات بالطبع، وكان هذا ما طالعناه من أوراق المسألة هنا وهناك، ونثيره بكل الحرص على ألا يظل اتهام المترجم للدكتور القمني معلقا في ثنايا صفحات كتابه الصادر مؤخرا ودون جلاء لحقيقة يملكها المترجم ود. القمني وحدهما فقط.
الصهاينة مرة أخرى1
كنا قد آلينا على أنفسنا عدم الاستجابة لأية استفزازات، حتى لا ننشغل بمعارك وهمية تصرفنا عن أبحاثنا، خاصة مع إدراكنا لحجم الشراك المنصوبة تلك الأيام، والتي نعلم جيدا دقائقها وآلياتها وأهدافها، لكن ما نشره الأستاذ «حازم هاشم» في «الوفد» بتاريخ 7 / 11 / 1995م تحت عنوان «ما بين القمني وهذا المترجم»، ودعوته الواضحة لنا للرد على الطبيب «رفعت السيد» حول ما كتبه في مقدمة ترجمته لكتاب «عصور في فوضى»، لمؤلفه الكاتب الصهيوني «إيمانويل فليكوفسكي»، إضافة إلى العبث غير المحمود الذي ساقه الطبيب المذكور، كل ذلك لم يترك لنا فرصة التمسك بمبدئنا، حيث انزلق السيد الطبيب إلى منزلق شديد الوعورة، غير مدرك إلى أي منحدر ذهب، فطعن في أمانتنا العلمية، وهي الرصيد الوحيد الذي نملك ونتيه به اعتزازا، ومن هنا تأتي استجابتنا لدعوة الأستاذ حازم هاشم، وهي الاستجابة الكفيلة بإنهاء الأمر بالقاضية، حتى لا نترك مساحة لمزيد من المهاترات، وحتى لا يطول أمر الأخذ والرد، لكن ذلك لا يعني حرمان القارئ من متعة المتابعة، فسنعطيه هنا قدرا كافيا من المتعة، وبغرض العودة السريعة إلى مكاننا الحقيقي بعيدا عن السجال حول أمور هي كالعهن المنفوش، ومن هنا نعتقد أن السيد الطبيب بدوره سيلتزم الصمت الحميد وفي ذلك كفاية وغنى.
وكان السؤال الذي تبادر إلى ذهني فور قراءتي للوفد هو: لماذا صمت السيد الطبيب منذ التقاني عام 1992م - حسبما قرر هو في مقدمة الكتاب المذكور - وحتى اليوم، ليخرج الآن عن صمته؟ أما لو كنت مكان أي قارئ آخر لكان السؤال هو: لماذا لم يبادر سيادته من فوره إلى اتخاذ الخطوات القانونية الرادعة في مثل تلك الأحوال؟ لكن لو حاولت الإجابة على سؤالي أنا، مع الأخذ بحسن الظن، لذهبت إلى احتمال أن الرجل وهو لم يبدأ بعد خطواته في عالم الكتابة، قد هدته قريحته إلى أن أقرب طريق إلى الشهرة هو التهجم على شخص يتم اختياره بعناية، وإذا كان ذلك كذلك، فقد فعلها الرجل دون أن يرمش له جفن، بجرأة متفردة ومغامرة يحسد عليها، لكن ذلك الاحتمال تراجع إزاء معطيات أخرى يمكنها أن تفسر لنا سر تلك النزوة المفاجئة، لمغامرة نزقة، في منطقة خطرة عسرة العبور.
رواية هذا الترجمان
يحكي لنا الطبيب الترجمان في مقدمته رواية غاية في الطرافة والظرف، فيقول: إنه قد التقاني عام 1992م، عندما كانت ترجمته لكتاب فليكوفسكي لم تزل بعد مخطوطة بأدراج مكتبه، لكن تلك الترجمة غير المنشورة - بمعجزة غير مفهومة - طبقت شهرتها الآفاق حتى وصلتني أخبارها، حيث كنت أقيم بمدينة الوسطى (كذا!) وعندها هرعت إلى السيد الطبيب أسعى، أطلب منه استعارة تلك المخطوطة الأسطورية لأطلع عليها، وحسب قوله إني قد فعلت ذلك بعد ما ترامى إلى سمعي عنها، وتشوقي لقراءتها، وذلك كي أستعين بها في كتاب كنت أكتبه حينذاك، هو كتاب «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول».
وهكذا وجه الرجل لنا اتهامين دفعة واحدة؛ الأول أننا استعنا بفليكوفسكي في كتابنا «النبي إبراهيم» دون أن نشير إليه كمرجع لأنه بالفعل غير مدرج كمرجع، أما الثاني فهو أننا قد أخذنا بأفكار كاتب صهيوني في معالجة مسألة تتعلق بأب الأنبياء خليل الله عليه الصلاة والسلام. والغريب أن الطبيب الملهم لم يكلف نفسه عناء النظر في تاريخ طباعة ذلك الكتاب الذي صدر عام 1990م، واستغرق العمل فيه ثلاث سنوات قبل صدوره، وهو ما يعني أن الكتاب قد صدر قبل أن ألتقي بالترجمان المعجزة بسنتين كاملتين. ومعلوم أن مثل هذه الافتراءات من النوع الذي يعاقب عليه القانون، وهو ما ننوي الإقدام عليه بكل سعادة، رغبة منا في العقاب اللائق لتطهير مناخنا الثقافي، وليكون رادعا ماثلا دائما للنماذج المشابهة .
ونتابع مع الرجل مندبته المأساوية وهو يجأر بالشكوى قائلا: إنه أعطاني مخطوطته المترجمة لكتاب فليكوفسكي، بعد أن أخذ مني وعدا بعدم نشر أي جزء منها! أي أنه كان يخشى على مخطوطته سلفا ومع ذلك وثق في وعدنا الشفاهي (هكذا!) لكن الرجل يكتشف كم كان غرا عندما أعارنا المخطوطة؛ لأنه لم تكد تمر أسابيع حتى فوجئ بنشر ترجمته في مقالات أسبوعية بصحيفة «مصر الفتاة»، وبأننا قد وضعنا اسمنا على ترجمته للكتاب، وأننا كي نمرر تلك السرقة اللئيمة لجهد الرجل المسكين، أضفنا إلى تلك الترجمة بعض المقبلات، مع تعليقات هنا، وحواش هناك، لذر الرماد في العيون.
ويزعم الطبيب الترجمان أنه بذل جهودا مضنية لإيقاف نشر ترجمته لكتاب فليكوفسكي باسمنا، وتمكن من ذلك فعلا، لكن بعد أن كنا قد نشرنا الفصل الأول كاملا، ولأني رجل لا أرتدع عن الغي، فقد تماديت وأدرجت مقالات «مصر الفتاة» بكتابي
هناك، لمزيد من الضحك على ذقن القارئ والمترجم، إنها إذن فضيحة بكل معنى الكلمة، وظل الرجل صامتا يمضغ أوجاعه بصمت الكبراء والكاظمين الغيظ، حتى قرر أن يتكلم الأمس فقط، فأي تسامح؟ وأية مروءة؟ وأي ترفع؟ لكن ماذا يفعل الرجل بنفسه وهو يسوق أكاذيبه، عندما يكتشف أنه لم يجهد نفسه في صيغة الكذب المرتب، حيث إن دراستنا التي أشار إلى نشرها ب «مصر الفتاة»، والتي نشرناها تحت عنوان «الرد على الأضاليل في تنظيرة بني إسرائيل»، وكانت ردا على الصهيوني فليكوفسكي، قد نشرت خلال عام 1991م، أي قبل أن يلقاني سيادته بعام كامل!
يبدو أن الموضوع سينتهي عند هذا الحد، ولم أف قارئي الوعد بالمتعة المنتظرة، وهو غبن لقارئنا الكريم، وحتى لا تأخذ القارئ بنا ظنون عدم الوفاء، أجد من واجبي توسيع الحكاية حسب الأصول، ومن هنا أقدم للسيد الطبيب مثالا للأمانة لعله يحتذي به في مستقبل أيامه، فأقر هنا رغم انتهاء الأمر بهذا الشكل، أن الترجمة التي اعتمدنا عليها في ردنا على كتاب فليكوفسكي الصهيوني «عصور في فوضى»، كانت بالفعل ترجمة صاحبنا الترجمان، وهذا درس آخر في جرأة الواثقين المطمئنين، أما كيف حدث ذلك؟ فهي حكاية أخرى.
زيارة الترجمان للصعيد
أكد الطبيب الترجمان أنه قد التقاني عام 1992م، لكن لأن للشرف رجاله، فإني أصحح له المعلومة لصالحه، حيث إنه قد تجشم مشقة زيارتي لأول مرة في بيتي بمدينة الواسطى في شتاء 1991م، كأي زائر من قرائنا الكرام الساعين إلى التواصل مع كاتبهم، لكن زيارة الرجل كانت بغرض آخر، حيث جاء يطلب منا رعايته كمبتدئ هاو، ومساعدته على نشر مخطوطة من ترجمته أحضرها معه؛ لأن المخطوطة تواجه عقبات شديدة في نشرها، كما طلب - إذا أعجبتني - أن أكتب لها تقديما يساعد على انتشارها.
ووعدت الرجل خيرا، وبدأت مطالعة ترجمته لكتاب فليكوفسكي «عصور في فوضى»، ولكن لأكتشف أني أمام شرك عظيم، وأن عدم تجرؤ دور النشر على نشره له مسوغاته وحيثياته، حيث وجدتني بإزاء عمل هائل وشديد الخطورة هزني هزا، حتى لحق الهز بالثوابت، ووجدت أمامي فنا عاليا وعظيما بل ورائعا ومثيرا للإعجاب في تزوير حقائق التاريخ والعقائد، لصالح الفكر الصهيوني، كما لاحظت أن العمل قد وقفت وراءه ودعمته جامعات عالمية كبرى، وأساتذة كبار في شتى صنوف المعرفة، وهنا كان لا بد أن يطفر السؤال قافزا: إذا كنت وأنا المتخصص قد حدث لي كل هذا الانبهار - مع هول الصدمة - إزاء ذلك التكنيك الصهيوني العالي الجودة والامتياز، فماذا سيكون شأن قارئ عادي دون أن يتسلح برد على ذات المستوى من الأصولية العلمية والاقتدار؟ بينما الكتاب يتألق تحت ستار براق من العقلانية والعلمية والصرامة الظاهرة، لينقض نهشا على تاريخ مصر وتاريخ العرب، ليؤسس لإسرائيل مكانها في التاريخ وفي العلم وفي العقول وفي القلوب، وكانت الدهشة أكثر عندما علمت أن أول طبعة للكتاب بالإنكليزية كانت عام 1952م، ومع ذلك لم نسمع في بلادنا ولو رد واحد على ذلك الكتاب، بل اكتشفت أن العكس هو ما قد حدث بالضبط، حيث استعان به كتاب عرب كمصدر غفل من الإشارة، مفترض أنهم مهمون أشرت إليهم في حينه.
هنا وجدت معركة حقيقية من النوع الذي يستهويني، خاصة أني سأخوضها في ميداني الذي أعرف مسالكه ودروبه، وقررت فضح كل هذا الكم من التزييف التاريخي وتزوير الحقائق، لكن اللياقة الريفية اللعينة دعتني إلى عدم تجاوز الترجمان الطبيب، خاصة وأنه كان السبب في تعريفنا بذلك الكتاب الخطير، وعليه طلبت من السيد الترجمان الحضور إلى بيتي، وأحطته علما بقراري الرد الفوري والسريع دون إبطاء على ذلك الزيف المخيف الذي تأخر الرد عليه طويلا.
وبالفعل حضر السيد الترجمان، يركب سيارته المرسيدس الفاخرة، واستمع إلى جزء طويل من ردودي على فليكوفسكي، بينما وجهه يتلون ويتبدل، ثم انحدر فجأة إلى حالة عصيبة دفاعا عن طروحات الكاتب الصهيوني، مما أشعرني أن وراء الأكمة ما وراءها، ومن ثم كان ردي الفوري هو أني سألجأ إلى ترجمة النصوص التي سأرد عليها من جانبي ومباشرة، من النسخة الإنكليزية التي كان قد أحضرها لي لتدقيق ترجمته، وسافر الرجل ليعمل تفكيره في قراري الحاسم والقاطع، ولكن لتختفي من على مكتبي النسخة الإنكليزية مع مغادرته، وأسقط في يدي. لكن في ذات الليلة اتصل بي السيد الترجمان ليقدم لي اقتراحا يقول: ما المانع أن أستثمر ترجمته الموجودة لدي الآن ما دمت متعجلا؟ على أن أشير إليه كمترجم لنص فليكوفسكي بشكل واضح مع نغمة نفعية عالية الصراحة، مفادها أن ذلك سيكون دعاية متميزة لترجمته حين نشرها، وإزاء تلك النفعية الواضحة، تراجعت ظنوني في طبيعة علاقة الترجمان بمنظومة الكتاب، وبما جبلنا عليه من مد يد العون للمبتدئين، قررنا العمل باقتراحه.
وقمت بالرد على تأسيسات فليكوفسكي التي أوردها بفصله الأول، حيث إن بقية الفصول كانت إعادة لتوزيع المعزوفة التأسيسية حسب نوتات أخرى، وقد قلت ذلك واضحا في مقالي الأول، وأنجزت ذلك الرد في عشر مقالات سلمتها كاملة للأستاذ مصطفى بكري رئيس تحرير مصر الفتاة آنذاك، ونشرت على التوالي كاملة دون توقف، هذا بينما يقول السيد الترجمان أن ما نشرناه كان ترجمته هو، وأننا كنا نزمع الاستمرار بنشر الكتاب كاملا لولا تدخله لإيقاف نشر بقية الفصول! ولعل الأستاذ مصطفى بكري يقرأ معنا الآن ليدلي بشهادته حول هذه الجزئية، أي أن السيد الترجمان لم يتدخل ويوقف نشر بقية ترجمته المسروقة كما زعم، حيث لم يتسلم الأستاذ بكري سوى تلك الحلقات العشر فقط وقد نشرت كاملة.
حقوق الترجمان
وعملا بالأصول العلمية، واتباعا لشروط الأمانة البحثية، قمنا بتصدير الحلقة الأولى بالبنط العريض برأس المقال، بإشارة واضحة إلى أن العمل الذي سنرد عليه هو من ترجمة الطبيب رفعت السيد، وعدنا إلى تكرار الإشارة في الحلقة الثالثة نظرا لورود نصوص كثيرة من تلك الترجمة فيها ، وفي ختام المقال العاشر والأخير طلبت من الأستاذ مصطفى بكري تليفونيا أن يكتب بنفسه شكرا وتقديرا لتلك الترجمة، وقد جاء نص ذلك التنويه في مربع بلون متميز لمزيد من الإيضاح، وكان نصه: «يتقدم د. سيد القمني بالشكر إلى الزميل د. رفعت السيد الذي ترجم كتاب عصور في فوضى، وبذل فيه من الجهد والعرق ما يستحق التقدير.»
وعندما قررنا توسعة الرد على تلك المدرسة الصهيونية، أصدرنا كتابنا «إسرائيل: التوراة، التاريخ، التضليل»، وضمنه تلك الردود، وعند ورود الجزء الخاص بعرض أسس نظرية فليكوفسكي التي سنرد عليها وذلك ص97، أحلنا إلى المترجم بحاشية مستقلة واضحة تقول: «إيمانويل فليكوفسكي: عصور في فوضى، عن ترجمة مخطوطة قام بها الدكتور رفعت السيد.» وهو الترتيب العلمي لعناصر معلومات الكتاب حسب الأصول الأكاديمية، أما ملحوظة الأستاذ حازم هاشم، أن تلك الإشارة لم تتكرر بعد ذلك عند ورود نصوص نرد عليها بالكتاب، فهو الأمر الذي ما كان ممكنا، فالترجمة مخطوطة بلا أي معلومات نشر نحيل إليها، فلا اسم ناشر، ولا طابع، ولا بلد، ولا صفحات أيضا، فكيف نحيل إلى صفحات غير منشورة؟ وللتغلب على تلك العقبة وضعنا الإشارة الواضحة في مستهل عرض طروحات فليكوفسكي، مع إبراز الاقتباسات بعلامات التنصيص أحيانا، بالهامش الأوسع أحيانا أخرى، وهي من الأدوات الأكاديمية المعلومة.
ولو قمنا بجمع النصوص الفليكوفسكية التي أوردناها للرد عليها، في اتصال سردي، لما تجاوزت العشرين صفحة، في كتاب يمهد لها، ويناقشها، ويرد عليها، في مائتي صفحة كاملة، جهدنا عليها زمنا حتى أنجزناها، وهي الردود التي أسماها السيد الترجمان «تعليقات وحواشي».
وأذكر أني بعدما نشرت تلك الردود التي تكشف الكتاب والدوائر التي تقف من ورائه، فاجأنا السيد الطبيب بالعدد 139 من مجلة القاهرة بمقال يتلبس الزي الوطني والقومي الغيور ضد فليكوفسكي، وهو ما عاد إلى عزفه في مقدمة ترجمته التي نشرت بالأمس القريب، لكن ليقدم لنا الآن، والآن بالتحديد، كتابا مليئا بالمتفجرات الموجهة. بالطبع نحن لا نصادر على نشر أي كتاب من أي لون، لكن يبقى ذلك السؤال الأرق الملحاح يهمس: لماذا نشر مثل هذا العمل الآن تحديدا، خاصة وأنه الكتاب الوحيد الذي ترجمه السيد الطبيب، فلماذا هذا الاختيار من بين ملايين الكتب التي تحتاجها مكتبتنا العربية فعلا؟
مرة أخرى إذا أخذنا بسوء الظن فسيكون ما أزعج صاحبنا الترجمان ليس موضوع الترجمة، بل ردنا نحن غير المتوقع على فليكوفسكي الذي تصوروه من النوع الذي لا يقهر، فهل يسعد صاحبنا الطبيب القيام بدور حارس الشرف للكتاب الصهيوني؟
أما إذا كانت الإجابة تأخذ بحسن الظن، فإن السيد الطبيب قد كسب رهان المغامرة، عندما اضطرنا للرد عليه، ليشكل ردنا دعاية مجانية لسيادته، وللكتاب، وبالطبع للدار الناشرة التي تجرأت على نشر هذا الكتاب أخيرا، بعد ما رفضته كل دور النشر الأخرى.
وبعد، فقد استجبنا لدعوة الأستاذ حازم هاشم بذلك الرد النهائي، الذي يتضمن درسا واضحا لأشباه السيد الترجمان، ونحن واثقون أنهم سيعملون بالحكمة البليغة: «انج سعد، فقد هلك سعيد.»
مقالات ودراسات
حول الحاجة لتحديد المفاهيم1
من لحظة زمنية بعينها، تلك التي تواصلت فيها السماء مع الأرض عند نزول الوحي القرآني، ومن مكان بذاته يتمركز في بلاد الحجاز من جزيرة العرب، تحدد «زمكان» التراث لدى أصحاب الاتجاهات الأصولية الإسلامية، بل إنه من جانب آخر ذات التحديد لدى شريحة كبرى من الباحثين المهتمين بالدراسة حول الهوية والآخر وفق تصور عروبي ضروري جامع يلتقي بالضرورة بالتأسيس الأصولي الإسلامي لمعنى التراث كمرجعية أولى أساس، وهي الرؤى المؤسسة سلفا على مقدمات تحاول إيجاد جامع مشترك ، كناتج لعدم تأسيس اصطلاحي ومفهومي واضح، لمفاهيم «الوطن، العروبة، الأمة القومية، التراث».
وذلك بدوره ليس إلا ناتج الالتباس الحادث بين «الإسلام» كعقيدة جامعة لمجموعة شعوب تدين به، وبين «العروبة» كهوية قومية جامعة لمجموعة الشعوب الناطقة بالعربية، وتتشارك عبر التاريخ في تفاصيل تؤطر لفكرة توحد أصيل باعتبار أن المفهوم العروبي يتأسس تاريخيا على فتوحات عرب الجزيرة للأقطار المحيطة والتي تحولت إلى العروبية «لغة» لتؤسس دولة عقدها الجامع هو الإسلام، وتحول شعوب الأقطار المفتوحة إلى العقيدة الإسلامية المؤسسة للدولة الأولى «دينا».
ومن ثم تأرجحت حالة الالتباس حول الهوية، بين مفهومي «العروبة» و«الإسلام» ليلقي كل منهما بظلاله على مفهوم «المواطنة» بخاصة إذا أخذنا بالحسبان أن شعوب البلدان المفتوحة وإن تحولت جميعا إلى اللغة العربية (لغة قريش)، فإنها لم تتحول جميعا إلى عقيدة الإسلام «دينا»، وعليه فقد ظل داخل تلك المجموعة البشرية عربا لا يدينون بالإسلام، وبين تحديد الهوية الساري الآن بالإسلام، ورد فعل العربي غير المسلم بتحديد هويته بدينه، ضاع الوطن بين الطرفين، وإعمالا لذلك يصبح الالتباس والتداخل بحاجة ماسة إلى تحديد مفهومي واضح، يرتكز على قراءة علمية تاريخية مجتمعية لرفع الالتباس، والبدء من مرتكزات واضحة.
القطيعة التاريخية والمعرفية
والسؤال الأهم هنا هو: هل شكل الإسلام قطيعة تاريخية ومعرفية مع ما سبق، بحيث يمكن احتسابه وحده مع بداية تواتر الوحي هو كل تراث الأمة؟
على مستوى الرؤى الأصولية لا بد أن تكون هناك قطيعة تاريخية، فيبدأ الإسلام من لا شيء، فهو مفارق سماوي، أزلي الكلمة المقدسة، غير مرتبط بماض أرضي، رغم الواضح في القرآن الكريم وما لحقه من أحاديث نبوية، وما ارتبط به من أحداث تجادل معها الكلم المقدس أخذا وردا، فاعلا ومنفعلا مؤثرا ومتأثرا وما تأسس على كل هذا فيما بعد من اصطراعات مذهبية ورؤى فلسفية استندت إلى جدل القدس مع حدث الواقع الموضوعي، وهو ما يشير بوضوح إلى تناقض تلك الرؤية مع قواعد الإيمان ذاته وتاريخ الدعوة ناهيك عن استحالة القطيعة التاريخية؛ لأنه لا شيء إطلاقا يبدأ من فضاء دون قواعد مؤسسات ماضوية يقوم عليها، ويتجادل معها، بل ويفرز منها حتى لو كان دينا.
والدارس لآيات الوحي يجدها تنبئه بوضوح أنه لم يكن هناك قطيعة معرفية - أيضا - مع السابق الأرضي، وإن تشكلت تلك القطيعة بالفعل على المستوى الإيماني البحت كناتج لتأسيس الإسلام لذاته ولمصداقيته على طرفين، الأول الاتصال بذلك القديم وتقديم معرفة به، ثم على الطرف الثاني تم نفي هذا القديم باعتباره أفكارا باطلة وعقائد أمم كافرة، وهو الأمر الذي ساعد على لون خطير من فقدان الذاكرة التاريخي الجماعي، وأسهم فيه بدور أساسي وتام انقطاع الشعوب المفتوحة عن لغاتها القديمة باعتبارها وعاء ذاكرتها وتاريخها وحضارتها وحاصل خبراتها وتفاعلها مع واقعها عبر زمن طويل، وما أفرزه ذلك التفاعل من ثقافة احتوتها اللغة المفقودة.
وعليه (على سبيل المثال) فقد انقطع المصري عن تاريخه، ولم يعد يذكر من ذلك التاريخ سوى ما قدمه له الإسلام من معلوماتية بشأنه، وهي المعلوماتية التي تحدد الموقف المعرفي ليس بكونه تاريخا، وموضوعا للمعرفة، إنما بوقوعه بين طرفي معادلة الإيمان والكفر، وبالتالي تم تلخيص ذاكرة مصر بكل تاريخها في فرعون طغى، وتجبر فكان مصيره الهلاك غرقا مع قومه المجرمين، وهو الأمر الذي يسحب ظلاله على الحاضر الآني، حيث لا يصبح للمصري تاريخ قبل الفتح، وتنقطع الذاكرة، وتتحول الهوية المفقودة نحو الدين وطنا وتاريخا، ويصبح صدق الإيمان مع الإسرائيليين، الذين خرجوا من مصر الكافرة ليحتلوا فلسطين احتلالا استيطانيا مشروعا من وجهة نظر الإيمان! ويصبح المصري مع موسى ويشوع، ليبارك غرق التاريخ بالكامل مع العصا المعجزة، وهو الأمر ذاته الذي يكابده الواقع الفلسطيني، حيث لا بد للمسلم الفلسطيني أن يكون مع طالوت الإسرائيلي ضد جالوت الفلسطيني، وهو الأمر الذي يصدق أيضا على نمروذ العراق الكافر إزاء أرومة إسرائيل إبراهيم، وعلى كنعان إزاء سام إلخ، وهي الأمثلة التي توضح إلى أي مدى هي إشكالية الوطن والمواطنة والتباساتها إزاء الديني والقومي.
الإسلام إذن لم يشكل قطيعة معرفية مع ما سلف، إنما تجادل معه وحاوره ثم نفاه ليصبح الوحي هو مصدر ذاكرة الأمة ، وهو وحده كل تاريخها ومصدرها المعرفي، وعليه يتأسس الموقف إزاء أي طارئ أو أي معرفة أخرى، وبموجبه تصدر الأحكام والتقييمات بصدد ما يتعلق بما سبق ثم باللاحق أيضا.
وعلى مستوى العقائد، لم يشكل الإسلام قطيعة معرفية مع الأديان السابقة عليه، بل اعتبر نفسه امتدادا لبعضها كما في موقفه من اليهودية والمسيحية، بل إنه أسس ذاته سابقا لها، وأن اعترافه بها لأنها كانت إسلاما بالأساس، ثم نافيا لبعضها الآخر، كما في نفيه لعقائد أخرى كعبادة الأوثان، باعتبارها عقائد باطلة، لكنه في تحاوره مع الديانات التي أطلق عليها «الديانات الكتابية » أصدر أحكامه بشأنها، وأبطل ما بقي مستمرا منها، إما لأنها انحرفت عن أصلها الإسلامي؟ أو لأنها حرفت الكلم المقدس عن مواضعه، أو لأن الدين في النهاية قد أصبح عند الله الإسلام فتساوى الكل، وأصبح الكفر ملة واحدة، وعليه فقد أصبحت المعرفة المعلوماتية لدى المسلم عن تلك الديانات تستمد أصلا مما قدمه الوحي والتاريخ الإسلامي بشأنها، وهو ما أدى إلى انقطاع داخل شرائح المجتمع العربي، تساعد عليه كافة أجهزته الإعلامية والتربوية، التي تتحدث جميعا طوال الوقت دون كلل أو ملل بتكرار شديد الإملال عن الإسلام وقواعده وتفاصيله وشروحه، مما يعطي للعربي غير المسلم معرفة كافية بالإسلام، بينما يظل المسلم العربي لا يعلم من شأن عقيدة المواطن العربي غير المسلم، سوى ما قدمه له الإسلام، وهو ما أدى بالضرورة إلى اغتراب العربي غير المسلم عن معنى المواطنة، واحتمائه بدينه ليصبح دينه وطنا، وهو ما سبقه إليه العربي المسلم عندما فقد ذاكرته وتاريخه.
تاريخية النص
والمطالع للمأثور الإسلامي، وما لحقه من تاريخ وتفاسير وسير وفلسفات وعلوم دين، يكتشف إلى أي مدى توقفت الذاكرة العربية عند لحظة نزول الوحي، وإلى أي مدى انقطعت عن ماضيها، وهو الأمر الذي استمر يتأكد بفعل الإصرار على فكرة الشخصية الثقافية الثابتة، وأن تلك الثقافة ليست بالأصل أرضية، بل هي مفارقة سماوية، وأنها الأصل في كل ثقافة أخرى، وأن ثباتها هذا ينفي أي محاولة لبحث تاريخيتها، فقد جاءت جاهزة هكذا من الأزل، ودونت في لوح أزلي محفوظ، دون ارتباط بأي سبب موضوعي وقت تواتر الوحي «رغم تناقض ذلك مع تقرير الوحي ذاته».
وعليه أصبح بالإمكان اجتزاء أي نص من بين النص القرآني الكلي، ونزعه من سياقه مع باقي الآيات، وسحبه من لحظته التاريخية التي سببته لدعم أي موقف آني نفعي حسب المصلحة المراد تحقيقها. أما الأخطر - برأينا - في رفض تاريخية النص، هو أن هذا الموقف تحديدا هو السبب الجوهري والأساس في تلك الالتباسات المشار إليها، وعدم الوصول إلى تحقيق دقيق بشأنها، كنتيجة لعدم أخذ الأسباب الحقيقية والموضوعية بالاعتبار، والتي أدت بالنبي، وبالوحي إبان تواتره، إلى اتخاذ مواقف بعينها من ذلك المأثور الحضاري القديم، أو من الديانات السابقة وأصحابها، وهو الأمر الذي بات يحتاج إلى تقديم دراسات واضحة جريئة بشأنه، والتعامل في درسها مع النص بوصفه معبرا عن واقعه في حقل موضوعي للأحداث إبان ثلاثة وعشرين عاما هي زمن تواتر ذلك الوحي.
وهو ما يستدعي عملا دءوبا يربط حقل الأحداث بتصنيف الآيات، والمكي منها والمدني مرتبط بظرف كلتا المدينتين وواقع البشر فيهما مع دراسة وافية لعلاقة النبي وأتباعه بأصحاب الديانات الأخرى وما مرت به تلك العلاقة من متغيرات فرضها ظرف الواقع وتطور الدعوة، وأدى إليها وأفرزها، وعلاقة كل هذا بالمستوى المعرفي لجزيرة العرب وكم وحدات تذكر العربي البدوي، وما ألقته البداوة من صباغ على تراكمه المعرفي «وهو لا جدال مستوى الخطاب القرآني الموجه إليهم»، مع تأسيس كل ذلك على قراءة علمية صارمة لواقع الجزيرة ومحيطها، من حيث البنى المجتمعية والأنماط الاقتصادية والأشكال السياسية، وهو الأمر الذي نظنه قد أصبح ضرورة ماسة الآن، وربما ذهبنا إلى أن الأمر بهذا الشكل مطلب مصيري لا يتناقض إطلاقا مع قداسة الدين، بل نزعم أن هذه المطالب توقف عمليات التزييف والتدليس والتخديم الانتهازي للنص الديني، مما يحفظ له كيانه وقداسته، وفي ذات الوقت يرفع الالتباسات عن المفاهيم المطلوب تحديدها، ويساعده على استقرارها وتوقفها عن الرجرجة بين باحث وآخر، ورؤية وأخرى، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى حل كثير من الإشكاليات البحثية الداخلة في همومنا الآنية.
حول مفهوم التراث1
هل يمكن حقا الركون إلى الرؤية الأصولية التي توقف ذاكرة الأمة عند لحظة ابتدائية أولى، هي لحظة تواتر الوحي القرآني، وتحدد للتراث مفهوما أوحد هو المفهوم الإسلامي، وتؤطره مكانيا بمهبط الوحي بجزيرة العرب؟ وحينئذ هل يغدو العربي المسلم بغير تراث وطني وقومي، أم سيلجأ إلى التراث الإسرائيلي في التوراة «وهو الحادث فعلا»؟ وهل يبقى كل تاريخ تلك المنظومة من الشعوب العربية مقصورا على التأرجح بين الإيمان والكفر، وبين فرعون وموسى، وبين طالوت وجالوت، وبين نمروذ وإبراهيم؟
ووسط هذه الحالة الرجراجة بين الإيمان والكفر، هل يمكن أن يجد الوطن ومفهوم المواطنة مكانا في تحديد الهوية؟ وهل بالحق يمكن إطلاق مفهوم «أمة» على مجموعة شعوب فقدت ذاكرتها وتماهت في الدين فأصبح هو الوطن وهو الهوية؟ وهل يصبح ممكنا - على الإطلاق - الحديث عن صراع حضاري آني، دون أن نتكهن بمصير آل إليه الهنود الحمر قبلنا؟ وإذا كانت هذه أسئلة أرقة مؤرقة، فهل من سبيل إلى الخروج من دائرة الإيمان والكفر إلى فضاء أوسع، لا يظله غير مناخ علمي حر تماما، ويكون همه الأكبر هو مصير البلاد والعباد، إزاء التسارع الهائل الآن في تقدم الشعوب المتقدمة أصلا، وتمكنها من أدوات السيطرة، مع فقدنا الأسس والأدوات والمناهج التي قد تساعد - مع التفاؤل - على بدء خطوات صحيحة، للخروج من دائرة جذب ذلك المغناطيس الرهيب نحو القاع، فالتلاشي، فالزوال في طوايا القرون الغوابر، مع عاد وثمود وأصحاب الأيكة وهنود أمريكا وشعب الإنكا؟
وإذا كانت الرؤية العلمية ممكنة دوما، فهل ينبغي أن يظل شبح الرعب من معادلة الإيمان والكفر، وما يصحبه الآن من أدوات تنفيذية لا تقيم وزنا لأبسط الحقوق الإنسانية، وتنفذ دون مراعاة لحيثيات العدل؟ هل ينبغي أن يظل رعب مصادرة الكلمة والحياة «بأمر الله» عائقا دون المحاولة؟ لو كان ذلك كذلك، فإن من يحاولون تأسيس تلك القراءة العلمية الآن، هم أصحاب الريادة في أشرف ساحات النضال حقا وصدقا.
التاريخ العبء
إن المحاولات العلمية المخلصة في التعامل مع المأثور الإسلامي في ظل الواقع المهين الراهن يجب ألا تضع باعتبارها إطلاقا - إن كانت مخلصة حقا وعلمية حقا - أي قطيعة معه، ولا أن تضع ضمن أهدافها إصدار أحكام بشأنه، ولا رفضه أو نفيه، ولا اقتطاع بعضه - بحجة صلاحيته - دون بعضه، ولا إسقاط مفاهيم معاصرة عليه، إنما يجب درسه مرتبطا بواقعه، منضبطا مع حركة هذا الواقع في زمانه، وإيقاع ذلك الواقع وضبط هذه الحركة مع الحدث الذي سبقها والذي عاصرها، وما نتج عن هذا من إفراز معرفي بعينه، دون محاولات وادعاءات عقلنة المأثور، أو أدلجته، ودون المبالغة في بعض مناطقه، ودون التجاوز عن مناطق أخرى فيه، باختصار أن تتم قراءته قراءة تاريخية لا تجرده من ماضيه ومشكلات زمانه، من حيث كان واقعة في حقل لحدث الواقع المجتمعي، بحيث ترتبط الفكرة بواقعها، ليعود ذلك المأثور إلى حجمه الطبيعي، ويتراجع ظله السحري الذي يفرضه دوما كمثل أوحد لا يصح تخطيه، ولا يظل لونا من التاريخ العبء، قدر ما يتحول إلى تاريخ دافع ومحرك دينامي لا سكوني.
