مقدمة
في النقد الأدبي
الشعر وألفاظه
النقد الأدبي بين الذوق والعقل
اللحظة المسحورة
الأدب العلمي
الليلة والبارحة
العرب والأدب المسرحي
شيوخ الأدب وشبابه
الفكر العربي المعاصر
صفقة المغبون
قراءة الكتب
في الفلسفة
ثورة في الفلسفة المعاصرة
أسطورة الميتافيزيقا
وجهة الفكر المعاصر
الشك الفلسفي
المدرك الحسي
عينية ابن سينا
نزعتان
في عالم الفلسفة
مقدمة
في النقد الأدبي
الشعر وألفاظه
النقد الأدبي بين الذوق والعقل
اللحظة المسحورة
الأدب العلمي
الليلة والبارحة
العرب والأدب المسرحي
شيوخ الأدب وشبابه
الفكر العربي المعاصر
صفقة المغبون
قراءة الكتب
في الفلسفة
ثورة في الفلسفة المعاصرة
أسطورة الميتافيزيقا
وجهة الفكر المعاصر
الشك الفلسفي
المدرك الحسي
عينية ابن سينا
نزعتان
في عالم الفلسفة
قشور ولباب
قشور ولباب
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة
في هذا الكتاب مجموعتان من المقالات والأبحاث؛ إحداهما في النقد الأدبي، والأخرى في الفلسفة؛ وكل منهما يعرض مذهبي في موضوعه باختصار ودقة.
أما مجمل مذهبي في الأدب فهو أن الكاتب - مهما تكن الصورة التي اختارها لأدبه، شعرا أو قصة أو مسرحية أو مقالة - لا ينتج أدبا بمعناه الصحيح إلا إذا عبر عن ذات نفسه أولا، وإلا إذا جاء هذا التعبير - ثانيا - بحيث تتكامل أجزاؤه في بناء يكون بمثابة الكائن الفرد، الذي لا يشاركه في فرديته هذه كائن آخر من كائنات الوجود؛ فهذا التفرد هو من أخص خصائص الكائنات الحية، وكذلك ينبغي أن يكون من أخص خصائص الأثر الأدبي، لو أردنا حقا أن يجيء الأدب صورة من الحياة، ولم نقل هذه العبارة عبثا ولهوا.
ليس في عالم الأحياء - بل ولا في عالم الأشياء كلها - ما هو مجرد وعام؛ إذ كل ما هنالك أفراد، لكل فرد منها ما يميزه من سائرها؛ لكل فرد ما يميزه من بقية أفراد نوعه ودع عنك أفراد الأنواع الأخرى؛ وإنا لنحصل حاصلا إذا قلنا - مثلا - إن كل فرد من أفراد الناس يتميز ممن عداه، ولولا هذا التميز لما صح أن يكون نفسا قائمة بذاتها مسئولة عن فكرها وسلوكها؛ ليس هنالك «إنسان» بصفة عامة مطلقة مجردة، بل هنالك محمد وزينب، وما اللفظ العام «إنسان» إلا رمزا تواضعنا على أن نلخص به الآحاد الكثيرة ليسهل التفاهم، على ألا يغيب عنا أن حقائق الأحياء الجزئية المفردة لا شأن لها بمثل هذا التلخيص والتيسير في لغة التفاهم السريع.
بل الفرد الواحد من أفراد الناس حياته سلسلة من حالات وجدانية، ولكل حلقة من هذه السلسلة ما يميزها من بقية الحلقات؛ فليس ما أشعر به الآن من ضيق نفسي هو نفسه الضيق النفسي الذي شعرت به أمس القريب أو أمس البعيد. إن حالتي النفسية الآن - مهما يكن مضمونها وفحواها - متفردة بخصائص أستطيع إدراكها لو وهبني الله موهبة الأديب الحق الذي يستطيع إدراك الخصائص التي تفرد الحالات والمواقف والأشخاص، وإذن فليس ما هنالك هو «ضيق نفسي عام» أحسه أنا ويحسه كل من ضاقت نفسه من أفراد البشر، بل الأمر في حقيقته حالات خاصة جزئية فريدة متميز بعضها من بعض، على الرغم مما بينها من تشابه يجيز لنا أن نجمع كل حزمة من المتشابهات في مجموعة واحدة ونطلق عليها اسما واحدا.
ولو وقف الرائي عند أوجه الشبه التي تجمع الأفراد في مجموعة واحدة، كان أقرب إلى العالم وأبعد عن الأديب؛ لأنه لو أراد له الله أن يكون أديبا بحق لاستوقفه من الأفراد - مهما يكن نوعها - ما يميزها ويخصصها، لا ما يطويها مع غيرها في مجموعة عامة الخصائص مجردة الصفات.
فالشاعر يكون شاعرا حين يلتفت إلى إحدى خبراته الوجدانية الذاتية، ثم يخرج هذه الخبرة الواحدة في بناء من اللفظ تتعاون أجزاؤه على إثارة مثل هذه الخبرة الوجدانية نفسها عند القارئ؛ فلو كنت شاعرا ونظرت إلى حالتي الوجدانية الراهنة - مثلا - وهي حالة من الضيق، لها عناصرها وخصائصها، لكن هذه العناصر والخصائص بالطبع تجتمع معا في نفسي لتتكون منها «خبرة واحدة»، ثم أردت إخراج هذه الحالة الداخلية ألفاظا ترص على الورق، وجب ألا تجيء هذه الألفاظ فرادى، بل وجب ألا تجيء العبارات المؤلفة من هذه الألفاظ عبارات فرادى، لا شأن للواحدة منها بالأخرى، بل ينبغي أن تتعاون على بناء كائن واحد، يصور الكائن الواحد الذي هو خبرتي الوجدانية؛ وإذن فمقياسنا في تقدير القصيدة من الشعر هو الإشارة إلى الخبرة الوجدانية الداخلية أولا، وثانيا إلى ما بين أجزاء القصيدة من ترابط يجعل منها بناء واحدا فريدا.
وقل شيئا كهذا في سائر الصور الأدبية؛ فعلامة القصة الجيدة أو المسرحية الجيدة هي تكامل الشخوص المصورة تكاملا يجعل منها أفرادا كهؤلاء الأفراد الأحياء الذين نراهم ونتحدث إليهم ويكون بيننا وبينهم حب أو كراهية، وعلامة المقالة الأدبية الجيدة أن تصور حالة وجدانية مرت بنفس الأديب بكل ما لها من خصائص تجعل منها حالة فريدة معدومة الأشباه، إذا أريد بالشبه كمال التماثل والتطابق.
أما إذا صاغ لنا الشاعر طائفة من القواعد العامة في سلوك البشر، وهو ما يسمونه «بالحكمة» حين يقولون عن شاعر إنه حكيم في شعره؛ وأما إذا استهدف القصصي أو الكاتب المسرحي أو كاتب المقالة مذهبا فكريا أو حقيقة عقلية يريد أن ينشرها في الناس لأنه يعتقد في صوابها، فذلك - في رأيي - قد يكون كلاما مفيدا نافعا له قيمته الكبرى في الرقي بالإنسان إلى ما شاء له الكاتب أن يرقى، لكنه لا يكون أدبا بالمعنى الخاص للأدب. •••
وأما في الفلسفة فإني أتبع فيها أصحاب المدرسة التحليلية بصفة عامة، والشعبة التجريبية العلمية المعاصرة منها بصفة خاصة؛ فأرى أن عمل الفيلسوف الذي لا عمل له سواه، هو أن يحلل الفكر الإنساني كما يبدو في العبارات اللغوية التي يقولها الناس في حياتهم العلمية أو في حياتهم اليومية على السواء، ليست مهمة الفيلسوف أن تكون له «آراء» في هذا أو في ذاك؛ لأن الرأي هو من شأن العلماء وحدهم؛ إذ لديهم دون سواهم أدوات البحث من مناظير ومخابير ومعامل وما إليها، بل مهمة الفيلسوف هي تحليل ما يقوله هؤلاء العلماء وتوضيحه، وهو يختار مما يقوله العلماء عبارات أو ألفاظا محورية أساسية ليلقي عليها الضوء بتشريحها إلى عناصرها الأولية، فإن أقام العلم - مثلا - بناءه على علاقة السبب بالمسبب، تناول الفيلسوف هذه العلاقة السببية بالتوضيح ، أو تحدث العلم عن كيفيات الأشياء وكمياتها، تولى الفيلسوف مدركات الكيف والكم بالتحليل، وهكذا.
وبديهي أن العالم يكون أقدر من سواه على تحليل الألفاظ الرئيسية التي ترد في علمه؛ ولذلك كان الأفضل دائما - وهذا الأفضل هو ما يحدث في كثير من الأحيان - أن يكون العالم هو نفسه فيلسوف علمه، وكل ما في الأمر أن يغير من وجهة سيره، فيسير إلى قاع البناء بدل أن يتجه إلى قمته؛ فلو كانت الأعداد - مثلا - هي نقطة الابتداء في السير، فالباحث عالم رياضي لو بدأ من هذه النقطة صاعدا نحو التركيبات المختلفة التي تتألف من هذه الأعداد، ولكنه يصبح فيلسوفا رياضيا لو بدأ أيضا من هذه النقطة نفسها هابطا إلى أسفل، بحيث يحلل الأعداد إلى عناصرها الأولية التي منها تتكون، وبهذا تكون الفلسفة امتدادا للعلم، ولكنه امتداد يسير في اتجاه مضاد.
ولو أخذنا بهذه النظرة إلى العمل الفلسفي لألقينا عن كواهلنا ما يثقلها من «مذاهب فلسفية» لبث الفلاسفة يدورون فيها قرونا من الزمن، لا فرق بين آخرهم وأولهم؛ وكيف يكون بينهما فرق وهما لا يتعاونان على بناء واحد، بحيث يبني أولهما الطابق الأرضي ويبني الآخر طابقا أعلى، بل «يذهب» كل منهما «مذهبا» كالتائه في الصحراء لا يساير زميله في درب واحد؟ •••
لما هممت بنشر هاتين المجموعتين من الأبحاث والمقالات في هذا الكتاب الذي أقدمه الآن للقارئ، راجعت ما تراكم عندي من هذه المقالات والأبحاث، فوجدتها متفاوتة في أزمانها تفاوتا بعيدا أو قريبا؛ فمنها ما كتبته منذ أكثر من عشرين عاما - نشر أو لم ينشر - ومنها ما كتبته منذ أقل من عام واحد؛ فالبحث الذي صدرت به الجزء الخاص بالنقد الأدبي ترجمة للمقدمة المشهورة التي قدم بها وليم وردزورث ديوانه عن الحكايات الوجدانية المنظومة، وشرح فيه وجهة نظره إلى الشعر وألفاظه؛ وقد ترجمت هذه المقدمة منذ خمسة وعشرين عاما، ولم أنشرها، وها أنا ذا أنشرها كما وجدتها بين أوراقي؛ لأنها - فيما أعتقد - ستصادف جوا فكريا ملائما، في هذا الوقت الذي يصطرع فيه نقادنا حول معايير الشعر، وكذلك مقالة «عينية ابن سينا» كتبتها - ونشرتها - منذ أكثر من عشرين عاما، فيما أذكر؛ ولذلك سيراها القارئ نشازا في نغمتي الفلسفية الراهنة.
هكذا تفاوتت أزمان هذه المقالات والأبحاث، لكنها في مجموعها تصور - كما قلت - مذهبي في الأدب ومذهبي في الفلسفة تصويرا موجزا دقيقا.
زكي نجيب محمود
الجيزة في يونيو 1957م
في النقد الأدبي
الشعر وألفاظه
لوليم وردزورث (1770-1850م)(مقدمة الطبعة الثانية لديوان الحكايات الغنائية المنظومة، سنة 1800م)
يعد هذا المقال دستورا للشعراء الرومانسيين (الابتداعيين) كتبه زعيم الشعر الرومانسي في إنجلترا في بداية القرن التاسع عشر، نقدمه إلى الشعراء المحدثين في البلاد العربية لعله أن يوجه ويعين. ***
قد أذعت في القراء قبل اليوم الجزء الأول من هذه الأشعار، وكنت أرجو حين أذعته، أن يكون تجربة أستعين بها بعض العون في أن أستيقن الى أي حد أستطيع - إذا أنا صغت في قوالب العروض صفوة مختارة من كلام الناس كما هو، ما دامت تتوافر فيه قوة الإحساس - أن أتيح تلك اللذة، نوعا ومقدارا، التي يحرص الشاعر صائبا أن يهيئها لقارئه.
ولعلني لم أسرف في تجاوز الدقة حين قدرت ما عساه أن يكون لتلك القصائد من أثر؛ فلقد كنت أتملق نفسي بأن من تقع أشعاري منهم موقع الرضى، سيتلونها في لذة تربي على ما ألفوه من لذة، كما أنني كنت من الناحية الأخرى على يقين أن من تصادف منهم السخط سيقرءونها في كره يجاوز ما عهدوه من كره. ولم تختلف النتيجة عما توقعت إلا في أن رضي عن شعري من الناس عدد أوفر مما رجوت أن أرضي. •••
إن كثيرين من أصدقائي ليتمنون لهذه الأشعار توفيقا؛ إذ يؤمنون أنه لو صدقت بالفعل وجهة النظر التي على أساسها أنشئت هذه القصائد، لنتج ضرب من الشعر يصلح أن يكون للإنسانية متاعا لا ينقطع، دون أن يكون غثا في جودته أو ضحلا في نوازعه الخلقية؛ لهذا ودوا إلي أن أنسق بين يدي ديواني دفاعا عن المذهب الذي نظمت على وفقه هذه الأشعار، ولكني أبيت أن أتصدى لهذا العمل، موقنا أن القارئ حينئذ سيلقي على دفاعي نظرة باردة، متهما إياي أن ما قد حدا بي إلى الدفاع، هو قبل كل شيء أمل أناني أحمق، في أن أغريه بأدلة المنطق بامتداح هذه الأشعار بذاتها، ثم ازددت إعراضا عن العمل حين تبينت أنني إن بسطت رأيي بسطا دقيقا، وسقت الأدلة شاملة، لاقتضى الأمر حيزا أبعد ما يكون صلاحية لمقدمة ديوان؛ فلو أنني عالجت الموضوع بما قد يستدعيه من وضوح واتصال، لوجب أن أستعرض ذوق الناس الراهن في هذا البلد، وأن أقرر مدى سلامة هذا الذوق أو فساده، ولا يتيسر البت في ذلك بغير الإشارة إلى النحو الذي يجري عليه التفاعل بين اللغة وعقل الإنسان، وبغير أن أتعقب ما أصاب منها المجتمع نفسه كذلك؛ لهذا أبيت إباء قاطعا أن أتصدى لمثل هذا الدفاع الشامل المنسوق، ولكني مع ذلك أحس في الأمر شيئا من عدم اللياقة، إن فجأت الجمهور بإقحامي فيهم هذه القصائد التي تختلف أشد اختلاف عن القصائد التي تظفر اليوم باستحسان الناس، دون أن أتقدم إليهم بكلمات قلائل.
لقد تواضع الناس على أنه إذا عمد المؤلف فيما يكتب إلى النظم، فإنه بذلك يقطع على نفسه عهدا أن يرضي للجماعة سننا معلومة جرت عليها؛ فهو لا يقتصر في عهده أن يعد للقارئ بأنه لا بد مصادف في ديوانه طائفة معينة من المعاني وطرائق التعبير، بل يعده كذلك أنه كان حريصا أن يتجنب ما عدا تلك الطائفة من معان وألفاظ. ولا بد أن يكون هذا الأساس المفروض أو هذا المثال المحتوم، الذي يلزم أن يكون للشعر لغة خاصة، قد اختلف عند الناس معناه باختلاف عصور الأدب، فأراد الناس بلغة الشعر في عهد «كاتولوس
Catullus » مثلا غير ما أريد بها في عهد «ترنس
Ternce »، كما قصدوا بلغة الشعر في عصر «ليوكريتيوس
Lucretius » معنى يباين ما قصدوا إليه في عصر «ستاتيوس
Statius » أو «كلوديان
Claudian » كذلك اختلف في بلدنا نحن ما أريد بلغة الشعر في عصر «شيكسبير» و«بومنت
Beaumont » و«فلتشر
Fletcher » عنه في عهد «دن
Donne » و«كولي
Cowley » و«دريدن
Dryden » و«بوب
». ولن آخذ على نفسي أن أحدد تحديدا دقيقا أي وعد في عصرنا هذا يتعهد به المؤلف لقارئه، إذا صاغ ما يكتب في كلام منظوم، ولا سبيل عندي إلى الشك في أن نفرا كثيرا سيخيل إليه أني لم أوف بعهود الميثاق الذي أخذت به نفسي طواعية حين نظمت هذا الشعر؛ فأولئك الذين ألفوا أن يسمعوا من كثير من الكتاب الحديثين ألفاظا مزخرفة جوفاء، سيضطرون بلا ريب في غير قليل من المواضع - إن هم صبروا في تلاوة هذا الديوان حتى ختامه - أن يجاهدوا شعورهم بما يصادفون من غرابة ونبو. إنهم سيتلفتون حولهم باحثين عن الشعر، ويودون لو يسألونني أي ضرب من التجوز قد أباح لهذه المحاولات أن تنتحل لنفسها هذا العنوان. فأرجو إذن ألا ينحو علي القارئ باللائمة إذا حاولت أن أبسط ما التزمت أمام نفسي أن أؤديه؛ وأن أشرح كذلك (ما سمحت لي حدود المقدمة بذلك) بعض الدوافع الأساسية التي حدت بي أن أنحو إلى ما نحوت إليه من غرض؛ فبذلك يستطيع القارئ على الأقل أن يجنب نفسه شعورا كريها بخيبة الرجاء، وأستطيع أيضا أن أتقي نقيصة من أشنع ما يرمى به الكاتب من نقائص، ألا وهي التراخي، الذي يمنعه أن يستيقن ما واجبه، فإن كان ذلك الواجب بين المعالم منعه التراخي أن يؤديه.
إذن فالغرض الأساسي الذي قصدت إليه بهذه الأشعار، أن أنتزع من الحياة العامة أحداثا ومواقف، أصفها أو أرويها، من أولها إلى آخرها، في نخبة مختارة من الألفاظ، التي يستخدمها الناس في حياتهم الواقعة، ما استطعت إلى ذلك سبيلا، ثم أخلع عليها في الوقت ذاته لونا من الخيال، الذي يجب أن نكسو به الأشياء المألوفة حين نقدمها إلى العقل، لكي تصبح خلابة المظهر، وبعد ذلك، بل وفوق ذلك كله، أخلق المتعة في تلك الحوادث والمواقف، بأن أجريها - بالحق لا بالمظهر الخادع - وفق النواميس الأساسية للطبيعة الإنسانية، وأهمها ما يتعلق منها بالطريقة التي يستقبل بها الإنسان الأفكار وهو ثائر النفس. ولقد آثرت بصفة عامة حياة الريف الساذجة المتواضعة؛ لأن ذلك الضرب من الحياة يهيئ للعواطف القلبية المتأصلة تربة أصلح لاكتمال نضوجها؛ إذ لا يثقلها بأغلاله، فتجري بمكنونها الألسنة أصرح لفظا وأفعل أثرا؛ وكذلك آثرت حياة الريف لأن مشاعرنا الأولية تكون فيها أقل تعقيدا فنستطيع أن نتأملها على نحو دقيق، وأن ننقلها للقارئ في صورة أروع، ومن تلك المشاعر الأولية تنبت الأخلاق الريفية؛ فهي أيسر استساغة وأبقى على الزمن لطبيعة أعمال الناس في الريف؛ وأخيرا آثرت لشعري تلك الحياة لأنها تتيح للعواطف الإنسانية أن تندمج في مظاهر الطبيعة الجميلة الخالدة. وقد استخدمت كذلك لغة هؤلاء القوم (وإن كنت قد صفيتها مما يبدو معيبا حقا، ومما يدعو الناس إلى دوام بغضها ومقتها من أسباب معقولة) لما لهؤلاء الناس من صلات لا تنقطع بآيات الكون الفاتنات التي منها اشتققنا في البداية أروع أجزاء اللغة؛ ولأنهم بحكم منزلتهم في الجماعة، وتشابه حياتهم وضيق أفقها، وبعدهم عن التأثر بزيغ المجتمع، يبثون مشاعرهم وخواطرهم في عبارات ساذجة لا زخرف فيها؛ لذلك كانت هذه اللغة الساذجة التي نشأت من التجربة المتكررة والمشاعر المطردة، أطول بقاء وأعمق فلسفة تلك التي كثيرا ما يستبد بها الشعراء، الذين يحسبون أنهم يضيفون إلى أنفسهم وإلى فنهم شرفا بمقدار ما يباعدون بين أنفسهم وبين عواطف الناس، وما يغوصون في طرائق التعبير الحائرة التي يفرضونها فرضا؛ رغبة في أن يهيئوا بها طعاما لأذواق متحولة ورغبات متقلبة هي صنيعة أيديهم.
1
ولكني مع ذلك لا يجوز أن أصم آذاني عن الصيحة التي تتردد اليوم مستنكرة إسفاف العبارة وتفاهة المعنى التي يصطنعها أحيانا بعض المعاصرين فيما ينظمون من شعر؛ وإني لأعترف أن هذه النقيصة، حيثما وجدت، أجلب للضعة إلى شخص كاتبها من ذلك الصقل المزيف والطرافة الممجوجة؛ غير أني في الوقت نفسه أؤكد أن نتائج الأولى في مجموعها أهون من الثانية شرا. على أن القارئ سيتبين في قصائد هذا الديوان ما يميزها من تلك الأشعار بوجه واحد من وجوه الاختلاف على أقل تقدير؛ وذلك أني نشدت في كل قصيدة من قصائدي غرضا نبيلا . ولست أعني بذلك أني كنت أبدأ الكتابة دائما وفي نفسي غرض محدود أدرك هيكله، ولكن إطالة التفكير، فيما أعتقد، كانت تستثير مشاعري وتنظمها، بحيث جاءت القصائد الوصفية، التي تتناول من الأشياء ما يثير تلك المشاعر إثارة عنيفة، ولها غرض تقصد إليه، فإن تبين بطلان هذا الرأي فليس لي إلا أصغر الحق في أن أكون شاعرا، فما الشعر الجيد بأسره إلا فيض المشاعر القوية من تلقاء نفسها. على أنه، وإن كان هذا حقا، فإن القصائد التي تستحق شيئا من التقدير، مهما اختلف موضوعها، لم ينظمها قط إلا رجل، فضلا عما أوتيه من حس مرهف ممتاز، قد أطال التفكير وغاص إلى أعماقه؛ وذلك لأن فكر الإنسان يشكل مجرى شعوره المتدفق المتصل ويأخذ بزمامه؛ ذلك الفكر الذي إن هو في حقيقة الأمر إلا صورة تمثل كل ما مضى بنا من مشاعر. وكما أن الإنسان إذا أنعم الفكر فيما يربط تلك الصور الذهنية العامة بعضها ببعض من صلات، تبين له من العلم ما يهمه في حياته، فكذلك إن هو عاود هذا التفكير وواصله فإن مشاعره سترتبط بتلك الحقائق الهامة ارتباطا ينتهي به، إذا كان ذا طبيعة موهوبة بالحساسية الخصبة، إلى اكتساب عادات عقلية من شأنها - إذا أطاع دوافع تلك العادات إطاعة آلية عمياء - أن تمكنه من وصف الأشياء والتعبير عن العواطف التي تنير عقل القارئ إلى حد ما وتزيد من عاطفته قوة وصفاء، بحكم طبيعتها واتصال أجزائها.
لقد سبق لي القول إن لكل قصيدة من هذه القصائد غرضا. ولا بد أن أشير إلى ناحية أخرى تمتاز بها هذه الأشعار عما يسود في هذا العصر من شعر، وهي أن ما بثثت في القصيدة من شعور يزيد في جلال الحادث أو الموقف، وليس الموقف أو الحادث هو الذي يضيف إلى الشعور ما له من جلال.
ولن يمنعني التواضع الزائف أن أقرر أن ما يدفعني إلى توجيه نظر القارئ إلى هذه الصفة المميزة هو خطورة الموضوع في إجماله أكثر منه عنايتي بهذه القصائد بذاتها. ألا إنه لموضوع خطير حقا! إذ في مقدور العقل البشري أن يتأثر دون أن يتعرض للبواعث القوية العنيفة، وإن من لا يعلم هذا، ومن لا يعلم فوق هذا أن الأحياء تتفاوت سموا بمقدار ما أوتيت من هذه المقدرة، فلا بد أن يكون ضعيف الإدراك جدا لما للعقل من جمال وجلال؛ لهذا يلوح لي أن الجهد في إنشاء هذه الملكة أو إرهافها خدمة جلى جديرة أن تشغل الكاتب في أي عصر، غير أن هذه الخدمة إن كانت جليلة في كل العصور، فهي أكثر جلالا في عصرنا هذا، حيث تتآزر اليوم طائفة الأسباب التي لم تعرفها الأعصر السالفة على أن تثلم ما يميز من قوى، وأن تفقده القدرة على النهوض بمجهوده طواعية، حتى إنها لتوشك أن تعود به إلى حالة من العقم المخيف. وأبلغ هذه الأسباب أثرا ما ينتاب هذا الوطن من جسام الحوادث التي تتجدد كل يوم، واحتشاد الناس المتزايد في المدن، الذي أنشأ فيهم - نتيجة لاطراد ما يؤدونه من عمل - رغبة قوية في الشاذ من الحوادث، التي إن وقعت، تضخمت ساعة بعد ساعة لسرعة تناقل الخبر في الناس. ولقد آلى الأدب والمسرح في هذا البلد على نفسيهما أن يسايرا هذه النزعة من الحياة والأخلاق. إن الآثار القيمة التي خلفها الأسلاف من كتابنا، وكدت أعين تآليف شيكسبير وملتن، لتنحدر إلى الإهمال أمام سيل من القصص الهوجاء والمآسي الألمانية المملة الباردة، وطوفان من القصص المنظومة الجوفاء المسرفة في غلوها. إنني إذا ما فكرت في هذا التعطش المخجل المشين من البواعث، كدت أستحي خجلا مما تحدثت به عن المجهود الضعيف الذي بذلته في هذه الدواوين لأقاوم ذلك الاتجاه. كذلك إذا فكرت في فداحة الشر وشموله لما أثقلت نفسي بما يحز فيها من أسف لهذا الشين، لو لم أكن ثابت اليقين بما للعقل البشري من صفات موروثة تستعصي على الفناء، وبالقوى التي تكمن في الأشياء الجليلة الخالدة التي تؤثر في العقل ولا تقل عنه في نظرتنا رسوخا واستعصاء على الزوال، لم أكن لأثقل نفسي بذلك الأسف لولا ذلك اليقين الثابت ، وإلى جانبه إيمان بأن قد اقترب اليوم الذي يقاوم فيه السوء مقاومة منظمة رجال أعظم عبقرية وأشد توفيقا.
أما وقد أطلت الوقوف عند موضوع هذه القصائد وغرضها، فإني أستأذن القارئ أن أحيطه علما بقليل مما يتصل بأسلوبها بسبب، وإنما أقصد بهذه الإحاطة إلى أشياء كثيرة، منها ألا يأخذ علي القارئ أني لم أؤد شيئا لم أحاول أداءه قط؛ فإنه قل أن يصادف في هذا الديوان تجسيدا للمعاني المجردة، التي أبيت إباء قاطعا أن أستخدمها - كمألوف الشعراء - لتسمو بالأسلوب وترفعه فوق مستوى النثر. إذا أردت أن أقلد لغة الناس وأن أقتبس منها ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وإنه مما لا ريب فيه أن مثل هذا التجسيد لا يكون من لغة الناس جانبا، لا طبعا ولا تطبعا. نعم هو لون من ألوان البيان قد تستنيره العاطفة الحين بعد الحين؛ ولذا فقد استخدمته بهذا الاعتبار وحده، ولكني جاهدت أن أطرحه وراء ظهري باعتباره طريقة آلية من طرائق التعبير، أو باعتباره لغة تسود بين جماعة الشعراء، الذين يودون فيما يظهر أن تصبح هذه اللغة خاصة بالشعر في شيء من التحتيم. إنني حريص أن أتيح للقارئ صحبة من لحم ودم، مؤمنا أني بهذا الصنيع أهيئ له شيئا من المتاع؛ وإن سواي ممن يسلكون سبيلا غير هذه السبيل ليودون أيضا أن يبعثوا في نفس القارئ لذة كما أفعل، ولا يعنيني ما يزعمون من دعوى، ولكني أريد أن أؤثر لنفسي دعواي. كذلك لن يصادف القارئ في هذا الكتاب إلا قليلا مما يسمى عادة بألفاظ الشعر، فقد عانيت نصبا أن أتجنبها بقدر ما يعاني سواي أن يصطنعها؛ وإنما فعلت ذلك للسبب الذي سبقت إشارتي إليه، وهو أن أدنو بلغتي من لغة الناس، فضلا عن أن اللذة التي أخذت على نفسي أن أهيئها في شعري لتختلف في نوعها أشد اختلاف عن اللذة التي يظن كثيرون أنها غرض الشعر الصحيح. وإذا أردت ألا أتورط في خطيئة التخصيص فلست أدري كيف أصف لقارئ الأسلوب الذي وددت واعتزمت أن أكتب فيه، وصفا أدق من القول بأنني جاهدت دائما أن أضع موضوعي نصب عيني فلا أحول عنه النظر، فجاءت نتيجة ذلك أن لم تحو هذه القصائد، فيما آمل، إلا قليلا من الزيف في الوصف ولقد صغت خواطري في عبارة تكافئ ما لها من شأن عظيم. ولا بد أن أكون بعد هذه المحاولة قد ظفرت بشيء يلازم إحدى خصائص الشعر الجيد، ألا وهو المعنى الجيد، ولكن تلك المحاولة قد أبعدتني بالضرورة عن كثير من الصبغ وألوان البديع التي طالما عددناها، خلفا بعد سلف، إرثا مشاعا بين الشعراء. ولقد ذهب بي الظن كذلك ألا مندوحة عن التزام قيد آخر، إذ لم أبح لنفسي أن تستخدم كثيرا من العبارات الجيدة الرائعة في حد ذاتها ولكن لاكتها ألسنة الحثالة من الشعراء في غباء، حتى أحيطت بشعور الابتذال الذي يكاد يستحيل على أي فن من فنون المعاني أن يمحوه.
فلو قد جاء في إحدى القصائد مجموعة من الأبيات، بل قل لو جاء فيها بيت واحد، مما تشبه لغته لغة النثر سوى أنها منسوقة بطبيعتها وفق قواعد العروض الدقيقة، وثبت طائفة من النقاد عديدة النفر، دأبها إذا ما عثرت على أسطر من هذا الشعر المنثور كما يسمونه، وصورت لنفسها أنها استكشفت أمرا خطيرا، وأخذت تبتسم للشاعر كأنه رجل جاهل بفنه، فالقاعدة التي يجري عليها هؤلاء النقاد في نقدهم لا مندوحة للقارئ عن رفضها رفضا باتا إذا أراد أن ينعم بهذا الديوان. وإنه لمن أيسر الأمور أن نقيم له الدليل على أن شطرا عظيما من كل قصيدة جيدة، ولا تستثن من ذلك أبرع القصائد وأسماها، لا مفر من أن تستوي اللغة فيه مع لغة النثر الجيد إلا في أن الكلام منظوم، وليس هذا فحسب بل إن أروع الأجزاء في أبرع القصائد هي ما جرت في لغتها مجرى النثر إذا أجيدت كتابته. ونستطيع أن نقيم الحجة على صحة هذا القول بأمثلة لا عدد لها من آثار الشعر كلها تقريبا، بل مما نظمه ملتن نفسه. وتوضيحا للموضوع بصفة عامة سأسوق أسطرا قلائل من شعر «جراي
Gray » الذي كان في مقدمة الذين حاولوا بما ارتأوا من سبل أن يبعدوا مسافة الخلف بين ألفاظ النثر وألفاظ الشعر، وكان أكثر من غيره صقلا لديباجة شعره:
2
عبثا لنفسي تشرق الأصباح الباسمة،
وترفع الشمس الدامية نارا من نضار،
وعبثا تتغنى الأطيار بأناشيد حبها،
أو تسترد الحقول النضيرة رداءها الأخضر؛
فهاتان الأذنان، وا أسفاه! تحن شوقا لأنغام أخر، ⋆
وهاتان العينان تتطلبان من المناظر غير ما تريان. ⋆
إن شقوتي في وحدتي لا تذيب قلبا غير قلبي؛ ⋆
فإن تافه المتاع قد انبت في صدري،
ولكن الصبح يبتسم ليحيي العاملين،
فيكون للهائمين منه متاع جديد،
وتنفح الحقول الناس قاطبة بنفحة معهودة،
والأطيار تتشاكى لتلهب قلوبها الصغيرة، ⋆
وأنا أبكي عبثا لغير سميع، ⋆
فأشتد بكاء كلما رأيت عبث البكاء.
وتستطيع في غير عسر أن ترى أن ما يستحق التقدير في هذه المقطوعة الشعرية هي الأسطر المرقومة وحدها، وهي لا تختلف في لغتها عن النثر في شيء.
3
يتبين من هذا المثال السابق أن لغة النثر يجوز أن تستخدم في الشعر، ولقد زعمنا فيما سلف أن ألفاظ الشطر الأعظم من روائع الأشعار لا تختلف عن ألفاظ النثر الجيد في شيء، فلنخط إذن إلى الأمام خطوة فنؤكد تأكيدا لا يأتيه الباطل أن ليس ثمة، بل يستحيل أن يكون ثمة فارق جوهري بين لغتي النثر والشعر. إننا نميل إلى تعقب أوجه الشبه بين الشعر والتصوير حتى عددناهما تربين؛ فأين عسانا أن نجد من الروابط الوثيقة ما يكفي أن يجلو الصلة بين لغتي النثر والنظم؟ فكلاهما تنطقهما أداة بعينها وكلاهما يخاطب عضوا بعينه، ويمكن القول إن ما يكسو كليهما من الجسد قوامه مادة بعينها، ونزعتاهما متقاربتان بل تكادان تكونان متطابقتين، وليس يلزم بالضرورة أن يختلفا حتى من حيث الدرجة. إن الشعر
4
لا يهمي من العبرات «ما يشبه عبرات الملائكة» ولكنه يسفح دمعا آدميا طبيعيا. إنه لا يستطيع أن يفاخر النثر بأن دماء مقدسة تجري في عروقه فميزت دماءه من دماء النثر؛ إذ يدب في عروقهما على السواء دم بشري واحد.
فلو أقيم لي الدليل على أن القافية والوزن وحدهما يكونان فارقا يعكس ما زعمناه الآن من تشابه دقيق بين لغتي الشعر والنثر، ويمهد الطريق لفوارق أخرى مصطنعة يسلم بها العقل راضيا، لأجبت أن لغة هذا الشعر الذي أقدمه في هذا الديوان نخبة اختيرت بقدر المستطاع من لغة الناس كما ينطقون بها؛ فهي حيثما صيغت في ذوق سليم وشعور صادق تميز نفسها بنفسها أكثر جدا مما تظن عند الوهلة الأولى، ويكون فيها الفارق الذي يباعد مباعدة تامة بينها وهي مصوغة في الشعر وبين حوشية الحياة العادية وضعتها. وإني لأومن أنه بإضافة الوزن إلى تلك اللغة ينشأ فارق يكفي لإقناع العقل المنطقي، ولكن ترى هل ثمة فارق آخر؟ أنى عسى أن يجيء؟ وأين ينتظر أن يكون؟ يقينا إنه لن يكون حيث ينطق الشاعر على ألسنة أشخاصه؛ فها هنا لا تحتم الضرورة ذلك الفارق، لا من حيث التسامي بالأسلوب ولا من حيث ما يزعمون له من زخرف؛ إذ لو كان الشاعر موفقا في اختيار شخصه، فإنه سيتأدى بحكم ذلك الشخص وفي الفرصة الملائمة، إلى عواطف لو انتقيت عبارتها في صدق وفطنة، لجاءت نبيلة وبارعة وحية بما تحوي من ألوان البيان والبديع. وإني لأمسك هنا عن الحديث فيما يصيب القصيدة من تشويه يصعق له القارئ الذكي، إذا ما خلط الشاعر في شعره أبهة يضيفها من عنده إلى ما توحي به طبيعة العاطفة، وحسبي أن أقول إن هذه الإضافة لا تحتمها الضرورة، ويقيني أنه من الجائز جدا أن يكون لتلك العبارات التي تزخرفها ألوان البديع والبيان زخرفة منسقة ما هي جديرة به من أثر، على أن تساق في مواضع غير هذه، حيث تكون العواطف رخية قليلة العنف، على شريطة أن يجيء الأسلوب كذلك طيعا هادئا.
ولما كانت اللذة التي أرجو أن أهيئها بأشعاري التي أقدمها اليوم للقارئ، إنما تعتمد كل الاعتماد على صحة الرأي في هذا الموضوع الذي هو في ذاته ذو شأن عظيم في ذوقنا وشعورنا؛ فليست تكفيني هذه الملاحظات المفككة. وإذا كنت في رأي بعض الناس، بما أشك أن أقوله، إنما أؤدي عملا لا حاجة إليه، وأنني كمن يحارب موقعة بغير أعداء، فلا بد أن أذكر أمثال هؤلاء أنه مهما تكن لغة التفاهم بين الناس، فإن العقيدة العملية بالرأي الذي أريد أن أسوقه تكاد تكون مجهولة. أما إذا قوبلت آرائي بالتسليم ثم ذهبت في تطبيقها إلى الحد الذي يجب أن تذهب إليه ما دامت قد ووفق عليها، فإن أحكامنا على آثار العباقرة من الشعراء قديمهم وحديثهم ستختلف اختلافا بعيدا عما هي عليه الآن، ستختلف في المدح والقدح على السواء، كما أن مشاعرنا الخلقية التي تؤثر وتتأثر بهذه الأحكام ستصح وتصفو فيما أعتقد.
فلننظر إلى الموضوع من حيث أسسه العامة، وليسمح لي القارئ أن أسأل: ماذا نعني بكلمة «شاعر»؟ من هو الشاعر؟ ومن ذا يخاطب بشعره؟ وأي عبارة ترجى منه؟ هو إنسان يخاطب الناس، حقا إنه لرجل أوتي حسا أرهف وحماسة أحر وشعورا أرق ودراية أشمل بطبيعة البشر ونفسا أوسع أفقا مما يحتمل أن يكون لعامة الناس. إنه رجل تسره عواطفه ونوازعه، ويغتبط أكثر مما يغتبط سائر الناس لروح الحياة التي تدب فيه، ويمتعه أن يفكر في العواطف والنوازع التي تشبه ما له منها والتي تتجلى في جوانب الكون، وكثيرا ما يضطر إلى خلقها إن لم يجدها، ثم يتميز الشاعر فضلا عن هذه الصفات بميل إلى التأثر أكثر ممن عداه بالأشياء الخافية كأنها بادية لناظريه، كما أن له مقدرة في أن ينشئ في نفسه عواطف هي في حقيقة الأمر أبعد شبها بالعواطف التي تنشأ بما يقع فعلا من الحوادث، ولكنها مع ذلك (وبخاصة فيما يسر ويمتع من نواحي العاطفة العامة) أكثر شبها بالحوادث التي تثيرها الحوادث الواقعة، مما تعود سائر الناس أن يحسوا في أنفسهم بفعل عقولهم وحدها؛ لهذا ولما يكتسب من مران تراه أشد استعدادا وأعظم مقدرة على التعبير عما يفكر فيه وما يشعر به، وبخاصة تلك الخواطر والمشاعر التي تنزو في نفسه بمحض اختياره أو بطبيعة تركيب عقله ، دون أن يثيرها مؤثر خارجي مباشر.
ولكن مهما أوتي أعظم الشعراء من هذه الملكة، فلا سبيل إلى الشك في أن ما يوحى إليه من لغة لا بد أن يكون في أغلب الأحيان أقصر مدى في صدقه وحيويته من اللغة التي ينطق بها الناس في الحياة الواقعة، متأثرين بتلك العواطف الحقيقية التي تارة ينشئ الشاعر في نفسه بعض ظلالها، وتارة يحس أنها قد نشأت في نفسه بذاتها.
إنه مهما اشتد إعجابنا بشخصية الشاعر فلسنا نرتاب في أنه وهو يصف العواطف أو يحاكيها فهو إنما يؤدي عملا آليا إلى حد ما بالقياس إلى الحرية والقوة اللتين تكونان في الفعل أو الألم في الحقيقة والواقع. حتى إن الشاعر ليرجو أن يدنو بشعوره من شعور الأفراد الذين يصف شعورهم. لا، بل إنه ليود أحيانا أن يفلت بنفسه ولو إلى فترة وجيزة من الزمن، فيغوص في وهم نفسه لكي يمزج بل يطابق بين شعوره وشعورهم، وهو في أثناء ذلك لا يزيد على أن يصوغ اللفظ الذي يوحى إليه به؛ بقصد أنه إنما يصف لغرض معين، وذلك أن يتيح للقارئ لذة. وهنا إذن تراه يطبق قاعدة الاختيار التي أطلنا فيها القول سابقا؛ فهو باختياره ما يختار سيتمكن من أن يمحو من العاطفة جوانبها المفكرة المؤذية، وسيحس أن ليس ثمة حاجة إلى مخادعة الطبيعة أو إلى التسامي بها؛ فإنه كلما أمعن في تطبيق تلك القاعدة ازداد إيمانا أن ليس بين الألفاظ التي يوحيها إليه خياله أو وهمه ما يدنو من الألفاظ التي انبعثت من الصدق والواقع.
ولكن قد يزعم الذين لا يجادلون في صحة هذه الملاحظات من حيث جوهرها العام أنه ما دام مستحيلا على الشاعر أن يجد في كل الظروف عبارة تتكافأ مع العاطفة التي يعبر عنها تكافؤا دقيقا بحيث تجيء في قوة العبارة التي تنبعث من العاطفة الحقيقية حين تختلج في نفس صاحبها، فلا جناح عليه أن يقف موقف المترجم الذي لا يضيره أن يستبدل بما يعجز عن ترجمته أفكارا بارعة ولكنها تختلف عن الأصل المنقول، ولا غضاضة أن يحاول حينا بعد حين أن يسمو عن ذلك الأصل لكي يعوض عجزه الذي لا حيلة له فيه، ولكنا لو سمحنا للشاعر بذلك كان مدعاة للكسل واليأس الذي ينافي الرجولة الصحيحة، هذا فضلا عن أن تلك حيلة من ينطقون بما لا يفهمون، والذين يتحدثون عن الشعر كأنه وسيلة للتسلية واللهو السخيف، أولئك الذين سيجادلوننا في ذوق الشعر، على حد تعبيرهم، بنفس الجد الذي يجادلون به في توافه الأمور، كذوق الألعاب البهلوانية، أو ألوان الخمر المتباينة. لقد أنبئت أن أرسططاليس قال عن الشعر إنه أعمق ألوان الكتابة فلسفة؛ وإنه لكذلك بلا ريب. إنه ينشد الحق، ولست أعني الحق الذي يرتبط بفرد من الناس أو بمكان من الأرض، ولكني أقصد الحق العام ذا الأثر الفعال، نعم لست أعني الحق الذي يعتمد صدقه على برهان خارجي عنه، بل أقصد الحق الذي تسكبه العاطفة في القلب حيا نابضا؛ أقصد الحق الذي ينهض بنفسه على نفسه دليلا لصدقه، الحق الذي إذا احتكم في أمره إلى قاض ألهمه الثقة واليقين واستمد منه بدوره ثقة ويقينا. الشعر هو صورة الطبيعة والإنسان، وإن العثرات التي تعترض سبيل المؤرخ والراوية اللذين يتوخيان الأمانة فيما يكتبان، والتي تعترض سبيل القراء فيما بعد، لأشد هولا مما ينبغي على الشاعر أن يذلله من عقبات، لو كان الشاعر يدرك ما لفنه من جلال. إن الشاعر لا يلتزم فيما يكتب إلا قيدا واحدا؛ إذ يتحتم عليه أن يتيح الطرب بشعره لكائن من كان من البشر إذا ما توافر لديه من المعرفة ما يفرض فيه. ولست أعني بتلك المعرفة علم المحامي أو الطبيب أو الملاح أو الفلكي أو الفيلسوف الطبيعي، ولكنني أقصد معرفة الإنسان باعتباره إنسانا، فإذا استثنيت هذا القيد الواحد لما ألفيت من العوائق ما يحول بين الشاعر وبين تصوير الأشياء، في حين أن آلافا من تلك الحوائل تتوسط بين المؤرخ أو الراوية وبين ذلك التصوير.
ولا تظنن أن في إلزام الشاعر أن يهيئ لقارئه لذة مباشرة بشعره حطا من قدر فنه، بل إنه على نقيض ذلك اعتراف بجمال الوجود اعترافا يزيد من صدقه أنه صريح لا مواربة فيه؛ وإن تيسير تلك اللذة لعمل يسهل ويهون على من ينظر إلى العالم نظرة ملؤها الحب، فضلا عن أنه فريضة واجبة يؤديها إجلالا للإنسان من حيث هو إنسان، فريضة يؤديها في سبيل اللذة التي هي من بنائنا أس جوهري عظيم؛ فباللذة يعلم الإنسان ويحس ويعيش ويسعى. إن الإنسان لا يعاطف الإنسان إلا فيما يوفر له السرور، ولست أحب أن يخطئ القارئ فهم ما أريد؛ فحيثما نشاطر الناس ما يشعرون من ألم فإنما تنشأ تلك المشاركة وتتصل بفعل الروابط الدقيقة التي تربطها بإحساس اللذة؛ فإننا لم نحصل من العلم، وأقصد به المبادئ العامة التي استقيناها من التفكير في الحقائق الجزئية، اللهم إلا ما استعنا على تكوينه بشعور اللذة، ثم لا يستقر في نفوسنا هذا العلم المتحصل إلا بما نحس نحوه من لذة كذلك. وإن العلماء، كرجال الكيمياء والرياضة، ليقرون هذا ويحسونه في أنفسهم، مهما يكن ما يلاقونه في سبيل علمهم من صعاب تضيق بها النفس؛ وإنه مهما أصاب عالم التشريح من عناء في سبيل أغراضه العلمية فهو يحس لذة في عمله، وحيث لا يجد اللذة لا يحصل العلم، فماذا ترى يصنع الشاعر؟ إنه يرقب الإنسان وما يحيط به من أشياء تؤثر فيه وتتأثر به بحيث ينشأ في نفسه مزيج لا حد له من السرور والألم. إن الشاعر لينفذ إلى الإنسان فيراه على سجيته وفي مجرى حياته المعتاد، حيث يتأمل تلك المشاعر من لذة وعناء في قدر محدود من المعرفة المباشرة، وتحدد نظره طائفة من العقائد والتقاليد وشذرات من العلم تتخذ بحكم العادة صبغة التقليد؛ نعم إن الشاعر لينفذ إلى الإنسان وهو ينظر إلى هذا الشتيت المترابط من الخواطر والمشاعر فيصادف أينما وجه النظر أشياء لا تلبث أن تثير في نفسه من العواطف ما تقتضي طبيعة تكوينه أن تقترن بغبطة ترجحها فتطغى عليها.
إلى هذا اللون من المعرفة الذي يصطحبه الناس جميعا أينما ساروا، وإلى هذه العواطف التي يستمتع بها الإنسان بحكم جبلته مدفوعا بطبيعة حياته السائرة دون سواها، ينبغي أن يبذل الشاعر أعظم عنايته. إنه لينظر إلى الإنسان والطبيعة وكأنما قد أعد كلاهما في جوهرهما ليكونا عنصرين متلائمين، كما يعد عقل الإنسان مرآة طبيعية تعكس أجمل خصائص الطبيعة وأمتعها. وعلى ذلك ترى الشاعر يناجي الطبيعة في مجموعها مدفوعا بشعور اللذة الذي يرافقه فلا يفارقه طوال دراسته، إنه يناجي الطبيعة وفي مشاعر شديدة الشبه بتلك التي يستثيرها العالم في نفسه فتنشأ خلال عمله وعلى الزمن من طول ما يتحدث إلى جزئيات الطبيعة التي تكون موضوع دراسته. إن معرفة الشاعر والعالم كليهما إن هي إلا اللذة، غير أن معرفة الشاعر تكون جزءا لازما من وجودنا، وإرثا طبيعيا لا ينفك ملازما لنفوسنا، أما علم العالم فلا يعدو شخصه ونفسه، فإن سار إلى نفوسنا كان وئيد الخطى، وهو لا يثير فينا عاطفة مباشرة تربطنا بسائر إخواننا من البشر. إن العالم لينشد الحقيقة كأنما هي معين خير مجهول لا تصله بنفسه الصلات؛ فهو يعشقها ويحبها، وحيدا لا يشاطره الحب إنسان، أما الشاعر فإذا غرد أنشودة شاركته في تغريده الإنسانية بأسرها، وإنه ليغتبط إذ يرى الحقيقة صديقه للإنسان سافرة عن وجهها ورفيقة تلازمه ولا تهجره. إن الشعر من المعرفة كلها أنفاسها المترددة وروحها الشفاف، إنه هو ما ترى على جبين العلم من علائم العاطفة، وتستطيع أن تقول في الشاعر صادقا ما قاله شيكسبير عن الإنسان من «أنه يستذكر الماضي ويتسلف مقبل الأيام.» إن الشاعر حصن يذب عن الطبيعة البشرية فهو يحفظها ويحميها، وينشر الحب والقربي أينما ارتحل. إنه رغم ما يضرب بين البشر من تباين في الأرض والهواء واللغة والأخلاق والعادة والقانون، ورغم ما يتسلل من العقل فينمحي، ورغم ما تعصف به الأيام فينقوض، تراه يوشج الأواصر بين الجماعة الإنسانية المترامية أطرافها بعاطفته ومعرفته، فيصل ما قطع الزمان وما نثر المكان بين أفرادها. إن الشاعر أينما وجه النظر صادف موضوعا لخواطره، فلئن كانت نواظر الإنسان وحواسه هي بحق دليله الأمين ، إلا أنه يؤثر أن يتجه إلى حيثما يجد مجالا من الإحساس يسمو فيه بجناحيه ويحلق. وإذن فالشعر من ضروب المعرفة بأسرها هو الأول والآخر؛ فإنه باق على الزمان ما بقي قلب الإنسان، فإن جاء اليوم الذي يكتب فيه لبحوث العلماء أن تشعل في نفوسنا وفي آرائنا ثورة خطيرة أيا كان لونها، مباشرة كانت أو غير مباشرة، إذن لنهض الشاعر مما يغط فيه اليوم من سبات، ولأخذ الأهبة ليقتفي أثر العالم، فلا يتأثر بنتائجه العامة غير المباشرة وحدها، بل يقف إلى جانبه يجول بإحساسه بين الأشياء التي يغوص فيها العلم نفسه. إن أعمق ما يكشفه علماء الكيمياء والنبات والمعادن لموضوعات جديرة بالشاعر وفنه كأي موضوع آخر مما يستخدم فيه الشعر. نعم إنه إذا أقبل اليوم الذي نألف فيه هذه الدقائق العلمية، والذي نحس فيه بأن لتلك الجوانب التي يسبح فيها أبناء العلوم بأفكارهم شأنا في حياتنا صريحا جليا باعتبارنا كائنات تشقى وتسعد، أقول إنه إذا جاء ذلك اليوم الذي يشيع فيه بين الناس ما نسميه اليوم بالعلم، شيوعا يدنو به من قلوبهم حتى يكتسي ثوبا من لحم ودم؛ عندئذ ترى الشاعر يجود بروحه الإلهية ليعين العلم أن يتخذ صورة الحياة، ثم تراه يستقبل هذا الوليد الجديد، صديقا مخلصا حميما لعشيرة الإنسان، فلا ينبغي إذن أن يذهب الظن بقارئ إلى أن رجلا هذا إيمانه بمنزلة الشعر السامية، تلك المنزلة التي حاولت أن أبسطها فيما سلف، سيشوه ما في أشعاره من قداسة وحق بزخارف اللفظ الزائلة الفانية أو يحاول أن يستثير الإعجاب بنفسه بأن يصطنع فنونا لا يتحتم اصطناعها إلا إذا صدق ما يزعمون لموضوع الشعر من ضعة.
