وما دامت الميتافيزيقا كلها كلاما فارغا على النحو الذي بينا، فماذا نحن صانعون بهذه الأسفار الضخمة التي تراكمت لدينا على مر القرون مما كتبه الميتافيزيقيون؟ إنه لعزيز علي وعليك أن تلقى هذه الأسفار - كما كان ينبغي لها - طعاما لألسنة النار، أو أثقالا في قاع المحيط، وإذن فلنبق عليها، ليقرأها القارئ - إذا أخذه الحنين إلى الماضي - كما يقرأ أساطير الأولين!
وجهة الفكر المعاصر
1
لا يكون «الفكر» إلا في صورة لفظية مرئية أو مسموعة؛ فهي مرئية حين يكون «الفكر» عبارة مكتوبة تراها عين القارئ، وهي مسموعة حين يكون «الفكر» كلاما منطوقا، ويدخل في باب «الفكر» المسموع أن «يفكر» الإنسان لنفسه تفكيرا صامتا؛ لأنه عندئذ يكون بمثابة من يتحدث إلى نفسه بكلمات وعبارات، هي نفسها الكلمات والعبارات التي يستخدمها لو أراد أن ينقل تفكيره إلى غيره في كلام مسموع.
أقول إن «الفكر» لا يكون إلا في صورة لفظية محسوسة - مرئية أو مسموعة - وأما ما يستحيل تصويره على هذا النحو اللفظي المحسوس، فأقل ما يقال فيه أنه ملك لصاحبه وحده، لا يشاركه فيه أحد سواه؛ وبالتالي لا يكون «فكرا» يمكن أن يتداوله الناس ويتبادلوه وينتفعوا به، فإذا صح أن هنالك «حالات فكرية» تدور في الخاطر ولا تجد سبيلا إلى التعبير اللفظي المرئي أو المسموع، فتلك الحالات المزعومة عبث لا يتغير به شيء في العالم، لأنها - إن صح وجودها - حالات حبيسة في نفس صاحبها، لا سبيل إلى إدراكها حتى عند صاحبها نفسه، ما دام صاحبها هذا بشرا مثلنا، لا يدرك المعنى إلا في ألفاظ.
إننا إذا تحدثنا عن «الفكر» في عصر من العصور، كقولنا مثلا «الفكر الإسلامي في القرن العاشر الميلادي» أو «الفكر الإنجليزي في القرن الثامن عشر» فلا نعني بهذا - بل لا يمكن أن نعني بهذا - غير طائفة من عبارات مسطورة في جملة من الكتب والوثائق، وكذلك إذا تحدثنا عن «الفكر» عند رجل مضى به الزمن، كقولنا مثلا «فكر الرئيس ابن سينا» أو «فكر فرانسس بيكن» فلا نعني هنا كذلك إلا طائفة من عبارات مسطورة في الكتب والوثائق، فإذا فرضنا أن قد كان تفكير في هذا العصر أو ذاك، لهذا الرجل أو ذاك، مما لا تقع عليه عين القارئ هنا أو هناك، فذلك التفكير لا يدخل في حسابنا بداهة. وإذا كان هذا صحيحا بالنسبة للعصور الماضية ومفكري الماضي، فهو صحيح أيضا بالنسبة إلى عصرنا ومعاصرينا، غير أننا نضيف - في هذه الحالة - العبارات المنطوقة المسموعة، إلى العبارات المكتوبة المرئية. وخلاصة الرأي أن «الفكر» كما قدمنا، لا يكون إلا في صورة قطع من المادة تصدم فينا حاستي البصر والسمع؛ لأنه لا يكون إلا مكتوبا مقروءا، أو منطوقا مسموعا، وهو في الحالة الأولى قطرات جافة من المداد أو شبهه، وفي الحالة الثانية موجات هوائية تهتز بالصوت.