لكن وسط كل هذا الاهتمام بين من يفرضون المأثور الإسلامي وحده تراثا أوحد كل الأمة، ومن يحاولون درس هذا المأثور دراسة علمية، تنكشف حقيقة أولى هامة وخطيرة، وهي أن كليهما - حتى أصحاب الدراسة العلمية - لا يتحركون خارج دائرة المأثور الإسلامي وحده، كما لو كان الأمر فعلا، ثم رد فعل، محاولة فرض دائمة، ومحاولة رد لتحجم ذلك المفروض، دون أن يسمح ذلك الاصطراع الفكري الدائب بالحركة التاريخية إلى ما قبل المرحلة الإسلامية، كما لو كان الزمان قد انبت عندها وانقطع، ولا يظل في الذاكرة من تراث تلك الأمة وسط الهموم الحاضرة سوى ذلك المأثور وحده، مع تجمد المحاولات العلمية ذاتها عند نفس لحظة البدء المحددة سلفا وسلفيا، بزمان بدء تواتر الوحي، ومكانه بجزيرة العرب.
نحو فهم آخر
ومن هنا نلح وننبه إلى خطورة حالة هذا الخدر العلمي الذي استطاب حركة رد الفعل الدائمة، والذي توقف - ربما مضطرا - عند هذا المأثور دارسا محققا مدققا، وربما كان واقع الحال سببا يفرض موضوعات البحث، وأيها جدير بالاهتمام الآن، لكن الاقتصار على المأثور الإسلامي وحده في ساحة الدرس العلمي، يؤسس لفهم كاد يصبح حقيقة، وهو أنه وحده تراث الأمة بكاملها، وعليه كان همنا فتح النافذة على التراث بمعناه الأكمل والأشمل باستمرار، حتى لا يضيع من الذاكرة معنى التراث الحقيقي.
وإن أي عقل سليم يمكن أن يرى بهدوء أن أي تراث لأي مجتمع لا يمكن أن يتطور أو يحدث أصلا دون توارث، فالتراث - لغة - إرث موروث عن الأسلاف، تركوا لنا فيه ناتج خبراتهم ومعارفهم، أي أن التراث متطور فاعل منفعل دوما، أي أن الناس هم صناع ذلك التراث، يصوغونه وفق ظروفهم وحاجاتهم، حتى لو كان دينا، فالوحي القرآني جاء مفرقا ومنجما، ناسخا ومنسوخا، وبدل ومحى وأثبت، تبعا للمتغيرات ولمصالح الناس خلال زمن تواتر الوحي، ثم ظل كمأثور ديني حسب فهم الناس له، أو على الأدق فهم كل فرقة أو مذهب أو طبقة اجتماعية.
هنا بالطبع مع اعتبار أن أي نقلة تطورية على سلم التراث، كان لا بد أن تسبقها نقلة على الدرجة الأدنى، ويستحيل دونها الوصول إلى الدرجة الأعلى، وهو ما ينطبق بدوره على علاقة المأثور الإسلامي بالتراث السابق للمنطقة بكاملها.
وبمعنى آخر؛ إن أي تطور ثقافي ما كان ممكنا حدوثه إلا على أسس وأعمدة من ثقافة سابقة، فقط ما يجب أخذه بالاعتبار هو: أن التطور عندما يأتي رأسيا صاعدا على عمد تراث قديم، فإنه يقوم إبان ذلك بتوسع أفقي يفجر فيه، مع كل نقلة، الأسوار والتحديدات القديمة، من أفكار ومعتقدات لم تعد مناسبة لاحتواء الظرف التطوري الجديد، ولم تعد صالحة كوعاء مناسب للتراكم المعرفي المتزايد، ولم تعد صالحة لمعالجة إشكاليات مستجدة لم تكن معروفة من قبل، ويفرضها التطور الدائم للأشكال الاقتصادية والتنظيمات الاجتماعية، وهو ما ينطبق على علاقة المأثور الإسلامي بما سبقه، كما يجب أن ينطبق تماما على ظرف اليوم وعلاقته بمأثور مضى عليه ما يزيد عن أربعة عشر قرنا من الزمان.
ومن ثم فإن القناعة السائدة بانقطاع شعوب المنطقة عن ماضيها القديم هي قناعة إيمانية، أكثر منها حقيقة واقعة؛ لأن التراث حسبما أسلفنا لا يمكن أن يكون حكرا على ثقافة بعينها، ولا يمكن أن يكون ذا مبتدأ «زمكاني» محدد. وإن ما جاء بمأثورنا الإسلامي عن تراث سابق، لم يأت غريبا من الماضي ليتسلل إلى المأثور الإسلامي زمن التدوين، وفي الوقت ذاته فإن المأثور الإسلامي ذاته ليس وافدا من خارج الزمن والمكان، بل كان هو الامتداد الموضوعي للزمن والمكان، وبهذا الطرح يمكن تحقيق معرفة بالتراث تصحح الوعي به، وتزيل عن فهمه أي التباس، وهو الأمر الذي سيسحب عددا من التصويبات تلحق بمفاهيم لم تزل رجراجة حول «الوطن، الأمة، الهوية، القومية ... إلخ».
وعليه فلا مناص من تحديد مفهوم الثقافة والتراث، باعتبارها ناتج تراكم كمي وكيفي لخبرات طويلة تعود إلى عمق ما قبل بداية التاريخ، مع ارتباط الإنسان بهذه الأرض واستقراره فيها، وأن هذا التراث ناتج تفاعل جدلي داخل تلك المجتمعات منذ بداياتها الأولى، وبينه وبين بيئته الطبيعية، وبينه وبين المجتمعات الأخرى والثقافات الأخرى المتباينة، عبر خلالها نقلات على سلم التطور الزمني والمجتمعي والاقتصادي، وشكل في النهاية منظومة فكرية كبرى، يشكل المأثور الإسلامي فيها إحدى الحلقات الكبرى.
«النص» بين الأزلية والتاريخية1
عنوان هذا الموضوع، يلخص - في رأينا - سر الأزمة التي آثارها الشيخ «عبد الصبور شاهين» إزاء أعمال المفكر «نصر أبو زيد». حيث انطلق الشيخ «شاهين» من موقف مألوف، يصر على فكرة الشخصية الثقافية الثابتة المتماهية مع النص الإلهي، بحيث يظل ثبات المفهوم القدسي، ضامنا لثبات المواقع السيادية لرجال المنظومة الدينية، بمعنى ثبات النص كوحدة كتلية واحدة من الأزل. وأن هذا الثبات الكتلي غير المتغير قد جاء - كما هو معلوم - نتيجة انتهاء جدل فلسفي قديم حول قدم النص أو حداثته، بانتصار سياسي سيادي لأصحاب فكرة الأزلية والقدم والثبات، بتحالف أسس لأصحاب تلك الرؤية مواطئ قدم ثابتة دائمة في المنظومة السيادية، التي يجب أن تقوم دوما على الثبات الشروع قدسيا. وبعدها أصبحت أي محاولة للمناقشة لونا من الكفران المبين! مع الأمر غير الخفي الذي يبين في تماهي وتماسك المنظومة السيادية التحالفي مع مؤسستها الدينية، وبالتالي مع صاحب النص الذي يمثلونه على الأرض، كمعبرين دائمين عن ثبات كلمته، وثبات العروش القائمة في الآن ذاته.
ومن ثم كانت أية محاولة لنبش ذلك المفهوم السائد الثابت، حول الثبات الكتلي المتوحد للنص مع ذاته ومع صاحبه ومع الأزل، والذي يؤكد أن النص كان في الأزل كتلة واحدة متماسكة سماوية مفارقة للأرضي وأحداث الواقع، تعني هز الأسس السيادية التي تقوم عليها تلك المنظومة، وهو ما كان يوجب بالطبع ردا عنيفا حديا بين قراري الإيمان والكفر، وهو الرد الطبيعي غير المدهش إطلاقا، وهو الرد نفسه الذي يضرب في عمق الماضي، الذي استخدمته الطبقات السائدة دوما عبر وسطائها المحترفين من رجال الدين، كما استخدمته منظومة رجال الدين ذاتها، لتأمين مصالحها الخاصة، بإبقاء النص معلقا في الفضاء غير مرتبط بأي واقعة تاريخية كانت سببا له، لأمر مفهوم تماما استمر عبر أربعة عشر قرنا مضت، رزح فيها المسلمون تحت كافة أنواع القهر الطبقي والطغيان السلطوي. الذي عادة ما كانت تتغير مظاهره وتتفاوت بتفاوت أحوال المكان والزمان، وعادة أيضا ما كان يجد ذلك القهر المتفاوت سنده في النص الذي يفلسفه رجال الدين، بسحب أي آية قرآنية في سياقها النصي، وبتر صلتها بسابقها ولاحقها، وهم بذلك يسمحون لأنفسهم وحدهم بفض ذلك التماسك الكتلي الذي يدافعون عنه، وفي الوقت ذاته يقطعون علاقة الآية المطلوبة بواقع الحال الذي سبقت بشأنه في أوانها.
استخدام نفعي
وهكذا يظل النص دوما رهن الاستخدام النفعي، لتبرير مواقف قد تصل إلى حد التناقض التام مع بعضها، وبالتالي التناقض التام في الآيات المعبرة عن تلك المواقف المتناقضة والمبررة لها، ولا تحتاج إلى جهد كبير لكشف ما وراءها من مصالح ومواقف هي ضد إنسانية المواطن وكرامته.
وقد كان ذلك الاستخدام الانتهازي الدائم للنص الديني مصدرا لعدد من الانتكاسات الفادحة، حتى وصل الأمر أحيانا إلى استخدام النص لتبرير أهواء ونزوات للحاكمين، هي ضد الوطن وضد المواطن وضد الدين ذاته.
وعليه فإن أية محاولة لإعادة النص إلى سياقه وبنائه الداخلي، ومحاولة تحليله وإدراك علاقاته ببعضه، وعلاقته بواقعه الحدثي وسياقه الخطابي - وهو الأمر الذي يعيد له احترامه ومفهوم قدسيته - كانت مثل تلك المحاولات، في معناها الأخطر هي ارتجاج عروش بدأت الأرض تميد من تحتها بالفعل، وآن مغربها. وعليه كان رد الفعل الذي أدهش كثيرين، رغم أنه لم يكن مدهشا على الإطلاق.
ويبدو أن الأمر سيظل كذلك بعض الوقت، وهو ما لن يحسمه إلا أن يضع المفكرون المخلصون بحسبانهم، أن القضية قضية نضالية في المقام الأول، إضافة لكونها قضية علمية، لا تحتمل تمييع المواقف، أو المصالحة حول مناطق وسطية تصالحية، فالأمر الآن مصير أمة بكاملها، لم يعد بالإمكان إخضاعه لنزوات الرجال وأهوائهم.
وإزاء التسارع في اتساع المسافة بين أحوالنا وأحوال الأمم المتقدمة، لم يعد هناك وقت لإرجاء حسم كثير من المواقف الفكرية، التي ترتبط بشدة بمصير البلاد والعباد، ويبدو أن هذا قدرنا، وأن هذا زمنها، فإن ذهب بلا حسم لكثير من القضايا المسلط فوقها سيف التكفير، ومنها القضية عنوان هذا الموضوع، فلن يكون هناك بعد مساحة لمناقشة أمور هذه الأمة؛ لأنه لن يكون بعد هناك أمة.
سر الأزمة
وأتصور أن من أهم ما استثار الرجال في المؤسسة المشيخية في أعمال «أبو زيد»، ذلك الموقف الذي أبرز فيه التناقض الناشئ عن القول بأزلية النص وثباته، وهو ما جاء واضحا في كتابه «مفهوم النص» يقول:
إن ظاهرة النسخ تثير في وجه الفكر الديني السائد المستقر إشكاليتين «يتحاشى مناقشتهما»، الإشكالية الأولى: كيف يمكن التوفيق بين هذه الظاهرة بما يترتب عليها من تعديل للنص بالنسخ والإلغاء، وبين الإيمان الذي شاع واستقر بوجود أزلي للنص في اللوح المحفوظ، والإشكالية الثانية: إشكالية جمع القرآن، وما يورده علماء القرآن من أمثلة توهم أن بعض أجزاء النص قد نسيت من الذاكرة الإنسانية، ولم يناقش العلماء ما تؤدي إليه ظاهرة نسخ التلاوة أو حذف النصوص سواء بقي حكمها أم نسخ أيضا، من قضاء كامل على تصورهم الذي سبقت الإشارة إليه، لأزلية الوجود الكتابي للنص في اللوح المحفوظ . إن فهم قضية النسخ عند القدماء، لا يؤدي فقط إلى معارضة تصورهم الأسطوري للوجود الأزلي للنص، بل ويؤدي أيضا إلى القضاء على مفهوم النص ذاته.
وهكذا بسط الرجل الأمر ببساطة وإنصاف، وعرض الإشكالية بموضوعية ودون استفزاز، فقط أكد أن الثبات الأزلي كمفهوم، يتناقض مع مفهوم النسخ، ولنلاحظ أن مفهوم النسخ بدوره كان معتمدا آخر لكثير من التبريرات للتوجهات القمعية، أو ما هو ضد مصلحة الأمة، وذلك باستخدامه تبادليا عند الحاجة مع مفهوم الأزلية، المهم أن «نصر» هنا إنما ينبه فقط إلى هذا التناقض، بدليل مسألة النسخ كما وردت في كتب علوم القرآن، دون أي محاولة للتدخل، الرجل أراد - فقط - فتح نافذة للنقاش، لكنها النافذة التي تسحب من رجال الفكر الديني أهم أدواتهم الانتهازية لسحق المواطن باسم الدين! وهو الأمر الذي يمكن أن يئول بالوطن في النهاية إلى مقلب نفايات الأمم، ومن ثم ندفع بالمسألة مسافة أبعد، ونطلب جهدا واضحا يربط إشكاليات النسخ بواقعها الموضوعي، من حيث كانت الآيات تعبيرا عن وقائع في حقل أحداث أدت إليها في زمانها، وهو ما سبق أن قدمنا فيه دراسة منشورة كمدخل ومقدمات،
2
من أجل وقف تزييف وعي المواطن، وتزييف الدين ومعاملته بانتهازية، ووقف الانزلاق التاريخي المهين لهذه الأمة نحو القاع.
التناقض
وأن التناقض يظهر واضحا جليا، عندما نجد أن أي محاولة لمناقشة أزلية النص تتهم فورا بالكفر والإلحاد، وفي الوقت ذاته، ودون أن يطرف لهم جفن يأخذون قضية النسخ من المسلمات، ومن لا يؤمن به كافر بدوره، ولا نجد مبررا لكلا الموقفين المتناقضين غير الإبقاء على بدائل تظل دوما متاحة للتخديم على المصالح وقت الحاجة، حتى لو كانت تلك المواقف شديدة التناقض.
وللحق، فإن الإصرار على وقوع النسخ هو موقف حق، لكنه يحتاج في الجانب الآخر التنازل عن المفهوم السائد حول الأزلية والثبات، ومن النماذج التي تشير إلى التمسك بوقوع النسخ على سبيل المثال، ما جاء عند شيخ علوم القرآن «جلال الدين السيوطي» في قوله: «قال الأئمة: لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله تعالى إلا بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ. وقد قال علي رضي الله عنه لقاض: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا. قال: هلكت وأهلكت.»
كذلك ما ورد عن «أبي جعفر النحاس» في قوله: «ومن المتأخرين من قال: ليس في كتاب الله عز وجل ناسخ ولا منسوخ. وهذا قول عظيم جدا يئول إلى الكفر.»
وهو ما صادق عليه «الدكتور شعبان إسماعيل» وكيل الأزهر بقوله: «وأهمية معرفة النسخ تتضح مما يأتي: أولا: أن أعداء الإسلام من ملاحدة ومبشرين ومستشرقين جحدوا وقوع النسخ وهو واقع، وثانيا: أن الإلمام بالناسخ والمنسوخ يكشف النقاب عن سر التشريع الإسلامي، ويطلع الإنسان على حكمة الله في تربيته للخلق وسياسته للبشرية، وثالثا: أن معرفة الناسخ والمنسوخ ركن عظيم في فهم الإسلام، والاهتداء إلى صحيح الأحكام، فالمنكرون لوقوع النسخ في القرآن الكريم يخالفون صريح النص القرآني والسنة النبوية الصحيحة وإجماع المسلمين.»
وتأسيسا على ذلك، يصبح إنكار النسخ لونا من الكفر الصريح، والنسخ إنما يعني تاريخية النص وتفاعله مع واقعه وارتباطه بظروف ذلك الواقع، وفي الوقت ذاته فإن إنكار عكس ذلك ورفض الأزلية والثبات كفر بدوره وهو ما يتبناه الشيخ الغزالي هذه الأيام، وبين الكفرين يضيع المسلم ولا يبقى سوى أن يركن لمن يفسرون له الحكمة في التناقض، بالتعتيم على الإشكالية، لاستخدام المتناقضين حسب الحاجة والطلب والمتغيرات، دون احترام مطلوب لذلك النص الرفيع، الذي تأكدت تاريخيته درسا تربويا للمؤمنين به، تلك التاريخية التي أكدتها نصوص القرآن الكريم ذاتها بما لا يحتمل لبسا أو تأويلا.
كشف الخدع فيما جاء به الخطاب الديني من بدع1
هل يبدو العنوان مستفزا؟ لا شك أنه كذلك لأول وهلة؛ لأننا نخلط بشكل غير واع بين الدين بقداسته التي تمثلها كتبه الموحى بها، وبين الخطاب الديني الذي يستخدمه كل من هب ودب للدفاع عن قضيته، حتى لو كانت أشد القضايا بطلانا، وهو الخلط الذي انسحب من الدين على الخطاب الديني، وعلى أصحاب هذا الخطاب أنفسهم، الذين عمدوا إلى تأكيد ذلك المعنى، بالخلط المقصود بين الدين في ذاته وبين خطابهم المصلحي! حتى أصبحوا ينعمون في نظر العامة على الأقل بهيبة مستمدة من قداسة الدين، وبخوف خرافي من الزي (اليونيفورم) الذي يرتديه رجل الدين المتكهن عادة، وهو ما ساعد أصحاب الخطاب الديني، دوما على خداع الجماهير ضد مصالحها، وتبرير أفظع المظالم، وتمرير أشد الفظائع إثما، باعتبارها مشروعة دينيا، وهو الأمر الذي تدلل عليه إطلالة سريعة على تاريخ الأنظمة «الثيوقراطية»، سواء في أوروبا أو في بلادنا، عندما كان الناس يحكمون بمساندة رجال الدين، أو بهم مباشرة، خاصة عندما يدعون لأنفسهم قميصا سربلهم الله به، أو حقا إلهيا مزعوما، وسواء كان ذلك الدعي بابا أم سلطانا أم خليفة أم امبراطورا.
ومن نكد الدهر أن نعي هذا الخلط، ونظل فيه سادرين، ومن ثم فإن ما نسمع ونقرأ من كلام مرسل، لم يستطع أن يفرق بوضوح بين الدين وبين المشتغلين بأمور الدين، وبين الدين وبين الخطاب الديني، وبين الدين في ذاته كمقدس، سر تقديسه الوحي الإلهي، وبين الفكر الديني الذي يشرح أو يفسر أو يضيف أو يئول أو يستخدم ذلك الوحي لمأربه أو لوجه الله.
والمثال الأوضح هنا، أننا نعلم جميعا ولا شك لحظة أن الوحي القرآني هو كلمة الله الواحدة الثابتة، ومع ذلك فإننا وجدنا عبر متغيرات سياسية واجتماعية، من كان يبرر لنا النظام الاشتراكي بالقرآن والسنة والقواعد الفقهية، ثم جاءنا من يبرر الاقتصاد الحر ويكفر الاشتراكية والاشتراكيين، وبتغيير الأحوال عبر الأيام، وتداولها بزوال نظام اقتصادي اجتماعي وقيام آخر؛ كنا نجد لدى الخطاب الديني مشروعية كاملة لمحاربة دولة إسرائيل، بينما نجد في زمن كامب ديفيد كل المبررين يتقدمون بدلائهم السلمية وآرائهم الشرعية، التي تؤكد أنهم ما داموا قد جنحوا للسلم، فعلينا أن نجنح لها ونتوكل على الله (؟!). وفي حرب الخليج وجد نظام صدام من رجال الدين في مختلف أنحاء بلاد لا إله إلا الله العدد الكافي لتبرير مواقفه، وعلى الجانب الآخر وجد المتحالفون ضده (من المسلمين تحديدا؛ لأن الأمريكان لم يفعلوها) من يبرر لهم موقفهم تبريرا شرعيا.
وهكذا مع شديد الأسف، نهدر قيمة الوحي الصادق، ونتعامل معه «بفهلوة»، تبرر ما نريد، وترفض ما لا نحب، وتدافع عن ظلم، وتقرر لمواقف شديدة التنافر مصداقيتها الدينية، وهو الأمر الذي يستهين بالوحي الإلهي، ويجعله مطية لكل الأغراض، ويمتهن كلمة الله الصادقة، دون أن يرف له جفن، وهذا هو بالتحديد ما نقصده بما جاء به الخطاب الديني من بدع، ليست من صحيح الدين، ولا من سلامة الضمير ولا الإيمان.
ومن ثم كان لا بد من موقف حاسم إزاء ما يحدث، موقف يضع الشروط التي تضمن احترام النص، وتمنع استثماره حسب الهوى والغرض، وربما لخدمة أشد الأمور بعدا عن الحق والإنصاف. ومن بين هؤلاء الذين أخذوا هذه المهمة على عاتقهم، المفكر المتميز «نصر حامد أبو زيد»، الذي حدد أساسا لمشروعه العلمي، يتمثل في أن الدين يجب أن يكون عنصرا أساسيا في أي مشروع نهضوي، لكنه توطئة لذلك أعطى من عمره الكثير لإيضاح أن الدين ليس هو الخطاب الديني، والذي يمارس دوره بشكل أيديولوجي نفعي، إنما الدين هو النص الديني الموحى به بعد تحليله وفهمه فهما علميا صحيحا يمنع عنه أي لبس، ويقف عقبة إزاء محاولات استثماره، وهو ما سينفي فقط ما فيه من قوة دافعة نحو التقدم والعدل والحرية.
وقد انتهى الدكتور نصر أبو زيد في بحوثه إلى عدم وجود خلافات جوهرية بين خطاب المعتدلين وخطاب المتطرفين، فكلا الجانبين النشيطين يعتمد على ذات الآليات التي توحد فكرهم بالدين لاكتساب قداسته، وتفسير كافة الظواهر بإرجاعها إلى مبدأ أول هو الحاكمية الإلهية، بوصفها نقيضا لحاكمية البشر، إضافة إلى سلطة السلف، وتحويل نصوص المجتهدين إلى نصوص شبه مقدسة أو مقدسة، بحسم قطعي يهدر البعد التاريخي للدين تماما، كما يعتمد الخطابان على ذات المنطلقات الفكرية بمبدأ تحكيم النص، الذي عادة ما يصبح تحكيما لتفسير وفهم فئة بعينها للنص على حساب العقل، وهو الأمر الذي ينتهي بالخطاب الديني إلى موقف نقيض من الإسلام؛ لأنه نقيض للعقل رفيق الإسلام وأساسه المتين، ثم يقوم ذلك الخطاب بتحريم ما عدا ذلك عن طريق التغطية الأيديولوجية لتوجهاته الرجعية الخادمة للنظم السياسية الدكتاتورية، عن طريق مبدأ «لا اجتهاد مع النص».
وهي خدعة أيديولوجية؛ لأن معنى النص هو «النص الواضح القاطع الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا»، والنص بذلك نادر في الوحي، وتظل سائر الآيات قابلة للاجتهاد والتأويل.
وبهذه التفرقة بين الخطاب الديني وبين الدين، ينزع عمل الدكتور نصر عن الفكر الديني وخطابه القداسة، ليصبح اجتهادات بشرية لفهم نصوص الدين، بحيث يظل الوحي الإلهي مصانا باحترام حقيقي، وهو ما لا يسمح باللعب بالآيات وتفسيرها حسب الهوى والمنافع، وإكساب ذلك التفسير قدسية الدين ذاته.
ومن هنا فإن الدكتور نصر حامد أبو زيد، وغيره من أصحاب ذات الاتجاه والغرض، وإن اختلفت الأدوات بين هؤلاء الكوكبة من الباحثين المبشرين بفجر جديد، فد تعرضوا لهجمة شرسة من أصحاب الخطاب الديني، ارتكنت جميعا إلى التكفير، لحصار أعمالهم وتنفير المواطن منها، وتشكيل رأي مسبق لديه يمنعه من متابعتها أو قراءتها، ولكن المأساة الحقيقة أن يتحول الأمر إلى إرهاب حقيقي، فمن الدعوة الصريحة إلى إخراس تلك الأصوات، «وهو ما تعرض له كاتب هذه السطور على صفحات الأهرام والنور وغيرهما»
2
إلى الانتقال للفعل داخل قلعة العلم المفترضة «جامعة القاهرة»، حيث تم رفض الأعمال التي قدمها الدكتور أبو زيد، والتي تصل إلى ثلاثة عشر عملا، ولم تشفع له لنيل درجة الأستاذية، أما الأكثر نكاية وإثارة للفزع حقا، هو أن يكون التبرير المدون لذلك الرفض، هو اتهام الرجل بالكفر، بعد تزوير كلامه وتحريفه عن موضعه وسياقه، على نمط «لا تقربوا الصلاة»، إضافة إلى التلفيق في التأويل المتعسف، دون الرأي العلمي المفترض وحده، وهو ما فعله تقرير الشيخ عبد الصبور شاهين، رجل بيوت لهف الأموال المشهور، وبالطبع لم يكن غريبا أن يكون كاتب تقرير بهذا السمت والشكل رجلا من المستفيدين المتاجرين بخطابهم الديني، وهو ما علمناه عنه يقينا في علاقته بأكثر من فضيحة لم يدارها ولم يند لها جبينه، فهو أمر مفترض لدى أصحاب الخطاب الديني النفعي، ومن الطبيعي تماما أن يصاب مثل كاتب التقرير بهذا الهياج الشديد، لكن غير المقبول وغير المفترض وغير المتوقع إطلاقا، أن يكون رجل واحد هذا رأيه، يتمكن بالإرهاب من فرض رأيه واستبعاد رأي جميع أساتذة كلية الآداب وبخاصة قسم اللغة العربية فيما قدموه من تقارير، وهنا الكارثة حقا.
ويبقى التساؤل: هل أصبحت قبة الجامعة قبة شيخ من ذوي الكرامات ثوى في قبر مبروك؟! أم قبة كنيسة؟! أم قبة أحد المساجد؟! أم قبة معهد علمي عريق تعرض في غفلة أو تغافل مقصود لتسرب الإرهاب إلى حرمه ليعتدي على أقدس حرماته، وهي حرية البحث العلمي، وأمانة القرار العلمي؟ الفضيحة عالمية يا سادة يا كرام، ولم تعد مسألة ترقية «أبو زيد» أو حتى فصله (أنا شخصيا أحبذ القرار الأخير؛ لأنه سيعطي الرجل تفرغا ليأتي ويجلس بجانبي يؤنس ترهبي، كما سيعني ضراوة أكثر من معركة يجب أن تحسم اليوم وليس غدا حسما نهائيا، إما حياة الأمة وتقدمها، أو ننفض أيدينا منها ونترحم على ذكراها)، فالقضية أكبر الآن من ترقية أستاذ، إنها منطق الإرهاب والتكفير واضطهاد الفكر الآخر، وإذا كان هذا قد حدث مع نصر وهو مسلم، فكيف به لو كان مسيحيا؟ فيا أيها المسيحيون المصريون طوبى لكم حقا وصدقا، والحق أقول لكم: إن مصر تتأسس اليوم، وفي هذا الجيل، لقد افتتحت قضية نصر الملحمة، والله المستعان.
ذبح المفكرين على الطريقة الإسلامية1
«مفكر من أهم مفكري التنوير في التاريخ المصري، وعلامة فارقة في تاريخ الثقافة العربية جميعا.» هذا بالضبط ما قلته في إحدى ندواتي بعد أن قرأت للرجل بحثا واحدا، كان منشورا أيامها في دورية عربية، وبعدها تابعت البحث عن أعمال الرجل، وعن الرجل نفسه، لأكتشف أنه كان بدوره يبحث عني، عندما أرسل لي - بمدينة الواسطى حيث كنت أقيم - أحد مريديه، ليطلب اللقاء.
وبقدر ما أدهشتني كتابات هذا الرجل بقدر ما أدهشني شخصه، تحسبه لشدة تواضعه، وهو يستمع للقول، أنه يستمع إليه لأول مرة، ثم تكتشف أنه يعلمه فعلا لكن بشكل أفضل، حكى لي عن مرحلة الصبا بشديد من البراءة والاعتزاز، وكيف بدأ عاملا فنيا باللاسلكي، وكيف حمل أعباء الأسرة بعد رحيل عائلها، وكيف كان يعمل نهارا ويدرس ليلا، لكنك لا تجد مهما بحثت أي أثر لتشوهات كان يمكن أن تتركها تلك الرحلة في نفس أي رجل، كل ما حدث أنه قرر أن يحمل عبء مصر جميعا.
صريح كل الصراحة إلى حد الصدمة، لا يقول إلا ما يعنيه فعلا، أما المستوى العلمي الرفيع والرصين في إصداراته السبع، فتشي بصرامة علمية نادرة، تفصح عما يأخذ الرجل به نفسه من شدة وقسوة عندما يعمل، فعلى مستوى الكتابة، وعلى المستوى الشخصي، لم يساوم أبدا على مبادئه، ولا على مستقبل هذا الوطن.
ذلكم هو نصر حامد أبو زيد.
والقارئ لأعمال نصر أبو زيد يكتشف هم الرجل في إزالة ومنع الاستخدام النفعي والانتهازي للدين، بدأ به على ربط النص بسببه الموضوعي وسياقه التاريخي. أما الأسلوب فشديد الرصانة، شديد البراءة أيضا، يفضح ببراءته أولئك المنتفعين على مر العصور، ومن هنا استشعر أولئك الخطر الذي يمثله هذا الإنسان، فشنوا عليه حملتهم التي قادها مستشار بيوت هبش الأموال المعروف عبد الصبور شاهين لتدعمه بعد ذلك أسماء كثيرة وردت بكشوف البركة، ليأخذ التحالف الأسود مداه ليصل بالرجل إلى المحاكم، حيث يصدر ضده الحكم بتفريقه عن زوجته، بحجة أنه أراد الاجتهاد في قواعد المواريث، فأنكر بذلك معلوما من الدين بالضرورة، والمعنى الضمني في هذا الحكم أن الرجل مرتد عن الإسلام، ويصبح من حق أي مسلم مهووس أن يذبحه وهو مطمئن الفؤاد قرير العين، بالنظر إلى العلاقات الواضحة بين الأقطاب، حيث أفتى الشيخ الغزالي في محاكمة قتلة فرج فودة، بأن أي مسلم يمكنه تنفيذ حدود الله بيديه، وبالمناسبة منحت حكومتنا المباركة هذا الرجل جائزتها التقديرية!
ولو مددنا الخط على استقامته، منذ مقتل الدكتور فرج فودة، مرورا بمحاولة اغتيال نجيب محفوظ، ثم ربطنا ذلك بتراجع العنف الديني المسلح بعد الصدامات الدموية مع جهاز الشرطة، ومع خسارة ذلك العنف تأييد الشارع المصري له؛ حيث بدأ الناس بالتعاون الفعلي مع الشرطة بعد ما رأوا من جرائم الإرهاب، فإننا سنلحظ فورا نقلة جديدة ، تتمثل في متغيرات مرحلية وتكتيكية، لكسب الجماهير إلى صف الإسلام السياسي، وذلك برفع عدد من قضايا الحسبة ضد مفكري مصر، مثلما حدث مع عاطف العراقي، وكتاب روز اليوسف، وغيرهم، وهنا يتم نقل قضية نصر أبو زيد من دائرتها الأصلية إلى الدائرة التي أصدرت الحكم، دون مبررات واضحة، وهي كلها مؤشرات إلى منهج آخر وطريق آخر يتسم بالذكاء قد بدأ تنفيذه، حيث يمكن ذبح نصر أبو زيد بعد الحكم، مع تهيئة الجماهير لقبول ذلك الذبح الشرعي بحملة واسعة حدثت فعلا في مساجد معلومة الشأن، دون أن نتمكن من اتهام الإرهاب الديني المسلح، وسيف هيبة مؤسسة القضاء مرفوع فوق رءوسنا، ولأن القتل هنا سيكون بتفويض رسمي من مؤسسة الدولة، ومختوما بخاتمها الرسمي.
كل ذلك يشير إلى جودة عالية في التكتيك، وتوزيع مبرمج بدقة للأدوار، تمكن من الاستفادة من الوسطية الفجة التي تلعبها مؤسسة الحكم، منذ أن قررت أن تكون الدولة دولة مؤسسات ديمقراطية، ثم قررت في الوقت نفسه أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، فجمعت بين المبدأ الديمقراطي الذي لا يعرف عن المواطنين هويتهم الدينية، ولا يضع في اعتباره إن كان هذا المواطن مسلما، أم مسيحيا، أو حتى بلا دين محدد، وبين أيديولوجيا دينية شمولية، مع التصور الساذج أنه من غير الممكن استخدام هذه النصوص الدستورية عمليا، حيث كان الأمر تجملا من النظام أمام التيار الديني، وإثباتا لتدين الدولة والتحائها، لتحقيق عناصر ومناخ مناسب للتحالف الذي حدث آنذاك بين نظام السادات وبين الإسلاميين.
ولا شك لدينا أن السيد القاضي المبجل، الذي أصدر الحكم، كان متسقا تماما مع القاعدة التشريعية التي سوغت له أن يحكم بما حكم، فتحت يديه باب للجحيم يمكنه أن يفتحه ويستخدمه وقتما شاء، قد وضعته له حكومتنا الغراء، كما أن سيادته كان متسقا تماما مع منظومته الدينية والفكرية، فالرجل كما رنا إلى علمنا من المتشددين في أمور الدين؛ لذلك فقد أصدر الحكم الذي ارتاح إليه ضميره وعقيدته، التي هي بهذا المنطق أساس ومقياس كل الأحكام.