إن ما قلته حتى الآن يصدق على الشعر إجمالا، ولكنه يصدق بصفة خاصة على الأجزاء التي ينطق فيها الشاعر على ألسنة شخوصه. وجدير بنا في هذا الصدد أن نعترف بأن ثمة نفرا ممن أوتوا الحس الرهيف لا يسلمون بأن المواضع التمثيلية من الشعر تكون معيبة بمقدار ما تنأى عن اللغة الطبيعية التي يتحدث بها الناس في حياتهم، وبنسبة ما يصبغها الشاعر بألفاظه هو، سواء كانت تلك الألفاظ خاصة به بصفته الشخصية، أو باعتباره عضوا في أسرة الشعراء؛ أعني باعتباره منتميا إلى قوم ينتظر الناس منهم أن يتخذوا ألفاظا خاصة بهم ما دامت عبارتهم قد انفردت دون غيرها بالوزن.
لسنا إذن نريد أن تكتب الأجزاء التمثيلية من الشعر بأسلوب ممتاز؛ فقد يكون هذا الأسلوب الممتاز مستساغا وضروريا حينما يحدثنا الشاعر بنفسه وعن نفسه، بل إني لأنكره حتى في هذا، وأعود بالقارئ إلى الوصف الذي أسلفناه للشاعر، فلن يجد بين صفاته التي عددناها جوهرية في تكوين الشاعر صفة يختلف بها عن سائر الناس من حيث النوع؛ إذ هو يباينهم في الدرجة وحدها. ومجمل ما قيل هو أن الشاعر يتميز عن سائر الناس قبل كل شيء بقابليته العظيمة للتفكير والشعور حين لا يكون ثمة مؤثر خارجي مباشر يستثير ذلك التفكير أو الشعور، ثم هو يتميز عن سائر الناس بمقدرته الفائقة على التعبير عن تلك الخواطر والمشاعر على نحو ما نشأت في نفسه. وهذه العواطف والأفكار والمشاعر هي نفسها ما يختلج في نفوس الناس من عواطف وأفكار ومشاعر، وإحساساته الحيوانية كما تتناول الأسباب التي تخلق تلك المشاعر والإحساسات. إنها تبحث في فعل العناصر الأولى وفيما تراه العين من مظاهر الوجود، فهي تستعرض الزعازع العاصفة وضوء الشمس الساطع، ودورة الفصول، وما يتعاور الأرض من برد وحر، وما يصيب الناس من فقد الأصدقاء والأقرباء، وما يثير في الناس الأذى والشحناء، والأمل وعرفان الجميل، وما يدور في صدورهم من خوف وأسى. تلك وأشباهها هي ما يصف الشاعر من أشياء وما يبسط من مشاعر، وهي هي الأشياء والمشاعر التي تظفر عند سائر الناس بالحب. إن الشاعر ليشعر ويفكر بروح العواطف البشرية، فكيف إذن يجوز أن يختلف أسلوبه اختلافا جوهريا عن اللغة التي يتحدث بها الناس جميعا، وأريد بهم من يشعرون في قوة ويرون في وضوح؟ إنه لمن الهين أن نقيم البرهان على استحالة ذلك، ولكن هبه مستطاعا لا استحالة فيه، إذن فيجوز للشاعر أن يستخدم لغة ممتازة حين يعبر عن مشاعره هو إن كان في ذلك إرضاء لنفسه ونفوس من يشاكلونه. غير أن الشعراء لا يكتبون للشعراء وحدهم، وإنما هم يخاطبون الناس بشعرهم؛ وعلى ذلك، فإذا لم يكن الشاعر من دعاة ذلك اللون من الإعجاب الذي يعتمد على الجهل، وتلك اللذة التي قد يستشعرها من ينصت إلى كلام لا يفهمه، نقول إذا لم يكن الشاعر من أنصار ذلك اللون من الإعجاب وتلك اللذة لوجب أن ينزل من عليائه المزعومة؛ فلكي يثير عاطفة مبصرة ينبغي أن يعبر عما يدور بنفسه على نحو ما يعبر سائر الناس عما يدور بنفوسهم؛ لأنه إذا عمد إلى اختيار لفظه مما يتحدث به الناس في حياتهم الواقعة، أو إذا هو أنشأ ما ينشئ من شعر وروحه مشبع بما يستخدم الناس من ألفاظ - إذ لا فرق بين الحالتين - فإنه يجنب نفسه التواء السبيل، ويمكن القارئ أن يتهيأ لشعره، وذلك بعينه هو ما يدفعني أن أحتفظ للشعر بوزنه؛ فخليق بي أن أذكر القارئ بأن صفة الوزن هذه تجري على قاعدة معروفة ونظام مطرد، وهي تختلف في ذلك عن الصفة التي تسمى عادة «بالألفاظ الشعرية»؛ إذ الشاعر وحده هو الذي يتحكم في هذه الألفاظ، فهي لذلك تخضع لما لا نهاية له من تقلب الأهواء، الذي لا يمكن القارئ أن يهيئ نفسه في شيء من اليقين لأسلوب معين من الشعر. إن مبدأ «الألفاظ الشعرية» يضع القارئ تحت رحمة الشاعر المطلقة، عليه أن يرضى بما يحلو للشاعر من صور وألفاظ مما يرتبط بالعاطفة التي ينشئ فيها الشعر. أما الوزن فهو بعكس الألفاظ الشعرية يسير وفق قانون معلوم، يسلم به الشاعر والقارئ كلاهما راضيين؛ لأنهما يسلكان به سبيلا قصدا، ولا يعترضان به مجرى العاطفة إلا فيما أجمعت شواهد العصور المتتابعة على أنه يسمو ويرتفع باللذة التي تثيرها تلك العاطفة.
وحقيق بي الآن أن أجيب سؤالا لا إخال القارئ إلا سائله، وهو: ما دمت أنشر هذه الآراء، فلماذا كتبت ما كتبت شعرا؟ وجواب هذا السؤال متضمن فيما سلف، ولكني أضيف إلى ذلك جوابا آخر؛ فقد لجأت إلى الشعر أولا لأنني مهما أسرفت في التزام القيود، فلا تزال معروضة أمامي تلك العناصر التي تكون أنفس جوانب الكتابة بأسرها، نثرا كانت أم شعرا، فما تزال أمامي عواطف الناس النبيلة وأعمالهم الممتعة، بل ما تزال الطبيعة بأسرها منشورة الصفحات أمام ناظري، وكل هؤلاء يمدني بما ليس يحصى من صور الخيال ووسائل التعبير، ولكن لنفرض جدلا أن كل ما يأخذ باللب من هذه الأشياء نستطيع أن نصفه بالنثر وصفا رائعا، فماذا يغريني بالانزلاق في هذا الزلل بأن أضيف إلى ذلك الوصف النثري فتنة أجمعت الأمم كلها على أنها من خصائص الكلام المنظوم؟ سيقول المعارضون إن شطرا ضئيلا جدا من لذة الشعر يجيء من الوزن، وإنه من الغفلة أن أكتب كلاما منظوما ما لم تصحبه زخارف الأسلوب الصناعية الأخرى التي تلازم النظم عادة، وإنني إذا عريت عبارتي عن ذلك التنميق حرمت قارئي مما يفعله الأسلوب في إثارة الخواطر حرمانا يرجح على كل متعة يهيئها له الوزن القوي، فإلى هؤلاء الذين ما يزالون يكافحون دفاعا عن ضرورة اقتران الوزن بضروب معينة من زخرفة الأسلوب حتى يكون له ما نرجو من أثر، والذين أراهم يبخسون جدا من قوة الوزن في ذاته، إلى هؤلاء ألاحظ - وحسبي فيما أظن هذه الملاحظة تبريرا لهذا الديوان - أن هنالك من القصائد ما يدور حول موضوعات أكثر من هذه تواضعا، وصيغت في أسلوب أشد من هذا الأسلوب بساطة وتجردا عن الزخرف، ومع ذلك فهي خالدة باقية، يستمتع بها الناس جيلا بعد جيل، فإذا كانت البساطة والتجرد عن التنميق عيبا، فإن هذه الحقيقة التي ذكرتها لتنهض دليلا أقوى دليل على أن قصائدي - وهي أقل بساطة من تلك القصائد المشار إليها وأقل منها تعريا عن وسائل التزويق - قادرة على إثارة اللذة في نفوس الناس في يومنا هذا. وإن ما أردته الآن قبل كل شيء هو أن أبرر ما كتبته متأثرا بهذا الرأي.
ولكني أستطيع أن أسوق أسبابا عدة تبين لماذا يحدث ، إن كان في الأسلوب قوة الرجولة وكان لموضوع القصيدة بعض الخطر، أن يظل الكلام المنظوم أمدا طويلا لذيذ الوقع في نفوس الناس فيستمتعون به استمتاعا يحقق ما علق عليه ناظموه من رجاء. إن الغرض من الشعر هو أن يؤثر في النفس أثرا يبقى ما بقيت نشوته، وإن كانت النشوة أرجح مقدارا من التأثر. وبديهي أنه إذا تأثر العقل كان في حالة شاذة لا تطرد، وفي هذه الحالة لا تتتابع الخواطر والمشاعر في إثر بعضها بالترتيب المعتاد، فإذا كانت العبارة التي أثرت في النفس قوية في ذاتها، أو ارتبط بالخيال والشعور مقدار من الألم لا تدعو إليه الحاجة، خيف أن تنساق النفس في تأثرها إلى أبعد مما يراد بها، فإذا قرنا عندئذ هذا التأثر بشيء معهود ألفه العقل في مختلف حالاته وحيث يكون أقل تأثرا، كان ذلك وسيلة ناجعة لقيد العاطفة والتخفيف من حدتها، وذلك لامتزاج الشعور الذي تعوده العقل بالشعور الجديد الذي لا يرتبط حتما بالعاطفة ارتباطا وثيقا؛ هذا حق لا مراء فيه؛ ولذا فلسنا نشك إلا قليلا في أن المواقف والعواطف التي تكون أحد شعورا؛ أي التي تكبر فيها نسبة الألم الذي تستدعيه، تكون أكثر استساغة في الشعر، والمقفى منه بنوع خاص، منها في النثر؛ وذلك لأن طبيعة الوزن تبعد اللغة إلى حد ما عن حقيقتها، فتبدو القصيدة لذلك في مجموعها وكأن فيها ما يحمل قارئيها بعض الشيء على أن يلمس فيها وجودا موهوما لا حقيقة له؛ تلك هي العلة رغم ما يبدو فيها من تناقض للوهلة الأولى. إن وزن الأغاني القديمة لم يكن نصيبه من الفن عظيما، ومع ذلك ففيها أسطر كثيرة تؤيد هذا الرأي. وإني لآمل أن يجد القارئ في هذه الأشعار التي أقدمها دليلا آخر على صدق رأيي، إن تلاها في عناية وتريث. وفضلا عن هذين الدليلين فأنا أؤيد الفكرة بدليل ثالث وهو أن أحتكم إلى تجربة القارئ نفسه فيما يلقاه من سأم حين يعيد قراءة الأجزاء الحزينة في
Clarissa Harlowe
أو
Gamester . بينما يستحيل أن تؤثر فينا المناظر التي صورها شيكسبير قوية العاطفة؛ بسبب ما فيها من عاطفة، أثرا أبعد مما نحسه في قراءتها من لذة، وهذا الأثر الممتع قد يرجع إلى مؤثرات ضئيلة ولكنها دائمة في نظام، هي مؤثرات المفاجأة اللذيذة التي يصادفها القارئ في وزن الكلام؛ تلك هي علة استمتاعنا وإن بدت علة غريبة عند النظرة الأولى. هذا ومن ناحية أخرى إذا لم تتكافأ عبارة الشاعر مع ما تحمل من عاطفة، ولم تفلح في أن ترفع القارئ إلى ما أريد له أن يعلو إليه من تأثر، فإن الشعور اللذيذ الذي تعود القارئ أن يقرنه بالوزن بصفة عامة، والشعور - مرحا كان أو حزينا - الذي تعود أن يقرنه إلى حركة الوزن في هذه القصيدة بصفة خاصة، هذان الشعوران سيؤثران أثرا عظيما (إلا إذا كان الشاعر قد أسرف في تجاوزه الحكمة عند اختياره لوزن القصيدة) في بث العاطفة في عبارة الشاعر، وفي أن ينتج الشعر ما قصد إليه الشاعر من غاية متشعبة النواحي.
لو كنت آليت على نفسي أن أكتب دفاعا شاملا عن المذهب الذي أؤيده في هذه المقدمة، لكان حتما علي أن أتناول بالتحليل مختلف الأسباب التي عنها تنشأ اللذة التي نتذوقها في تلاوة الشعر. وإننا لنذكر بين الرئيسي من هذه الأسباب مبدأ يعرفه جيد المعرفة أولئك الذين اختصوا فنا من الفنون، كائنا ما كان، بتفكير دقيق، وأعني به استمتاع العقل بإدراكه أوجه الشبه في أوجه الخلاف؛ هذا المبدأ هو المعين الأكبر لفاعلية العقل، كما أنه المورد الأساسي الذي يستمد منه العقل غذاءه؛ فها هنا في هذا المبدأ ينشأ اتجاه الشهوة الجنسية وكل ما يتصل بها من عواطف، وهو الذي ينفخ في أحاديثنا السائرة ما فيها من حياة. وعلى دقة إدراكنا لأوجه الشبه في أوجه الخلاف، أو لأوجه الخلاف في أوجه الشبه، يتوقف ذوقنا وشعورنا الأخلاقي، وقد يكون من المجدي أن أطبق هذا المبدأ على وزن الشعر، فأبين أن هذا هو الأساس الذي يمد الوزن بما يحمله إلينا من لذة عظمى، كما أبين على أي نحو تنشأ تلك اللذة، غير أن حدود المقدمة لا تأذن لي بالدخول في هذا الموضوع، فلأكتف من هذا بموجز عام.
لقد أشرت إلى أن الشعر فيض المشاعر القوية فيضا ذاتيا، وأنه ينبع من عاطفة نستذكرها في حالة الهدوء، فما تزال تلك العاطفة المستذكرة موضع التأمل، حتى يحدث شيء من رد الفعل فينمحي على أثره ما يشتملنا من هدوء، ثم تنشأ بالتدريج عاطفة أخرى قريبة الشبه بالعاطفة الأولى التي كانت موضعا للتفكير، فلا تلبث هذه العاطفة الثانية أن تملأ شعاب العقل. في مثل هذه الحالة الشعورية يبدأ إنشاء الشعر الصحيح، ثم يتصل الإنشاء في حالة شعورية شبيهة بتلك، ولكن العاطفة، أيا كانت نوعا ومقدارا، تثير ضروبا مختلفة من اللذة تختلف باختلاف أسبابها؛ فالعواطف - مهما تباينت - إذا وصفها العقل راضيا، استمد منها العقل بصفة إجمالية شعورا مرحا، فإذا كانت الطبيعة كما تراها من الحذر بحيث لا تسكب في نفس الشاعر عاطفة إلا إذا قرنتها بنشوة حتى يظل في غبطته، فواجب الشاعر أن يفيد بهذا الدرس الذي تلقنه إياه الطبيعة، وحتم عليه بنوع خاص أن يقرن دائما العواطف المختلفة التي يبثها في شعره لقارئه، بقسط وافر من اللذة إن كان عقل القارئ قويا سليما؛ فجرس الكلام المنظوم وموسيقاه، وإدراك ما لقيه الشاعر في نظمه من عسر، واللذة التي تقترن في أذهاننا اقترانا أعمى بالكلام الموزون المقفى لمجرد أننا قد استمتعنا بمثل تلك اللذة من قبل في عبارة تطابق هذه أو تماثلها وزنا وقافية، والإدراك الغامض الذي ما ينفك يتجدد، بلغة شديدة الشبه بلغة الحياة الواقعة ولكنها مع ذلك تباينها أشد التباين لما ينظم ألفاظها من وزن؛ كل هذه تحدث في نفس القارئ شعورا مركبا بغبطة تتسلل إليه من حيث لا يدري، وهي غبطة مفيدة جدا في تخفيف الألم الذي نحسه دائما في ثنايا الوصف القوي للعواطف العميقة. ويحدث هذا الأثر دائما إذا ما التهب الشعر بالعاطفة والشعور، أما في الشعر الخفيف فإن القارئ يستمد متعته بغير شك من سلاسة الوزن وتدفقه. وكل ما ينبغي أن أشير إليه في هذا الموضوع أن أذكر ما سينكره أفراد قليلون؛ ذلك أنه إذا كان ثمة وصفان لعاطفة أو لأخلاق أو لأشخاص، وكان كلا الوصفين جيد العبارة غير أن أحدهما نثر والثاني شعر، كان الشعر خليقا أن يتلى مائة مرة إذا قرئ النثر مرة واحدة.
أما وقد بسطت قليلا من الأسباب التي دفعتني إلى اصطناع الشعر فيما كتبت، والتي حدث بي أن أتخير موضوعاتي من الحياة العامة، وأن أحاول الدنو بعبارتي من لغة الناس الحقيقية، فإنني إذا كنت كذلك أسرفت في تفصيل الدفاع عن قضية هي قضيتي فلقد كنت كذلك أعالج موضوعا يهم الناس أجمعين؛ لهذا سأضيف كلمات قلائل، أشير بها إلى هذه القصائد المعينة وحدها، وإلى بعض ما يحتمل فيها من عيوب؛ فأنا أعلم أن ما طرقت من موضوعات لا بد أن يكون في بعض المواضع خاصا وكان يجب أن يكون عاما، وأنني نتيجة لذلك ربما أكون قد أخطأت في تقدير الأشياء فكتبت في بعض الموضوعات التي لم تكن جديرة بالكتابة فيها، ولكني لست أخشى هذا النقص بقدر ما أخشى أن أكون في عبارتي قد تعنت أحيانا في أن أربط مشاعر وأفكارا بألفاظ وعبارات معينة؛ فذلك عيب ما أحسب أحدا بمستطيع أن ينجو منه نجاة تامة. وإني لذلك لا أشك في أنني قد سقت لقرائي في بعض المواضع مشاعر تثير السخرية، في عبارة رقيقة مليئة بالعاطفة، ولكني لو كنت على يقين أن مثل هذه العبارات زائفة حقا وضرورة الشعر وحدها تحتم بقاءها رغم بطلانها، لارتضيت طائعا أن أحتمل كل ما أستطيع من عناء في سبيل تصحيحها، ولكن من الخطر أن أحدث هذا التحوير لمجرد أن أفرادا قلائل ليس لرأيهم في الموضوع وزن راجح، أو حتى لمجرد أن طبقة خاصة من الناس، تريد ذلك؛ لأنه إذا لم يقتنع عقل الكاتب، أو إذا أصاب مشاعره شيء من التحوير، كان في ذلك أذى جسيم لنفسه؛ لأن مشاعره هي قوامه ودعامته، فإذا أطرحها مرة جاز له أن يكرر هذا العمل، حتى يفقد عقله الثقة في نفسه، ويصيبه الفساد التام. وإني لأضيف إلى ما تقدم أنه ينبغي للناقد أن يذكر دائما أنه هو أيضا معرض لنفس الأخطاء التي يتعرض لها الشاعر، بل قد يكون أشد من الشاعر استهدافا للخطأ؛ إذ لا يجوز أن نفرض في معظم القراء ترجيح ألا يكونوا على أتم العلم بمراحل المعاني المختلفة التي اجتازتها الألفاظ، أو بما تتصف به الروابط التي تصل تلك المعاني بعضها ببعض من تقلب أو ثبات، كلا ولا يجوز بصفة خاصة أن نقول إنه ما دام القراء أقل منا شغفا بالموضوع، فسيقضون بحكمهم في الأمر في استخفاف وإهمال.
وما دمت قد وقفت بالقارئ هذه الوقفة الطويلة فأرجو أن يأذن لي في أن أحذره من نوع من النقد الباطل الذي يوجه إلى الشعر الذي صيغ في لغة شبيهة بلغة الحياة الواقعة. ولقد استطاع النقد أن ينتصر على مثل هذا الشعر حيثما صيغ فيه الجد بقالب الهزل، ولعل أقوى مثل لهذا النوع هذه الأسطر الآتية للدكتور جونسون:
وضعت قبعتي على رأسي،
ومشيت في ستراند،
5
فرأيت ثمة رجلا آخر،
قبعته في يده.
ولنعرض بعد هذه الأسطر مباشرة مقطوعة من أجدر الشعر بالإعجاب، وأعني بها مقطوعة «الأطفال في الغابة»:
هؤلاء الأيفاع الجميلون، متشابكة أيديهم،
أخذوا يطوفون في غدو ورواح،
ولكنهم لم يروا بعد إنسانا
يدنو إليهم من المدينة.
فأنت في هاتين المقطوعتين لا ترى الألفاظ وترتيبها يختلفان في شيء عن الحديث السائر غير المشبوب بالعاطفة، وترى في كلا المقطوعتين ألفاظا مثل «ستراند» و«المدينة» مما يرتبط في الذهن بأكثر الخواطر ابتذالا، ومع ذلك فلا يسعنا إزاء إحداهما إلا أن نبدي إعجابنا الشديد، وإزاء الأخرى إلا أن نعترف بأنها مثل واضح للشعر المزدرى، فمن أين جاء هذا الفرق بين المقطوعتين؟ إنه لم يجئ من الوزن ولا من العبارة ولا من ترتيب الألفاظ، ولكنه المعنى الذي عبر عنه الدكتور جونسون في مقطوعته هو الذي يتصف بالضعة. ولعل أقوم طريقة لنقد الأشعار التافهة الحقيرة، التي سقنا مقطوعة الدكتور جونسون مثلا لها، ليست أن نقول إن هذا نوع رديء من الشعر، أو أن نقول ليس هذا من الشعر في شيء، بل أن نقول إنه خلو من المعنى؛ فليس هو شعرا شائقا في حد ذاته، ولا هو يؤدي إلى شيء شائق؛ فالخيال في مثل هذا الشعر لا يستمد أصوله من المشاعر المبصرة التي تنشأ من التفكير، ولا هو يثير في القارئ تفكيرا أو شعورا؛ تلك هي الطريقة المعقولة الوحيدة لنقد مثل هذه الأشعار، فلماذا تجهد نفسك في مناقشة النوع قبل أن تقضي أولا برأي قاطع في الجنس؟ لماذا تكلف نفسك عناء البرهنة على أن القرد لا يضارع «نيوتن
Newton »، مع أنه بداهة ليس إنسانا؟
ولا بد أن أتقدم إلى قارئي برجاء واحد، وذلك أنه إذا حكم على هذه الأشعار فليحتكم إلى شعوره الخاص، دون أن يركن إلى التفكير فيما يحتمل أن يحكم به الآخرون، فما أكثر أن تسمع إنسانا يقول: أنا نفسي لا أمج هذا الأسلوب في الإنشاء، ولا أكره هذه العبارة أو تلك، ولكنه قد يبدو وضيعا سخيفا لهذه الطائفة من الناس أو لتلك! ويكاد هذا اللون من النقد الذي يهدم كل رأي سليم صادق يكون عاما بين الناس أجمعين، فليتشبث القارئ بشعوره هو غير متأثر بشعور سواه، فإذا أحس في نفسه استمتاعا بما يقرأ فلا ينبغي أن يسمح لهذه الأقاويل بأن تحول دون استمتاعه.
إذا استطاع كاتب في بعض ما يكتب أن يحملنا على الاعتراف بمواهبه، فخليق بنا أن نتخذ من هذا دليلا على أننا حين قرأنا لهذا الكاتب عينه ما صادف منا الإعراض فربما نكون قد أخطأنا التقدير ومن الجائز ألا يكون الكاتب هزيلا عابثا فيما كتب، بل إنه لواجب حتم إذا ما أعجبنا بالكاتب في بعض ما كتب أن نغلو في مدحه غلوا يحملنا على مراجعة النظر فيما لم يظفر منا بالإعجاب، فنعيد تلاوته في عناية أكبر. وليس هذا ما تقضي به العدالة فحسب، ولكن أحكامنا على الشعر بصفة خاصة قد تكون بعيدة الأثر في تهذيب أذواقنا؛ لأن الذوق الدقيق في الشعر، وفي سائر الفنون جميعا ، كما لاحظ «السير جوزوا رينولدز
Sir Joshua Reynolds » ملكة مكتسبة، تنشأ بالتفكير والاشتغال الطويل المتصل بأجود نماذج الإنشاء. ولست أذكر هذا لغرض سخيف بأن أمنع القاري الناشئ من الحكم لنفسه بنفسه (فقد أردت له فيما سبق أن يحكم لنفسه) ولكني أريد أن أحد من التهور في الحكم، وأن أشير إلى أنه إذا لم ينفق في دراسة الشعر وقت طويل فقد يكون حكمنا عليه باطلا، وأنه لهذا السبب يتحتم أن يكون حكم الناقدين باطلا في كثير من الأحوال.
وإني لعلى يقين أن آخر ما يدنيني من غايتي التي أقصد إليها هو أن أبين أي نوع من اللذة نصادفه، وكيف ينشأ، فيما نتلوه من أساليب الشعر التي تخالف أشد اختلاف هذه القصائد التي أحاول أن أقدمها الآن؛ إذ لا ريب في أن لتلك الأساليب لذة لا تنكر، فسيقول القارئ إنه قد استمتع فعلا بذلك الأسلوب وماذا تراه يرجو من الشعر غير هذا؟ إن قوة الفنون على اختلاف أنواعها محدودة، فإذا زعمنا للقارئ أننا إنما نقدم له صديقا جديدا بهذا الأسلوب الجديد خشي أن يكون ذلك على شرط أن ينبذ أليفة القديم؛ هذا فضلا عما أشرت إليه فيما سلف من أن القارئ قد أدرك بنفسه المتعة التي لقيها من الأسلوب القديم، ذلك الأسلوب الذي اختصه باسم الشعر وهو اسم ما أعزه على النفس، وإنه لمن طبيعة البشر جميعا أن يشعروا بواجب الثناء، وأن يدعوهم الشرف إلى الاستمساك بالأشياء التي لبثت أمد طويلا مصدرا لاستمتاعهم، فلا يريد الإنسان أن يستمتع فحسب، بل إنه ليميل أن يستمتع بطريقة معينة ألفها فيما مضى. ويكفي أن تكون هذه المشاعر كامنة في الناس لتدحض ما شئت من براهين؛ ولذا فما أحسبني موفقا في محاربتها؛ لأنني أود أن أقرر بأن القارئ لن يستمرئ الشعر الذي أقدمه له الآن على النحو المرجو إلا إذا اطرح كثيرا مما ألف أن يستمتع به، ولو كانت حدود هذه المقدمة تأذن لي أن أبين كيف تنشأ اللذة بقراءة الشعر إذن لأزلت كثيرا مما يعترض الطريق من عقبات ، ولعاونت القارئ أن يدرك أن قوى اللغة ليست من الضيق بحيث يتوهم، وأن في مقدور الشعر أن يهيئ متعا أخرى أصفى طبيعة وأدوم بقاء وأروع جلالا. نعم إني لم أهمل هذا الجانب من الموضوع إهمالا تاما، ولكني في الوقت نفسه لم أقصد إلى إقامة الدليل عليه بحيث أن أبين للقارئ أن اللذة التي تحدثها ضروب الشعر الأخرى ضئيلة وليست خليقة أن تستخدم من أجلها قوى العقل السامية؛ إذ لو بينت ذلك لكان ثمة ما يؤيدني إن زعمت أني لو حققت بهذه الأشعار أملي لأنشأت بها نوعا جديدا من الشعر، هو الشعر بأدق معناه، الشعر الذي أعد بطبيعته ليبعث في الإنسانية كلها سرورا لا ينقطع، والذي يعظم شأنه لما فيه من تعدد الروابط الخلقية وسموها.
إذا ألم القارئ بما قلته، وإذا قرأ هذه الأشعار، استطاع أن يتبين في وضوح ما أقصد إليه من غرض، وسيرى إلى أي حد قد دنوت من غايتي، كما أنه سيدرك ما هو أخطر من ذلك شأنا؛ إذ سيحقق لنفسه إن كانت غايتي جديرة بالسعي لها أم لم تكن، وسيتوقف على قراره في هاتين المسألتين حقي في المطالبة باستحسان الجمهور.
النقد الأدبي بين الذوق والعقل
1
من أمتع المطالعة كتاب تطالعه لكاتب بينك وبينه ما بين الصديقين من ود وإخاء؛ عندئذ تمثل حركاته أمام ناظريك، ونبراته في مسمعيك، فلا يكاد يخيل إليك أنك فيما تطالع إزاء كتاب منشور، بل يتمثل لك الصديق الكاتب مسامرا متحدثا، هادئا حينا غاضبا حينا، وخصوصا إن كان هذا الصديق الكاتب متحمسا لموضوعه، يكاد القلم يرتعش في يده من حرارة تحمسه، ويقذف أمام قارئه بالرأي متحديا حينا بعد حين، كأنما يقول له وعيناه حادتان وشفتاه مزمومتان: هذا رأيي أزعمه لك بعد درس طويل عميق، فماذا أنت قائل؟!
ذلك هو موقفي من كتاب «النقد المنهجي عند العرب» لصديقنا الكاتب الأديب الدكتور محمد مندور، وهو كتاب يتتبع فيه مؤلفه الفاضل حركة النقد الأدبي كما تتمثل في أعلامها من تاريخ الأدب العربي، فاتخذ «مركزا لهذا البحث الناقدين الكبيرين أبا القاسم الحسن بن بشر بن يحيى الآمدي، صاحب كتاب «الموازنة بين الطائيين»، والقاضي أبا الحسن علي بن عبد العزيز بن الحسن بن علي بن إسماعيل الجرجاني، صاحب كتاب «الوساطة بين المتنبي وخصومه»، ولكننا مع ذلك تتبعنا موضوع بحثنا منذ أول كتاب وصل إلينا في النقد وتاريخ الأدب وهو كتاب «طبقات الشعراء» الذي كتبه ابن سلام الجمحي في القرن الثالث الهجري، كما تتبعناه إلى أن تحول النقد إلى بلاغة على يدي أبي هلال العسكري مؤلف «سر الصناعتين» في القرن الخامس، بل وانحدرنا به قرنين آخرين حتى لاقينا ابن الأثير في «المثل السائر».»
ثم يقول المؤلف الفاضل: «وفي خلال هذه الرحلة الطويلة عرض لنا الكثير من أمهات المسائل التي لم يكن بد من إيضاحها لكي نتبين معالم الطريق وندرك تسلسل علوم اللغة العربية المختلفة وتاريخ نشأتها كالبلاغة والبديع والمعاني والبيان، كما عرضت جملة من النظريات العامة في الأدب، فضلا عن عدد كبير من المناقشات الموضعية في النقد التطبيقي فتناولنا كل ذلك بالغربلة والتمحيص.»
هذا مجمل البحث كما وصفه المؤلف في «تقديم» الكتاب، وقد استغرق الكتاب ثلاثمائة وثلاثا وأربعين صفحة من القطع الكبير، قسم فيها الكاتب موضوعه جزأين، أما أكبرهما فجزء يتعقب تاريخ النقد من ابن سلام إلى ابن الأثير، وأما أصغرهما فيتناول بالبحث موضوعات النقد ومقاييسه. ويقع أكبر الجزأين في سبعة فصول، فيحدثك المؤلف في الفصل الأول عن النقد الأدبي عند ابن سلام وابن قتيبة، وفي الفصل الثاني عن نشأة النقد المنهجي عند ابن المعتز وقدامة، وفي الفصل الثالث يحدثك الكاتب الأديب في براعة تستوقف النظر عن الآمدي في موازنته بين أبي تمام والبحتري، كما يحدث في الخامس والسادس عن القاضي الجرجاني ونقده المنهجي حول المتنبي، ثم يذكر لك في الفصل السابع كيف تحول النقد إلى بلاغة على يدي أبي هلال العسكري.
وأما أصغر الجزأين فيقع في ثلاثة فصول: في الأول بحث حول الموازنة بين الشعراء، وفي الثاني حديث عن السرقات الأدبية، وفي الثالث عرض لمقاييس النقد الأدبي. •••
كدت لا أقرأ صفحة من هذا كله دون أن أجد موضعا أعجب فيه بكاتبنا الأديب، أو موضعا أجادله فيه الرأي؛ فهو يرغمك إرغاما على الإعجاب به في مئات المواضع من كتابه، تارة بسداد فكرته، وطورا بجودة عرضه لفكرة سواه.
وعندي أن أظهر ما ظهرت فيه براعة المؤلف الفاضل هو عرضه لمذهب الآمدي في النقد الأدبي وفي طريقة دفاعه عنه، يقول: «إننا نستطيع أن نستخلص من أقواله روحه في الدراسة، فهي روح ناضجة، روح منهجية حذرة يقظة، وهو يتناول الخصومة كرجل بعيد عنها يريد أن يجمع عناصرها ويعرضها ويدرسها، فإن حكم قصر حكمه على الجزئيات التي ينظر فيها؛ فقد يكون البحتري أشعر في باب من أبواب الشعر أو معنى من معانيه، وقد يكون أبو تمام أشعر من ناحية أخرى. وأما إطلاق الحكم وتفضيل أحدهما على الآخر جملة فهذا ما يرفضه الآمدي» (ص77)، ثم انظر كيف يلخص استعراض الآمدي للمحاجة التي أدارها حول المفاضلة بين أبي تمام والبحتري، تلخيصا لا يستطيعه إلا رجل يستوعب ما يقرأ استيعابا يجعله جزءا منه، يقول في صفحة 299 وما بعدها:
يبدأ فيقرر أن أصحاب البحتري هم الميالون إلى الشعر المطبوع المتمسكون بعمود الشعر، بينما أصحاب أبي تمام هم أهل الصنعة وتوليد المعاني، وأما عن نفسه فهو يرفض أن يفضل أحدهما على الآخر تفضيلا مطلقا، وبفراغه من وصف طرفي الخصومة يورد مناظرتهم في إحدى عشرة نقطة نلخصها قبل أن نأخذ في مناقشتها، والذي يبدأ المناظرة هو صاحب أبي تمام يورد الحجة وصاحب البحتري يرد عليها: (1)
البحتري أخذ عن أبي تمام وتتلمذ له، ومن معانيه استقى، حتى قيل الطائي الأصغر والطائي الأكبر؛ واعترف البحتري نفسه بأن جيد أبي تمام خير من جيده، على كثرة جيد أبي تمام. - يرد صاحب البحتري بإيراد بدء تعارفهما، ويظهر أن البحتري كان إذ ذاك يقول الشعر الجيد، وإذن فهو لم ينتظر حتى يعلمه أبو تمام صناعة الشعر؛ وإذا كان البحتري قد استعار بعض معاني أبي تمام فهذا غير منكر لقرب بلديهما وكثرة ما كان يطرق سمع البحتري من شعر أبي تمام، ولهذا نظائره؛ فكثير أخذ عن جميل، ثم إن استواء شعر البحتري مزية يفضل بها أبا تمام الذي تفاوت شعره تفاوتا يقدح في صحة طبعه، وتفضيل البحتري لجيد أبي تمام على جيده هو، ليس إلا تواضعا يحمد عليه لا حجة تساق ضده. (2)
إن أبا تمام رأس مذهب عرف به، وهذه فضيلة عري عن مثلها البحتري. - لم يخترع أبو تمام شيئا، وإنما أسرف فيما سبق إليه من أوجه البديع، ورأس المذهب ليس أبا تمام بل مسلم بن الوليد، الذي قيل عنه إنه «أول من أفسد الشعر ...»
وهكذا يأخذ الدكتور مندور في تلخيص هذه المحاجة تلخيصا حيا واضحا حتى نهايتها.
قلت إن إعجابك بالمؤلف الفاضل يكون تارة لحسن عرضه لفكرة غيره، ويكون طورا لصواب رأيه وما يبديه من سلامة ذوق وحسن تذوق، فانظر مثلا كيف يوضح لك الكاتب الأديب في صفحة «5» فكرته بأن التاريخ الأدبي شيء يختلف كل الاختلاف عن النقد الأدبي، فيسوق لك هذا المثل: «يدرس النقد رثاء المهلهل لأخيه كليب والخنساء لصخر وابن الرومي لابنه والمتنبي لأخت سيف الدولة، كلا منهم منفردا ثم يأتي تاريخ الأدب فيؤرخ للمراثي عند العرب فيكون عمله تأريخا لفن أدبي. ويدرس النقد غزل جميل وكثير أو غزل العرجي وعمر ابن أبي ربيعة، ويأتي التاريخ الأدبي فيؤرخ للنسيب العذري أو لغزل اللذة الحسية، ويكون عمله تأريخا لتيار فني أخلاقي. وأخيرا يدرس النقد شعر مسلم بن الوليد وشعر أبي تمام أو شعر الحطيئة وشعر زهير، ثم يأتي التاريخ الأدبي فيؤرخ لتذوق الصناعة في الشعر أو تذوق الخيال الحسي، ويكون عمله تأريخا لعصر من عصور الذوق المختلفة.»
أو انظر إلى هذه الموازنات الكثيرة التي يبدي فيها كاتبنا الأديب رأيه فيدل على ذوق أدبي ممتاز، نسوق لك منها هذا المثل الذي يذكره في صفحة «66» موازنا بين بيت امرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا
لدى وكرها العناب والحشف البالي
وبيت بشار:
كأن مثار النقع فوق رءوسنا
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (ووجه المقارنة بين البيتين هو أنهما يشبهان شيئين بشيئين) فيقول الدكتور مندور: «لننظر في تشبيه امرئ القيس وتشبيه بشار لنرى كيف أن امرأ القيس لم يذهب بعيدا، وإنما طلب إلى حواسه المألوفة وإلى حياته الراهنة أن تأتيه بهذا الصادق القريب، تشبيه قلوب الطير التي افترستها العقاب بالعناب والحشف البالي، العناب للقلوب الرطبة والحشف للجافة، ثم ننظر في تشبيه بشار التمثيلي كما يقولون، فنراه يشبه النقع وقد انعقد فوق الرءوس والسيوف تضرب، بالليل تتهاوى كواكبه، وبشار لم ير الليل تتهاوى كواكبه ولا رآه حتى المبصرون، فهو تشبيه بعيد ليست له في النفس صورة ما؛ ونحن لا نكاد نتصور ليلا تسقط نجومه فيشبه ذلك معركة ترتفع فيها السيوف ثم تسقط مبرقة وسط النقع المثار. ولا كذلك تشبيه امرئ القيس.»
ولا ينفك أديبنا الفاضل ينثر أحكامه الأدبية الصادقة نثرا في أرجاء كتابه، وحسبنا من ذلك مثلان، فهو يذكر رأي ابن سلام القائل بأن المفاضلة بين الشعراء تكون على أساس كثرة الإنتاج، ثم يعقب على ذلك برأيه قائلا: «في ظننا أنه من الواضح أن الكم ليس مقياسا صحيحا لقيم الشعراء» (ص11).
ويعرض للمذاهب الأدبية التي تسود هذا العصر أو ذاك فتتحكم في الأدباء بقواعدها وأوضاعها، لكنه يسارع عندئذ إلى إثبات رأيه الصائب، فيقول: «... وعندما تقوم في الشعر مذاهب نظرية نرى دائما أنها لا تطغى إلا على الشعراء الغير الموهوبين (وكان الصواب أن يقول غير الموهوبين إذ لا تجوز أداة التعريف مع كلمة غير لأن غير نكرة بطبيعة معناها) فهي - أي المذاهب النظرية - «عكاز الأعمى» وأما الشاعر الأصيل فإن المذهب لا يمكن أن يكون عنده إلا مجرد اتجاه عام، فالرومانتيكية أو الكلاسيكية مثلا غير موجودتين بمبادئهما المحكمة إلا عند الضعفاء من الشعراء والأدباء، وأما كبارهم فقد صدر كل منهم عن طبعه هو ولم يكن للمذهب تأثير عليه إلا في التوجيه العام؛ لهذا نجد الكلاسيكية الشكلية عند براون أكثر مما نجدها عند راسين، وكذلك الأمر في الرومانتيكية فهي أوضح - كمذهب - عند بريزيه مثلا منها عند موسيه» (ص41). •••
ولو مضيت في ذكر المواضع التي استثارت إعجابي في هذا الكتاب، لما بلغت النهاية في حيز قليل، ولا بد لي الآن أن أجادله بعض رأيه.
وأول ما أجادله فيه هو هذا الرأي الذي أشفق منه على أوساط القراء أن يضلوا به ضلالا بعيدا، هذا الرأي الذي يجعل ل «الذوق» الشخصي الكلمة العليا في نقد الفنون؛ إننا يا سيدي الدكتور نعيش في بلد لا تضبطه القواعد ولا تلجمه القوانين، وما أكثر ما يصادفك الفتى لم يكد يشب عن طوقه، فيتغنى لك بشعر زميله في حجرة الدراسة، زاعما لك أنه من غر القصيد، فإذا ما أردت تأديبه فطالبته بالدليل أجابك أنه يطرب له وكفاه ذلك دليلا، ولست أذكر في هذا السياق عشرات من أساتذة الأدب عندنا تأدبا، فماذا لو طلع عليهم أديب نقادة مثل الدكتور محمد مندور برأي كهذا قد يتسرعون في فهمه فيساعدهم على فوضاهم في الأدب والنقد؟ وأقول: «يتسرعون في فهمه.» لأني ألاحظ أن أديبنا الفاضل قد تحفظ بعض الشيء، فاشترط أن يستند الذوق إلى أسباب (ص ب في التقديم)، ثم عاد فأكد لقارئه أن «النقد المنهجي لا يكون إلا لرجل نما تفكيره فاستطاع أن يخضع ذوقه لنظر العقل» (ص7).
لكني أصارح أديبنا بأنني لا أكاد أفهم عنه حين يشترط للذوق «أسبابا»، ولا حين يطالبنا بإخضاع الذوق ل «نظر العقل»، «الأسباب» و«النظر العقلي» لا يكونان إلا في التحليل الموضوعي. فأنت يا سيدي بين أمرين؛ إما أن يكون الحكم للذوق، وإما أن يكون للعقل بنظره وأسبابه، فأيهما تختار؟ إما أن تحتفظ لنفسك بهما معا فذلك منك بمثابة النظر إلى الجنة بعين وإلى النار بعين كما يقولون. نعم، من حقك أن تطالب الناقد بذوق أنتجه طول النظر في روائع الفن فتضمن له شيئا من سلامته وحسنه، دون أن تقع في تناقض القول؛ وذلك ما أخذ به الآمدي نفسه؛ وما ظفر منك بالتأييد حين عقبت على قوله بقولك: «ومن الواضح أنه في هذه الفقرة يريد أن يقرر الحقيقة الثابتة من أن النقد ملكة مستقلة لا بد من أن تدرب على تلك الصناعة ...» (ص93)، بل ذلك هو ما أثبته أنت في مستهل كتابك حين قلت في الصفحة الأولى منه: «أساس كل نقد هو الذوق الشخصي تدعمه ملكة تحصل في النفس بطول ممارسة الآثار الأدبية.»
على أننا إذا سلمنا بخلو هذا القول من التناقض، فلسنا نسلم بصوابه، ونعجب غاية العجب أن يقال للناقد: «تذوق الأدب تذوقك الطعام والشراب، ثم اكتب!» ماذا تكتب يا سيدي في تفضيل الكمثرى أو البرتقال، إذا أقمت المفاضلة على أساس الذوق وحده؟!
كلا، لسنا نرى هذا الرأي، و«نصر» على أن يقوم النقد على تدليل عقلي، نصر على أن يكون النقد «علما»، ولا نوافق الدكتور مندور في رأيه الذي أثبته في صفحة (2): «والنقد ليس علما ولا يمكن أن يكون علما، وإن وجب أن نأخذ فيه بروح العلم.» فها هنا كذلك ينظر إلى الجنة بعين وإلى النار بعين؛ فلست أدري يا سيدي ما العلم وما روحه؟!
تعريف العلم هو منهج البحث، ولست أعلم للعلم تعريفا غير هذا، فلتكن مادتك ما شئت لها أن تكون، لتكن أفلاك السماء أو أحجار الأرض، لتكن ماء أو هواء، لتكن ذهبا أو نحاسا، لتكن أدبا أو تاريخا، ف «هي علم» إذا اصطنعت في بحثها «منهجا»؛ ليس العلم «حقائق» بعينها، بل هو «ترتيب منهجي» لما شئت من حقائق، فإذا علمنا أن الدكتور مندور تحمل عناء كتابه ليبين للناس قواعد «النقد المنهجي» علمنا كذلك أنه أراد للنقد أن يكون علما - رضي أو كره - ولو جعلنا النقد منهجيا يا سيدي الدكتور - كما أردت له أنت أن يكون - إذن لجعلناه علما، وإذن لصددنا عنه رجالا أدعياء يستخفون حمله وإن حمله لثقيل.
وإنه لتعجبني في هذا الصدد عبارة ساقها الأستاذ المؤلف نقلا عن لنسون (ص6) تأييدا لرأيه، والواقع أنها أقرب إلى تأييد الرأي الذي أدعو إليه، في ختام العبارة المذكورة يطالبنا لنسون بعدم الخلط بين المعرفة والإحساس، وهو في ذلك مصيب؛ فلنا أن نتذوق القطعة الأدبية، لكن هذا التذوق لا يكون معرفة ؛ وبالتالي لا يجعل الناقد ناقدا، وإنما تبدأ عملية النقد الفني بعد أن تنتهي مرحلة التذوق، فالتذوق يأتي أولا، ثم يعقبه تحليل - إذا أمكن - للعناصر الموضوعية التي أثارت هذا التذوق، وهذا التحليل الموضوعي هو المعرفة، وهو النقد بأدق معناه، ولو وقفت عند مرحلة الذوق لما نطقت بكلمة واحدة، بل لما كنت شيئا على الإطلاق بالنسبة إلى سواك، وماذا عسى أن يقول لغيره المستدفئ بضوء الشمس في برد الشتاء؟!
وننتقل بعد ذلك إلى نقطة أخرى أريد أن أجادل فيها الكاتب أعنف الجدل، وهي هذا الرأي العجيب الذي يقوله في مواضع كثيرة وبصور مختلفة، من أن «الشعر لا يحتاج إلى معرفة كبيرة بالحياة ونظر فيها، بل ربما كان الجهل بها أكثر مواتاة له، وكثيرا ما يكون أجوده أشده سذاجة» (ص7)، وهو يكرر مثل هذا الرأي في صفحة 22 وفي صفحة 96. أية حياة تريد يا سيدي، هذه التي لا يحتاج الشعر إلى معرفة كبيرة بها؟ ما دمت لم تعمد إلى تحديد، فأنت بالطبع إنما تريد الكلمة على إطلاقها؛ فليس - في رأيك - بالشاعر حاجة إلى معرفة حياة أحد من الناس ولا إلى معرفة بأحاسيسه هو وخواطره؛ لأن هذه الأحاسيس وهذه الخواطر هي الجزء الأكبر من حياته، بل ليس بالشاعر حاجة إلى معرفة الحيوان والنبات من حيث هي أحياء، وسواء لديه أكانت هذه حية أو جامدة، فماذا تريده أن يكتب إذن؟ وبماذا تريده أن يتغنى؟ ثم ماذا تعني ب «السذاجة» التي هي في الشعر علامة على أجود الشعر؟ لو كنت تريد بها تعبيرا عن عواطف الحياة الريفية أو البدائية، فنحن نوافقك، لكنا نذكرك بما لا بد أنت عالم به، وهو أن الحياة الريفية حياة، والحياة البدائية حياة كذلك. أتعلم يا سيدي أن الشاعر الإنجليزي وردزورث لم يصدق في شعره «الساذج» إلا عن اطلاع واسع أغرى بعض المؤرخين أن يقول عنه إنه أوسع الناس اطلاعا في عصره؟ وها هنا أيضا أشفق مرة أخرى على أوساط القراء في بلدنا من مثل هذا الرأي؛ فمعظم «شعرائنا» إنما يلتمسون قرض «الشعر » لخلاء رءوسهم، فماذا لو طلع عليهم أديب نقادة مثل الدكتور محمد مندور فأوصاهم بالزيادة فيما هم فيه من جهل وخلاء؟
2
رد الدكتور محمد مندور
تفضل الدكتور زكي نجيب محمود بأن خص كتابي «النقد المنهجي عند العرب» بمقال ضاف عميق.
لقد أوضح الدكتور في مقاله موضوع الكتاب، وعرض لطائفة كبيرة من المسائل التي استوقفت نظره، بل تكرم فقال في أكثر من موضع إنها قد أثارت إعجابه، إما للفكرة التي تحتويها أو للروح التي ترقد تحتها أو للقدرة على صياغتها في لفظ واضح مركز.
على أن هذه الروح الكريمة التي أملت على الكاتب تقريظه، لم تمنعه - كما يقتضي الواجب وكما تقتضي الرسالة الجامعية التي ينهض بها في تنشئة الأجيال الصاعدة - نعم لم تمنعه هذه الروح الكريمة، ولا منعته صداقته للمؤلف من أن يتناول بالمناقشة الصارمة مسألتين تعتبران من أمهات المسائل التي عالجناها في كتابنا. وهاتان المسألتان هما: (1)
طبيعة النقد الأدبي ومنهجه ووجوب اعتماده على الذوق أو نهوضه كعلم موضوعي. (2)
الشعر وطبيعته وملكة إنتاجه من حيث حاجته إلى معرفة عميقة بالحياة أو استغناؤه عن تلك المعرفة.
ولما كانت هاتان المسألتان أمرهما قديم، وكانت قد قامت بيننا وبين عدد من الأدباء وأساتذة الأدب منذ سنوات مناقشات حادة حولهما، ولما كنا قد أحسسنا بأن العناصر المكونة لهما لا تزال مختلطة غير واضحة، فقد رأينا أن نعود إليهما وبخاصة وأنهما يدخلان في صميم الأدب ونقده وتوجيهه، ونحن الآن في مرحلة من تاريخ الحياة العقلية في مصر لا يمكن إلا أن تفيد من مثل تلك المناقشات التي قد تنقدح منها شرارة الصواب. •••
يقول الدكتور زكي نجيب محمود: إن ما نقول به من أن الذوق هو أساس النقد الأدبي فيه خطر بالغ على الشبان الدارسين للأدب أو المتعلقين به؛ وذلك لأنه يمد لهم في حبل الغرور، ويطلق لأهوائهم العنان، ويعفيهم من ضرورة الحذر في الأحكام وتحصيل المعرفة وقراءة عيون المؤلفات ... إلخ، قبل أن يتخذوا من أنفسهم فيصلا للحكم على الأدب والأدباء.
ونحن مع اعترافنا بصدق هذه الحقيقة التي لمسناها أحيانا كثيرة في قاعات التدريس بالجامعة، بل وفي الكتب والمجلات، نعم إننا مع تسليمنا بهذه الحقيقة لا نظن أن كتابنا عن «النقد المنهجي عند العرب» يمكن أن يدفع على أي نحو في هذا الاتجاه؛ وذلك لأن الذوق الذي ندعو إليه كما لاحظ الكاتب نفسه أبعد ما يكون عن نزوات الغرور التي يخشاها عند الشباب.
لقد حددنا نحن أنفسنا لهذا الذوق مجال عمله وأوضحنا مقوماته فقلنا إن الذوق الذي يعتد به هو الذوق المدرب المصقول بطول الممارسة لقراءة النصوص الأدبية وفهمها وتحليلها، ثم أضفنا أنه لا يكفي أن يكون هذا الذوق مدربا، بل يجب أن تبرره نظرات العقل القائمة على التفكير السليم والمعرفة الدقيقة، وذلك حتى يصبح الذوق وسيلة مشروعة من وسائل المعرفة التي تصح لدى الغير.
وأما أن الذوق في ذاته هو أساس كل نقد أدبي صحيح فتلك حقيقة واقعة، بل هي ضرورة إنسانية. ولما كان إنكار الواقع لا يمحوه، وكانت مقاومة الضرورات الإنسانية لا تجدي فتيلا، فإنه من الخير للأدب وناقديه أن نسلم بعظم الدور الذي يلعبه هذا الذوق في نشاطنا الأدبي.