ونحن إذ نقول عن «الفكر» إنه يستحيل أن يتم له وجود إلا في صورة لفظية محسوسة، فلسنا نريد بذلك أن هذه هي حدود الإمكان البشري، وأن هنالك «حالات فكرية» يكون التعبير عنها فوق إمكان البشر وفوق ما تستطيعه اللغة، ولكنا نريد بذلك أن «الفكر» ليس شيئا سوى التعبير عنه؛ نريد أن نقول إن الفكر والعبارة شيء واحد؛ فليس هنالك شيئان؛ فكر من ناحية، وتعبير عنه من ناحية أخرى، بل هنالك شيء واحد هو هذه العبارات اللفظية التي ننطق بها أو نكتبها مرتبة أجزاؤها على نحو خاص؛ هذه العبارات هي الفكر وهي التعبير عنه، ومحال أن يكون هنالك «فكر» يستحيل التعبير عنه؛ لأن ذلك قول ينقض بعضه بعضا، ما دامت لفظة «فكر» نفسها معناها «عبارة تكتب أو تقال»، وواهم من يزعم لك بأن في نفسه معني لا يستطيع إخراجه في عبارة؛ فمن يدعي هذا فليس في نفسه شيء وإن توهم غير ذلك. الفكرة هي عبارتها؛ فالعبارة المستقيمة الواضحة فكرة مستقيمة واضحة، والعبارة الملتوية الغامضة هي لا شيء سوى أصواتها أو علامات ترقيمها، ولا تصبح هذه الأخيرة فكرة إلا إذا عاد صاحبها إلى ألفاظها فعدل منها وأعاد ترتيبها، بحيث ترسم لنا صورة مستقيمة، وعندئذ فقط تصبح عبارة سليمة أو فكرة سليمة؛ فهذان اسمان على شيء واحد.
2
والعبارة اللفظية التي هي فكرة، لا بد أن تكون جوابا لسؤال سابق عليها، سواء أكان هذا السؤال ملفوظا بلفظ صريح أم متضمنا ومقدرا، فإذا قلت - مثلا - عبارة كهذه: «كتابي على المنضدة.» كان ذلك جوابا لسؤال صريح أو مقدر، هو: «أين كتابك؟» وكما أنه لا يتحتم أن يلقى السؤال فعلا بل يكفي تقديره من الجملة التي نطقنا بها لنقرر حقيقة أو لنصور بها حالة، فكذلك لا يتحتم أن يكون هناك سائل ومسئول في صورة شخصين؛ فربما كان الفرد الواحد هو السائل وهو المجيب معا، وذلك هو ما نسميه بالتفكير الصامت.
على أن السؤال المفروضة أسبقيته على العبارة التي تقرر بها حقيقة معينة، هو نفسه مستحيل بغير افتراض حقيقة معينة أخرى إلى جانبه؛ لأنك إذ تسأل فإنما تسأل مستندا حتما إلى حقيقة مفروض صدقها؛ فلا أستطيع مثلا أن أسأل: «أين كتابك؟» ما لم يكن مفروضا عندي وعندك أن لك كتابا يسأل عن مكانه؛ فها هي ذي ساعة أمامي على مكتبي، وقد طافت الآن برأسي هذه العبارة عنها: «هذه الساعة هنا لتدل على الزمن.» وهي عبارة تتضمن - منطقيا - سؤالا سابقا عليها ، هو: «لماذا وضعت هذه الساعة هنا؟» أو: «ما الغاية من هذه الساعة؟» لكن هذا السؤال نفسه مستحيل بغير حقيقة مفروض صدقها، وهي أن بعض الأشياء وسائل لغايات مقصودة، فالتسليم بهذا الفرض هو الذي أتاح لي أن أسأل: «ما الغاية من هذه الساعة هنا؟» ولولا هذا التسليم بوجود غايات مقصودة، كأن أعتقد مثلا بأن كل شيء في العالم يحدث بمحض المصادفة غير المقصودة من أحد، لانتفى إمكان هذا السؤال عن «الغاية من وجود هذه الساعة» على مكتبي، ولانتفى تبعا لذلك إمكان التقرير بأن «هذه الساعة هنا لتدل على الزمن».
Unknown page