لكن هذا كله لا يعني تبرئة السيد القاضي المبجل من الخطأ، فجل من لا يخطئ، نقول هذا ونحن نعلم معنى هيبة القضاء ومؤسسته، كما نعلم جيدا ما قد يجره هذا الكلام علينا نحن بالذات، لكن المسألة لم تعد تحتمل ترددا أو وسطية أو تمييعا للمواقف، نعم مؤكد لدينا أن الحكم بقياسه على عقيدة القاضي ونص الدستور صحيح تماما، وهو الأمر الذي يجب أن يحيل الجميع الآن إلى مناقشة القاعدة الدستورية والتشريعية ذاتها، التي سوغت له إصدار حكمه، أما الخطأ الذي نقصده فهو قيام الحكم على حيثية اتخذت موقفها من اجتهاد نصر أبو زيد في مسألة المواريث، وهو ما شرحه الدكتور محمد البري، لا فض فوه، أن اجتهاد نصر هو إنكار لمعلوم من الدين بالضرورة، والخطير هنا هو أن القاضي المبجل قد أصدر حكمه بناء على فهمه هو لما كتب نصر أبو زيد، بينما هناك كثير من مفكري هذا البلد، قد قرءوا أعمال الرجل، ولم يفهموا منها ما فهم السيد القاضي، وهنا جوهر الأمر، حيث يتم تحكيم الدين في رقاب العباد، بينما النص الديني نفسه قابل لتعدد الفهم حوله بتعدد القراءات واختلاف الثقافات، كما أن أي نص آخر يحمل ذات المشكلة في تعدد ألوان الفهم حوله، ومن ثم يصبح الخطأ هنا - خاصة إذا كان الخطأ قاتلا - هو في فهم ما كتب نصر أبو زيد، يلتبس بخطأ آخر يتأسس على الانحياز لفهم دون فهم آخر لنصوص الدين، وهو بدوره ما ينبني على اعتبار تلك النصوص نصوصا جامدة ثابتة لا تقبل المناقشة، ويلحق بذلك نتائج هي أن أي محاولة لتحديثها أو تأويلها، أو حتى مجرد تحريكها، يعني الكفران المبين.
وقد أخذ فهم نصوص القرآن الكريم أحد طريقين، ظلا طوال التاريخ الإسلامي في حالة مد وجزر، لعبت بهما أقدار السياسة والظروف الاقتصادية والاجتماعية، حتى استقر أحد الطريقين وساد في عصور التخلف والظلام.
فالمعلوم لدى أي مسلم أن القرآن الكريم لم يتنزل على النبي
صلى الله عليه وسلم
دفعة واحدة وكتلة متماسكة كألواح موسى، إنما تواتر مفرقا عبر ثلاث وعشرين سنة، هي عمر الوحي، أي أنه استغرق من التاريخ زمنا يتجادل مع أحداث الواقع ومستجداته ويتفاعل معها ويجيب على ما تطرحه من إشكاليات دائمة التغير، وخلال ذلك نسخت آيات آيات أخرى، ونسيت آيات، ورفعت آيات، وهو ما يعني أن للوحي عمرا هو جزء من التاريخ، وهو ما يعني تاريخية النص القرآني التي لا يجادل فيها إلا مكابر أو صاحب مصلحة، وكانت هذه التاريخية واضحة تماما في أذهان المسلمين الأوائل.
وفهم تاريخية النص الديني، وربط الآيات بأسبابها، لا شك يوقف الاستخدام النفعي والانتهازي والمصلحي والارتزاقي للدين ، فحيث إن عملية جمع القرآن زمن الخليفة عثمان، قد جمعت الناسخ إلى جوار المنسوخ، فقد دفع ذلك أكثر الصحابة علما وفقها إلى التنبيه على تلك التاريخية طوال الوقت، وهو ما يمثله قول علي بن أبي طالب لأحد القضاة وهو يحكم بين الناس: «هل تعرف الناسخ من المنسوخ؟» فقال: لا. فقال علي: «إذن فقد هلكت وأهلكت.»
وفي عصور التخلف، واستخدام الدين لخدمة توجهات أصحاب السلطان، تم وضع قاعدة فقهية تقول: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه أمام الاستخدام الانتهازي الصريح لنصوص الدين. ومن أمثلة ذلك الاستخدامات القريبة ما مر في تاريخنا المعاصر، من تبرير رجال الدين لتوجهات الحكومات على تناقضها التام، فعندما كنا نحارب إسرائيل وجدنا آيات لا حصر لها تؤيد تلك الحرب وتدعو إليها، وعندما قررنا عقد السلم معها وجدنا آيات أخرى تدعو إلى السلم وتطالبنا بالجنوح إليه، وعندما اعتمدنا المنهج الاشتراكي في الزمن الناصري، اكتشفوا لنا أن رائد الاشتراكيين وإمامهم هو النبي
صلى الله عليه وسلم ، وعندما قررنا الأخذ بنظام الاقتصاد الحر قدموا لنا كشفا على النقيض تماما، يجعل الناس درجات وطبقات.
وهكذا وجد القائمون على شئون الدين بناء على تلك القاعدة الفقهية، مكاسب دائمة، تبرر للسلاطين عبر العصور آراءهم واتجاهاتهم بل ونزواتهم، بالدين ونصوصه تأسيسا على إنكار تاريخية الوحي والقول بثباته الأزلي في لوح محفوظ، للعمل بالناسخ وقت الحاجة ، وللعمل بالمنسوخ عند تغير الحاجة، حسب التوجهات المطلوبة والانتهازية.
والقول بأزلية النص إنما يجافي العقل والمنطق والنص نفسه، حيث يحوي النص أحداثا وقعت إبان حياة الرسول لا يمكن فهمها إلا في ضوء تاريخية النص، ولا يمكن فهم الآيات المتعلقة بها إلا بربطها بتلك الأحداث الحادثة وليست الأزلية أو القديمة، وهي تتعدد بتعدد آيات القرآن الكريم ذاته، وإلا كيف نفهم نصا أزليا قديما يحدثنا عن واقعة زيد بن حارثة وزينب بنت جحش ليحل إشكاليتها؟! أو كيف نفهم، في ظل الأزلية، النص الذي يحدثنا عن أولئك الذين نادوا النبي من وراء الحجرات، أو كيف نفهم سماع الله لتلك المرأة التي جاءت إلى النبي تجادله ... إلخ، والنماذج أكثر من أن تحصى.
من هنا وتأسيسا على كل ذلك جاءت أعمال كوكبة المفكرين المحدثين في مصر، لوقف إهدار الوطن وكرامة المواطن طوال الوقت بهذا الاستخدام النفعي للدين، وحتى لا نظل على حافة التناقض دوما، وعلى رأس تلك الأعمال كانت كتابات نصر أبو زيد الرائدة، التي أقضت مضجع هؤلاء المنتفعين، ودفعتهم إلى تلك الحملة المسعورة، ضمن تكتيكهم الجديد المرحلي.
وغير خاف على أي مدقق، أن استمرار التعامل مع النصوص باعتبارها كتلة واحدة غير مرتبطة بأحداث ومتغيرات واقع الزمن النبوي، مع تعليقها في فضاء لا يرتبط بواقع تلك الأحداث؛ أدى إلى تناقض شديد إلى درجة «الشيزوفرينيا» في فكر الإنسان المسلم، كناتج ضروري للتضارب بين الناسخ والمنسوخ، والإيمان بالعمل بأحكام كليهما. وأبرز مثال عليه ذلك التضارب بين آيات الصفح والصبر الجميل، وبين آية السيف التي أجمع الفقهاء على نسخها لآيات الصفح، وهو تناقض شكلي بالطبع وليس موضوعيا؛ لأن لكل منهما كانت ظروف واقعية تلتحم به وتبرره، وبالتالي، وعملا بقاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، انطبع سلوكنا بالنفعية والانتهازية، حيث يمكنك أن تجد مبررا دينيا دائما لما تريد، وبحيث أصبحت الآيات القرآنية والأحاديث حججا دائمة حتى في خصوماتنا الشخصية أو تعاملاتنا المجتمعية أو الاقتصادية، وكل منا على طرفي الخصومة يجد فيها مؤيدا له.
ومن ثم تناقضنا مع أنفسنا ، ومع تاريخنا، ومع الآخر، ومع العالم، ومع مفهومنا عن الوطن، بل عن الدين ذاته، فلم نستطع طوال ذلك التاريخ أن نضع رؤية واضحة متسقة لأنفسنا أمام أنفسنا أو أمام العالم، وهو ما ترك بصمته الواضحة لدى الأحزاب الدينية، التي لم تتمكن حتى الآن من وضع برنامج واضح المعالم لها.
ولو حاولنا القياس على المحاكمة التي تمت وانتهت بقرار تفريق نصر أبو زيد عن زوجته، لوجب إجراء محاكمات مثيلة لشخصيات كبرى في تاريخ الإسلام تصل بعضها إلى درجة القدسية، مع تفاوت تلك الدرجة لدى المذاهب الإسلامية، فلدينا نماذج مثل الخليفة عمر بن الخطاب ، الذي ارتكب بهذه المعاني ما لم يسبقه إليه أحد، وما لم يلحقه إليه أحد، فقد أوقف العمل بحد السرقة عام الرمادة، ثم نهى عن متعة حلال، فخالف بذلك نص القرآن
يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم (المائدة: 87)، وذلك عندما وقف على المنبر النبوي، وقال: «متعتان كانتا على عهد رسول الله، وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة الحج ومتعة النساء.»
لن أناقش هنا مسألة الردة، وهل هي حد من الحدود المقررة في الإسلام من عدمه؛ فقد تعرض لها أساتذة أكفاء وفندوها تفنيدا محكما، لكني أسلك هنا سبيلا آخر أراه سبيل الإنسانية الحرة.
فنحن يمكننا أن نفهم الظروف التي أدت إلى حروب الردة زمن أبي بكر، ويمكننا أن نتفهم اغتيال المعارضين زمن النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك بالنظر إلى ظروف الزمن آنذاك، حيث كانت دولة العرب الإسلامية في طور النشأة والتكوين، وكان إسلام الفرد آنذاك تعاقدا بشروط، حيث يعرض عليه الإسلام، وهو رجل بالغ عاقل راشد، ليختار بملء إرادته وحريته، ويدرك مقدما النتائج المترتبة على إخلاله بذلك العقد، كما يمكننا أن نفهم سر شدة العقاب للمعترض والمرتد آنذاك؛ حيث كان إنشاء دولة من عدم، ومن قبائل متفرقة متصارعة، مع ما يعنيه ارتداد فرد بارتداد قبيلته جميعا، وما يؤدي إليه ذلك من تفكيك عرى الدولة وتوحدها؛ لذلك تمت التضحية بأرواح كثيرة عند قيام الدولة لأنها كانت تنهض في وسط معاد لها تماما؛ لذلك كانت مضطرة أن تكون دولة عسكرية شديدة المراس طوال الوقت.
نعم يمكننا أن نفهم ذلك ونعيه جيدا، لكننا هنا في مصر وعلى مشارف القرن الحادي والعشرين، ومصر كانت دولة مركزية، وأمة متكاملة قبل أن تعرف الإسلام بألوف السنين، فما حكم المسلم هنا اليوم حيث يولد مسلما بحكم ميلاده في أسرة مسلمة؟ فلا هو اختار الإسلام عن دراية وإرادة ودرس واقتناع، ولا هو دخل في ذلك العقد عن بيئة واضحة نافية للجهالة، أفإن حاول من بعد أن يطمئن إلى طوية فؤاده، أو أن يناقش أمرا من أمور الدين ويجتهد فيه يحكم عليه بأنه مرتد؟ هكذا بكل بساطة؟!
هل نحن كون بذاته؟ أم نحن أبناء هذا العالم؟ لقد كافحت البشرية وناضلت، وقدمت ملايين الضحايا على مذبح كرامة الإنسان وحقوقه، حتى تمكنت من إرساء تلك القواعد الحقوقية، وأهمها حق حرية الاعتقاد، وحرية التفكير وحرية القول، وحتى استطاعت أن تقيم الدولة المدنية الديمقراطية، ونحن هنا لا نجرؤ على حرية الاعتقاد، فقط ربما حاولنا حرية الاجتهاد، وعندها تصدر ضدنا أحكام القتل، إما من أمير جماعة مأفون، أو من محكمة تابعة للدولة؛ لأن حكومتنا الرشيدة لم تع بعد التعارض الهائل بين مواد الدستور وبعضها، لم تع أن حقوق المواطن في دولة مدنية دستورية ومؤسساتية، تتعارض بل وتتضارب تضاربا صارخا مع البنود الأخرى في الدستور، وربما كانت قضية أبو زيد الآن هي الضارة النافعة، ومن ثم أرفع صوتي هنا وأطلب من كل شرفاء مصر أن يضموا أصواتهم إلى صوتي، للعمل على إعادة النظر في القواعد التي يمكن أن تسوغ للبعض إهدار أبسط حقوق الإنسان، حتى لو كانت تلك القواعد لإيجاد توازنات وسطية تحل بها الحكومة مشاكلها مع المعارضة الدينية، أو لرشوة تيار شعبي غير رشيد، فإما أن نقيم دولة مدنية حقا، أو لتخبرونا بوضوح أنكم مستريحون لوضعنا المزري هذا خارج التاريخ، ولنا في دستور 1923م أسوة حسنة، وكنا نحن واضعوه وليس آخر.
منذ فجر التاريخ والحج فريضة دينية1
«الدائرة هي أكمل الأشكال»: هذا ما أعلنه «فيثاغورس» في القرن الرابع قبل الميلاد، وقبله بحوالي نصف قرن كان الفيلسوف «طاليس» يؤكد أن الأرض مستديرة كالقرص تماما. وتوصل «أنسكمندريس» إلى أنها معلقة في الفضاء.
ووسع «بارمنيدس» النظرية، فقال إن الكون كله، ليس إلا كرة تامة الاستدارة. ولم يأت عام 350 قبل الميلاد، حتى كان «ديمقرطيس» قد عمم النظرية على الكون كله، حين انتهى إلى أن الكون كله يتركب من جسيمات مادية كروية الشكل متناهية في الدقة والصغر، هي الذرة.
2
والعلم الحديث يؤكد أن الكون كله من أكبر أجرامه إلى أدناها، يعتمد الكروية في تشكيله، والإهليجية في حركته «الإهليجية هي الطواف دائريا على منحنى بيضاوي»؛ فالأرض مثلها مثل بقية كواكب المجموعة الشمسية، كرة تطوف على منحنى بيضاوي حول مركز هو الشمس، والشمس كأي نجم كرة نارية تطوف مصطحبة معها كواكبها بنفس الطريقة، حول مركز مجرتها «التبانة»، والمجرات بالملايين والنجوم بالبلايين، وكلها كروية في تشكيلها، ذات طواف إهليجي في حركتها، وينطبق هذا حتى على أدق الأجسام الكونية، فالذرة مجموعة شمسية مصغرة؛ إذ هي عبارة عن إلكترونات كروية تطوف إهليجيا حول مركز كروي هو نواة الذرة.
والغريب أن الإنسان - منذ فجر التاريخ - عندما كان يريد إثبات خضوعه لناموس الكون، كان يضع نقطة اعتبارية يقدسها ويطوف حولها، كطواف الكواكب حول الشمس أو الإلكترونات حول الذرة، كما لو كانت الكروية أو الاستدارة ناموسا قدسيا إلى جانب كونها ناموسا علميا.
ولما كانت المكتشفات الفلكية القديمة «في الرافدين»، قد توقفت عند سبعة كواكب تدور حول الشمس، فيبدو أن ذلك سوغ للإنسان القديم أن يضع لطوافه حول بيوت الآلهة المقدسة وحدة قياسية مقدسة تتكون من سبعة أشواط، مع الأخذ في الحسبان أن هذه الكواكب السبعة كانت آلهة في نظره.
الحج في العقائد القديمة
ومنذ بداية التاريخ الفرعوني، اتخذت مدينة «أبيدوس» مكانة قدسية لا تبارى، فقد اعتقد القوم هناك أن رأس الشهيد «أوزيريس» مدفون فيها. ومع بداية العصر المتوسط الأول، أصبحت زيارة البيت المقدس في «أبيدوس» والطواف حوله سبعة أشواط؛ حجا وفريضة إجبارية على كل مؤمن بأوزيريس، في حين أمست السنة المستحبة هي الدفن بجوار حبيبهم الشهيد، باعتبار جواره وحماه، أقدس وأطهر مكان على الأرض، بل هو في اعتقادهم مركز الكون، حتى أطلق الكهان على مدفن أوزيريس «أباتون»، أي الحرم؛ لأن الغناء أو الطبل أو الصيد، أو حتى مجرد الجهر بالصوت كانت محرمة في «أبيدوس».
وحتى اليوم، لم يزل العامة حول المنطقة ولمسافات بعيدة، يقصدون آبار المياه المقدسة في أبيدوس للإخصاب والاستشفاء دون علم بأصل هذه القدسية الحقيقي؛ فالمسيحيون يقصدونها معتقدين أنها قبر قديس من آباء الكنسية الأوائل، ويقصدها المسلمون واضعين في حسبانهم أن هذا القبر مقام ولي من الصالحين.
3
وفي بلاد الرافدين تبنت الدول السامية حضارة سومر، وخلال الحضارات التي توالت هناك من «أكد» إلى «بابل» إلى «آشور» إلى «كلديا»، كان المصطلح السومري «إيلو» أو «أيل» هو اسم العلم المطلق الدال على الإله المعبود،
4
فكانت «أيل» تطلق على أي رب من الأرباب
5
الذين يربو عددهم على ثلاثة آلاف.
لكن اللسان السامي، أبدل الكلمة السومرية
BIT
بمعنى المعبد، بمقابلها السامي بيت
6
وأضافها إلى «أيل» لتصبح «بيت أيل»، أي بيت الله، «ولاحظ التقارب في النطق بين أيل والله»، للتدليل على معبد الإله، الذي كان يأخذ عادة شكل الزاقورة وهي شيء أشبه بالمئذنة، يدور حولها سلم صاعد في شكل دائري، وعلى قمتها كانوا يضعون شكلا هلاليا، رمزا للإله «سين» إله القمر، وهو نفس الإله الذي عبده عرب الجنوب تحت اسم «ياسين»، كما كان الهلال أيضا رمزا للآلهة «عشتروت» كوكب الزهرة، وكانت بيوت الآلهة الرافدية تنتشر بطول البلاد وعرضها، لكن مراكز العبادة الكبرى كانت في المدن، واعتبرت محجات للمؤمنين، خاصة بالإلهين: «سين» و«عشتروت».
وفي كنعان انتشرت بيوت الآلهة، مثل «بيت شماس» و«بيت إناث» و«بيت لحم» و«بيت يراه». ويقول رينيه ديسو:
7 «إن هذه البيوت قد اتخذت شكل البناء المكعب، فسمى اللسان الكنعاني بيت المعبود «كعبو». وأوجب كل معبود على أتباعه الحج إلى بيته والطواف حوله سبعا، ولعل أهم هذه البيوت، ذلك البيت الذي أقامته القبيلة الإبراهيمية بعد هجرتها من مدينة «أور» الرافدية إلى أرض فلسطين، والذي حمل اسم «بيت إيل».» كما يزعم الكتاب المقدس؛ حيث ظل «إيل» هو المعبود للشعب العبري منذ إبراهيم عليه الصلاة والسلام حتى ظهور النبي موسى عليه الصلاة والسلام.
ويؤكد «د. جواد علي» أن الطواف حول مركز قدسي كان معروفا لدى قدماء الفرس والهنود والبوذيين والرومان، كذلك نجد في المزامير بالكتاب اليهودي المقدس: «أغسل يدي في النقاوة فأطوف بمذبحك يا رب» (الإصحاح 26). وهو دليل واضح على وجود الطواف عند اليهود، وفي ثنايا حديثه عن الحج، يقول «د. جواد»: «أقصد بالحج الذهاب إلى الأماكن المقدسة في أزمنة موقوتة للتقرب إلى الآلهة وإلى صاحب ذلك الموضع المقدس، وتقابل هذه الكلمة العربية كلمة
في الإنجليزية. والحج بهذا المعنى معروف في جميع الأديان تقريبا، وهو من الشعائر الدينية القديمة عند الساميين، وكلمة حج من الكلمات السامية الأصل الأصيلة العتيقة، من أصل ح ك
H G
ح ج وهي حك.»
وفي العبرانية، وقد وردت في كتابات مختلف الشعوب المنسوبة إلى بني سام، وفي روع الشعوب السامية القديمة أن الأرباب لها بيوت تستقر فيها؛ ولذلك يرى المتعبدون والمتقون شد الرحال إليها للتبرك بها والتقرب إليها، وذلك في أوقات تحدد وتثبت، وفي أيام تعين تكون أياما حراما؛ لكونها أياما دينية ينصرف فيها الإنسان إلى التفكير في آلهته، وتكون هذه المواضع التي تستقر فيها الآلهة بيوتا لها؛ ولذلك قيل في الأزمنة القديمة «بيوت الآلهة»، وقد بقي هذا الاصطلاح حيا حتى الآن يطلق على المعابد، فالمعبد هو بيت الله في أغلب لغات العالم المعروفة في الزمن الحاضر.
8
محجات الجاهليين
أشارت النصوص السريانية واليونانية واللاتينية القديمة إلى وجود الحج عند العرب قبل الإسلام، غير أنها لم تشر إلى وجود بيت واحد كان يحج إليه العرب جميعا،
9
ويقول «الهمداني»: إن العرب كانت لهم محجات متعددة، منها بيت اللات وكعبة نجران وكعبة شداد الأيادي وكعبة غطفان،
10
ويذكر ابن الكلبي بيوتا أخرى كبيت ثقيف.
11
ويشير «الزبيدي» إلى بيت ذي الخلصة الذي كان يدعى الكعبة اليمانية،
12
ويضيف «د. جواد» بيوتا أخرى، مثل «كعبة ذي الشرى»، وكان حجها يوم 25 كانون أول من كل عام، و«كعبة ذي غابة»، الذي لقبه عباده ب «قدست»، أي «القدس»، كذلك كان لآلهة الصفويين «اللات وديان وصالح ورضا ورحيم» محجاتها، كما كانوا يحجون إلى الكعبة المكية و«بيت اللات» في الطائف و«بيت العزى» قرب عرفات، و«بيت مناة»، وغيرها كثيرا. وكان الحج معتادا في شهر ذي الحجة، وكان الطواف الجاهلي حول البيت الذي يعظمه سبعة أشواط.
13
ويبدو أن تقديس بيوت الآلهة تلك، يرجع إلى اعتقاد الجاهلي في أن إلهه يسكن فوق سطح السماء، وبالتالي فقد يقدس أي جسم فضائي؛ كالنجوم وبقايا النيازك والشهب المتهاوية إلى الأرض؛ لتصوره أنه إنما سقط من البيت الإلهي الذي في السماء، وكذلك كان يعتبر هذا الحجر رمزا لإلهه، فيجعله مركزا قدسيا يبني حوله بيتا يطوف به تبركا، معتقدا أن هذا البيت يقع تماما تحت البيت الإلهي، باعتبار أن حجره المقدس يقع تماما تحت المكان الذي سقط منه. وأضاف الجاهليون إلى الأحجار النيزكية الأحجار البركانية لتكون محل تقديس؛ لأنهم خالوها ساقطة من السماء
14
ربما لسوادها نتيجة انصهارها، مما يجعلها شبيهة بالأحجار النيزكية التي صهرتها حرارة الاحتكاك بالغلاف الغازي قبل سقوطها على الأرض.
ومثال لهذه الأحجار السوداء، معبود النبطيين، وهو حجر أسود يرمز للشمس،
15
والآلهة مناة عبدها الهذليون ممثلة في حجر أسود،
16
كذلك كان «ذو الشرى» حجرا أسود.
17
وقد تصور الجاهليون أن حجر الكعبة المكية الأسود ومقام إبراهيم مثل بقية أحجارهم المقدسة، حتى ظنوا - كما يقول المسعودي - أن البيت المكي من البيوت التي خططت لعبادة الكواكب السيارة السبعة
18
ولكن للبيت المكي وحجره الأسود قصة أخرى، كما سنرى حين نتطرق إلى الحج في الإسلام، ولكن قبل ذلك ينبغي الوقوف مع البيت المكي في العصر القرشي، نستقرئ التاريخ اعتقادات الجاهليين حوله.
الكعبة المكية
يتفق الباحثون على أن الجغرافي «بطليموس» يعد أقدم من أشار إلى مكة وأوردها الاسم «مكربا»، ومن سرده يمكن استنتاج أنها كانت بلدة عامرة في القرن الثاني للميلاد. ويذهب بعض الباحثين إلى أنها يجب أن تكون موجودة قبل هذا التاريخ بكثير.
19
ويعتقد
Dr. Snouck Hmrgruje
أن نبع «زمزم» في واد غير ذي زرع، هو السبب في نشوء هذا المركز المقدس،
20
وقد قدم مفتي الديار المصري «حسنين مخلوف» كتابا للسيد «محمد حسني عبد الحميد»، عنوانه «أبو الأنبياء»، نقل فيه مؤلفه عن «جرجي زيدان» أن الأصل في اسم «مكة» هو لفظ «بكة» أو «بك» السامية الأصل، مع الأخذ في الاعتبار تسمية القرآن لمكة بالاسم «بكة»:
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين . ومعلوم أن اللغة العربية فيها إبدال الباء ميما والعكس. ويمثل المؤلف لذلك بمعبد «بعلبك» في لبنان، مشيرا إلى أن الاسم «بعلبك» مركب من مقطعين، «بعل»، وهو اسم صنم يمثل معبودا كنعانيا قديما ولا يزال قائما في المعبد إلى اليوم، و«بك»، أي بيت. وقد أطلق على المدينة التي فيها بيت البعل «بعل بك - بعلبك» كما هو الواقع بمكة.
21
ويشير «د. خليل أحمد» إلى أن الاسم «بك» ربما كان بابليا أو آشوريا.
22 (لاحظ أن كبير أرباب الكعبة قبل الإسلام كان هبل، وهو من أصل كنعاني؛ إذ تحكي كتب التاريخ الإسلامي أن عمرو بن لحي الخزاعي قد أحضر تمثاله من البلقاء في الشام، والاسم هبل هو في الأصل هبعل، والهاء أداة تعريف، بينما أهملت العين بالتخفيف مع مرور الزمن).
ويذهب بعض الباحثين مذهبا آخر، واستنادا لرواية «ابن طيفور المصري» و«القيرواني» القائلة إن أهل حمير كانوا يقلبون القاف كافا، بزعم هؤلاء أن أصل كلمة «مكة» هو «مقة»، وكان «مقة» اسما للإله السبئي المعروف في التاريخ العقائدي بأل «مقة»، ومن هؤلاء الباحثة اليمنية «ثريا منقوش» التي اهتمت بدراسة الإله اليمني «مقة» منذ بدء ظهوره حتى تحوله إلى إله قومي، وانتشار عبادته بعد انهيار مركز اليمن التجاري بانهيار سد مأرب وتشتت القبائل اليمنية في أرض الحجاز، واستقرار أكبرها «خزاعة» في المنطقة التي أصبحت تعرف باسم «مكة».
23
وتزعم الباحثة أن كثيرا من عادات الحج إلى البيت المكي في الجاهلية، كانت على غرار التقاليد اليمنية القديمة في تأدية فروض العبادة والحج للإله ال «مقة».
24
وتدعم الباحثة وجهة نظرها بقولها: «وقد أدرك الرسول
صلى الله عليه وسلم
علاقة مكة بأهل اليمن بما توافر لديه من معلومات تاريخية عن العلاقة بين مكة وأهلها، واليمن وقبائلها وعقائدها، فورد على لسانه وهو بالمدينة: ما هنا يمن وما هنا شام، فمكة من اليمن. وقوله
صلى الله عليه وسلم : «أتاكم أهل اليمن هم أرق قلوبا. الفقه يمان والحكمة يمانية، وأنا رجل يمان.» وفي حديث آخر يقول الرسول: «أنا يمان، والحجر الأسود يمان، والدين يمان.» ويأتي موقع مكة في السهل التهامي ليؤكد ارتباطها باليمن ، فجاءت تفسيرات المفسرين ومنهم سفيان بن عيينة لحديث الرسول: أتاكم أهل اليمن، أي أهل تهامة؛ لأن مكة يمن، وهذا هو أصل قوله: «الإيمان يمان والحكمة يمانية».»
25
ونضيف إلى هؤلاء الباحثين احتمالات أشد بساطة، مثل أن تكون «مكربا» تعني رب البيت لو أخذنا بأن «بك» تعني البيت، و«رابا» واضح أنها من «رب» في اللسان العربي، أو مثل أن تكون «مكربا» من «قربان» وجمعها قرابين، وهي من أصل «قرب»، وقد استعملت وخصصت بهذا المعنى؛ لأنها تقرب إلى المعبود، وهو معروفة بهذه التسمية
Corban
في الآرامية والعبرانية، وتعتبر من الاصطلاحات ذات الأصل السامي الواحد في القديم، فتكون «مكربا» بهذا المعنى مكان التقرب إلى الله أو «المقربة» إلى الله.
الحج في الجاهلية
وغني عن الذكر أن «مكة» بعد أن تحولت إلى أكبر مركز تجاري في شبه الجزيرة وذلك بعد تحول طرق التجارة من اليمن إليها، استقطب بيتها المقدس تعظيم غالبية العرب، ورغم أن العرب - بدوا وحضرا - كانوا يعظمون التماثيل التي وضعوها بفناء الكعبة لتمثل الأرباب، فإنهم كانوا يعتبرون للكعبة إلها أكبر وأعظم من هذه التماثيل. ولعظمته وسموه فقد تصوروا عدم إمكانية الاتصال المباشر بينه وبين العبد الخاطئ، فوضعوا بينهم وبينه وسائط وشفعاء، هي تماثيل لقوم صالحين صنعوها لهم بعد موتهم، ثم صارت تنعت بالأرباب، أي السادة.
ويؤكد القرآن الكريم حقيقة إقرار الجاهلين بإله أعظم للكعبة أسموه «الله» فقط، في حين كان لأربابهم مسميات أعلام أخرى مختلفة، مثل «هبل»، و«اللات»، و«العزى»، و«مناة»، فيقول:
لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ... (الزخرف: 87).
لئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم (الزخرف: 9).
قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون (المؤمنون: 86، 87).
وتحدثنا كتب التاريخ الإسلامي أن الجاهلين اعتقدوا في قصة تعيد نشأة الكعبة إلى زمن موغل في القدم، وتقول هذه القصة إن هبوط آدم إلى الأرض كان في «سرنديب» من أرض الهند، وظل يهيم في الأرض حتى وافى «حواء» وعرفها في جبل «عرفات»، ثم أخذها إلى أرض مكة ، وهناك توسل إلى ربه ليأذن له في بناء بيت يطوف حوله، كما كان يفعل مع الملائكة حول بيت الله الذي في السماء، فأنزل له الله على أجنحة الملائكة بيتا من النور مثل البيت الإلهي الذي في السماء تماما، فوضعوه على الأرض تحت موقع بيت السماء مباشرة. وبموت آدم رفع بيت النور، فقام ولده «شيث» بتخطيط مكان النور، ثم أقام عليه بيتا من حجر الأرض وطينها، لكن البيت خرب بطوفان نوح، وامتد الزمان حتى انتهت النبوة إلى إبراهيم، حيث حمل هاجر وإسماعيل إلى هذا الموضع المبارك، ثم عاد إليهما بعد بضع سنين، وهناك أخذ ولده إسماعيل فرفعا القواعد من البيت.
26
ويقول «الشهرستاني»: إن الجاهليين «كانوا يحجون البيت ويعتمرون ويحرمون، ويطوفون بالبيت سبعا، ويمسحون بالحجر ويسعون بين الصفا والمروة، وكانوا يلبون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك. إلا أن بعضهم كان يشرك في تلبيته في قوله: إلا شريكا لك، تملكه وما ملك. ويقفون المواقف كلها. وكانوا يهدون الهدايا ويرمون الجمار ويحرمون الأشهر الحرم، فلا يغزون ولا يقاتلون فيها، إلا طي وخثعم وبعض بني الحارث بن كعب كانوا لا يحجون ولا يعتمرون ولا يحرمون الأشهر الحرم ولا البلد الحرام.»
27
ويقول د. جواد علي: «وقد كان الجاهليون يطوفون بالصفا والمروة - وعليهما صنمان يمسحونهما - سبعة أشواط، كما كانوا يقيمون الأضاحي ويقصون شعورهم هناك، ولم يحرم الإسلام الطواف بالموضعين. وأن الرجم كان معروفا عند الجاهلين، وهو معروف عند العبريين، وقد أشير إلى ذلك في التوراة. وهو معروف عند بني إرم، وكلمة «ر ج م» من الكلمات السامية القديمة. ويلحق بالرجم تقديم العتائر - الضحية في الإسلام - وكانت تذبح عند الأصنام، والعمرة هي بمثابة الحج الأصغر في الإسلام، وكان أهل الجاهلية يقومون بأدائها في شهر رجب، ومن الأشهر الحرم في الجاهلية.» وينقل «د. جواد» عن «فلهوزن» ومجموعة مستشرقين: «أن الحجر الأسود كان فوق أصنام الكعبة منزلة. وأن قدسية البيت عند الجاهليين لم تكن بسبب الأصنام، بل كانت بسبب هذا الحجر الذي قدس لذاته وجلب القدسية للبيت. وأنه ربما كان شهاب نيزك أو جزءا من معبود مقدس قديم. وأن البيت كان إطارا للحجر الأسود أهم معبودات قريش، لكنه لم يكن معبودها الوحيد.»
28
مكانة الكعبة في الجاهلية
ويفيض الشعر بتعظيم البيت وشعائر الحج إليه وبالله صاحب البيت، وثقتهم به، وتبرز هذه الثقة واضحة إبان غزو «أبرهة» وجيش الحبش للكعبة في عام الفيل، في شعر عبد المطلب بن هاشم القائل:
لاهم إن العبد يم
نع رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم
ومحالهم غدوا محالك
إن كنت تاركهم وقب
لتنا فأمر ما بدا لك
29
وفي رده على أبرهة الحبشي عندما تعجب من طلبه: «رد علي إبلي.» قال: «إن للكعبة ربا يحميها.»