ولأكبر نقاد فرنسا في العصر الحاضر الأستاذ لانسون مقال عن المنهج في الأدب ترجمناه إلى اللغة العربية ونشرته دار العلم للملايين ببيروت في كتاب صغير بعنوان «منهج البحث في الأدب واللغة» وقد ضم هذا الكتاب بين دفتيه مقال الأستاذ لانسون المشار إليه، ثم مقالا آخر للعالم العالمي المشهور الأستاذ مييه عن منهج البحث في اللغة، وكم كنت أود لو اطلع الدكتور زكي على بضع صفحات من مقال الأستاذ لانسون عالج فيها المشكلة التي نتعرض لها اليوم، فأوضح من معالمها وألقى عليها من الضوء ما كان خليقا بأن يغني الدكتور زكي عن كثير من الشكوك والمخاوف التي تساوره عن النقد والعلم.
وفي الحق أن الدكتور زكي قد أخذ الحقائق الأدبية والفلسفية، بل والحقائق الإنسانية العامة على نحو مسرف في التبسيط. وآية ذلك أنه بالرغم من القيود والتحفظات التي وضعناها للذوق عندما يعمل في الأدب، نعم بالرغم من كافة تلك القيود والتحفظات، عاد الدكتور الفاضل إلى مناقشة في الأسس لا نراها تستند إلى شيء ثابت من الحقائق المعقدة التي يزخر بها الأدب من جهة والحياة الإنسانية من جهة أخرى.
عاد الدكتور الفاضل فتساءل عن كيفية تعليل الذوق بأسباب وكيفية إخضاعه لنظر العقل ورأى تناقضا في الجمع بينهما.
ومع ذلك فإننا نحب أن يتدبر دكتورنا الفقرات الآتية من منهج الأستاذ لانسون.
قال ذلك الناقد العظيم: «إذا كان النص الأدبي يختلف عن الوثيقة التاريخية بما يثير لدينا من استجابات فنية وعاطفية، فإنه يكون من الغرابة والتناقض أن ندل على هذا الفارق في تعريف الأدب، ثم لا نحسب له حسابا في المنهج. لن نعرف قط نبيذا بتحليله تحليلا كيمياويا أو بتقرير الخبراء دون أن نذوقه بأنفسنا، وكذلك الأمر في الأدب؛ فلا يمكن أن يحل شيء محل «التذوق». وإذا كان من النافع لمؤرخ الفن أن يقف أمام لوحات زيتية مثل «يوم الحساب» أو «حلقة الليل» وإذا لم يكن ثمة وصف في قائمة متحف أو تحليل فني يستطيع أن يحل محل إحساس العين، فكذلك نحن لا نستطيع أن نتطلع إلى تعريف أو تقدير لصفات مؤلف أدبي أو قوته ما لم نعرض أنفسنا أولا لتأثيره تعريضا مباشرا، تعريضا ساذجا.»
ثم يضيف: «وإذا كانت أولى قواعد المنهج العلمي هي إخضاع نفوسنا لموضوع دراستنا لكي ننظم وسائل المعرفة وفقا لطبيعة الشيء الذي نريد معرفته، فإننا نكون أكثر تمشيا مع الروح العلمية بإقرارنا بوجود التأثرية في دراستنا وتنظيم الدور الذي تلعبه فيها؛ وذلك لأنه لما كان إنكار الحقيقة الواقعة لا يمحوها، فإن هذا العنصر الشخصي الذي نحاول تنحيته سيتسلل في خبث إلى أعمالنا ويعمل غير خاضع لقاعدة. وما دامت التأثرية هي «المنهج الوحيد» الذي يمكننا من الإحساس بقوة المؤلفات وجمالها فلنستخدمه في ذلك صراحة، ولكن لنقصره على ذلك في عزم ولنعرف مع احتفاظنا كيف نميزه ونقدره ونراجعه ونحده، وهذه هي الشروط الأربعة لاستخدامه. ومرجع الكل هو عدم الخلط بين المعرفة والإحساس واصطناع الحذر حتى يصبح الإحساس وسيلة مشروعة للمعرفة.»
وإذن فأولى عمليات النقد هي التذوق، والتأثرية هي المنهج الوحيد الذي يمكننا من الإحساس بقوة المؤلفات وجمالها، والقول بغير ذلك لا نظنه يستقيم في بداهة العقول.
وأما أن الذوق يجب بعد ذلك إخضاعه لنظر العقل من جهة وتعليله من جهة أخرى، فذلك ما لا تناقض فيه، وها هو ناقدنا العظيم لانسون يطالب بأن «نميز» و«نقدر» و«نراجع» و«نحد» الذوق حتى يصبح وسيلة مشروعة للمعرفة. وما نخال دكتورنا الفيلسوف زكي نجيب محمود إلا مقرا بأن هذه العمليات من اختصاص العقل، مما يقطع بأننا لا نتناقض عندما ندعو إلى إخضاع الذوق ل «نظر العقل».
والواقع أننا عندما نقرأ نصا أدبيا «لا تكون استجابتنا الفنية في العادة تامة النقاء؛ إذ إن ما نسميه ذوقا ليس إلا مزيجا من المشاعر والعادات والأهواء التي تساهم فيها كل عناصر شخصيتنا المعنوية بشيء، ومن ثم يدخل في تأثراتنا الأدبية شيء من أخلاقنا ومعتقداتنا وشهواتنا.»
وإذن فالمجال واسع لإخضاع الذوق لنظر العقل؛ وذلك لأن الذوق - كما يقول لانسون - لا يقوم على الحاسة الفنية فحسب، بل تداخله كل تلك العناصر النفسية والأخلاقية والاجتماعية التي يشير إليها في الفقرة السابقة.
وإذا لم يكن هناك تناقض بين إعمال الذوق في الأدب وإخضاعه لنظر العقل، فكم يرتفع من باب أولى ذلك التناقض العجيب الذي زعمه الدكتور زكي بين الذوق وتعليله! أظن أن الأمر لا يحتاج إلى جدل؛ فباستطاعة كل منا - بحسب قدرته على الاستبطان واتساع أو ضيق أفقه ومعرفته - أن يذكر أسباب إعجابه بهذا البيت من الشعر أو ذاك دون أن يكون هناك تناقض بين الإعجاب وأسبابه، وإذا بقي بعد ذلك شيء - ولا بد أن يبقى ذلك الشيء - لا يمكن تعليله فهذا هو سر العبقرية عند الشاعر، وهذا هو ما يعبر عنه لانسون بقوله: «نحن لا نعرف قط كل العناصر التي تدخل في تكوين العبقرية، ولا نسبة كل عنصر في المركب، كما لا نستطيع أن نتنبأ بالناتج الذي سيصدر عن ذلك التركيب.» وما عبر عنه أيضا من قبل إسحق الموصلي بقوله: «إن من الأشياء أشياء تحيط بها المعرفة ، ولا تؤديها الصفة.» إذ معنى المعرفة هنا هو «الاستبطان»
Intuition
و«الصفة» معناها «التعبير بالألفاظ».
وننتقل بعد ذلك إلى ما يراه الدكتور زكي ويصر عليه - كما يقول - من وجوب قيام النقد كعلم ورده لقولنا «إن النقد ليس علما ولا يمكن أن يكون علما، وإن وجب أن نأخذ فيه بروح العلم.»
لقد تساءل الدكتور الفاضل تعليقا على جملتنا السابقة تساؤلا لاذعا فقال: «لست أدري يا سيدي ما العلم وما روحه؟» ثم سارع فرد على تساؤله، فعرف العلم بأنه «منهج البحث» مضيفا قوله: «ولست أعلم للعلم تعريفا غير هذا.» وفي هذا ما يدهش؛ لأن الدكتور الفيلسوف لا بد قد طالع عدة تعريفات للعلم، ولست أدري أين طالع تعريف «العلم» بأنه «منهج البحث» أو «ترتيب منهجي للحقائق» - نعم لست أدري أين طالع هذا «التعريف الوحيد!» وذلك لأن الذي يعرفه الجميع تعريفا للعلم هو «أنه مجموعة من القوانين التي تفسر الظواهر الطبيعية» ووظيفته هي استنباط تلك القوانين - وأما أن للعلم منهجا ولكل علم خاص منهج فتلك مسألة لا يعرف بها العلم.
ولقد زادني دهشة تساؤل الدكتور الفيلسوف عن الفرق بين العلم وروحه؛ وذلك لأن هذا الفرق أيضا من البديهيات.
يقول فردريك رو - الفيلسوف الأخلاقي المعروف - في صدد العلم والأخذ به في الدراسات الأخلاقية ما يأتي: «الشي الذي يجب أن نأخذه عن العلم، ليس هذه الوسيلة أو تلك ... بل روحه ... وذلك لأنه يلوح لنا أن ليس هناك علم عام أو منهج عام، وإنما هناك منحى علمي عام ... لقد خلط الناس لزمن طويل بين الروح العلمية في ذاتها وبين منهج هذا العلم أو ذاك، بسبب النتائج الدقيقة التي انتهى إليها ذلك المنهج، وبذلك أصبحت وحدة العلوم الطبيعية والعلوم الأخلاقية ليست إلا فرضا أوليا
، ومع ذلك فهناك منحى نفسي نواجه به الطبيعة وهو منحى مشترك بين العلماء.»
ويفسر لانسون هذه العبارات ويطبقها على الأدب ونقده فيقول: «(منحى نفسي نواجه به الطبيعة) هذا هو ما نستطيع أن نأخذه عن العلماء فننقل إلينا النزوع إلى استطلاع المعرفة والأمانة العقلية القاسية والصبر الدءوب والخضوع للواقع والاستعصاء على التصديق، تصديقنا لأنفسنا وتصديقنا للغير، ثم الحاجة المستمرة إلى النقد والمراجعة والتحقيق.»
وإذن فهناك شيء اسمه «العلم» وهناك شيء اسمه «روح العلم» وروح العلم هي تلك الصفات العقلية والأخلاقية الرفيعة التي عددها لانسون في الفقرة السابقة.
وأما أن يكون النقد علما وأما إصرار الدكتور زكي على ذلك فقد أغناني لانسون أيضا عن الرد عليه عندما قال: «لقد كان تقدم علوم الطبيعة خلال القرن التاسع عشر سببا في محاولة استخدام مناهجها في التاريخ الأدبي غير مرة؛ وذلك أملا في إكسابه ثبات المعرفة العلمية وتجنيبه ما في تأثرات الذوق من تحكم وما في الأحكام الاعتقادية من مسلمات غير مؤيدة، ولكن التجربة قد حكمت بإخفاق تلك المحاولات.» ثم يضرب لذلك أمثلة بما حاوله نين وبرنتيير في فرنسا.
ويضيف ذلك الناقد العظيم: «استخدام المعادلات العلمية في أعمالنا بعيد عن أن يزيد من قيمتها العلمية. إنه على العكس ينقص منها؛ إذ إن تلك المعادلات ليست في الحقيقة إلا سرابا باطلا عندما تعبر في دقة حاسمة عن معارف غير دقيقة بطبيعتها؛ ومن ثم تفسدها ... لنحذر الأرقام. الرقم لا يمحو الفضفاض والعائم في تأثرنا بل يستره ... الاصطلاح العلمي عندما ننقله عندنا لا يلقي غير ضوء كاذب، بل قد يحدث أن يلقي ظلمة ... إلخ إلخ.»
ونحن في الحق لا ندري ماذا يقصد الدكتور زكي بأن يكون النقد «علما»، فإذا كان ما يقصد إليه هو قيام النقد على منهج فذلك ما نقره عليه، وقد كتبنا كتابنا كله على هذا الأساس. وإذا كان يقصد الأخذ بروح العلم في النقد الأدبي فذلك أيضا ما نقره، بل ندعو إليه. وأما إذا كان يقصد محاولات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين عندما جاهد رجل كتين مثلا في أن يفسر الأدب والأدباء بالزمان والجنس والبيئة، ولا يترك لأسرار العبقرية الفردية شيئا، أو رجل كبرونتيير عندما أخذ يطبق التطور على الأدب وتسلسل أنواعه في تكلف سقيم. نعم إذا كان يقصد دكتورنا أمثال تلك المحاولات فذلك ما نأباه ونصر فيه على إبائنا هذا؛ لأنه خطأ جسيم، ولا فائدة من العودة إلى تجارب قطع الزمن بفشلها.
وأمعن في الخطأ والتكلف من كل هذا تلك المحاولات التي نشاهدها أحيانا في مصر بنوع خاص عندما نرى جهودا تبذل لإقحام الفلسفة باصطلاحاتها المعروفة في علم النفس أو علم الاجتماع أو غيرهما على الأدب إقحاما لا معنى له غير الإفلاس الأدبي والعقم في الإحساس المباشر وفي الحاسة الفنية التي لا يمكن أن يغني عنها شيء في إدراك المفارقات الدقيقة التي يتميز بها الأدب والأدباء.
3
رد على رد
عجيبة هذه المصادفات ...
لم أكد أفرغ من كتاب «النقد المنهجي عند العرب» للدكتور محمد مندور، وأسجل رأيي في بعض ما جاء فيه - وهو رأي عارضه الدكتور مندور - أقول إنني لم أكد أفرغ من ذلك الكتاب، حتى طالعت كتابا آخر لأديب آخر، ليس بين موضوعه وموضوع الكتاب السابق من أواصر القربى إلا ما يذهب إليه الأديبان من أن النقد الأدبي مرده إلى الذوق. وأما هذا الكتاب الجديد الذي أعنيه، فهو «على هامش الأدب والنقد» للكاتب الأديب المطلع الذواقة الأستاذ علي أدهم.
وكم كنت أحب أن أستعرض هذا الكتاب للقارئ، وأن أقدم له قبسات منه تظهره على ما فيه من غزارة مادة وجمال صورة؛ ففيه خمس وعشرون مقالة أضيفت إليها مقدمة، كل مقالة منها - أستغفر الله - بل كل صفحة من صفحاتها، وأستغفر الحق، بل كل فقرة من كل صفحة، تضيف إلى علمك علما جديدا.
نعم، كم كنت أحب أن أستعرض هذا الكتاب للقارئ، لولا أني آثرت شيئا آخر لنفسي ولقارئي معا، وهو أن أجادل أديبنا الكاتب رأيه في اعتماد النقد الأدبي على الذوق، في كلمة أوجهها كذلك إلى الدكتور مندور وإلى كل من يأخذ بهذا الرأي في أساس النقد. أريد أن أبسط رأيي في شيء من التفصيل، لأبين للقارئ ما أذهب إليه وأدين به، من وجوب اعتماد النقد الأدبي على العقل دون الذوق ... •••
يا ويح نفسي من هذه الألفاظ تلوكها الأفواه، ويشتد حولها الجدال والقتال، دون أن يتمهل المجادلون المقاتلون لحظة واحدة يتبينون فيها معاني هذه الألفاظ التي شمروا عليها السواعد وأرهفوا الألسنة وشرعوا السيوف! يرحمك الله يا سقراط رحمة واسعة، إنك لم تطلب إلى الناس إلا هذا المطلب المتواضع، تحديد الألفاظ التي يستخدمونها في أحاديثهم ونقاشهم، ولو قد فعلوا، لاستراحت ضمائرهم، واطمأنت أفئدتهم في صدورهم.
إن موضوع الخلاف بيني وبين الأديبين الكبيرين هو أنهما يريدان للنقد الأدبي أن يعتمد على الذوق، وأريد أن يعتمد على العقل، بعبارة أخرى، هما يريدان للنقد الأدبي أن يكون فنا، وأريد له أن يكون علما. انظر - نشدتك الله - إلى هذه الكلمات التي حشرناها حشرا في سطر واحد، ولو تناولنا واحدة منها بالتحليل والتحديد، لجاز أن ننفق أعمارنا دون أن نبلغ المدى! «فن»، «علم»، «ذوق»، «عقل».
ما معاني هذه الكلمات الأربع على وجه التحديد؟ ألا يجوز أن ينحسم الخلاف إذا ما اتضحت لنا تلك المعاني؟ ذلك ما أنا فاعله الآن، غير زاعم أني أقول الكلمة الأخيرة في شيء، وكل ما أدعيه هو أني حين أقول إنني أريد للنقد الأدبي أن يعتمد على العقل دون الذوق، فإنما أقول ذلك وفي ذهني ما سأثبته الآن من معان لهذه الألفاظ. •••
ماذا أفهمه من كلمة «فن»؟
أنا الآن جالس إلى منضدة صغيرة أكتب هذا المقال، فخانت مني التفاتة من نافذة صغيرة إلى يساري، ورأيت غرابا يرف بجناحيه، نعق نعقتين كان في صوتهما تهدج، ثم هبط على غصن من شجرة لا أعرف نوعها، ولعله هبط على مكان من الغصن أوراقه متهافتة، فسقطت ورقة تأرجحت في الهواء، وهوت إلى الأرض هويا بطيئا.
هذه صورة مركبة من جملة عناصر، نكتفي الآن منها بثلاثة؛ أنا، والغراب، والشجرة (لأنك تستطيع أن تضيف عشرات العناصر الأخرى مما أراه وأسمعه وأحسه بجلدي وأفكر فيه في هذه اللحظة عينها).
أما أنا، فبديهي أنني كنت في هذه اللحظة من لحظات حياتي في حالة معينة فذة فريدة، لم يسبقها قط منذ ولادتي، ولن يلحقها قط إلى مماتي لحظة أخرى تطابقها كل التطابق من جميع الوجوه، فلا يعقل أن يتكرر موقفي إذ ذاك بما فيه مما يحيط بي من أشياء وملابس، وما أرى، وما أسمع، وما يدور في نفسي من خواطر، وأقل ما يقال في هذا الموقف الفريد الفذ، هو أنني كنت قبل الآن أصغر مني الآن، وسأكون بعد الآن أكبر مني الآن.
وأما ما رأيته من الغراب فبقعة سوداء، تحركت حركة معينة ثم سكنت في مكان معين، على هيئة معينة، بقعة سوداء! لكن السواد يا صاحبي له ظلال تعد بالألوف، فأي ظل من هذه الظلال رأيت؟ والبقعة السوداء تحركت! الحركة كذلك يا صاحبي لها ألوف الألوف من الصور، فبأي منها تحركت تلك البقعة السوداء؟! ثم سكنت البقعة السوداء في مكان معين! حتى السكون يا صاحبي صنوف وأشكال، فليس سكون النائم مثل سكون الميت، وليس سكون الصخرة ملقاة على سفح الجبل كسكون غرابك هذا على الفنن، وقل مثل هذا فيما سمعت من الغراب، سمعته ينعق نعقتين في صوتهما تهدج، كم درجة من الصوت سمعت أذناك؟ وفي أية درجة من الدرجات أردت أن أضع نعيق الغراب؟ الحق أن ما رأيت من الغراب وما سمعت مركب فريد من عناصر اجتمعت على نحو يستحيل أن يكون له ما يماثله مماثلة تامة في كل ما رأيت وما سأرى من الغربان.
وما قلته في نفسي وفي الغراب، أستطيع أن أقوله في الشجرة والورقة التي سقطت منها وهوت إلى الأرض، ثم يزيد الأمر كله في درجة التركيب والتعقيد حين نضيف هذه الأشياء الثلاثة بعضها إلى بعض في صورة واحدة، هي صورة فذة فريدة - كما أسلفت - لم تعرف، ولن تعرف الحياة لها مثيلا آخر، بكل ما في التماثل من دقة وتطابق.
وكأني ألمح في قارئي علائم الدهشة من هذه المبالغة في قولي، ولكن ليس في الأمر يا صاحبي غرابة ولا عجب! هكذا الحياة في شتى صورها، الحياة لا تعرف تكرار الأفراد. كل كائن حي - والكائنات الحية ملايين الملايين - فيه ما يجعله فردا بذاته يختلف ولو قليلا عما عداه، خذ ورقة من شجرة، ودر بها الأرض من قطبها إلى قطبها، فلن تجد لها مثيلا بمعنى التماثل الذي تنتفي فيه كل الفروق المميزة انتفاء تاما. وانظر إلى ألوف الناس من حولك، هل رأيت قط فردين يتشابهان إلى الحد الذي تنمحي فيه المميزات جميعا؟ لا، بل الاختلاف بين الأفراد أدق من هذا وألطف، فبصمات الأصابع لا تتشابه في الأفراد، ودع عنك دقائق الجسم الباطنية من حيث الشكل والحجم والتركيب.
هكذا الحياة يا صاحبي في شتى صورها، فلا موضع لغرابة منك أو عجب، الحياة لا تعرف تكرار الأفراد، بل لا تعرف تكرار اللحظات في الفرد الواحد، فيستحيل أن يكون الكائن الحي في هذه اللحظة هو بعينه ما كان في لحظة مضت، وهو بعينه ما سيكون في لحظة تالية.
والفن كما يقولون تصوير للحياة! مقياس الفن، بل معنى «الفن» هو التقاط موقف فرد مما يعج به العالم من حولنا. لو قلت كلاما يصور حقيقة عامة تنطبق على هذا وذلك فقولك بعيد عن الفن الرفيع، ومن هنا كانت ثورتي النفسية، وكان غيظي الشديد، كلما قرأت لكاتب من كتابنا يقول عن هذا الشاعر أو ذاك من أسلافنا إنه شاعر لحكمته، أو لصدق حكمه أو ما إلى ذلك. الحكمة يا سيدي القارئ والحكم الصادق أدخل في باب العلم لأنها تعمم القول ولا تخصصه في تصوير موقف فريد، وإلا فخبرني - أثابك الله - ما الفرق بين شاعرهم حين يقول: «والظلم من شيم النفوس»، وبين عالم الطبيعة حين يقول: «التمدد بالحرارة من شيم الحديد»، و«الغليان من صفات الماء»، كلاهما يعمم الحكم، وإذن فكلاهما عالم وليس بأديب، ولا يكون ذلك الشاعر شاعرا إلا إذا صور حالة جزئية فريدة من حالات الظلم، أو صور ظالما معينا يتجسد الظلم في أعماله.
إننا نقول إن شيكسبير كان شاعرا فنانا حين كتب مسرحيته عن كليوباتره، وشوقي لم يكن شيئا حين كتب؛ لأن الأول قد استطاع بقوة فنه أن يجمع عناصر جزئية بعضها إلى بعض بحيث تتكون صورة فذة فريدة لشخصية تجعلها كهؤلاء الأشخاص الذي تراهم حولك أحياء، وأما الثاني فربما حاول ذلك ولم يوفق، ونجعل كتاب «الأيام»، للدكتور طه حسين خير كتبه جميعا لما فيه من تصوير لطفولة واحدة فريدة لا تجتمع عناصرها إلا مرة واحدة، ونجعل «سارة» خير ما أنتجه الأستاذ العقاد لإبرازه فيه شخصية واحدة كذلك، ونرجح للدكتور أحمد أمين أن يخلد في دولة الأدب بكتاب «حياتي» أو كتاب «زعماء الإصلاح» أكثر من أي كتاب آخر؛ لأنه وفق فيهما إلى هذه الفردية التي ينشدها الفن، حين رسم صورة نفسه أو صورة هؤلاء الزعماء.
لو أحسنت لجعلت مقياسك في الحكم دائما على القطعة الفنية كائنة ما كانت هو هذا، إلى أي حد أخرج الأديب أو الفنان مركبا من عناصر الحياة يستحيل أن يقع إلا مرة واحدة؟ إن تغزل حبيب في حبيبته ولم تلمح في عبارته ما يفرد حبه عن حب سائر الناس، بل لم تلمح فيه ما يفرد تلك اللحظة الواحدة من حياته الغرامية عن سائر لحظات حياته الغرامية أيضا، فاعلم أنه شاعر زائف لا يصدر عن شعور صحيح؛ لأن شعوره الصادق الصحيح في تلك اللحظة إزاء حبيبته شيء فريد لم يتكرر، ولن يتكرر له مثيل إلى أبد الآبدين.
وقد قلت هذا الكلام يوما لأستاذ يحاضر في الأدب، فضحك مني ساخرا وقال: إنك تجعل الأدب أضيق من سم الخياط، وأنا الآن أرد عليه بقولي إنه فعلا كما وصف، وإلا فليحدثني لماذا يزخر كل جيل من الناس في البلد الواحد بآلاف «الأدباء» و«الشعراء» ثم لا يبقي الزمان من هؤلاء إلا أديبا واحدا أو شاعرا واحدا من كل عدة أجيال؟ ذلك لو نظرنا إلى العالم كله جملة، ولم نقصر نظرنا على قطر بعينه؛ لأننا قد نحصر النظر - يا سيدي الأستاذ - في قطر واحد، ولا أقول ما هو، قد نحصر النظر الصارم الصادق في هذا القطر الواحد فلا نراه قد أنجب أديبا واحدا ولا شاعرا واحدا في طول الزمان من مولده، ولن أقول إلى منتهاه! •••
حسبي هذا في تحديد الفن - ومنه الأدب بالطبع - لأسأل نفسي: وماذا تريد بكلمة «العلم»؟
العلم - كما قلت في كلمتي للدكتور مندور عند التعليق على كتابه - هو منهج لا موضوع، فقد يختلف الموضوع عند مختلف العلماء، فيكون النبات عند هذا وطبقات الأرض عند ذاك، قد يكون الموضوع هو أجرام السماء عند عالم وماء البحر عند آخر، قد ينفق أحد العلماء عمره في حشرة يدرسها، وقد ينصرف عالم آخر يجهده كله إلى إشعاع الراديوم، وكل هؤلاء علماء! لماذا؟ لأنهم جميعا يصطنعون منهجا معينا في فرض الفروض وتحقيقها. وليس هنا مجال التفصيل في ذلك.
ولكن الدكتور مندور لم يعجبه منا هذا القول، فأنكره، قائلا: «إن الذي يعرفه الجميع تعريفا للعلم هو أنه «مجموعة من القوانين التي تفسر الظواهر الطبيعية» ...» وقد كنت أحب يستثنيني على الأقل من هؤلاء الجميع، لأن «القوانين التي تفسر الظواهر الطبيعية» تتغير وتتبدل في مختلف العصور، قد يقول هذا بقانون ما، يفسر به ظاهرة طبيعية، وقد يقول غير ذلك من زملائه المعاصرين - ودع عنك من سبقوه ومن سيلحقون به - قد يأخذ زميل له بقانون آخر يفسر به الظاهرة عينها، ومع ذلك فكلاهما عندنا عالم إذا اتبع منهاج العلم الصحيح، بغض النظر عن القوانين التي وصل إليها هذا أو ذاك. ولو كانت العبرة في تعريف العلم بالقوانين التي تفسر الظواهر الطبيعية، للزم أن تخرج من قائمة العلماء كل من لم تثبت قوانينه التي وصل إليها ثبوتا يدوم على مر الزمن، وبعبارة أخرى، لزم أن تمحو كل العلماء من قائمة العلماء!
ولو كان العلم منهاجا - لا موضوعا معينا - كما نعتقد، لما كان مستحيلا أن ينصب هذا المنهاج على الآثار الأدبية فيصبح النقد علما. وسنعود إلى تفصيل ذلك.
أقول إن المجال لا يسمح بذكر تفصيلات المنهج الذي يجعل العلم علما، لكني أذكر من خصائص هذا المنهج خصيصة لا بد من ذكرها في سياق هذا الحديث، ليتكامل الرأي الذي ندافع عنه:
من أخص خصائص المنهج العلمي أن يسقط ما هو خاص من جوانب الموضوع الذي يبحثه، فلا يستبقي إلا ما هو عام بين الناس، ومن هنا يتضح الفرق بين الفن والعلم؛ فبينما الفن - كما قلنا - يلتقط من الموضوع تلك العناصر التي تجعله فردا فريدا لا يتكرر في أشباه، نرى العلم يستبعد هذه الجوانب الخاصة من موضوعه ليحصر نظره في العام المشترك؛ فمثلا، إن طالعتنا بأوصاف تتجمع في أذهاننا فتتكون منها صورة فريدة لشخص معين كما فعل شيكسبير مثلا في تصوير هاملت أو الملك لير أو غيرهما من عشرات الأشخاص الذين رسمهم بقلمه، أقول إن طالعتنا بمثل هذه الصورة الفذة الفريدة التي لا تجد ما يطابقها تمام التطابق في سائر أفراد الناس، كنت أديبا فنانا، أما إن أتيتنا بقواعد عامة لسلوك الناس على اختلافهم، فأنت عالم يشاهد الجوانب المشتركة بين الأفراد، فيجردها ويسجلها، ولا يغير من الموقف أن تضع علمك هذا في قصيد منظوم.
وها هنا نضع إصبعنا على مميز واضح للعلوم في شتى صورها، يميزها من الفنون في مختلف ألوانها، وهو «التجريد». العلوم موضوعاتها جوانب مجردة انتزعناها من المفردات التي نشاهدها، والفنون موضوعاتها هي هذه المفردات في تفردها، فلو لحظت صفة تميز البقر - مثلا - فعزلتها بذهنك جانبا، فقلت إن البقر يجتر، كنت بمثابة العالم، لأنك جردت صفة واحدة من مجموعة صفات لا توجد في العالم الواقع إلا مركبة مشتبكة؛ أي انتزعتها وحدها، مع أنها لا توجد في الدنيا الحقيقية وحدها، ثم لأنك عممت هذه الصفة بين البقر جميعا، أما إذا استوقفت نظرك بقرة واحدة بشيء، فصورتها رسما أو كلاما أو نحتا، بحيث تثبت لها فرديتها التي لا تشترك فيها مع سائر البقر، فأنت ها هنا بمثابة الفنان. •••
وننتقل في هذا الموضع إلى صميم ما أردنا أن نعرضه على القارئ، وهو الذوق والعقل، ما معناهما، لنرى أيهما يصلح معيارا للنقد الأدبي؛ وبالتالي لنرى هل يكون النقد الأدبي فنا أو علما.
سأعرف الذوق بأنه تأثر أية حاسة جسدية بأي أثر من الآثار. إن الذوق في أصله تأثر حاسة معينة عضوها اللسان، لكنا في هذا السياق سنعمم استعمال الكلمة على سائر الحواس، فلو نظرت إلى شجرة أمامك، فلنسم انطباع صورة الشجرة على شبكية عينك وتأثرك بها ذوقا، على غرار ما يتأثر اللسان بذوق الطعام الذي يمسه، وكذلك قل في سمعك لصوت، أو لمسك لشيء، أو شمك لرائحة.
وبديهي أن الحاسة لا تتأثر إلا بما هو فرد فريد، فليست «الحرارة» بصفة عامة هي التي تلسع أصابعك، لكنها «هذه القطعة المعينة من الحديد» هي التي تلسعك، وأنت لا ترى «الشجر» بصفة عامة، بل ترى هذه الشجرة الواحدة المعينة في هذه اللحظة الزمنية المعينة، وهكذا قل في سائر المدركات الحسية.
وسنسمح لأنفسنا أن نستعمل كلمة «الذوق» في تأثر الإنسان بما هو فريد من المشاعر، على نحو ما أطلقناها على تأثره بما هو فريد من الإحساسات، فمثلا - إذا أصيب إنسان بموت ولده، فسيحزن، لكنه لن يحزن «حزنا عاما» بل حزنا خاصا فريدا في ظروفه وفي الشعور به، وإذا رأيت منظرا جميلا، شروق الشمس أو غروبها مثلا، فستشعر بفرحة قوية أو ضعيفة حسب استعدادك، لكنك لن تفرح «فرحا عاما» بل فرحك فريد فذ يتعلق بمنظر فريد كذلك، وحتى لو فرحت بشروق الشمس أو غروبها كل يوم، فالمنظر في كل مرة من هذه المرات واحد متميز لا ينطمس مع أقرانه في سائر الأيام.
هذا التأثر الفريد المتميز، الذي تنطبع به نفسك استجابة لموقف فريد متميز كذلك، هو الذوق، وهو كما ترى شيء خاص بك، يستحيل أن تنقله إلى سواك، يستحيل أن تنقل إلي ما تشعر به أنت من ألم في ضرسك أو حزن على فقيدك الذي تحبه وتعزه، كما أنه يستحيل أن تنقل إلي تذوقك للطعام، وكل ما في مستطاعك أن تقول لي كلمات لتثير في نفسي إحساسات ومشاعر أستمدها من تجاربي الخاصة أيضا، فإن قلت لي مثلا: إني حزين على ولدي الذي مات. فربما حزنت لحزنك، لكني سأحزن حزنا ثانيا خاصا بي، سأستثير من ذكرياتي شعور الحزن، إنك لم تنقل إلي حزنك وإنما أثرت في نفسي جانبا من سابق خبرتي.
هذا هو الذوق، وأما العقل يا سيدي القارئ، فلسنا نريد أن نصوره سحرا غامضا، ليرتع كل متكلم وكل كاتب في معانيه كيف شاء. العقل هو ألا يكون في قولك تناقض، هو ألا تقول قولا ينقض بعضه بعضا.
وبديهي أن التناقض لا يعني شيئا إذا طبقناه على الأفراد؛ إذ لا معنى لقولك إن هذا الكتاب الذي أمامي يناقض هذا القلم، أو إن شعوري بالحزن في هذه اللحظة يناقض شعوري بالفرح عصر الأمس، أقول إن التناقض لا يكون بين المفردات الواقعة، وإذن فهو لا يكون أبدا فيما أتلقاه عن العالم بالذوق؛ لأن الذوق - كما أسلفنا - هو وسيلة تأثرنا (بالحس أو بالشعور) بتلك المفردات الواقعة. من هنا استحال علينا أن نقول لشاعر صدقت أو كذبت، هذا إن كان الشاعر شاعرا حقيقيا يعبر عن أثر شعوري فريد.
وإنما يكون للتناقض معنى إذا وصفنا الموضوع الواحد بصفة ما ثم نفينا عنه تلك الصفة في الوقت نفسه، فإذا قلت عن شيء إنه فوق المنضدة، فمن التناقض أن تعود فتقول عنه في الظروف نفسها إنه تحتها. •••
وبعد، فهل يكون النقد الأدبي للذوق أو للعقل؟ هل يكون فنا أو علما؟ هذه هي المشكلة - كما يقول هاملت.
وأعتقد أن الأمر لم يعد عسيرا بعد تحديد الألفاظ الذي أسلفناه. فهبك قرأت قصيدة فأشاعت في نفسك لذة، إلى هنا أنت بمثابة المتذوق الذي يتأثر بشعور فريد خاص به، ولسنا نحرمك ولا نحرم أحدا من هذه اللذة الذوقية بأي معنى من معاني الحرمان، لكن اذكر - أستحلفك الله - أن ذلك التذوق يستطيعه الأبكم، فلا تقل: إني ما دمت قد قرأت القصيدة وذقت فيها حلاوة فأنا ناقد! لا تقل ذلك بربك العظيم؛ لأن الأبكم يستطعم القصيدة كما استطعمتها أنت، ثم لا ينطق، والناقد بالطبع لا بد فيه من كلام يقوله لنسمع.
لكنك لست مصابا بالبكم، وتريد أن تتكلم بعد استمتاعك بما قرأت؛ عندئذ أنت بين أمرين، فإما أن تقول ما شئت من كلام تقصد به أن تثير في نفس سامعك مثل الأثر الذي وجدته أنت، وقد تفلح وقد لا تفلح في تحقيق بغيتك، لكنك - على فرض توفيقك - بمثابة الأديب المبدع، لا الناقد؛ لأنك تؤدي ما يؤديه الأديب، وهو أن يقول كلاما يرصه على الصورة التي يهوى، ليؤثر في السامع، وقد نجحت، وسم هذا الضرب إن شئت نقدا تأثريا، إذا ضمنت لنفسك حرصا لا ينسيك أنه لا يصف حقيقة القطعة الأدبية، بل يصف وقعها في نفسك.
وأعجب العجب في هذا الصدد أن نفتح «منهج البحث في الأدب واللغة» للانسون، وهو الذي يوصينا به الدكتور مندور لنهتدي سواء السبيل، فنرى الرجل يفتتح بحثه قائلا: «فالنقد التأثري نقد مشروع لا غبار عليه، ما ظل في حدود مدلوله، ولكن موضع الخطر هو أنه لا يقف قط عند تلك الحدود، فالرجل الذي يصف ما يشعر به عندما يقرأ كتابا مكتفيا بتقرير الأثر الذي تخلفه تلك القراءة في نفسه، يقدم بلا ريب للتاريخ الأدبي وثيقة قيمة ... ولكن مثل هذا الناقد قلما يمسك عن أن يزج بأحكام تاريخية خلال وصفه لأثر الكتاب في نفسه، أو أن يتخذ من ذلك الأثر وصفا لحقيقة الكتاب الذي يقرؤه ... ولذا كان من أهم وظائف المنهج أن يطارد هذا النقد التأثري.»
كلا، أيها القارئ الكريم، لسنا نحرمك بأي معنى من معاني الحرمان، أن تقرأ وتتذوق ثم تسكت، فلا تكون شيئا بالنسبة إلينا، ولسنا نحرمك بأي معنى من معاني الحرمان أن تقرأ وتتذوق ثم تكلمنا لتثير فينا أثرا مثل الذي تأثرت به، وعندئذ تكون أديبا من المرتبة الثانية؛ فليس هنالك فرق جوهري في طبيعة الموقف بين تأثر الأديب الأصلي بالطبيعة مباشرة فيكتب، وبين أن تتأثر أنت بالأثر الأدبي فتكتب، وفضله عليك هو أنه أسبق منك إلى إدراك الجمال في الطبيعة، لكن كليكما مع ذلك أديب يتأثر فينشئ ليحدث في القارئ أثرا شبيها بأثره.
أما إذا أصررت على أن تكون ناقدا، فلا مندوحة لك عن خطوة بعد قراءة التذوق، خطوة هي وحدها التي تجعلك ناقدا، وهي أن تسأل نفسك ماذا في هذه القصيدة من العوامل الموضوعية التي أثارت في نفسي هذا الشعور أو ذاك؟ وقد ينتهي بك البحث - مثلا - إلى أن اختيار الشاعر للبحر الطويل جاء موفقا لأنه يناسب موضوعه فأحدث ما أراد أن يحدثه من أثر في نفس القارئ أو السامع، أو إلى أن كثرة الراءات في هذا البيت جعلته جميلا، وكثرة السينات والصادات في ذاك ... لكن هذه وأشباهها قواعد عامة، فكأنك تقول: كل بيت يصف خرير الماء وتكثر فيه الراءات فهو جميل في هذا الجانب منه، وكل بيت يصف الحرب بالسيوف وتكثر فيه السينات والصادات فهو جميل كذلك في هذا الجانب منه، وهكذا. أنت هنا لا تنقل إلينا عناصر تجتمع فتكون موقفا فريدا لا يتكرر، بل تحدثنا عن قواعد عامة تتكرر في كل حالة شبيهة بالحالة التي أنت بصدد تحليلها وما دمت في مجال التعميم فأنت عالم وإذن فالنقد علم، ثم يقتضيك المنطق - أي العقل - ألا تناقض ما تقوله في موضع، بما تقوله في موضع آخر، فلا تقل مثلا في موضع ما: إن البحر الطويل يناسب التعبير عن الحزن لأنه بطيء والحزين بطيء الحركات والكلمات. ثم تناقض ذلك في موضع آخر وتزعم لنا أن البحر الطويل لا يناسب الحزن، وإن كان هذا هكذا فأنت تصدر فيما نقول عن عقل، إنك حين تنقد، عالم لا فنان، يبني كلامه على عقل - أي يخلصه من تناقض أجزائه - لا على الذوق الذي يتأثر بهذا الفرد الجزئي أو ذاك وكفى.
ولأنك في نقدك عالم يبني قوله على العقل، أمكن أن نناقشك الحساب فيما تقول، فنعترف لك بصدق قولك أو ندعي عليك الكذب، ولا يكون كذب أو صدق إلا فيما يصور شيئا موضوعيا بعيدا عن ذوقك الخاص وشعورك الخاص، بل يستحيل استحالة قاطعة أن تفيدني شيئا على الإطلاق بكلامك، إذا أردت أن تنقل إلي هذا الذوق الخاص وهذا الشعور الخاص؛ لأنه خاص بك مصبوب في أعصابك.
لست إذن أوافق أديبينا الكريمين؛ الدكتور مندور في كتابه «النقد المنهجي عند العرب»، والأستاذ علي أدهم في كتابه «على هامش الأدب والنقد» فيما ذهبا إليه من أن النقد فن ومرده للذوق، وأصر - كما قلت - على أن يكون علما، مرجعه إلى العقل، على شرط أن تفهم هذه الألفاظ بما حددت لها من معان.
اللحظة المسحورة
هي تلك التي يلقطها الفنان من مجرى الزمن، فيخطها على الورق لفظا ورسما، أو يثبتها على الحجر نحتا ونقشا، فذلك هو الفن بأدق معناه.
الفن الأصيل الصحيح هو أن تثبت حالة من حالات الوجود بتفصيلاتها التي تجعلها فردا فريدا بين سائر الحالات، بحيث تعرف كيف تتخير لها من تفصيلاتها ما يخلع عليها بين سائر أخواتها ذلك التفرد الذي لا يشاركها فيه شريك آخر على امتداد الزمن واتساع الكون وتعدد الكائنات.
فمن سر الحياة هذا التفرد العجيب بين الأحياء، بحيث يستحيل على فردين أن يتشابها إلى حد التطابق الكامل؛ فالأم تعرف رضيعها بين ألف آخرين؛ لأنه مهما اشتدت أوجه الشبه بينه وبين هؤلاء الآخرين، فله من الخصائص ما يميزه عند النظرة التي تدفعها الفطرة السليمة إلى الوقوف عند جوانب التباين والاختلاف.
قد ترى جماعة الطير أو البقر، فيتشابه عليك أفرادها، حتى لتظن ألا اختلاف بين تلك الأفراد، وتظل كذلك ما دمت لا ترى في نفسك الدافع الذي يحفزك إلى تدقيق النظر فيما بين الأفراد من فروق، فإذا ما نشأ في نفسك ذلك الدافع لسبب ما، ألفيت لكل عصفور خصائصه الفذة، ولكل بقرة مميزاتها الفريدة، ويكون رسم العصفور أو البقرة فنا أو لا يكون، بمقدار توفيقك في إبراز المميزات التي قد جعلت ما رسمته واحدا لا شريك له بين سائر الطير والبقر.
ولا غرابة بعد هذا أن يكتب الشعراء من كل جيل آلاف الآلاف من قصائد الشعر في ظواهر الطبيعة، فيذهب هذا الزبد كله جفاء، والقليل جدا هو الذي يمكث في الأرض يتغنى به الناس على مر الزمان؛ لأن هؤلاء الألوف من الشعراء يحسبون أن الأشجار سواء والرياض سواء والغدران سواء، وكل شروق للشمس ككل شروق، وكل غروب ككل غروب؛ ويحسب الواحد منهم أنه ما دام قد أطلق على أشعة الشمس اسم «العسجد»، وعلى ضوء القمر اسم «اللجين» فقد بات الكلام عن الشمس والقمر شعرا. لكن لكل حالة من كل ظاهرة طبيعية خصائصها الفريدة التي يستحيل تكرارها في سائر حالات تلك الظاهرة نفسها؛ فالروض الواحد له في كل لحظة حالة خاصة من لمعات الضوء وعطر الزهر وهبوب الريح، ومن وقع ذلك كله على الحالة النفسية التي تشاء المصادفة أن يكون عليها الشاعر عندئذ، الروض الواحد له في كل لحظة هذه الحالة الخاصة التي تميزها عن سائر حالاته في سائر اللحظات، ودع عنك ما يكون بين هذا الروض في جملته وبين غيره من الرياض من فروق تجعله بينها واحدا وحيدا، إذا ما رأيت منه لمحة في صورة عرفت أنها منه؛ لأن هذه اللمحة لا تكون إلا فيه من جملة الرياض. ونقول عن الشاعر الذي وقف في الروض وراح ينشد، نقول عنه إنه شاعر، لو اهتدى بوحي فنه إلى تلك الملامح فيما يرى حوله ومما يحس في نفسه عندئذ، الملامح التي تمتزج فتخرج صورة فريدة لا تكرار لها في كل ما يقوله بعدئذ هذا الشاعر نفسه في هذا الروض نفسه، فضلا عما يقوله غيره من الشعراء في غيره من الرياض.
ولا غرابة أن يكتب القصصيون من كل جيل عشرات المئات من القصص، فتذهب كلها مع الريح، ولا يبقى من نتاج الجيل الواحد إلا قصة أو قصتان، ذلك إن بقي منه شيء؛ لأن الأمر هنا ليس مداره على «الحكاية»، فما دمت «تحكي» أن فلانا ذهب وفلانا جاء، وفلانة كرهت أو أحبت، فأنت قصاص، كلا، بل مدار الأمر في القصة الأصيلة، هو التوفيق في إبراز هذه الفردية التي حدثتك عنها، فهل لكل شخص من أشخاص القصة فرديته التي تجعله واحدا من الناس لا يختلط بغيره؟ وإن كانت القصة تاريخية فهل الفترة التاريخية المرسومة بحوادث القصة قد اتسمت بسمات فذة لا يمكن معها أن تختلط في ذهن القارئ بفترة أخرى؟ إن وفقت القصة في هذا «التفريد» والتخصيص فهي القصة الباقية.
وقد يحسب القارئ أن ليس في الأمر هذا العسر كله، لأنه قد يحسب أن الناس يتشابهون في مشاعرهم، فيكفي - مثلا - أن تقول إن قيسا أحب ليلى، لأعرف في أية حالة شعورية كان قيس، ما دام الحب وجدانا معروفا مشهورا. لكن لا، ليس الفرد الواحد بشبيه لنفسه في حالتين من حالاته التي نتسرع فنطويها جميعا تحت اسم واحد. إن قيسا في حبه لليلى، تمر عليه حالات مختلفات، لكل حالة منها خصائصها، على أن مجموعة حالاته الوجدانية التي قد أضمها معا لأسميها باسم واحد - هو حب قيس لحبيبته - تنطبع كلها معا بطابع يجعلها تختلف عن مجموعة حالات الحب عند أي عاشق آخر مهما يكن عدد هؤلاء العاشقين الآخرين، فمتى يكون الفنان الذي يتعرض لتصوير قيس في حبه فنانا أصيلا؟ يكون كذلك لو أدرك مميزات الحالة الواحدة من حالات الحب التي يصورها ومميزات مجموعة الحالات عند قيس مما يجعل حبه في جملته مختلفا عن حب أي عاشق آخر في جملته.
وليس نقدة الآداب والفنون بعابثين، حين يتخيرون شاعرا فيمجدونه بين آلاف الشعراء، أو يتخيرون كاتبا من أدباء القصة أو المسرحية فيخلدونه بين آلاف الكتاب الذين يكتبون القصة والمسرحية؛ لا، ليس نقدة الآداب والفنون بعابثين حين يقترون علينا في عدد الأدباء ورجال الفن الذين يحرصون على بقائهم، وحين يسرفون في حذف سائر الأسماء من قائمة الخالدين. لقد خلد شيكسبير بمسرحية أنطون وكليوباتره - مثلا - ولن يخلد شوقي بمسرحيته في الآداب العالمية، لن يخلد إلا بين جدراننا نحن؛ لأن رحاب العالم ستظل متسعة لمسرحية شيكسبير، وستضيق بزميلتها لشوقي؛ لأن شيكسبير كان يبرز أشخاصا لكل منهم مميزاته، وكان يبرز وجدانات لكل حالة منها خصائصها الفريدة، وأما شوقي فراح ينظم القصائد على ألسنة أشخاصه دون أن تخرج في النهاية بصورة لكل شخص تفرده وتميزه، كما يتفرد ويتميز الأشخاص الذين يصادفونك في حياتك كل بشيء أو أشياء.
إن من العبارات التي تلوكها الألسن وتخوض فيها الأقلام بكثرة تستوقف النظر، قولهم إن الأدب ينبغي له أن يتصل بالحياة، أو إن الأدب لا بد له أن يصور الحياة، يقولون ذلك ولست أدري إن كان ذلك له عندهم معنى محدد مفهوم واضح؛ لأنني كثيرا ما أجد نفرا من «أدبائنا» يزعمون لأنفسهم هذه الصلة بالحياة، فيكتبون عما يرون في مركبات الترام وفي المقاهي وما إلى ذلك، مهما بلغ هذا الذي يكتبونه من التفاهة والسخف. وأحسب أن صلة الأدب بالحياة، أو تصوير الأدب للحياة، لا يكون له معنى مفهوم ذو وزن وقيمة، ومنطبق على أمهات الآيات الأدبية التي خلدت، إلا إذا أدركنا أن سر الحياة الأعظم هو هذا التفرد الذي يكون بين الكائنات، وأن مهمة الأديب هي التقاط الحالات الفريدة بما يميزها، فالأديب متصل بالحياة مصور لها إذا رسم لنا حالة من حالاته النفسية بحيث يبرز فيها ما يجعلها حالة يستحيل تكرارها، أو رسم شخصية بتصرفاتها وطريقة كلامها بحيث يجعلها عندنا كائنا فردا يستحيل تكراره، وعندئذ نستطيع أن نضيف هذا الكائن الجديد الذي خلقه لنا الأديب إلى زمرة أصدقائنا الذين اتصلنا بهم في الحياة الواقعة، فنستفيد من حياته - كما استفدنا من حياة هؤلاء الأصدقاء - خبرة تزيد بها أعمارنا غزارة وتتسع أفقا.
وإن كان ذلك كذلك، فليس حتما على الأديب أن يركب الترام ويجلس في المقاهي ليتصل ب «الحياة» - كما يظن «أدباؤنا» - لأنه قد يجلس إلى مكتبه يقرأ التاريخ، فإذا به يلمح في أشخاصه أو في عصوره، شخصا أو عصرا بمميزاته الفريدة فيأخذ في تصوير هذا الشخص أو هذا العصر تصويرا يبرز فيه تلك المميزات - وبالتالي لا يتحتم عليه أن يقص علينا تاريخ هذا الشخص أو ذلك العصر بترتيبه الزمني كما وقع، لا يتحتم عليه أن يتمشى في تصويره مع دقائق الوثائق التاريخية، وإلا كان مؤرخا ولم يكن أديبا، إنما يتحتم عليه أن «يتخير» من حوادث ذلك الشخص أو ذلك العصر ما شاء، وأن يرتبها كيف شاء، ما دامت هذه الحوادث التي اختارها، وهذا الترتيب الذي نظمها فيه، ينتهي بنا إلى صورة فريدة لا تكرار لها؛ عندئذ نقول عنه إنه أديب «يصور الحياة» مع أنه لم يفارق مكتبه، وما «تصويره للحياة» إلا محاكاة الحياة في تفريد كائناتها بمميزات فذة وخصائص تجعل الفرد فردا لا يشبهه شبيه آخر - إذا أردنا بالتشابه تطابقا كاملا - سواء كان هذا الفرد شجرة، أو غصنا منها، أو ورقة من أوراقها، أو حيوانا أو إنسانا أو حالة نفسية. •••
وإنما كتبت هذا كله، بل اخترت العنوان لهذا الذي كتبته، بمناسبة قراءتي لقصة «الوعاء المرمري» التي أخرجها منذ أيام الأستاذ الأديب محمد فريد أبو حديد.
فعند وعاء من المرمر اعتاد سيف وخيلاء أن يجتمعا «ولون الوعاء ونقوشه البديعة تشبه الوشي فوق ثوب الحرير، وكانت الصورة التي عليه تمثل جانبا من بستان فيه شجر باسق يظلل رقعة خضراء تتخللها شجيرات تتدلى أغصانها محملة بعناقيد مرسلة من الزهر، وكانت الطيور تبسط أجنحتها بعضها يسبح في الهواء وبعضها يهبط نحو الأرض، والقمر الكامل في أعلى الصورة يبعث أشعته على شابين فتى وفتاة يسيران في الممشى، وقد تعاقدت يمناه بيسراها وهما يبسمان نحو القمر.»
هنالك طالما وقفت «خيلاء» مع سيف يتحدثان في إعجاب عن الصورة ونقشها، وجاء «سيف» ذات يوم ليجد «خيلاء» واقفة وحدها عند ذلك الوعاء المرمري. - أتقفين وحدك عند الوعاء؟ أليس هنا موقفنا معا؟ ماذا ترين فيه يا خيلاء؟
فقالت خيلاء باسمة: قطعة من المرمر الوردي الجميل.
فقال سيف: نعم قطعة من المرمر الوردي الجميل كانت يوما في جوف صخرة، قد يتخذها حجار ليضعها في جدار بيت، أو تتخذها عجوز فقيرة لتصنع منها رحى أو تربط بها حبل عنزها.
ولكن انظري يا خيلاء كيف حولها صانعها إلى تحفة حية، بل هي أكثر حياة من كثير من الأحياء.
ومضى سيف يقول، وهو ناظر إلى القطعة المرمرية: كأنها قصيدة. فقالت خيلاء باسمة: هي كذلك إذا شئت، أو هي كما أسميها أنا فيما بيني وبين نفسي، أسميها لحظة مسحورة، لحظة من اللحظات التي تمر بالأحياء فتهزهم وتأخذ بمشاعرهم وتنقش على قلوبهم، ثم يثبتها الفنان على قطعة جامدة من الحجر، فإذا هي مثل هذه الصورة التي تسميها قصيدة أو تحفة حية.
فقال سيف في حماسة وإعجاب: صدقت يا خيلاء، وما أبرعها من تسمية! حقا إنها لحظة مسحورة جعلها الفنان تتحدى الزمان والتغير والفناء، وتبقى خالدة ثابتة وإن تبدل كل ما حولها؛ ذهب الفنان الرومي الذي صنعها، وذهب هذان الشابان اللذان كانا يقفان يوما في ظلال البستان المزدهر، ودار القمر دورات لا يحصى عدها، ولكن هذه الصورة بقيت خالدة على وعائها، البستان مزدهر أبدا والطير لا يهبط من سمائه والشابان يقفان باسمين ويشيران إلى البدر الذي لا يعتريه محاق، السعادة التي تغمرهما في مأمن من صروف الدهر. ذهب الجزء الفاني من هؤلاء جميعا وبقيت الصورة تتضمن الجانب الخالد الذي لا يفنى.
وعلى فجأة من خيلاء، رفع سيف يدها إلى فيه فاختطف منها قبلة، وتمنعت خيلاء في رفق فأرسلها وقال في شيء يشبه الاعتذار: لو كنت فنانا لخلدت موقفنا هذا. •••
وهكذا يصور أستاذنا الأديب نفس المعنى الذي قصدت إلى التعبير عنه، وهو أن الفن بأدق معناه احتجاز للحظة من لحظات الزمن، أو تثبيت لفرد من أفراد الكائنات، على أن تجيء تلك اللحظة أو هذا الفرد بخصائصه المميزة التي تجعله فريدا بين الأحياء جميعا لا تكرار له مهما امتد الزمان واتسع المكان وتعددت الكائنات.
الأدب العلمي
قال قائل منا، وكنا أربعة نتحدث عن المحنة التي أحاطت بالأدب في مصر هذه الأعوام الأخيرة، فلم تعد هناك - بحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه - صحيفة أدبية واحدة في وادي النيل المبارك، بحيث جاز لناقد أجنبي معروف في بلده بالصدارة الأدبية، أن يزور مصر فيقول فيها إني وجدتها أمة عدد بنيها اثنان وعشرون مليونا، ومع ذلك فليس فيها صحيفة أدبية واحدة!
قال قائل منا - وكنا نتحدث عن هذه المحنة الأدبية الكبرى: قد لا تكون المحنة أيها الإخوان محنة، فلعل الأمر لا يرتد إلى عجز فينا، بل يرجع إلى مرحلة متقدمة بلغناها من التطور الأدبي. ولم يتمهل محدثنا ليسأله سائل منا: وكيف كان ذلك؟ بل مضى يبسط وجهة نظره قائلا إن الأدب في مراحله الأولية يكون مداره الخيال، حتى إذا ما نهض واستقام على قدميه نبذ الخيال ولاذ بالحقائق والوقائع، أو بعبارة أخرى، إن الأدب إذا ما شب عن طوق طفولته تحولت مادته إلى كلام يشبه ما تنطق به ألسنة العلماء من حيث تقريره للحقائق الواقعة، فإن كان ذلك كذلك، فالحق أن مصر اليوم فيها كثرة من الأدباء الذين يكتبون أمثال هذه الحقائق في لفظ جميل، وإذن فقد ارتحلت فيها راحلة الأدب بحيث جاوزت من طريقها خيال الطفولة وبلغت نضج الرجولة بسلامة الله ورعايته.
وأوشكت أن أجيب بما دار في خلدي عندئذ من خواطر، لولا أنني وجدت المقام مقام سمر خفيف لا يحتمل الأخذ والرد في نظريات وآراء ستفنى الإنسانية قبل أن ينتهي فيها الناس إلى رأي حاسم؛ وذلك لأمور كثيرة، منها أن الأدب ليس علما، ولو كان من العلم أو ما يشبه العلم لانحسمت فيه مواضع الاختلاف في الرأي كما تنحسم بين العلماء في المعامل.
وأول ما دار في رأسي من خواطر حين قال القائل الفاضل ما قاله، وأضاف إليه بأن تلك هي مراحل التطور في العالم كله، أن سألت نفسي: إلى أي جزء من أجزاء العالم يا ترى يشير المتكلم الفاضل؟ أين في العالم تطبيق ما يقوله من أن الأدب قد تطورت مادته فأصبحت هي نفسها الوقائع التي يتحدث عنها العلماء، لولا أن الأديب - دون العالم - ينطقها بلفظ جميل؟ ترى ماذا هو صانع بمعياره هذا لو قدمت إليه ما ينتجه الأدباء من قصص ومسرحيات وشعر؟ بأي مقياس يريد أن يقيس الجودة الفنية في القصة وفي المسرحية وفي القصيدة؟ ثم لماذا يصيب هذا التطور عالم الأدب وحده دون سائر الفنون؟ لماذا لا تتطور الموسيقى هي الأخرى فتصبح محاكاة لأصوات آلات المصانع ولماذا لا يتطور التصوير فيصبح رسما لأجهزة المعامل وهلم جرا؟ •••
إني لأراني على مبعدة في الرأي من صديقنا المتكلم بحيث لا يرجى لنا أن نتلاقى؛ فالرأي عندي هو أن العلم والأدب صنفان من الكلام مختلفان اختلافا يستحيل معه أن يتطور أحدهما إلى الآخر كما يستحيل أن تتطور الأغنام فتصبح أبقارا، لا لأن الأدب متميز من العلم بجمال أسلوبه مع جواز اتحادهما في مادة القول، بل الاختلاف أعمق من ذلك وأبعد؛ فالعبارة العلمية من طراز، والعبارة الأدبية من طراز آخر، ولن يستطيع جمال الأسلوب أن يعبر ما بينهما من فجوة واسعة سحيقة.
فالعلم تعميم والفن تخصيص، العلم تجميع والفن تفريد، العلم يلاحظ الأشباه والنظائر ليستخلص منها أوجه الشبه فيصوغها في قانون واحد ينظمها، والفن يلاحظ جزئية واحدة يقف عندها ويحلل خصائصها. العلم يستبعد نفس الخصائص التي يستبقيها الفن، فالخصائص الفريدة التي تميز فلانا من الناس دون سائر الأفراد هي التي يستبقيها الفنان ليحللها ويصورها، وهي نفسها التي يستبعدها العالم لأنها ليست مشتركة بين سائر أفراد النوع الإنساني. يقول عالم النبات عن الزهر ما ينطبق على الزهر كله ما دام منتميا إلى فصيلة واحدة، أما الفنان فيقف عند زهرة واحدة في لحظة زمنية واحدة يلقفها من تيار حوادثها الدافق قبل أن تمضي إلى غير عودة، فيصورها رسما أو أدبا أو ما شاءت له مادته التي يستخدمها وسيلة لإثبات ما يريد أن يثبته.
قل ذلك في كل شيء مما يعالجه الفن بشتى صنوفه، وعلى أساس هذا المعيار تستطيع أن تقيم نقدك الأدبي. هبك بصدد قصيدة نظمها شاعرها يعبر بها عن عاطفة الحب عنده، فانظر إلى أي حد قد تفردت العاطفة التي يعبر عنها بحيث أصبحت كائنا وحدها قائمة بذاتها لا تشاركها لحظة أخرى من لحظات الحب، لا أقول عند سائر المحبين، بل عند هذا المحب نفسه، إنه لا يكفي أن يتكلم عن «الحب» بصفة عامة لنقول عنه إنه قد أجاد لأن «الحب» بصفة عامة من حيث هو عاطفة إنسانية يشترك فيها أفراد البشر أجمعين بدرجات مختلفة، هو من شأن علم النفس لا من شأن الفنان؛ فعالم النفس هو الذي يتكلم عن هذه العاطفة «بصفة عامة» أي إنه يتكلم عنها كما تبدو آثارها عند هذا الفرد من الناس وهذا وذاك في كل زمان وكل مكان، هذا التعميم في الأحكام يكون علما ولا يكون فنا ولا أدبا، أما الفنان أو الأديب فينظر إلى حالاته النفسية في حبه ليلقف منها حالة واحدة، وهو إذ يبرز هذه الحالة الواحدة العابرة فإنما يصور لنا ما ليس يتكرر في سائر حالاته هو، دع عنك أن يتكرر عند سواه. إن المحب لا يشعر بعاطفة الحب على لون واحد وبنغمة واحدة وأصداء واحدة وأثر واحد، بل تراه إزاء حبيبه الآن بما لم يكنه بالأمس وما لن يكونه غدا، ومع ذلك فكلها مواقف من حبه، فلا يكفي أن يقول: «إني أحب» أو «إني في جحيم من الحب» أو «إني في نعيم منه» ليكون تعبيره أدبا، مهما تبلغ عبارته من الجمال، بل يتحتم أن يخصص لنا خيوط العناصر النفسية التي جعلت حبه جحيما أو نعيما أو ما شاء له أن يكون، ولو أجاد الملاحظة وأجاد الوصف لعلم أن شبكة هذه الخيوط محال أن تلتقي على صورة واحدة في لحظتين متباعدتين.
لقد قال الفيلسوف اليوناني هرقليطس عبارته المشهورة: «إنك لن تخطو في النهر مرتين.» مريدا بذلك إلى شرح رأيه القائل إن كل شيء في الوجود تتغير حالاته تغيرا دائما دائبا فكأنما حالاته المتابعة هي مجرى النهر الدافق، فأنت إذا ما خطوت في ماء النهر خطوة ثم أردت أن تعيد قدمك مرة ثانية إلى حيث خطت أول مرة وجدت أن الماء قد تغير، وأن ما ستغوص فيه قدمك الآن ليس هو نفسه الماء الذي غاصت فيه أول خطوة. قال هرقليطس هذا القول ليصف به حقائق الأشياء كيف تتغير وإن بدت للعين الغافلة ثابتة ساكنة، ولئن صدق هذا القول عن الثوابت ظاهرا كالشجرة والجبل، فهو أصدق بالنسبة لمجرى العواطف والمشاعر عند الإنسان، التي لا تبدو ثابتة حتى في ظاهرها الواضح للعيان.
فماذا يصنع العالم وماذا يصنع الفنان وكلاهما قد ينظر إلى نفس ما ينظر إليه زميله؟ ماذا يصنع ذلك وماذا يصنع هذا إزاء هذه التيارات الدافقة من حوادث؟ أما العالم فيحاول أن يتلمس بينها اطرادات تتكرر على غرار واحد، فإن وجد جعل الاطراد المتكرر واحدا من قوانينه، ثم راح يقيس الأبعاد المكانية والزمانية في ذلك الاطراد الذي شهده بين الحوادث، لينتهي إلى صياغة قانون فيه دقة كمية، وأما الأديب أو الفنان فشأنه آخر، هو لا يلتمس اطرادا في الحوادث بل تستوقفه حادثة واحدة أو حالة واحدة فيثبتها على اللوحة رسما أو يثبتها باللفظ أدبا أو في أنغام الألحان موسيقى.
وليست كل حالة جزئية في صلاحيتها للفن على حد سواء مع سائر الحالات، بل إن الفنان الحق ليقع على الجزئيات ذات الدلالة، أي الجزئيات التي تكون أكثر إيحاء عند القارئ أو الرائي، فكاتب القصة أو المسرحية مثلا لا يجيد فنا إذا راح يسرد التفصيلات عن شخصياته سردا بغير تمييز، بل صميم الفن هو الاختيار الموفق فأي التفصيلات في حياة هذا الشخص الذي أصوره أهدى إلى حقيقة شخصه وسر نفسه وكنه وجوده؟ انظر إلى الأشخاص الأدبية التي ارتفعت إلى السماكين في سماء الأدب من حيث جودة التصوير؛ هاملت، الملك لير، دون كيشوت وغيرهم وغيرهم، انظر إلى هؤلاء جميعا وسل نفسك: ما سر الجودة الفنية في هذه الصورة الأدبية؟ وستجد السر في حسن اختيار التفصيلات التي يجريها الأديب كلاما أو سلوكا بحيث يتكون له في النهاية شخص متكامل فريد، أنه لا يرسم «الإنسان» بصفة عامة، وإلا كان عالما بل يرسم هاملت، أو لير، أو دون كيشوت، يرسم فردا واحدا ذا طابع متميز يستحيل أن يتكرر له في الوجود كله مثال يطابقه كل المطابقة على الرغم من أن هذا الفرد المتميز ذاته يصح اتخاذه بعد ذلك نموذجا من نماذج البشر تقرب من طرازه طائفة من الناس قربا يزيد أو يقل عند مختلف أفراد هذه الطائفة.
سبيل العلم وسبيل الأدب مختلفان ولن يتطور هذا إلى ذاك، ولست أريد هنا أن أتتبع شتى الفروق التي تباعد بينهما وتباين، لكني أريد أن أثبت هنا رأيا قد يبدو غريبا عند القائلين بالنظرية التي أسلفت ذكرها في أول المقال، وهي أن الأدب اليوم في مرحلة رقيه يكتب عن الوقائع والحقائق؛ إذ الرأي عندي هو نقيض ذلك؛ فبمقدار ما يكون الكلام وصفا للوقائع والحقائق الخارجة عن نفس الإنسان بمقدار ما يبعد عن الكمال الفني.
فالصورة الفوتوغرافية تصور الحقيقة الواقعة تصويرا أمينا؛ ولذلك لم تكن فنا بالمعنى الذي نقصد إليه حين نقول عن «بيكاسو» مثلا أو «ماتيس» إنه فنان؛ فكثيرا ما تقف وراء صورة رسمها «بيكاسو» أو «ماتيس» أو سواهما من أتباع هذه المدرسة الفنية المعاصرة فلا تدري ماذا أراد المصور أن يصور؛ ذلك لأنه لم يرد قط أن يصور شيئا خارجا عن ذات نفسه؛ فهذا الخليط اللوني قد تردد في خياله كما تتردد الأنغام في أذن الموسيقي فرسمها على لوحته لتجيء موسيقى للعين أنغاما من ضوء.
قف إلى جوار الجبل الذي يبهرك شموخه واجعل زميلك الجغرافي يقف إلى جوارك إزاء الجبل نفسه، فإن أردت أن تطالعنا بالأصداء النفسية التي ترددت في فؤادك إذ أنت تنظر إلى الجبل، بلغت من الجودة الفنية بمقدار ما تبعد عن «الحقيقة» الخارجية كما يصفها زميلك الجغرافي؛ فالجغرافي مطالب بما لا يطالبك به أحد إذا وقفت من الجبل وقفة الأديب؛ الجغرافي مطالب بوصف الحق والواقع، وأما أنت فمطالب بحق آخر وواقع آخر. هو مطالب بنقل الواقع الخارجي بعيدا عن تأثرات نفسه، وأنت - على نقيض ذلك - مطالب بنقل تأثراتك النفسية بغض النظر عن الواقع الخارجي.
إن الآلام والأفراح لا تكون إلا داخل نفوس أصحابها، وكذلك يكون الحب وتكون الكراهية وكل عاطفة إنسانية أخرى، فماذا يريدنا أصحاب «الأدب العلمي» أن نصنع بهذه العواطف إذا ما هممنا بكتابة الأدب؟ الحق أننا قد تعودنا من أدبائنا أن يكتبوا لنا في الصحف عن السياسة وغير السياسة من شئون، فحسبنا بحكم العادة أن الأدب إنما يكون هكذا معالجة لموضوعات مما يصح أن يدق فيها البحث بعض الشيء فيكون الحاصل علما، لكن ما هكذا الأدب الأصيل الخالق المبدع.
إذا أردنا أن نقيم للنقد الأدبي ميزانا عادلا، فلنبدأ أولا بتصور الأدب تصورا صحيحا. ومهما تكن هذه الصورة الصحيحة، فهي ليست مما يتصل بالعلم بسبب من الأسباب.
الليلة والبارحة
(أرسلت هذه المقالة من واشنطن.) ***
نعم ما أشبه الليلة بالبارحة في كثير جدا من الأشياء ، ما أشبههما في ظواهر الطبيعة وفي مظاهر الفكر سواء بسواء ، ها هي ذي أوراق الخريف قد ملأت الطريق، وكلما أزالها الكانسون صبحا، عادت منها مجموعة أخرى فملأت الطريق من جديد، كما كانت تملؤه في عام سلف وفي عام قبل الذي سلف، والليل والنهار يتعاقبان كما تعاقبا، والفصول تتتابع كما تتابعت، فديوان الطبيعة قصائده من شعر مقفى، السطر منه يقفو سطرا في وزنه ورويه، وهكذا قل في الإنسان وفكره، فجديد الفكر يندثر قديما، ثم يعود القديم فيطفو على سطح الحياة جديدا.
خطر لي هذا الخاطر عندما أخذت أتعقب خيوط النقد الأدبي في أمريكا، لأرى إن كانت هذه الكثرة من أصحاب النقد الأدبي هنا تنطوي في حقيقة أمرها تحت مبدأ واحد عام شامل، يصح أن نسميه بالمدرسة الأمريكية في النقد الأدبي، وليس بالهين أن ترد هذه الأشتات المتفرقة إلى وحدة واحدة، فإنه لما يستوقف النظر حتما هذا العدد الكبير من المجلات الأدبية التي كتبت للخاصة، أو خاصة الخاصة، والتي لا نكاد نسمع عنها شيئا في بلادنا؛ لأنها مجلات محصورة التوزيع، توشك أن تنحصر في مكتبات الجامعات، كأنما المختص يكتب للمختص ولا شأن لهذين بسائر الناس، ولا بد أن أذكر حقيقة هنا قبل نسيانها، وهي أن الكاتب في أمثال هذه المجلات لا يؤجر على ما كتب، وحسبه غنيمة أدبية أن ينتقل مخطوطه إلى مطبوع، ومن أمثال هذه المجلات التي أعنيها «كنين» و«سيواني» و«هدسن» و«بارتزان»، كل مجلة من هذه الطائفة تصدر مترعة بالمقالات المستفيضة الدقيقة العميقة في النقد الأدبي، وأعود فأقول إنه ليس من الهين أن ترد هذه الأشتات إلى وحدة حتى إن كان بينها وحدة.
وإذن فلأبدأ من طرف آخر، لأبدأ من النقاد الذين أصدروا في النقد الأدبي كتبا، فلعل الكتاب يبلور ما تشتته المقالة، وهنا لم ألبث أن عثرت على الأسماء الضخمة في ميدان النقد، فسرت مع هذه الأسماء راجعا خطوة بعد خطوة حتى وجدت ما يصلح أن يكون نقطة ابتداء، وهو كتاب لأحد هؤلاء الأعلام، هو «سبنجارن» والكتاب عنوانه «النقد الجديد» صدر عام 1911م، فهو معدود هنا كالإمام الذي يتبعه التابعون، و«النقد الجديد» متن يرجع إليه إذا ما أشكل الأمر على من أراد أن يكون في منحاه الأدبي تابعا ل «النقد الجديد»، فما هذا «الجديد»؟ «الجديد» عند سبنجارن وتابعيه - وسترى بعد قليل أنهم هم الذين يطبعون الحركة النقدية في أمريكا اليوم بطابعهم - هو باختصار شديد: «أن يكون الأثر الأدبي نفسه موضع الاهتمام والدرس.»
فأنت تعلم أن الناقدين ليسوا في ذلك على كلمة سواء، فإذا ما صدر أثر أدبي، ولنضرب مثلا بكتاب «الأيام» لأديبنا الدكتور طه حسين، كان هنالك بصدوره أربعة أشياء؛ الكتاب الذي صدر، والكاتب الذي أصدره، والمحيط الذي ظهر فيه مكانا وزمانا، والناقد الذي يريد أن يتناوله بالدراسة الأدبية، فأي هذه الأربعة يكون محور الدراسة الأساسي وموضع الاهتمام الأول؟ هل نتناول «الأيام» نحلله ما وسعنا التحليل، ونحلله عبارة عبارة، لنرى خصائص الكلام على صفحاته ما هي بغض النظر عن شخص كاتبه أو زمان كتابته ومكانها؟ وعندئذ لا يكون ثمة فرق كبير عند الدارس بين أن يكون كتاب «الأيام» قد صدر أمس أو منذ ألف عام، أصدره الدكتور طه حسين أو أصدره سواه، نشر في مصر أو في البرازيل؟ هذه مدرسة نقدية، ومدرسة أخرى تقول إن كتاب «الأيام» إن هو إلا عبارة عبر بها أديب عن بعض نفسه، إن هو إلا مشير يشير إلى حقيقة كائنة وراءه أهم منه لأنها الأصل، وأشمل منه لأنها وسعت أكثر منه، وتلك الحقيقة الكامنة وراء الكتاب هي الكاتب الذي كتب، هي الأديب الذي عبر، وإذن فليكن «الرجل» نفسه موضع دراستنا واهتمامنا، وهذه مدرسة نقدية أخرى، ومدرسة ثالثة تريد أن تتعمق الأمور إلى أصولها الأولى، فلئن كان الكتاب فرعا عن أصل هو كاتبه، فالكاتب نفسه فرع على أصل هي ظروفه التي أحاطت به، كيف تستطيع أن تفهم كتاب «الأيام» حق الفهم دون أن تلم مثلا بالأزهر وبالريف المصري، ودون أن تلم بكثير جدا من العلاقات الإنسانية كما وهي قائمة في الأسرة المصرية وغيرها من وحدات المجتمع؟ وتلك مدرسة نقدية ثالثة، وأما المدرسة النقدية الرابعة فهي التي يؤثر الناقد فيها أن يرتد إلى نفسه هو، فلا الكتاب في ذاته، ولا صاحب الكتاب، ولا الظروف التي صدر فيها الكتاب بذات قيمة كبرى بالقياس إلى أثر الكتاب في نفس ناقده؛ إذ بغير هذا الأثر لا يكون ناقد ولا نقد، وإذن فلتكن المقالة النقدية هي تعبير الناقد عن إحساسه هو عندما قرأ الكتاب.
ونعود إلى مدرسة «النقد الجديد» في أمريكا، التي بدأها «سبنجارن» بكتابه هذا، لنقول إن «الجديد» عندها هو أن يكون النقد منصبا على الأثر الأدبي نفسه، منحصرا في النص ذاته، فأمام الناقد ترقيم على صفحة من كتاب، هذا الترقيم هو مجاله الذي لا مجال له سواه، فمهمته - إذن - هي أن يحلل هذه التشكيلات اللفظية التي انتشرت أمامه على صفحات الكتاب ليرى كيف ركبت أجزاؤها. على الناقد أن يسأل نفسه سؤالا، هو: ما الغاية التي يستهدفها الكاتب، وهل هذه العبارات التي أمامه، هذه الرموز اللفظية التي يقرؤها، تؤدي إلى ذلك الهدف؟ وعملية النقد بعد ذلك النقد هي الإجابة عن هذا السؤال.
يظل «سبنجارن» يعيد في كتابه مرة بعد مرة قوله «النص ولا شيء إلا النص.» «الكلمات المرقومة على الصفحة» هي موضوع النقد، وتحليلها وتشريحها وفحصها من جميع وجوهها هي مهمة الناقد، إن الأثر الأدبي لا ينبغي أن يعتمد في تفهمه على شيء سواه، وإذن فلا بد أن تكون كل العناصر كائنة فيه وبين دفتيه؛ فإن اضطرتك كلمة في الكتاب أو عبارة فيه إلى الرجوع إلى شيء في البيئة لتفهم معناها، فلا يزال معنى الكلمة أو العبارة هو الذي يشغلك.
هذا هو «الجديد» الذي أعلنه «سبنجارن» فجاء بعده كثيرون ينحون نحوه، وأعظمهم اليوم هو «بلاكمير» الذي تستطيع أن تعده عنوان النقد الأدبي في أمريكا الآن؛ يتناول «بلاكمير» الكتاب الذي يريد نقده، يتناوله سطرا سطرا في دقة وتعقب يهولانك، وهو صارم جدا في تطبيق هذا المذهب «الجديد» ويعسر الحساب إيما عسر مع الكاتب أو الشاعر، فلا بد لكل كلمة أن تؤدي معناها الذي تعارفنا عليه، ولا بد لكل عبارة أن يكون لها مدلولها من منطوقها، ومن كلامه أن الشاعر يستحيل أن يستبيح لنفسه نسبة المعاني إلى الألفاظ كما شاء هو لا كما شاء العرف والاصطلاح الجاري، ويظل مع ذلك شاعرا عظيما، إن للألفاظ معاني اكتسبتها على مر الأيام، فإن أراد الشاعر أن ينقل إلينا شعوره محددا واضحا لا لبس فيه ولا إبهام، فعليه باستخدام الألفاظ لتدل على معانيها. •••
تلك هي مدرسة «النقد الجديد» في أمريكا اليوم، فهل يسع دارسا عربيا إلا أن يسأل: أين الجديد؟ وأين إذن ذهب عبد القاهر الجرجاني والآمدي؟! فقد رأيت شبها شديدا بين «سبنجارن» و«عبد القاهر الجرجاني» كما رأيت شبها بين «بلاكمير» و«الآمدي».
فإن يكن «سبنجارن» قد ألح في أن تكون عبارة النص الأدبي هي مدار النقد، وأن يكون الحكم على الأثر الأدبي قائما على مقدار أداء العبارة للمعنى المراد ولا شيء غير ذلك، فقد ألح قبله عبد القاهر الجرجاني بتسعة قرون أو نحوها.
معروف بأن جودة الأثر الأدبي إنما تعتمد على «المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام» كما تعتمد على مواقع العبارات بعضها من بعض واستعمال بعضها مع بعض، ألح عبد القاهر قبل سبنجارن بتسعة قرون في القول بأن تكون «الألفاظ خدم المعاني» وبأن العبرة لا تكون في الألفاظ مفردة، بل فيها مركبة في عبارات؛ لأن اللغة - كما يقول عبد القاهر - «ليست مجموعة ألفاظ بل مجموعة علاقات.» ومهمة الناقد الأدبي هي البحث في تركيبة العلاقات اللفظية التي يراها أمامه ليحكم بمقتضاها، فإن قال الناقد: هذه عبارة جميلة. ثم إذا سألناه: ما أساس جمالها؟ عرف كيف يجيب لأنه سيشير إلى خصائص في العلاقة الكائنة بين ألفاظها من حيث الاختيار والتقديم والتأخير والحذف والتصريح وما إلى ذلك.
كذلك وجدت شبها قويا بين «بلاكمير» و«الآمدي» في هذا البحث التفصيلي الذي لا يبيح صاحبه لنفسه أن يقول حكما عاما على كاتب أو شاعر، بل يحكم على هذه العبارة من كلامه، أو هذه الصفحة من كتابه، وحتى إن عمم الحكم بعد هذا التخصيص فسيكون تعميما على أساس علمي صحيح، «بلاكمير» و«الآمدي» كلاهما يضطلع في النقد بمهمة الجبابرة، كلاهما حتى الضمير يقلقه أن يترك بيتا من الشعر من غير فحص اعتمادا على بيت سواه، كلاهما ينقد ما أمامه من نصوص ولا يتحزب قبل ذلك سلبا أو إيجابا، وإذن فهؤلاء الأربعة؛ الأمريكيان «سبنجارن» و«بلاكمير»، والعربيان «الآمدي» و«عبد القاهر الجرجاني» - إذا لم أكن مخطئا في هذه الموازنة - يقيمون أحكامهم الأدبية على دراسة النص جزءا جزءا؛ ولذلك ففي مستطاعهم أن يعللوا أذواقهم بما يمكن أن يسمى تعليلا علميا.
على أن الأعظم لا يكون دائما هو الأشهر والأوسع ذيوعا وشيوعا، ففي منزلة أدنى من منزلة «بلاكمير» اليوم، نضع ناقدا آخر هو «بيرك» على الرغم من أن «بيرك» أقرب إلى نفوس القراء وأكثر بينهم ذكرا؛ ذلك لأنه يجعل من النقد تحليلا نفسيا، ثم يجعل تحليله النفسي على أساس من نظرية فرويد، تراه - مثلا - يقول: لماذا أكثر هذا الكاتب من ذكر الجبال؟ لا بد أن يكون ذلك رمزا إلى شيء في عقله الباطن؛ فالجبال توحي بالصعود، والصعود بما فيه من خطوات متتابعة متناغمة دليل على شيء مكبوت في نفس الكاتب! مهمة النقد عند «بيرك» أن يكشف عن نفس الكاتب من كتابته، إذن فهو من مدرسة نقدية غير المدرسة التي أنشأها سبنجارن وتبعه فيها بلاكمير؛ لأن مدار البحث هنا هو الكاتب لا الكتاب.
ويخيل إلي أن هذا الاتجاه النفسي في النقد الأدبي هو الذي يسيطر على المشتغلين بالنقد عندنا في مصر، وخصوصا أساتذة كليات الآداب، ولست أنا بمن يستطيع القول الفصل في ذلك؛ فلهم دراساتهم ولهم آراؤهم، لكني أعتقد - وهو اعتقاد رجل ليس البحث الأدبي الجامعي اختصاصه - أعتقد أن الاتجاه النفسي في دراسة الأدب مجال للتخمين، وهو بعد ذلك يبحث شيئا غير الأدب؛ لأن الكاتب إنسان وليس هو بالقطعة الأدبية، والمنوط بدراسته باعتباره إنسانا هو عالم النفس لا الناقد الأدبي، وفي رأيي أن النقد الأدبي لن يكون جادا مجديا إلا إذا جعلنا النصوص الأدبية مدار التحليل والدرس.
هذان اتجاهان ملحوظان في النقد الأدبي في أمريكا، وليسا هما بكل ما عساك ملاقيه فيما يكتبه النقاد؛ لأنك ستجد مجموعة كبيرة جدا من أساتذة الجامعات ينقدون نقدا شارحا؛ فالشرح عندهم هو النقد، وستجد مجموعة كبيرة جدا من نقدة الصحف اليومية والمجلات الشعبية، يجيدون العرض، لكنه سلعة في السوق لا يظهر فيه مذهب أدبي واضح المعالم.
العرب والأدب المسرحي
في فاتحة «فاوست» ترى مفستوفوليس يشكو إلى السماء ملل الحياة، لكن الملائكة لم تفهم عنه شكواه، وراحت تتغنى بما في الحياة من جدة ونضارة؛ ولعل مفستوفوليس في نظرته الباردة الفاترة يمثل كل من تمرس بتجارب الحياة حتى عرك عودها وعرف حلوها ومرها، وخيرها وشرها، ولم يعد فيها له من جديد، وأما الملائكة - ها هنا - فتمثل النظرة اليافعة البريئة التي ترى في كل شيء جدة لا تزول ولا تبلى؛ مفستوفوليس ينظر إلى الأمور نظرة الشيخ دقت نظرته واستقام رأيه واعتدل في يده الميزان، والملائكة - ها هنا - تنظر إلى الأشياء نظرة الطفل الفرح المرح الذي يلهو بالحياة لهوا يصرفه عن إدراك مقوماتها وعناصرها.
وناقد الأدب - أو قل ناقد الفنون بصفة عامة - ينبغي أن يجمع في نفسه نفس مفستوفوليس ونفوس الملائكة جنبا إلى جنب، وإنما أردت بذلك شيئا يمكن التعبير عنه بلغة أبسط؛ إذ أردت أن أقول إن ناقد الأدب لا بد له من قراءة القطعة الأدبية التي هو بصددها مرتين؛ فيقرؤها مرة أولى قراءة الملائكة التي تنصرف بجمال الحياة عن حقيقة عناصرها، ثم يقرؤها مرة ثانية قراءة مفستوفوليس الذي يغوص إلى أذنيه في تحليل الحياة إلى عناصرها فلا يلتفت إلى سحرها وجمالها؛ لا بد للناقد من قراءتين؛ يستمتع بأولاهما ويتذوق، ويحلل بأخراهما وينقد؛ هو في القراءة الأولى يستسلم للمؤلف استسلام الطفل الغرير، وفي القراءة الثانية يتصدى له تصدي الخصم العنيد - وهي خصومة قد تنتهي بالود والإخاء.
هذا مبدئي في نقد الأدب، وهذا ما صنعته في هذه المسرحية الجديدة التي أخرجها لنا أديبنا المبدع النابه الأستاذ توفيق الحكيم. قرأت «الملك أوديب» مرتين على النحو الذي أسلفت لك. وجلست إلى مكتبي ونشرت أوراقي ورفعت قلمي، أريد أن «أنقد» الكتاب. لكني لم ألبث أن وضعت القلم وفركت جبيني بأصابعي، وهمست لنفسي قائلا: ماذا أنت صانع؟ أتريد أن تقول للناس ما هي قصة «أوديب» وليس في قرائك فرد واحد يجهل أنها قصة الرجل الذي تزوج من أمه وهو لا يدري أنها أمه، فأحبها حب الزوج لزوجته وأحبته حب الزوجة لزوجها، وأنجبا الأطفال، ثم كشفت لهما الحوادث أنهما أم وابنها فكانت الفاجعة؟! أم تريد أن تقول للناس إن الأستاذ توفيق الحكيم كاتب مسرحي قدير، وليس في قرائك فرد واحد لا يعرف هذه الحقيقة أكثر مما تعرف؟
لا، بل إني لم ألبث أن همست لنفسي همسة أدق وأعمق: ترى هل يتوجه الناقد بنقده إلى قراء الكتاب، أم إلى كاتب الكتاب؟ الظاهر أن الثانية هي أدنى إلى الصواب، بدليل أنه يزعم لنفسه القيادة والهداية، كأنما يقول للكاتب: افعل هذا ولا تفعل ذاك، إذا ما حاولت مرة أخرى أن تكتب!
ها هنا تبينت في موقفي شذوذا عجيبا يستوقف النظر: أتريد أنت إذن أن تهدي الأستاذ توفيق الحكيم سواء السبيل في الأدب المسرحي؟! بل ماذا يستطيع أي ناقد في الدنيا أن يصنع لأي كاتب؟ إنه ليخيل إلي الآن أن من أشد الأوهام ضلالا وتضليلا أن يظن ناقد - كائنا من كان - أنه مستطيع أن يصلح كاتبا كائنا من كان. لقد فهمت الآن معنى قول «لوكاس»: إن النقد طفيلي يعيش على غيره. نعم إنه طفيلي يتغذى بفتات الأديب المنتج، بل فهمت الآن فقط معنى قول «تشيكوف»: إن النقد ذبابة لاذعة تلسع ثيرة المحراث فتعوقها عن المضي في حرث الحقول؛ إنه قد يضر، ولكنه لا ينفع.
كيف تبلغ بلاهة الناقد الأدبي هذا الحد البعيد بحيث يتوهم أنه سيصلح الكاتب؟ إن ذلك ليذكرني بما رواه قصصي إنجليزي معاصر هو «فورستر» عن نفسه إزاء النقد الذي وجه إلى إحدى قصصه، إذ لاحظ عليه الناقد أنه قد أسرف جدا في القضاء على شخصيات قصته بالموت المفاجئ، وذكر له أن أربعة وأربعين في المائة من أشخاص قصته أصابهم الموت فجأة، وليس في هذا شيء من صدق تصوير الطبيعة، فقال الكاتب الأديب لنفسه: إي والله لقد صدق، ولا بد لي في قصتي التالية من مراعاة ذلك، فسأحاول أن أمهد لموت أشخاصي بالأمراض وغيرها من الأسباب الطبيعية للموت. وآن أوان قصته التالية، فإذا به كلما عن له أن يميت شخصا، لم يجد لنفسه مندوحة في أكثر الأحيان عن أن يقضي عليه قضاء مفاجئا؛ لأن خياله لم يسعفه أبدا في تهيئة حياة أشخاصه تهيئة تنتهي بهم إلى موت يسبقه مرض. ها هنا كاتب يسلم بصحة الرأي الذي يوجهه إليه الناقد، ومع ذلك يعجز عن إصلاح نفسه؛ لأن الأمر كله مرهون بالموهبة الفطرية، فهو أديب بمقدار ما هو موهوب، وهو عاجز حيث هو عاجز، ولا أمل في إصلاح الموهبة إلا في التوافه التي لا تقدم ولا تؤخر. •••
وإن صح ذلك في كل ناقد وكل كاتب بصفة عامة، فهو أصح بصفة خاصة في ناقدا بالنسبة إلى توفيق الحكيم كاتبا مسرحيا.
فيم إذن كتابة النقد؟ أعتقد أنه في كثير جدا من الأحيان يكون النقد لمصلحة الناقد نفسه، فإذا أنت قرأت كتابا قراءة تريد بها نقدا، دعاك ذلك إلى كثير من الدقة والحرص وأنت تقرأ، كانا قمينين أن يفلتا منك إذا قرأت للتسلية قراءة عابرة، كما أن مناقشتك للكاتب بعض رأيه فيها رياضة عقلية لك أنت؛ وقد يمتع القراء أن يقرءوا لفتاتك ولمحاتك، لكن الكاتب لن ينتفع بذلك كثيرا ولا قليلا.
وعلى هذا الأساس وحده أتوجه إلى القراء ببعض خواطري عن مسرحية «الملك أوديب»، التي أخرجها الأستاذ توفيق الحكيم. •••
يقدم الأستاذ توفيق الحكيم مسرحيته لقارئه بمقدمة طويلة تقع في أربع وخمسين صفحة، يعلل فيها نفور الأدب العربي قديما من هذا اللون الأدبي، فلماذا لم ينقل العرب عن اليونان أدبهم المسرحي؟
ومضى أديبنا يذكر التعليلات المختلفة لهذه الظاهرة العجيبة، ويرد عليها، أيكون هذا النفور مرجعه إلى ما في المسرحية اليونانية من «روح الصراع بين الإنسان والقوى الإلهية؟ أترى هذه الصبغة الدينية هي التي صدت العرب عن اعتناق هذا الفن؟» (ص18) «هذا رأي جماعة من الباحثين ... فهم يزعمون أن الإسلام هو الذي حال دون اقتباس هذا الفن الوثني ... إني لست من هذا الرأي ... فالإسلام لم يكن قط عسيرا على فن من الفنون ... فقد سمح للناقلين أن يترجموا كثيرا من الآثار التي أنتجها الوثنيون ...» (ص19). إذن فما علة هذا النفور؟ «أتراها صعوبة فهم ذلك القصص الشعري، وكله يدور حول أساطير، لا سبيل إلى فهمها إلا بشرح طويل، يذهب بلذة المتتبع لها، ويقضي على متعة الراغب في تذوقها؟ ... ربما كان في هذا التعليل شيء من الصواب ...» (ص19)، «لكن ... على الرغم من وجاهة هذا التعليل فإني لا أعتقد أن هذا أيضا يحول دون نقل بعض آثار هذا الفن» (ص20).
لماذا - إذن - لم ينقل العرب عن اليونان أدبهم المسرحي؟ التعليل الصواب عند أديبنا توفيق الحكيم هو «أن التراجيديا الإغريقية ما كانت حتى ذلك الحين تعتبر أدبا معدا للقراءة ... إنها لم تكن وقتئذ شيئا مما يقرأ مستقلا كما تقرأ جمهورية أفلاطون؛ فقد كانت تكتب لا للمطالعة بل للتمثيل ...» (ص21)، «لم تخلق الرواية المسرح ... ولكن المسرح هو الذي خلق الرواية ... وما دام المترجم العربي قد أيقن أنه أمام عمل لم يجعل للقراءة ففيم ترجمته إذن؟» (ص23).
في رأي الأستاذ توفيق الحكيم - إذن - أن العرب لم ينقلوا الأدب المسرحي من اليونان، ولا قلدوهم فيه؛ لأنه لم يكن لديهم مسرح، ولم يكن للعرب مسرح؛ لأنهم بدو رحل لا يستقرون في مكان، وطنهم «متنقل على ظهور القوافل يجري هنا وهناك خلف قطرة غمام ... وطن يهتز فوق الإبل ... كل شيء في هذا الوطن المتحرك كان يباعد بينه وبين المسرح ... لأن المسرح يتطلب أول ما يتطلب: الاستقرار» (ص24).
لكني لا أرى رأي أديبنا في ذلك؛ فأولا: لم ينقل العرب عن اليونان سائر علومهم حين كان «وطنهم يهتز فوق الإبل»، بل نقلوا عنهم حين استقروا في بغداد وغيرها من أرض مستقرة ثابتة، وثانيا - وهو المهم عندي الآن - لم يقتصر النفور من الأدب المسرحي على العرب، حتى على فرض أن الحضارة العربية كلها كانت «متنقلة على ظهور القوافل»، ولكنه كاد يشمل الحضارات الشرقية كلها، وفيها مصر والهند والصين؛ كان الناس في مصر، وفي الهند وفي الصين، لا تضطرهم ظروف البيئة إلى «الجري هنا وهناك خلف قطرة غمام»، بل كانوا مزارعين يضربون بجذورهم في مكان بعينه لا يكادون يتحولون عنه مدى الحياة، فلماذا لم تظهر المسرحية في أي منها كما ظهرت في اليونان؟ أأقول إن الأدب المسرحي طور لا بد أن يسبقه طور الأدب الغنائي وأن يلحقه أدب التفكير؟ لكن ذلك إن صح في مصر على اعتبار أن حضارتها القديمة كلها بدأت وانتهت في طور الطفولة الأدبية، فهو لا يصدق بالنسبة إلى الهند أو الصين؛ لأن الحضارة فيهما امتدت حتى عاصرت اليونان وما بعدهم.
الرأي عندي هو أن الأدب المسرحي - والقصصي أيضا - يستحيل قيامه بغير التفات إلى تميز الشخصيات الفردية بعضها عن بعض؛ لو نشأ الكاتب في جو ثقافي لا يعترف للأفراد بوجود، ويطمسهم جميعا في كتلة واحدة من الضباب الأدكن، فلا سبيل إلى تصويره هؤلاء الأفراد يصطرعون في مأساة، والشرق كله - في رأيي - قد طمس الفرد طمسا ولم يترك له مجالا يتنفس فيه؛ الأفراد في الثقافة الهندية كلها «مايا»؛ أي وهم لا وجود له، والموجود الحق هو الكون كلا واحدا لا تفرد فيه ولا تكثر، وقل مثل هذا في الصين وفي كل بلاد الشرق بصفة عامة؛ الحضارات الشرقية كلها تغفل شأن الفرد وتجعله جزءا من شيء أعم منه، فهو عند العرب - وهم الآن موضوع بحثنا - جزء من القبيلة، فلا وزن له إلى جانبها ولا قيمة له بالقياس إليها، ولا كذلك اليونان؛ فالفرد عندهم هو محور التفكير، حتى الآلهة عندهم أفراد لهم مميزاتهم ومشخصاتهم، ومن هاتين النزعتين المختلفتين، نشأ الدين في الشرق والعلم في الغرب؛ لأن معظم الديانات أساسها التوحيد بين تلك الظواهر المختلفة، وأما العلم فأساسه التمييز بين تلك الظواهر ما دام فيها ما يميزها، لم يعرف الشرق أشخاصا، فلم يعرف المسرحية ولا القصة.
يقول الأستاذ توفيق الحكيم: إنك لو أعطيت المسرح للعرب لكتبوا المسرحية «وكما أن العرب في عهد الإبل كان لسان حالهم يقول: «أعطونا الجواد ونحن نركب!» فإنهم كذلك قد يقولون: «أعطونا المسرح ونحن نكتب!»» (ص29). وهذا في رأينا تفكير دائري؛ لأننا كما نسأل: لماذا لم يكتب العرب مسرحية حين استقر بهم المقام في المدن، نستطيع أيضا أن نسأل: لماذا لم يقم العرب لأنفسهم مسرحا عندئذ؟ أريد أن أقول إن الأستاذ توفيق الحكيم لم يعلل بقوله ذلك شيئا، إنما وضع السؤال الواحد في صيغتين مختلفتين، ولم يأتنا بالجواب.
أراني قد أطلت القول حتى قاربت الغاية التي يجب أن أقف عندها، دون أن أقول كلمة واحدة عن المسرحية ذاتها! وإني لأقلب الآن صفحات الكتاب أمامي وأراها مليئة بالتعليق الذي أردت أن أعرضه، والظاهر أن ليس إلى هذا العرض من سبيل؛ فقد كنت أحب أن أعرض لتصوير الأشخاص، وأثبت رأيي في مدى توفيق الكاتب في ذلك التصوير؛ لأني أراه أبرع فنا في تصوير «جو كاستا» منه في رسم «أوديب»، وكنت أحب أن أسأل سؤالا يتناول الأساس الذي أقام عليه الكاتب بناءه كله، وهو الأساس الديني، فقد أراد أديبنا الفاضل أن يصور الإنسان معتمدا في سلوكه على قوة أعلى منه، لكني لا أكاد أرى اختلافا جوهريا يقع في حوادث المسرحية لو أني جعلت سلوك الإنسان مستمدا من عواطفه ومؤثرات بيئته، فكأن الكاتب قد اشترط لنفسه أساسا، ثم استغنى عنه عندما أراد البناء.
وكنت أريد أن أقول أشياء كثيرة أخرى، لا أوجهها إلى الكاتب ناقدا - فليس إلى ذلك من سبيل - بل أقولها لأعلم بها نفسي.
شيوخ الأدب وشبابه
عندما تلقيت من صديقي الأستاذ أنور المعداوي كتابه «نماذج فنية من الأدب والنقد» وأدرت غلافه لأجده منذ فاتحة الكتاب يعلن الثورة ويتعجل الإصلاح في ميدان الأدب والنقد، شاعت في نفسي النشوة وقلت هامسا: هذا ثائر يلتقي بثائر وساخط يصافح ساخطا؛ فكلانا على السواء «يضيق بأضواء الشموع، هذه الأضواء الضئيلة الهزيلة، التي لا تستطيع أن ترد عادية الظلام.» وكلانا على السواء يريد «هدما للقيم البالية المتداعية يعقبه بناء على ركام الأنقاض.»
فالصديق الأديب قد نظر - كما يقول في مستهل كتابه - إلى أدبنا، فوجده في أكثر حالته «أدب المحاكاة الناقلة، لا أدب الأصالة الخالقة، أدب الترديد والتقليد، لا أدب الإبداع والتجديد؛ ليس له طابع خاص وليست له شخصية مستقلة، وإنما ضاع طابعه واختفت شخصيته في زحمة الجلوس إلى موائد الغير بغية الاقتباس من شتى الطعوم والألوان ...»
كلام جميل! ولعل صديقنا الأديب قد أشفق علينا من هذه الحال التي يستحيل ألا يشفق منها قلب شاعر حساس، وهو يقول هذا الكلام الجميل مقصورا على الأدب، وأقوله أنا مطلقا بغير قيد؛ فليس في حياتنا الفكرية كلها ذرة من أصالة خالقة؛ فلا العالم يكشف كشفا جديدا ولا الأديب يخلق خلقا جديدا، وإني لأنظر إلى تاريخنا وأعجب كيف استحالت الرءوس عندنا إلى جماجم خاوية، تنفذ إلى أجوافها أصداء غامضة مما يقوله سوانا، فتتردد الأصداء في جنبات الجماجم لتخرج على الألسنة والأقلام هشيما هو أقرب إلى فضلات النفاية. ولقد كتبت منذ أربعة أعوام سلسلة من ثلاث مقالات كان عنوانها «لماذا لا نخلق؟» بسطت فيها تفصيلا ما أوجزه هنا: كيف أننا لا نخلق شيئا جديدا؟ وأذكر أني حاولت التعليل لهذه الظاهرة، فرددتها عندئذ إلى علة، لا أزال أعتقد في صدقها، وهي أننا نتخلق بأخلاق العبيد، والخلق لا يكون إلا لأحرار؛ لأنه إن كان العبد هو من يأتمر في حركته وسكونه بأوامر تأتيه من خارج نفسه، فنحن نحن العبيد في أخلاقنا وفي تفكيرنا على السواء؛ فالخلق الصحيح عندنا هو ما أرضى السلطة الخارجية - أيا كان نوعها - والتفكير عندنا هو قطرات تسربت من أرصفة الجمارك.
فما أحراني أن تشيع النشوة في نفسي إذا ما صادفت كتابا كتبه ثائر على ما يحيط بنا من قيم وأوضاع، ويضع لنا «نماذج» جديدة لعلها تهدينا في مجاله - مجال الأدب والنقد - سواء السبيل؛ وإن النشوة لتشتد في نفسي حين أعلم أن صاحب هذه الثورة «شاب» بكل معنى الشباب الفتي الطموح؛ فلم أكن أعلم أنه «لم يتخط الثلاثين» بعد إلا حين قرأت الكتاب، وهو كذلك «شاب» في الأدب كما شممت من مقدمة كتابه، بمعنى أنه جاء - على حد قوله - والمعول في يده يحطم القيم كما هي في أيدي الشيوخ.
ففي مصر بدعة أدبية لا أعرف لها نظيرا في الآداب الأوروبية، وهي أن يقسموا الأدباء إلى شيوخ وشباب، على أساس الأعمار؛ فهؤلاء شباب لأنهم صغار في السن، وأولئك شيوخ لأنهم كبار فيها؟ ولست في الحق أدري أي عام على وجه التحديد يجعلونه فاصلا بين القسمين؛ لأنني أعرف كثيرين ممن يشتغلون بالأدب تتراوح أعمارهم بين الأربعين والخمسين، ولا أدري أين أضعهم؛ فلو وضعتهم مع الشيوخ كما ينبغي، ألفيت الشيوخ الأقحاح من أدبائنا يستنكرون أن يدخل في زمرتهم دخلاء لم يألفوهم أعضاء في أسرتهم على سفوح الأولمب، ولو وضعتهم مع الشباب جافيت طبيعة الحياة، وظلمت أبناء العشرين والثلاثين.
وكان الأمر يستقيم بين أيدينا، لو فهمنا الشباب والشيخوخة في الأدب بمعنى آخر؛ فشيوخ الأدب هم من ساروا على نهج معين في فهمهم للأدب ومعيارهم للإبداع الفني، حين يكون ذلك النهج قد استقرت به القواعد منذ حين، ولا فرق عندئذ فيمن ينهج هذا النهج بين من تقدمت بهم السن أو تأخرت؛ فكلهم «شيوخ» في الأدب لأنهم يلاحقون الزمن من قفاه، ويتأثرون السلف في الأهداف والوسائل، وشباب الأدب هم من خلقوا مدرسة جديدة يناهضون بها النهج القديم السائد، ولا فرق عندئذ بين من تقدمت بهم السن أو تأخرت؛ فكلهم «شباب» في الأدب لأنهم نبات جديد تتفتح أكمامه للشمس والهواء. إن أدباء الابتداع في الأدب الإنجليزي في أول القرن التاسع عشر - مثلا - كانوا في مجرى الأدب شبابا نضرا تتفجر الحياة الجديدة من سطورهم، ولسنا نسأل بعد ذلك كم كان عمر «وردزورث» حينئذ - أو «كولردج» - فليكن عمره ما يكون في حساب السنين، لكنه «شاب» في خلقه وإنتاجه.
وأعود وأقول إن نشوتي بكتاب الصديق المعداوي قد اشتدت في نفسي، حين لمحت في مقدمته بوادر الشباب بمعناه الأدبي، فضلا عن شبابه الذي «لم يتخط به الثلاثين»، ورجوت أن أقرأ الكتاب فأجد المعول في يده قد حطم القديم فعلا، وقد أقام «النماذج الفنية» الجديدة فعلا، وألا يكون الأمر كلاما في كلام ووعودا في وعود، فنقرأ البشرى على الغلاف، ويشتد بنا الحنين في المقدمة، ثم لا شيء!
وسأكون في هذه الكلمة صادقا، اعتمادا على رحابة صدر الأديب صاحب الكتاب؛ فهو هو نفسه الذي هاجم رأيا للدكتور طه حسين في عنف، وقال معتذرا عن هجمته العنيفة: «إني لا أعرف في النقد صداقة ولا مجاملة» (ص94).