ويقول ابن هشام عن عام الفيل «... إن أول ما رئيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام.» ويبدو أن تفشي الحصبة والجدري بين جنود الحبش لم يكن في اعتقاد الجاهلي سببا كافيا لتراجعهم؛ لذلك أرجع السبب الحقيقي إلى رب الكعبة، وهذا إنما يبرز ثقتهم في إلههم ثقة كاملة، تلك الثقة التي تجلت في الاعتقاد بأن جيش أبرهة قد تعرض لهجوم جوي فريد من نوعه، فقد أرسل الله على جيش الحبش طيورا ترميه بالأحجار ليرسل «رؤبة بن الحجاج» رجزه قائلا:
ومسهم ما مس أصحاب الفيل
ترميهم حجارة من سجيل
ولعبت بهم طير أبابيل
فصيروا مثل عصف مأكول
ويشهد «نفيل بن حبيب» على صدق ما حدث بقوله:
حمدت الله إذ أبصرت طيرا
وخفت حجارة تلقى علينا
ويفخر «عبد الله بن الزبعرى» بمكة قائلا:
تنكلوا عن بطن مكة، إنها
كانت قديما لا يرام حريمها
لم تخلق الشعرى ليالي حرمت
إذ لا عزيز من الأنام يرومها
سائل أمير الجيش عنها ما رأى
ولسوف ينبي الجاهلين عليمها
ستون ألفا لم يثوبوا أرضهم
ولم يعش بعد الإياب سقيمها
كانت بها عاد وجرهم قبلهم
والله من فوق العباد يقيمها
وتتجلى العقيدة الجاهلية في رب البيت بصورة واضحة في شعر «أبي الصلت بن أبي ربيعة الثقفي» القائل:
إن آيات ربنا ثاقبات
لا يماري فيهن إلا الكفور
خلق الليل والنهار فكل
مستبين حسابه مقدور
حبس الفيل بالمغمس حتى
ظل يحبو كأنه معقور
خلفوه ثم ابذعروا جميعا
كلهم عظم ساقه مكسور
ويرتفع البيت بقدسيته ويتعالى، في خطاب «عبد الله بن صفوان» لقومه، عندما كانوا يعيدون بناء البيت قبل البعثة بسنوات خمس: «لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا، لا تدخلوا فيها مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس.»
ويقسم زهير بن أبي سلمى:
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله
رجال بنوه من قريش وجرهم
وبتقديس البيت كانت نصائح الأم لابنها، كما في وصية «سبيعة بنت الأجب» القائلة:
أبني لا تظلم بمك
ة لا الصغير ولا الكبير
واحفظ محارمها بن
ي ولا يغرنك الغرور
أبني من يظلم بمك
ة يلق أطراف الشرور
أبني قد جربتها
فوجدت ظالمها يبور
الله أمن طيرها
والعصم تأمن في ثبير
والفيل أهلك جيشه
يرمون فيها بالصخور
فاسمع إذا حدثت واف
هم كيف عاقبة الأمور
الحج في الإسلام
يقول «ابن حبيب» في محبره: باب السنن التي كانت الجاهلية سنتها فأبقى الإسلام بعضها وأسقط بعضها: «وكانوا يحجون البيت ويعتمرون ويطوفون بالبيت أسبوعا، ويمسحون بالحجر الأسود ويسعون بين الصفا والمروة. وكان على الصفا إساف وعلى المروة نائلة، وهما صنمان، وكانوا يلبون إلا أن بعضهم كان يشرك في تلبيته، وكانت العرب تقف بعرفات ويدفعون منها والشمس حية، فيأتون إلى مزدلفة، وكانت قريش لا تخرج من مزدلفة ولا تقف بعرفات، ويقولون لا نعظم من الحل ما نعظم من الحرم، فبنى قصي المشعر فكان يسرج عليه يهتدي به أهل عرفات إذا أتوا مزدلفة، فأبقاه الله مشعرا، وأمر بالوقوف عنده.» وقال العامري في وقوفهم في الجاهلية:
فأقسم بالذي حجت قريش
وموقف ذي الحجيج إلى إلال
30
الإل: جبل بعرفات، وكانوا يهدون الهدايا ويرمون الجمار ويعظمون الأشهر الحرم.
31
نعم أبقى الإسلام كل هذه السنن والشعائر، لكنه طهرها ونقاها من أدران الجاهلية وجهالتها، فلم يعد السر في تقديس الصفا والمروة والسعي بينهما هو صنما «إساف ونائلة»، وإنما في هرولة هاجر أم إسماعيل بينهما بحثا عن الماء في صحراء مجدبة. ولم يعد الحجر الأسود ومقام إبراهيم أحجارا مقدسة لذاتها، بل لأنهما في الأصل ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما. ولو لم يطمس الله نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب.
32
وعن ابن عباس قال: «ليس في الأرض شيء من الجنة إلا الركن الأسود والمقام.»
33
أما القصة الإسلامية حول البيت، فهي قصة محوطة بالقدسية والتبجيل، يلخصها لنا كتاب «أبو الأنبياء» فيما يلي: ... إن الله سبحانه خلق موضع البيت قبل أن يخلق الأرض بألفي عام، فكانت زبدة بيضاء على وجه الماء فدحيت الأرض من تحتها، فلما أهبط الله آدم إلى الأرض استوحش، فشكا إلى الله تعالى فأنزل البيت المعمور، وهو ياقوتة من يواقيت الجنة، له بابان من زمرد أخضر، باب شرقي وباب غربي، فوضعه على موضع البيت، وقال: يا آدم، إني أهبط لك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي، وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي، وأنزل الله عليه الحجر الأسود، وكان أبيض فاسود من مس الحيض في الجاهلية، فتوجه آدم من الهند ماشيا إلى مكة، وأرسل الله إليه ملكا ليدله على البيت، فحج آدم البيت وأقام المناسك. فلما فرغ تلقته الملائكة وقالوا له: يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. قال ابن عباس حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه، فكان ذلك إلى أيام الطوفان، فرفعه الله إلى السماء الرابعة. والبيت المعمور يدخله كل يوم ألف ملك ثم لا يعودون. وقد بعث الله جبريل حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له من الغرق «زمن الطوفان»، فكان موضع البيت خاليا إلى زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام. ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم بعد ما ولد له إسماعيل وإسحاق، ببناء بيت يذكر فيه ويعبد، فسأل الله أن يبين له موضعه، فبعث الله السكينة لتدله على موضع البيت، وهي رياح خجوج لها رأسان تشبه الحية، والخجوج من الرياح هي الشديدة السريعة الهبوب، وقيل هي الملتوية في هبوبها. وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة، فتبعها إبراهيم حتى أتت موضع البيت فتطوقت عليه. قال ابن عباس: بعث الله سبحانه وتعالى سحابة على قدر الكعبة، فجعلت تسير وإبراهيم يمشي في ظلها إلى أن وقفت على موضع البيت، ونودي منها: يا إبراهيم، ابن على قدر ظلها، لا تزد ولا تنقص. قال ابن عباس: بنى إبراهيم البيت من خمسة أجبل: من طور سيناء، وطور زيتا، ولبنان وهو جبل بالشام، والجودي وهو جبل بالجزيرة، ومن حراء وهو جبل في مكة. فلما انتهى إبراهيم إلى موضع الحجر الأسود قال لإسماعيل: ائتني بحجر حسن يكون للناس علما. فأتاه بحجر، فقال: ائتني بأحسن منه. فمضى إسماعيل ليطلب حجرا أحسن منه، فصاح الجبل أبو قبيس: يا إبراهيم، إن لك عندي وديعة فخذها. فقذف بالحجر الأسود، فأخذه إبراهيم فوضعه مكانه.
34
ونستكمل القصة من «الأزرقي» حيث يقول: «فقام معه جبريل فأراه المناسك كلها؛ الصفا والمروة ومنى ومزدلفة وعرفة. وبعد حصب إبليس وعرفان إبراهيم مناسكه كلها، أمره أن يؤذن في الناس بالحج، فقال إبراهيم: يا رب ما يبلغ صوتي. فقال الله تعالى: أذن وعلي البلاغ. فعلا على المقام فأشرف به حتى صار أرفع الجبال أطولها، فجمعت له الأرض سهلها وجبلها وبرها وبحرها وإنسها وجنها حتى أسمعهم جميعا.»
35
وهكذا ظلت الكعبة بيتا مقدسا، تطوف حوله خير أمة أخرجت للناس، سبعا خشعا، والطواف سنة قدسية، أكد العلم باكتشافه أنها سنة علمية .
العرب قبل الإسلام: العقائد، والتعدد، والأسلاف1
معلوم أن عجز الإنسان وضعفه أمام ظواهر الطبيعة المتقلبة وقواها، مع قصور تجربته ومعرفته، كان هو الدافع لتصور قوى مفارقة «ميتافيزيقية»، هي التي تقف وراء متغيرات الطبيعة وثوراتها وغضبها وسكونها، ولأن تلك الظواهر لم تكن مفهومة، فقد جاءت تلك القوى أيضا غيبية؛ ولذلك ارتبطت عقائد الناس في أربابها بوسطها البيئي، حيث عبرت عن ذلك الوسط وأظهر مظاهره وأكثرها تكرارا وديمومة، ومن هنا قدس العربي أجرام السماء التي تظهر بكل وضوح في ليله الصحراوي المنبسط، دون حواجز حتى الأفق بدائرته الكاملة، كما قدس الأحجار بخاصة ذات السمات المتفردة منها، فبيئته رمال وصخور وأحجار، وقد غلب انتشار الصخور البركانية في جزيرة العرب لانتشار البراكين فيها، وأطلقوا عليها اسم الحرات من الحرارة والانصهار.
لكن اتساع رقعة الجزيرة على خطوط عرض واسعة، أدى إلى تباين ظروف البيئة والمناخ، مما أدى إلى تعدد مماثل في الظواهر، وبالتالي تعددية في العبادات، هذا ناهيك عن وعورة المسالك في الجزيرة، والتي أدت إلى ما يشبه العزلة لمواطن دون مواطن، خاصة تلك التي في الباطن، مما أدى إلى احتفاظها بألوان من العقائد الموغلة في قدمها وبدائيتها، نتيجة عدم الاحتكاك بالثقافات الأخرى التي تساعد على تطور الراسب المعرفي ومن ثم العقائدي.
التعدد في العبادة
وهكذا يمكنك أن تجد، إضافة لعبادة أجرام السماء وعبادة الأحجار والصخور، بقايا من ديانات بدائية كالفيتشية والطوطمية، وعبادة الأوثان وعبادة الأسلاف.
والفيتشية أكثر ديانات الجزيرة انتشارا بين أهلها، وهي تقدس الأشياء المادية كالأحجار، للاعتقاد بوجود قوى سحرية خفية بداخلها، أو لأنها قادمة من عالم الآلهة في السماء أو من باطن الأرض حيث عالم الموتى، وقد ظلت تلك العقائد قائمة حتى ظهور الإسلام.
أما الطوطمية، التي تعتقد بوجود صلة لأفراد القبيلة بحيوان ما مقدس، فتظهر في مسميات قبائل العرب، مثل «أسد، فهد، يربوع، ضبة، كلب، ظبيان ... إلخ»؛ لذلك كانوا يحرمون لمس الطوطم أو حتى التلفظ باسمه؛ لذلك كانوا يكنون عنه، فالملدوغ يقولون عنه السليم، والنعامة يكنى عنها المجلم، والأسد أبو حارث ، والثعلب ابن آوى، والضبع أم عامر، وهكذا. هذا إضافة إلى تقديس الأشجار، مثل ذات أنواط التي كانوا يعظمونها، ويأتونها كل سنة فيذبحون عندها ويعلقون عليها أسلحتهم وأرديتهم.
كذلك عبد العرب كائنات أسموها «الجن» خوفا ورهبة، ودفعا لأذاها، وظنوها تقطن الأماكن الموحشة والمواضع المقفرة والمقابر، وكان العربي إذا دخل إلى موطن قفر حيا سكانه من الجن بقوله، عموا ظلاما، ويقف قائد الجماعة ينادي: إنا عائذون بسيد هذا الوادي، وتصوروا الجن كحال العرب، فهم قبائل وعشائر تربط بينهم صلات الرحم، يتقاتلون ويغزو بعضهم بعضا، ولهم سادة وشيوخ وعصبيات، ولهم من صفات العربان كثير، فهم يرعون حرمة الجوار ويحفظون الذمم ويعقدون الأحلاف، وقد يتقاتلون فيثيرون العواصف، ويصيبون البشر بالأوبئة والجنون. وقد نسبوا إلى الجن الهتف قبل الدعوة مباشرة، حيث كثرت الهواتف أي الأصوات التي تنادي بأمور وتنبئ بأخرى بصوت مسموع وجسم غير مرئي. وقد اعتمد الكهان على تلك الاعتقادات فزعموا أنهم يتلقون وحيهم عن الجن، وأن الجن بإمكانها الصعود إلى السماء والتنصت على مصائر البشر في حكايات الملأ الأعلى مع بعضهم عمن في الأرض، وأن الكاهن بإمكانه معرفة مصائر البشر عبر رفيقه من الجان.
عبادة الأسلاف
أما أشد العبادات انتشارا وأقربها إلى الظرف المكاني والمجتمعي، فهي عبادة الأسلاف الراحلين، ويبدو لنا أن تلك العبادة كانت غاية التطور في العبادة في العصر قبل الجاهلي الأخير، حيث كان ظرف القبيلة لا يسمح بأي تفكك نظرا لانتقالها الدائم وحركتها الواسعة وراء الكلأ، وهو التنقل الذي كان يلزمه لزوجة جامعة لأفرادها، تم تمثله في سلف القبيلة وسيدها الراحل الغابر، فأصبح هو الرب المعبود وهو الكافل لها الحماية والتماسك، بوصفها وحدة عسكرية مقاتلة متحركة دوما، فاستبدلت بمفهوم الوطن مفهوم الحمى، والذي يشرف عليه سيدهم وأبوهم القديم وربهم المعبود، حيث تماهى جميع أفراد القبيلة فيه، ومن هنا كان الرب هو سيد القبيلة الراحل القديم، الذي تمثلوه بطلا مقاتلا أو حكيما لا يضارع، ومن ثم تعددت الأرباب بتعدد القبائل، ونزعت القبائل مع ذلك نحو التوحيد، وهي المعادلة التي تبدو غير مفهومة للوهلة الأولى، لكن بساطة الأمر تكمن في أن البدوي في قبيلته كان لا يعبد في العادة ولا يبجل سوى ربه الذي هو رمز عزته ورابط قبيلته، ولا يعترف بأرباب القبائل الأخرى، وهو الأمر الذي نشهد له نموذجا واضحا في المدون الإسرائيلي المقدس، حيث عاش بنو إسرائيل ظروف قبلية شبيهة، فيقول سفر الخروج: «من مثلك بين الآلهة يا رب؟» أي أن القبلي كان يعرف أربابا أخرى لقبائل أخرى، لكن ربه هو الأعظم من بينها؛ لذلك كان البدوي في قبيلته يأنف أن يحكمه أحد من خارج نسبه؛ لأن نسبه هو ربه، هو سلفه، هو ذاته، هو كرامته وعزته؛ لذلك كانت عبادة الأسلاف أحد أهم العوامل في تفرق العرب القبلي، وعدم توحدهم في وحدة مركزية تجمعهم.
ولم يأت الاعتراف بآلهة أخرى لقبائل أخرى إلا فيما بعد، بعد دخول المصالح التجارية للمنطقة، واستعمال النقد، وظهور مصالح لأفراد في قبيلة ترتبط بمصالح لأفراد في قبيلة أخرى، مما أدى لاعتراف متبادل بالأرباب، وهو الأمر الذي بدأ يظهر خاصة في المدن الكبرى بالجزيرة على خط التجارة، في العصر الجاهلي الأخير، كما حدث في مكة والطائف ويثرب وغيرها.
المستوى المعرفي
دأب بعض مفكرينا في شئون الدين - عافاهم الله - على الحط من شأن عرب الجزيرة قبل الإسلام، وتصويرهم في صورة منكرة، وسار على دربهم أصحاب الفنون الحديثة في القصة والسيناريو والأعمال الفنية السينمائية، بحيث قدموا ذلك العربي عاريا من أية ثقافة أو حتى فهم أو حتى إنسانية، حتى باتت صورته في ذهن شبيبتنا، إن لم تكن في أذهان بعض المثقفين بل والكتاب أيضا، أقرب إلى الحيوانية منها إلى البشرية. وقد بدا لهؤلاء أن القدح في شأن عرب قبل الإسلام، وإبرازهم بتلك الصورة، هو فرش أرضية الصورة بالسواد، لإبراز نور الدعوة الإسلامية بعد ذلك، وكلما زادوا في تبشيع عرب الجاهلية، كلما كان الإسلام أكثر استضاءة وثقافة وعلما وخلقا وتطورا على كل المستويات. وأن الأمر بهذا الشكل يبعث أولا على الشعور بالفجاجة والسخف، ثم هو يجافي أبسط القواعد المنطقية للإيمان ، فالإيمان يستمد قيمته من دعوته، ومن نصه القدسي، وسيرة نبيه، فقيمته في ذاته قيمة داخلية، وليست من مقارنته بآخر، أما الأنكى في الأمر، فهو أن تتم مقارنة الإلهي بالإنساني، لإبراز قيمة الإلهي إزاء نقص الإنساني، في تلك الحال ستكون ظالمة لكليهما: الإلهي والإنساني، فالإلهي لا يقارن بغيره، كما أن مقارنة الإنساني به فداحة في التجني على الإنساني بما لا يقارن مع الإلهي.
وقد فطن «الدكتور طه حسين» إلى ذلك الأمر وعمد إلى إيضاحه في كتابه «الأدب الجاهلي» مبينا مدى تهافت الفكرة الشائعة حول جاهلية العرب قبل الإسلام، وكيف أن تلك الفكرة أرادت تصوير العرب كالحيوانات المتوحشة؛ لإبراز دور الإسلام في نقله الإعجازي لهؤلاء القوم المتوحشين، فجأة ودون مقدمات موضوعية، إلى مشارف الحضارة، فجمعهم في أمة واحدة، فتحوا الدنيا وكونوا إمبراطورية كبرى. هذا بينما القراءة النزيهة لتاريخ عرب الجزيرة في المرحلة قبل الإسلامية تشير بوضوح، إلى أن العرب لم يكونوا كذلك، وفي تطورها الإنساني، أما الركون إلى عقائدهم لتسفيههم، فهو الأمر الأشد فجاجة في الرؤية، فيكفينا أن نلقي نظرة حولنا على الإنسان وهو في مشارف قرنه الحادي والعشرين، لنجده لم يزل بعد يعتقد في أمور هي من أشد الأمور سخفا ومدعاة للضحك.
معارف العصر
والمطالع لأخبار ذلك العصر المنعوت بالجاهلي في كتب الأخبار الإسلامية ذاتها، سيجد في الأخلاق مستوى رفيعا هو النبالة ذاتها، وسيجد المستوى المعرفي يتساوق تماما مع المستوى المعرفي للأمم من حولهم، وأن معارفهم كانت تجمع إلى معارف تلك الأمم معارفهم الخاصة، فقط كان تشتتهم القبلي وعدم توحدهم في دولة مركزية، عائقا حقيقيا دون الوصول إلى المستوى الحضاري لما جاورهم من حضارات مركزية مستقرة. وهو الأمر الذي أخذ في التطور المتسارع في العصر الجاهلي الأخير نحو التوحد في أحلاف كبرى، تهيئة للأمر العظيم الآتي في توحد مركزي ودولة كبرى.
فعلى مستوى المعارف الكونية، كان لدى العرب تصورات واضحة، تضاهي التصورات في الحضارات حولهم؛ فالأرض كرة مدحاة، والسماء سقف محفوظ تزينه مصابيح هي تلك النجوم، وفيه كواكب سيارة، أطلقوا عليها «الخنس والجواري الكنس»، فهذا «زيد بن عمرو بن نفيل» يحدثنا عن التصور الكوني المعروف في بلاد الحضارات، في قوله:
دحاها فلما رآها استوت
على الماء أرسى عليها الجبالا
بينما نجد «أمية بن عبد الله الثقفي»، يصور لنا ما درج عليه العالم القديم من تصور السماء سقفا بلا عمد، وأنها طبقات سبع، وأن الشهب فيها حماية ورصدا ومنعا للجن من استراق السمع على الملأ الأعلى، وذلك في قوله:
بناها وابتنى سبعا شدادا
بلا عمد يرين ولا حبال
وسواها وزينها بنور
من الشمس المضيئة والهلال
ومن شهب تلألأ في دجاها
مراميها أشد من النصال
المعارف الدينية
أما على مستوى المعارف الدينية، وكانت سمة عصرها، وهي المنحولة من عقائد الرافدين القديمة ومصر القديمة وبلاد الشام وفلسطين، وجاء تفصيلها مجملا في مدونات التوراة، فهو الأمر الذي كانت تعرفه جزيرة العرب، فهذا «الأفوه الأودي» يأبى إلا أن يسجل أسماء أبناء نوح في قوله:
ولما يعصهم سام وحام
ويافث حيثما حلت ولام
أما طول العمر النوحي فكان مضرب المثل، وهو يؤخذ من مديح الأعشى لإياس:
جزى الإله إياسا خير نعمته
كما جزى المرء نوحا بعدما شابا
في فلكه إذ تبداها ليصنعها
وظل يجمع ألواحا وأبوابا
وهو ما جاء أيضا في ضرب الراجز، رافضا عمرا كعمر نوح:
فقلت لو عمرت سن الحسل
أو عمر نوح زمن الفطحل
والصخر مبتل كطين الوحل
صرت رهين هرم أو قتل
وكان انتشار قصص التوراة في معارف الأمم يجد صوابه في معارف ذلك العصر، فها هو «أمية بن أبي الصلت» يقدم حوارا شعريا بين موسى وهارون وبين فرعون، يقول فيه:
وأنت الذي من فضل من ورحمة
بعثت إلى موسى رسولا مناديا
فقلت له: يا اذهب وهارون فادعوا
إلى الله فرعون الذي كان طاغيا
وقولا له: أأنت سويت هذه
بلا وتد حتى اطمأنت كما هيا
وقولا له: أأنت رفعت هذه
بلا عمد، أرفق إذن بك بانيا
بل وعرف العرب قصة مريم وولدها، وسارت فيهم كقصة معلومة، وهو ما صاغه «أمية» شعرا بدوره، إضافة لما جاءت به المسيحية عن يوم بعث ونشور، مضافا إليه ما سبق إليه المصريون من القول بحساب للموتى أمام موازين العدل في قاعة الحساب السماوية، فهذا شعر بقي عن «قس بن ساعدة» يقول:
يا ناعي الموت والأموات في جدث
عليهم من بقايا برعم خرق
دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم
فهم إذا انتبهوا من نومهم فرقوا
حتى يعودوا لحال غير حالهم
خلقا جديدا كما من قبله خلقوا
فيهم عراة ومنهم في ثيابهم
منها الجديد ومنها المبهج الخلق
وهو الأمر الذي يوضحه شعر «زيد بن نفيل» وهو يصور أحوال الحساب ونتائجه في قوله:
ترى الأبرار دارهم جنان
وللكفار حامية سعير
وخزي في الحياة وإن يموتوا
يلاقوا ما تضيق به الصدور
وهو ذات الأمر الذي فصل أمره «أمية الثقفي» في قوله:
باتت همومي تسري طوارقها
أكف عيني والدمع سابقها
مما أتاني من اليقين ولم
أوت براة يقص ناطقها
أم من تلظى عليه واقدة الن
ار محيط بهم سرادقها؟
أم أسكن الجنة التي وعد ال
أبرار مصفوفة نمارقها؟
لا يستوي المنزلان ثم ولا ال
أعمال لا تستوي طرائقها
وفرقة منهم قد أدخلت الن
ار فساءتهم مرافقها
أما «علاف بن شهاب التميمي» فيؤكد:
وعلمت أن الله يجزي عبده
يوم الحساب بأحسن الأعمال
كذلك جاء تقرير «زهير بن أبي سلمى» واضحا في قوله:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم
ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضح في كتاب فيدخر
ليوم الحساب، أو يعجل فينقم
المعالم الأدبية
ليس جديدا التأكيد على شعرية العربي، حتى قيل إن كل عربي شاعر، وحتى أصبح الشعر ديوان العرب رواية حالهم وظروفهم وعقائدهم، وسجلا لمعارفهم ومستواهم الثقافي الأخلاقي، وسجلا لحياتهم العملية وطرق عيشهم بل ورؤاهم الفنية والفلسفية.
وإلى جانب الشعر كان معلم الخطابة بما حواه من ذات المحتويات الشعرية، بنثره المنظوم المسجوع، إضافة إلى سجع الكهان، المرسل منه والمزدوج.
وكان للعرب أسواقهم، التي عادة ما كانت تفتتح افتتاحا ثقافيا، بإلقاء الخطب النثرية، والقصائد الشعرية، وإجراء المسابقات حول أفضل القصائد، وهو ما برز في «المعلقات السبع»، مما يشير إلى ديدن أمة اهتمت بتنمية الثقافة وتشجيعها، رغم تشتتها شيعا في قبائل لا تجمعها وحدة مركزية.
النثر المسجوع
وكان العربي حريصا على تقديم معارفه وثقافته شعرا وإن نثرها حرصا على الجرس الموسيقى فيها، مما يشير إلى رهافة في الحس وارتقاء في الذوق، ونماذج من ذلك النثر ما جاء قسما بالمظاهر الكونية عند «الزبراء» وهي تقول: «واللوح الخافق، والليل الغاسق، والصباح الشارق، والنجم الطارق، والمزن الوادق، إن شجر الوادي ليأود ختلا، ويرق أنيابا عصلا، وإن صخر الطود لينذر ثقلا، لا تجدون عنه معلا.»
ومن ألوان هذا السجع سجع ديني، جاء في وصف «ربيعة بن ربيعة» ليوم البعث والنشور، بقوله: «يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون.» وهو ذات الرجل الذي يقسم بصدق قوله: «والشفق والغسق، والفلق إذا اتسق، إن ما أنبأتك به لحق.» أما «شق بن صعب» فيصف ذات اليوم بقوله: «يوم تجزى فيه الولايات، يدعى فيه من السماء بدعوات، يسمع منها الأحياء والأموات، ويجمع فيه الناس للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات.»
ويقسم «ابن صعب» لسائله بأنه يقول الحق: «ورب السماء والأرض، وما بينهما من رفع وخفض، إن ما أنبأتك به لحق، ما فيه أمض.» أما الكاهن الخزاعي الذي احتكم إليه هاشم وأمية في نزاعهما، أصدر قراره سجعا يقول: «والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر، من منجد وغائر، قد سبق هاشم أمية إلى المفاخر.»
أما «قس بن ساعدة الإيادي» فيرسل سجعه مصورا معارف العصر الكونية في نثره قائلا: «ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وأرض مدحاة، وأنها مجراة، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا.»
المعلم الشعري
والشعر الجاهلي وثيقة هامة في يد الباحث العلمي، تأخذ سمت العلم التاريخي، رغم ما أثير حول الشعر الجاهلي من تشكيك في صحة انتسابه لعصره فعلا، وكان أبرز ما قيل بشأنه قضية النحل التي أثارها «الدكتور طه حسين» في كتابه الشعر الجاهلي، والمحاكمة المشهورة التي جرت آنذاك بشأن ذلك الكتاب وصاحبه.
لكن ما يدعو إلى الاطمئنان في الغالبية مما وصلنا من ذلك الشعر مدونا بأقلام المسلمين، هو أن القافية والوزن كانا يضمنان منع حدوث تغيير كبير على ذلك الشعر، كما أن المحتوى البسيط لذلك الشعر، وما جاء به من أخبار التخاصم على الإبل والمراعي يضمن عدم التصنع، وعلى رأي «د. حسين مروة» أننا لو حكمنا على شعر الأخطل وجرير بشكله، لتعذر علينا نسبته إلى ما بعد الإسلام.
وكان «ابن سلام» أول من بحث قضية الانتحال، وعزا أسبابها إلى العصبية القبلية، والرواة الوضاعين، مثل حماد الراوية، وخلف الأحمر، وسبق الجميع إلى مسألة الانتحال «المفضل الضبي» الذي نقد خلفا الأحمر، أما «طه حسين» فقد ردد ما سبقه إليه المستشرق «مرجليوث» بشكل مختلف بعض الشيء، وإن كان أهم حيثيات محاكمته هي إنكاره هبوط إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام جزيرة العرب.
وقد قامت جمهرة السلفيين تؤكد قبولها صحة نسب الشعر الجاهلي دون تحفظ أو تشكك، وقد ظهر ذلك واضحا في المؤلفات التي وضعت للرد على «طه حسين»، ونموذجا لذلك ما جاء في كتاب «نقض كتاب في الشعر الجاهلي» لمحمد أحمد الغمراوي، و«مصادر الشعر الجاهلي» لناصر الدين الأسد، وغيرهم. ونسبة الشعر الجاهلي لعصره، قد اتفق أمرها بين المسلمين السلفيين، وبين كثير من المستشرقين، وهو ما يمثله نموذجا قول المستشرق «ليال»: «والواقع أن هذا الشعر الجاهلي، قد أفاد المؤرخ الباحث في تأريخ الجاهلية، فائدة لا تقدر بثمن، وربما زادت فائدة هذا الشعر من الوجهة التأريخية، على فائدته من الوجهة الأدبية، لأنه حوى أمورا مهمة عن أحداث العرب الجاهليين، لم يكن في وسعنا الحصول عليها لولا هذا الشعر.»
الخطابة
والخطابة كانت من أبرز الأنشطة الفكرية والثقافية للعرب، وكانوا يلجئون فيها إلى كل الوسائل الإبداعية والجمالية والبلاغية لإقناع المستمع بوجاهة محتوى الخطبة، وعند التعامل مع ملوك الدول كان العرب يختارون أكثرهم تفوها، وقد ذكر «ابن عبد ربه» في عقده الفريد: أن كسرى تنقص من أمر العرب في حضور «النعمان بن المنذر» لديه، مما استفز «النعمان» لعروبته، فأرسل في طلب خطباء العرب وأوفدهم إلى كسرى ليعرف مآثر العرب وقدرهم الثقافي.
وكان الخطباء يخطبون في وفادتهم على الأمراء، فيقف رئيس الوفد بين يدي صاحب السلطان ليتحدث بلسان قومه، ومن هذه الخطب ما قيل بين يدي رسول الله عليه السلام عام الوفود وأوردته كتب السير والأخبار. ومن أشهر الخطباء، أولئك الذين وردت أسماؤهم في الرد على كسرى، وهم «أكثم بن صيفي»، و«حاجب بن زرارة التميمي»، و«الحارث بن عباد»، و«قيس بن مسعود»، و«عمرو بن الشريد السلمي»، و«عمرو بن معديكرب الزبيدي»، ومن خطباء مكة «عتبة بن ربيعة» و«سهيل بن عمرو»، ومن الخطباء أيضا «هرم بن قطبة»، و«عامر بن الظرب العدواني»، وهي نماذج تشير إلى خطباء كثر لقبائل العرب، أوردتها كتب الأخبار والسير تفصيلا وحصرا.
المستضعفون
لعب جدل الأحداث العالمية دورا أساسيا نشطا فيما جرى من تحولات داخل جزيرة العرب، وكان تحول طرق التجارة العالمية إلى الشريان البري المار بمكة قادما من اليمن متجها نحو الإمبراطوريتين، عاملا مؤسسا لتغير أنماط الإنتاج الاقتصادي في الجزيرة، التي أخذت تنحو نحو التجارة كعماد أساسي للاقتصاد، وما تبع ذلك من تغيرات في البنى الاجتماعية، التي أخذت بدورها في التحول النوعي عن الشكل القبلي القائم على المساواة المطلقة بين أفراد القبيلة، إلى تفكك ذلك الشكل بتراكم الثروة في يد نفر من أفراد القبيلة دون نفر آخر، الشكل الطبقي الذي فجر الإطار القبلي لصالح تحالفات مصلحية بين أثرياء القبائل المختلفة، وكان الناتج الطبيعي لتفاوت توزيع الثروة، ظهور شكل مجتمعي جديد على جزيرة العرب، لترصد لنا كتب الأخبار الإسلامية أهم الشرائح المجتمعية الجديدة على خريطة النظام الطبقي الطالع، مقابل الطبقة المترفة من أثرياء تجار العرب.
فقراء العرب
وإعمالا لجدل الأحداث أخذ الفارق الطبقي بالاتساع السريع والهائل، ليصبح سواد العرب من الفقراء المستضعفين، يعملون في رعي الأنعام والفلاحة وتجارات البيع البسيط، يسكنون الخيام والعشش والأكواخ الحقيرة، ويسمعون عن الخبز ولا يأكلونه، حيث كان الخبز من علامات الوجاهة والثراء، ولا يعرفون عن اللحم سوى الصليب، وهو ودك العظام تجمع وتهشم وتغلى على النار طويلا، ليحصلوا منها على الصليب، وغالبا ما عاشوا على مطاردة ظباء الصحراء وأورالها ويرابيعها. ونقصد بهؤلاء الفقراء عربا صرحاء من أبناء قبائل متميزة، دفعتهم إلى الأسفل آلة التغير الاقتصادي والمجتمعي.
ويلي تلك الطبقة في التدني، طبقة الموالي، وهم من أبناء قبائل أخرى تركوها ولجئوا لقبائل مخالفة، أو كانوا أسرى فك أسيادهم أسرهم، أو أعاجم أرقاء أعتقهم سادتهم بمقابل. وقد شكل هؤلاء طبقة بين أبناء القبيلة الخلص الصرحاء، وبين العبيد.
ثم طبقة أخرى ظهرت بدورها نتيجة التفاوت الطبقي الحاد، وتكونت من أفراد تلبستهم روح التمرد على أوضاع المجتمع الجديد، فتصرفوا بتلك الروح فأضروا بمصالح السادة، فخلعتهم قبائلهم وتبرأت من فعالهم بإعلان مكتوب أو في الأسواق العامة، وهي الطبقة التي عرفت باسم «الخلعاء».
الصعاليك
أما أبرز تلك الطوائف أو الطبقات التي أفرزها المتغير الاقتصادي المجتمعي، فهي «الصعاليك»، وهم فئة لا تملك شيئا من وسائل الإنتاج، وتمردت على الأوضاع الطبقية، بل وشنت عليها الحرب، بخروجهم أفرادا عن قبائلهم باختيارهم، وتجمعهم على اختلاف أصولهم في عصابات مسلحة. وأبرز الأسماء التي وصلتنا منهم: عروة بن الورد، وتأبط شرا، والسليك ابن السلكة، والشنفرى، وقد أطلق عليهم العرب «الذؤبان» و«العدائين» لسرعتهم.
وقد روي عن هؤلاء أنهم كانوا ذوي سمات متميزة، من الشهامة والمروءة والنبالة، وأخلاق الفروسية، فكانوا لا يهاجمون إلا البخلاء من الأغنياء، ويوزعون ما ينهبون على الفقراء والمعدمين، بعد أن شكلوا لأنفسهم مجتمعا فوضويا، شريعته القوة، وأدواته الغزو والإغارة، وهدفه الأول السلب والنهب وهدفه الأخير تعديل الموازين المجتمعية.
وتروى لنا كتب السير والأخبار وطبقات الشعراء، أشعارا للصعاليك، ينعكس فيها الإحساس المرير بوقع الفقر عليهم وفي نفوسهم، ويضج بشكوى صارخة من الظلم الاجتماعي، وهوان منزلتهم، فهذا «قيس بن الحدادية» يخبرنا أنه لم يكن يساوي عند قومه عنزة جرباء جذماء، أما الأخبار عن الشنفرى فتروي كيف أسلمه قومه هو وأمه وأخوه رهنا لقتيل عن قبيلة أخرى، ولم يفدوهم، وكيف تصعلك الشنفرى ورفع سيف ثورته بعد أن لطمته فتاة سلامية، لأنه ناداها: يا أختي، مستنكرة أن يرتفع إلى مقامها.
ومن مثل تلك الأخبار، نستطيع تكوين فكرة واضحة عن المدى الذي فعله المال داخل القبيلة، مما أدى بالصعاليك إلى فصم علاقتهم بقبائلهم، وتكوين جماعتهم المسلحة ضد الأغنياء لينزعوا منهم مقومات الحياة الإنسانية التي أهدرها الواقع، وهو المبدأ الذي يتجلى واضحا في شعر «عروة بن الورد» وهو يقول:
إذا المرء لم يبعث سواما ولم يرح
عليه ولم تعطف عليه أقاربه
فللموت خير للفتى من حياته
فقيرا، ومن مولى تدب عقاربه
العبيد
وفي ضوء الحاجة لليد العاملة في خدمة آلة الاقتصاد الجديد، بدأت بلاد العرب تعرف النظام العبودي، وكان مصدره السبي والنخاسة وعبودية الدين، حتى جاء وقت أصبحت تجارة العبيد بمكة تجارة منتظمة، تأتي بهم من سواحل أفريقيا الشرقية، وهم الطائفة السوداء، ومنهم من كان يشترى من بلاد فارس والروم وهم الطائفة البيضاء، لاستخدامهم في حراسة القوافل، وأعمال الري الصناعي والزراعة والحرب، وليس أدل على كثرة هؤلاء العبيد، من أن «هند بنت عتبة» أعتقت في يوم واحد أربعين عبدا من عبيدها، كما أعتق أبو أحيحة سعيد بن العاص مائة عبد، اشتراهم وأعتقهم.
ومع النظام العبودي انتشرت عادة التسري بالإماء، فكان للرجل أن يهب أو يبيع أو ينكح أمته أو يجعلها مادة للكسب بتشغيلها في البغاء، ثم يأخذ ناتجها المولود ليباع بدوره، وعندما جاء الإسلام حرم البغاء، ولكنه أبقى على نظام ملك اليمين ضمن ما أبقى عليه من أنظمة الجاهلية وقواعدها المجتمعية، لكنه رغب في العتق وحض عليه.
الأساطير
ومع التطور الرتيب البطيء للقوى المنتجة، نتيجة للتعددية والتشظي القبلي، تواضع العقل العربي على إلقاء تفاسير ميتافيزية، لما يجابهه من ظواهر طبيعية، يحاول بها تبرير ما يحدث حوله، وهو ما اصطلح بعد ذلك على تسميته بالأساطير بين العرب أنفسهم، خاصة بين الطبقة المثقفة من أثرياء تجارهم، وهو ما يعلن عدم قناعة مستبطنا بتلك التفاسير، التي أدرجت ضمن أخبار السالفين وأنبياء الأمم وقوادهم تحت عنوان واحد يجمعها هو «الأساطير».
أساطير الماء
ولما كان المطر أهم الظواهر وأخطرها لحياة البدوي، فقد وضعت بشأن انقطاعه أو تواتره سيول تفاسير أسطورية بدائية بسيطة بساطة حياة البداوة، فإذا أمطرت السماء نسبوا المطر إلى فعل النجم أو المجموعة النجمية التي توافقت من الظهور مع سقوط المطر، فيقولون: أمطرنا بنوء كذا. وكان لفيض المطر أحيانا ودوره المدمر تفاسير من لون آخر، فيبدو أن الذاكرة العربية احتفظت بأحوال عرب قدماء، دمرت بلادهم بسبب الأمطار العاصفة، فحكوا عنها روايات تفسيرية، تكمن الأسباب فيها بيد الآلهة الغاضبة البطوش على من خالفوا أوامرها أو نواهيها، وهو ما روته العرب مثيلة عن هلاك عاد وثمود، ويمكن الرجوع بشأنه تفصيلا للفصول الأولى من كتب الأخبار الإسلامية، وعلى سبيل المثال «تاريخ الأمم والملوك» للطبري.
كذلك كان لندرة المطر أساطيرها الخاصة، والتي دفعتهم إلى ابتداع ألوان من الطقوس، قصدوا بها تحريض الطبيعة على العمل، ويبدو أن ملاحظة سكان السواحل للضباب الصاعد من الماء ليكون سحابا ممطرا، أثر في تصور اصطناع حالة شبيهة، فكانوا يوقدون نارا تخرج مادتها دخانا شبيها بالضباب الصاعد للفضاء، بقصد الاستمطار. ولأن البقر كان رمزا للخصب عند الشعوب القديمة، فقد عقدوا بين النار والبقر في طقس يجمعون فيه الأبقار، ويصعدون بها المرتفعات، ويربطون في ذيولها مواد قابلة للاشتعال يوقدون فيها النار، فتهرع الأبقار مذعورة تثير الغبار وهي تهبط من الجبل، لتصطنع حالة شبيهة بالعواصف الممطرة، وأثناء ذلك يضجون بالدعاء والتضرع، ويرون ذلك سببا للسقيا بعد ذلك، وذلك إعمالا لمبدأ السحر التشاكلي حيث الشبيه ينتج الشبيه.
أساطير السماء
وفي العصر الجاهلي الأخير، ومع النزوع نحو توحد قومي ديني تحت ظل إله واحد، ارتفع العرب بذلك الإله عن المحسوسات، ونظروا إلى إلههم ساكنا السماء في قصر عظيم تحفه حاشية من الملائكة؛ لذلك قدسوا السماء وأجرامها، والقسم بها، وبظواهرها، وحفوا بالقدسية كل ما تساقط من السماء بحسبانه قادما من ذلك المكان المقدس حيث العرش، فكان تقديس الأحجار النيزكية أحد نتائج ذلك الاعتقاد.
وقد نسبوا إلى الأفلاك أثرا عظيما في حياة البشر والأمراض والأوبئة، وكان تساقط الشهب يعني وقوع أحداث جلل؛ كالحروب، أو الكوارث الاقتصادية، أو الطبيعية، أو ولادة رجل عظيم، أو موت لآخر.
ويبدو أن تلك القدسية امتدت عند بعض القبائل إلى تأليه نجوم السماء، بينما اتجه البعض الآخر إلى اعتبارها هي ذات الملائكة، وقالوا إنهن بنات الله، أو لهن علاقة بالله على الجملة في أكثر من شأن، وتعبر عن ذلك الرواية المشهورة بشأن كوكب الزهرة والملكين هاروت وماروت، وكيف أغوت الزهرة الغانية الملكين الورعين فارتكبا الخطيئة وعصيا الله خالق السموات والأرض، وكيف تحولت تلك المرأة التي أغوت ملائكة السماء بدورها إلى كائن سماوي يتمثل في ذلك الكوكب الجميل المعروف بكوكب الزهرة.
أساطير البشر
كذلك لم يجد العرب في تميز بعض الأشخاص إلا سمات خارقة، نسبوها إليهم أحيانا انبهارا، وأحيانا تمجيدا؛ فهذا خالد بن سنان يطفئ النار التي خرجت بجزيرة العرب وكانت لها رءوس تسيح فتهلك البلدان، ويبدو أنها كانت ذكرى بركان مدمر، لكنهم جعلوا للنار البركان رءوسا آكلة حاربها ابن سنان حتى أطفأها وردها إلى مقر الأرض.
وهذا الصعلوك القوي النبيل، يشتد الإعجاب به وبقوته حتى يقولوا إنه قتل الغول وأتى يحمل رأسه تحت إبطه، فأسموه «تأبط شرا». وهذا عنترة بن شداد يشد على الأعادي فيكسر رماح الحديد وينزع النخيل من مواضعه ويحارب الغزاة، حتى يتحول مع النزوع القومي في الجاهلية الأخيرة إلى بطل عربي قومي يحارب أعداء العرب بقواه الجبارة.
وذلك «سيف بن ذي يزن» يدخل الحلم القومي العروبي بعد تحرير بلاده من الأحباش، فيتم التعتيم على استعانته بالفرس الذين يحتلون بلاده عوضا عن الأحباش، ليتم تصويره بطلا شعبيا عظيما يقاتل الجيوش ويهزمها بقوته ومهارته.
وهو ما يشير إلى نزوع جديد نحو أساطير البطولة للجاهلية في عصرها الأخير، لتصنع رمزها القومي العربي، وهي تنحو نحو التوحد الآتي.
أنماط الزواج
في جزيرة العرب، تعددت أنماط الزواج، كناتج ضروري لشكل العلاقات المجتمعية، والتوزع القبلي، وتباعد المضارب عبر مساحة تكاد تكون قارة متباينة، تشكل فيها كل قبيلة وحدة قائمة بذاتها، ومن هنا فرضت تلك الأوضاع أنماطا عدة للنكاح، عددتها لنا كتب السير والأخبار الإسلامية.
النكاح لأجل
والنكاح لأجل كان يقع على طريقتين تمثلان نوعين من الزواج، وهو لون من النكاح الصريح الذي لا يعني زواجا بالمعنى المفهوم، والنوع الأول منه هو ما عرف بنكاح «الذواق» الذي يتم دون أي شروط تعاقدية، ويحل برغبة أي من الطرفين متى ما شعر بعدم الرغبة في الاستمرار، وقد اشتهر بهذا النكاح «أم خارجة» التي تناكحت وأربعين رجلا من عشرين قبيلة، فكان يأتيها الرجل متوددا يقول: خطب، نكح، فيأتيها، حتى ضرب بها المثل، فقيل: أسرع من نكاح أم خارجة، وهو الخبر الذي أورده الزبيدي في تاج العروس والميداني في مجمع الأمثال.
أما النوع الثاني فهو «نكاح المتعة»، وقد عرف بعد ذلك في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
كمشروع للمسلمين دون حرج، وكان قبل ذلك واسع الانتشار بين عرب الجاهلية، وكانت دوافعه لديهم التنقل والأسفار والحروب، حيث كان الرجل يتزوج على صداق محدد لأجل محدد، وبقضاء المدة ينفسخ التعاقد، وقد كان لأثرياء مكة الدور الأساسي في إرساء هذا اللون من النكاح، حيث كانوا أصحاب قوافل وسفر، وممكنات مادية تسمح لهم باقتناء الحريم على تلك الطريقة، على محطات سفرهم بالقوافل، ويبدو أنه لون من التقنين الأحدث للطريقة الأولى «الزواج بالذواق».
أنكحة في عداد الزنى
وعرفت الجاهلية ألوانا أخرى من النكاح وكرهته رغم عمل البعض به، فكان في عداد الزنى، وتمثله عدة ألوان، أولها نكاح «الشغار»، وهو أن يزوج الرجل ابنة الرجل على أن يزوجه الآخر ابنته دون إمهار، فكانت كالتبادل البضائعي، لا حق للمرأة فيه ولا مهر لها، وقد نهى الإسلام عن هذا اللون من النكاح «لا شغار في الإسلام»، ورغم ذلك لم يزل معمولا به خاصة بين فقراء المسلمين، كحل غير مكلف؛ لعدم وجود المهر فيه.
وهناك لون آخر عرف باسم «المضامدة»، تتخذ فيه المرأة خليلا أو أكثر على زوجها، وكانت تفعله نساء القبائل الفقيرة زمن القحط، فتذهب إلى السوق وتعرض نفسها على ثري يكفلها ويمنحها المال، ثم تعود بعد ذلك لزوجها بعد أن توسر بالمال الكافي لإعاشة أسرتها، وبدوره كان نكاحا بدفع العامل الاقتصادي أساسا.
ثم ألوان أخرى من النكاح البدل المعروف بتبادل الزوجات، وزواج «المقت»، وكان مكروها من العرب وأسموه المقت كراهة له، وكان يتزوج بموجبه الرجل زوجة أبيه كجزء من ميراثه عند موت ذلك الأب، وقد أبطل الإسلام هذا اللون من الزواج، هذا ناهيك عن نكاح الاستبضاع الذي يطلب فيه الرجل بذرة سيد عظيم في رحم زوجته عساه يرزق بولد عظيم.
ومن أنكحة الزنى الصريح، نكاح صاحبات «الرايات الحمر»: وهن بغايا مكة اللائي كن ينشطن في مواسم التجارة وموسم الحج ترغيبا للتجار وأهل السوق، وقد شجع أثرياء مكة صاحبات الرايات الحمر، لمزيد من الإنعاش الاقتصادي، لكنهم مع ذلك كانوا على مروءة إن حملت المرأة، حيث يلحق ولدها بما يرى أهل الفراسة والقيافة أو بضرب القداح، فيصبح ابن من تقع عليه الحظوظ.
أنكحة بالعرف
وقد تواضع العرف القبلي في ظل ظروف التشتت القبلي، والإغارة والاقتتال بين القبائل وبعضها، على لون بشع من ألوان النكاح، هو لون صريح من الاغتصاب المهين، ينزل بالقبيلة المهزومة ونسائها، حيث كان من حق المنتصر سبي النساء والاستمتاع بهن حيث تصبح ملكه بالسبي، ويصبح من حقه بيعها إن لم يجد من يفتديها منه. ومثله نكاح الإماء بالشراء والامتلاك، وهذا اللون من النكاح كان لا يعرف عددا للنساء الحريم على سرير الرجل، وهو شبيه بالزواج غير المحدد بعدد الزوجات الذي كان معرفا بدوره بين الطبقات الثرية، لكنه كان نادرا معدودا، حتى تجده في خبر أو اثنين، كما جاء عن غيلان الثقفي الذي أسلم وتحته عشر نسوة.
مكانة المرأة
حول مكانة المرأة في جاهلية العرب الأخيرة، اختلف الباحثون إزاء ما بأيديهم من معطيات تتضارب أشد التضارب، وتتناقض إلى حد عدم الالتقاء أبدا. فذهب الباحثون إلى طريقين على ذات الدرجة من التضارب والتناقض؛ منهم من رأى للمرأة في الجاهلية مكانة تتميز بها عن وضع بني جنسها عند بقية الشعوب، وأنها سمت إلى وضع السمت في المجتمع، بينما ذهب فريق آخر إلى النقيض وهبط بها إلى أسفل سافلين.
الشكل الأرقى
ومن ذهبوا بمكانة المرأة في ذلك العصر إلى مكان السمت المتميز، اعتمدوا على ما جاء بديوان العرب من أشعار، تبين كيف كانت المرأة هي الوتر الحساس في قلب كل عربي، ومبعث كل إلهام، حيث التزمت القصائد جميعها تقريبا نهجا يهيم بالمرأة ويمجدها، وما يلاحظ على المعلقات التي لا تخلو من الإشادة بالمرأة والتغزل فيها بل والفخر بها.
ويعود الاتجاه نفسه إلى المأثور العربي وما ورد من أخبار عرب الجاهلية في المصادر الإسلامية، ليجد العربي حريصا على كرامة المرأة ويعتبرها موضوع شرفه، حتى شنت من أجلها حروب، وأبرزها موقعة «ذي قار» التي انتصرت فيها ثلاث قبائل عربية متحالفة، على الفرس، بسبب رفض النعمان بن المنذر تزويج ابنته للملك الفارسي، كذلك حرب الفجار الثانية التي قامت بين قريش وهوازن تلبية لاستنجاد امرأة بآل عامر للذود عن شرفها، ولا ننسى حرب البسوس التي دامت أربعين عاما بسبب انتهاك جوار امرأة، وما قصة عمرو بن هند وعمرو بن كلثوم إلا أبرز مثل لأنفة العربي وحرصه على كرامة المرأة وعزتها.
وتروي كتب الأخبار وطبقات الشعراء كيف كانت المرأة تستشار في عظائم الأمور، كما في حادثة سعدى أم أوس الطائي، ناهيك عن مشاركتها للرجال في ساحة القتال، تحثهم على المثابرة وشد أزرهم، وتداوي الجرحى وتدعو للأخذ بالثأر، فيستبسل الرجال مخافة سبي نسائهم، وقد كان لواء «الحارثية» في شعر حسان بن ثابت وراء نصر قريش في غزوة أحد على المسلمين، فعندما سقط لواء المكيين هرعت إليه «الحارثية» وسط الرماح والسيوف وحملته، فتجمعت حوله فلول المنهزمين، وظلت تهتف بهم حتى عادوا وحملوا على المسلمين حملة شديدة. ودور «هند بنت عتبة» في ذات المعركة من أهم الأدوار في تاريخ تلك الحروب، حيث أتت بنساء مكة وقيانها يشحذن الرجال، وينشدن الأناشيد الحماسية لتأجيج الحمية القتالية. وكانت «هند» من شاعرات العرب اللائي يصفن المعارك ويحسن تصوير الأبطال، واشتهرت أيضا «كفيلة بنت النضري»، و«أروى بنت الحباب»، و«بنت بدر بن هفان» والهيفاء القضاعية. ولا مراء أن الخنساء ذهبت من بينهن بعمود الشعر رثاء وفخرا وحماسة وحربا.
ولا يغيب على فطن انتساب قبائل العرب إلى أمهاتها، مثل بجيلة وخندف وطهية ومعاوية ونويرة، ويبدو أن الحرص على مكانة الأم كان وراء حرص العربي على كرم النسب وطهارة الرحم، وقد ذكر كتاب الأغاني في حديثه عن حرب الفجار أن «مسعود الثقفي» ضرب على زوجته «سبيعة بنت عبد شمس» خباء، وقال لها: من دخله من قريش فهو آمن، فجعلت توصل في خبائها ليتسع.
وفي الأشعار تقدير عربي شديد للمرأة، فيخاطبها إذا كانت زوجة بأفضل الألقاب، فهو يقول لها:
يا ربة البيت قومي غير صاغرة
ضمي إليك رحال القوم والقربا
واللقب، وتعبير «غير صاغرة» يشير إلى أي درجة من السمو كانت.
الشكل الآني
أما أصحاب الاتجاه الآخر، فيستندون إلى ذات المعطيات وذات المادة التاريخية، ليعطونا صورة من أشد الصور بخسا بحق المرأة، فكانت تورث مع المتاع إذا توفي زوجها، ويرث الولد زوجة أبيه ويتصرف فيها حسب مشيئته، فبإمكانه أن يتزوجها، أو يزوجها لغيره ويأخذ مهرها، أو يعضلها حتى تموت؛ أي يمنعها من الزواج حتى تدفع فدية عن نفسها، فهي في منزلة بين الإنسان والأنعام، أو هي مثل متاع البيت متعة لصاحبه، وسميت متاعا بالفعل، مهمتها الاستيلاد والخدمة، وشاع الكثير عن بغض العرب للبنات، حتى سئل أعرابي: ما ولدك؟ قال: قليل خبيث، قيل: وكيف ذلك؟ قال: لا عدد أقل من الواحد، ولا أخبث من بنت.
وهذا «أبو حمزة العيني» يهجر زوجته إلى بيت مجاور بعد أن ولدت بنتا، حتى أمست تقول شعرا:
ما لأبي حمزة لا يأتينا
يظل في البيت الذي يلينا
غضبان ألا نلد البنينا
تالله ما ذلك في أيدينا
وإنما نأخذ ما أعطينا
ونحن كالأرض لزارعينا
ننبت ما قد زرعوه فينا.
وغني عن التنبيه إلى أن تلك الرؤية المتقدمة للرجل كسبب في جنس الوليد، وأن المرأة مجرد أرض تقبل الجنس المزروع وتنبته.
هذا ناهيك عن ظاهرة الوأد كأبشع الظواهر طرا، وقد ذهب بعضهم إلى قصر الميراث على الولدان الذكور وقالوا: لا يرث إلا من يحمل السيف.
التحليل التاريخي
ومثل هذا التناقض في المعطيات، ثم التناقض بالتبعية في تقارير الباحثين حول وضع المرأة في الجاهلية، لا يحله إلا رؤية تاريخية موضوعية، فقد عاش العرب في قبائل متعددة موجودة جنبا إلى جنب في زمن واحد، ولكن في مناطق مختلفة، وهي تتداخل معا، ففي مكة جمع شكل المجتمع القبيلة إلى جوار الواقع الحضري، وطريقة العيش ووسائل الكسب، من رعي وغزو إلى استقرار زراعي، إلى تجارة، أثرها الذي يجب أخذه في الاعتبار عند مناقشة وضع المرأة في الجاهلية ، وهو موضوعنا التالي.
العامل الموضوعي ووضع المرأة
سبق وأشرنا إلى اختلاف آراء الباحثين في وضع المرأة زمن الجاهلية، كما ألمحنا إلى أن ذلك الاختلاف ناتج من تعدد القبائل والأشكال المجتمعية على التجاور في زمن واحد، في مناطق مختلفة، كذلك تنوع الأقاليم وطرق الكسب التي تتباين، وما تبع ذلك بالضرورة من اختلاف في وضع المرأة، ولا ريب أن دخول الشكل الطبقي أدى إلى ثراء قبائل ضاربة على طرق التجارة، مقارنة بقبائل ظلت على فقرها في باطن الجزيرة، إضافة إلى التفاوت الطبقي داخل القبيلة الواحدة، وما ارتبط به ذلك التطور الاقتصادي في تفجير الأطر القبلية في المناطق التي أصابها ذلك التطور، فتغيرت بناها المجتمعية وسعت نحو نزوع وحدوي على مستوى الأرض والسماء، مما أدى إلى نشوء وعي قومي وحدوي، استشعرت فيه قبائل العرب بوحدة جنسها، وكان لكل تلك التطورات دورها في اختلاف وضع المرأة، مما أدى لاختلاف رؤية الباحثين بدورها.
ظاهرة الوأد
يقول القرآن الكريم معقبا على ما آل إليه حال المرأة في العصر الجاهلي، آمرا، ناهيا
ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ، وينبه «الدكتور علي عبد الواحد وافي» هنا إلى أن الوأد الناتج عن الفقر لم يكن فيه تمييز بين الذكر والأنثى، فكانوا يئدون على الجملة، وهو رأي فيه نظر، حيث لم يثبت وأد الذكور على الإطلاق، حيث كانت البداوة ونمطها بحاجة دائمة إلى ذكور شغيلة محاربين، لكنه يطرح من جانب آخر وجهة نظر بشأن وأد الإناث، فيقول إنهم اعتقدوا أن البنت من خلق الشيطان، أو خلق إله غير إلههم، فوجب التخلص منها.
وفي التفسير الديني نجد تفسيرا أقرب للمقبول عند الدكتور «علي زيعور» حيث يقول: إنه كان لونا من طقوس التقرب لإله القمر «ود» رمز الأنوثة في رأيه، وإنه كان من بقايا القرابين البشرية، التي درجت عليها الشعوب القديمة، قبل استبدالها بذبح الحيوان فداء للإنسان.
لكن ما يعني الأمر هنا هو أن المطالع لكتبنا الإخبارية لن يجد ظاهرة الوأد أمرا متفشيا، كما هو شائع، بل كان على العكس نادر الوقوع، ذكرت حالات بعدد قليل لا يرقى بالحالة إلى ظاهرة منتشرة، وقد عابه العرب وأنكروه. وأشهر حالتين يتم ذكرهما حالة «قيس بن عاصم» وحالة «عمر بن الخطاب».
ولعل صدق الوحي والتنزيل هو الفيصل بشأن سبب الوأد في بعض مواضع وبعض قبائل الجزيرة، حيث أشار للوضع الاقتصادي وأثره في تلك العادة، فالفقير بحاجة للولد المنتج، وليس بحاجة لأنثى فم يلتهم في مجتمع ندرة على العموم، ثم كان حال القبائل المتحاربة يعرض الإناث للسبي والعار، وكان محتما أن تهزم القبيلة الفقيرة وتسبى بناتها، لقلة عتادها وحيلها.
والدليل على عدم تفشي الوأد، وأنه بالفعل كان ناتج الإملاق كما قال الوحي الصادق، أن علية القوم ومن تيسر معاشهم فتهذبت نفوسهم، استهجنوا ذلك بشدة، فكانوا يفتدون البنات من الوأد، واشتهر من بين أجواد العرب «صعصعة بن ناجية» جد «الفرزدق»، الذي أخذ على نفسه ألا يسمع بمئودة إلا فداها، فسمي محيي الموءودات، وقال الفرزدق فيه:
وجدي الذي منع الوائدات
وأحيا الوئيد فلم يوأد
وتعبر حادثة «أم كحلة الأنصارية» عن كون السبب الاقتصادي وراء تعاسة المرأة كفم آكل غير منتج في وسط فقر وندرة، حيث ذهبت إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تقول: يا رسول الله توفي زوجي وتركني وابنته فلم نورث، فقال عم ابنتها قولة فيها صدق الحال، قال: يا رسول الله، هي لا تركب فرسا ولا تحمل كلا ولا تنكى عدوا، يكسب عليها ولا تكسب.
وهناك سبب آخر أدى إلى حالة واحدة أخرى من حالات الوأد النادرة، ويتعلق بالظاهرة في قبيلة تميم، حيث كانت تميم قد امتنعت عن أداء الإتاوة للنعمان ملك الحيرة، فجرد عليهم حملة سبت نساءهم، فكلموا النعمان في نسائهم، فحكم بترك حرية النساء في الاختيار لقرار النساء أنفسهن، فاختلفن في الاختيار ما بين البقاء في حوزة من سباهم وبين العودة لذويهم، وكانت فيهم بنت «قيس بن عاصم»، وهي الحالة النادرة المشار إليها، فاختارت سابيها على زوجها، فنذر «قيس» أن يدس كل بنت تولد له في التراب، واقتدى به بعض تميم نكاية في النساء.
الوضع الطبقي
كان نشوء الطبقة عاملا أساسيا في تحديد وضع المرأة، فكان هناك الإماء والحرائر، وكانت الحرائر تتمتع بمنزلة سامية، يخترن أزواجهن، ويتركهن إذا أساءوا معاملتهن، ويحمين من يستجير بهن، وكن موضع فخر الأزواج والأبناء، بعكس الإماء الذين كان الأبناء يستحيون من ذكر أمهاتهم.
علا شأن المرأة في الوسط الثري، خاصة إذا تمتعت هي بالثراء، فكانت تختار زوجها كما حدث من السيدة خديجة أم المؤمنين وكانت إحدى ثريات مكة المعدودات، عندما خطبت لنفسها الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان آخرون يفخرون بنسب أنفسهم إلى أمهاتهم.
وكما سبق وأشرنا فقد ارتبط ذلك التطور الاجتماعي ونشوء الطبقة بنزوع قومي واضح، كانت المرأة طرفا في جدله التاريخي، حيث كانت امرأة سببا في حرب العرب والفرس في ذي قار، والفرح الاحتفالي الهائل في الجزيرة بالنصر العربي، أما النزوع القومي وشعور قبائل العرب بأنهم جنس له نوعيته وخصوصيته فقد دفعهم إلى عدم تزويج بناتهم من أعاجم مهما بلغ الأعجمي من مراتب الشرف والسؤدد والمال.
الحب والزواج
يبدو أنه رغم ما نسمع عن قيود وأعراف عربية، وضعها المجتمع على علاقة الشاب بالفتاة، فإننا نسمع أيضا مع نشوء الطبقة الثرية عن مجالس سمر تعقد في أفنية الدور، ويجتمع فيها الشباب والشابات حيث تضرب الدفوف ويرقص الحداءون ويلقى الشعر، خاصة في آخر سنوات الجاهلية الأخيرة.
وكان الشاب منذ بلوغه يبدأ التشبيب بالنساء ويلاحقهن، وكان ذلك إحدى علامات الرجولة والفخر، ولأن الشعر كان أغنية العربي وفصاحته، فقد كان كل شاعر يبدأ شعره بالغزل، إلا أن الشعر النسوي كان يخلو تقريبا من ذلك الغزل، حيث كان بوح المرأة بمشاعرها لونا من خلق الحياء التقليدي بين العرب.
اختيار الزوج
وإذا تأخرت خطبة الفتاة، التي عادة ما كانت تتزوج في سن مبكرة (حوالي الثانية عشرة)، فإنها كانت تلجأ إلى طلب الرجل، فتنشر شعرها، تكحل واحدة من عينيها، وتسير تحجل في الشارع ليلا تنادي: يا لكاح، أبغي النكاح، قبل الصباح.
وهو أمر يشير إلى أن العرب وإن درجوا على عادة اختيار الفتى لفتاته، فإن العكس كان حادثا، وتشير الأحداث إلى أن المرأة كانت حرة في اختيار زوجها، بخاصة إذا كانت من علية القوم، فهذه «هند بنت عتبة» تقول لأبيها: إني امرأة ملكت أمري، فلا تزوجني رجلا حتى تعرضه علي، فقال لها وذلك لك.
وتقول المصادر إن حق ابن العم في ابنة عمه كان عرفا مقدما ومسنونا، إلا أن العرب بعد ذلك صارت تدرج على التزاوج من خارج القبيلة، ويقول الباحثون إن كان ناتج ملاحظة أن زواج الأقارب يأتي بالضاوين (الضعفاء والمشوهين)، فصارت لهم في ذلك أمثال مضروبة، من قبيلها: لا تتزوجوا من القريبة فيأتي الولد ضاويا، والزواج من البعداء أنجب للولد وأبهى للخلقة وأحفظ لقوة النسل، ولا تتزوجوا في حيكم فإنه يؤدي إلى قبيح البغض، والنزائع لا القرائب.
زواج الغريب
ويبدو لنا أن الزواج من قبائل أخرى، كان مرحلة متطورة تساوقت مع التطور اللاحق، الذي دفع بأفراد القبائل للخروج عن الحالة القبلية الأولى، ونظام التحالفات الذي كان إرهاصا بالقومية والتوحد، سعيا وراء توفير ممكنات إقامة أحلاف قبلية كبرى قوية. وأبرز الأمثلة على ذلك عندما بلغ الصراع ذروته بين كتلتي هاشم وأمية في مكة، وبدأ كل من البطنين يعقد تحالفاته الكبرى ضد الآخر، وكيف وهي السياسة التي اختطها هاشم بنفسه، وتبعه فيها بنوه من بعده.
لكن ذلك لم يمنع استمرار الزواج من داخل القبيلة بالطبع، وكان للطبقة والفقر والغنى دوره في ذلك، فكانت الفتاة في الطبقات الأدنى تفضل زواج الأقارب؛ لأنهم أكثر معرفة بشئونها من الغرباء، وأحرص على ستر عيوبها وسلامتها. وفي حكاية «عشمة البجلية» ما يشير إلى هذا المعنى، فقد نصحت شقيقتها «خود» عندما جاءها خطاب أغراب حسان بقولها: تزوجي في قومك ولا تغرك الأجسام، فشر الغريبة يعلن، وخيرها يدفن، ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل؟!
الطلاق
معلوم أن الطلاق كان بيد الرجل، وكانوا يطلقون ثلاثا على التفرقة فإذا تمت امتنعت العودة، لكن أيضا كان من حق المرأة الثرية - ويشار إليها بالشريفة لمالها - حق الطلاق، وقد أشار أبو الفرج الأصفهاني في أغانيه إلى ذلك في حديثه عن نساء الجاهلية يطلقن الرجال، وبلغ الأمر حدا لا يجبر فيه المرأة على المصارحة بالطلاق، بل كان يكفيها أن تحول باب خيمتها من الشرق إلى الغرب فيفهم الرجل أنه قد طلق من امرأته. (إلى هنا انقطع الموضوع المنشور في مجلة نزوى وقد أوردناه كما نشرته المجلة لفقدنا الأصل.)
متى ظهر العرب في التاريخ؟1
متى ظهر العرب في تاريخ المنطقة؟ السؤال الذي حاول الباحثون تقديم إجابة واضحة بشأنه، استنادا للوثائق التاريخية والأركيولوجية، وإلى الدراسات المهتمة بتاريخ الأجناس والجغرافيا البشرية.
وقد انتهت مدرسة الألماني «نولدكه» بهذا الشأن، إلى أن المفردة «عرب» ترادف في معناها الصحراء «آرابيا
ARABIA »، أو بمعنى آخر، أنها لم تكن تعني أكثر من البداوة والفقر والجفاف. أقوام متشرذمة تتناثر على امتداد بوادي جزيرة العرب حتى بادية الشام وسيناء شمالا وغربا، وأنها إطلاقا لم تكن تعني ما نفهمه اليوم من معنى الجنس أو القومية، بل إن هؤلاء الأعراب لم يكن بينهم هم أنفسهم أي حس بأنهم جنس واحد أو ذوو أصول واحدة، بل كانوا يأكلون بعضهم بعضا بالحروب والغارات القبلية التي لا تهدأ.
رغم أن هناك يقينا غير واضح، بأن للعرب وجودا وأصولا موغلة في القدم، فإن ما ورد عنهم من إشارات مكتوبة، قليل ومبعثر، ولا يرقى لأبعد من الألف الأولى قبل الميلاد. كما أن تعبير «الساميين» الذي يلتبس تارة بالعرب وطورا ببني إسرائيل، لا يشير إلى حقيقة بشرية، قدر ما يشير إلى مجموعة لغات متشابهة، يفترض أنها تعود إلى لغة أم أولى.