إن للموضوع عندي أهمية وخطرا؛ فهذا كتاب يكتبه كاتب «ثائر»، يقول به للناس هاكم «النماذج الفنية» التي تستطيعون منذ اليوم أن تحتذوها بعد أن ضقتم وضقنا ذرعا بما كان يكتب الشيوخ، وأنظر في الكتاب وأقرؤه حرفا حرفا، فيفتنني سحر أسلوبه، نعم إن لهذا الكاتب أسلوبا حلوا تنزلق عليه انزلاقا وكأنما تحيط بك طول الطريق أنغام تشجيك وتسحرك وتفتنك؛ ولست في ذلك بالذي ينثر الأوصاف نثرا بغير حساب؛ لأن ذلك ما قد لقيته أنا - على أقل تقدير - لقيت فيه السحر الذي خيل لي معه أن الكاتب قد صدق وعده حين وعد القارئ على الغلاف وفي المقدمة بأنه مهيئ له «نماذج» جديدة من الأدب، ولم أثب إلى رشدي، وأستعد قواي العاقلة المحللة إلا بعد حين؛ وعندئذ فقط - وقد زال عني كثير من سحر النغم الذي يفتن اللب ويخلب السمع - قلت لنفسي: أين هي «النماذج» الموعودة؟
فالكتاب بادئ ذي بدء مجموعة مقالات، وقد جف ريقي من كثرة ما قلته في مواضع كثيرة من أننا لا نكاد نستطيع أن نكتب في الأدب إلا المقالة، على حين أن أدب الدنيا المتحضرة بأسرها لا يجعل للمقالة في دولة الأدب إلا ركنا ضئيلا، تراه بالمجهر إذا أردت أن تراه، والأدب بعد ذلك عندهم - إذا استثنينا الشعر - قصة ومسرحية «تخلق» أشخاصا من لحم ودم تنطق وتتحرك، وهذا هو يا سيدي الخلق الأدبي بمعناه الصحيح؛ أن تخلق رجالا ونساء يفكرون ويسلكون، ويجيئون من صدق التصوير بحيث نستشهد في حياتنا بما يقولون وما يعملون، كما ترى الأوروبيين يستشهدون - مثلا - ب «هاملت» وغيره من مئات الأشخاص الذين خلقتهم أسنة الأقلام هناك خلقا.
إنك يا سيدي قد ذكرت في غضون كتابك أسماء كثيرين من أدباء الغرب ذكر من درس آثارهم ووعاها؛ ذكرت - مثلا - شو، ومرجريت ميتشل، وبلزاك، ودستويفسكي، وأوسكار وايلد، فهل وجدت «نموذج» الأدب عند هؤلاء أن يكتبوا المقالات؟ هل وجدت الأدب هنا خطفات يخطفها الأديب من هنا وهناك؟ إن المقالة يا صديقي - في الأعم الأغلب - حيلة العاجز، حيلة من لا يسعفه الخيال القوي والخلق البديع، ولقد كانت هي القسط الأكبر من بضاعتنا؛ لأننا جميعا نكتب للصحف، ونقول: «هذا أدب.» بل قد نقول: «هذه نماذج.» يحتذيها من أراد أن يكتب أدبا، والأمر بعد، لا يعدو عجالات يكتبها الكاتب عندنا؛ القلم في يمناه، وفنجان القهوة في يسراه، ليسرع بها إلى المطبعة قبل أن يحين حين صدور المجلة أو الصحيفة التي يكتب لها. وأنت - فيما أرى - أعلم مني بآيات الأدب الأوروبي، ولا بد أن تكون قد علمت عنها أنها نتاج فكر طويل وخيال قوي، وأناة وصبر؛ لأنها «تخلق» للدنيا كائنات جديدة.
وإذن فالشاب الثائر في حقيقته شيخ معمر، لا يختلف في شيء عن سائر الشيوخ في الأدب إلا بأسلوبه؛ فلكل كاتب أسلوبه، وصديقنا المعداوي كاتب لا شك في روعة ما يكتبه، لكننا مع ذلك لا نحب أن يفهم ناشئة الجيل الجديد أن كتابه يحتوي على «نماذج» لما ينبغي أن يكون عليه الأدب الجديد.
ثم يزول عني السحر مرة أخرى، ذلك السحر الذي فتنني عن نفسي عند القراءة الأولى، وأثوب إلى قواي العاقلة المحللة لأجد أديبنا الشاب في عمره، شيخا في جريه وراء السنة التي استنها الأدباء الشيوخ في أدبهم بوجه الإجمال، وهي أن يكتفوا بفتات الموائد! اسمح لي يا صديقي أن أكذبك فيما تزعمه لنفسك من خلق ينبذ الترديد والتقليد، لأنني استعرضت فصولك كلها بعد أن زال عني سحر أسلوبها، لأجدها - في أغلبها - تعليقا على رجل أو كتاب، وهذا هو ما أسميه بفتات الموائد التي قنعنا بها قناعة الأذلاء؛ ترى ماذا كنت تكتب لو لم يكن الله قد خلق برناردشو، ولورد بايرون، ومدام ريكامييه، وتوفيق الحكيم، وأبا العلاء، ورابعة العدوية، وعمر بن الخطاب، وعلي محمود طه، والمازني، ولن يوتانج، وبيكاسو، وأوسكار وايلد، وجميل بثينة، وجمهرة أخرى كبيرة من أدبائنا المعاصرين كتبت عن كتبهم؟ هبنا قد رضينا بما قسم الله لنا من نصيب قليل في الأدب، وهو أن نكتب المقالة القصيرة، ونفرك أكفنا بعدها حمدا لله وشكرا على فضله العميم، أفتكون هذه المقالة القصيرة نفسها تعليقا على رجل من الفحول أو كتاب حديث أو قديم، ولا تكون - إلا في القليل النادر جدا - عن مشكلة من المشاكل الحية التي يعج بها الهواء من حولك؟ ثم أتكون هذه حالنا من حيث الصورة ومن حيث المادة، مقالة قصيرة مرتكزة على إنتاج الآخرين، ونقول لناشئة الجيل القادم: هاكم «النماذج» التي تحتذونها في الأدب إن قصدتم إلى حمل الأقلام، وأردتم أن تكتبوا في تاريخ الأدب صفحة جديدة؟
لا، لا تصدقوا الأستاذ المعداوي في ثورته؛ إنه ليس بالثائر كما رجونا لشبابه الفتي الطموح أن يكون؛ إنه لا يزال يسير على النهج الذي لا بد من الثورة الحقيقية على أسسه وأوضاعه؛ إنه لا «يخلق» جديدا على نحو ما يخلق الأدباء الفحول؛ إنه لا يزال - مثلنا - عبدا من العبيد الذين يقنعون بما يملى عليهم من خارج نفوسهم.
إن في هذا الكتاب لسحرا، وإني لأخشى على قرائه من سحره، لأنه سيشدهم في فهم الأدب إلى الوراء، ونحن نتمنى لهم أن يتقدموا خطوة إلى أمام.
الفكر العربي المعاصر
اتجاهه وخصائصه
1
ليس كل ما يكتب بالعربية فكرا عربيا؛ فالفكر لا تتحدد قوميته باللغة التي كتب بها، بل ينتسب إلى قومية منتجه، كائنة ما كانت اللغة التي استخدمها ذلك المنتج في التعبير عن فكره؛ فلو نقلنا إلى اللسان العربي شيكسبير من إنجليزيته، أو راسين من فرنسيته، فلا يصبح الأدب المنقول أدبا عربيا بسبب الثوب العربي الذي ألبسناه إياه، كما لا يصبح الرجل من الإنجليز أو من الفرنسيين أعرابيا إذا ما لبس العباءة العربية.
لقد نظم طاغور بعض شعره بالإنجليزية، لكن هذا الشعر يضاف إلى الأدب الهندي رغم لغته؛ لأن القلب الشاعر هندي يشعر بما يشعر به الهنود. على أنه يجوز أن تستثني من هذا التعميم، الكاتب الذي ينشأ في وطن غير وطنه فيصبح وكأنه من أبناء هذا الوطن الجديد، ويندمج مع أهله في أفكارهم ومشاعرهم، ومن أمثلة ذلك «كنراد» البولندي الذي كتب قصصه بالإنجليزية بعد أن نشأ وتربى بين الإنجليز، فجاء أدبه فصلا من تاريخ الأدب الإنجليزي، ولذلك أيضا أمثلة كثيرة لرجال من الفرس كتبوا ما كتبوه باللغة العربية، وجاءت كتابتهم جزءا من الفكر العربي؛ لتأصل الروح العربية في نفوسهم.
فلا مندوحة لنا - إذ نتناول بالتحليل فكرنا العربي المعاصر - عن اطراح ما نقلناه من اللغات الأجنبية على اختلافها لا فرق في ذلك بين قديمها وحديثها، ولا بين ترجمة كاملة وتلخيص؛ لكي نحصر أنظارنا فيما هو فكر عربي خالص.
ثم لا يكون هذا الفكر العربي الخالص الذي نخلص إليه بعد تنحية الفكر المنقول فكرا معاصرا، إلا إذا كان أصحابه الذين أنشئوه وأنتجوه من أبناء الجيلين أو الثلاثة الأجيال الأخيرة - وهي الأجيال التي يمكن أن نتفق على أنها تحدد معنى المعاصرة - بحيث يجوز لنا أن نطلق لفظ «الفكر العربي المعاصر» على ما أنتجه أبناء الدول العربية في الثلث الأخير من القرن الماضي وفي هذا النصف المنقضي من القرن الحاضر؛ ولا مندوحة لنا مرة أخرى عن اطراح الكتب التي نشرناها في هذه الفترة من تراثنا القديم، والتي ليس لنا من فضل إلا فضل بعثها وهو كفضل الذي يخرج من جوف الأرض آثار آبائه الأقدمين، نعم إن الكشف كشفه، لكن فضل الكشف عن الآثار لا يجعلها من صنع يديه، فله إن شاء أن يفخر بمجد آبائه على ألا ينسى أن مجده هو من ذلك كله لا يكون إلا لنسبته إلى هؤلاء الآباء.
نريد - إذن - أن نبعد عن أنظارنا ونحن بصدد البحث في الفكر العربي المعاصر، كل منقول عن لغة أجنبية؛ لأنه ليس فكرا عربيا، وكل قديم منشور؛ لأنه ليس فكرا معاصرا؛ لنرى بعد ذلك ماذا يبقى بين أيدينا مما أنتجناه إنتاجا مبتكرا أصيلا، فقد يسهل علينا عندئذ أن نتعقب اتجاهنا الفكري وأن نلمح الخصائص التي تميز فكرنا.
لكن أين عسانا واجدون هذا الفكر الذي نريد أن نضعه موضع البحث والتحليل؟ إن الفكر لا يكون هواء سابحا في الفضاء بل هو شيء مدون في الكتب والصحف، فإذا أردنا جمع الفكر العربي المعاصر، فعلينا بما أخرجته المطابع خلال الفترة التي حددناها، مما كتبه أبناء الدول العربية عن ابتكار وأصالة، غير أن المطابع العربية قد أخرجت خلال الثمانين عاما التي ذكرناها، ألوف الكتب وعشرات الألوف من المجلات والصحف، وإنه ليتعذر علينا - بل قد يستحيل - أن نغربل هذا الإنتاج كله لنميز بين ما هو أصيل وما هو دخيل؛ ولذلك فحسبنا إنتاج طائفة قليلة من قادة الفكر، الذين أجمع الرأي على أنهم فينا صفوة ممتازة، فإن وجدنا هؤلاء في جملتهم يتجهون وجهة معينة، ويتسم تفكيرهم بسمات مميزة كانت لنا بذلك النتيجة المنشودة.
2
ها أنا ذا أضع أمامي طائفة من الأسماء التي لمعت في مجالنا الفكري إبان الفترة التي حددناها، وأحاول أن أستخرج ما بينها - أو ما بين أكثرها - من عناصر مشتركة، فأول ما يستوقف النظر في إنتاجهم، جهاد متصل في سبيل الحرية، لكنه جهاد تختلف ألوانه فيما بينهم؛ فكثرتهم تدعو دعوة صريحة إلى الحرية السياسية من المستعمر الأجنبي أو المستبد الداخلي، حتى لتجد نفرا منهم قد وصلوا أنفسهم بالأحزاب السياسية صلة جعلتهم يرتفعون بارتفاعها وينخفضون بانخفاضها، بل إن منهم من أوغل في هذه الصلة بالأحزاب السياسية إيغالا حتى تبوأ من حزبه مكان الرئاسة.
استنفد الجهاد السياسي شطرا كبيرا من جهدنا الفكري، فانطبع تفكيرنا - إلى حد ما - بالطابع الذي اقتضاه العراك الحزبي في ميدان السياسة، وهو أن يكون أصحاب الأقلام على وعي تام بتفصيلات الحوادث التي تتصل بقضايانا السياسية - الداخلية والخارجية - وأن يرهفوا قدراتهم الجدلية، بحيث يستطيع الكاتب أن يقرأ مقالة خصمه اليوم ليرد عليها غدا، فلا عجب أن يتسم تفكيرنا بقصر المدى وسرعة الإنتاج، وارتبط بالصحافة ارتباطا وثيقا، فجاءه من هذا الارتباط بالصحافة الخير مرة والشر ألف مرة، وسنرجئ الحديث في هذا لنعود إليه بعد قليل.
أقول إن الدعوة إلى الحرية طابع يميز الفكر العربي المعاصر، وإن هذه الدعوة قد جاءت صريحة من الأقلام التي نهض أصحابها بخدمة الأحزاب السياسية، وأقول «خدمة الأحزاب السياسية» وأعني ما أقول بمدلوله الحرفي؛ لأن الأحزاب السياسية جاءت أولا، ثم نهضت أقلام المفكرين للدفاع عنها بعد ذلك، فلم يكن المفكرون هم الذين أنشئوا الاتجاهات السياسية كما كان ينبغي أن يكون. حدث ذلك - مثلا - في فرنسا في القرن الثامن عشر، فظهر روسو وفولتير وديدرو ومن إليهم، وخلقوا الجو الفكري الذي شق للسياسة طريقها حتى كانت الثورة الفرنسية وما بعدها، وحدث ذلك في إنجلترا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حين جعل الكتاب يكتبون في الاشتراكية قبل أن تكون الاشتراكية حزبا سياسيا، حتى إذا ما خلق الحزب السياسي ونهض على قدميه، لم تعد ترى أئمة الفكر عندهم يلحقون به كما يلحق التابع بمتبوعه والخادم بسيده. وفي رأيي أن انعكاس الوضع عندنا في البلاد العربية له مغزاه وهو أن شعلة الحرية قد أضاءها رجال العمل لا رجال الفكر؛ ومن هنا جاء ما كتبه المفكرون في الحرية السياسية مقالات حزبية صحفية تسير وراء الحوادث اليومية، ولم يظهر بيننا المفكر الذي يكتب فيها رسالة لها نصيب من عمق أو اتساع، كما فعل مفكرو الغرب حين شقوا الطريق برسائلهم في الحرية السياسية لما قام بعدهم من أحزاب سياسية تكونت في ضوء تعاليمهم وآرائهم.
على أن الدعوة إلى الحرية السياسية لم تكن كل شيء؛ إذ ظهرت دعوات أخرى إلى حريات أخرى، وها هنا نجد لمفكرينا فضلا في الابتكار والإبداع؛ فلئن فات قادة الفكر منا أن يمسكوا بزمام الدعوة إلى الحرية السياسية، بأن تركوا هذا الزمام في أيدي الساسة واكتفوا هم بالسير في مواكب الأحزاب، فهم في سائر أنواع الحرية أئمة ورواد، ولنا في ذلك عزاء أي عزاء، إذا علمنا أن هذه الحريات الأخرى أبقى أثرا وأدوم حياة.
لقد شغلتنا المطالبة بالحرية السياسية حتى أوشكنا أن نفهم «الحرية» بهذا المعنى وحده، لولا جهود موفقة لقادة الفكر عندنا، علمتنا أن الحرية تكون في التعبير عن الرأي تعبيرا لا تقيده القيود؛ قل الرأي الذي تراه، وقله مخلصا صادقا، واحتمل في سبيله صنوف الأذى التي ربما نزلت بك نتيجة إعلانك لرأيك، تكن نصيرا للحرية أكبر نصير، مهما يكن نوع ذلك الرأي، ولو لم تذكر كلمة «الحرية» أبدا من أول المعركة إلى آخرها. ولا شك أن كثيرين من قادة الفكر العربي المعاصر، قد وقفوا دون آرائهم وقفات عنيدة فكانوا بذلك دعاة للحرية بمعناها الصحيح.
إننا إذ نقول إن الدعوة إلى الحرية سمة تميز فكرنا العربي المعاصر، نضع في اعتبارنا مظاهر قد تبدو تافهة إذا أخذت فرادى، لكنها هي القطرات التي يتكون منها التيار الدافق، فإذا رأيت الشعراء يجاهدون في تحطيم التقاليد الشعرية الموروثة ما استطاعوا إلى تحطيمها من سبيل، وإذا رأيت ألوانا جديدة تخلق في أدبنا خلقا من العدم أو شبهه، كالقصة والمسرحية، وإذا رأيت البائع في الطريق يحاول أن يحدد حقوقه إزاء الشرطي الذي يمثل الحكومة، والشاب الناشئ يريد أن يثبت شخصيته أمام أبيه أو معلمه، والزوجة تجاهد في اكتساب حقها كاملا في محيط الأسرة، إذا رأيت هذا كله ممثلا فيما ينشره المفكرون بينا، فاعلم أنه تيار فكري واحد يدفعنا نحو الحرية ونحو الكرامة الإنسانية، مهما تعددت ألوانه فيما أنتجه هؤلاء المفكرون.
3
وأعود فأنظر إلى إنتاج هذه الصفوة الممتازة من مفكرينا خلال الفترة التي حددناها فألحظ إلى جانب جهادهم في سبيل الحرية بشتى ألوانها، ميلا قويا ظاهرا نحو «التعقيل»؛ أعني نحو أن يقيموا النهضة العربية الحديثة على أساس من منطق العقل، بدل أن يركنوا إلى عاطفة القلب وحدها، وذلك اتجاه - بغير ذلك - نحو ما هو خير وأفضل.
وقد كان لهذا «التعقيل» وجهان؛ الأول اغتراف من المدينة الأوروبية، والثاني مجهود جبار نحو إعادة التراث العربي القديم مصحوبا بدفاع عقلي يحاول أن يبرر له مكانا من ثقافة العصر الحاضر وفكره.
لقد قدمت لهذا البحث بمقدمة أقول فيها بوجوب استبعاد الفكر المنقول ترجمة أو تلخيصا، واستبعاد الفكر المنشور من التراث القديم، لكي نخلص إلى ما هو فكر عربي معاصر، فنتبين خصائصه على ضوء التحليل الصحيح، فإذا ما عدت الآن أذكر اغترافنا من المدينة الأوروبية وإعادة تراثنا العربي على أنهما وجهان لحركة «التعقيل» التي تميز اتجاهنا الفكري المعاصر، فإنما أذكرهما لما نشأ عنهما من «اتجاه» الأنظار نحو وجهة معينة، لا لمحصولهما الفكري في ذاته؛ وذلك شبيه بمن يدير جسدك نحو الشمال - مثلا - ثم يتركك فتمشي في هذا الاتجاه الجديد من تلقاء نفسك، وبالخطى التي تستطيعها قدماك وساقاك.
فلما كان أوضح جوانب المدنية الغربية اليوم هو إنتاجها العلمي - من حيث النظريات العلمية وتطبيقها تطبيقا عمليا على السواء - كان من الطبيعي أن يؤدي اتصالنا بتلك المدنية وأهلها اتصالا مباشرا - أخذ يتزايد زيادة مطردة في القرن الأخير - إلى نقل كثير من علومهم، وإلى اصطباغ التعليم عندنا بتلك الصبغة العلمية إلى الحد الذي استطعناه؛ نقلنا عنهم علوم الطب والهندسة والرياضة والطبيعة والنفس والاجتماع والاقتصاد وغيرها، وفوق هذا كله نقلنا عنهم المنهج العلمي ذاته وأخذنا نطبقه في ميادين جديدة عندنا، إلى هنا نحن ناقلون لفكر غيرنا، لكن أنظارنا قد اتجهت بهذا النقل وجهة جديدة، وهي أن ننظر إلى شتى أمورنا الإصلاحية الهامة نظرة عقلية علمية، فكانت هذه الوجهة الجديدة بغير شك طابعا يميز فكرنا المعاصر.
فها هو ذا - مثلا - مفكر من طليعة رجال الفكر المعاصر عندنا، يكتب كتابا في الشعر العربي القديم، فيقدم له بمقدمة طويلة يزعم فيها أن البحث الأدبي القويم ينبغي أن يقام على المنهج الديكارتي في التشكك وبلوغ اليقين؛ وهذا إمام فكري آخر، يفسر القرآن أو جزءا منه تفسيرا يراعى فيه أن تظهر أحكامه للناس منسقة مع العقل العلمي الحديث، وهكذا وهكذا. وإنك لتقرأ مئات المقالات التي يكتبها قادة الأدب عندنا، فتراهم جميعا يصدرون عن رغبة أكيدة شديدة في أن نلقي بزمامنا في كل أمورنا الاجتماعية إلى منطق العقل دون اندفاع العاطفة.
على أن ذلك ليس شيئا مذكورا في حركة «التعقيل»، بالقياس إلى موجة آخذة في الاتساع والقوة، تميل بنا نحو اطراح الارتجال في تناولنا للأمور العامة كلها، فترانا اليوم في أغلب الميادين الفكرية والعملية على السواء، أميل إلى الأخذ بالمنهج العلمي في شئون الإصلاح؛ فهنالك تجارب في الزراعة وتجارب في التعليم، وهناك إحصاءات رسمية تنبني عليها أحكامنا في شئون الصناعة والتجارة وغيرهما، على أننا بطبيعة الحال لا نزال في أول الشوط، ولا يزال حكم العاطفة يعاودنا آنا بعد آن، لكننا مع ذلك لا نخطئ إذا زعمنا ما زعمناه من أن محاولة الركون إلى أحكام العقل سمة أخذت أخيرا تظهر في تفكيرنا، وهي في طريقها إلى أن تكون طابعا مميزا للفكر العربي المعاصر.
ذلك كله يقال في الأثر الذي تركته فينا حركة النقل عن المدنية الغربية، وبقي أن نرى كيف يظهر طابع «التعقيل» في نشرنا للتراث العربي القديم. إن فتح النوافذ والأبواب أمام المدنية الغربية لم يصادف هوى عند طائفة من الناس ليست بالقليلة الشأن أو العدد؛ فبين ظهرانينا فريق كبير جدا كان يتمنى بحكم تربيته ونشأته أن يكون نهوضنا كله نموا من الداخل ورجوعا إلى الماضي، فلما رأوا بأعينهم أن تيار الحضارة الغربية العلمية جارف يمس أوضاع الحياة كلها، لم يروا بدا من النشاط والحركة في اتجاههم وهو الجري إلى الوراء لاستخراج كنوز الماضي لعلهم يجابهون بها الغرب الدخيل، لكنهم لم يقتصروا في هذا على مجرد نشر القديم نشرا مزودا بالشرح والتعليق - وحركة هذا النشر الآن على أشدها - بل أضافوا إلى ذلك «تعقيل» هذا التراث ما استطاعوا إلى ذلك من سبيل، وأقصد بالتعقيل هنا صياغة القديم صياغة جديدة، لعله يبدو متسقا مع أوضاع المدنية العلمية الحديثة، وإن شئت فانظر كم من طليعة المفكرين اليوم قد شغل نفسه بعرض جديد لأعلام الإسلام وحوادثه البارزة، وانظر كم منهم قد اتجه بقلمه إلى شرح القديم والتعليق عليه، شرحا وتعليقا يقصدان إلى عقل القارئ الحديث بنزعته العلمية وميوله العقلية. ولسنا بحاجة إلى القول بأن التطور الذي أصاب نظام التعليم في الأزهر والمعاهد الدينية بإضافة المواد «الحديثة» إلى برامجها، هو باب من أبواب «التعقيل» الذي سار في هذا الاتجاه الثاني.
فلئن كان فكرنا العربي الحديث يتسم بطابع «العقل» الذي يحاول كبح جماح العاطفة في شتى ألوانها، إلا أن هذا الطابع نفسه يتفرع فرعين - كما أسلفنا - ففرع منهما يبث في نهضتنا الفكرية «عقلا» خلال ما ينشره من العلوم المنقولة من الغرب، وفرع آخر يفعل الفعل نفسه بوسيلة أخرى، هي عرض البضاعة القديمة في ضوء جديد «معقول»؛ ومن ثم كان هذا الصراع الفكري العجيب عندنا؛ إنه صراع بين الجديد والقديم، لكني أراه يختلف عن كل صراع من نوعه؛ لأن الفريقين لا يختلفان على المعيار الذي تقاس به الأمور، فكلاهما يحتكم إلى منطق العقل، وكلاهما يحاول أن يبين أنه إلى ذلك المنطق أدنى من خصومه، ولو سمحت لنفسي بإبداء رأي شخصي هنا، لقلت إن الفريق الأول يصدر عن منطق أسلم وأصدق، فموقفهم يخلو من التناقض الذي يعيب موقف الآخرين، وموضع التناقض عند هؤلاء الآخرين هو أنهم يأخذون بالأساس نظريا - أعني أساس العقل في الحكم على الأشياء - ثم يجفلون مما يترتب على ذلك من نتائج.
4
قلنا فيما أسلفنا من حديث، إن الدعوة إلى الحرية طابع يميز فكرنا المعاصر، ثم أضفنا إلى ذلك أن الحرية السياسية بوجه خاص، تستنفد الشطر الأعظم من مجهود المفكرين، وأن رجال الفكر في هذا الميدان - لسوء الحظ - ليسوا ذوي أصالة؛ لأن الزمام في أيدي الساسة وهم لهؤلاء تابعون، فنشأ عن ذلك أن باتت الصحف اليومية أوسع ميدان لأقلامهم، ومن هنا تأثرت الحركة الفكرية المعاصرة بالصحافة أبلغ الأثر وأعمقه. وقد ذكرنا فيما مضى أن الصحافة قد عادت على حركتنا الفكرية بالخير مرة وبالشر ألف مرة، وها هنا نعود إلى شيء من التفصيل.
أما الخير الذي أصابه الفكر من الصحافة، فأهمه سهولة تدريب الكاتب على بلورة أفكاره؛ فلو كان كل كاتب ناشئ لا بد أن ينتظر حتى يفرغ من تأليف كتاب بأكمله، لكان الأرجح أن ينثني كثير من الكتاب عن الكتابة والتفكير، وكذلك كان للصحافة إلى جانب ذلك فضل آخر على الحركة الفكرية المعاصرة، وهو أنها عملت على ليونة الأسلوب وسهولته وانسيابه وسلاسته ليتمشى مع مقتضيات الحوادث اليومية، وهذا لا شك كسب عظيم؛ لأن الأسلوب الذي لا تكلف فيه علامة على صدق التعبير، والصدق في التعبير عن الرأي هو بدوره علامة قوية على الحرية التي ننشدها.
وأما شر الصحافة على فكرنا المعاصر فهو مستطير جسيم؛ لأنها طبعت الفكر العربي المعاصر بالسطحية والتفاهة وقلة النضوج؛ فهذه هي الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية تفتح صفحاتها لأقلام الكتاب كلما أشرقت الشمس مع الصباح أو غربت مع المساء، وهؤلاء هم الكتاب المفكرون يسرعون كل يوم إلى مكاتبهم يلقفون نتفة من هنا ونتفة من هناك لتكون لهم مقالة في هذه الجريدة أو تلك، فكاتب من ألف كاتب هو الذي يصم أذنيه عن نداء الصحف السيارة، ليهدأ إلى مكتبه عامين أو أكثر، حتى ينضج كتابا كاملا في موضوع؛ إن الثمرة الطيبة بحاجة إلى زمن حتى تنضج، ولا بد أن تكون طوال هذا الزمن في مأمن من الزعازع والأعاصير ومن المطر والحشر، لكن الصحافة عندنا قد جن جنونها فأطاحت بعقول المفكرين معها في سرعة دورانها.
إنني لا أقصر القول هنا على الإنتاج الأدبي وحده، بل إنه ليشمل أبحاثنا العلمية ومشروعاتنا الإصلاحية كذلك؛ فكم من باحث علمي لا يجد في نفسه الأناة التي تدعوه إلى التمهل والروية والتثبت؛ لأنه أمام صحافة مستعدة لنشر بحثه ممهورا باسمه، فسرعان ما يزيغ بصره، فيضحي بالأمانة العلمية في سبيل النشر السريع والشهرة العاجلة، وكم من رجل مسئول من رجال الدولة، لا يتأنى بمشروعه الذي قد يكلف الخزانة ملايين الجنيهات؛ لأنه يخشى أن تفوته فرصة النشر السريع.
حب للحرية والتسامح وسعة الأفق، وترجيح لأحكام العقل أو محاولة ذلك، ثم سطحية دعت إليها الصحف؛ تلك هي السمات البارزة التي تطبع الفكر العربي المعاصر.
صفقة المغبون
(هذه المقالة أرسلت من واشنطن.) ***
هي صفة أولئك الذين أراد لهم الله أن تكون أقلامهم هي موارد أرزاقهم، وقد كنت أحسب أن هؤلاء المساكين إن كان نصيبهم في سائر أنحاء الأرض بؤسا وحرمانا، فلا يكون ذلك نصيبهم في هذه البلاد - أمريكا - التي تسيل أباطحها ذهبا نضارا، لكني سرعان ما سمعت من أمرهم عجبا، فالكاتب الأمريكي الذي يعتمد في كسب قوته على الكتابة وحدها - إذا استثنينا قلة نبغت فأثرت - يعاني في سبيل العيش قلقا وعسرا.
فإذا أخذت كاتبا وسطا، لا هو بالعبقري الذي أسمع صوته للعالمين فجاء إليه الناشر يسعى ويمنح فيسخو له في العطاء، ولا هو بالمغمور الذي يرسل المخطوط إلى الناشر قانعا بالرزق القليل، ألفيت ذلك الكاتب الوسط في حال شديدة الشبه بحالة الفلاح المصري أيام أن كان في بؤسه يقترض من مالك الأرض مالا ينفق منه على نفسه وعلى الأرض التي يفلحها حتى تثمر، فإذا ما أثمرت الأرض كاد ثمرها لا يوفي ما اقترضه، دع عنك أن تتبقى له بقية ينعم بها جزاء ما عمل، فكذلك الكاتب هنا في معظم الحالات، إن لم أقل في كل حالة، يتعاقد مع الناشر على كتاب يتعهد بإخراجه بعد عام أو عامين مثلا، ويقرضه الناشر شيئا فشيئا، حتى إذا ما فرغ الكاتب من كتابه لم يجد شيئا! ولو أن ما اقترضه الكاتب سلفا يكفي حاجته لقلنا نعم ونعام عين، لكنه يعطيه بكف مغلولة إلى عنقه، فيقترض الكاتب من أبواب أخرى، راجيا في مستقبل قريب يحل له ما تعقد من أموره، فإذا هذا المستقبل بعيد، وإذا الكاتب يرزح تحت دين متصل، يكون له ذلا بالنهار وهما بالليل.
وأعجب العجب أن يكون مورد الكتابة بهذا النضوب كله، ومع ذلك يزداد الواردون! فقد أحصى إحصاء سنة 1950م ستة عشر ألف كاتب محترف في الولايات المتحدة - عدا من يكتبون هواية ويرتزقون من عمل آخر - فكان لهذا العرض الكثير نتيجته الطبيعية، وهي أن يقل ربح الناشر نفسه من الكتاب الذي يتعهده؛ ولذلك تراه حريصا في اختياره منذ البداية، شحيحا في عطائه ، فالكاتب مجدود إن قبل الناشر كتابه، وهو مجدود مرة أخرى إن أعطاه الناشر شيئا، وهو مجدود مرة ثالثة إذا بلغ ما أعطيه ألفي دولار؛ أي ما يعادل سبعمائة جنيه مصري، وربما قال القارئ المصري، وأين منا الكاتب الذي يصيبه هذا المال كله على كتاب؟ لكنه بهذا القول ينسى الفرق بين الحياتين، والفرق بين مستويين في الأسعار، وحسبي أن أقرب له الحقيقة فأقول إن الطالب المصري في أمريكا يصيبه من الحكومة المصرية في العام الواحد نحو تسعمائة جنيه مصري؛ أي إن الطالب المصري في أمريكا يعيش في بحبوحة من المال لا يحلم بها تسعة أعشار حملة الأقلام من أهل البلاد. والأمر سائر مع أصحاب القلم من سيئ إلى أسوأ؛ فقد كان متوسط النسبة المئوية التي يتقاضاها الكاتب من كتابه عشرين من كل مائة سنة 1910م، ثم أصبح خمسة عشر سنة 1925م، وهو الآن عشرة من كل مائة، ذلك إن كان المطبوع من الكتاب خمسة آلاف، وهي الحالة في الكثرة الغالبة من الكتب، على غير ما كنت أظنه بادئ الأمر، إذ كنت أظن أن كل كتاب هنا يطبع بمئات الألوف، وتزيد النسبة كلما زاد المطبوع من الكتابة، وأضرب لذلك مثلا، فالقصة التي تباع في السوق بما يساوي مائة وخمسين قرشا للنسخة الواحدة، لو طبع منها خمسة آلاف أخذ كاتبها نحو ستمائة جنيه مصري، ولو طبع منها عشرة آلاف أخذ كاتبها نحو ألف وأربعمائة جنيه مصري، وهكذا، ولكن الكاتب الوسط - كما قلت - يندر أن يطبع من قصته هذا العدد.
فكان من النتائج الطبيعية لهذه المعسرة، لا أن يطوح حملة الأقلام بأقلامهم في النار ليبحثوا عن عمل آخر، بل أن يلتمسوا لأقلامهم موردا آخر غير كتابة الكتب، فكان هذا المورد الآخر هو المجلات والصحف، أما الصحف اليومية فأتركها الآن إلى فرصة أخرى، لأحصر الحديث في المجلات الأسبوعية أو الشهرية باعتبارها موردا أساسيا لمن حرفتهم الكتابة.
لقد تعود القراء في مصر أن يروا كتابهم، كبيرهم وصغيرهم على السواء، يتخذون من المجلات (والصحف اليومية) أهم ميدان لأقلامهم، حتى ظنوا أن الأديب هذا مجاله، لكن ليست الحال كذلك في البلاد التي يخصب فيها الفكر ويعمق البحث ويتسع مدى التحليل، في هذه البلاد الغنية بفكرها قد لا يلجأ الكاتب أبدا طول حياته الأدبية إلى مجلة أو صحيفة ينشر فيها مقالا أو سلسلة من مقالات، إنما سبيله الكتاب الكامل؛ قصة، أو مسرحية، أو كتاب يتناول بالبحث موضوعا معينا. إن المقالة الواحدة تكفي الكاتب عندنا لأنه في معظم الحالات أضيق أفقا وأضحل عمقا من أن يحلل فكرته في كتاب بأسره، وما هكذا الحال في معظم بلاد الغرب، وما هكذا كانت الحال في أمريكا، حتى تعسر الرزق في هذه السوق المزدحمة. وأنا أخص بالحديث الآن الكتاب المحترفين الذين لا عمل لهم يرتزقون منه سوى الكتابة، وأما الهواة الذين يكتبون في أوقات فراغهم، فما زالوا بخير يتفرغون لكتبهم ولا يسعون وراء المجلات كل هذا السعي الحثيث.
انتقل الميدان إذن من الكتاب إلى المقالة أو ما إليها، في مجلة تؤجر صاحبها ما يقتات به، ولو وقف الأمر عند هذا الحد لخف البلاء، لكن المجلات الأمريكية نفسها تغيرت من أساسها تغيرا جوهريا في الأعوام الأخيرة، مما كان له أعمق الأثر على طريقة التفكير وطريقة الكتابة؛ فلم تعد هناك المجلة التي يتسع صدرها لكل شيء، بل أصبح الأمر تخصصا ضيقا، فإما أن تختار المجلة لنفسها طائفة واحدة معينة من الناس تخاطبها وتحدد نفسها بما يعني تلك الطائفة، أو تختار جانبا واحدا من جوانب الحياة تتخصص فيه وقد يهتم بهذا الجانب عدة طوائف؛ فهناك المجلات النسائية، بل هذه نفسها تعود فتتخصص أكثر من ذلك، فترى المجلة النسوية تهتم بالحديقة، أو بأثاث المنزل، أو بالبدع الجديد في أنواع الثياب؛ وهناك مجلات مصورة لا شأن لها بمقالة أو قصة؛ هناك مجلات للسينما، ومجلات لصيد السمك، مجلات لتلخيص الموقف السياسي في العالم، مجلات تخاطب أعمارا معينة، فتسمي المجلة نفسها - مثلا - «السابعة عشرة»؛ أي إنها تخاطب من هم أو هن في هذه السن بما يهتمون له؛ هناك مجلات للمختارات المقتطفة من الكتب أو المجلات ... إلخ إلخ.
وما مؤدى هذا الاتجاه؟ مؤداه أن الكتابة المأجورة لم تعد مقالة أو قصة إلا في القليل النادر ، بل أصبحت فنا آخر، يجمع الدقائق والحقائق عن شيء معين ويحسن عرضها على صفحات المجلة، ولما كان ذلك شيئا لا يقتضي فكرا، بالمعنى الخاص لهذه الكلمة، بل يقتضي فنا صحفيا، فلا بد لمن يريد أن يعيش بقلمه أن يساير الاتجاه الجديد.
وليس معنى هذا أن المقالة والقصة قد اندثرتا، بل معنى هذا أن مركز الاهتمام قد تحول من قطب إلى قطب آخر، لكن سيظل هناك من يضطرب رأسه بفكرة يريد عرضها في مقالة أو قصة، وسيجد لذلك سبيله، لكنه سيعاني في ذلك السبيل ضيقا في رزقه وعسرا في عيشه، وما دمت قد ذكرت المقالة والقصة، فلأذكر تحولا أصاب النسبة فيهما؛ فمنذ ربع قرن كانت نسبة ما ينشر من القصص سبعين في المائة من الكلام المنشور، والثلاثون الباقية في كل مائة كانت للمقالات، وأما الآن فقد انعكس الوضع، وأصبح للمقالة سبعون في المائة من مساحة الكلام المنشور والثلاثون الباقية للقصة، ويؤيد هذا الاتجاه في الأدب الأمريكي أنه منذ سنة 1950م والسوق أروج لغير القصص منها للقصص، ففي العام 1953م، بيع من الكتب العشرة الأولى (أولى في الرواج) من غير القصص ثلاثة أمثال ما بيع من الكتب العشرة الأولى من القصص، كأنما القوم جادون في سؤالهم الذي يلقونه الآن على أنفسهم: أتكون القصة من الأدب أو لا تكون؟
للكاتب في هذه البلاد الغنية صفقة المغبون، حتى لقد أحدث ذلك مرارة في نفوس الكتاب تلمسها منذ العبارة الأولى إذا ما جلست مع أحدهم تتحدث إليه، فإذا كان الكاتب الأديب بطبعه - في كل مكان وفي كل زمان - أميل إلى الثورة على قومه وأشد رغبة من بقية الناس في تغيير الأوضاع والقيم، فالكاتب الأمريكي يضيف سخطا على سخط؛ يتساءل الأدباء والكتاب أحيانا وهم في عجب من أمرهم: لماذا تكون هذه هي حالهم من ضيق الرزق بالنسبة إلى غيرهم؟ ألا تؤدي حرفة الكتابة إلى رواج في سوق الأعمال وتستخدم عشرات الألوف من العمال؟ كم طابع في البلاد يتوقف عيشه على أن يكون هنالك كاتب فكتب ما تدور به المطبعة؟ كم ناشر لولا الكاتب ما كان؟ كم بائع للكتب والمجلات والصحف ينتظر أن تجري الأقلام حتى تكون له سلعة يبيعها؟ كم أمين في المكتبات العامة رزقه قائم على أن تكون هناك كتب يخرجها مؤلفون؟ وبغير الكاتب، ماذا يكون مصير السينما والمسرح والراديو؟ احسب كم ألف ألف من الناس يقتاتون من هذه الحرف كلها يكن لك الناتج الاقتصادي لحملة الأقلام. ألا يكون - إذن - من نكد الدهر أن يكتب الكاتب فيطعم غيره وهو جائع؟ ولا نقول شيئا عن الفكر ومنزلته؛ لأن دنيانا اليوم تترجم الأشياء إلى أرقام لتفهم.
ما خطبهم وهذه حقيقتهم؟ الجواب عند كثير هو كلمة واحدة «نقابة»، ليس لأصحاب القلم نقابة يكون لها من القوة ما لسائر النقابات. إن للطابعين نقابة بحيث إذا لم تعجبهم الحال يوما فأضربوا اهتزت لهم البلاد واستمعت إلى شكواهم في اهتمام. أما هؤلاء الذين يمدون الطابعين بما يطبع فليست لهم هذه القوة كلها؛ فللكاتب الواحد وهو على حدة قوة تضيع إذا ما ضممته إلى غيره من الكتاب بحيث جعلت منهم طائفة، فإذا كان اجتماع الزميل إلى زميله في سائر المهن يزيد الزميلين قوة، فاجتماع الكاتب إلى الكاتب يزيدهما ضعفا، حتى تكون لهم نقابة.
نعم هناك في أمريكا جماعة تسمى بجمعية المؤلفين، تضم سبعة آلاف عضو، ثم انقسمت فروعا؛ فجماعة لكتاب المسرحية، وأخرى لكتاب القصة، وثالثة لمؤلفي الكتاب الفكري وهكذا. لكن «الجمعية» شيء والنقابة المعترف بها شيء آخر؛ فجمعية المؤلفين في أمريكا تبح صوتها بالشكوى، لا تنفك تطالب الناشرين بزيادة في نصيب المؤلف، لكنها تفعل ذلك كله بالمحاجة الكلامية التي إن أجدت مرة فإنها تخفق مائة مرة.
قال «توكفيل» في القرن الماضي يصف أمريكا عندئذ بما كان يجوز له أن يصفها به اليوم: «كل لسان هنا في حركة دائبة، بعضهم ينشد القوة وبعضهم ينشد المال، وفي هذا البحر الزاخر بصخبه ، في هذا الصراع المتصل بين المصالح المتضاربة، في هذا الكدح الدائب وراء الغنى، أين عسانا أن نجد الركن الهادئ الذي لا بد منه لعقل يريد أن يستجمع فكره؟» أخشى أن أقول إن الركن الهادئ المنشود للفكر المطمئن، يتعذر وجوده في أمريكا على رحبها، وعلى من يريد أن يعمق بفكره في هذه البلاد أن يطمئن على عيشه أولا بطريق آخر غير طريق القلم المحترف.
قراءة الكتب
سأعرض على القراء هذه الصفحة الناصعة من أدب «جون رسكن»؛ فهي دعوة قوية جميلة، وجهها هذا الناقد العظيم إلى جمهور من المستمعين، يستحثهم بها على قراءة الكتب الخالدة، ولو كان الشعب الإنجليزي بحاجة إلى أديب يزين له الكتب ويغريه بمطالعتها، فما أحوجنا إلى كل ما انطلقت به ألسنة الأدباء، في كل عصر وفي كل أمة! لعل الدعوة الكريمة أن تلتمس سبيلها إلى قلوب قرائنا، وقد أخذتهم عن الكتب سنة، نخشى أن تعمق وتطول، قال «رسكن» في لغته القوية الرائعة ما معناه:
هبنا قد رغبنا في اختيار أصدقائنا اختيارا موفقا، فكم بيننا من له القدرة على هذا الاختيار؟ وإن وجدت القادرين، فما أضيق دائرة الاختيار! فإن المصادفة حينا، والضرورة حينا آخر، تكادان تكونان الوسيلتين اللتين تحدواننا إلى من نصطفي من الأصدقاء؛ فليس في مقدورنا أن نعرف من نحب أن نعرفه، بل إن هؤلاء الأصدقاء الذين اصطفيناهم بحكم الضرورة أو المصادفة قلما نجدهم إلى جانبنا حين تشتد بنا الحاجة إليهم.
ودع رجال الطبقة الأولى من النابغين، فلن تصل إليهم إلا في لحظات خاطفة، ولن يتاح لك أن تطالع فيهم إلا جانبا واحدا دون سائر الجوانب؛ فقد يسعفك حسن الحظ فتستمتع بلمحة من شاعر عظيم، وتسمع نبرة صوته، وقد يصيبك التوفيق فتلقي سؤالا على قطب من أقطاب العلم ليجيبك عنه في طمأنينة ورضى، وقد تقحم نفسك إقحاما لتظفر بحديث من وزير، لا يطول أكثر من دقائق عشر، وقد يجيبك فيه الوزير بما هو شر من الصمت، وقد يشاء لك حسن الطالع، مرة أو اثنتين إبان الحياة، فيتيح لك الفرصة لتلقي باقة من الورد في طريق إحدى الأميرات، أو لتجذب من الملكة وهي سائرة نظرة عاطفة. إن هذه جميعا فرص قلما يجود بها الدهر ، ومع ذلك، فكم نطمع في هذه الفرص العابرة؟ كم ننفق من أعوامنا وعواطفنا وقوانا، لعلنا نظفر بمثل هذا النزر القليل؟! نصنع هذا، وتحت أيدينا جماعة من أمثال هؤلاء الجبابرة، ترجو رجاء يتصل ولا ينقطع، أن ننصت لهم ليتحدثوا إلينا ما يحلو لنا من حديث، مهما تكن منزلتنا من المجتمع، ومهما يكن العمل الذي نؤديه. على مقربة منا طائفة من أمثال هؤلاء، تتمنى لو تحدثت إلينا في أروع ما تستطيعه من لفظ، فإذا ما أعرناها أذنا مصغية، تقدمت لنا بالشكر الجميل! هي جماعة كثير عديدها رقيق خلقها، لا يضجرها أن تبقيها في انتظارك طول اليوم، تنتظر، لا لتهبك حظ الاستماع إلى حديثها العذب، بل لتكسب منك هذا الاستماع! هي طائفة من ملوك وساسة ينتظرونك بصبر فارغ، ويشوقهم أن تدنو منهم في غرفهم التي اكتفوا فيها بأثاث ساذج، وأعني بها رفوف المكاتب ... ألأن رجاءهم في أن ننصت إلى حديثهم قد بلغ هذا المبلغ، ترانا لا نستمع قط إلى كلمة مما ينطقون؟!
قد يذهب بكم الظن إلى أن ازدراء الناس لهذه الجماعة النبيلة، متى تتوسل إليهم أن يصغوا إلى حديثها، في الوقت الذي يتحرقون فيه إلى محادثة طائفة أخرى، ربما كانت من الضعة بمكان، وهي طائفة تحتقرهم وليس لديها ما تعلمهم إياه؛ أقول إن الظن قد يذهب بكم إلى أن ازدراءنا لتلك الجماعة، ورجاءنا أن نتعقب هذه الطائفة من عظماء الأحياء، قائمان على هذا الأساس، وهو أننا إذ نحدث الأحياء، نشاهد وجوههم وذلك أدعى إلى اتصالنا بنفوسهم - ونفوسهم دون أقوالهم - هي الغرض المنشود ... ولكن ذلك زعم باطل، فافرض أنك لن ترى وجوه العظماء الأحياء، ثم افرض أنه قد أتيح لك أن تقف وراء ستار في مجلس الوزراء أو في غرفة أمير من الأمراء، ألا يسرك أن تنصت إلى حديث هؤلاء من وراء الستار؟ فإذا ما نقصنا لك من سمك الحائل، وجعلناه لك من جناحين بعد أن كان ذا أجنحة أربعة، أعني إذا دعوناك أن تختفي وراء غلاف الكتاب، لتنصت طيلة يومك، لا إلى حديث عارض، بل إلى حديث انتقاه وتعمق فيه أنبغ الرجال، إذا دعوناك إلى مثل هذا الموقف لتستمع إلى هذا الجمع المصطفى النبيل، كان جوابك أن تشيح بوجهك ازورارا!
قد يقول معترض: إن السبب في ذلك هو أن الأحياء يتحدثون عن أمور عارضة، تتلذذ لسماعها لأنها تمس حياتنا مسا مباشرا، ولكن الأمر ليس كذلك؛ لأن الأحياء أنفسهم قد يحدثونك عن هذه الأمور العارضة فيما يكتبون أروع مما يحدثونك عنها في حديثهم الذي يطلقونه إطلاقا؛ ومع ذلك فأنت تحب أن تنصت إلى هذا الحديث المهمل، أكثر مما تحب أن تطالع تلك الكتابة المتقنة ... ولو أني أعترف أن لهذا العامل أثرا في نفسك؛ لأني أعلم أنك بين الكتب نفسها، تؤثر الكتابة السطحية السريعة على الكتابة الجيدة الدائمة - مع أن هذا النوع الثاني هو الكتب بمعناها الصحيح.
فالكتب صنفان؛ كتب أريد بها هذا الوقت الحاضر، وأخرى أريد بها أن تحيا على وجه الزمان. ولاحظ أني لا أفرق بهذا بين جيد الكتب ورديئها؛ إذ ليس الكتاب الرديء وحده هو الذي لا يبقى، وليس الكتاب الجيد وحده هو الذي يعيش؛ فهنالك كتب جيدة للساعة الراهنة وكتب جيدة للدهر كله، وهنالك كتب رديئة للساعة الراهنة وأخرى رديئة تعيش الدهر كله أيضا.
فالكتاب الجيد الذي يكتب للساعة الراهنة - ولا أتحدث عن الكتب الرديئة - هو حديث نافع لذيذ، يقوله شخص ليس في مكنتك أن تتحدث إليه عن غير هذا الطريق، فطبع من أجلك الكتاب ليحدثك، وكثيرا ما يكون حديثه نافعا أقصى النفع، فيعلمك ما تحب أن تعرفه، وكثيرا ما يكون حديثه ممتعا غاية المتاع، كما يقع حديث الصديق من نفس صديقه؛ فهذه القصص تروي لك عن الأسفار، وهذه المناقشات الذكية الطلية البارعة تدور حول المشكلات الغامضة، وهذه القصة الحية تسري العاطفة بين أجزائها، وهذه الحقائق يسوقها لك أصحابها الذين يتصلون بحوادث التاريخ الجارية؛ كل هذه كتب أريد بها الساعة الحاضرة، وهي تزداد كلما ازداد التعليم انتشارا، ولعلها تميز هذا العصر من سائر العصور السالفة، وهي ذخيرة هيئت لنا أسبابها ، وينبغي أن نقف إزاءها شاكرين، وأن يأخذنا الخجل إذا لم نحسن استخدامها.
ولكنا نسيء استخدام هذه الكتب أشد ما تكون الإساءة، إذا أجزنا لها أن تملأ فراغنا كله، بحيث تغتصب منا وقت الكتب الدائمة التي قصد بها أن تخلد على الدهر، وأعني بها الكتب بمعناها الصحيح؛ لأننا إن توخينا الدقة، فلسنا نعد الصنف الأول من الكتب كتبا على الإطلاق، بل هي في حقيقة أمرها خطابات أو صحف للأنباء طبعت طبعا أنيقا. إن الخطاب يأتيك من صديقك قد يكون لذيذا أو ضروريا اليوم، والصحيفة اليومية قد تكون ملائمة لساعة الإفطار، ولكنها بغير شك لا تصلح لقراءة اليوم كله. وكذلك قل في خطاب مطول يقص لك الأنباء الممتعة عن الفنادق والطرق والجو، في مكان معين خلال السنة الماضية، أو ينبئك بقصة لذيذة، أو يروي لك الوقائع الحقيقية في إحدى الحوادث؛ فمثل هذا لا يمكن أن يكون «كتابا» بمعنى الكلمة الدقيق، مهما يكن له من غلاف يصون جوانبه! وإذا لم يكن مثل هذا «كتابا» بمعنى اللفظ الصحيح، فلا ينبغي أن «نقرأه» بمعنى القراءة الصحيح.