ولعل أقدم الإشارات المكتوبة إلى العرب - كما هو معلوم لدى الباحثين - هي تلك التي جاءت في نقوش آشورية، حوالي عام 853 قبل الميلاد، وحدثتنا عن جماعات من البدو دمرتها القوات الآشورية، وأن تلك الجماعات كانت تستقر في بادية الشام، ودومة الجندل، وتيماء، وقد أطلقت النصوص الآشورية على هؤلاء لفظة اختلف تنغيمها نطقا في الترجمة ما بين: عريبي، وعربا، وعربي، وعربو. أما بلادهم فيبدو أنها تلك التي ذكرت في ذات النصوص باسم «عربايا»، كما أشارت إلى ملوك وملكات في محيط «دومة الجندل» وإلى كيانات قبلية تمتهن التجارة، يرجح أنهم كانوا بدورهم عربانا، وربما كانت عبارة «ماتو-أربي» الواردة في الكتابات البابلية كانت تعني: أرض العرب، لكن من المؤكد أن لفظة «أربايا» الواردة في كتابة «دارا الأكبر الأخميني» تعني: العرب.
العرب في نصوص الرافدين
وهكذا اتفق الرأي على أن أول إشارة مدونة في التاريخ إلى العرب، تلك التي جاءت في نصوص العاهل الآشوري «شلمناصر الثالث»، والتي تحدثت عن معركة «قرقر» التي وقعت عام 853 قبل الميلاد، وتمت فيها هزيمة حلف لمجموعة من القبائل، تزعمها شخص باسم «جندبو» أو «جندب العربي»، وأن تلك القبائل كانت تقاتل راكبة الجمال، وأن عدد الجمال العربية في تلك المعركة قد تجاوز الألف جمل، وهو ما يشير إلى حلف كبير، كما يشير إلى لون من التآلف بين قبائل العرب، ربما اقتصر على ذلك الطارئ المؤقت، ولم يرق إلى الإحساس القومي بالتوحد الجنسي.
وقد أشارت تلك النصوص الرافدية المدونة في القرن التاسع قبل الميلاد إلى ملكات عربيات؛ فقد وردت في نص من عهد «تجلات بلاصر» سنة 778 قبل الميلاد، رواية عن قدوم ملكة العرب «زبيبة» تحمل الجزية، ونظنها تلك التي وردت في أخبار المأثور العربي باسم «الزباء»، وخلطوا بينها وبين «زنوبيا» ملكة تدمر. كذلك ترك لنا الملك «سرجون الثاني» نصا يقول فيه إنه قد هزم جيوش «شمسى» التي وصفها بأنها «ملكة العرب» حوالي سنة 732 قبل الميلاد، وأنه قد تسلم الجزية من ملك سبأ «يث-عمر» حوالي سنة 716 قبل الميلاد، إضافة إلى دحره جماعات من «ثمود» و«العبابيد» و«المرسماني» و«عفه» الذين وصفهم بأنهم «العرب بعيدو الديار».
وفي نص للملك الآشوري «سنحاريب» نفهم أنه قد أسر شقيقا لملكة عربية اسمها «ياطيعا»، ثم هاجم معسكرا لملكة عربية أخرى اسمها «ت. علخونة»، حوالي عام 691 قبل الميلاد، أما الملك الآشوري «أسرحدون» فقد ترك وثيقة تشير إلى فرضه الجزية على ملك دومة الجندل المدعو «خزعل» سنة 676 قبل الميلاد.
وفي كتابات العاهل الآشوري الشهير «آشورياني بعل» (يكتب خطأ بانيبال ) سنة 649 قبل الميلاد، إشارة واضحة إلى معركة وقعت مع عرب يعرفون باسم عرب «قيدار»، ثم نعلم أن هؤلاء العرب قد تغلغلوا داخل الأردن مما اضطر «نبوخذ نصر» العاهل الكلداني إلى مهاجمتهم عام 599 قبل الميلاد، ويبدو أن شأن هؤلاء العرب كان قد تضخم إلى الحد الذي اضطر الملك الرافدي الأشهر «نابونيد» إلى نقل عاصمته جنوبا ليقيمها في واحة تيماء، ليواجه من هناك تلك الهجمات، وليبسط هيمنته على «ددان» (العلا حاليا شمالي السعودية)، وعلى فدك وخيبر ويثرب، وهو ما يوضح مصدر تلك الهجمات العربية.
العرب في التوراة
أما التوراة، كوثيقة تاريخية، فقد سجلت للعرب وجودا تاريخيا واضحا، وذلك حوالي عام 1000 قبل الميلاد، عندما أرفقت ذكرهم بذكر مؤسس دولة إسرائيل «الملك سليمان»، وذلك في سفر أخبار الملوك الثاني القائل: «وكل ملوك العرب، وولاة الأرض، كانوا يأتون بذهب وفضة إلى سليمان.» وهو ما يشير إلى أن للعرب في ذلك الزمان ممالك تدفع الجزية لسليمان ملك إسرائيل.
وبعدها يتواتر ذكر العرب في نصوص التوراة بذات السفر، في حكايته عن الملك اليهودي «يهو شافاط» حيث يقول: «وبعض الفلسطينيين أتوا «يهوه شافاط» بهدايا وحمل فضة، والعربان أتوه أيضا بغنم من الكباش.» وفي زمن الملك «يهورام» يهاجم العرب مملكة يهوذا بذات السفر حيث يقول: «والعرب الذين بجانب الكوشيين، صعدوا على يهوذا وسلبوا كل الأموال الموجودة في بيت الملك، مع بنيه ونسائه.»
ومن ثم تتصاعد نغمة العداء التوراتية ضد العرب، فتحكي التوراة عن عودة اليهود من سبي بابل لبناء الهيكل الخرب مرة أخرى، وكيف كان العرب يهزءون مما يفعلون، وذلك في سفر نحميا، وهو يقول: «ولما سمع سنبلط الحوروني وطوبيا العبد العموني، وجشم (نظن صحيحها جاسم) العربي، هزءوا بنا واحتقرونا.» ومن ثم نجد في أمنيات النبي «إشعيا» فناء كاملا للعرب، في قوله: «وحي من جهة بلاد العرب، في الوعر بلاد العرب تبيتين، يا قوافل الددانيين (يقصد قوافل تجارة ددان وهي العلا حاليا)، يا سكان أرض تيماء، إنهم أمام السيوف قد هربوا، يفنى كل مجد قيدار.» أما النبي «إرميا» فيقدم ذات الأماني في نبوءته: «هكذا قال الرب: قوموا واصعدوا إلى قيدار، أخرجوا كل بني المشرق.» ومعلوم أن «قيدار» اسم لقبيلة عربية كبرى آنذاك، أما اصطلاح بني المشرق فهو يعني العرب بالمعنى الواسع، وقد تأكد صدق وجود قبيلة باسم «قيدار»، على الأقل في إشارة تاريخية لنص «آشور باني بعل» سالف الذكر، وأنه جرد حملات عليها لأنها ساعدت أخاه المتمرد، وأنه دمر «أبي عاطي» زعيم قبيلة قيدار، وغنم منهم جمالا كثيرة.
العرب في النصوص اليونانية والرومانية
تعد إشارة «إسخيليوس» (525-456 قبل الميلاد) أقدم إشارة يونانية لجزيرة العرب، بحسبانها موطنا للخيول العربية الممتازة، لكن الكتابات الهوميرية بحسبانها أشهر الكتابات اليونانية، لا تأتي على ذكر العرب إطلاقا، رغم تعدادها لشعوب وقبائل الشرق القديم، ومعلوم أن كتابات «إسخيليوس» جاءت بعد «هوميرس» بما يزيد عن ثلاثة قرون، لكن ما أن يأتي عام 484 قبل الميلاد، حتى نجد في حديث «هيرودت» المعروف بأبي التاريخ، الحديث الكثير عن العرب ومناطق العرب، مما يشير إلى أن العرب قد أصبحوا حقيقة مستقرة في المنطقة، حوالي القرن الخامس قبل الميلاد، وأنه كان لهم معالمهم الجغرافية المميزة، مثل خليج العرب (خليج السويس حاليا) مما يعني أنهم قد استوطنوا سيناء، كذلك كانت العرب الجنوبية (اليمنية) معلومة الأمر تماما في ذلك القرن. وما أن يأتي القرن الثاني قبل الميلاد، حتى نجد الحديث عند «أراتوستين» عن أربع ممالك عربية مستقلة في جنوب الجزيرة، هي: معين وسبأ وقتبان وحضرموت، وهو التقسيم الذي أثبتته الحفائر والكشوف الأركيولوجية الحديثة في اليمن.
أما الرومان، فقد قسموا جزيرة العرب قسمين: العربية الصخرية «أرابيا بترا» وهي شمالي الجزيرة وشبه جزيرة سيناء، والعربية السعيدة «أرابيا فيلكس»، وهي بلاد اليمن أو جنوبي الجزيرة، وذلك بعد معرفتهم الجغرافية لشئونها، مع حملة «آليوس جالوس» على الجزيرة، والتي أثبتت فشلها الذريع في احتلال تلك الفيافي.
البحر الحميري
ومنذ القرن الأول قبل الميلاد، نجد النصوص اليونانية تشير إلى وجود مملكة مزدوجة في جنوبي الجزيرة، هي مملكة «سبأ وحمير»، وأطلقت تلك النصوص على سكان تلك المملكة اسم «الهومريين» الذي يجب نطقه «الحميريين». ويبدو أن اسم البحر «الأحمر» قد اكتسب اسمه من اسم «حمير» قبل سقوطها في القرن الأول قبل الميلاد، بعد أن كان اسمه البحر الأرتيري كما سبق وأسماه «هيرودت»، لكن المثير في الأمر أن تسميته بالبحر «الأرتيري» نسبة إلى وقوع «أرتيريا» على مضيقه الجنوبي في المندب، يعني ذات المعنى؛ لأن «أرتيريا» نفسها كانت جزءا من مملكة سبأ، واسمها باليونانية يعني «الحمراء»، ولتقارن مع «حمير» والبحر «الأحمر»، وهو الأمر الذي يدفع لمراجعة العلاقة التي تربط بين تلك المملكة العربية الجنوبية، وبين سكان ساحل المتوسط الشرقي «الفينيقيين»، حيث تعني كلمة فينيقي بدورها «الأحمر»، وتلك المراجعة مطلوبة في ضوء النص الفينيقي المكتشف، الذي يؤكد أنهم جاءوا إلى ساحل البحر المتوسط الشرقي، قادمين من «البحر الجنوبي» وهو الأحمر،
2
وهو الأمر الذي قد ينتهي إلى القول: إن حضارات الجنوب كانت هي الأصل والدافع للحضارة الكبرى التي قامت بعد ذلك على ساحل المتوسط الشرقي، لكن ستكون العقبة هنا: كيف ذلك، بينما أبعد نصوص تحدثت عن وجود للعرب، لا ترقى لأبعد من ألف سنة قبل الميلاد، بينما نعلم أن الفينيقيين قد ظهروا على صفحة التاريخ قبل ذلك التاريخ بأكثر من ألف عام أخرى؟ سؤال يجيب عليه الفراعنة.
العرب في الهيروغليفية
وهذا حقا ما فاجأتني به ترجمة جديدة تماما للمفكر الليبي «الدكتور على فهمي خشيم»، لكلمة الشرق في المصرية القديمة «إ أب ت»، حيث كان المصري يحدد الجهات الأصلية بالتوجه جنوبا نحو منابع النيل، ليصبح الشرق في يساره، لتعني الكلمة «إ أب ت» اليسار والشرق معا، كما تشير إلى الريح الشرقية وأي مشتقات ترتبط بالشرق، وجذرها «إ أب» يعني الشرق، وفي قراءة الرجل للكلمة نجد الهمزة الأولى مبدلة من العين «أ = ع»، وذلك كما في المصرية «ك أب» = كعب، و«إن ق» = عنق ... إلخ، ومعروف أن العربية تبدل العين همزة كما في «الأربان = العربان» (انظر لسان العرب)، أما الهمزة الثانية في «إ أب» فهي مبدلة من الراء، ونموذجا لذلك خمسين مثالا قدمهم المصرولوجي «أمبير» مثل «ب أ ك» المصرية = برك، و«ش أ ع» = شرع، و«ج أم» = جرم، وعليه فإن الهمزة الأولى في «إ أب» تصبح «ع»، والهمزة الثانية تصبح راء، بينما الباء أصيلة، أي أن «إ أب» هي بالضبط «عرب»، و«إ أب ت» هي «عربت» مؤنث «عرب»، أو بلفظ العرب «عربة»، أي: بلاد العرب، أي: جزيرة العرب، أو على الأصوب والأرجح «وادي عربة» الممتد من خليج العقبة حتى البحر الميت شرقي سيناء، وهي الكلمة المصرية التي صارت تدل على الشرق عموما، مما يعني أن مصر القديمة قد عرفت بلاد العرب باسمها، وأنها كانت تعرف سكانها باسم العرب، وإذا كان الشرق في اللسان المصري القديم يعرف بأنه «عرب» وسكانه (العرب)، فهو الأمر الذي يعني وجودا لقبائل حملت ذلك الاسم وعاشت شرقي مصر، وأن الاسم قديم قدم من أطلقه عليهم.
وأنه من المحتمل الآن البحث عن أصول الفينيقيين الحمر في حضارة الجنوب اليمني الأحمر الحميري، لكن ما يجب التأكيد عليه هنا أنه رغم كل الاحتمالات التي تشير إلى قدم العرب في التاريخ، وأنهم أقاموا ممالك في بعض الأحيان، فإنهم لم يشعروا يوما بوحدة جنسهم، هو ما تشير إليه تلك الكتابات القديمة، التي كانت دوما تتحدث عن القبيلة الفلانية ثم تصفها بأنها عربية، مما يعني أنها فقط بدوية أو صحراوية، باعتبارها كانت مملكة، ونحن نعلم يقينا وفق الدراسة العلمية المدققة أن الحس العربي بمعنى القومية أو الجنس الواحد، لم يظهر إلا قبل الإسلام بزمن وجيز، بفعل مجموعة من الظروف الموضوعية أدت إليه، ولم تحمل كلمة العرب مدلولها الجنسي والقومي المعروف، مع سيطرة لغة واحدة، إلا مع الإسلام، الذي نمى الحس القومي لدى سكان الجزيرة، ليشعروا لأول مرة في تاريخهم أن لهم كيانا واحدا هو الكيان العربي، وحينها ابتدعوا فكرة «يعرب» جد العرب البعيد، الذي يجمعهم ويوحد أصولهم في تاريخ لم يعرف هذا الاجتماع من قبل، وربما كان «يعرب» هذا هو الصياغة العربية «بالقلب» للاسم المذكور في التوراة بصيغة «عابر».
رب الزمان1
منذ ما يزيد على خمسة آلاف عام ، عندما كان الفكر الإنساني لم يزل في بداياته، كان العراق في قمة الإبداع الحضاري، حيث نشأت أول حضارة إنسانية على ضفاف دجلة والفرات.
وفي جنوب وادي الرافدين، كان هناك الشعب السومري الذي لا تقل حضارته عن أية حضارة أخرى عاصرته، ففي هذا السهل الغريني الخصب، أبدع الحكماء السومريون أدبا وفكرا يتناسبان مع درجة ارتقاء الإنسان في تلك الأزمان.
تطلع الفكر هناك حوله مستكشفا ظواهر طبيعة الكون مفسرا وقارئا ومبدعا، في كيان الوجود المحيط به، فترك عددا غفيرا من الآلهة، تعددت بتعدد الظواهر النافعة والضارة في الطبيعة، ومن تلك الآلهة الإله «آن» إله السماء. «آن» رب السماء
تعني كلمة «آن» السماء المنظورة ذاتها في بدء الأمر، وكانت السماء في رؤيتهم سقفا محفوظا يعلوهم، ثم تحولت بالتدريج إلى علم ورمز على الألوهية عموما، فعادلت الكلمة «آن» - بمعنى من المعاني - لفظا جلاليا أو اسما للجلالة، تدل على ألوهية أي مسمى إلهي، كما حملت الكلمة «آن» معنى السيادة والرفعة، باعتبار هذا الإله هو سيد الآلهة جميعا.
ويقول آثاري السومريات المعروف «صموئيل كريمر»: إن الأسباب التي أدت إلى سيادة «آن» على مجموعة الآلهة السومرية، لم تزل وفصولها أسبابا غير معروفة، لكننا يمكن أن نتصور وببساطة، أن رؤية السومري للسماء بفسحتها واتساعها، وتعدد الألوان والأجرام والظواهر فيها، مع ضخامة هذه الظواهر، وجسامتها هذه، روحا تحيط الأرض، وتغطيها لها من جميع الجوانب، كل ذلك كان كفيلا بإجلالها، بما يلائم عظمتها، مقابل ضيق المساحات المرئية أمامه بشكل مباشر على الأرض، التي مهما بلغت مظاهرها هولا وغرابة، فإنها لا ترقى أبدا إلى درجة الظواهر السماوية، مع الأخذ بالحسبان، عدم التماس المباشر بينه وبين السماء، مما جعلها مجهولا دائما، يقع في نفسه موقع الجليل بما له من رهبة ورغبة وتقديس، فكان أن تصور السماء أعظم الآلهة طرا، وأبا أولا دائم الاقتدار، بتواصل وديمومة يخصب الأم الكبرى الأرض، وهو يحتضنها باستمرار، ليلقي ماء الحياة فيها.
واستطاع العرب أو الساميون أن يشيدوا بلاد الرافدين بعد أن أصبحوا سادة البلاد، وأسسوا هناك دولا كبرى نتذكرها عندما نتذكر «الأكاديين، والبابليين، والآشوريين، والكلدانيين». إن الإله «آن» لم يقم بإبداع الوجود دفعة واحدة فيكون قد فعل فعلا واحدا شاملا وانتهى الأمر، إنما كان إبداعه زواجا مستمرا من الأم الأرض، عن طريق مطره الدائم ورعايته من عليائه باستمرار لأولاده من الكائنات الأرضية «إنسان ونبات وحيوان وكيانات أخرى»؛ وبذلك كان فعله مستمرا، وعليه فهو لم يفعل مرة واحدة إنما يفعل باستمرار، وربما هذا الفعل هو فعل «آن» الدائم، فهو «فعل + آن» أو «فعلان»، تلك التفعيلة التي دخلت كل اللغات السامية لتدل على الفعل المستمر والحضور في جميع الأزمنة، فهو فعل بدأ في الماضي، لكنه مستمر الحضور والعمل، وباعتبار «آن» أقدم الآلهة طرا، فقد اكتسب صفة الأزلية، ولأن السماء منفصلة عن الوقائع الأرضية، التي تتعرض للدمار والفساد باستمرار، فقد بات واضحا لعيني السومري أن الإله «آن» دائم الحضور دون فساد أو فناء، ومن هنا اكتسب صفة الأبدية، ومن ثم تحول إلى مفهوم، فأصبح هو الديمومة أو الزمان.
ولو توقفنا مع العربية، كفرع من اللغات السامية، وحللنا كلمة «الزمان»، سنكتشف عددا لا بأس به من الكشوف، وأول ما سنلاحظه في كلمة الزمان أنها على وزن التفعيلة «فعلان»، كما أنها تشير إلى جزئيات الزمن المتراصة المتلاحقة المتلاصقة في كلمة «زمان»، وأعني أن الزمان هو مجموعة من اللحظات أو من الآنات «آن وآن هكذا ...»، أي مجموعة من اللحظات الحالية أو الراهنة أو الآنية «الآن»، مضت منها «آنات»، ونحضر منها الآن «آنات»، ومنها آنات لم تأت بعد، فالزمان هو مجموع آنات الوجود، وبضم هذه الآنات إلى بعضها البعض، أو لمها، أو جمعها، أو زمها تصبح هي «زم الآنات» أو «زم آن» أو «زمان» أو «الزمان»، الذي كان قديما هو الإله «آن» رب السموات. «آن» رب المكان
ونعود مرة أخرى للساميين، فنجدهم يستبعدون الكلمة السومرية «إي
E » ويستبدلونها بمقابل السامي «بيت
Bit »، و«بيت» بالتحديد تعني معناها في عربيتنا «البيت»، لكنه كان يطلق فقط على المعابد فاختص بالكلمة «بيت» بيوت الآلهة، أما باقي الأمكنة على الأرض ، فحظيت باسم آخر، تأخذه من فرع آخر باللغات السامية، أقصد الكنعانية، التي أطلقت على بيوت آلهة أدنى قليلا من «آن»، هي الكلمة «بك»، وهي موجودة كمثال في اللفظة الكنعانية «بعلبك»، وهي معبد قديم للإله «بعل» لم يزل قائما للآن في لبنان، والإله بعل يعني «السيد» أو «الرب»، وهو رب الأمطار والخضرة، ورب الطبيعة المروية بفعله هو، وليس بمساعدة إنسانية «بالساقية أو الشادوف»، وظل «بعل» حيا في لغتنا حتى الآن ويحمل المعنى نفسه. وبعل المرأة سيدها وزوجها ورب بيتها، كما لم يزل حيا في أذواقنا، حين نفضل أكل النبات المروي طبيعيا، النبات البعلي «الفول البعلي مثلا»، ونفضله على «الفول المسقاوي» الذي يدخل في سقايته الفعل البشري.
ولما كان الإنسان القديم، يشكل في التاريخ مرحلة الطفولة البشرية، فإنه كثيرا ما كان لسانه يلكن لكنة أطفال اليوم، وكثيرا ما خلط بين الباء والميم، وهكذا لم يكن هناك بأس من أن يصبح بيت الإله «مك» بدلا من «بك»، فجاز نطق المعبد المذكور: بعلبك، ومعلبك، ومعلمك! ومن هنا استساغ «جورجي زيدان» في مبحث لغوي، أن يستنتج أن كلمة مكة من «مك»، وتعني بيت الله في اللسان القديم، وقد نؤيده إلى حد ما، باعتبار ما نعلمه عن أقرب اللغات السامية إلى الفرع الشمالي العدناني، هو اللسان الكنعاني، صاحب الكلمة «بك»، مع أخذنا بالحسبان ما جاء في القرآن الكريم عن مكة أنها أيضا بكة، في قوله تعالي:
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا .
ولما كانت الكلمة: إي، أو بيت، أو بك، أو مك، تعني بالتحديد والدقة مقرا، أو محتوى، أو مسكنا، أو ملكا (من الامتلاك)، فهمنا من ذلك أن أي مكان أرضي هو ملك للإله المحلى له، لكن على المستوى الأعظم الذي يليق بجلال أعظم الآلهة وسيد الكون «آن»، فإن كل البيوت أو الأمكنة هي بيت وملك ومحل لسكنى الإله الذي تحيط بسمواته كل الأمكنة، «آن» سيد الآلهة، وعليه فالكلمة «مك» إنما هي التي أصبحت بعد ذلك تفصيلا «ملكا»، بإضافة اللام في العربية الشمالية، وأصبحت جميع الأماكن هي ملكا للإله «آن»، فالأرض له ومن عليها، وجميع ال «مك» للإله «آن» أو ملك «آن»، فالمكان إذن أيضا كله ل «آن» وملكه الدائم.
وهكذا نكتشف أن المكان بدوره كالزمان، ينسب للإله الأعظم، رب السموات ورب الزمان ورب المكان، «آن».
من «آن» إلى «فعلان»
ولو أخذنا بما جاء عند فلاسفة الإبستمولوجي
Apstomology «نظرية المعرفة»، وبما عند المناطقة الوضعيين
Logical positivism ، وطبقناه على ما بين أيدينا الآن، لاكتشفنا أن التفعيلة كنوع من التصريف للفعل، هي مرحلة أرقى وأكثر تطورا في الفكر البشري من الفعل ذاته، فقد جاء الفعل أولا، ثم وبعد مرور سنين طوال اكتشفت التفعيلة بعد الفعل بالحركة، واكتشاف مفهوم الزمان؛ مرحلة أكثر رقيا، لأنه يرتبط بدوره بخبرة الإنسان بالحركة، فلو قلنا فيم نستخدم الزمان! فالإجابة هي أنه معيار ومقياس للحركة فالأرض تدور (تتحرك) حول نفسها مرة كل أربع وعشرين ساعة، وحول الشمس مرة كل ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وربع، وأنا أتحرك من منزلي إلى عملي، فاستغرق ساعة ... إلخ، فالزمان مقياس للحركة، وما كان ممكنا أن ينشأ هذا المفهوم عن الزمان، لولا الخبرة الواقعية الحسية أولا بالحركة، وباعتبار السماء مصدرا لديمومة الحركة، في نظر الإنسان القديم (مثل حركة الشمس والقمر والكواكب والسحب ... إلخ)، فقد ربطها الإنسان دائما بكل ما يحدث من حركات، حتى الحركات الإنسانية، بل ربطها بالزمان المستقبلي فقرأ مستقبله وحركاته المقبلة من خلال عملية تفسير لما يريده «آن» بتحريك كواكبه ونجومه، فيما يسمى علم التنجيم، ثم ربط ذلك كله بديمومة وجود السماء وسكون الغطاء السماوي الأزرق، فنتج لديه مفهوم الإله الساكن الأبدي المستمر، بوصفه زمانا لا ينقطع، لكنه يؤثر في جميع الحركات، بل هو المحرك الأول الدائم، عبر تأثير جنوده من النجوم على الحركات الأرضية، ومن ثم اعتبر القدماء أن النجوم هي جنود للإله، أصبحت مع التطور ملائكة له، تقوم نيابة عنه فعل الحركة بينا يظل هو ساكنا، يحرك ولا يتحرك، يغير ولا يتغير، لكنه مستمر الفعل أو فعلان.
في اللغة العربية، كفرع من اللغات السامية، ترك «آن» أثره كحفرية دائمة الحضور في التفعيلة «فعلان»، كحفريات كائنات الطبيعة التي نجدها في الصخور، فيدلنا وجودها باعتبارها أثرا من الماضي، على هوية هذا الماضي. ويسمى العلم الذي يهتم بحفريات الطبيعة «جيولوجيا»، بينما العلم الذي يهتم بآثار الإنسان وما تركه من تراث وحضارة «علم الأركيولوجي»، أما الأسلوب الذي نتبعه الآن في بحثنا القصير هذا، فهو ما يدخل تحت ما يسمى علم أركيولوجيا اللغة، في إطار من علم «الميثولوجي» أو دراسة الأساطير.
ولو تناولنا بعض الكمات في لغتنا لنتعامل معها أركيولوجيا، وفق ما عرفناه، عن «آن»، سنجد عددا من الأمثلة التي لا يحصيها الحصر، فحرف الميم (م)، عندما نبحث عن جذوره اللغوية، نجده يدل على الضم والزم واللم والتلاحق والإحساس الشديد بالشيء، وعادة ما يكون مشددا «م» كما في «ضم»، «هم»، أي استعدت أحاسيسه لتحريكه لأمر شديد القرب لدرجة التلاصق، و«شم» دلالة الإحساس الشديد بالشيء، و«جم» للدلالة على الكثرة المتلاصقة المضمومة لبعضها، و«عم» بمعنى اشتمل وغطى ... إلخ.
والميم أصلا حرف يعود إلى علاقة قديمة بعبادة قديمة، هي عبادة الأم الأولى أو الأم الكبرى، المتميزة بالحنو الشديد، وبأنها مصدر للأمن والأمان لعبادها وقد حظيت في مختلف اللغات السامية بأسماء مثل: ماما ومامي
mami
وأما
Ama
وماه
Mah ، وهي كلها معبودات أنثوية قديمة تشتمل ميم الأمومة في أسمائها، وفي أسماء المعبودات من أمهات الآلهة في الأسر الثالوثية المعبودة، نجد «م» الأمومة والضم والحنو أساسا في تركيب أسماء هذه الإلهات، التي تدخل معها كضلع في أسرة ثالوثية، تتركب من أب وأم وابن، «فأفروديت» الرومانية كانت «ماري»
Mari ، وفي سوريا القديمة كانت الأم والزوجة الإلهية هي «ميرها»
Myrha ، وفي اليونان كانت «مايا»
Maia ، وفي الهند أيضا «مايا»، وفي المسيحية مريم أو ماريا
Maria
و
Meriam ... إلخ، وباعتبار حرف ال «م»، أصلا صوتيا، يعطي معنى الضم والحنو، والأمومة، لو طبقنا عليه التفعيلة من «أم» يصبح «أمانا»، والكلمة «أمان» تتركب من ملصقين: «أم» التي تعني الأمومة، إضافة إلى «آن» فيصبح الأمان أمرا مستمرا دائما، يعود أصلا إلى أمن الوجود في دفء حنان الأم، أو الآلهة الأم.
والنبي محمد
صلى الله عليه وسلم
هو في علم الأنساب من الفرع العدناني، وليس من الفرع القحطاني، و«عدنان» هي «عدن + آن»، وعدن لم تزل علما حتى اليوم على مدينة في جنوب الجزيرة، ولو تتبعنا الهجرات القديمة في جزيرة العرب، سنجد القبائل العدنانية، قد هاجرت فعلا بعد دمار مأرب وانهيار اليمن السعيد، من الجنوب اليمني إلى الشمال، لتستقر في أرض الحجاز، بينما ظلت بعض القبائل في اليمن بعد أن أصابها القحط ليصبحوا «قحطانيين»، من «قحطان»، علما أن «عدن» أو «أدن» كان علما على إله الخصب والمطر في كثير من المناطق السامية، وكان لقبا لرب الخصب «بعل»، وإليه تنسب الكلمة «جنات عدن»، لأن كلمة «جن» كانت تعني وحدة قياس للأرض، تعادل بمقاييس اليوم ثمانية عشر ذراعا، وهي في اللسان اليمني القديم «جنان»؛ لأن أداة التعريف لديهم كانت حرف النون (ن) تلحق بآخر الكلمة، كما في اسم أحد كبار معبوداتهم القديمة إله الرحمة أو «رحمن»، و«جن» تجمع في اللسان العدناني الشمالي «جنات».
وباعتبار الأرض الخصبة ملكا لإله الخصب عدن، فتصبح «جنات عدن» و«عدن» بدورها كلمة تتركب من ملصقين هما «عاد + آن»؛ لأن الإله عدن في أسطورته، كان إلها للخير والخصب، تعرض للقتل والموت كما تموت الطبيعة الخصبة في الشتاء، لكنه يعود من الموت حيا في فصل الربيع دوما، فتعود بعودته الخصوبة والنماء ، وهي قصة متواترة في ديانات الخصب التثليثية، ويعد الاحتفال بعيد قيامة مجيد لآلهة الخصب عيدا كبير الانتشار في المنطقة، حيث كل مجموعة تؤمن بإله للخصب تقيم له احتفال العودة من الموت سنويا، في فصل الربيع بالذات، ومن هؤلاء «عدن» أو «يسوع» المسيحية، ويصبح معنى «عدن» الإله «عاد-آن» العائد من عالم الموتى.
ولا يغيب عن الفطن ربط «عدنان» باليمن السعيدة المكتظة بالخير، والتي حازت على هذا اللقب نتيجة سعدها في سالف الأزمان، وبخضرتها ووفرتها وخصبها، نتيجة وجود الإله «عدن» أو «أدن» في العبادات القديمة، ولنلاحظ أن «اليمن» بضم الياء، يعني أيضا السعد وكان الرسول
صلى الله عليه وسلم
يقول عن نفسه: أنا رجل يمان، بمعنى أنه رجل سعد، بل وقال الحديث: «إن الدين أيضا يمان، والحكمة يمانية.»
قصة الخلق بين ثقافة الصحراء وثقافة النهر1
تأسيس
معلوم، أنه بعد انحسار عصر الجليد الأخير، تقاسمت الأرض حالتان طبيعيتان، الأولى: يمكن تمييزها في تجمع شرايين المياه في أنهار، بعد استقرار أوضاع القشرة الأرضية. والثانية: وضحت في تصحر مطرد أدى إلى خفوت نبض الحياة تدريجيا، بحيث تناثرت الحياة حول عيون الماء والبرك المتباعدة، ومع ذلك التصحر المتزايد، وجدت الجماعة المشاعية الأولى - ذات النظام الأمومي - نفسها، إزاء متغير طبيعي شحيح بمطالب الحياة والمنافع، ونرى أن ذلك قد أدى بالضرورة إلى تفكيك بنية ذلك المشاع، تبعا للتفكيك الذي حدث في الطبيعة، بحيث انتهى إلى وحدات اجتماعية أصغر، وأكثر قدرة على الاستمرار والديمومة، حيث كان التجمع الكبير يعني الهلاك جوعا، والصراع على خيرات الطبيعة الضئيلة، وهو الصراع الذي - لا شك - حدث، وأدى إلى ذلك التفكيك، ثم الانتشار المتباعد للأشكال القبلية الأولى.
وعليه، فقد وجد الإنسان نفسه في البيئة المتصحرة، أمام خيارين: إما الموت جوعا، أو تدجين الحيوان، ومن هنا حتم الظرف على البدوي الاعتماد على الحيوان ومنتجاته في معاشه، اعتمادا شبه كامل، فكان يأكل لحمه ويتغذى بلبنه، ويلبس من نسيج صوفه، ومن ذات النسيج كان يبني خيامه.
ولندرة خيرات الطبيعة الأخرى، فقد أدى ذلك المتغير إلى تغير مماثل في تطور البناء المجتمعي، فقد أصبحت الجماعة ترتبط برابطة الدم، وبنفس القوة ترتبط بحيواناتها وهي معتمد حياتها، وربما كان ذلك هو جذر الطوطمية، الذي عبر عن قرابة مماثلة - وبالدم أيضا - بين الحيوان والجماعة، كما كانت الجماعة بحاجة ماسة إلى تنظيم يضمن للجماعة بشرا وحيوانات، الأمان من النفوق أو الشرود أو التيه، ومع سعي هذه الجماعة المتجانسة وراء الكلأ، وما يحتاجه من قدرات عضلية لا تتوفر إلا للذكور، انهار وضع المرأة، وتحولت الجماعة إلى الشكل الذكوري، خصوصا بعد أن امتلك الذكور أساسا إنتاجيا متينا تمثل في القدرة على السيطرة على الحيوان وترويضه، في وسط صحراوي يعتمد القوة الغشوم، وساعد على تثبيت مركز الذكور، ذلك الصراع الذي - لا بد - قد شب حول مواضع الكلأ بين الجماعات وبعضها، واحتاج قدرات قتالية، وهو صراع طبيعي تماما في ضوء اعتماد تلك الجماعات على المعطى الطبيعي الشحيح وحده. بينما فقدت المرأة قيمتها الاجتماعية في مجتمع الندرة، بحيث اقتصرت وظيفتها على إنجاب مزيد من الذكور، أما الإناث فكانت أفواها تضيف على الجماعة عبئا، حدثنا التاريخ القريب عن حل إشكاليتها بوأدها. وحتى تضمن الجماعة المتبدية تماسكها، ذاب الفرد في القبيلة وذابت القبيلة كلها في الفرد، وأصبح الفرد يمثل القبيلة بكاملها في كل تصرفاته، وبحيث أصبحت القبيلة كلها مسئولة عن أعماله، كما أصبحت مطالبة جميعها بالالتزام بتصرفه، والثأر له إن أصابه مكروه، وذاب الكل في واحد، هو طوطم القبيلة وسيدها وسلفها، الذي أصبح محل التبجيل والتقديس، وتحول إلى رمز عزة قومية وجنسية ودينية، وكان كل فرد في القبيلة يمثل هذا السلف، أو هو - دون مبالغة - ذلك الطوطم الموحد والموحد.