إن الكتاب الذي أريد به أن يحدثك حديثا ما، لم يطبع كتابا إلا لأن كاتبه يعجز أن يتحدث إلى ألوف الناس دفعة واحدة، ولو استطاع لفعل؛ فما كتابه سوى نشر لصوته في أفق فسيح. إنك لا تستطيع أن تتحدث إلى صديقك في الهند، ولو استطعت لفعلت وما لجأت إلى الرسائل، ولكن ذلك فوق مقدورك، فأنت مضطر أن تكتب له ما يغني عن الحديث، فكتابتك عندئذ لا تزيد على أن تكون وسيلة تنقل بها صوتك إلى مكان بعيد، ومثل هذا كتاب مما كتب للساعة الراهنة، فأما الكتاب الحق فلم يرد به صاحبه أن يكون أداة لنقل صوته في نطاق واسع وكفى، بل أراد به أن يحتفظ بما فيه. إن الكاتب النابغ لديه ما يقوله وما يظن أنه حق ونافع وجميل، وهو يظن فوق ذلك أن لم يسبقه أحد إلى قول ما يقوله، بل وفي رأيه أن أحدا، كائنا من كان ، لا يستطيع أن يعبر عنه بمثل ما عبر هو، فهو إذن مضطر أن يسجل هذا التعبير واضحا، ومنغوما إذا استطاع. إنه حين استعرض حياته كلها، وجد أن هذا الذي يعبر عنه في كتابه، قد تجلى له أنه الحق، أو على أنه المنظر الرائع الذي أذن له قسطه من الأرض وضوء الشمس أن يمسك به؛ ولذا فهو يريد أن يسجله إلى الأبد، يريد أن يحتفره في الصخر إذا استطاع، قائلا: «هذا أفضل جوانب حياتي، أما بقيتها، فقد أكلت وشربت ونمت وأحببت وكرهت كما يفعل سائر الناس. كانت حياتي كالبخار، وقد زالت الآن من الوجود أما هذا فقد رأيته وعرفته، هذا جدير أيها الناس أن تحفظوه في الذاكرة، إن كان من جوانبي ما هو خليق أن يحتفظ به.» تلك هي «كتابته»؛ تلك هي رسالته، فذلك «كتاب».
إني لأسألكم: هل تؤمنون بالشرف، وهل تثقون في الرحمة؟ أم هل تظنون أن حكماء الرجال لا يملكون من الشرف والخير شيئا؟ لا أحسب بيننا أحدا بلغ به التعس بحيث يظن هذا، فإن كان للرجل الحكيم شيء من الخير والشرف، فقد صبه في كتابه، أو في آيته الفنية. نعم قد يمزج خيره بفتات من الشر، فنراه - مثلا - سيئ التعبير، أو يعمد إلى التكرار الممل، ولكنك إن قرأته قراءة صحيحة، هان عليك أن تكشف فيه عن جوانب الحق، وتلك هي «الكتاب».
إن عصور التاريخ بأسرها قد شهدت هذا الضرب من الكتب الجيدة، كتبها أعظم من عاش في تلك العصور من الرجال؛ نوابغ القادة، وكبار الساسة، وفحول المفكرين؛ كل هؤلاء ينتظرونك لتنتقي من بينهم من تشاء، والحياة قصيرة الأمد. لقد سمعت قولي هذا من قبل، ولكن هل أيقنت كم تسع هذه الحياة القصيرة؟ هل علمت أنك إن قرأت هذا، فلن تستطيع أن تقرأ ذلك، وأنك إذا أضعت اليوم فلن تكسب الغد، هل يحلو لك أن تلغط مع خادمك أو سائسك، ويمكنك أن تتحدث إلى ملكات وملوك؟ أتحب أن تحادث العامة في لغوها، وأنت ترى هذه الطائفة الحافلة الخالدة تنتظرك بكل أعضائها، وهم كثيرون كثرة الأيام، هم الصفوة الممتازة في كل زمان وفي كل مكان؟ إنك تستطيع في كل لحظة أن تنخرط في سلك هذه الجماعة المختارة، يمكنك أن تكون عضوا بين أعضائها، وأن تضع نفسك في المنزلة التي تشاء، ولن يخرجك من هذه الزمرة الطيبة إلا خطأ يقع منك. إذا كنت تجاهد حقا أن تنزل بين الأحياء منزلة رفيعة، فها هو ذا مقياس ما في جهادك من صدق وإخلاص، فسنرى أي مكانة ستختار لنفسك في جماعة الخالدين.
وأقول: «المكانة التي تحبها.» و«المنزلة التي تهيئ نفسك لها.» لأني أعلم أن هذه الطائفة من عباقرة الماضي، تختلف عن أرستقراط الأحياء في هذا، في أنها تقبل بينها العامل الجدير دون سواه. إنك لن ترشوهم بثرائك، ولن تلقي باسمك الرعب في نفوسهم، ولن تخدعهم بريائك؛ فلن يسمح بالدخول في تلك الفراديس لمجرم ولا وضيع، سيسأل حارس الباب سؤالا واحدا لمن يريد الدخول: «هل أنت جدير بهذا؟ إذن فدونك الأبواب قد فتحت. هل تريد أن تزامل النبلاء؟ إذن فكن نبيلا تكن زميلا. هل يشوقك أن تحادث الحكماء؟ إذن فاعلم كيف تفهم عنهم تسمع حديثهم. أما إن أبيت شيئا من ذلك فلا دخول. إذا لم ترفع نفسك إلينا فلن نهبط إليك. إن الرجل العظيم من الأحياء قد يتكلف لك الظرف، والفيلسوف من الأحياء قد يكلف نفسه عناء شرح فكرته لك وهو من ذلك في ألم ممض، ولكنا هنا لا نتكلف ولا نفسر، فإذا أردت أن تستمتع بأفكارنا فارفع نفسك إليها، وإذا أردت أن تكون جليسا لنا فشاطرنا المشاعر.»
هذا ما أكلفك بعلمه، وهو كثير، وبعبارة موجزة يجب أن تحب هؤلاء الناس، إذا أردت أن تكون بينهم، ولكي تحبهم فلا بد من أن تتوافر لديك الرغبة الصادقة في أن يعلموك، وأن تعد نفسك للدخول في أفكارهم، ولاحظ أني أشير إليك بالدخول في أفكارهم، ولا أقول لك أن ترى أفكارك منطوقة بلسانهم، فإن لم يكن كاتب الكتاب أحكم منك، فلا حاجة بك إلى قراءته، وإن كان ، فستجد تفكيره يخالف تفكيرك في نواح كثيرة.
نحن مستعدون أن نقول عن الكتاب الذي نقرؤه: «ما أجود هذا الكتاب! هذا هو بالضبط ما أرى من رأي!» ولكني أريد لك أن تنتقي من الكتاب ما تقول عنه: «ما أغرب هذا الذي أقرأ! إني لم أفكر هذه الفكرة قط من قبل، ومع ذلك فإني أراها فكرة صحيحة، وإن لم أرها صحيحة اليوم، فأرجو أن أراها كذلك بعد حين.»
فلا بد لك قبل كل شيء أن تذهب إلى الكاتب لتأخذ عنه معناه، لا أن تجد عنده معناك ... إن كان كاتبا رفيعا، فاعلم علم اليقين أنك لن تستطيع أن تأخذ معناه كله دفعة واحدة، بل لن تستطيع أن تفهم كل ما يريد من معنى مدى زمن طويل، مهما تكن وسائلك إلى فهمه، لا لأن الكاتب لا يقول ما يريد أن يقوله، وفي كلمات قوية، بل لأنه لا يبسط كل معناه إلا على نحو من التخفي، لكي يثق من قارئه أنه يريد معناه! وقد لا أستطيع أن أعلل لك هذا التكتم القاسي من الحكماء، الذي يغريهم بستر أفكارهم العقيمة. إنهم لا يقدمون لك المعنى تقدمة هينة، بل هم يكافئونك به على ما احتملت من العناء؛ فهم يثقون أولا أنك جدير به قبل أن يأذنوا لك بالوصول إليه! وما أشبه هذا بالذهب! وهو من الطبيعة كالقول الحكيم من الحكماء؛ فلست أرى سببا يبرر ألا تتضافر قوى الأرض جميعا، لتحمل ما في جوفها من ذهب، حيث تضعه على قمم الجبال، فيعلم الملوك ويعلم الناس كافة، أن كل ما في الأرض من ذهب قد أودع هنالك، دون أن يحتملوا عناء الحفر وضياع الوقت وانتظار المصادفة، فيجدونه قريبا منهم فيصوغونه فيما يشاءون من النقود. لكن الطبيعة لا تسلك في إعداد أمرها هذا السبيل، إنها تخفي ذهبها عن أعين الناس، فقد تحفر زمنا طويلا ولا تجد شيئا، ولا منصرف لك عن الحفر وعنائه إذا أردت شيئا.
وذلك مثال ما يحدث في حكمة الحكماء، فإذا أقدمت على كتاب جيد، فلا بد أن تسأل نفسك أولا: «هل أنا راغب في العمل كما يعمل العاملون في مناجم الذهب؟ هل أعددت فئوسي وسائر عددي؟ وهل هيأت نفسي للعمل، فشمرت عن ساعدي، واستقام مني جهاز التنفس واعتدل المزاج؟» إن الذهب الذي تنشده هو فكرة المؤلف ومعناه، كلماته صخور ينبغي أن تطحنها طحنا وتذيبها إذابة لتصل إلى ما استتر فيها؟ وفئوسك هي عنايتك وذكاؤك وعلمك، وأتون الانصهار هو نفسك المفكرة ... لا ترج أن تبلغ عند كاتب معنى جديدا بغير تلك الآلات وهذه النار.
في الفلسفة
ثورة في الفلسفة المعاصرة
1
لو كان قارئي ممن لم يدرسوا الفلسفة ولا يدرسونها، فسيهمس لنفسه قائلا: ما الفلسفة أولا؟ وماذا تعني بالفلسفة المعاصرة ثانيا؟ وعلى أي نحو قامت الثورة فيها بحيث خرجت على ما قد جرى به العرف ثالثا؟ سيهمس لنفسه بهذه الأسئلة في ابتسامة أعرفها جيد المعرفة؛ فما أكثرهم أولئك الذين يقررون لك بادئ ذي بدء أن لا علم لهم ولا شبه علم بالفلسفة وبحوثها، ثم يسخرون منها! كأنما يأخذهم العجب: كيف يكون في العالم علم ليست لهم به دراية؟ أو هم يقررون لك بادئ ذي بدء أنهم قد حاولوا قراءتها فلم يفهموا؛ ولذلك هم يسخرون. ولو كان المقروء غير المفهوم فلكا أو طبيعة أو كيمياء، ما عجبوا ولا سخروا، كأنما المفروض ألا تفهم هذه العلوم لغير المختص، وأما الفلسفة فواجبها أن تعرض نفسها لغير دارسيها منقاة مصفاة ممهدة ميسرة!
والحق أن بين العلوم الطبيعية والفلسفة من وشائج الصلة وأوجه الشبه شيئا كثيرا، يهمني منها الآن جانب واحد، وهو أن كليهما يبدأ - في الأعم الأغلب - من المعارف الشائعة في الحياة الجارية، ثم يسير بها نحو التحديد والدقة.
فالخادمة الصغيرة تعلم أن الماء يغلي إذا وضع إناؤه على النار، لكنها تترك لعالم الطبيعة أن يضبط لنفسه: عند كم درجة من الحرارة يغلي الماء؟ وكم يكون ضغط الهواء عند تلك الدرجة؟ وكم يكون الارتفاع عن سطح البحر؟
والطفل يدرك أن الشمس تشرق في الصباح، وتعلو في السماء وتغرب، وأن القمر يبدو آنا ويختفي آنا، وأنه إذ يبدو لا يكون دائما على صورة واحدة؛ فهو يوما صغير ويوما كبير، لكنه يترك لعالم الفلك أن يحدد لنفسه حركات الكواكب التي تنتج للشمس شروقها وغروبها، وللقمر ظهوره واختفاءه، ومن ذا الذي لا يعلم أننا إذا أمسكنا مرآة أمام الضوء انعكس الضوء عليها؟ لكننا نترك لعالم الضوء أن يحسب زوايا الانعكاس وزوايا السقوط.
وعالم الطبيعة حين يتناول معارف الناس الشائعة في الحياة الجارية ليبلغ بها أقصى ما يستطيعه من التحديد والدقة، قد يبعد به الشوط بعدا تنقطع معه الصلة بينه وبين الرجل من سواد الناس؛ فسيقول الرجل من سواد الناس مثلا عن مقعده إنه مصنوع من خشب صلب، وسيوافقه عالم الطبيعة على ذلك، ثم يأخذ في التحليل والتحديد ليعلم: ما طبيعة هذا الخشب الصلب؟ وإذا به ينتهي آخر الأمر إلى أنه مؤلف من ذرات هي كهارب سالبة وموجبة، أو إن شئت فقل: هي ضوء دائب الحركة، وإذن فلم يعد خشب المقعد في حقيقته خشبا صلبا كالذي قد ألفته الحواس، أفنقول إذن: إنه ما دامت الشقة قد بعدت كل هذا البعد بين عالم الطبيعة في فهمه لطبيعة الخشب وبين الرجل من سواد الناس، فهذا العالم قد شطح في الوهم وبات جديرا منا بالسخرية؟
والفلسفة لا تصنع إلا شيئا كهذا؛ فهي تبدأ سيرها دائما من معارف الناس الشائعة في الحياة الجارية، ثم تسير بها نحو التحديد والدقة، وقد ينتهي بها هذا السير إلى شيء يرضى عنه خيال الإنسان من سواد الناس، ولكنها أيضا قد تنتهي بسيرها نحو التحديد والدقة إلى نتيجة بعيدة بعدا شاسعا عن مألوف الناس في معارفهم الشائعة.
وإذن فلنبدأ هذا البدء لنوضح للقارئ الذي قد همس لنفسه سائلا: ما الفلسفة؟ لنوضح لمثل هذا القارئ ما يجيبه عن سؤاله: فما الرأي الذي يكاد يشترك فيه معظم الناس في عصرنا هذا - مثلا - إذا ما سئلوا عن أنواع الكائنات المختلفة التي تملأ هذا العالم الذي نعيش فيه؟
الرأي المشترك بين معظم الناس هو أن في العالم عددا ضخما من الأشياء المادية التي تختلف نوعا؛ فهنالك أفراد من البشر يعدون بالملايين، وصنوف من الحيوان، وأخرى من النبات لا تكاد تقع تحت الحصر، ثم هنالك الجوامد؛ هنالك الجبال وصخورها، والصحراء ورمالها، والبحار والأنهار والمعادن؛ وهنالك ما قد صنعته يد الإنسان من منازل ومقاعد ومناضد، وما ليس له حد من سائر الأشياء، وتلك أشياء على سطح الأرض وفي جوفها، لكن هذه الأرض نفسها بكل ما عليها وكل ما في جوفها إن هي إلا جزء ضئيل من كون كبير، فيه الشمس، وفيه القمر، وفيه الكواكب والنجوم.
وليست هذه الأشياء كلها في رأي الناس من صنف واحد؛ ففيها ما هو حي وما هو جامد، فيها ذو العقل وفيها ما ليس له عقل، من من الناس، عامتهم وخاصتهم على السواء، يرتاب في أن له عقلا زيادة على ما له من بدن؟ من ذا الذي يرتاب في أن الإنسان يحس بما لا يحسه الحجر، وأن له من حياة الشعور ما ليس للحجر؟ فله ما ليس للحجر من رؤية وسمع ولمس وتذكر وتصور وتفكير، إنه يحب ويكره ويغضب ويخاف، إنه يرغب في هذا ويرغب عن ذاك، ويريد شيئا وينصرف عن شيء. وهذه كلها أشياء لم تصنع من مادة؛ فليست الإحساسات والعواطف والتفكير خشبا أو نحاسا، وإذن فالناس متفقون في معارفهم المشتركة الجارية على أن الكائنات صنفان؛ صنف قوامه مادة، وآخر قوامه عقل أو شعور.
والناس يشتركون في الرأي بأن الأشياء المادية إنما تقع في هذا الموضع أو ذلك من مواضع المكان، وهم يعنون بذلك أن كل شيء منها بينه وبين سائر الأشياء أبعاد تقصر أو تطول، يمكن قياسها بوحدات من الطول نتفق عليها، فنقول مثلا: إن بين الأرض والشمس كذا ميلا، وبين هذين الجدارين في الغرفة كذا مترا، وهكذا، وقد يتلاصق الشيئان بحيث تكون المسافة بينهما صفرا، كذلك يتفق سواد الناس على أن الجانب الشعوري من الإنسان، كتفكيره وعاطفته، إنما يقع في المكان الذي يكون جسده فيه، فتفكيري الآن هو حيث أنا جالس من مكتبي، وإذا انتقلت من داري إلى مكان آخر فسينتقل معي كذلك فكري.
والرأي المشترك بين الناس أيضا هو أن الأفعال الشعورية من إحساس وفكر وعاطفة وما إلى ذلك إنما تتوقف على أوضاع الجسد وإن تكن من طبيعة مختلفة عن طبيعة الجسد؛ فلا رؤية إلا إذا فتحت عيني، ولا سمع إلا بإذن تسمع، وهكذا.
وإذن فالرأي السائد عند عامة الناس، إذا ما سئلوا عن كائنات الوجود، خلاصته أنها نوعان؛ مادة وروح، وأن الروح لا تكون إلا في قلة قليلة جدا من الأشياء، أما سائرها فجماد لا روح فيه، وقد تكون هذه القلة القليلة محصورة على الأرض التي نعيش فوقها، وقد يكون هنالك أمثالها على كواكب أخرى، لكنها على كل حال - في رأي الناس - لا تكون شيئا من حيث الكمية إذا قيست إلى مطارح الكون الشاسعة التي لا حياة فيها، بله أن تكون هذه الحياة مصحوبة بروح.
ثم يعود الرأي المشترك بين الناس فيجمع بين هذين الصنفين من الكائنات في صفة واحدة، هي أنها جميعا تقع في الزمن، بمعنى أن كلا منها، حيا كان أو جمادا، إما قد وقع في الماضي، أو هو واقع الآن، أو سيقع بعد حين، أو هو يجمع بين هذه المراحل الزمنية كلها أو بعضها.
تلك وأمثالها هي الرأي المشترك بين الناس عن الكون الذي نعيش فيه، وهي هي بذاتها الأشياء التي قسمتها العلوم فيما بينها ليختص كل منها بجانب واحد منها؛ فيحدثنا علم الفلك عن أجرام السماء: ما أحجامها؟ وما عناصر تكوينها؟ وبأي سرعة تجري؟ وكيف يؤثر بعضها في بعض؟ وعلوم الطبيعة والكيمياء تتناول الأشياء المادية على اختلافها، تحللها وتبين طرائق سلوكها، وعلم يختص بالحيوان، وعلم بالنبات، وعلم بطبقات الأرض، وآخر يحصر نفسه في أفعال الناس الشعورية أفرادا وجماعات، وهكذا.
وكذلك الفلسفة لا تفعل سوى أن تأخذ هذه المعارف المشتركة بيننا جميعا، أو بين الكثرة الغالبة منا، تأخذها لتسأل عنها بعض الأسئلة التي لا تقع في هذا المجال أو ذلك من مجالات العلوم، لتبلغ بمعارف الناس مبلغ التحديد والدقة . ألم يتفق الناس على أن الكائنات صنفان؛ مادية وغير مادية؟ أفلا يجوز أن يكون هذان الصنفان إنما يختلفان في الظاهر، لكنهما في حقيقة الأمر شيء واحد؟ أفلا يجوز أن نحلل المادة فإذا هي لا تختلف عما قد أسميناه روحا أو عقلا من حيث الأساس والجوهر وإن اختلفت في طريقة التركيب؟ أو أن نحلل العقل فإذا هو ظاهرة تصف المادة حين يتخذ تركيبها صورة معينة؟ ألم يتفق الرأي المشترك بين الناس على أن الأشياء المادية تقع من المكان هنا أو هناك، وأن الأشياء كافة مادة كانت أو عقلا تقع في هذه اللحظة من الزمن أو تلك؟ فماذا لو لم يكن هناك أشياء؟ أيظل هناك مكان وزمان خاليان؟ أم يزول المكان بزوال ما يحل فيه كما ينمحي الزمان بزوال ما يقع فيه من أحداث؟
ومهما تكن معرفة الإنسان بالعالم، أفليس من حقنا أن نسأل: كيف عرف الإنسان ما عرف؟ هل هو يعرف بالحواس وحدها؟ هل هو يعرف بالعقل وحده؟ هل هو يعرف بالحواس والعقل معا؟ فإن كان يعرف بالحواس وحدها، أفننكر إذن وجود ما لا يقع في حواسنا من رؤية وسمع ... إلخ، وإن كان يعرف بالعقل وحده، أفننكر إذن وجود ما تدركه الحواس؟ وإن كان يعرف بالحواس والعقل معا، فكيف يتعاون هذان الجانبان على اختلاف ما بينهما؛ فالحواس جسم والعقل روح.
2
إننا لا نريد أن نحصي كل ضروب الأسئلة التي يلقيها السائل عن معارف الناس المشتركة، يلقيها ليصل بتلك المعارف إلى درجة مرضية من الدقة والتحديد، لكنه إذا ألقى سؤالا من هذه الأسئلة وأشباهها، فهو فيلسوف.
فإن كان السؤال مما يشمل جوابه علما مزعوما عن الكون بأسره باعتباره وحدة واحدة، فتلك هي «الميتافيزيقا» أو «ما وراء الطبيعة» من أقسام الفلسفة؛ فأنت تقول قولا ميتافيزيقيا لو قلت عبارة كائنة ما كانت وتريد أن تصرفها على الكون كله بكل ما فيه، قل مثلا: إن كل شيء في الوجود مادة، أو إن كل شيء في الوجود ذو حياة وروح، أو إن كل شيء في الوجود له ظاهر وباطن، أو إن كل شيء في الوجود هذا، أو كل شيء في الوجود ذاك. يكن قولك مما جرى العرف على تسميته بما وراء الطبيعة في الدراسات الفلسفية. ولا بد أن نلاحظ أن الكثرة الغالبة من الفلاسفة قد شغلت أنفسها بالبحث عن أمثال هذه المبادئ العامة أو الأحكام العامة التي يمكن أن يوصف بها الكون كله دفعة واحدة؛ ومن ثم كانت «الميتافيزيقا» أو ما وراء الطبيعة أهم ما يطبع التفكير الفلسفي في شتى العصور.
لكن الفيلسوف قد يشغل نفسه كذلك بأسئلة أخرى؛ فمثلا: كيف يتاح للإنسان أن «يعرف» ما يعرفه عن العالم المحيط به؟ ما طبيعة معرفته هذه؟ ما قوامها؟ ما أداتها؟ ما حدودها؟ وتلك هي ما يسمى في الدراسات الفلسفية بنظرية المعرفة. والفيلسوف يمضي في هذا الطريق ليسأل: ما المعيار الذي أعرف به أن ما قد عرفته عن العالم هو الحق والصواب؟ وذلك هو ما يسمى في الدراسات الفلسفية بالمنطق.
والناس في حياتهم اليومية الجارية لا ينفكون يصفون الأفعال بالخير أو بالشر، ويصفون الأشياء بالجمال أو بالقبح، فما العناصر المشتركة بين الأفعال الخيرة جميعا؟ هل هي خيرة لأنها تنفع الناس وتسعدهم؟ أو هي خيرة لأن العقل يوجبها وإن لم تعد على أحد بسعادة أو نفع؟ ثم ما الصفات المشتركة بين الأشياء كلها التي توصف بالجمال؟ هذه الأسئلة هي كذلك مما يلقيه الفلاسفة ليجيبوا عنه، فيكون لنا بذلك ما يسمى بعلم الأخلاق وعلم الجمال.
تلك هي الفلسفة ومباحثها كما قد جرى بها العرف والتقليد منذ اليونان الأقدمين، ولو حللت ما كانت تحاول أن تؤديه، وجدته يتناول موضوعات مختلفة فيما بينها اختلافا بعيدا، لكنها تقع في واحد من أنواع ثلاثة؛ فهي إما أن تنافس العلوم الطبيعية في الموضوعات التي تبحثها تلك العلوم، وما أكثر ما بحث الفلاسفة في أمور تتعلق بالفلك أو بتركيب المادة أو بتطور الكائنات الحية وما إلى ذلك! وعندئذ كانت تسمى بالفلسفة الطبيعية، وإما أن تنفرد لنفسها بموضوعات لا يشاركها فيها أي علم آخر، وهي الموضوعات التي لا يكون الإدراك الحسي مدارها، وعندئذ كانت تسمى بالميتافيزيقا، وإما ألا تتقيد بموضوع كائنا ما كان، وتنصرف إلى تحليل ما تقوله العلوم الأخرى أو ما يقوله الناس، تحلله لتعرف: أين يجوز القول وأين لا يجوز؟ وأين الصواب وأين الخطأ؟ وعندئذ كانت تسمى بالمنطق أو بالتحليل، وها هنا تأتي ثورة الفلسفة المعاصرة.
3
فقد كان يستحيل على العلم أن يبلغ ما قد بلغه من السيطرة على عقول الناس وعلى حياتهم العملية في عصرنا هذا، دون أن يكون لذلك صداه في الفلسفة وأهدافها؛ والحق أنه لم يشهد تاريخ الفكر عصرا رفضت فيه الفلسفة أن تتابع الحركة الفكرية السائدة، بحيث تجعل من نفسها معينا للإنسان على بلوغ ما يريد بلوغه من حق في سائر الميادين؛ كانت الحياة الإنسانية هي شغل اليونان الأقدمين، يريدون للإنسان أن يحيا حياة كاملة متكاملة، فماذا ينبغي أن يكون أساس السلوك البشري بحيث يحقق الإنسان غايته تلك؟ كان ذلك هو سؤال الناس عندئذ؛ ومن ثم كان هو سؤال الفيلسوف؛ إذ جعل همه الأكبر أن يلتمس مبدأ للأخلاق العملية لا يكون صوابه موضع شك وريبة، بل يتصف بمثل اليقين الذي تتصف به الرياضة؛ فهذا سقراط يبحث في تحديد معاني الألفاظ الخلقية كالشجاعة والتقوى وما إلى ذلك، وهذا أفلاطون يبحث عن الحقائق العقلية الثابتة التي إليها نقيس شئون العالم الأرضي كمالا ونقصا، وهذا أرسطو يحلل الأخلاق العملية كما يضع مبادئ التفكير المنطقي الذي يؤدي بصاحبه إلى اليقين وهكذا. وإذن فقد كانت الفلسفة عند اليونان خادمة للأخلاق، ثم جاء العصر الوسيط تشغله الحياة الآخرة وتشغله العقيدة الدينية، يريد أن يفلسف ما جاء في الكتب المنزلة لكي يطمئن العقل كما اطمأن القلب، فأسرعت الفلسفة إلى أداء مهمتها في ذلك، وجعلت تصب أضواءها على ما يشغل الناس؛ ومن ثم كانت إذ ذاك خادمة تخدم الدين. وأخيرا جاء العصر الحديث، يضع معظم اهتمامه في العلوم الطبيعية بصفة خاصة، أفتقصر الفلسفة الآن فيما لم تقصر فيه في عصورها الماضية؟ أتدع الناس في شغل من العلم الطبيعي وتضرب هي فيما وراء الطبيعة؟ إنها لا مندوحة لها عن متابعة اهتمامات عصرها الآن كما تابعتها في سائر العصور.
من ذا الذي كذب الأكذوبة الكبرى عن الفلسفة فظنها في برج عاجي لا تصطخب في سائر الميادين وتيار الحياة الفكرية؟ متى كان ذلك وعند من من الفلاسفة؟ هل كان سقراط وهو يجول في طرقات أثينا يناقش الناس في مبادئهم الأخلاقية معتزلا في برج من العاج؟ هل ترك فلاسفة العصر الوسيط في الشرق الإسلامي أو الغرب المسيحي سائر الناس في واد وذهبوا هم في واد آخر، أم جالوا معهم في الميدان الواحد الذي كانوا يجولون فيه وهو العقيدة الدينية وتأييدها؟ هل ترك «كانت» علماء عصره يبحثون في الرياضة والطبيعة وحبس نفسه دونهم في برج عاجي يتكلم فيما لم يكونوا يشتغلون به، أم إنه كان يحلل قوانين الرياضة وقوانين الطبيعة التي كان يأخذ بها علماء ذلك العصر؟
وكذلك تريد الفلسفة لنفسها في عصرنا هذا؛ تريد أن تجلس مع الناس على مائدة واحدة، وتسكن معهم في بيت واحد؛ فلئن كان الناس في شغل شاغل من الطبيعة الذرية التي غيرت من وجهة النظر إلى قانون الطبيعة فجعلته احتمالا لا يقينا، وإحصاء لا إملاء، لتتقدم الفلسفة لتبحث في هذا الاحتمال: ما معناه؟ وفي هذا الإحصاء: ما سنده من المنطق؟
إن الفيلسوف الذي ينفض يديه من تيارات عصره إنما هو متمرد لا يفيد أحدا بعصيانه. وتيار العصر هو بغير شك تيار العلوم الطبيعية التجريبية، أو ما يتصل بتلك العلوم بسبب قريب أو بعيد؛ فكيف تغير الفلسفة التقليدية من نفسها بحيث تتجاوب هي وعصرها؟ تفعل ذلك - وقد فعلته - بثلاثة أمور رئيسية:
أولها:
أن تترك العلوم لأصحابها؛ فلا يجوز للفيلسوف باعتباره فيلسوفا أن ينافس العالم في علمه؛ لا يجوز له أن يبحث في طبيعة المادة وهنالك من علماء الطبيعة من يصنعون ذلك على نحو أدق وأوفى، لا يجوز له أن يبحث في طبيعة الإنسان وهنالك من علماء النفس من يحاولون ذلك ما وسعتهم المحاولات العلمية وبمقدار ما يمكن إخضاع الإنسان للتجارب العلمية، وهكذا قل في شتى الموضوعات التي هي علوم دقيقة أو في طريقها إلى أن تكون علوما دقيقة تتحدث بلغة الرياضة وصيغها الكمية، لا بلغة الأوصاف الكيفية التي تتوقف على ذات الإنسان المتغيرة.
وثانيها، وأهمها:
أن تنفض يديها من كل المباحث الميتافيزيقية نفضا؛ كان الفيلسوف اليوناني، وكان الفيلسوف في العصر الوسيط، وكان الفيلسوف حتى أول القرن العشرين من قرون التاريخ الحديث - كان هؤلاء جميعا - يبحثون عن مبادئ تنطبق على الوجود كله باعتباره كلا واحدا؛ لأن علماء تلك العصور نفسها كانوا يقيمون علومهم على هذا الفرض نفسه، وهو أن الوجود حقيقة واحدة متكاملة، وإذن فلم يكن على الفيلسوف ضير أن يعاون العالم على تحقيق هدفه، لم يكن الفيلسوف عندئذ نشازا في عصره، أما الآن وقد تغير الموقف بحيث أصبح العلم لا ينظر إلى الكون كله باعتباره حقيقة واحدة، بل ينظر إليه باعتباره كثرة وباعتباره متحركا متطورا، حتى الذرة الصغيرة دائبة الحركة والتغير، فكيف يجوز لفيلسوف معاصر أن ينسلخ عن علم العصر انسلاخا ليبحث عن حقيقة واحدة يقول عنها إنها حقيقة الوجود؟
لا، لم يعد للميتافيزيقا موضع قدم من ميدان الفلسفة المعاصرة؛ فكل ما هنالك «فيزيقا» وتحليلها، كل ما هنالك طبيعة يصفها العالم، ثم يأتي الفيلسوف فيجعل أقوال العالم موضوعا للتحليل والتوضيح.
وثالثها:
هو أن يقتصر أمر الفلسفة على التحليل اللغوي وحده؛ إنه حين يكون المجال مجال حديث عن العالم وحقائقه فليس للفيلسوف أن ينبس ببنت شفة؛ إذ ليس ذلك هو مجاله، بل هو مجال العلماء، كل عالم فيما يخصه من جوانب العالم، أما عمل الفيلسوف المعاصر فهو توضيح العبارات العلمية، أو بعبارة أخرى عمله هو فلسفة العلم.
فإذا قيل: ولماذا لا يحلل كل عالم ما شاء من عبارات علمه؟ كان الجواب هو أن ذلك ما يحدث فعلا في الكثرة الغالبة، ولكن العالم حين يترك الجانب الإيجابي من علمه ليحلل كلمة فيه أو عبارة فإنما يصبح بذلك فيلسوف ذلك العلم لا عالمه؛ كان برتراند رسل - مثلا - عالما في الرياضة أولا، ثم استوقفه العدد الذي هو أساس الرياضة، استوقفه ليسأل مثلا: ما تحليل العدد؟ ما العناصر العقلية التي سبقت تكوين العدد في فكر الإنسان؟ فكان بهذه الأسئلة والإجابة عنها فيلسوف رياضة لا عالم رياضة، وهكذا قل في وايتهد وإدنجتن وغيرهما من علماء العصر الذين انصرفوا إلى تحليل علومهم، فكانوا منذ تلك اللحظة فلاسفة تلك العلوم.
فالفرق بين العالم والفيلسوف هو فرق في اتجاه السير، فإذا كانت مدركات معينة هي أساس علم معين، ثم جاء من يبني صعدا فوق تلك المدركات، كان عالما، أما إذا جاء من يحفر تحت تلك المدركات ليتبين عناصرها التي توضحها، فإنه يكون فيلسوفا. على فكرة «المكان» يقوم علم الهندسة، وعلى تحليل الفكرة نفسها تدور فلسفة ذلك العلم، وهكذا.
4
وإذا كانت الفلسفة تحليلا لا بناء، فلم يعد الفيلسوف المعاصر يحاول بناء نسق فلسفي شامخ كما كان يفعل أسلافه. كان الفيلسوف فيما مضى يحاول أن يجد المبدأ الواحد الذي منه تنحدر كل أجزاء الوجود، فإذا ما عثر لنفسه على مبدأ كهذا، راح يستنبط منه كل نتائجه حتى يقيم بناء كاملا مغلقا يضم بين جنباته كل ركن من أركان الوجود وكل حقيقة من حقائقه، ثم يأتي فيلسوف بعده، فلا يعجبه مبدأ سلفه، فيبحث لنفسه عن مبدأ آخر، حتى إذا ما وفق بدوره إلى مبدأ - وضعه، وراح يستنبط منه كذلك كل أجزاء الوجود حتى يتم له هو الآخر نسق فلسفي شامل، وهكذا دواليك، وإذن فقد كان العمل الفلسفي عملا فرديا إلى حد كبير؛ فالفيلسوف إذ يبني كان هو المقاول وهو البناء وهو ناقل الطوب وهو عاجن الملاط وهو النجار والحداد وصانع المفصلات والأقفال.
وجاء عصرنا هذا العلمي بفلسفته التحليلية التي يجوز لك أن تسميها فلسفة علمية، فذهب عصر بناء الأنساق الفلسفية، وأصبحت الفلسفة كالعلم عملا جماعيا، يتعاون على كل مشكلة جزئية جماعة متعاونة، تماما كما تفعل جماعة العلماء المتعاونة في المعمل، وانظر إن شئت إلى المؤلفات الفلسفية في عصرنا، فلن تجد فيلسوفا واحدا يخرج المجلدات التي تحتوي على بناء واحد وتفصيلاته كما فعل أفلاطون أو أرسطو أو كانت أو هيجل، بل تجد الكتاب إما أن يكون لكاتب واحد؛ وعندئذ يضم - في كثير من الحالات - مجموعة فصول كتبت في جوانب مختلفة، والأرجح أن تكون هذه الفصول بحوثا نشرت فرادى وعلى فترات وإن يكن بينها رابطة تربطها، وإما أن تجد الكتاب الواحد قد تعاونت على إخراجه جماعة كبيرة من الفلاسفة، كل منهم يبحث الموضوع الواحد من إحدى جهاته.
وإذا شاء القارئ أن أختم له هذا البحث بمثل أو مثلين مما قد وصلت إليه التحليلات الفلسفية المعاصرة، فكان له أبعد أثر وأعمقه، سقت له المثلين التاليين:
فقد أدى البحث في تحليل الجملة الرياضية - حسابا كانت أو هندسة - إلى حقيقة تهولك «ببساطتها» كما تهولك بعمق أثرها في التفكير الإنساني كله؛ ذلك أن التحليل المنطقي للجملة الرياضية قد بين في جلاء أن مثل تلك الجملة يكون دائما تحصيل حاصل، ولا يقول شيئا أبدا عن طبيعة العالم أو أي حقيقة من حقائقه، فإذا قلت مثلا إن 2 + 3 = 5 فأنت لم تزد على أنك قد كتبت رمزا واحدا مرتين في صورتين مختلفتين، أو بعبارة أخرى: فإنك قلت عن الماء إنه ماء!
ومغزى هذا الكشف العجيب عن طبيعة الجملة الرياضية هو أنه لم يعد ما يبرر لنا أن نقول للإنسان مصدرا يستقي منه العلم غير حواسه؛ ذلك أن الفلاسفة العقليين فيما سبق كانوا دائما يحتجون بالرياضة على عدم كفاية الحواس في كسب المعرفة؛ إذ كانوا يقولون: لو كانت الحواس هي المصدر الوحيد لمعرفتنا، فمن أين تأتي الرياضة مع أنها لا تأتي عن طريق الحس؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى إن كل ما يأتي عن طريق الحس معرض للخطأ لاحتمال أن تخطئ الحاسة في نقلها عن الحقيقة الخارجية، لكن المعلوم عن الرياضة أنها يقينية لا تخطئ، فمن أين جاءنا هذا اليقين فيها؟ كان الفلاسفة يسألون هذه الأسئلة ليجيبوا بقولهم: إنه لا بد أن يكون هنالك عنصر وراء الحواس، ومستقل عنها، وهو العقل، لكن ها هو ذا التحليل قد أثبت أن الجملة الرياضية تكرار! وإذا قلت إن الماء هو الماء فلا شك أنك قد قلت يقينا، لكن اليقين مصدره أنك لم تقل شيئا!
وكذلك أدى البحث التحليلي للفلاسفة المعاصرين إلى الكشف عن حقيقة أخرى في العبارات التي تعبر عن قيمة خلقية أو قيمة جمالية، كقولك مثلا: إن الشجاعة خير، وإن غروب الشمس جميل. فأمثال هذه العبارات إذا ما خضعت للتحليل المنطقي تبين أنها تعبير ذاتي صرف لا شأن له بالعالم الخارجي؛ فأنت لا تصف شيئا من مكونات العالم حين تقول عن الصدق إنه خير، أو حين تقول إن غروب الشمس جميل، إنما تقول شيئا عن ذات نفسك أنت، ومغزى ذلك أنه إذا اختلف اثنان في حكم خلقي أو جمالي فلا سبيل إلى الرجوع إلى مقياس خارجي لنفصل به: أيهما مصيب وأيهما مخطئ؟ ذلك أن لا صواب ولا خطأ فيما تقوله لتعبر به عن ذات نفسك، وإنما يكون الصواب أو الخطأ حين تتعرض لوصف شيء خارجي، فيجيء هذا الوصف مطابقا للواقع أو غير مطابق. •••
هكذا حدثت الثورة في الفلسفة؛ فلم يعد الفيلسوف المعاصر كسابقه يتعرض لوصف الوجود، ولم يعد الفيلسوف المعاصر كسابقه يحاول أن يبني النسق الشامخ الذي يسع كل شيء؛ كانت الفلسفة فيما سبق لا تتورع عن منافسة العلم في موضوعاته، فرد العلم إلى أصحابه، وكانت تجاوز الطبيعة إلى ما وراءها تضرب فيه، فامتنع ذلك بحذف كل عبارة تصف شيئا غير الطبيعة وصفا يمكن تحقيقه بالتجربة البشرية، وأبقى الفيلسوف لنفسه عملا واحدا مشروعا، هو تحليل الكلام لتوضيح معناه، فإن سألتني بعد ذلك: ما الفلسفة في اختصار؟ قلت: إنها توضيح المعاني.
أسطورة الميتافيزيقا
1
إنني في الفلسفة نصير الوضعية المنطقية التي ما فتئ أصحابها حتى اليوم يجاهدون في تبليغ دعواها؛ وإن دعواها لتتطلب جهادا شاقا طويلا لتستقر في عقول الناس؛ ذلك لأنها حديثة العهد من جهة، لم يكد عمرها يجاوز ثلث القرن الأخير؛ فلم يمتد بها الزمن بعد امتدادا يتيح لمبادئها وأصولها أن تذيع في المجلات والكتب وقاعات الدرس؛ ولأنها من جهة أخرى إذا ما استقر بها المقام وطاب لها المثوى، فهي قمينة أن تقوض أنظمة فكرية بناها أصحابها على عمد من الباطل، وأن تمحو من رءوس الناس ونفوسهم أوهاما خلقوها لأنفسهم - جادين أو هازلين - ثم طال أمد اشتغالهم بها حتى حسبوها حقائق، وحسبوا درسها جدا لا لهو فيه. والميتافيزيقا على رأس هذه الأنظمة الفكرية التي قوامها عبث ووهم، والتي مصيرها إلى زوال محتوم إذا ما مكن للوضعية المنطقية من الذيوع.
وإنما أناصر المذهب الوضعي المنطقي لأنني مؤمن بالعلم؛ ولما كان هذا المذهب - كما قلت في مقدمة كتابي «المنطق الوضعي»:
هو أقرب المذاهب الفكرية مسايرة للروح العلمي كما يفهمه العلماء الذين يخلقون لنا أسباب الحضارة في معاملهم، فقد أخذت به أخذ الواثق بصدق دعواه، وطفقت أنظر بمنظاره إلى شتى الدراسات، فأمحو منها ما تقتضيني مبادئ المذهب أن أمحوه. وكالهرة التي أكلت بنيها، جعلت الميتافيزيقا أول صيدي، جعلتها أول ما أنظر إليه بمنظار الوضعية المنطقية، لأجدها كلاما فارغا لا يرتفع إلى أن يكون كذبا؛ لأن ما يوصف بالكذب كلام يتصوره العقل، ولكن تدحضه التجربة، أما هذه فكلامها كله هو من قبيل قولنا: إن المزاحلة مرتها خمالة أشكار - رموز سوداء تملأ الصفحات بغير مدلول. وإنما يحتاج الأمر إلى تحليل منطقي ليكشف عن هذه الحقيقة فيها.
2
ولكي أحمل القارئ على الإيمان بما آمنت به، لا أرغمه على شطط من الأمر، ولا أطالبه بركوب صعاب وأهوال؛ وكل ما أريده على التسليم به في بدء الأمر، هو أن الكلمات والعبارات التي تتألف منها اللغة، رموز اصطلح الناس على استخدامها ليتم التفاهم، فإذا وجدنا عبارة لا تؤدي هذا الذي خلقت من أجله، أعني لو وجدنا عبارة قالها قائلها ليفهم عنه السامع، ثم تبين أنها بحكم تركيبها يستحيل أن تنقل إلى السامع شيئا كان حتما علينا أن نرفض قبولها جزءا من لغة التفاهم، وكان لا مندوحة لنا عن حذفها من جملة الكلام المفهوم.
على أن الكلام لا يكون مفهوما عند السامع، إلا إذا كان في مستطاع هذا السامع أن يتصور طريقة لتحقيقه وتصديقه إذا أراد، فإذا قلت لصاحبي: «إن في هذا الصندوق أربع برتقالات.» ثم إذا كان صاحبي هذا متفقا معي على مدلولات «صندوق» و«أربعة» و«برتقالة»، كان في إمكانه أن يحقق هذا الذي أزعمه له، فإن وجد القول مطابقا للواقع صدقه، وإلا فهو قول كاذب، وفي كلتا الحالين، تكون العبارة كلاما مفهوما؛ لأنها رسمت لسامعها الصورة التي يتوقع أن يجدها في عالم الواقع.
لكن قارن هذا بكل من العبارتين الآتيتين: (1)
إن في هذا الصندوق أربع مشقرات. (2)
الإنسان حرارة لها زاويتان قائمتان.
تجد أن العبارة الأولى غير ذات معنى، لاحتوائها على كلمة «مشقرات» التي لا مدلول لها، فلا يعلم السامع ماذا عساه واجد في الصندوق إذا أراد أن يتثبت من صدق ما قاله القائل، والعبارة الثانية غير ذات معنى كذلك، على الرغم من أن كل لفظة منها ذات مدلول متفق عليه؛ لأن الألفاظ قد وضعت في غير سياقها الذي يجعلها ذات معنى.
نحن زاعمون لك الآن أن كل عبارة ميتافيزيقية هي من أحد هذين النوعين؛ فهي إما مشتملة على كلمة أو كلمات لم يتفق الناس على أن يكون لها مدلول بين الأشياء المحسوسة، أو مشتملة على كلمة أو كلمات اتفق الناس على مدلولاتها، لكنها وضعت في غير السياق الذي يجعلها تفيد معناها.
3
لكنني أتحدث حديث الواثق بأن كل قارئ يعلم ما هي هذه الميتافيزيقا التي وضعتها موضع الهجوم؛ كأنني غافل عن حقيقة هامة جدا، وهي أنك قل أن تجد من المشتغلين بالفلسفة أنفسهم من يستطيع أن يحدد لك موضوع الميتافيزيقا تحديدا يوافقه عليه سائر زملائه؛ فإنه لمما يستوقف النظر حقا - كما يقول كولنجوود: «أن فلاسفة كثيرين قد أنتجوا في الميتافيزيقا إنتاجا غزيرا، لكن هذا الإنتاج كله لم يشمل قط مراجعة أساسية للجواب على سؤالنا: ما الميتافيزيقا؟»
ومهما يكن من أمر هذا الخلاف بين المحترفين، فمن حق قارئي علي أن أقدم له تحديدا مبسطا مفهوما، إلا يكن موضع إجماع من هؤلاء، فهو على أقل تقدير مقبول من كثرتهم الغالبة؛ إذ إنه من الإجحاف بحق القارئ أن نمضي في حديثنا معه عن «الميتافيزيقا» وضرورة حذفها من قائمة المعارف الإنسانية، زاعمين له أن هذا الحذف سيكون خطوة جريئة نحو تخلص الإنسان من أحمال بقيت على كتفيه من عهد طفولته العقلية اللاهية المتعثرة؛ من الإجحاف بحق القارئ أن نمضي في حديثنا معه عن «الميتافيزيقا» وهو لا يدري ما هي ولو على سبيل التقريب.
لقد جرى العرف أن تطلق كلمة «فلسفة» على موضوعات مختلفة فيما بينها اختلافا بعيد المدى، لكنها على اختلافها هذا يمكن تقسيمها قسمين؛ فهي إما موضوعات تحليلية تتناول الألفاظ والعبارات بالتحليل، وتلك هي المنطق وما إليه، وإما موضوعات «شيئية» - إن صح لي هذا التعبير - تتناول «أشياء» معينة بالبحث.
على أن «الأشياء» التي تتناولها الفلسفة ببحثها تعود فتنقسم نوعين؛ فهي إما «أشياء» لا تقع لنا في الخبرة الحسية؛ أي إننا لا نراها بالعين ولا نسمعها بالأذن ولا نلمسها بالأيدي، مثل «المطلق» و«العدم» و«القيم» و«الشيء في ذاته» ... إلخ، وعندئذ يسمى البحث بالميتافيزيقا، وإما هي «أشياء» مما نصادفه في العلوم الأخرى؛ كالإنسان، والمجتمع، واللغة، والتاريخ ... إلخ، لكنها تعالجها بغير الطريقة التجريبية التي تعالجها بها العلوم؛ وعندئذ يسمى البحث فلسفة طبيعية أو فلسفة التاريخ، أو فلسفة اللغة وهكذا.
فالميتافيزيقا - إذن - هي مجموعة أقوال قالها قائلوها، ليصفوا بها أشياء لا تقع تحت حاسة من الحواس. وسنبين لك أن كل قول يحاول هذه المحاولة إنما يكون قولا فارغا ليس بذي مدلول ولا معنى، لا لأنه يعالج موضوعا «صعبا» يتعذر على العقل البشري إدراكه اليوم، وقد يستطيع ذلك غدا، بل هو قول فارغ لأنه لا يعالج شيئا على الإطلاق، وإن توهم قائله غير ذلك، وفراغ العبارات الميتافيزيقية من المعنى يرجع - كما أسلفنا - لأحد أمرين؛ فإما هي عبارات فارغة لأنها تتحدث بألفاظ لم يتفق الناس على أنها كلمات دالة على أشياء، أو أنها تتحدث بألفاظ لها معان متفق عليها، لكنها وضعت في غير سياقها المفهوم.
ولعله من المفيد في هذا الموضع، أن أذكر لك أن المذهب الوضعي المنطقي الجديد، يقصر الفلسفة على العمليات التحليلية وحدها، ويأبي عليها التعرض لوصف «الأشياء»؛ لأن هذه «الأشياء» إن كانت مما لا يقع تحت حاسة من الحواس - وهو موضوع الميتافيزيقا - فالقول فيها فارغ لأنه قول في غير موضوع، وإن كانت مما تتعرض العلوم الأخرى لبحثه، كالإنسان والطبيعة وما إلى ذلك، فينبغي أن يترك أمرها للعلماء بمعاملهم وتجاربهم ومشاهداتهم؛ إذ ليس من حق الفيلسوف أن يغلق على نفسه أبواب داره، ثم يقول إن الطبيعة وصفها كذا والإنسان صفته كيت، إلا إذا أراد أن يجعل نفسه أضحوكة الضاحكين.
4
ونضرب لك مثلا مما يقوله الميتافيزيقيون، لنبين لك ما نريده حين نتهم الميتافيزيقا بأنها أقوال فارغة من المدلول والمعنى:
يقول «برادلي» وهو من أكبر الفلاسفة الإنجليز المحدثين، يقول هذه العبارة الآتية في سياق كتابه المشهور «المظهر والحقيقة»:
يدخل المطلق في تطور العالم وتقدمه، لكنه هو نفسه لا يطرأ عليه تطور أو تقدم.
ومعنى ذلك عنده - فيما أظن - أن العالم في سيره التطوري الذي جعل يتقدم به من الحالة السديمية إلى الحالة التي هو عليها الآن بما فيها من نبات وحيوان وإنسان، قد تأثر بعدة عوامل من بينها عامل اسمه «المطلق»، لكن هذا «المطلق» على الرغم من أنه قد عمل على تطور العالم وتقدمه من حالة إلى حالة، فإنه هو نفسه ثابت على حالة واحدة، لا تطور فيها ولا تقدم.
لو قال لنا عالم بيولوجي إن اختلاف البيئة يؤدي إلى تطور الحيوان من حالة إلى حالة، رأيته يقول القول وفي كراساته الأدلة التي جمعها من مشاهداته؛ لأنه حين يقول مثل هذا القول لزملائه علماء البيولوجيا، لا يفترض أن هؤلاء الزملاء سيتلقون منه القول كأنه وحي أوحي به إليه من السماء، وفي مستطاع كل زميل أن يدحض له قوله بمشاهدات أخرى إن كانت عنده مشاهدات أخرى من شأنها أن تدحض ما زعم، وهكذا يجري الأمر بين العلماء إثباتا ونفيا؛ الذي يثبت أمرا إنما يثبته بما قد شاهد، والذي ينفي أمرا إنما ينفيه بما قد شاهد كذلك.
ولو قال لنا متحدث في الشئون اليومية إن إخراج الحكومة للتسعيرة قد أدى إلى تطور الأسعار من حالة إلى حالة، رأيته أيضا يقول القول وعلى لسانه الأمثلة مما قد رأى في السوق؛ فقد كان البرتقال ثمنه كذا وأصبح كيت، ولك - إن أردت - أن تذهب إلى السوق لتثبت أو تنفي.
أما المتكلم أو الكاتب إذا ما تحدث في الفلسفة أو كتب، فإنه يجيز لنفسه، ويجيز له الناس - فيما يظهر - أن يرسل ألفاظه إرسالا بغير حساب أو عتاب؛ لأنني إذا طالبت «برادلي» بأن يشير لي إلى شيء من الأشياء التي أعرفها، أو في مستطاعي أن أعرفها إذا شئت، إذا طالبته بأن يشير لي إلى شيء يكون هو «المطلق» المزعوم، لأرى أكان عاملا من عوامل تطور العالم - كما زعم - أم لم يكن، أنكر علي سؤالي؛ لأنه فيلسوف ميتافيزيقي كتب له الله في لوحه المحفوظ أن يعرج إلى السماء من حين إلى حين، ليعلم هناك أن «المطلق» يفعل هذا ولا يفعل ذاك.