وفي شكل من الديمقراطية البدائية، التي تضمن بدورها مشاركة الكل وذوبان الكل، كان مجلس القبيلة هو الذي يحدد شيخها وقائدها، بصفات محددة، وترتبط بظروف آنية، فقد يحتاج الظرف للحكمة مرة، وللجسارة والإقدام حينا آخر، بمعنى أن الظرف كان هو الذي يحدد مؤهلات الزعيم المطلوب، وحسب الحاجة، كما يحدد أيضا ظروف عزله وتعيين البديل الجديد المناسب. لكن من جانب آخر ، تدنت مستويات الإنتاج إلى حد كاد يكون اعتمادا شبه كامل على الطبيعة، ولأن علاقة الإنسان بالطبيعة هي علاقة عمل يؤدي إلى إنتاج اجتماعي، فإن الجماعة البدوية ظلت بعيدة عن هذا المعنى الاصطلاحي، وظلت كائنا طبيعيا في حصولها على الخيرات بالسعي الدائب وراء الكلأ، والغزو وسلب خيرات الجماعات الأخرى، أو ما تمثل واضحا في تطفلها المستديم على منتوج العمل في المناطق الخصبة، والاستيلاء عليه والفرار في غزوات لم تنقطع، سجلتها لنا نصوص الحضارات القديمة، التي استقرت على الجانب الآخر من الفرز الطبيعي، أقصد في وديان الأنهار، التي طورت قاعدة إنتاجية، تبعتها نقلات ضرورية على المستوى الاجتماعي.
وعلى مستوى العقائد، فإن الطبيعة المتصحرة الضنينة بأشكال الحياة وألوانها - تلك الأشكال والألوان التي تتعدد تعددا هائلا في مناطق الخصب النهري - جعلت الإنسان في بداوته أحادي النظرة، واحدي الاعتقاد والنظام، فهو - كما قلنا - واحد في كل، يتمازج بذات الوحدة مع سلفه الواحد، الذي عادة ما تمثله في أهم حيواناته النافعة؛ لذلك غالبا ما قدس أنواع الشياه، بالذات؛ لذلك كان ذلك السلف المقدس هو ربه الواحد الأوحد، وهو أفضل من أرباب القبائل الأخرى، وهو الوطن - حيث لا وطن مع الانتقال الرعوي - والملاذ ومصدر العزة وموحد الكيان، ولا يوجد رب يمكن أن يدين بالطاعة له سواه؛ لأنه إنما يمثل مصالح جماعته ووطنها الذي ينتقل معها أينما حلت أو ارتحلت، وهو البعد الذي نجده بعد ذلك في العقائد الإسرائيلية المبكرة، التي كانت لا تنكر الأرباب الأخرى، لكن لا تراها في مرتبة رب إسرائيل. ومن هنا لم يسمح الظرف بنشوء أنظمة مركزية توحد القبائل المتصارعة، فظلت في شتاتها، مع استمرار الإله الوطني والاعتزاز بالنسب إليه بحسبانه السلف الواحد اللامتعدد، ولا يمكن أن يتعدد؛ لذلك كان هو المعبود الواحد الذي يضمن لقبيلته تماسكها اللزج وانصهارها وأمنها، لكنه من جانب آخر شكل أدلوجة واحدة للجميع، لم تسمح - لأزمان طويلة بعد ذلك - بظهور ثنائية طبقية تسمح بمزيد من التطور ودعم ذلك الوضع، الظرف ذاته الذي فرض استمرار الديمقراطية الابتدائية ومجلس القبيلة، والزعيم الظرفي الذي لم تثبت سيادته مدة زمنية تسمح بامتلاكه قدرا يؤدي إلى ظهور تشكيلة طبقية.
هذا بينما على الجانب الآخر، وفي مناطق الخصب النهرية، كان استقرار الأنهار في مجاريها بشكل نهائي، قد استغرق زمنا غير قصير، وسمح بوجود بيئة شبيهة بحال ما قبل انحسار الجليد الأخير، من حيث انتشار الأحراش والمستنقعات مما فرض بالتالي استمرار الوضع الابتدائي للمشاع زمنا أطول، ضمن استمرارا موازيا لوضع المرأة المتميز في النظام الأمومي، بسبب امتلاكها أساسا اقتصاديا دعم ذلك الوضع (سنأتي على شرحه الآن)، واستمر ذلك النظام فترة زمنية توازت مع المرحلة التي تغيرت فيها نظم المجتمع، الذي تحول للبداوة في مناطق التصحر، وانتهت بالسيادة الذكورية، بينما كانت مناطق الخصب لم تستمتع بعد باستقرار الطبيعة النهرية تماما. ولتوضيح ذلك سنحتاج إلى وقفات تفصيلية - حسب المساحة المتاحة - لا بد منها، وهي وقفات تنتج لزوما عن رؤيتنا، والتي تمثلت في اقتراح يحل أو يحاول حل مسألة أيهما كان أولا: النظام الأمومي أم النظام الأبوي؟ فبينما كان «داروين» قد افترض - بالمقارنة مع عالم الحيوان - أن السيادة المطلقة كانت ذكرية لا شك فيها من البداية، أكمل «آتكسون» فقال: إنه حدث أن ثار الأبناء على الأب المتسلط القاسي المتوحش وقتلوه وافترسوه سويا واستكمل «روبرتسون سميث» البحث ليؤكد أنه قد مرت بعد ذلك فترة انتقالية ظهر فيها النظام الأمومي، وانتهى «فرويد» بعد البناء على ما سبق، إلى أن الأوضاع قد عادت إلى سابق عهدها وساد الذكر، بينما كان يقف على الجانب الآخر اقتراح يحمل أدلة ربما كانت أقوى - كما عند «إنجلس» مثلا - يؤكد أن البداية كانت نظاما أموميا لا شك فيه.
وكان اقتراحي هو رفض السؤال: أيهما كان أولا؟ من أساسه، بحسبانه الخطأ الذي أدى إلى تضارب الاجتهادات، وزعمت أنه لم يكن هناك قبل ولا بعد، ولا سابق ولا لاحق، حيث قد انتهى الظرف البيئي إلى تميز مجتمعين عن بعضهما رغم تزامنهما، هما مجتمع البداوة ومجتمع النهر، أي إن الاختلاف كان مكانيا وليس زمانيا، وهو الزعم الذي أضحى بحاجة إلى تأييد، وهو تأييد كما قلنا بحاجة إلى بعض التفصيل الوجيز.
سيادة الأنثى
لنقر مبدئيا أنه من غير المنطقي أن يوجد مجتمع كل آلهته إناث، ويسوده بشر ذكور، أو العكس. ولنقرأ بعد ذلك الترتيلة السومرية التي تقول: «عندما تزوجت الإلهات الأم ... وعندما توزعت الإلهات الأم بين السماء والأرض ... وعندما ولدت الإلهات الأم ... عند ذلك كتب العمل ... الإلهات العظام يراقبن العمل، والأبناء يحملون السلال» (انظر مثلا: فوزي رشيد، خلق الإنسان في الملاحم السومرية والبابلية، آفاق عربية، أيار 1981م). ولنلحظ أن البيئة السومرية في جنوب وادي الرافدين، لم تكن قد تحددت فيها معالم نهري دجلة والفرات تحديدا واضحا، ولم تزل، وحتى الآن تختلطان في الدلتا وتنتشر بينهما الأهور والأحراش والمستنقعات شبه الغابية.
حقيقة إني أرى في تلك الترتيلة حفرية رائعة، نقش فيها ما حدث في حقب الحياة القديمة، فالإلهات هنا هن الإلهات الأم، اللاتي توزعن بعد ذلك بين الأرض والسماء، ومن الجدير بالذكر أن أول تمثل للأم الأولى الكبرى كان في تربة الأرض الخصبة، ومع نقلات تطورية استغرقت زمنا، تم تمثلها - إلى جوار الأرض - في كوكب الزهرة المتلألئ ذي الحسن والدلال، وهو ما تشير إليه الترتيلة بوضوح. ولك أن تلاحظ أن قدسية الإلهات الأم قد ارتبطت ب «عندما ولدت» ولنتذكر أهمية «ولدت تلك فسنعود إليها»، بينما أصبحت مهمة الأبناء، وهم جمع الذكور، العمل، لتتفرغ الأم الإلهة لإدارة شئون العشيرة، ومن ثم لم يكن غريبا أن ينادي السومريون تلك الإلهة بالنداء: ماما
mama
ومامي
MAMI
وأماه
AMA (انظر حول تلك التسميات جان بوتيرو: الديانة عند البابليين، 1970م، ص11).
وتلخص لنا الأنثروبولوجية جبكيتا هوكس
JAQUETTA HAWKES
الاتجاهات البحثية بصدد تأليه الأم الأنثى الأولى، فتقول: إن أقدم تماثيل شكلها الإنسان للعبادة، تمثل إناثا ضخمت فيهن الأعضاء المثيرة جنسيا، أطلقت عليها هوكس اسم تماثيل أفروديت الولادة، وتبع ذلك عصر اتضحت فيه بعض رسوم تتسم بالذكورة، تلاها عودة كاسحة إلى الإلهات الإناث، وذلك مع اكتشاف الزراعة في العصر الحجري الحديث، ويعود تاريخ التماثيل الولادة إلى حوالي خمسة عشر ألف عام (أي في العصر الحجري القديم)، ولنا أن نلاحظ هنا أن الجليد قد تراجع قبل ذلك بآلاف عشر أخرى، مما يشير إلى التحولات التي أشرنا لحدوثها في البيئات المتصحرة على المستويين البيئي والمجتمعي، مع بقاء أوضاع المشاع في البيئات الخصيبة على حالها، إلى ما يزيد عن عشرة آلاف عام.
وتؤكد هوكس أمرا منطقيا تماما، هو أن النساء هن مكتشفات الزراعة، إبان جمعهن للثمار في منطقة مستقرة مع أطفالهن، وملاحظتهن - بالصدفة المتكررة - لنمو الثمار المتساقطة على الأرض مرة تلو الأخرى، في وقت كان فيه الرجال يخرجون للقنص، وعند عودتهن يكون كل الرجال لكل النساء، فينسب الأطفال للأم دون الأب، وقد شكل اكتشافها الزراعة، وإجادتها لهذا العمل رغم بدائيته النسبية، أساسا اقتصاديا ساعد على تثبيت سيادتها «التي حفرتها لنا الترتيلة السومرية»، ثم تلا ذلك نهاية العصر الحجري الحديث، أي منذ حوالي خمسة آلاف سنة تقريبا، سيادة الذكور النهائية. ولاحظت هوكس أن ذلك اقترن بنشأة المدن المستقرة الكبيرة (للمزيد ارجع إلى:
HAWKES, PRE HISTORY NEWYORK AMERICAN LIBERY, 1963, P.O. 35-357 )، أما نحن فقد أجزنا لأنفسنا - وفق ما بيدنا من شواهد - أن نلاحظ أن ذلك الزمن تحديدا، (نهاية العصر الحجري الحديث) كان بداية هبوط الموجات البدوية على المناطق الخصيبة بالهلال الخصيب، والتي استمرت نوعا من الهجوم الدوري على الحدود لسلب المحصول بعد جنيه، وانتهت باستقرار السيادة البدوية في المناطق الخصيبة في شكل غزو استيطاني كامل، وهي الموجات التي اصطلح على تسميتها بالهجرات السامية، ولعلنا نذكر أن البداوة كانت السلطة المطلقة فيها الذكور.
تدعيم رؤيتنا
تقول ميد
MEAD
مقولة اعتيادية تماما هي: إن النساء بفضل قدرتهن على الإنجاب، ولأن مسألة الولادة كانت في عيني الإنسان البدائي مثيرة للدهشة والعجب - وربما الانبهار المؤدي للتقديس - فقد أدى ذلك إلى الاعتقاد أن النساء قابضات على أسرار الحياة (انظر:
Male and Famale, New York, Morrow, 1949, pp. 102-103 ).
ونضيف إلى ميد: أن الولادة في مجتمع أمومي، يأتي فيه أي ذكر أي أنثى، كانت لا تعطي للذكر فرصة لملاحظة أثره ودوره في عملية الإنجاب، إضافة إلى الفترة الطويلة الفاصلة بين الحمل والولادة، والتي كان يمكن أن تخفى عن عين البدائي غير المدققة، للعلاقة بين الأمرين، كما أن معيشة الأولاد والبنات سويا حينذاك دون عائق قبل المراهقة، ومعرفتهم الجماع الذي لا تنتج عنه ولادة، أدى بدوره لعدم الربط بين الجماع والولادة، وعدم إعطاء الذكر دورا في عملية الميلاد. بل إن هناك من يعتقدون اليوم - في بعض المجتمعات المتخلفة - أنه يمكن للمرأة أن تحمل دون رجل يأتيها، بل وتدخل تلك الفكرة ضمن معتقدات كبرى؛ لذلك كان طبيعيا أن يتصور الإنسان في المبتدأ أن الأنثى وحدها هي الكائن المسئول عن منح الحياة، والقادر الوحيد على ذلك، بحيث أصبح إعطاء الوجود حياة جديدة اختصاصا أنثويا بحتا، وقد دعم تلك الرؤية اكتشاف الأنثى للزراعة، حيث كانت الزراعة إنجابا للحياة وامتلاكا لأسرارها؛ لذلك لم يكن غريبا أن تكون أول التماثيل المعبودة لإلهات إناث ولادات.
وإعمالا لذلك نرى أنه قد تبع اكتشاف الزراعة استقرار دائم انتظارا لنضج المحصول «وهو يشابه انتظار نضج الجنين»، وتبعه بالضرورة دعم لوضع المرأة السيادي، لكن ذلك الأساس الإنتاجي ذاته استبطن في داخله الانهيار المقبل لوضع المرأة، والمتغير الآتي الذي فرضه التوسع في قطع الغابات مع التحقيل وإحلال الزرع محلها، وما يحتاجه مثل ذلك العمل الجبار من قوى عضلية، وما يحتاجه من حيوانات قوية مدجنة لجر الأشجار المقطوعة، وللعمل في حراثة الحقل وحمل المحصول، وهو ما اقترن بالضرورة، بسيادة تدريجية للذكور أدت إلى تبادل المواقع السيادية، وقد حدث ذلك في الوقت الذي سجل لنا فيه التاريخ أن الجموع المتبدية ذات النظام الذكري، قد هبطت بقطعان مواشيها القوية إلى أراضي الخصب، فيما يعرف بالهجرات السامية.
والملحوظة الجديرة بالاهتمام هنا، هي أنه بعد هبوط الهجرات السامية على الهلال الخصيب «وهو نموذجنا هنا»، وما تلا ذلك من قيام الدول المركزية (وهو ما سنأتي على شرحه)، نجد استمرار تواجد الإلهات الإناث في حضارات الشرق الأدنى القديم، إلى جوار آلهة الدولة الحاكمة الذكور، ثم إن التماثيل التي تركتها لنا فنون تلك الحضارات تصور لنا الإلهة الأنثى تحمل بيدها حزمة من الحنطة، أو تقف في حقل حنطة، أو تصور على ثوبها سنابل الحنطة، هذا بالتبادل مع النخلة في رسوم أخرى، وإن كانت أقل انتشارا، وهو ما يشير بوضوح إلى ارتباط الأنثى بالزرع، وبالحنطة تحديدا (أول الزراعات المدجنة)، ولو أخذنا بالحسبان أنه بمرور الوقت، ومع النظام الاجتماعي الذكري، ومع الاستقرار، بدأ الذكر يلاحظ دوره في علمية الإنجاب، كما لاحظ التشابه الواضح بين حبة الحنطة المفلوقة وبين فرج الأنثى المفلوق، وأن كلا الفرجين ينفلق عن ميلاد وحياة جديدة بعد ري الحبة بالماء وري الفرج بمني الذكر، فربط بين المني والماء واعتبر المني ماء الحياة المذكر «أوزيريس النيل في مصر، بعل المطر في الشام، أبسو وإنكي إلهي الماء في الرافدين ... إلخ»، كما ربط بين الحنطة والمرأة، ناهيك عن رصيدها في اكتشاف تدجين الحنطة تحديدا، والتي تحمل التشابه مع الفرج الأنثوي، هذا مع ما حمله التشابه مع نواة التمر الذي انتهى بتقديس التمر بدوره، وبحيث حملت النخلة قدسية المرأة وأصبحت رمزا دالا عليها في العبادات وفي الحوارات الجنسية، واحتسب التمر دواء شافيا يحمل كثيرا من البركات حتى اليوم، خصوصا إذا خلط باللبن، «وهو رمز المني الذكري!» ولا ننسى أن مريم أتاها المخاض عند جذع النخلة والتفاعل معها بهزها.
أما الكلمة «تمر» فالواضح لدينا أنها الأصل والجذر في الكلمة الدالة على الزرع على وجه التعميم، أقصد كلمة «ثمر». وتأسيسا على تلك التجربة والملاحظات، بنى الإنسان تصوراته عن التكوين والوجود، فربط التكوين بدم الحيض الشهري، بعد أن لاحظ غياب الدم مع بدء الحمل المؤدي في النهاية إلى ظهور الحياة في المولود، فربط الدم بالحياة، وتصور أن ذلك الدم المنجس داخل الرحم هو الذي يكون الوليد المقبل، وقد ربط ذلك بملاحظة أخرى هي الموت المحتوم الذي يصيب الإنسان المجروح عندما ينزف دمه، ذلك الدم الذي أصبح على وجه العموم سر التكوين وسر الحياة، وبقي في الذكري، حتى في مجتمع السادة الذكور، بحسبانه منحة الأنثى الإلهة الأولى.
هذا وقد لاحظ بعض الباحثين (مثل فرويد) ارتباط الأنثى بالقمر، والذي كان عادة ينقش إلى جوارها في حالة الهلال، فاحتسبوا أن الإنسان القديم رمز للأنثى بالقمر، وأن القمر هو الإله المؤنث، لكنا ذهبنا إلى اتجاه معاكس تماما، فقد افترضنا أن هذا الاقتران بين الأنثى والقمر إنما نتج عن تناغم إيقاعات الدورة الشهرية للمرأة مع التبدلات التي تطرأ على وجه القمر خلال الشهر القمري، الذي ينضبط إلى حد مدهش مع الإحدى وعشرين يوما للدورة الحيضية، وأن غيابه يترافق مع نزول دم الحيض، ويربط تلك الظاهرة بظاهرة نزول دم البكارة عند أول جماع للفتاة البكر، انتهى بتصور أن القمر هو الزوج الحقيقي أو الغائب للمرأة، بخاصة مع حدوث حالات حمل مع غياب الذكر فترة طويلة للصيد أو في ظروف طارئة، والقمر قد اقترن من جانب آخر بحيوانات الرعي عموما (الشياه)، لشبه الهلال بقرني الخروف أو الثور، وهي الحيوانات التي شكلت الأساس الاقتصادي الذي أدى إلى امتلاك الذكور قاعدة إنتاجية دعمت وضعهم السيادي، والذين مالوا عموما منذ البداوة إلى الترميز للهلال بالخروف، والذي عادة ما رمز بدوره للسلف الأب الذي في السماء.
وتأسيسا على ذلك احتسبت أولى نظريات التكوين أن بداية الخلق جميعا من الأنثى الولادة، التي تمثلت في قوة أنثوية تلد كل شيء من الزرع إلى البشر، وأدمجت كقوة خلق كبرى في جميع الإناث بشرا وحيوانات وأرضا ولودا، وتمثلت المادة الأولى للتكوين في دم الأنثى تحديدا.
ومن الطريف أنه بالقرب من موطني (مدينة الواسطى) وعلى الطريق إلى «الفيوم»، ظهرت كرامة زراعية رائعة الدلالة، تشير إلى بقاء المأثور القديم في الوجدان الشعبي بقوة. فمنذ زمن غير بعيد (حوالي 7 سنوات) انتشرت أسطورة تقول إن رجلا أراد قطع شجرة الجميز القابعة على الطريق الرئيسي، ومع أول ضربة بالفأس (وهو رمز ذكري دائم لأنه يشق رحم الأرض) صرخت الشجرة ونزفت مكان الضربة دما غزيرا، وفي تلك اللحظة تحديدا، وكانت في الثلث الأول من الليل، وعندما سمع أهل القرية جميعا دوي الصرخة الملتاعة، نزفت كل امرأة كانت في حالة جماع مع زوجها، ومن ثم اختار الأهلون للشجرة اسما لا جدال في دلالته، وهو «الشيخة خضرة!» ووضعوا بجوارها صندوقا كتب عليه : تبرعوا لبناء مسجد الشيخة خضرة! والغريب أنك عندما تقترب من الشجرة - التي أخذت المئذنة تتعالى من خلفها - لتطالع المادة الصمغية التي جفت قطراتها على الساق المقطوع، ستجد أهل القرية قد علقوا على الفروع أشرطة من نسيج أخضر، وعلقوا على الجذع قرني خروف! أما الهلال السيادي فقد تم الاهتمام بوضعه فوق المئذنة، حتى قبل إتمام بقية المسجد.
الأنثى والأرض
ويمكننا أن نرى ارتباط الأنثى الولود بالأرض، متمثلا بروعة أخاذة في أسطورة سومرية تحمل اسم «أسطورة الشعير والنعجة»، ولنلحظ بداية الشعير «وهو الحنطة رمز الخصوبة الأرضية، وأول ما دجنت المرأة من زروع، كما أن النعجة هي رمز الأنثى الأشهر»، وتتلخص الأسطورة في القول: إن البشر الأوائل قد خرجوا من تربة الأرض كما يخرج الزرع والحشيش وكل صنوف الحياة.
ويمكنك أن تجد ذات الفهم في أسطورة سومرية أخرى تحمل عنوان «هبوط إينانا إلى العالم السفلي»، وقد وضعت - فيما يبدو - لتفسير ظاهرة التناوب الفصلي بين الخصب والجدب، كما تلخص المفاهيم الأولى عن الوجود والتكوين، وتقول: إن إلهة كوكب الزهرة إينانا، كانت تهبط إلى باطن الأرض دوريا كل عام حيث عالم الموتى، وبتضحية اختيارية تتم وقت الاعتدال الخريفي، حيث يبدأ فصل الجدب على سطح الأرض بغيابها، وهي الأنثى الأم الولادة مانحة الحياة، ثم تعود مع الاعتدال الربيعي إلى سطح الأرض، ومع عودتها تخصب الأرض وتتفتح الأزاهير؛ لأن عودتها تعني بدأ عملية الإخصاب والتوالد، «فيعود الخروف إلى شاته، والثور إلى أنثاه، والزوج الغاضب إلى بيته» أو كما قالت! لذلك لم يكن غريبا - مع طرحنا - أن يتم تعديل تلك الأسطورة السومرية الزراعية، بعد سيطرة الأكاديين على بلاد سومر وقيام دولتهم المركزية، وهم من أصل رعوي بدوي خيموي، ليتحول اسم إينانا إلى عشتار وعشتروت من العشرة والمعاشرة والتعشير، لكنها لا تصبح السيدة المطلقة المسئولة عن الخصب، إنما يظهر هنا سيد جديد كان في الأساطير السومرية مجرد ذكر خامل الذكر، ضمن مجموعة عشاقها العديدين، «ترميزا لزمن الأنثى في المشاع»، ليرتفع ذلك الذكر وتعلو مكانته ويصبح هو المسئول عن الخصب ومنح الحياة واستمرار الحياة، وهو المعروف في الأساطير السامية الرافدية باسم «تموز راعي الخراف الطيب»، ويصبح هو رمز النبات الذي يموت في فصل الجدب وينزل إلى العالم السفلي، ويعود مع بداية الربيع، دون أي ارتباط بواقع الخصب اللهم إلا الارتباط بمنطق السيادة التي حققها الذكور الأكاديون، منطق نظام اجتماعي يأخذ بالسيادة الأبوية في نظمه الاجتماعية، «وهناك أمثلة عديدة يمكن للقارئ الرجوع إليها في أعمالنا المنشورة».
2
ورغم الواضح في المأثور الحضاري في المنطقة عن تراجع سيادة الأنثى، فيبدو أنها ظلت ذات وضع سيادي في عالم الاعتقاد، ومعلوم أن بقاء المعرفي المتمازج من القديم مع جينات الجديد، يظل فترة أطول من تغير الواقع المادي الأسرع في التغيير، وقد أبقى ذلك لنا ثروة طيبة، وجدنا فيها طقسا مثيرا كان يمارس في المناسبات الدينية الاحتفالية بالإلهات الإناث في المراكز الحضارية الكبرى في الشرق القديم، والطقس عبارة عن احتفالية جنسية عمومية هائلة عددا وعدة، في أيام محدودة بجوار معبد الإلهة، وكان أشرف الأعمال التي يمكن للأنثى تقديمها هي التضحية بالبكارة في هيكل الإلهة، ولا أجدني مخطئا إن احتسبت ذلك الطقس أفضل قربان يمكن تقديمه للإلهة المخصبة الولود الشبقة المنجبة مانحة الحياة، تذكرة بالأيام الخوالي أيام كان الرجال للنساء جميعا، والنساء للرجال جميعا، وإذا كان ذلك ممجوجا من قواعدنا الأخلاقية اليوم، فإنه كان حينذاك على العكس تماما، بل كان واجبا دينيا خطيرا تقدمه النساء للإلهة كي يفشو الخير وتأتي السنوات السمان، بتحريض القوى الإخصابية للأم الكبرى لتبدأ فعلها في الطبيعة، تأسيسا على مبدأ السحر التشاكلي حيث الشبيه ينتج الشبيه، وليس أدل على شرف ذلك العمل الذي يتم من أجل خير المجتمع كله من تلك اللوحة التي عثر عليها مؤخرا في طرابلس بليبيا، منقوشة على عمود شرف مرمري يعلن: أن الشريفة أورليا آماليا قد قدمت جسدها قربانا للآلهة، وأنها في تدينها أصيلة، فقد قدمت أمها وجدتها القربان ذاته، وأنه قد تم للهيئة الكهنوتية التأكد من ذلك! (انظر: فريرز، أدونيس أو تموز، ترجمة جبرا إبراهيم، ص45).
ولنلحظ استمرار التواجد الأنثوي في العبادة حتى الآن في العقيدة المسيحية، حيث تعتبر مريم أم الإله المسيح من أبيه السماوي، وهذه الأم الإلهية تستوجب الاحتفال والتقديس؛ لذلك اختصت دون بقية الأقانيم الثلاثة بصيام العذراء، الذي يصوم فيه المسيحيون عن كل ما هو حيواني، ويقتصرون فيه على الأكل النباتي لتذكير واضح لا لبس فيه، بالمجتمع الذي زعمناه في سالف الأزمان، يعيش في البيئات الخصيبة، ويستغني عن اللحم في الغذاء ويعتمد على الوفرة النباتية، وتسوده أم إلهية مقدسة، ولا ننسى التبادل بين كلمتي «نبات» و«بنات».
أما اللغة فكانت كعادتها تحمل دلالات أحفورية حملت الخبرة القديمة وما تأسس عليها من مفاهيم، تقولبت في ألفاظ تحمل دلالات تلك المفاهيم، فالكلمة قديسة هي في العبرية قديشا، وكانت في الأكادية القديمة قاديشتو، وكان إبانها اللقب الذي تحوزه العشتارية، أي المصطفاة من جموع النساء الحاشدة ليلة الحفل النزوي خارج معبد عشتار، لتقوم بدور الإلهة داخل هيكل الإلهة مع الكاهن الأكبر الذي عادة ما كان الملك يقوم بدوره (انظر كمثال فاضل عبد الواحد، عشتار ومأساة تموز، بغداد، ص158، كذلك بالمرجع السابق ص70)، أما التي كان أهلها من النبلاء يقدمونها طائعة للهيكل، فكانت تحوز لقب الإلهة الأم ذاتها وهو «البتول» وهو في الكنعانية والأكادية والعبرية «بتول، بتولتا، بتولا»، ويعني في العقائد القديمة «إشارة للإلهة» الأنثى غير المتزوجة وغير العفيفة في آن معا.
الخلق في الفهم الذكري
لأن الخلق بالميلاد في النظام الأمومي كان يعتمد مادته الأساسية دم الحيض، فإن سيطرة الذكور التامة بعد الغزو البدوي لمناطق الخصب، وسيادة النظام الذكري، كان لا بد أن تعيد صياغة الأدلوجة بما يتفق والشكل السيادي الجديد، ولأن مفهوم التكوين من الدم بات راسخا، فقد لجأت الأسطورة الذكرية إلى صياغة جديدة تتلاءم مع الظرف الجديد، تجاوزت شرط الولادة لأن الذكر لا يلد، وأخذت منحى آخر أعطى الذكر الدور الأساسي، فالآلهة الذكور عندما قرروا خلق البشر، قاموا بذبح إله يدعى «كنجو»، وعجنوا التراب بدمه ومن هذا العجين تم خلق الإنسان، وهو ما سجلته لنا الملحمة الرافدية «إينوما أيليش»، وتعني «في العلى عندما».
أما خلق الكون برمته فقد اعتمد خطأ آخر، تم فيه وصم الأنثى بصفة الشر، حيث احتسبت الأم الإلهة العظمى «تيامة» إلهة شريرة، أزعجت الآلهة الذكور، فقام إله الدولة الذكرية «مردوخ» بمنازلتها وهزيمتها، وهو تعبير واضح عن انتصار النظام الجديد، ثم قام «مردوخ» بشق «تيامة» كما تشق الصدفة إلى قسمين، رفع القسم العلوي وجعله سماء، وترك النصف السفلي ليصبح أرضا، وفي تلك التنظيرة نجد اعترافا ضمنيا بضرورة الأنثى للتكوين، فمن جسد الإلهة الكبرى تم تشكيل الكون سماء وأرضا.
ولأن الجديد استبطن القديم، ولم يكن ممكنا التخلص نهائيا من دور الأنثى في البناء المعرفي، القائم على فرز مادي تاريخي عريق، فقد حملت الأنثى في ظل السيادة الذكرية قيمة ثنائية، فهي في لغة البداوة السامية (في العبرية مثلا) حواء، لكن الكلمة حفرت في تركيبتها ومفهومها جذر الحياة، وفي الوقت نفسه حملت الوجه الآخر الجديد فارتبطت حواء بالحية مصدر الأذى والشر، ولنلحظ الارتباط الجذري بين: حواء، حياة، حية، حيا أي «فرج»، والمرجح في ربطها بالحية ملاحظة البشر للحية تنسلخ من جلودها كل عام، فتصوروا أن الحية خالدة تجدد حياتها بهذا الأسلوب كل عام، فربطوها بالأنثى حواء مصدر الحياة المتجددة، ومع ذلك فإن الحية في المأثور التوراتي الأشهر، وهو قمة وتطور وخلاصة المأثور البدوي الذكري، ترتبط بالمرأة لكن في صيغة تبخيسية، فهي توعز لحواء بأكل الثمرة المحرمة في عالم الخلد، فيفقد الرجل الخلود بسببها، وتتحول المرأة عن منح الحياة إلى سلب الحياة، وفقدان الخلود، وعليها يجب أن يقع هذا الوزر إلى الأبد.
أما على مستوى القاعدة الاجتماعية، والشكل السياسي، وارتباطهما بالمنظومة المعرفية، في ظل السيطرة الذكرية، فقط ارتبط جميعه بخطوات تطورية سريعة تلاحقت بعد الغزو البدوي السامي للرافدين، فإن المشتركات الأولى ظلت تتمتع ببقايا الديمقراطية البدائية البدوية، وبمجلس القبيلة الذي أصبح مجلس المشترك الذي يختار الزعيم، لكن مع الاستقرار في البيئة النهرية، والتحول إلى الفلاحة، وما يفرضه النهر من تلاحم القوى البشرية للسيطرة على مجاري المياه الهائلة وتوزيعها، فإن ذلك فرض نوعا من الطوارئ المستمرة، التي أدت إلى استمرار مماثل في سلطة الزعيم، بحيث انتهى الأمر مع بقائه ببقاء الطوارئ إلى تسليمه كل ألوية وشارات القبائل المتبدية، ليتحول الشكل السياسي إلى المركزية الصارمة، وإلى توارث الزعامة في بيت الزعيم الملك، بعد دمج المشتركات الإقليمية في الدولة المركزية، بعد صراع مزمن بين تلك المشتركات، وهو ذات الأمر الذي حدث في عالم السماء، حيث تقول ملحمة الإينوما أيليش أن مجمع الآلهة الخمسين (ولا شك أنه يقابل مجلس القبيلة الأرضي، أو مجموعة الأقاليم) قد سلم سلطاته للإله مردوك، وأنهم قد اجتمعوا في السماء ومنحوه قدرة تغيير كل شيء، وخلق أي شيء، بمجرد النطق بالكلمة، تعبيرا عن السلطان المطلق الذي أصبح يتمتع به الملك الأرضي، وبعد أن أصبحت كلمته نافذة لا تقبل الإرجاء، حيث تقول الملحمة: «واجتمع الآلهة الخمسون، في أبشوكينو فرحين، وسلموا مردوك شاراتهم، وقالوا: من مثلك ملك، مر قطعة القماش الممزقة تلتئم، مرها ثانية تعود سيرتها الأولى.»
لكن الواضح في كل الأساطير الرافدية القديمة، أن تلك القدرة كانت بالقوة لا بالفعل، فهي قدرة مرجأة حيث كان الخلق يتم دوما بالفعل اليدوي، بل ويظهر في التوراة التي أقرت الخلق بالكلمة، لكن في كل مرة كان الرب يصنع مخلوقاته بيديه صنعا، مما يشير إلى أن الأمر قد تمت صياغته فقط لتبرير إطلاقية الكلمة السيادية على الأرض (راجع الإصحاحات الأولى من سفر التكوين التوراتي).