لو طالبت «برادلي» بأن يشير لي إلى «المطلق» الذي يحدثني عنه، كان أقل ما يعترض به علي، هو أن ما يشار إليه إنما يكون في مكان معلوم وزمان معلوم، أما «المطلق» فلا مكان له ولا زمان، وإلا لما صح وصفه بأنه مطلق من كل قيد. كيف إذن عرفته يا صاحبي؟ إنك لا تعرف إلا الأشياء ذوات المكان المعين والزمان المعين، أم وهبك الله بابا من أبواب المعرفة لم يفتحه أمامي؟ أليست حواسي وحواسك سواء؟
لا، لا، يا صديقي - هكذا أتصور المجيب قائلا - ليس الأمر هنا موكولا إلى الحواس من عيون وآذان وأصابع، بل الأمر طريقه «الحدس» أو العيان العقلي المباشر.
هذا جميل، ولست أريد أن أضيق عليك ما قد وسعه الله لك فأدرك بحدسك هذا آفاق السماء ما استطعت؛ لكنك الآن تحدثني أنا بما قد أدركت، وإذن فمن حقي عليك أن تترجم إدراكك هذا باللغة التي أفهمها، أنا الذي لم يهبني الله ما وهبك من «عيان عقلي مباشر»، فإن استطعت كان عيانك العقلي هذا اسما آخر على ما أسميه أنا الإدراك بالحواس، وإن لم تستطع كان عليك أن تصمت، أو كان لي أن أسد أذني فلا تسمع؛ إذ ما غناء موجة صوتية ترسلها شفتاك لا تدلني على شيء مما أفهم؟
إن كلمة «المطلق» لها معناها الذي اتفقنا عليه، فإن سألت الخادم: أربطت الكلب إلى سلسلته أم تركته مطلقا؟ وأجابني الخادم: بل تركته مطلقا. ارتسمت عندي صورة لما وقع، وفي مستطاعي أن أراجع الخادم فيما يقول، فأبحث عن الكلب لأرى أهو على الصورة التي رسمها لي الخادم أم هو على غيرها، وإن سألت التاجر: أأسعار الفاكهة مقيدة بتسعير رسمي أم هي مطلقة؟ ثم أجابني بأنها مطلقة، فقد رسم لي صورة أستطيع أن أراجع الأمور الواقعة لأتبين أصدق في رسمه لصورة الواقع أم كذب.
هذا هو معنى «مطلق» كما اتفقنا، فيجيء فيلسوف ميتافيزيقي ليزعم «أن المطلق يدخل في تطور العالم وتقدمه، لكنه هو نفسه لا يطرأ عليه تطور أو تقدم.» فلا يكون لعبارته معنى، لأنه استخدم لفظا متفقا على معناه في غير السياق الذي يحفظ له ذلك المعنى، وإلا فحدثني ماذا عساي أن أجد في ظواهر الطبيعة كلها مما يثبت هذا القول أو ينفيه؟ هبني قلت لذلك الفيلسوف: لا، بل ليس يدخل المطلق في تطور العالم وتقدمه. أو قلت له: لا، بل المطلق نفسه يتعرض للتطور والتقدم. فما الذي يتغير في صورة الكون بين حالتي الإثبات والإنكار؟ إن الكلام إذا كان له معنى مفهوم، يستحيل ألا يكون هناك في عالم الأشياء الواقعة فرق بين إثباته ونفيه؛ فالفرق واضح بين قولي: «إن الكلب مطلق.» وقولي «إن الكلب ليس مطلقا.» وما دمت أدرك كيف تتغير صورة الأشياء بين حالتي نفي القول وإثباته، فالقول ذو معنى مفهوم، وإلا فهو فارغ لا يدل على شيء.
5
كلام الميتافيزيقي فارغ من الدلالة والمعنى؛ لأن كل عبارة منه إثباتها ونفيها سواء من حيث ما تكون عليه صورة العالم. إن اعتراضنا على العبارات الميتافيزيقية لا يقوم على أساس خطئها في ذاتها؛ لأننا لو قلنا إنها خطأ، كان معنى ذلك أنها تصور شيئا، وغاية الأمر أن الصورة لا تطابق ما يجري هناك في الخارج، بل اعتراضنا قائم على أساس أنها ليست بذات معنى على الإطلاق من الوجهة المنطقية؛ إنها لا تكون خطأ ولا تكون صوابا؛ لأنها لا تصور شيئا، وهي لا تصور شيئا لأنها قد استخدمت الألفاظ اللغوية استخداما يخرج على القواعد التي اتفق الناس عليها لكي يجيء كلامهم مفهوما مقبولا.
لقد سبق «كانت» إلى القول باستحالة الميتافيزيقا، لكنه بنى تلك الاستحالة على أساس آخر، بناها على أساس أن العقل البشري بحكم طبيعته لا يستطيع الحكم إلا على ظواهر الأشياء، وأنه إذا ما غامر في مجال «الأشياء في ذاتها» وقع في المتناقضات؛ وعلى ذلك فاستحالة المعرفة الميتافيزيقية عنده، حقيقة واقعة، وليست هي بالاستحالة المنطقية كما يرى المذهب الوضعي المنطقي الذي أناصره؛ هي عند «كانت» حقيقة واقعة بمعنى أنه لو كان الإنسان على غير ما هو عليه في إدراكه للأشياء، لأمكن ألا تكون المعرفة الميتافيزيقية مستحيلة؛ هي مستحيلة الآن لأن العقل الإنساني لم يخلق لإدراكها، كما لم تخلق العين لسماع الأصوات، أما أصحاب المذهب الوضعي المنطقي فيبنون استحالة الميتافيزيقا على أساس أن أقوالها فارغة من المعنى بحكم ما اتفقنا عليه في طرائق استعمال اللغة؛ إنها أقوال لا تدل على شيء إطلاقا، بحيث يجوز لنا أن نسأل أيمكن حقا أن يدرك الإنسان هذا الشيء أم لا يدركه.
أئذا قال لك قائل: «إن الإسكبرانوس يدخل في تطور العالم وتقدمه لكنه هو نفسه لا يتطور ولا يتقدم.» - حين يكون «الإسكبرانوس» رمزا ملفقا لا معنى له - جاز لك أن تقول: إن عقلي قاصر عن إدراك ذلك؟ كلا؛ فرفضك لمثل هذه العبارة إنما يقوم على أساس أن هذه الرموز التي وضعها صاحبها في هيئة العبارة اللغوية، ليست هي من العبارات اللغوية في شيء، وبالتالي وجب منطقيا حذفها ؛ إنها ليست خطأ كما أنها ليست صوابا، لأن الوصف بالخطأ أو بالصواب لا يكون إلا للعبارات المقبولة من ناحية الاتفاق اللغوي أولا.
إنك إذا زعمت للعقل الإنساني حدا لا يستطيع أن يجاوزه، ثم زعمت في الوقت نفسه أن وراء ذلك الحد «أشياء» هي فوق إدراكه، كنت تناقض نفسك بنفسك؛ لأن اعترافك بوجود تلك «الأشياء» وراء الحد المزعوم، هو في ذاته دليل على عبورك إلى المنطقة المحرمة، ومثل هذا النقد نوجهه إلى «كانت»، الذي جعل استحالة المعرفة الميتافيزيقية مسألة سيكولوجية لا منطقية؛ إذ إنه يجعل الاستحالة متوقفة على قدرة العقل وعدم قدرته، أما أصحاب الوضعية المنطقية فرأيهم في هذه الاستحالة هو أنها قائمة على أن أقوال الميتافيزيقا تفقد الشروط الأولية للغة التي يمكن فهمها، وإذن فهي مرفوضة منذ البداية على أساس منطقي، ولا شأن هنا لقدرة العقل أو عدم قدرته.
وما دامت الميتافيزيقا كلها كلاما فارغا على النحو الذي بينا، فماذا نحن صانعون بهذه الأسفار الضخمة التي تراكمت لدينا على مر القرون مما كتبه الميتافيزيقيون؟ إنه لعزيز علي وعليك أن تلقى هذه الأسفار - كما كان ينبغي لها - طعاما لألسنة النار، أو أثقالا في قاع المحيط، وإذن فلنبق عليها، ليقرأها القارئ - إذا أخذه الحنين إلى الماضي - كما يقرأ أساطير الأولين!
وجهة الفكر المعاصر
1
لا يكون «الفكر» إلا في صورة لفظية مرئية أو مسموعة؛ فهي مرئية حين يكون «الفكر» عبارة مكتوبة تراها عين القارئ، وهي مسموعة حين يكون «الفكر» كلاما منطوقا، ويدخل في باب «الفكر» المسموع أن «يفكر» الإنسان لنفسه تفكيرا صامتا؛ لأنه عندئذ يكون بمثابة من يتحدث إلى نفسه بكلمات وعبارات، هي نفسها الكلمات والعبارات التي يستخدمها لو أراد أن ينقل تفكيره إلى غيره في كلام مسموع.
أقول إن «الفكر» لا يكون إلا في صورة لفظية محسوسة - مرئية أو مسموعة - وأما ما يستحيل تصويره على هذا النحو اللفظي المحسوس، فأقل ما يقال فيه أنه ملك لصاحبه وحده، لا يشاركه فيه أحد سواه؛ وبالتالي لا يكون «فكرا» يمكن أن يتداوله الناس ويتبادلوه وينتفعوا به، فإذا صح أن هنالك «حالات فكرية» تدور في الخاطر ولا تجد سبيلا إلى التعبير اللفظي المرئي أو المسموع، فتلك الحالات المزعومة عبث لا يتغير به شيء في العالم، لأنها - إن صح وجودها - حالات حبيسة في نفس صاحبها، لا سبيل إلى إدراكها حتى عند صاحبها نفسه، ما دام صاحبها هذا بشرا مثلنا، لا يدرك المعنى إلا في ألفاظ.
إننا إذا تحدثنا عن «الفكر» في عصر من العصور، كقولنا مثلا «الفكر الإسلامي في القرن العاشر الميلادي» أو «الفكر الإنجليزي في القرن الثامن عشر» فلا نعني بهذا - بل لا يمكن أن نعني بهذا - غير طائفة من عبارات مسطورة في جملة من الكتب والوثائق، وكذلك إذا تحدثنا عن «الفكر» عند رجل مضى به الزمن، كقولنا مثلا «فكر الرئيس ابن سينا» أو «فكر فرانسس بيكن» فلا نعني هنا كذلك إلا طائفة من عبارات مسطورة في الكتب والوثائق، فإذا فرضنا أن قد كان تفكير في هذا العصر أو ذاك، لهذا الرجل أو ذاك، مما لا تقع عليه عين القارئ هنا أو هناك، فذلك التفكير لا يدخل في حسابنا بداهة. وإذا كان هذا صحيحا بالنسبة للعصور الماضية ومفكري الماضي، فهو صحيح أيضا بالنسبة إلى عصرنا ومعاصرينا، غير أننا نضيف - في هذه الحالة - العبارات المنطوقة المسموعة، إلى العبارات المكتوبة المرئية. وخلاصة الرأي أن «الفكر» كما قدمنا، لا يكون إلا في صورة قطع من المادة تصدم فينا حاستي البصر والسمع؛ لأنه لا يكون إلا مكتوبا مقروءا، أو منطوقا مسموعا، وهو في الحالة الأولى قطرات جافة من المداد أو شبهه، وفي الحالة الثانية موجات هوائية تهتز بالصوت.
ونحن إذ نقول عن «الفكر» إنه يستحيل أن يتم له وجود إلا في صورة لفظية محسوسة، فلسنا نريد بذلك أن هذه هي حدود الإمكان البشري، وأن هنالك «حالات فكرية» يكون التعبير عنها فوق إمكان البشر وفوق ما تستطيعه اللغة، ولكنا نريد بذلك أن «الفكر» ليس شيئا سوى التعبير عنه؛ نريد أن نقول إن الفكر والعبارة شيء واحد؛ فليس هنالك شيئان؛ فكر من ناحية، وتعبير عنه من ناحية أخرى، بل هنالك شيء واحد هو هذه العبارات اللفظية التي ننطق بها أو نكتبها مرتبة أجزاؤها على نحو خاص؛ هذه العبارات هي الفكر وهي التعبير عنه، ومحال أن يكون هنالك «فكر» يستحيل التعبير عنه؛ لأن ذلك قول ينقض بعضه بعضا، ما دامت لفظة «فكر» نفسها معناها «عبارة تكتب أو تقال»، وواهم من يزعم لك بأن في نفسه معني لا يستطيع إخراجه في عبارة؛ فمن يدعي هذا فليس في نفسه شيء وإن توهم غير ذلك. الفكرة هي عبارتها؛ فالعبارة المستقيمة الواضحة فكرة مستقيمة واضحة، والعبارة الملتوية الغامضة هي لا شيء سوى أصواتها أو علامات ترقيمها، ولا تصبح هذه الأخيرة فكرة إلا إذا عاد صاحبها إلى ألفاظها فعدل منها وأعاد ترتيبها، بحيث ترسم لنا صورة مستقيمة، وعندئذ فقط تصبح عبارة سليمة أو فكرة سليمة؛ فهذان اسمان على شيء واحد.
2
والعبارة اللفظية التي هي فكرة، لا بد أن تكون جوابا لسؤال سابق عليها، سواء أكان هذا السؤال ملفوظا بلفظ صريح أم متضمنا ومقدرا، فإذا قلت - مثلا - عبارة كهذه: «كتابي على المنضدة.» كان ذلك جوابا لسؤال صريح أو مقدر، هو: «أين كتابك؟» وكما أنه لا يتحتم أن يلقى السؤال فعلا بل يكفي تقديره من الجملة التي نطقنا بها لنقرر حقيقة أو لنصور بها حالة، فكذلك لا يتحتم أن يكون هناك سائل ومسئول في صورة شخصين؛ فربما كان الفرد الواحد هو السائل وهو المجيب معا، وذلك هو ما نسميه بالتفكير الصامت.
على أن السؤال المفروضة أسبقيته على العبارة التي تقرر بها حقيقة معينة، هو نفسه مستحيل بغير افتراض حقيقة معينة أخرى إلى جانبه؛ لأنك إذ تسأل فإنما تسأل مستندا حتما إلى حقيقة مفروض صدقها؛ فلا أستطيع مثلا أن أسأل: «أين كتابك؟» ما لم يكن مفروضا عندي وعندك أن لك كتابا يسأل عن مكانه؛ فها هي ذي ساعة أمامي على مكتبي، وقد طافت الآن برأسي هذه العبارة عنها: «هذه الساعة هنا لتدل على الزمن.» وهي عبارة تتضمن - منطقيا - سؤالا سابقا عليها ، هو: «لماذا وضعت هذه الساعة هنا؟» أو: «ما الغاية من هذه الساعة؟» لكن هذا السؤال نفسه مستحيل بغير حقيقة مفروض صدقها، وهي أن بعض الأشياء وسائل لغايات مقصودة، فالتسليم بهذا الفرض هو الذي أتاح لي أن أسأل: «ما الغاية من هذه الساعة هنا؟» ولولا هذا التسليم بوجود غايات مقصودة، كأن أعتقد مثلا بأن كل شيء في العالم يحدث بمحض المصادفة غير المقصودة من أحد، لانتفى إمكان هذا السؤال عن «الغاية من وجود هذه الساعة» على مكتبي، ولانتفى تبعا لذلك إمكان التقرير بأن «هذه الساعة هنا لتدل على الزمن».
لقد زعمت لك حتى الآن مزاعم ثلاثة: (1)
فزعمت لك أولا أن الفكر إن هو إلا هذه العبارات التي نقولها منطوقة مسموعة أو مرقومة مرئية. (2)
وزعمت لك ثانيا أن كل عبارة من هذه العبارات لا بد أن تجيء جوابا لسؤال سابق عليها - صريح أو ضمني. (3)
ثم زعمت لك ثالثا أن هذا السؤال نفسه مستحيل إلقاؤه بغير حقيقة صدقها مفروض عند المتكلم والسامع على السواء.
لكنني لا أريد بهذا أن أقول إن كل ناطق بعبارة يكون على وعي بهذا كله؛ فالكثرة الغالبة من الحالات هي أن يتكلم المتكلمون وهم لا يدرون ما تنطوي عليه عباراتهم من فروض، وإنما يحتاج الأمر إلى تحليل يبرز لنا تلك الفروض المتضمنة في كل عبارة منطوقة، وفي هذا يكون الفرق الأكبر بين التفكير السائب العابر والتفكير العلمي المنظم؛ ففي الصنف الأول تجري أفكارنا معقدة الأطراف ملتفة الفروع متداخلا بعضها في بعض، ولما كنا نفكر تفكيرا علميا فإننا نحاول أن نحل هذه العقد الملتفة المتشابكة ونحللها خيطا خيطا، ثم نرتب هذه الخيوط الفكرية ترتيبا يجري على نسق منظم يبين ما بينها من علاقات، فهذا خيط سابق وذلك خيط لاحق وهكذا.
على أنك لا تستطيع أن تمضي في تحليل الفكرة على هذا النحو إلى غير نهاية تقف عندها؛ لا تستطيع أن تتناول فكرة معينة قائلا: هذه الفكرة تتضمن سؤالا سابقا هو كذا، وهذا السؤال بدوره يتضمن حقيقة مفروضة هي كيت، ثم هذه الحقيقة المفروضة نفسها لا بد أن تكون جوابا لسؤال سابق عليها هو كذا، والسؤال السابق هذا يتضمن حقيقة أخرى مفروضة هي كيت ... إلى ما لا نهاية له، بل لا بد أن تقف السلسلة عند فروض أولية لا يحتمل الناس أن يسألوا عنها؛ لأنهم يجعلونها «بديهيات» فكرية يبنون عليها بناءهم الفكري كله؛ ويصح أن نطلق على هذه الفروض الأخيرة التي ينتهي بنا التحليل إليها والتي لا يسع الناس إلا أن يجعلوها بداية ولا يطيقون أن يخطو أحد وراءها بسؤال، اسم الفروض المطلقة؛ لأننا نتخذها أساسا للتفكير دون أن تكون هي نفسها موضعا للتفكير. ولو أمكنك أن تحلل أفكار الناس في عصر من العصور، بحيث تردها إلى هذه الفروض الأولى، فقد وضعت يدك على محاور التفكير في ذلك العصر الذي أنت بصدد تحليل الفكر فيه، لكننا سنرجئ القول في الفروض المطلقة لنمضي في الحديث.
3
يتبين مما أسلفناه أن الوحدة الكاملة التي ينحل إليها الفكر، هي مركب من جواب وسؤاله؛ فالفكرة الواحدة - كما قدمنا - هي دائما جواب لسؤال متضمن فيها؛ وليست الفكرة بالوحدة الكاملة إذا ما عزلناها عن سؤالها الضمني؛ لأننا لا نستطيع أن نحكم على فكرة بأنها صواب أو خطأ إلا إذا عرفنا السؤال الذي جاءت تلك الفكرة جوابا عنه؛ إذ قد تكون الفكرة المعينة الواحدة صوابا بالنسبة إلى سؤال وخطأ بالنسبة إلى سؤال آخر؛ فلو قلت لي مثلا: «إن مصر كائن واحد» كان قولك صوابا إذا كنت تجيب به عن السؤال: «كم أمة في مصر؟» لكنه خطأ إذا كنت تجيب به عن السؤال: «كم عدد الكائنات الأفراد في مصر؟»
بل إن هذا نفسه ليهدينا سواء السبيل في نقد الآثار الفنية نقدا سليما عادلا، فلا يجوز - مثلا - أن أحكم على تمثال بأنه جميل أو قبيح إلا إذا عرفت أولا ماذا أراد الفنان أن يعبر عنه بهذا التمثال؛ فربما حكمت على تمثال امرأة بأنه غير متناسب الأجزاء، وبأنه لذلك تمثال قبيح، مع أن الفنان ربما أراد به أن يصور القبح الماثل في امرأة غير متناسبة الأجزاء، وبهذا يكون التمثال من هذه الناحية جميلا موفقا فيما أراد أن يعبر عنه.
وهكذا يقال في أحكامنا عن المفكرين الأقدمين؛ فليس من العدل أن تحكم على مفكر فيما أنتجه من فكر، إلا إذا عرفت أولا ما السؤال الذي أراد المفكر أن يجيب عنه بفكره ذاك، فافرض مثلا أن مفكرا قديما كان من رأيه أن تكون لشيخ القبيلة الكلمة العليا في أفراد القبيلة جميعا، ثم أردت أن تحكم على هذا الرأي بصواب أو خطأ، فانظر أولا إلى المشكلة التي أراد المفكر القديم أن يحلها برأيه ذاك، وبعدئذ تقول عن الرأي إنه صواب أو خطأ بمقدار توفيقه في حل المشكلة التي أريد حلها.
تلك أمثلة مكبرة للحقيقة التي أردت إثباتها، وهي أن الفكر - في وحداته الصغرى وفي مشيداته الكبرى على السواء - مؤلف دائما من شقين؛ سؤال وجواب، ولعل أفلاطون حين أجرى فلسفته في قالب المحاورات، كان مدركا لهذه الحقيقة في تحليل الفكر وطريقة بنائه، وأراد تصويرها تصويرا يبرزها، فأجرى فكره في محاورات مؤلفة من سائل ومجيب.
4
وإذا كانت عملية التفكير قوامها أسئلة يحاول الإنسان أن يجيب عنها، سواء أكان هو الذي يلقي الأسئلة على نفسه أم يلقيها عليه سواه، فإننا حين نتحدث عن عصور الفكر المختلفة أو مدارسه، فإنما نعني على وجه التحديد اختلاف المشكلات المراد حلها في تلك العصور والمدارس؛ أي اختلاف الأسئلة التي يراد الجواب عنها؛ فالعصور الفكرية تختلف والمدارس الفكرية تتباين باختلاف الأسئلة التي تلقيها وتحاول الإجابة عنه؛ فلكل عصر فكري أو مدرسة فكرية أسئلتها التي تميزها؛ وإنما ينتقل الناس من أسئلة إلى أسئلة أخرى، حين تنتقل بهم الحياة من ظروف إلى ظروف أخرى.
ومهما تنوعت نواحي الفكر في عصر معين، فالأرجح أنك - إذا ما حللت مختلف نواحي النشاط الفكري في ذلك العصر - واجد وراء هذا التنوع تشابها في الاتجاه هو الذي يطبع العصر بطابع خاص، أو بعبارة أخرى فأنت واجد بالتحليل تشابها واتحادا في الأسئلة الرئيسية التي يلقيها أهل العصر الواحد، برغم تعدد مظاهر نشاطهم الفكري، وللرجل من أهل العصر أن يثبت جوابا أو ينكر آخر، لكنه مع ذلك منتم إلى العصر ما دام معترفا بالسؤال، ولا عبرة بعد ذلك بطريقة جوابه عنه، لكنه يخرج من نطاق عصره إذا هو تنكر للسؤال ذاته، فافرض - مثلا - أن سائلا سأل من الذي صنع العالم؟ فها هنا قد تتعدد الإجابات، لكن تعددها لا يخرج أحدا من المجيبين عن روح العصر، ما داموا جميعا معترفين بمشروعية السؤال؛ وعندئذ يحق لنا أن نقول إن من بين محاور التفكير في هذا العصر المعين، افتراضا مطلقا لا يقبل الشك، وهو أن العالم مصنوع، وبقي أن نعرف من الذي صنعه.
لكن افرض أن قائلا قال - حين ألقي عليه هذا السؤال نفسه: إن العالم لم يصنعه أحد، ولا هو نتيجة لشيء سابق عليه كائنا ما كان، فإنه بذلك يتنكر للمشكلة نفسها، وينكر السؤال نفسه، وبذلك يخرج عن روح العصر الفكري، لينتمي بفكره إلى عصر آخر أو مدرسة فكرية أخرى، إنه بموقفه هذا لا ينكر جوابا ليثبت آخر، بل ينكر أن تكون المشكلة الأساسية مشكلة على الإطلاق، ولا يوافق على أن يكون السؤال الملقى سؤالا مشروعا يستحق الجواب.
انظر إلى تاريخ الفلسفة، ترى عصوره المتتابعة هي في الواقع أسئلة متلاحقة؛ فسؤال يلقيه الطبيعيون السابقون على سقراط، هو: «مم صنعت الأشياء؟» ثم يحاولون الإجابة عنه بمختلف الفروض، حتى إذا ما استنفدوا في ذلك جهدهم، تغير السؤال عند سقراط، وأصبح سؤالا عن «قيم» الأشياء الخلقية والجمالية لا عن مادتها التي صنعت منها. وباختلاف السؤال، انتقل الفكر من عصر إلى عصر يليه؛ حتى إذا ما بلغ السؤال الجديد بدوره غاية شوطه، حين أنفق المفكرون غاية جهدهم في مناقشة «القيم»؛ في الفرد وسلوكه، وفي الدولة المثلى، وفي التربية السليمة، وفي الغايات التي ينشدها العالم بما فيه من أحياء وأشياء، أقول إن السؤال الجديد حين أنهكه المفكرون بحثا وحلا، أخذ العصر الفلسفي عندئذ في الإمحال والزوال، وظل الجدب الفكري ما بقي الإنسان بغير سؤال جديد يلقيه.
وهنا دخلت الإنسانية عصرا تسوده العاطفة الدينية بظهور المسيحية أولا فالإسلام ثانيا، فلما بردت جذوة تلك العاطفة بعض الشيء، عاد الإنسان إلى نفسه من جديد يسأل: ما المبادئ التي تنطوي عليها هذه الديانة أو تلك؟ يجيب عن سؤاله كان لنا بذلك عصر فكري جديد في تاريخ الفلسفة، ولبث المفكرون عندئذ يبحثون في كثير من الجد، حتى نضب المعين وأطفئ ظمأ المتطلع، وبعدئذ انزلق اللاحقون في مجادلات عقيمة جافة كانت نذيرا بانتهاء عهد والاقتراب من عهد جديد، هو عهد النهضة في القرن السادس عشر، وتلاها ما يسميه المؤرخون بالعصر الحديث، فجاء بمشكلات جديدة ومحاولات جديدة لحلها، ولعل المشكلة الرئيسية التي شغلت الفلاسفة منذ ذلك الحين إلى منتصف القرن التاسع عشر، هي معرفة الإنسان لما حوله من أشياء؛ فكيف السبيل إلى فهم هذه الثنائية التي تفرق بين الذات العارفة والشيء المعروف؛ أي بين خبرة الإنسان الداخلية وما يجري من أحداث في العالم المحيط به.
5
وجاء القرن التاسع عشر، والنصف الثاني منه بوجه خاص، فانتقل الناس إلى مشكلات أخرى وأسئلة جديدة، هي التي تخلع على عصرنا الحاضر لونه الفكري.
فالطابع الجوهري الذي يطبع عصرنا الحاضر هو - فيما أعتقد - حصر الإنسان نفسه فيما يستطيع أن يشهد ويرى، ليستخرج من ذلك ما يمكن استخراجه من قوانين، يستخدمها في حياته العملية استخداما عمليا نفعيا ما استطاع إلى ذلك سبيلا؛ فكأنما السؤال الأساسي الذي يلقيه الإنسان على نفسه، ويحاول اليوم أن يجيب عنه هو: ماذا أرى من العالم وماذا أسمع؟ وهل هذا الذي أراه وأسمعه يطرد وقوعه اطرادا أستطيع أن أجعل منه قانونا أركن إليه في حياتي العملية؟
وإن شئت أن تضع ذلك نفسه في عبارة أخرى، فقل إن طابع عصرنا الفكري هو العلم التجريبي وما يستتبعه من مناهج للبحث والنظر، والفلسفة التي نشأت من هذا الاتجاه العلمي، هي الفلسفة التي جرى الاصطلاح أن تسمى بالفلسفة الوضعية، وجوهرها أن تجعل صدق الحواس أصلا لا يناقش؛ لأنه من تلك الفروض المطلقة التي تنبني عليها معرفة العصر واتجاهاته الفكرية، والفروض المطلقة - كما حدثتك منذ حين - لا يسأل عنها، وإلا فإنها لا تعد مطلقة، بل نسبية تستند إلى غيرها من مبادئ وأصول، وليس هنالك بالطبع مانع مادي يحول بينك وبين أن تسأل عما يبرر افتراض ذلك الفرض المطلق، لكنك إن فعلت، خرجت على روح العصر السائد.
إن الفلسفة الوضعية التي تمثل عصرنا الحاضر، لا تكتفي بمخالفتها للفلسفات السابقة في طريقة الإجابة عن مشكلات بعينها، بل كثيرا ما ترفض تلك المشكلات ذاتها، فإذا كانت تلك الفلسفة السابقة تسأل: ماذا وراء ما يدركه الإنسان بحواسه؟ ثم تختلف في الإجابات، فإن الفلسفة الوضعية تنكر السؤال ذاته؛ لأنه يتناقض مع الفرض الأول المطلق، الذي جعلناه بداية وأساسا للبناء الفكري كله، وهو أن الحواس وما تأتينا به من خبرة ومعرفة، صادقة، وهي الأساس الذي ليس وراءه شيء.
عند الفلسفة الوضعية أن الرؤية بالعين أو السمع بالأذن هي الملاذ الأخير في إثبات الصدق لدعواك. إننا نعيش في عصر اتجاهه الفكري هو أن يقوم الرأي على التجربة بشهادة الحواس، وأن يكون صدق الرأي مرهونا بإمكان تطبيقه تطبيقا عمليا.
إننا لو سئلنا: بماذا يتميز الغرب وحضارته؟ لا نعدو الصواب إذا أجبنا بأنه يتميز بالعلم التجريبي، فإذا قمنا ننادي بوجوب الأخذ عن الحضارة الغربية الراهنة أخذا لا تحوط فيه ولا تحفظ، كدنا بذلك أن نقول بوجوب الاتجاه بحياتنا وجهة علمية؛ لكي نساير العصر الحاضر في نشاطه الفكري.
الشك الفلسفي
من لطف الله ببعض رجال الفلسفة أن قد جعل لكل منهم قلبين في جوف واحد، بحيث يقولون شيئا، ويفعلون شيئا آخر، ولو لم تكن هذه حالهم في كثير جدا من الأحيان لهلكوا بين عشية وضحاها!
فما يسمونه بالشك الفلسفي، هو من بين هذه الأشياء التي يقولونها ولا يتصرفون على أساسها أبدا، كأنما هم عالمون في قرارة نفوسهم أنهم إنما ينطقون هراء، بل إن هذا هو بعينه ما أردت أن أكتب لك فيه اليوم، فأنا زعيم لك بأن رجال الفلسفة لا يسمون «بالشك الفلسفي» إلا موقفا لا يكون فيه مجال قط للشك عندهم ولا عند غيرهم من عباد الله.
ولعل خير طريقة نتناول بها الموضوع، أن نضرب مثلا أو مثلين للشك كما يفهمه الناس في حياتهم، ثم نعقب على ذلك بالنظر في أمر الفلاسفة لنرى إن كانوا يعيشون مع الناس في دنياهم ويتكلمون بلغاتهم، أم إنهم اختصوا أنفسهم بصفة عجيبة، وهي أن يستعملوا ألفاظ اللغة في غير معانيها ليضلوا عن عمد، ولا أقول ليضللوا؛ لأن أحدا والحمد لله لا يضل بضلالهم.
إذا قلت لزميلي ونحن سائران في ظلمة الليل: هنالك إنسان واقف على حافة الطريق. ثم قال لي زميلي: لا، بل إنه جذع شجرة يشبه الإنسان على بعد في الظلام. فقد أسأله: وأنى لك ذلك؟ فيجيب: إني أمر بهذا المكان كل يوم وأعرف ما فيه. فإما صدقته، أو ذهبت معه إلى المرئي الذي أشير إليه، فأراه على مقربة أو ألمسه بيدي إن شئت.
ذلك موقف يصور «الشك» كما نفهمه في حياتنا العملية، فقد كنت «أشك» إذا كان ما أراه شجرة أو إنسانا، وكان هنالك أمامي طريق أو أكثر لإزالة شكي هذا؛ فحسبي - وحسب كل إنسان عاقل - أن أذهب إلى الشجرة لأراها عن قرب، أو لألمسها، لكي يتبين في يقين ألا سبيل إلى الشك بعد ذلك.
ولكن اصطحب معك في مثل هذا الموقف فيلسوفا وستسمع منه عجبا، سيذهب معك إلى الشيء المشكوك في أمره، وسيراه معك على مقربة، وسيلمسه معك بيديه، و«سيوقن» معك أنه «يرى» جذع شجرة لا إنسانا، لكنك ما تكاد تقول له في براءة: إذن لقد زال الشك. حتى يضحك من جهلك؛ لأن «الشك الفلسفي» إنما يبدأ بعد زوال الشك كما يفهم في الحياة العملية، فليس من الشك الفلسفي عنده ألا تدري أشجرة أمامك أم إنسان، ثم تستخدم حواسك لتفصل في الأمر، إنما ينشأ الشك الفلسفي حين لا «يشك» الفيلسوف نفسه بأنه إزاء شجرة كما تدله الحواس!
فسيسألك فيلسوفنا: من أدراك أن هذا الذي نراه شجرة ونلمسه شجرة، لا يكون في حقيقة أمره حلم حالم أو تخليط ذاهل؟ ألست أحيانا تحلم بأنك واقف أمام شجرة ولا شجرة هنالك؟ ألا يهذي المحموم فيقول تلك شجرة، ولا شيء أمامه من الشجر أو ما يشبهه؟ فلماذا لا نكون - أنا وأنت معا - حالمين أو هاذيين؟! هذا هو الشك الفلسفي!
وعلى ذلك فالشك الفلسفي لا يقوم إلا إذا «اتفقتما معا» على أن ما تريانه شجرة؛ عندئذ فقط، أعني عندما لا يكون هناك شك في أمر ما أنتما بصدد النظر فيه، يبدأ الشك الفلسفي سائلا: كيف تعلم أنها شجرة حقيقة؟ وهذا بعينه ما قاله ديكارت زعيم الشك الفلسفي، حين أخذ يتشكك.
لكني سأجيب الفيلسوف الذي يشك أمام الشجرة أنه قد يكون حالما غير يقظان، بجواب بسيط، وهو: إنك كاذب في ادعائك الشك؛ إنك لا تشك أبدا أنك حالم، بدليل أنك لا تتصرف على هذا الأساس، لو كنت صادقا في زعمك، لرأيتك تفعل ما يفعله الناس حين يشكون حقا أحالمون هم أم أيقاظ، إنهم عندئذ يصبون على رءوسهم الماء البارد، ويهزون رءوسهم وسائر أبدانهم، ويسألون من إلى جوارهم: هل ترون ما نرى أم نحن حالمون؟ وأنت لا تصنع شيئا من هذا، فأنت إذن على يقين من أمرك، وادعاؤك الشك كذب لا يليق، أو هو على أقل تقدير استخدام للفظة «الشك» في غير ما اصطلحنا عليه نحن البشر في حياتنا العملية!
أريد لقارئي أن يتصور ديكارت نفسه - هذا الذي اتخذ «الشك الفلسفي» منهجا - وقد جلس في غرفته أمام المدفأة؛ ثم أريد لقارئي أيضا أن يفرض أن ديكارت عندئذ سيشك فعلا - بالمعنى الذي نفهمه من الكلمة في حياتنا اليومية - سيشك في أن النار ما زالت هناك في المدفأة، فماذا هو صانع؟ إنه سينهض ليحرك النار، أو ليقذف فيها بفحم أو خشب جديد، أعني أنه سيتصرف تصرفا معينا على أساس شكه، لكن ماذا يقول القارئ في ديكارت، إذا ما قال له: من أدراني أن النار التي أمامي ليست حلما من الأحلام أو هذيانا من الهذيان؟ لو قال له ذلك، ثم نهض ليضع إبريق الشاي على هذه النار «المشكوك في أمرها» ليصنع لنفسه فنجانا من الشاي، ماذا يقول القارئ إزاء ذلك؟ ألا يقول: إن الرجل يهزل حين يقول إني أشك في أن هذه النار حلم، ثم لا يأخذه الشك أبدا في أنها ستصنع له فنجان الشاي الذي يريد؟! إن أعجب العجب في هذا كله أن الفلاسفة لا يعدون الموقف موقف شك إلا إذا لم يكن في الموقف ما يدعوهم هم أنفسهم إلى الشك، فتراهم يتصرفون على أساس أن الأمر مقطوع باليقين فيه، وما هذا «الشك الفلسفي» إلا كلام يراد به تزجية الفراغ وتسرية الهموم - فيما أظن!
ثم أريد لقارئي أن يصور لنفسه صورة أخرى، أريد أن يصور لنفسه فيلسوفا وقف يحاضر الناس في «الشك الفلسفي» فيقول لهم: من أدراني حين أقول إن هذا القلم الذي أمامي هو حقا قلم كما تدلني الحواس؟ ألا يجوز أن أكون هاذيا أو ذاهلا، والحقيقة هي أن ما أمامي حية تسعى؟ سيقول ذلك وهو غاية في اطمئنان النفس، لا تختلج عضلاته ولا ترتجف أعصابه! ماذا تراه كان يفعل لو كان صادقا في شكه؟ أما كان يمسك بشيء صلب أمامه ليقتل هذه الحية قبل أن تفتك به؟ وهو إذ يفعل ذلك لا يكون بكل هذا الهدوء الذي نراه فيه، إنه سيضطرب لأن الموقف يتطلب اضطرابا، لكنه لا يفعل من ذلك كله شيئا، لسبب بسيط جدا، وهو أنه في الحق «لا يشك»، وإنما هو كلام يقوله، لا يريد من معانيه المفهومة للناس شيئا!
وإن أردت زيادة في العجب من أصحاب «الشك الفلسفي» فاعلم أنهم لا يرضون بكل ما يرضى به الصادق في شكه؛ فالصادق في شكه يريد شيئا يزيل له الشك؛ فإذا شككت مثلا وأنا في مخدعي أن رجلا تسلل إلى غرفتي، كان هنالك أمامي طريقة أو طرق لإزالة الشك، منها مثلا أن أضغط على زر المصباح لتنكشف لي الغرفة وأرى، فينقطع الشك باليقين ويتغير نوع سلوكي بعد زوال الشك عنه قبل ذلك، أما «صاحب الشك الفلسفي» فلا يريد لشكه أن يزول، بل يستحيل لشكه أن يزول لو أراد زواله ؛ لأنه يسمي بالشك ما لا شك فيه. لو شك الفيلسوف على طريقته هل تسلل إلى الغرفة رجل في ظلام الليل، ف «هو»: أولا، لا يتصرف أبدا على أساس أنه شاك، فلا ينير مصباحه ليرى. ثانيا، ولو رأى «قطعة» من الأثاث أمامه، فسيظل يسأل: ومن أدراني أن «هذه» ليست رجلا قائما؟ ثالثا، لن يستمع إلى خادمه أو زوجته أو كائن من كان إذا قال له: اطمئن. ف «هذه قطعة» من أثاث، لأن هذه كلها أدلة لا ترضي؛ لماذا؟ لأنه «مقتنع» مع الناس بأنها «قطعة» من الأثاث ويسمي نفسه شاكا، وما هو من الشاك في شيء، وإلا لسلك مثل سلوكي حين شككت في وجود إنسان معي في الغرفة، وإلا لتغير سلوكه بعد أن رأى، ورأى الناس معه، ألا رجل هناك. الواقع هو أن الشك لا يكون «فلسفيا» إلا إذا استحال استحالة قاطعة أن تجد ما يزيله، وكيف تزيل ما ليس له وجود؟ لقد أسلفت لك القول بأن الفيلسوف لا يشك «فلسفيا» في أن ما أمامه شجرة، إلا إذا كان لا يشك «فعلا» في أن ما أمامه شجرة!
ومما يستوقف النظر عند أهل الشك من الفلاسفة، أنهم يبحثون عن طريقة واحدة لإزالة شكهم كله، مع أن الشك الحقيقي لا يكون إلا في موقف معين، وطريقة زواله تكون خاصة بهذا الموقف وما يحيط به؛ فقد تكون الوسيلة هي العين أحيانا، أو السمع أحيانا، أو اللمس، وقد تكون الوسيلة أداة مكبرة إذا تطلب الموقف ذلك وهكذا، أما أن تكون هناك طريقة واحدة أعرف بها هل ما أمامي شجرة حقا، وهل ما في الوعاء لبن أو ماء، وهل الولايات المتحدة مؤلفة من تسع وأربعين ولاية أو خمسين، فهذا مطلب عجيب! لكن لا تعجب؛ فكل هذه الأمثلة لا يقبلها الفيلسوف أمثلة للشك الفلسفي، أليس هنالك من الوسائل ما يدل الشاك في أمرها على الجواب الصحيح؟ حسبه هذا مبررا لرفضها؛ لأنه يريد شكا، لا وسيلة للجواب الصحيح فيه، حتى يكون في رأي نفسه، وفي عرف الناس، فيلسوفا.
المدرك الحسي
إذا استطعت أن تقرر على وجه الدقة ما طبيعة مدركاتك الحسية على اختلاف صنوفها، استطعت بالتالي أن تحسم القول في مشكلة من أعقد المشكلات التي شغل بها الفلاسفة واهتم بأمرها علماء النفس على السواء، وعلى طريقة شرحك لتلك المدركات يتوقف مذهبك الفكري كله؛ فهذه - مثلا - برتقالة أدركها لونا وطعما ورائحة ولمسا، فماذا عساها في حقيقة أمرها أن تكون؟ ما طبيعة هذا الذي أدركه؟ أجب عن هذا السؤال تر نفسك قد أجبت عن أسئلة كبرى منها: ما طبيعة المادة؟ بل ما طبيعة هذا العالم الخارجي بأسره؟ وإن أنت أجبت على نحو ما، سلكت نفسك في هذا المذهب الفلسفي، أو أنت أجبت على نحو آخر، سلكت نفسك في ذلك المذهب الآخر؛ فإنما تختلف المذاهب الفلسفية اختلافا قريبا أو بعيدا بمقدار ما تختلف في تحديد المدرك الحسي وطبيعته.
وتستطيع أن تطمئن بالا؛ فليس في عزمنا أن ندور بك على تلك المذاهب المختلفة كلها، لنقول لك إن هذه البرتقالة التي تدركها بحواسك، هي في رأي المذهب الفلاني كذا، وفي رأي المذهب الآخر هكذا، بل سنشق بك الطريق مختصرة «قصيرة» إلى الرأي الذي نعتقد أنه الصواب.
فالرأي الصواب عندنا في حقيقة البرتقالة وغير البرتقالة مما يعج به الكون من «أشياء» هو ما يقرره الواقع كما تحكم به الحواس لا أكثر من ذلك ولا أقل؛ فلسنا نتردد لحظة واحدة في صم آذاننا عن كل لفظة تقال ولا يكون لها عند الحواس مدلول! فلئن كانت حواسي تدرك من البرتقالة لونا وطعما ورائحة وملمسا، كانت هذه الصفات في مجموعها وفي طريقة تركيبها هي البرتقالة، ولا شيء وراء ذلك.
ولنرمز إلى هذه المجموعة من الصفات بالرمز «أ ب ج د»؛ فلا يتحتم أن أدرك «أ ب ج د» دفعة واحدة لأقول إني أدركت برتقالة، بل إني لم أدركها ولن أدركها دفعة واحدة قط، وإنما أدركتها فرادي، ثم ارتبطت هذه الأفراد ارتباطا جعل منها «برتقالة»، فإذا ما أدركت في لحظة ما «أ» وحدها (ولتكن اللون مثلا) دارت في رأسي «عملية استدلال» سريعة، أستدل بها ضرورة أن تكون سائر الصفات «ب، ج، د» ممكنة الإدراك لو تهيأت لها الأسباب، فإذا كانت «ب» - مثلا - رمزا لطعم البرتقالة، كنت بمثابة من يقرر قضية شرطية ويقول: إذا وضعت هذا الشيء الذي أدرك لونه الآن، على لساني، أحسست الطعم الفلاني. وبالطبع قد أخطئ في هذا الاستدلال، فأضع ما ظننته برتقالة على لساني وإذا به قطعة من الحجر.
البرتقالة - إذن - (وكل شيء في الوجود) هي مجموعة صفاتها، أو إن شئت فقل إنها مجموعة معطياتها الحسية، أو إن شئت مرة ثانية فقل إنها مجموعة من حوادث، ولا شيء وراء حوادثها العابرة. لكن اللغة تخدعنا خداعا لا ينتهي مداه، وفي محاولة التغلب على خداع التركيب اللغوي تتركز مجهودات طائفة كبيرة من الفلاسفة المعاصرين الذين ينعتون «مذهبهم» باسم «الوضعية المنطقية» وإنما وضعت كلمة «مذهب» بين أقواس؛ لأن الوضعيين المنطقيين لا مذهب لهم، ولا يريدون لأي فيلسوف في الدنيا أن يكون ذا مذهب؛ فالمذاهب التي هي وصف لما في الكون إنما تقع على كاهل العلماء وحدهم، كل عالم يصف الكون من ناحيته بالأساليب التي يرضاها العلم الوضعي، وأما الفيلسوف فمهمته تحليل اللغة التي يستخدمها هؤلاء تحليلا يزيل عنها جوانب خداعها؛ فمن ضروب الخداع اللغوي في الموضوع الذي نحن بصدده، أننا نستخدم صيغة المضاف والمضاف إليه، فنقول: لون البرتقالة، طعم البرتقالة، رائحة البرتقالة، وهلم جرا. فنتوهم عندئذ أن البرتقالة شيء غير لونها وطعمها ورائحتها؛ لأن هذه الصفات كلها مضافة إلى شيء آخر هو البرتقالة نفسها؛ ومصدر الوهم هنا هو تركيب العبارة اللغوية.
ولنعد إلى رموزنا التي أسلفناها، فالبرتقالة قد رمزنا لها بالحروف «أب ج د» (أ لونها، ب طعمها، ج رائحتها، د ملمسها) وإذا أردنا أن نضع عبارة «لون البرتقالة» في صورتها الرمزية، كانت هكذا أ «أب ج د» ومن هذه الصورة الرمزية يتضح في جلاء أن «أ» لا تزال جزءا من صميم البرتقالة، على الرغم من تكرار وضعها خارج الأقواس؛ فلا نستطيع أن نقول إن البرتقالة شيء غير لونها ، لأن لونها كما ترى جزء منها، وإنما خدعتنا اللغة بتركيبها.
ونستطيع ها هنا أن نحكم برأي في كل فلسفة تقول بوجود «الشيء في ذاته»؛ فهنالك فلسفات لا يقنعها من البرتقالة ما تدركه الحواس منها، فذلك عندها قليل، ولا بد أن نضع إلى جانب مدركات الحواس «برتقالة في ذاتها» هي التي توصف بما توصف به البرتقالة من لون وطعم ورائحة ولمس.
ورأي الوضعيين المنطقيين في مثل هذه المزاعم مختصر قوي واضح، فقل ما شئت من ألفاظ، على أن تكون مستعدا لبيان مدلولات ألفاظك هذه التي تقولها، أما إن قلت لفظة ثم عجزت عن بيان مدلولها، كانت لفظة فارغة لا بد من حذفها غير آسفين.
وعلى هذا الأساس يمكن سؤال الرجل الذي يقول لنا إن وراء صفات البرتقالة الظاهرة «حقيقة» خافية، هي «البرتقالة في ذاتها». يمكن سؤال هذا الرجل بقولنا: بين لنا مدلول هذه اللفظة، كيف أدركه؟ ولست أحسب أنه سيجد الجواب عند الحواس.
لكنه سيسهل عليه أن يقول: هذا شيء «أستدله» بالعقل ولا ضرورة هنا لإدراك الحواس. ألست تعلم أن علماء الفلك قد رأوا «أورانوس» يتحرك حركات لم يستطيعوا تعليلها إلا بفرضهم وجود جرم سماوي آخر لم يكونوا قد رأوه بعد، وأطلقوا على هذا الجرم السماوي المفروض اسم «نبتون»؟ فلماذا تجيز لعلماء الفلك أن يستدلوا بعقولهم جرما لم يكونوا قد رأوه بعد بحواسهم، ولا تجيز لنا أن نستدل وجود «البرتقالة في ذاتها» من ظواهر البرتقالة، حتى ولو لم تستطع الحواس أن تدرك تلك البرتقالة الحقيقية الخافية؟
وجوابنا على ذلك بسيط وهام، وهو أنك إذا فرضت وجود شيء ثم تبين أن العالم لا تتغير صورته إذا ثبت فرضك أو إذا أخطأ؛ فالفرض «لغو باطل لا معنى له»، فإذا قلت لي - مثلا: إن وراء هذا الستار رجلا مختبئا. كان قولك ذا معني؛ لأن العالم تتغير صورته إذا صدق قولك عنه إن كذب. لكن ما الذي يتغير في العالم إطلاقا إن صدق أو كذب افتراضنا بأن وراء ظواهر البرتقالة «برتقالة في ذاتها»؟ إن البرتقالة ستظل في إدراكك لها هي هي سواء صح الفرض أو أخطأ، إذن فليس هو بالفرض المقبول إطلاقا، بل ليس هو بالكلام إطلاقا، إنما هو ضرب من ضروب الخداع اللغوي التي ينبه لها الوضعيون المنطقيون، فلا تحسبن أن كل عبارة لغوية تكون ذات معني مقبول منطقيا إذا كان تركيبها اللفظي مقبولا عند النحويين.
الشيء هو مجموعة معطياته الحسية، هو مجموعة آثاره على الحس، لا فرق في ذلك بين صفات ثانوية وأخرى أولية، ولا فرق بين عرض وجوهر، فاجمع معطيات الحس حزمة واحدة تكن لك طبيعة الشيء الذي تدركه، ولا حقيقة له وراء ذلك؛ معطياتنا الحسية هي الأول والآخر والظاهر والباطن!
لكن مهلا! ماذا أنت قائل في خداع الحواس؟ أليست الحواس ترى العصا مكسورة في الماء وما هي كذلك في حقيقتها؟ هذا ما يسارع بقوله أعداء الحوا، ورد اعتراضهم هو أهون الهينات؛ فالعصا مكسورة فعلا عند النظر وهي في الماء، مستقيمة عند اللمس؛ فإذا سئلت ما حقيقة العصا؟ وجب أن تقول إن حقيقتها عندئذ هي أنها مكسورة في الرؤية مستقيمة في اللمس؛ لأن ذلك هو الواقع، وما خدعتك عينك حين أدركت العصا مكسورة في الماء، لأن الموجات الضوئية المنبعثة من العصا عندئذ هي كذلك، وإنما تخدع العين لو رأت العصا مستقيمة في الماء رغم الأثر الذي يطبعه الواقع كما هو.
ولو رأيت العصا مكسورة في الماء ثم استنتجت أنها ستكون منحنية كذلك عند اللمس، فالخطأ هنا في الاستدلال لا في الإحساس؛ لأنك أخطأت حين ظننت أن الرؤية واللمس لا بد أن يتفقا مهما يكن وضع العصا.
إذا رأيت القرش مستديرا من موضع بيضاويا من موضع آخر، فلا تقل مع بعض القائلين: ترى ما حقيقة شكل القرش الثابتة وراء هذه الظواهر المختلفات؛ لأن حقيقة القرش هي هذه الظواهر المختلفات نفسها، حقيقة القرش هي مجموعة معطياته الحسية، ولو كان للقرش ألف ألف ظاهرة مختلفة من مواضع مختلفة فحقيقته هي هذه الآلاف كلها مجتمعة، ما دامت هذه الآلاف المختلفة كلها هي القرش في الواقع؛ إنه لا ضير عليك إذا سئلت: ما حقيقة شكل القرش؟ أن تسأل بدورك: من أي موضع؟ لأنه مع اختلاف الموضع يختلف الشكل، ومن المكابرة الحمقاء أن أغمض عيني عن الواقع لأصف شيئا آخر ليس له وجود.
نعود فنكرر ما أردنا تقريره، وهو أن المدرك الحسي هو مجموعة معطياته، وليس لنا الحق في افتراض وجود «شيء» بذاته يكمن وراء تلك المعطيات، وكأنما يسلمنا هذا القول إلى عرض أهم النظريات السائدة اليوم عن الإدراك الحسي، التي أراد بها أصحابها أن يخففوا بعض الشيء من حدة هذه الواقعية المتطرفة التي بسطنا خلاصتها فيما سلف؛ فأصحاب هذه النظريات التي سنذكرها لك الآن قد هالهم أن يقال إن المعطيات الحسية هي نفسها المدرك الحسي دون أن يكون هنالك «شيء» يبعثها! أو إن شئت فقل إن «الشيء» لم يعد سوى نسيج من الصفات كما تقع في الحواس! هالهم أن يقال هذا وأرادوا أن ينقذوا «شيئية» المدرك الحسي من هذا الإسراف.