المرأة في المأثور الديني والأسطورة1
حريم وحرام
عندما نعتاد الأمر يتحول إلى بدهية، ولا نلتفت إلى تناقضه وهشاشة أسسه، وبمرور الوقت يصبح من أشد الأمور اختلافا بين الناس، بين من يدقق ويرفض منطق الاعتياد، وبين من اعتاده حتى اعتقد أنه بدهية.
ومن المعتاد - لكنه بالفعل ليس بديهيا - أن هناك متسلطا وهناك مقهورا، وأن للمستغلين مصالح تستدعي تزييف وعي المضطهدين (بفتح الطاء)، ويشهد التاريخ أن أشد الأدوات مضاء بهذا السبيل هي الأدوات الإيمانية، التي تلعب على الوجدان العاطفي للمتدين، ومن ثم تراهم ينفقون بسخاء وذكاء، على وسطائهم المحترفين من كهنة ورجال دين، ينشرونهم في كل مكان، يبثون الصبر، وينفثون السلوان، مبشرين بجزاء أيوب، يتتبعون أي تحرك واع ضد تزييف وعي الناس، ينقضون على كل رأي أو سلوك أو حتى كلمة أو فكرة، فربما ثقبت الكلمة الجدار السميك للجهل المنشور، الذي يمنع المضطهد من الوعي بحاله وبوضعه في المجتمع.
ولأن تطور المجتمع البشري لم يصل بعد إلى الوضع الإنساني اللائق بكرامة الإنسان، فإن الظرف الاجتماعي الحالي لازال يسوغ القسمة الطبقية الصارخة بين الناس، طبقات، طوائف، أجناس، دائما هناك الأقوى والأضعف، المفترس والفريسة، القاهر والمقهور.
وربما أبرز نماذج تلك القسمة اللاإنسانية، وتشكل وصمة عار كبرى في تاريخ البشرية، ذلك الذي حدث منذ استولى الذكر على مقدرات المجتمع البشري، وأزاح الأنثى من البؤرة إلى الهامش، ليصوغ مجتمعا ذكوريا أسس لأبشع أنواع التفرقة العنصرية داخل الجنس الواحد، ففرق بين طرفي حياة لا تكتمل الحياة دون التقائهما جنسا وجسدا وروحا وتكاملا إنسانيا.
والتاريخ يؤكد أن الشرق كان هو المؤسس لذلك التقسيم العنصري الطبقي في آن معا، ولم يزل، ومن يومها تتعزى المرأة الشرقية بالصبر والسلوان الفقهي، وتبلسم جراحها بخطابات منبرية، تؤكد لها أنها في مكان التكريم بين نساء العالمين، تتعزى صبرا في عالم الأرض، وصبرا في عالم السموات، في الدنيا وفي الآخرة. وإن أحسنت أيمانها وأحصنت فرجها وأمتعت زوجها وسيدها، دخلت يوم الدينونة ضمن حريم السيد المؤمن الذكر في جنة رضوان، ذلك الحريم الذي تبدأ أعداده من السبعين لتصل إلى الملايين في بعض الأحاديث المنسوبة للنبي.
وإيمانها الذي سيعطيها تلك المنحة الخالدة لا يحسن إلا بالطاعة الكاملة للرجل والخضوع له والتسليم الكامل لسيادته الغشوم في دنيانا الفانية، حتى تضمن لها مكانا كغانية ضمن حريمة في الآخرة أيضا.
والدارس للمرأة في منظومة المأثور العربي، يجد ذلك المأثور يميز جنسيا وخلقيا بين الذكر والأنثى، فهو المخلوق الأول، وهي الثاني، بل هي منه قطعة، هو المخلوق لذاته، وهي المخلوقة له ومن أجله، ويلاحظ أن ذلك الاختلاف العضوي بين الذكر والأنثى، قد تحول في مأثورنا من تكامل ضروري لصنع الحياة ، إلى امتياز خاص للرجل، مأثورنا يعيد وضع المرأة إلى زمن حواء الأسطوري، زمن الخطيئة الأولى، ويمركز الشر كله حولها، فهي شيطان غواية لأنها رفيقة إبليس! المرأة لا تتحكم بشهواتها، ولا تكون مع رجل إلا وكان الشيطان ثالثهما، ويتأصل سوء الظن بها في لا وعي الجماعة على أسس من الإيمان؛ لأنها هي التي أغوت آدم، حتى قصص الأنبياء تخبرنا أن نساء الأنبياء قد وقعن في الخطيئة؛ امرأة لوط، امرأة نوح، في التوراة سارة امرأة إبراهيم، هاروت وماروت أغوتهما امرأة! ولدا آدم تقاتلا على امرأة، فالمرأة تخضع للشهوة لا للعقل، ميولها للخيانة طبيعية، ومن الطبيعي أن تخون فهي أحد أربعة لا أمان لها «مع المال والسلطان والدهر» في الحديث «ولو طالت عشرتها». كل هذا دون أن نلتفت لحظة لفظاعة وضعها المجتمعي، ولا لكم الخيانة الذكورية للمرأة، وللتاريخ كله.
وهكذا يؤسس موروثنا لتبخيس المرأة، فقد خلقت من ضلع أعوج، وناقصة عقل ودين، وشهادتها نصف شهادة الرجل، وميراثها نصف ميراث الرجل، وليس لها من الطلاق شيء، «ولو كنت آمرا أحدا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها.» والكهنة رسل الشيطان والنساء مصايده، شل مستمر لشخصيتها، وإضعاف دائم لفاعليتها، ودفع دائم لها لتكون على الصورة التي يريدها الرجل، ليسقط عليها عدم براءته وشهوانيته ونقائصه، لتصبح مجرد جسد، غير مطلوب منها أن تفكر فهناك من يفكر بالنيابة عنها. مطلوب منها فقط أن تعطيه الراحة والمتعة! أن تكون مجرد متاع! ويترسخ المأثور داخلها هي حتى تؤمن هي ذاتها أنها مجرد فرج! وأنها لذلك حرمة وحرام، فتفرض المأثور على ذاتها في شكل وسواس قهري داخلي، يضع بينها وبين عالمها كل التحريمات حتى الصوت الذي هو عورة، لتحصل بذلك على رضا الزوج الذي هو رضا الرب، وتكتسب رضا الجماعة واحترامها، بحيث تتعايش مع الضغوط وألوان العقاب والاحتقار، المفترض احتراما، وتصبح أكثر أعضاء الأسرة والمجتمع تحملا للاضطهاد، فقط لتعيش في وسط يترصدها ويعد عليها سكناتها، ومن ثم يصبح وضعها هذا في المجتمع طبيعيا تماما، معتادا تماما، بدهيا تماما ، لا نلتفت إليه، ولا نفكر فيه، إلا عندما نصادف امرأة وعت الأزمة، فتكسر في وجوهنا عدم براءتنا بسلوك جديد ورأي جديد ومنطق جديد يخيفنا ويرعبنا، هنا فقط لن نفكر إلا في هذا الانفلات وكيف نحجمه ونعاقبه، حتى لا تأخذ لحريتها مساحة من حريتنا، حتى نظل السادة، وحتى نجد دوما من نحمله أمراضنا الداخلية. من نحمله أيضا أوزارنا دون أن نناقش ذلك الفرض الذي فرضه مأثور، هو الذي فرز لمرحلة تاريخية طال أمدها، ودون أن نناقش مدى صدق الفرض ومدى اتساقه مع إنسانيتنا وما ندعيه من رقي بشري، ونظل نطلب المرأة النموذج، التي تظهر الخجل عندما تحادث الرجل، التي تكبت ميولها الطبيعية ولا تتذكر سوى كونها عورة، التي تعرف عن يقين أنها حرم ... حرم فلان ... فهي حرام، بل الحرام ذاته، حرمة، مقدس، لا يجوز لمسه، وهي أيضا وفي ذات الوقت منجسة لأن طبيعتها النجس، والفعل الجنسي معها يؤدي للنجس، لا بد أن يغتسل جسد الرجل جميعا لرفع أي أثر لتلك الملامسة والممارسة، كذلك دم الحيض يغطيها بالنجس؛ لذلك ترفع عنها أثناء ذلك كل التكاليف، لا تصلي، لا تصوم، كذلك طوال فترة النفاس وهو الأمر الذي له أصوله في الأسطورة وفي القديم الذي أسس لمعنى الحرام والحريم، وهو ما ينقلنا عن تلك الصورة التي قعدها لها المأثور، إلى محاولة قراءة نماذج سريعة لواقع المجتمع منذ ما قبل التاريخ، وهو يتحول بالمرأة من مركز السيادة إلى الحضيض، طبقيا وجنسيا وإنسانيا.
امرأة: الأصل أسطوري
امرأة، حواء، أنثى، أسماء ثلاثة مؤسسة أولى لذلك الكائن الذي كلما حاول التملص كلما قيل إنه لغز. وسعيا وراء أصول التسميات تحكي لنا التوراة أن الله خلق آدم الذكر، ووضعه في الجنة حيث عاش وحيدا لا يجد أنيسا يؤنس وحشته، وهنا قرر الرب أن يؤنسه بكائن يسليه، وكان هذا الأنيس هو المرأة، وذلك في نص يقول فيه آدم عن المرأة المصنوعة من ضلعه: «هذه الآن عظم من عظامي، ولحم من لحمي، هذه تدعى امرأة؛ لأنها من امرئ أخذت» (تكوين، 2: 23).
وهكذا فالنص يجعل امرأة تأنيث امرئ وليس العكس، ليظل الرجل أولا، فهي تابعة له في الخلق، وتابعة في المسمى، لكن بالتوراة نفسها نص آخر يعين تسميتها لشأن آخر فلأنها مصدر الحياة وفاتحة المواليد، يقول النص: «دعا آدم اسم امرأته حواء؛ لأنها أم كل حي» (تكوين، 3: 2). وكلا التسميتين «امرأة» من ضلع امرئ، و«حواء» أم كل حي، وفي الأصل العبري «تلك التي تحيي» يشكلان في يد الباحث مفاتيح تضيء له ذلك القديم، ليكتشف أصل وضع المرأة في المجتمع.
عند قراءة الأسطورة بحثا عن الاسم «امرأة» لن نجد أبدا أنها كانت تابعة ل «امرئ»، بل العكس تماما، فالميم للأمومة، ولا تجد في الإلهات الكبرى القديمة اسما يخلو من ميم الأمومة، فأصل الكون البابلي «مي»، والأم الإلهة الكبرى بالأسماء الثلاثة المتواترة حتى الآن «ما» «أماه» «ماما»، وكل إلهات الخصب في حوض المتوسط يحملن الاسم «ميرها، ميريا، ميريام، مريم، ستلاماريا»، والميرة هي الزاد، هي مانحة الطعام والحياة، وهو ما يلقي الضوء عليها كمكتشفة أولى للزراعة، وميرها هي شجرة المر المقدس أيضا التي أنجبت الآلهة الذكور الأبناء.
أما الكلمتان: أنثى وحواء، فتضيؤهما لنا قصص الخلق الأولى في الملاحم السومرية والبابلية، حيث تحكي عن مكان خاص كانت تعيش فيه الآلهة الخالدة يدعى «دلمون» «البحرين الحالية»، وهو ما يناظر «أولمب اليونان». وهناك جاء إلى الوجود إله باسم «جي» ممثلا لبداية البشرية على الأرض، رعيلا أول يجمع اللاهوت مع الناسوت، أو الألوهية مع الإنسانية. واسمه ملصق من مقطعين يشيران إلى كونه أول سكان الأرض فهو من «آن-سيد أو رب» و«جي-الأرض»، وتحكي الأسطورة أن الأم الإلهة الكبرى «مما ممهور ساج» أو «ننهور ساج» هي التي ولدته، وأنها حرمت عليه ثمارا بعينها في دلمون حرصا على حياته، فعصاها بجهله وحبه المعرفي وأكل منها، فأصيب بمرض شديد في واحد من أضلاعه كاد يقضي عليه.
وهنا أسرعت الأم الإلهة فخلقت له إلهة أنثى مهمتها تمريض ذلك الضلع وعلاج الإنسان الأول «آنجي»، وكان اسمها «آنتي»، والاسم «آن تي» من ملصقين «آن = سيدة أو ربة» + «تي»، و«تي» عندما تكون اسما تعني الضلع فيكون المعنى سيدة الضلع، لكن «تي» عندما تكون فعلا تعني تحيي، أي تلك السيدة التي تحيي أي هي أحيت آنجي بعدما أشرف على الموت، وهو ما يلقي الضوء على معنى كلمة حواء في التوراة العبرية «تلك التي تحيي» والعربية «أم كل حي»، كما يلقي الضوء على أصل الأسطورة التي حورت أو فهمت خطأ فيما نقله المأثور التوراتي عن الرافدي، لتكون حواء أو «آنتي» مخلوقة من ضلع آدم، كما تبهرنا دراسة تلك الأصول عندما نعلم ببساطة أن «آن تي» هو أصل كلمة أنثى «نتاية» ببساطه، والأنثى والنتاية في الجذر تشترك أيضا مع النتوء والظهور .
الإله من أنثى إلى ذكر
والدارس للأساطير سيجد من الشواهد القرائن الأركيولوجية ما يدعم الفرض: أن الأنثى كانت مركزا لمجتمع أمومي ابتدائي، وأنها كانت في مركز يتناسب مع مجتمع كانت آلهته إناثا، ومنطقيا لا يمكن أن نجد مجتمعا كل آلهته إناث ويسوده على الأرض ذكور ومن ثم تكون النتيجة أن الأنثى كانت سيدة ذلك المجتمع.
ويبدو لنا أن السبب في ذلك حسب قوانين الحراك التاريخي، هو امتلاكها أساسا اقتصاديا، دعم تلك السيادة. وهو ما نلمحه في تصور لشكل ذلك المجتمع الابتدائي، حيث كان المجتمع صيادا، يخرج فيه الذكور للصيد والقنص، بينما كانت رعاية الصغار تستدعي استقرار المرأة بجوارهم، فكانت هي بداية الاستقرار في المكان، الذي أدى بعد ذلك إلى نشوء المشتركات ثم القروية فالمدنية.
وكان استقرارها هذا دافعا لها لاكتشاف الزراعة، وهي تلحظ سقوط الثمار على الأرض، ثم عودتها للإنبات فكان أن حاولت تقليد الطبيعة، فاستنبتت الثمار، فأسست لنفسها بذلك الكشف أول أساس اقتصادي متين لسيادتها. وهو الأمر الذي كان لا بد أن يضيف لانبهار الرجل بقدرتها على الولادة انبهارا آخر بأنها تمكنت من جعل الأرض تلد بدورها، مما أضاف لقدراتها السحرية (اقتصادية أصلا) رصيدا آخر، وربما كانت أيضا هي مكتشفة الفخار، بالنظر إلى شكل الأوعية التي عثر عليها بجوار الإلهات الإناث القديمة وهي ما كانت تمثل دوما ثديا أو فرجا أو فخذا إذا استطالت، كما كانت مكتشفة الخمر، بتخمر الطعام الزائد في أوانيها، وهو ما فاجأ الذكور عند العودة من القنص بمزيد من السحر، يضفونه على المرأة السيدة الإلهة بعد ما دارت الرءوس بسحرها الجديد.
وهي أيضا مكتشفة النسيج، بما توفر لها من وقت واستقرار للملاحظة والكشف والتجربة والخطأ والمحاولة، حتى النجاح الذي أضاف لأساسها الإنتاجي مزيدا ورصيدا. لكنها وهي بسبيل تأسيس الاستقرار الأول الذي أسس للمدينة فيما بعد، كانت تضع ثمار خسارتها لأساسها الانتاجي وفقدها لمقوم سيادتها الاقتصادي، عندما احتاجت الزراعة إلى حيوانات أقوى تحتاج في ترويضها وتدجينها إلى عضلات أقوى وتفرغ أوسع، بعد أن استقر الرجال إلى جوار زرع المرأة وغراسها، ومن ثم تم سحب البساط من تحتها لصالح الذكور. ويلاحظ الباحث أنه مع ذلك الاستقرار المديني وبدء استخدام الحيوانات القوية في الحرث، يبدأ ظهور الآلهة الذكور بوضوح في منظومة السماء، وهو أمر فيه تفاصيل كثيرة نحيل فيه الحضور إلى كتبنا للمزيد، ونكتفي بتلك الإشارات السريعة لضيق الوقت المتاح، فقط نلمح ونؤكد على الأساس الإنتاجي لسيادة المرأة الذي فقدته، فساد الذكر، وتحولت ربة السماء من أنثى إلى ذكر، فأصبحت الشمس ذكرا بعد أن كانت أنثى، كذلك عشتار نجمة الجمال الزهرة، تحولت مع السيطرة الذكورية إلى الإله الذكر عستر في خطوط المسند والخط النبطي.
أما تصورات ذلك المجتمع لبداية الخلق فكانت بسيطة بساطة المجتمع الأمومي الأول، الحدث سهل، كان على الربة الكبرى أن تلد الكائنات، والتي تم تمثيلها في الأم الأرض ممتزجة بالأنثى السيدة على المجتمع آنذاك.
ولما كان الرجل قد لاحظ اختفاء دم الحيض مع بدء الحمل، فقد تصور أن ذلك الدم هو الذي يقوم بتكوين الجنين في الداخل ليعطي بعد ذلك تلك الظاهرة المدهشة المذهلة ظاهرة إعطاء الحياة والمواليد، لكن بعد السيطرة الذكورية وتحول الإله إلى ذكر، كان لا بد أن يتحول فعل الخلق من الأنثى للرجل، ولكن لأن فكرة خلق الولادة من دم الحيض المختفي في بطن الأنثى قد ترسخت تماما ، قامت أسطورة الخلق الذكرية على ذات الأساس، فقام الآلهة الذكور بذبح إله صغير مخنث لا هو ذكر ولا هو أنثى ليستخدموا دمه بعجن طين الأرض ليصنعوا منه الإنسان الأول. ومن ثم تحولت القصة عن فعل الولادة إلى فعل الخلق، وهو ما يترافق مع مزيد التفرغ الذي أحدثه الاستقرار والوفرة للبشر على الأرض لمزيد من الكشف والابتكار أو الخلق.
لكن في نفس الآن كان لا بد أن يتم تبخيس الأنثى كرد فعل نفسي إزاء سيادتها القديمة وسحرها الدائم، فتحول الدم الحيضي في المأثور إلى نجس، لكن يبقى المأثور في اللاشعور الجمعي مستيقظا، فحين تحيض المرأة ترفع عنها التكاليف فلا تصوم للإله الذكر، ولا تصلي للإله الذكر، لأنها في هذه الأيام الخمس تستعيد وضعها القديم، إنها لا تعبد أحدا حينئذ، لأنها في هذه الأيام الخمس حين يتغيب القمر الإله الذكري عن الحضور، والذي يوافق إيقاعه الحيض، يظهر حيضها وتحضر قدسيتها، لتصبح في هذه الأيام الخمس إلهة، وتتقدس الخمسة لتصبح مانعة السحر والحسد كما كانت في القديم، أما يوم الخميس فيصبح في المأثور اليوم المفضل لجماع المرأة، أما الخمسة فهي دلالة واضحة على الفرج.
وللتذكرة فقط، ظل دم الحيض حتى عهد الجاهلية الأخير في جزيرة العرب مقدسا. فقد كانت نسوة العرب ومكة يطفن بالكعبة، ثم يمسسن بدم حيضهن الحجر الأسود، تواصلا مع ذكر السماء، وهو ما عبرت عنه كتبنا التراثية كأبلغ ما يكون، وهي تلخص قصة تحول المرأة وتبخيس الدم الخالق، بقولها: إن الحجر الأسود كان أبيض، فاسود من مس الحيض في الجاهلية.
أما الكلمة حواء فتقترن بعد ذلك في الجذر مع الحية التي تحمل الكيد والدس والخديعة، وتقترن حواء بالحية، والإبليس، الذين اشتركوا معا في خديعة آدم، ذلك الآدم الذي خدع الجميع وخدع التاريخ؛ لأنه حقيقة إنما كان ضحية شهوانيته وعدم براءته ومرضه السيادي، لأن خضوعه الداخلي الذي كان يرفضه باستمرار فيبخس المرأة، كان خضوعا لحواء الحياة الحية أم كل حي، ذلك المشترك الذي يضم في الجذر كلمة «الحيا» أي الفرج الأنثوي سر الحياة ومصدر الميلاد، وأزمة عدم البراءة في الرجال.
سر الأسماء المقدسة1
في كتاب المواجهة الصادر ضمن سلسلة كتاب الأهالي، كتب الأستاذ خليل عبد الكريم (ص147) يقول: «الحواريون أو الرسل أو التلاميذ الذين كانوا مع المسيح عليه السلام كانوا ثلاثة عشر، وعدة أهل بدر الكبرى من المسلمين كانوا ثلاثة عشر وثلاثمائة، فهل هناك صلة من نوع خاص بين الديانتين الساميتين، وبين الرقم 13؟ وهل لهذا الرقم مكان ملحوظ في الميثولوجيا السامية القديمة؟ هذا ما أدعو أخي وصديقي د: سيد محمود القمني عالم الميثولوجيا المرموق أن يجيبني عنه.»
وعندما يطرح مفكر في قيمة الأستاذ خليل عبد الكريم سؤالا، فإن الحصافة تستدعي الاستجابة الفورية للرجل الذي أثرى مكتبتنا العربية بقراءته المستنيرة في منتوج الفكر الإسلامي، وإعمالا لذلك قمت بكتابة هذه العجالة السريعة، مع وعد بتقديم دراسة مطولة حول الأرقام والأشياء والظواهر المقدسة في ديانات حوض المتوسط الشرقي، في المستقبل القريب.
مقدسات البيئة
ورغم اشتراك معظم ديانات شعوب العالم في معالم أساسية مقدسة، فإن هناك اختلافات جذرية في كثير من التفاصيل بين تلك الديانات، كنتيجة محتمة لاختلاف الظروف البيئية باعتبار الإنسان ابن بيئته، وأن الدين يتفاعل مع ظروف البيئة والمجتمع، كذلك يسهم اختلاف المكان والزمان والتشكيلات الاجتماعية والأنماط الاقتصادية والمرحلة التطورية التي وصلها المجتمع، وكم التراكم المعرفي لديه وكيف يسهم جميعه في طبع الدين بسمات تختلف أو تقترب من ديانات الشعوب الأخرى.
وملاحظة الأستاذ خليل حول تشابه ديانات شرقي المتوسط السامية أمر صحيح تماما، من حيث كون تلك الديانات قد ظهرت في مجتمعات تتشابه في ظروفها الاجتماعية والبيئية مع التجاور المكاني، وإن اختلفت زمانيا فدخل على المتأخر منها بعض التطوير والتجريد الذي لم يحظ به السابق.
ولعل أكثر أوجه التشابه تكمن بين الديانتين الساميتين: اليهودية والإسلام، لتشابه الظرف المجتمعي والبيئي، فكلا المجتمعين قد نشأ في بيئة صحراوية جبلية، وكلاهما كان مجتمعا قبليا تسوده أعراف القبيلة ونظمها ومرحلتها في التطور التاريخي، ومن ثم تجد ألوانا من التقديس لأرقام بعينها، ولأشياء أخرى عينية هي من أهم معالم البيئة الصحراوية، فكلتا الديانتين ديانة قمرية: الشهور قمرية، مواعيد التضحية قمرية، الاحتفاليات الكرنفالية الكبرى قمرية، الصيام قمري، «والقمر يعلو المآذن الإسلامية»، والمطالع للتوراة سيكتشف أن القمر في أحيان كثيرة كان يعد أحد تمثلات الإله ذاته.
كذلك قدس البدو الصخور النادرة والأحجار والجبال، فاليهود يقدسون جبل «حوريب، كاترين» بسيناء، ويطلقون عليه اسم «جبل الله»، وعرب الجاهلية والإسلام يقدسون جبل عرفات، وكان اليهود يقدسون كل مرتفع من الأرض، يقدمون عنده قرابينهم وأضحياتهم، ويمارسون عليه طقوس الجنس المقدس. وعرب الجزيرة كانوا أيضا يذبحون عند عرفات ويقدسون الصفا والمروة.
كما كان تقديس الأحجار في البيئة الصحراوية أمرا واضحا في ديانات الصحراء، خاصة إذا كان الحجر من النوع النادر، ومن ثم قدس العربان منذ القديم الأحجار النيزكية المنصهرة القادمة من الفضاء، باعتبارها قادمة من حيث عرش الإله، ونتيجة انصهارها اكتست بلون أسود لامع زاد في روعتها وجلالها، ومن ثم قاموا يضعونها في أفنية البيوت المقدسة والمعابد، وللسبب ذاته قدس اليهود النيزك الكبير الموجود بالقدس، والموجود الآن تحت ما يعرف باسم قبة الصخرة، وأحاطته القدسية الإسلامية بعد حديث الإسراء والمعراج، كذلك قدس عرب الجاهلية حجرا أسود وضعوه بالكعبة، ورغم ما جاء به الإسلام من تطور، فإنه جعل للحجر الأسود مكانة قدسية.
الرقم 7
ويلحظ الباحثون أن رقم 7 قد أحيط بهالة كبرى من التقديس في الديانات السامية الكبرى، فقصة الخلق التوراتية تقول: إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، ثم استراح من عناء عمله في اليوم السابع؛ لذلك تقدس اليوم السابع الذي اعتبروه يوم السبت، من «شباث» أو الثبات والسكون؛ لذلك لا يعمل اليهودي يوم السبت ويقلل من حركته ما أمكن، واعتقد اليهود بأن المحافظة على قدسية اليوم السابع مجلبة لرضا الإله ولحسن الحظ، وأن انتهاكه نذير شؤم ودمار، ثم انصرف ذلك التقديس إلى مواضيع شتى يشغل فيها الرقم 7 مكانا بارزا فتحدثوا عن أعمار الإنسان السبعة، وما للقطط من سبعة أرواح ... إلخ، ثم جاءت المسيحية لتستمر في تقديس ذات الرقم، وتحدثنا عن الخطايا السبع المميتة، وسيوف الحزن السبعة في قلب العذراء، وأبطال المسيحية السبعة، مع تقديس اليوم السابع الذي أصبح يوم الأحد، وكلها لدى المؤمن المسيحي أمور واضحة ومعقولة لمجرد أنها سبعة وكفى بذلك سبيلا.
أما القرآن الكريم، فقد قال بقصة الخلق ذاتها، لكن الإسلام خالف كلا المعتقدين في يوم الراحة المقدس، وكرس له يوم الجمعة الذي كان يعرف باسم يوم العروبة، ثم أفسح مجالا فسيحا للرقم 7 وهو ما نجد نماذج له في الآيات الكريمة:
ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات (البقرة: 29).
كمثل حبة أنبتت سبع سنابل (البقرة: 261).
وقال الملك إني أرى سبع بقرات (يوسف: 43).
وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات (يوسف: 43).
ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق (المؤمنون: 17).
الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن (الطلاق: 12).
سخرها عليهم سبع ليال (الحاقة: 7).
ولقد آتيناك سبعا من المثاني (الحجر: 87).
لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم (الحجر: 44).
والبحر يمده من بعده سبعة أبحر (لقمان: 27).
ومع الميل للمبالغة يصل التقديس من السبعة إلى السبعين، كما في عدد السبعين إسرائيليا الذين اختارهم موسى لمقابلة الإله «يهوه» في جبل سيناء، كذلك السبعون تابعا للمسيح، وهو ما يجد صداه في الآيات الكريمة من قبيل:
في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا (الحاقة: 32).
واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا (الأعراف: 155).
إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم (التوبة: 80).
أما الحسنات السبعون فمتكررات في كثير من الأحاديث النبوية الشريفة.
أصل الأسبوع
من غير المعلوم يقينا السر في تقديس الرقم 7، وقد وضع بسبيل ذلك عدة احتمالات، منها أنه عدد تام لا يقبل القسمة إلا على نفسه، وقيل إن الجذر «سبع» لغة يعني الكفاية والتمام والامتلاء، وهو بالعبرية «شبع»، أي امتلأ، ثم هو يعني القسم المغلظ، كما في حادثة بئر سبع التي أقسم عندها إبراهيم وأهل فلسطين، وتسمى لذلك بئر القسم، كما تعني أيضا رقم 7؛ لأنهم ذبحوا عندها سبع نعاج، أما السبع - الأسد - فهو ملك الحيوانات وأكملها وأجلها شأنا. ولما كانت الباء تتبادل مع الفاء في اللغات السامية، باعتبار أن كلتيهما من الحروف الشفاهية ، فقد تحولت «سبع» و«شبع» لتصبح «شفع»، علامة على الأرباب الشفعاء في الجاهلية، أما الإسلام فقد ألغى جميع الشفاعات وأبقى على شفاعة واحدة للمصطفى
صلى الله عليه وسلم .
لكن بعد التأمل والتدقيق، يمكن أن يطلعنا على السر وراء كل ما أسبغ على الرقم سبعة من هالات قدسية، لنكتشف أنه ليس لخاصية فيه، بقدر ما كان ناتجا عن تقديس الساميين القدماء، وبخاصة أهل الرافدين للكواكب السيارة الخمسة مع النيرين الكبيرين الشمس والقمر وعددهم سبعة.
وكان للقمر بالذات في البداوة وليل الصحراء مكانه المتميز؛ لذلك كان ألصق بخيال البدوي من الشمس المحرقة خاصة في ليل الصحراء، مع السحر القمري المبهر المتمثل في تحولاته ما بين هلال وتربيع وبدر ومحاق.
وقد لاحظ الساميون القدماء أن تحولات القمر تنقسم إلى قسمين متساويين، من ولادته إلى تمامه بدرا أربعة عشر يوما، ومن ظهوره بدرا إلى محاقه أربعة عشر يوما، والأربعة عشر يوما ينقسم إلى قسمين متساويين 7 + 7، ومن هنا وصلوا إلى تقسيم الزمان بمعرفة معنى الأسبوع، الذي هو ربع الشهر قمري، وقد قرن البابليون المتفوقون في دراسة الأفلاك تلك النتيجة بالسيارات الخمس المعروفة آنذاك: المشترى «الإله مردوخ»، والزهرة «الإلهة عشتار»، وزحل «الإله نيناب»، وعطارد «الإله نابو»، والمريخ «الإله نرجال» مع الشمس «الإله شماس»، والقمر «الإله سين»، (وعددهم جميعا سبعة آلهة)، لينتهوا إلى وضع الزمن في أسابيع على عدد الآلهة السماوية السبعة، وكانت أعظم الآلهة في المعتقدات الرافدية، وغني عن الذكر أن هياكل بلاد الرافدين كانت هياكل لعبادة تلك الأجرام، كما كانت في الوقت نفسه مراصد فلكية ومحلا لدراسة الأفلاك ومتابعتها.
ولعل القارئ سيلحظ معنا أن السنة تتكون من 52 أسبوعا، ولو جمعنا طرفي الرقم 2 + 5 سيعطينا النتيجة 7.
والخلاصة من كل ذلك أن تقديس الرقم 7 يعود أصلا إلى تقديس الآلهة الكوكبية السبعة العظمى المعروفة بالآلهة مقررة المصائر، وقد تمت عبادة كل إله من تلك الآلهة في يوم سمي باسمه، وقد ترك ذلك التقديس القديم أثره في أسماء تلك الأيام حتى اليوم في أسماء الأيام الإفرنجية، التي تعود إلى أصول سكسونية قديمة، فيوم الأحد كان يوم عبادة الشمس، وكان في السكسونية
sund’s day
الذي جاء منه اسم يوم الأحد
Sunday ، ويوم الاثنين المكرس لعبادة الإله القمر اسمه
Monday ، وقد أخذ من الأصل السكسوني
Moond’s day ، أما الثلاثاء الذي كان مكرسا لعبادة إله الحرب، وهو عند السكسون الإله
Tiwes
فقد جاء منه اسم يوم الثلاثاء
Tiwesday ، كذلك شأن الأربعاء الذي كرس لعبادة الإله ودن
Woden ، ومنه جاء اسم يوم الأربعاء
Wednes day ، ثم الخميس يوم إله الرعد الصاعقة
Ther ، ومنه جاء اسم الخميس
Thurs day ، أما الجمعة المنسوبة للإله
Friga ، فاشتق منه الاسم
Fri day ، لينتهي التقسيم بيوم عبادة الإله زحل
Satern
الذي اشتق من اسمه اسم يوم السبت
Satur day .
الرقم 12
وهكذا كانت عبادة الأجرام السماوية هي الأصل والمنشأ لمقدسات ظلت تفرض وجودها في تاريخ الإنسانية حتى اليوم، وهو الأمر الذي قصدنا بيانه من خلال التوضيح العاجل السالف، لنصل إلى عدد تلامذة المسيح وحوارييه، إلى العدد 12، وهو ما جاء في سؤال الأستاذ خليل بخطأ من قبيل السهو، فقال: إن عددهم ثلاثة عشر.
والرقم 12 أحيلت إليه أعداد مقدسة لأشخاص مقدسين، فتلامذة المسيح من غير اليقيني أبدا أنهم كانوا اثني عشر حواريا، لكن كتاب الأناجيل ضبطوا عدد التلاميذ مع العدد المقدس، وكذلك فعلت التوراة عندما جعلت أبناء يعقوب - إسرائيل المعروفين بالأسباط - اثني عشر ولدا هم بنو إسرائيل، وفي الجلجال بفلسطين كان يقوم اثنا عشر عمودا مقدسا من سالف الأزمان، كذلك كانت مجالس الأمفكتيون المشرفة على المعابد اليونانية تتكون من اثني عشر عضوا، كذلك كان عدد أعضاء مجلس معبد دلفي المشهور في اليونان، أما يسوع المسيح فقد أظهر تفوقه العقلي وهو يناهز الثانية عشرة، عندما كان يواجه كهنة الهيكل ويفحمهم (انظر مثلا: إنجيل لوقا، 2: 47).
وكما كانت قدسية الرقم سبعة قد فرضت نفسها حتى أصبحت أشواط الحج سبعة، ليدور المؤمنون حول المركز المقدس، كما تدور الكواكب السيارة حول مركزها الإله الكبير الشمس، فقد جاء كذلك تقديس الرقم 12 من ذات المصدر القديم، فالمنازل السماوية للكواكب الإلهية المعروفة بالبروج عددها اثنا عشر برجا، فالعدد 12 هو رسم البروج، أي عدد علامات الزودياك، وكما كانت الآلهة السبعة تسكن البروج الاثني عشر الفلكية البابلية القديمة، فقد تم إسكان أسابيع الزمن في اثني عشر شهرا وهي عدة شهور السنة عند الله.
Unknown page