وأولى هذه النظريات نظرية دعا إليها «وايتهد» وأطلق عليها «نظرية الأوضاع المتعددة»
The Theory of Multiple Location
وموجزها هو أننا يجب أن نفرق بين الخصائص التي تميز شيئا ما من موضع معين وبين الخصائص التي تميزه بغض النظر عن موضعه؛ فقد تضع قرشا في موضع معين بحيث يبدو لك من ذلك الموضع بيضاويا ويبدو كأنما هو أصغر حجما من ذات المليمين، لكن القرش بغض النظر عن موضعه ذاك، أو أي موضع آخر معين، دائري وأكبر حجما من ذات المليمين! ومعني ذلك أن «القرش في ذاته» هو هكذا وليس كما بدا من موضعه الأول. يقول «وايتهد»، ما معناه: نعم إننا لا ننكر أن القرش في الموضع الأول هو بيضاوي فعلا وصغير الحجم فعلا؛ لأنه ليس لدينا ما يبرر إنكار حقيقة ما تدركه الحواس عندئذ، إننا لا ننكر ذلك، لكننا نضيف إليه أن «القرش في ذاته» وبغض النظر عن أوضاعه دائري وذو حجم معين، والعلم حين يتناول الشيء بالوصف إنما يعنيه الشيء في هذه الحالة الثانية التي لا ترتكز على وضع معين في تحديد صورة الشيء، فما يبدو للحواس من صفات الشيء وهو في شتى الأوضاع حقيقي وواقع لكنه ليس هو ما يعنى به العلم حين يتناول الشيء بالوصف ؛ وإنما يهتم العلم بصفات أخرى ثابتة لا تتغير بتغير الأوضاع.
وفي رأينا أن «وايتهد» قد أخطأ هنا خطأين؛ الأول هو أنه لم يلتزم حدود الملاحظة الصرفة كما ينبغي لأي عالم أن يفعل! فالملاحظة التي لا تتحزب ولا تتعصب ولا تعرف الهوى تقرر أن القرش في موضع ما بيضاوي وفي موضع آخر دائري، وإذن فالشكلان في حكم النظر سواء، وليس لنا أن نقول عن أحد الشكلين دون الآخر إنه يصف القرش في حقيقته! ولعل ما دفع «وايتهد» إلى هذا الخطأ. هو احتفاظه بالفكرة التقليدية التي لا سند لها عند الملاحظة الدقيقة، وهي أن هنالك «شيئا في ذاته» له حقيقة ثابتة غير هذه الظواهر المتغيرة، ولكن حذار أن يفهم القارئ من ذلك أني لا أفرق أبدا بين شكلي القرش الدائري والبيضاوي؛ لأن هنالك فرقا ندركه بحاسة أخرى هي حاسة اللمس؛ فالقرش عند اللمس دائري دائما، وإذن فلنا أن نقول إن دائرية القرش أبدي من بيضاويته، لا على أساس أن «القرش في ذاته» دائري، فليس هناك «شيء في ذاته» وراء معطياته الحسية كما قلنا، بل على أساس اشتراك حاسة اللمس مع حاسة النظر في إدراك هذه الدائرية أحيانا، على حين أن اللمس لا يدركه بيضاويا أبدا، وإذن فنحن قد نثبت للقرش دائريته دون أن تخرج من نطاق معطياتنا الحسية التي ندركها، لنضرب في مجاهل «الشيء في ذاته».
والخطأ الثاني الذي أخطأه «وايتهد» هو أنه قال كلاما أطلق عليه «نظرية» وليس هو في حكم المنطق بنظرية على الإطلاق؛ لأننا نعيد ما أسلفناه من أن الكلام لا يكون «نظرية» إلا إذا كان هناك فرق في العالم بين صدق هذا الكلام وكذبه؛ عندئذ يكون في مستطاعنا أن نثبت أو ندحض هذه «النظرية»، أما إن كنا لا نستطيع قط أن نتصور اختلافا في إدراكنا للأشياء بين حالتي صدق الكلام الذي يقال لنا وكذبه، فمن حقنا أن نرفض رفضا قاطعا أن يوصف لنا مثل هذا الكلام بأنه «نظرية».
وانظر إلى ما يقوله «وايتهد» من أن «القرش في ذاته » بغض النظر عن أوضاعه المختلفة وبغض النظر عن إدراك الحواس له، دائري في حقيقته، واسأل نفسك: ترى كيف تكون حالة القرش لو كان هذا الكلام صحيحا، ثم كيف تكون حالته لو كان هذا الكلام خطأ؟
ولا أحسبك مستطيعا أن تجيب؛ فإدراكاتنا للقرش لن تتغير، صدق هذا القول أو كذب، وإذن ف «النظرية» المزعومة ليست «نظرية» على الإطلاق، بل ليست قولا على الإطلاق؛ لأن القول شرطه أن يخبرنا بشيء، والخبر شرطه احتمال أن يصدق أو يكذب، وليس يتحقق هذا الشرط فيما نحن الآن بصدده.
وبودي لو أسعفني المجال، إذن لعرضت على القارئ نظريتين أخريين سائدتين في الفلسفة الإنجليزية المعاصرة، وهما نظرية «الأشياء المركبة»
The Theory of Compound Things
التي قال بها «س. إسكندر» و«نظرية الظهور»
The Theory of Appearing
التي ذهب إليها «مور» لكن القارئ يستطيع أن يرجع إليهما في أصولهما إذا شاء!
1
وعلى كل حال فقد كنا سننتهي به بعد نقد هاتين النظريتين إلى النتيجة التي أثبتناها في هذا المقال.
عينية ابن سينا
(كتبت هذه المقالة منذ أكثر من عشرين عاما، كتبها الكاتب وهو في صدر الشباب.) ***
ادن مني يا صديقي واستمع إلى هذه القصة الممتعة الرائعة التي يرويها ابن سينا عن الروح، وما أدراك ما الروح؟! هذا السر العجيب الذي سري واستكن بين أحنائك فلا تكاد تدري من أمره شيئا! وهل يداخلك شيء من الريب في أنك مزيج من مادة وروح؟ فأما المادة فهي هذا اللحم والعظم، وأما الروح فهي تلك الفكر الرائع والخيال البارع وتلك الحركة المتوثبة الدافعة، حتى إذا جاءك يوما قضاؤك المحتوم، انطلق كل من العنصرين إلى سبيله! فأنى لك هذا السر المكنون، وأيان يذهب بعد الموت؟ ذلك ما يرويه ابن سينا في قصيدته وما أنا محدثك به الآن، قال ابن سينا:
هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع
فقد كانت تعيش الروح أول أمرها مطلقة مجردة في الرفيق الأعلى، ثم كتب عليها أن تهبط إلى هذا الدرك الوضيع. ولقد آثر فيلسوفنا الشاعر لفظ الهبوط على السقوط لأنها في رأيه لم تسقط إلى هذا الحضيض من عل كما يسقط الحجر الجماد سقوطا لا شعور فيه، أو كمن ينتكس من أوج الجبل إلى سفحه انتكاسا يقربه من الجماد المرغم على السير في طريق بعينها لا يملك لنفسه شيئا، إنما هبطت إليك الروح، وفي لفظ الهبوط معنى الشعور والإدراك، من محلها الأرفع، حيث تسبح العقول المجردة روحانية خالصة لا تشوبها شائبة من مادة، ولكني عهدتك يا صديقي عنيدا ملحاحا لا ترضى بالقول يرسل إرسالا، بل تقتضي محدثك الأمثلة يضربها توضيحا لما يريد، وكأني بك تسائلني أو تسائل الشاعر: وكيف كان ذلك الهبوط؟ فهو يجيب إن شئت للروح في هبوطها مثلا مما تعلم من ألوان الحركة فهي أشبه بالطير سابحة في أجواز الفضاء، محومة صاعدة هابطة، وماذا ترى بين الأشياء التي تتحرك بالإرادة أشد شبها بالروح من الطير في خفته ولطف جوهره، وفي هبوطه وصعوده؟ لعمري لقد وفق فيلسوفنا، بل لقد وفق أصحاب الفن منذ أقدم العصور في تصويرهم للملائكة أو ما يتصل بالملائكة من كائنات روحانية بالجسوم المجنحة إدراكا منهم لهذه الرابطة القوية الصادقة بين خفة الأرواح ولطفها، وبين رشاقة الطير ورقته، ولكن فيلسوفنا الشاعر لا يرضيه تشبيه الروح في هبوطها بالطير على عمومه، بل أجال بصره في عالم الطير لعله يجد بينها نوعا خاصا يكون أقربها صلة بالروح، فما أسرع أن ساقه صدق شعوره وكمال إحساسه إلى الحمائم! وهل تستطيع أن تدلني على طير هو أشد من الورق استئناسا ووداعة، وأطول من الورق حنينا وأصدق بكاء؟! وإذن فما أشبه الروح بالورقاء! فهي قد نشأت في عالم قدسي رفيع، مجردة عن ملازمة المادة ومواصلتها، فلما كان لها أن تهبط إلى الجسد المادي، طال ترددها واشتد تعززها وتمنعها، وكانت فيما أحست من ألم كمن ينتحب بالبكاء؛ حنينا إلى عالمها ذاك، ونفورا وازورارا من الأخلاط الجثمانية التي كتبت لها أن تهبط إليها فتعيش بينها فترة من زمان.
محجوبة عن كل مقلة ناظر
وهي التي سفرت ولم تتبرقع
ألا ما أعجب الروح! إنها تلازمك أينما حللت، لا تفارقك إلا يوم تكون أنت لست إياك؛ فهي قريبة منك، بل هي أنت؛ تسري في دمائك، وتدب في كل عضو من أعضائك، ثم هي مع ذلك تمتنع على النظر وتستعصي على الإدراك! فإذا ما حاولت رؤيتها تحجبت وأسدلت حول نفسها قناعا صفيقا لا ينفذ منه شعاع من بصر، لماذا؟ لأنها تذكر ماضيها الجليل، يوم كانت في العالم الأقدس الرفيع، فتأخذها العزة والكبرياء، وتتعالى عن إدراك العيون! وكيف تريدها على الظهور أمام مقلتيك وهما لم تخلقا إلا لرؤية الأجساد المادية وحدها؟ فأما هذه الماهية المجردة فهيهات أن تدركها بالنظر، وكل محاولة منك في هذه السبيل صائرة حتما إلى فشل وإفلاس، ولكن لا تيأس يا صاحبي؛ فثم سبيل لإدراكها غير هذه المقل، وغير هذه الحواس جميعا، انظر إليها بعين العقل تجدها واضحة سافرة كاشفة عن وجهها لا تسدل من دونه البراقع والستور؛ فهي إن كانت تأبي أن تبدو للحواس فذلك لأنها تعلو بنفسها عن هذا الدرك الخسيس، وهي إنما تتضح وتجلو لكل عاقل من الناس، يبحث عنها بعقله في آثارها ودلائلها. إذن فالروح مع كمال خفائها وشدة غموضها عن العين، يمكن إدراكها بالعقل لمن يريد معرفتها بالدليل والبرهان.
وصلت على كره إليك وربما
كرهت فراقك وهي ذات توجع
لقد علمت أن الروح قد اتصلت بهذا الهيكل الجثماني متأبية مقهورة مكرهة، ولكنها من عجيب أمرها عادت فكرهت أن تفارق هذا الجسد الذي أرغمت على الحلول فيه أول الأمر إرغاما، أما كونها جاءت مكرهة فلأنها حين هبطت إليك كانت تعلم أنها إنما تتصل بكتلة من المادة، ليس بينها وبينها تآلف وتجانس؛ إذ ليست هي في تجردها وروحانيتها شبيهة بالجسد في ماديته، وهل تستطيع أن تظفر بأنس من رفيقك إذا لم يكن بينك وبينه تجانس في الصفات؟ فإن أرغمت على هذه المرافقة إرغاما على ما بينكما من تنافر وتناكر، فأنت لا شك غاضب كاره؛ وأما كونها تعود فتكره فراق الجسد فذلك لأنها قد تمكنت منه وسرت في أنحائه سريانا شديدا، فتشبثت به تشبثا قويا متينا ليس انحلاله أو زواله هنة هينة، وأنت تستطيع أن تلمس ذلك في نفسك إذا هممت بالانتحار، فلن تجد من نفسك إقبالا على الموت ورضى به واطمئنانا إليه، ومعني ذلك أن روحك قد استطابت مقامها الجديد بعد نفور، ولكن حذار أن يذهب بك الظن إلى أنها قد ارتبطت بالجسد ارتباطا بلغ من القوة والمتانة حد الاندماج، بحيث إذا زال الجسد زالت الروح تبعا له، كلا، إنما ترتبط الروح بالجسد ارتباطا يقع بين القوة الشديدة والضعف الشديد، فلا هو إلى القوة التي تدمجها فيه إدماجا، ولا هو إلى الضعف الذي ييسر لها سبيل الفرار، ولكني لم أحدثك بعد عن علة كرهها لفراق الجسد، وقد جاءته مكرهة أول الأمر. أما ذلك فلأنها رأت أنها تستطيع أن تتخذ من هذا الجسد أداة للخير والفضيلة. لقد كانت في حياتها المطلقة الأولى خالية من الصفات الفاضلة الإيجابية جميعا، وها هي ذي قد رأت في الحواس سبيلا قويما تحصل بها من الأخلاق والعلم حظا موفورا، وإذن فاتصالها بالجسد قد جعلها عارفة بعد سذاجة وجهل، متحركة بعد خمول وسكون، فهل تدهش بعد هذا إذا رأيت الروح جازعة فازعة حين يدنو منها الأجل المحتوم الذي يفصل بينها وبين زميلها انفصالا ليس بعده من لقاء؟ وهل تعجب إذا رأيتها حين اتصالها بالجسد تدافع جهدها عنه لتدفع ما يتهدده من علة أو مرض، وتحرص وسعها أن يكون موفور الحظ من السلامة والعافية؟
أنفت وما أنت فلما واصلت
ألفت مجاورة الخراب البلقع
إذن لقد هبطت الروح إلى هذا الهيكل معرضة عنه مزدرية له صلفا منها وتيها، وحق لها ذلك؛ فهي خالدة لا تخضع للفناء، وهو وضيع يتعاوره الكون والفساد لهذا أنفت منه ولم تأنس له بل استكبرت عليه وأبت أن تنزل بنفسها إلى حضيضه الأسفل، وظل النفور بينهما حينا من الدهر لم يطل، حتى عرفت أنه أداة قويمة صالحة لتحصيل الفضيلة والخير؛ عندئذ أنست به ورضيت بالإقامة معه في إخاء وائتلاف، وما هي إلا أن وضح أمامها الطريق وقام الدليل قاطعا على أنها ستحقق بالجسد مرادها من الكمال، فقويت العلاقة واشتدت الملازمة على الرغم من علمها أن هذا الذي ترافقه وتزامله لن يلبث حتى ينقلب خرابا بلقعا لا غناء فيه؛ إذ هو صائر إلى الفناء بعد حين يقصر أو يطول. ولعلك تلاحظ أن فيلسوفنا قد عبر هنا عن العلاقة بينهما بلفظ المجاورة قاصدا متعمدا؛ لأنه أراد لك أن تعلم أنها ليست من الجسد بمثابة الإبصار من العين مثلا، يكادان يكونان شيئا واحدا، ولكنها منه كالملاح من سفينته يديرها ويدبر أمرها، ثم هو بعد يستطيع أن يستقل بوجوده بعيدا عنها؛ فهي علاقة تجاور لا علاقة دمج وإدغام.
وأظنها نسيت عهودا بالحمى
ومنازلا بفراقها لم تقنع
نعم، لقد اطمأنت إلى الجسد بعد صد ونفور، وأنست به بعد وحشة، وبلغ بها الاطمئنان والأنس حدا نسيت معه تلك العهود والمواثيق التي أخذت عليها أيام كانت في عالمها الرفيع السامي، وركنت إلى غير جنسها ركونا لا تحب معه الفراق، وقد بلغ منها ذلك النسيان لمنازلها الأولى حد الغلو والإسراف؛ فهي لم تقنع بمجرد فراقها لعالمها الأول، بل زادت عليه عشقها للعالم الجديد، وهنا كأنما نحس من فيلسوفنا إشفاقا على الروح أن تكون قد رضيت بالأدنى عن الأعلى لتغير في صفاتها وتحول في إدراكها وفساد في طبيعتها:
حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها
من ميم مركزها بذات الأجرع
علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت
بين المعالم والطلول الخضع
يا ويح النفس! والله لكم أخشى أن تكون الروح قد مازجت المادة حتى فسدت عنصرا؛ فهي لم تكد تهبط من أبعد الذري لتمس عالم المادة حتى علقت به وهو بعد لا يأتلف إلا من الخسيس الكثيف الذي يندر أن يكون سبيلا إلى الكمال (ذات الأجرع هي المادة الأرضية الكثيفة أي البدن)، نعم، لم تكد تهبط الروح، وتدب في مادة الجسد حتى علقت بها هذه المادة الجثمانية وأحلتها بين أجزائها وطي ثناياها، بين معالم الجسد وأطلاله الخربة المتداعية، بين عظامه وغضاريفه ولحمه وشحمه، التي تخضع للفناء وتئول للبطلان وتنقلب إلى الدثور، ولكن لعلها قد دبت بين أجزاء الجسد الفانية لا لتجري مجراها، ولكن لتستخدمها في تحصيل المعارف والفضائل:
تبكي إذا ذكرت عهودا بالحمى
بمدامع تهمي ولم تتقطع
لقد حم القضاء ووقعت الواقعة؛ فقد حان للروح حين فراقها وجاء أجلها، وها هي ذي قد فصلت عن رفيقها وخلفته وراءها رمادا وترابا، فهي إذا ما ألقت بنظرها إلى هذه الأوصال المفككة، وإلى هذا البيت المعمور، وقد دب فيه الخراب والدمار، عظم عليها الوجد وجل في عينها الخطب، وقد تتزاحم أمامها ذكريات الماضي أيام كانت تنعم بزمالة هذا البدن المحطوم في شتى ألوان النعيم، فتتفجع وتتوجع وتحزن وتأسى، فإن كانت روحا خيرة فاضلة كانت فجيعتها أن افتقدت أداة الخير والفضيلة إذ افتقدت الجسد، وإن كانت روحا شريرة خبيثة مستهترة كانت حسرتها أن سلبت وسيلة اللذة والمتاع، ألا وهي الجسد كذلك:
وتظل ساجعة على الدمن التي
درست بتكرار الرياح الأربع
ولا تحسبن الروح بعد فراقها للجسد قد غفلت عنه وأنسيته بل إنها تتردد إليه الحين بعد الحين، فتقف بإزائه باكية نادبة، وقد أبت قريحة الشاعر الفيلسوف إلا أن تصور الروح، وقد جاءت تنشد أطلال الجسد فتجد منه بقية باقية يهيج منظرها ما كان كامنا فيها من شجون، وإنما تعظم الحسرة إذا بقيت من منازل الأحباب آثارها لما تثيره في النفس من ألم وحنين، أما تلك الرياح الأربع التي ما فتئت تهب على مادة الجسد حتى درستها درسا، فيغلب أن تكون الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة التي لا تنفك تعتور الصخور الصلدة حتى تفتتها هشيما تذروه الرياح هنا وهناك، فتنطمس المعالم الأولى انطماسا تشوه بعده وتتنكر، ولست بحاجة إلى أن ألاحظ لك يا صديقي أن في هذا البيت تصريحا من الفيلسوف بخلود الروح بعد الموت؛ فهي باقية خالدة تروح وتغدو، ويستحيل عليها التحلل والفناء:
إذ عاقها الشرك الكثيف وصدها
قفص عن الأوج الفسيح المربع
ولكن ليت شعري فيم بقاء الروح بين هذه الأطلال الدارسة باكية نادبة، وماذا يعوقها أن تعلو وتصعد إلى حيث العقول المجردة في الملأ الرفيع؟ أليس في ذلك فكاك لها من شوائب المادة ونقائصها، وتحرير من قيود الحس وأصفاده الثقيلة الباهظة إلى حيث تسبح في تلك الأرجاء الفسيحة تتسرح فيها تسريحا مطلقا لا يصدها فيه ضيق ولا تزاحم؟ لعمري إنها الدنيا التي تجتذبها كما يجتذب الشرك سوابح الطير الطليق بما يلقى فيه من حب؛ فهذه اللذة والشهوة والمتاع كفيلة أن تغري النفس إغراء يكون لها غلا ووثاقا، وليس شرك الدنيا الذي توثق به النفوس تطويقا من ذلك الضرب الهين الخفيف الذي تحطم قضبانه وسلاسله في سهولة ويسر ولكنه شرك عات قوي كثيف يحوك حول السجين آلافا من الحبائل التي يتعذر منها الخلاص إن لم يستحل، وإذن فهذا الجسد للروح بمثابة القفص للطير القنيص، لا تستطيع أن تغادره أو تجاوز حدوده إلا إذا أراد لها ذلك واضعها، ولكنه قفص على ما ضربه حولها من سياج منيع مشبك القضبان فيه من النوافذ ما يسمح للسجينة أن ترسل خلالها الفكر والبصر إلى أرجاء الكون، وما تلك المنافذ التي تتسلل منها الروح إلى أنحاء الوجود إلا الحواس من بصر وسمع وما إليهما وإلا العقل تتقصي به أطراف الأرض والسماء:
حتى إذا قرب المسير إلى الحمي
ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع
وغدت مفارقة لكل مخلف
عنها حليف الترب غير مشيع
هكذا ارتبطت الروح بالجسد ارتباطا مكينا، حتى إذا دنت ساعة الرحيل وحان أجل الفراق لهذا البدن إلى حيث تنطلق في الفضاء الرحب الفسيح، وأخذت تقطع ما بينه وبينها من صلات وعلائق وأسباب، وهو تلك الكتلة المادية المخلفة المعطلة المطروحة بعد المفارقة تحت أطباق الثرى دون أن يلتفت إليه أو يعني بشأنه احتقارا له وازدراء، بعد أن خلفته الروح وخلعته، نقول إذا دنت ساعة الرحيل وفارقت الروح جسدها.
هجمت وقد كشف الغطاء فأبصرت
ما ليس يدرك بالعيون الهجع
عندئذ يزول عنها حجاب البدن فينكشف الغطاء فتدرك ما كان يستحيل عليها إدراكه أيام اتصالها به؛ ذلك لأن الأرواح المتلبسة بالأجساد إنما تكون رقودا هجعا أو كالرقود الهجع لأنها إذ تكون عالقة بالأبدان تكون محجوبة عن الإدراك الذي تحصله النفوس المجردة كما يحتجب النائم عن إدراك ما يدركه اليقظان، إذن فالروح عندما تلتقي الجسد وتطرحه تكون كأنما تكشف عن بصيرتها غطاء طالما حال بينهما وبين مطالعة الرفيق الأعلى بما يغمسها فيه من عرض مادي زائل باطل مصيره إلى فناء، أما إذا فارقت البدن فقد خلصت من أغلالها وانحسر عن بصرها الغشاء فأبصرت أسرار الحق صافية خالصة وانكشف لها الغيب وأيقنت أنها كانت أثناء حياتها مع الجسد غافلة راقدة وقد تنبهت الآن واستيقظت:
وغدت تغرد فوق ذروة شاهق
والعلم يرفع كل من لم يرفع
فإذا كانت قد نفضت عن نفسها ما كان لحقها من غفلة ورقاد، إذن فقد تجردت من قيود المادة وأصفادها وغدت عنصرا عقليا صرفا لا تشوبه شائبة من كدورة أو نقص، مبرأة عن حاجات البدن التي تجذبها إلى أسفل، واتصلت بالعالم الروحاني المجرد، فأحست بالنشوة والسعادة وغردت سرورا لما ظفرت به بذلك الاتصال، ولعلك هنا تحتج على الفيلسوف وتعترض حديثه، فما لهذه الأرواح قد صعدت إلى العالم الأقدس ولم تلبث حول أجسادها محومة باكية راثية إلفها الحبيب، فهو يجيبك إنما ترتفع إلى هذه الذروة الشاهقة السامية، تلكم الأرواح التي كسبت من العلم قدرا محمودا وحظا موفورا، وإن العلم لجد كفيل أن يرفع إلى حالق ما من شأنه أن يكون في الحضيض الأخس فضلا عما يكون له بطبيعته اتصال وقربي بالعالم الأشرف الرفيع.
فلأي شيء أهبطت من شامخ
عال إلى قعر الحضيض الأوضع
ولكن قف! أأنت محدثي يا صاح فيم هذا العناء كله إن كان مصير الروح في نهاية أمرها أن تعود إلى حيث بدأت السير؟ فلقد زعمت لي أنها هبطت من عل فحلت بالبدن حينا من الدهر ثم أخذت سبيلها آخر الشوط إلى مستقرها الذي صدرت عنه وفاضت منه! ما هي الحكمة الباعثة للنفس أن تهبط من ذراها هاوية إلى الدرك الأسفل؟!
إن كان أهبطها الإله لحكمة
طويت عن الفذ اللبيب الأروع
فهبوطها لا شك ضربة لازب
لتكون سامعة لما لم تسمع
هكذا تساءل صاحبي في دهشة وعجب، قال: إن كان الله جل وعلا قد أهبطها لحكمة خفيت عن بصائرنا، واستعصت على إدراكنا، بل طويت عمن بلغ منا من الحكمة أروعها وأبعدها غورا، فلا ريب في أن الله تعالى إنما ضرب الهبوط على النفس ضربا وألزمها به إلزاما لعلها في هذا العالم الأرضي توفق إلى اكتساب المعرفة، واستيفاء أسباب الكمال؛ إذ كانت في أول أمرها جاهلة ساذجة غافلة، فأهبطها لتسمع ما لم تكن قد سمعت به من العلوم والأخلاق، وسبيلها إلى ذلك هي الحواس والعقل:
وتعود عالمة بكل خفية
في العالمين فخرقها لم يرقع
فاللهم إن كانت هذه رسالتها التي هبطت من أجلها، أعني أن تعود بعد زيارتها إلى الدنيا عالمة بالأسرار الخفية في العالمين - عالم الغيب والشهادة - فلا سبيل إلى تحقيق ما جاءت من أجله؛ لأنها مهما حصلت من فروع العلم وجوانب الأخلاق، ومهما أسرفت في التحصيل فهي قاصرة مقصرة، وكيف سبيلها إلى ذلك والعلوم لا تنتهي عند حد، وحتى إن أمكن تحصيلها فلا تكفي لها مدة الحياة على قصرها، ولكن ليكن هذا فليس الفشل فيما تظن مما ينتقص من نبل الغاية المقصودة ويحط من شرف الوسائل المؤدية إلى تلك الغاية.
قال صاحبي: لقد زعمت أو زعم فيلسوفك ابن سينا أن الروح إنما هبطت فسرت في البدن ففارقته وعادت أدراجها، والله لا يفعل شيئا إلا لحكمة، إذا كان ذلك لم يكن لهوا ولا عبثا، فلأي شيء هبطت من الأعلى إلى الأدنى، واعتاضت الباقي بالفاني؟ قلت: إنها هبطت فتعلقت بالجثمان لتتخذه وسيلة إلى الكمال على شرط أن تكون من أصحاب الفضيلة والخير. قال: وإن كانت الروح من الملأ الأعلى فكيف تكون ناقصة وقد حدثتني في صدر الحديث أن ذلك الملأ مجرد مطلق كامل كمالا محضا، وأنه خير خالص، كما حدثتني إلى جانب ذلك أن عالمنا هذا شر - أو على أكثر تقدير مزيج من الخير والشر فما قولك الآن إن الروح قد هبطت من ملأها الأعلى إلى هذه الأرض تنشد عن طريقة الكمال ؟! وهل يكون الشر وسيلة إلى الخير والكمال؟ لعمري لو كانت العناصر المجردة لا يتم كمالها إلا إذا اتصلت بالمادة فما أوجب أن يهبط عالم الأرواح كله ليمتزج بالأرض ومادتها؟ قلت: جوابك يا صاحبي في هذا البيت الآتي:
وهي التي قطع الزمان طريقها
حتى لقد غربت بغير المطلع
فقد كان مراد النفس وأملها أن تبلغ حد الكمال بما يرتسم في صفحتها من الصور العقلية، لكن الزمان لم يمهلها وا أسفاه! فقطع عليها السبيل وصدها عما كانت تسير نحوه، وذلك بإهلاكه للبدن وهو أداتها في تحقيق رغبتها، ولكنها إلا تكن قد ظفرت بكل شيء، فهي لم تفقد كل شيء، لأنها لم تغرب - حين غربت - ساذجة جاهلة كما أشرقت أول الأمر بل عرفت الكمال وعرفت النعيم الذي يكون لها لو بلغت هذا الكمال، وكفاها بهذه المعرفة حافزا قد يدفعها إلى متابعة السير يوما آخر:
فكأنه برق تألق بالحمى
ثم انطوى فكأنه لم يلمع
أنعم برد جواب ما أنا فاحص
عنه فنار العلم ذات تشعشع
ولكن فيلسوفنا الشاعر يعود فيوافقك يا صديقي إلى حد كبير، إن النفس عند فراقها للبدن تكون في الحقيقة كأنها لم تفد شيئا وكأنها لم تصحب البدن قط، وما أسرع ما انقضى زمن إقامتها فيه، فقد اختفت سريعا كالبرق الخاطف، وعادت كأن لم تكن بالأمس شيئا مذكورا. وإنه ليختم حديثه معك بحفزك وإثارة الطلعة في نفسك لعلك تمعن في التفكير والنظر لترى جوابا لهذا السؤال المربك: فيم هبوط الروح للوصول إلى كمالها، ثم فصلها قبل أن تصل؟! قال محدثي: إني لأرى شبها قويا بين هذه القصة التي قصصتها علي عن ابن سينا وبين ما رويته لي بالأمس عن فلسفة أفلاطون من أن النفس كانت تسبح في عالم المثل صافية سعيدة مفكرة، ثم حلت بالجسم وتعلقت به، فإذا وافت الإنسان منيته عادت من حيث أتت، قلت نعم ولعل لي معك في هذا حديثا آخر.
نزعتان
لقد تعجب أشد العجب لهذين الصديقين، يتلازمان حتى لا يكادا يفترقان في غدو أو رواح، فإذا هما اجتمعا لنقاش رأيت فيهما نقيضين لا يجتمعان، ولطالما سعيت إلى مجلس هذين الصديقين أستمتع بما يدور بينهما من حوار، يعمق أحيانا ويضحل أحيانا، ولكنهما فيه طرفا نقيض على كل حال، ولست أذكر أني جالستهما مرة دون أن يرد إلى خاطري هذا التقسيم الذي اقترحه وليم جيمس، والذي يقسم الناس شطرين، يطلق على أحدهما «أصحاب العقول الحساسة»، ويطلق على الآخر «أصحاب العقول الصارمة»، ويضع في الفريق الأول المتفائلين والمتدينين والموحدين والمحافظين والقائلين بحرية الإرادة عند الإنسان، كما ينظم في الفريق الثاني المتشائمين والملحدين والمتشككين والقائلين بالجبر في إرادة الإنسان والذين يعتمدون في الرأي على التجربة والحواس.
جلس الصديقان ذات مساء يتحدثان حديثا حافلا شاملا، كأنما أراد كل منهما أن يبسط نفسه بسطا فلا يخفي من مكنونها شيئا.
قال الأول: سبحانك اللهم ربي، قد خلقت هذا الوجود فسويت، فكأني بهذي الكائنات أنغام من لحن متسق جميل، كل شيء في الكون يجاوب كل شيء! انظر إلى غريزة الأمومة عند الحيوان تزداد شدة ورسوخا كلما ازداد النسل ضعفا، وهي تزداد فتورا كلما كان الصغار أقوى على احتمال الحياة بغير حنان الأمومة، وانظر إلى هذه الزهرات التي لا تخصب إلا إذا وجدت ما ينقل اللقاح من ذكرها إلى أنثاها، قد بدت أروع ما يكون الزهر جمالا في أعين النحل، فينجذب مشوقا إليها، ينتقل فرحا مرحا من زهرة إلى زهرة، فينقل معه اللقاح المخصب من الذكر إلى الأنثى وهو لا يدري، ثم انظر إلى هذا الذي يرويه هيرودوت من أن الحيوان الخطر - كالأفاعي - لا ينسل إلا قليلا وفي عسر شديد؛ لأن خطرها وحده كفيل ببقاء هذا النسل القليل، أما الحيوان الذي يقع فريسة لغيره؛ لعجزه عن الدفاع ولأنه يصلح أن يكون طعاما - كالأرانب - قد مكن له من النسل اليسير الكثير ليضمن البقاء بكثرة الأبناء؛ تلك وأشباهها - عندي - آيات بينات على ما في الكون من تدبير حكيم.
فأجابه الثاني: وهي عندي أدلة ناهضات على أن الطبيعة قد قست حتى أسرفت؛ فهي في ذلك كرجل أراد أن يصيد أرنبا في مزرعة، فأقفل المزرعة على ألوف الأرانب وجمع آلاف البنادق، وأخذ يصب ناره صبا حاميا ليظفر بالأرنب الذي يريده، أو كرجل أراد لنفسه بيتا يسكنه، فابتنى مدينة بأسرها، سكن منها منزلا وخلف باقيها للدمار؛ إن هذه الطبيعة يا صاحبي تهلك شيئا لتبقي على شيء؛ إنها تفني أمة لتبقي على أمة، وتقتل فردا لتمهد الحياة لفرد؛ إنها تتلف زرع الزارع لتسقط المطر، وتفتك بحيوان ليحيا بلحمه حيوان.
قال الأول: أرسل بصرك يا أخي إلى الأفق وانظر إلى هذا الجمال الفتان! انظر إلى الشفق وقد خضب السماء، وإلى الأشجار السامقة وقد انتثرت في نظام بديع، ثم إلى ...
فقاطعه الثاني: صه! ماذا أسمع؟ إن طائرا يصيح في هذه الأشجار نفسها صيحة الفزع، فلعل طيرا جارحا قد فتك به ليطعم.
قال الأول: أفهم ما تريد، ولولا أننا في صدر الربيع، حيث الأرض قد لبست زخرفها وازينت في أعين الناظرين، فانتعش بين أحيائها الأمل والرجاء، لعذرتك في هذه النظرة السوداء. إن كل ما حولنا ناطق بنشوة الحياة وجمالها، وهذه الزهور اليانعة وحدها لحقيقة أن تسلكك في لحن الوجود، ولكن ...
فقاطعه الثاني: نعم، كانت هذه الزهور كفيلة بهذا، لولا أني رأيت في طريقي إليك صبيا يبيعها، وكان الصبي عاريا جائعا لا يرحمه الراحمون، فقلت لنفسي: أيكون في الدنيا جمال وبين دفتيها مثل هذا البائس المسكين؟!
واتجهت أنظار الصديقين إلي كأنما يستطلعان رأيي، فقلت: ليس لي معكما رأي، غير أني آمنت أن المنطق هراء في هراء، إن تفكير الإنسان متأثر بمزاجه، إن اعتدل هذا اعتدل معه ذاك، وإن مال مال؛ فلا مناص من أن تري أنماط الناس المختلفة أنماطا مختلفة من التفكير، ولا سبيل إلى وحدة الرأي إلا إن اتحد المزاج، وهذا محال؛ فحسبك أن تعلم عن شخص ما مزاجه لتعلم كيف يفكر؛ إن الدنيا لتعرض حقائقها أمام أبصارنا، فينظر كل منا إلى هذه البضاعة المعروضة من ناحية تتفق ونزعته، والعجيب أن كلا واجد منها ما يؤيد وجهة نظره؛ ذلك لأن ميل الإنسان يمسك بزمام انتباهه فيوجهه الوجهة التي يريد، فيرى المتفائل من الظواهر جانبا، ويرى المتشائم منها جانبا آخر، ومن مجموعة ما يرى الإنسان ينشأ مذهبه.
فقال صاحب العقل الحساس لصاحب العقل الصارم - على حد تعبير وليم جيمس: لست أشك في هذا الذي يقوله فلان؛ فلن يصلح أمرك إلا إن طرحت المنطق الصارم جانبا، وبدلت من مزاج نفسك لتصبح قادرا على فهم الوجود فهما صحيحا؛ إنك لن تبلغ حقائق الوجود العليا إلا إن أقبلت عليها إقبالا على غير هذا النحو التحليلي الذي تنهجه، أما إن أصررت على تشريحه بمبضع العقل الجاف فلن تصل منه إلا إلى قمة باردة لا حرارة فيها ولا حياة، وإن أردت لنفسك الخير فاصطنع في ذلك أسلوب المتصوفين.
فسأله زميله: وما ذاك؟
فأجابه: ألا تعمد في فهم الدنيا إلى عقلك وحواسك؛ لأن حقائق الدنيا فوق العقل والحواس؛ إن التصوف يشترط مزاجا خاصا بغيره لا يمكن الفهم، ولا يعتد كثيرا أو قليلا بما عند الباحث من علم ومعرفة.
فقال الثاني: إن كانت حقائق دنياكم فوق مقدور الحواس والعقل، فهي عندي ليست جديرة بمشقة البحث والفهم، إنني أدعو كل شيء أمام محكمة العقل، فإن استطاع أن يبسط نفسه بسطا واضحا فذاك علم صحيح، وإلا فهو نفاية منبوذة لا أقيم لها وزنا ولا قدرا؛ إن هؤلاء الذين يفرون من حكم العقل ليحتموا وراء الإيمان هم طبقة دنيا من المفكرين، هم أصحاب عقول عاجزة لا تملك لنفسها دفاعا من هجمات أصحاب العقول المنطقية الراجحة، إن التقوا بهم في معترك مكشوف؛ هم فئة حرموا القدرة العقلية القوية فتراجعوا قائلين إنه حصرم، وإن حقائق الحياة العليا؛ الله، والنفس، وطبيعة الوجود لا يمكن فهمها بالعقل مهما بلغت قدرته.
فقال الأول: قل ما شئت، وحسبي أن العقل الصرف لم ينتج على مر الزمن إلا فلسفات متضاربة، ولو ركن هؤلاء الأفذاذ إلى البصيرة لكان شأنهم غير هذا الشأن. •••
ثم استطرد الصديقان يتجادلان في شتى نواحي الفكر؛ فصاحب العقل الحساس لا يتصور أن يكون الكون مادة تخلو من الروح، بل الكون عنده نفس كبري كهذه النفس الإنسانية الصغرى؛ إنه لا يطيق أن يكون الإنسان دابة على الأرض لا تربطها بأطراف الوجود أقوى الوشائج؛ فذلك في رأيه يؤدي به إلى عزلة روحية لا يحتملها، وأما صاحب العقل الصارم فلا يريد أن يرى في الكون إلا ما تدل عليه الحواس، مادة صماء، وما هذه الحياة الإنسانية في هذا الخضم الزاخر من المادة إلا فقاعة ماضية عابرة، هي ظاهرة كهذه الظواهر الكثيرة لا أكثر ولا أقل.
وصاحب العقل الحساس يرى في الإنسان كائنا حر الإرادة، عقله يملي وهو ينفذ، ولو لم يكن كذلك ما كانت له قيمته بين سائر الكائنات، وأما ذو العقل الصارم فمن رأيه أن الإنسان لا يملك الإملاء؛ إن الرغبة في شيء ما، تلك الرغبة التي فطرت في طبائعنا، هي التي تريد، والعقل أداة تدبر الطريق الذي يوصل إلى الغاية التي تنشدها الإرادة.
يرى العقل الحساس أن الفكرة إذا امتزجت بالعاطفة وأصبحت شعرا، زاد ذلك من قدرها، وأما زميله فمذهبه أن العاطفة تقلل من شأنها، وخير للفكرة أن تصب في قالب واضح ولفظ مستقيم كالذي تصطنعه العلوم. •••
للصديقين نزعتان مختلفتان في كل شيء، وإلى هاتين النزعتين ينقسم الناس جميعا، فئة تحس نبض الحياة، وأخرى لا تبصر حولها غير الموت؛ فئة يلفت نظرها ما بين الكائنات من أوجه شبه فتوحد الوجود وتوحد خالق الوجود، وأخرى يلفت نظرها ما بين الكائنات من أوجه خلاف فتحلل الوجود في المعامل، فإذا به ذرات كثيرات تكاد تخلو من المعنى؛ النزعة الأولى هي نزعة الفن والأدب وما إليهما، والثانية نزعة العلوم؛ الأولى تتمثل في أفلاطون الذي تشابهت في عينه الموجودات فطواها تحت نماذج من المثل؛ والثانية يصورها أرسطو الذي حلل كل شيء ونظر إلى الأفراد على أنها حقائق في ذواتها تستحق البحث والنظر.
النزعة الأولى تسود الفكر الألماني؛ فالوجود على وجه العموم هو الحق والأجزاء لا شيء، ومن ذلك اشتقوا نظريتهم في الدولة، الدولة هي الحق والأفراد لا شيء، والنزعة الثانية تسود التفكير الإنجليزي؛ فلا بد في هذا التفكير من التحليل، بدأه بيكون وعقبه لوك، ويمثله الآن برتراند رسل، فالأجزاء كل شيء والكل ليس إلا مجموعة أجزائه، ومن هنا استمدوا رأيهم في الدولة، الأفراد كل شيء والدولة مجموعهم.
وعدت بعد هذا الحوار الجميل معتبرا متدبرا، فاختلاف الصديقين في الرأي هو في صميمه اختلاف بينهما في المزاج والتكوين، ومن العبث أن يطلب إلى أحدهما أن يفكر على غرار أخيه إلا إذا جاز أن يطلب إلى لابس المنظار الأزرق أن يرى الدنيا كما يراها لابس منظار أحمر، فأخذت على نفسي منذ ذلك الحين أن يكون التسامح عندي أول الأخلاق.
في عالم الفلسفة
ليس هنة هينة أن ينقد صديق كتابا لصديقه؛ ذلك لأن هذا الصديق الناقد إما أن يكون مع الكتاب أو عليه، فإن كانت الأولى، قال الناس: إنه صديق يمدح صديقه، وإن كانت الثانية، قال الصديق عن صديقه: إنه لم يرع للصداقة حقا ولا حرمة!
والدكتور الأهواني صديق وزميل، ينزل من نفسي منزلة حب وتقدير، وقد قرأت كتابه «في عالم الفلسفة»، وأردت نقده، فأحسست بالورطة التي حدثتك عنها منذ حين. لكن الذي يحد من شدة الموقف أن صاحب الكتاب وكاتب هذه السطور هما معا ممن يشتغلون بالفلسفة مهنة وصناعة، وأقل ما يقال فيمن يمت إلى الفلسفة من قريب أو بعيد، أنه يحاول أن ينظر إلى الأمور بعاطفة باردة، وأن يزن الأشياء التي تخصه بميزان موضوعي، كأنها ليست شأنا من شأنه. وعلى هذا الاعتبار سأتناول بالنقد هذا الكتاب، موقنا أن صديقي الدكتور الأهواني سيكون «فيلسوفا» في قراءة هذه الكلمة، كما كان فيلسوفا حين كتب كتابه هذا. •••
قلت لنفسي: حاول أن تجرد عن نفسك صفة الاشتغال بالفلسفة قراءة وكتابة وتدريسا، وألبس شخصية رجل غريب عن «عالم الفلسفة»، سمع بشيء اسمه الفلسفة، ولكنه لم يعرف ماذا عسى هذه الفلسفة أن تكون، كأن تتخيل نفسك - مثلا - مهندسا .
ها أنا ذا «مهندس» أمر على إحدى المكتبات، فأرى كتابا اسمه «في عالم الفلسفة»، كتبه كاتب يدرس الفلسفة في الجامعة، فيدور في نفسي هذا الخاطر : هل لك في كتاب يدخلك هذا «العالم» المجهول؟ إنك لا تدري إن كانت الفلسفة شيئا يؤكل أو يشرب، فلماذا لا تشتري هذا الكتاب الذي لا تتجاوز صفحاته مائة وسبعين، فتكب عليه ليلة أو ليلتين، فإذا بك قد أضفت إلى حياتك «عالما» جديدا؟ وقد كان! اشتريت الكتاب، وعدت إلى داري، وأخذت أقرأ.
قرأت في مقدمة الكتاب ما يبشر بالخير «فهذا الكتاب جولة في عالم الفلسفة، لا إحصاء لدقائق هذا العالم الفسيح، أو هو زهرة من بستان الفلسفة أقدمها للقراء باقة يشمون منها عبير الفكر.» فقلت لنفسي: ما شاء الله! تالله هذا هو كل ما أريد، فإنه لتكفيني جولة واحدة في هذا العالم الفسيح، والحمد لله الذي جعل كاتبنا الفاضل يختار لكتابه زهرة من البستان، لا حسكا ولا شوكا.
فتحت الفصل الأول، فوجدته عن «أورفيوس والنحلة الأورفية»، تري من يكون أورفيوس هذا؟ «الغالب أن أورفيوس عاش في تراقيا قبل العصر الهوميري، ويعتقد أرسطو أن أورفيوس لم يكن له وجود.» هكذا استهل الكاتب فصله الأول، وأخذ يعرض أدق الآراء عن وجود «أورفيوس» أو عدم وجوده، إلى أن قال: «ونسبه إلهي؛ فأمه آلهة الشعر كاليوب ... ويجعلون أباه تارة أبولون، وتارة أخرى وهو الأغلب أوجرس، وهو إله في تراقيا للخمر، خرج من صلب الإله أطلس، وهو الذي تروي الأساطير أنه حمل العالم على كتفيه ...»
قرأت هذا الكلام وهمست لنفسي: هون على نفسك يا رجل وأرخ لأعصابك عنانها، لقد كانوا أوهموك أن الفلسفة عالم شائك ملغز غامض، وإذا بالفلسفة أسطورة من نسج الخيال، تحكي عن الأرباب وأبناء الأرباب، كما يحكي شاعر الأساطير، هذا جميل، لكني في الواقع أعتب على رجال الفلسفة عتبا شديدا؛ فما كان لهم أن يقطبوا الجبين ويصطنعوا الجد والوقار في مشيهم وجلوسهم، ويرسلوا اللحى والذوائب تنوس على أعناقهم وأكتافهم، فيم هذا كله وبضاعتهم أسطورة تروى في دعة واسترخاء ؟
وكدت أهمل بقية الفصل الأول؛ لأن أسطورته في الحق لم تصادف من نفسي قبولا لدمها الثقيل، وكدت أتعجل الخطى إلى الفصل الثاني لعله يحكي أسطورة فيها شيء من الحب والغرام؛ لأن ذلك أحب إلى النفس وأقرب إلى الفؤاد، لكني عدت فتمهلت وواصلت قراءة هذا الفصل الأول نفسه، فإذا بالكاتب يعرض «آراء» أورفيوس، آراء؟ آراء من؟ آراء رجل ليس له وجود؟ إن الشخصيات الوهمية في القصص الخيالية تجري ألسنتها بآراء الكتاب الذين كتبوا تلك القصص، لكن بلسان من سينطق هذا الشخص الخيالي بآرائه؟ اللهم صبرا، هات يا أورفيوس ما عندك من آراء.
مذهبه في أصل العالم هو: «... من الطين خرج الزمان، وكان الزمان وحشا مخيفا في صورة ثعبان له رءوس ثلاثة؛ رأس ثور، ورأس أسد، ووجه إله بينهما ... ونشأت مع الزمان الضرورة ...»
فوالله لقد انفتح فمي عن صيحة لم أشعر بانبعاثها إلا بعد انطلاقها! ماذا يقول هؤلاء الناس؟ ما هذا الزمان الذي خرج من الطين؟ وما هذه الضرورة التي نشأت مع الزمان؟ أيكون يا رباه لهذا الكلام معنى وقد أغلقت لي نوافذ رأسي فلم أعد أفهم ما يفهمه سائر الناس؟ اللهم إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب غبيا أو محروما من صفاء الإدراك فامح اللهم غباوتي وحرماني، وأحمدك اللهم حمدا كثيرا على أن جعلتني مهندسا أبني للناس العمائر والجسور؛ فذلك أجدى علي وعليهم من قصة الزمان الذي خرج من الطين!
ومهما يكن من أمر فقد عرفت الآن ما الفلسفة، هي مزيج من أساطير وكلام لم يقصد به أن يدل على معني مفهوم. أأكتفي بهذا وأنصرف إلى عمائري وجسوري؟ لا، بل أقرأ الفصل الثاني.
الفصل الثاني عن أرستوفان شاعر الملهاة عند اليونان! الحق أني أعجبت بهذا الفصل أشد إعجاب، لكني سألت نفسي حائرا دهشا: لقد ظننت من الفصل الأول أن الفلسفة أساطير الأولين، فإذا هي شيء آخر، هي تاريخ للأدب. فيم إذن يجعل هؤلاء الفلاسفة أنفسهم طائفة قائمة بذاتها وهم لا يصنعون سوى أن يؤرخوا للآداب؟ ليس في هذا الفصل كلمة واحدة لا تدور حول ذلك الشاعر المسرحي وفنه، فما الذي أدخل الشاعر وفنه في عالم الفلسفة إلا أن تكون الفلسفة اسما زائفا بغير مسمى، وكان الصواب أن يقال أدب وتاريخه؟
ثم فتحت الفصل الثالث وطالعته، فإذا هو عرض لتمثيلية من تمثيليات أرستوفان، هي تمثيلية السحب، ساقها مؤلفنا الفاضل بهذا الإطناب والتفصيل؛ لأنها تصور شخصية سقراط، وسقراط فيلسوف يظهر أن له مكانة عليا لأني سمعت به كثيرا، فقلت لنفسي: ها هنا في هذا الفصل رائحة طعام. لا بد أن يكون «عالم الفلسفة» مليئا بهذه الشخصيات، وعمل الذي يدرس الفلسفة هو أن يستعرض صور تلك الشخصيات.
لكن الفصل الذي يليه لم يمهلني كثيرا حتى عاد فغير لي معني الفلسفة؛ لأنه يصف لنا مكانا كان يعلم فيه أحد الفلاسفة تلاميذه. لو أنه جاء بطرف من الآراء التي كانت تموج مع الهواء في ذلك المكان، لكان ذلك أقرب إلى ما تصورته عن الفلسفة بادئ ذي بدء، لكنه وصف للمكان ولا شيء غير ذلك. صور لنفسك كاتبا وصف لك جامعة القاهرة من حيث جدرانها وغرفها ومماشيها وقبابها وحدائقها، فهل ترى من حق ذلك الكاتب أن يسمي وصفه هذا «جزءا من عالم الفلسفة»؟ لكنه على كل حال وصف جميل. •••
بذلك كاد ينتهي الجزء الأول من أجزاء الكتاب، ليبدأ الكاتب في جزء ثان عن الفلسفة الإسلامية، وأقبلت إقبال من يريد أن يفهم، فإذا بمؤلفنا الفاضل يعترف صراحة في الصفحة الثانية أن الذي «سوف نتحدث عنه لا يعد في صميم الفلسفة بمعناها الخاص.» فضربت على منضدتي بيدي ضربة انفعالية، وقلت: «لكني اشتريت الكتاب لأدخل «عالم الفلسفة»، وها هو ذا الكاتب قد أوصد دوني الأبواب.» ومضيت بعد ذلك سطرين أو ثلاثة لأرى المؤلف الفاضل يقول: «إن كل إنسان فيلسوف.» يا خبر أسود! ضاعت عليك قروشك يا بطل! أنت فيلسوف ولا تدري أنك فيلسوف! أنت فيلسوف منذ ولدت، بل منذ كنت في جوف أمك جنينا؛ لأنك إنسان منذ ذلك الحين! ولكن إلى الجحيم بقروشي وإنها لقليلة معدودات، ما دمت قد كسبت بها علمي بأني - فوق كوني مهندسا - فيلسوف!
ومع ذلك فقد مضيت أقرأ؛ لأرى الكاتب يتتبع ما أسماه «أمواج الفكر الإسلامي»، والفكرة في غاية الروعة ؛ إذ أراد المؤلف الفاضل أن يؤرخ للفكر الإسلامي على نحو طريف جميل، وذلك بأنه يرى أن المسلمين كانوا يديرون مجهودهم الفكري حول نقطة معينة في كل فترة معينة، فلو حصرنا هذه النقط المركزية في تتابعها، فقد تتبعنا خطوات التفكير الإسلامي على صورة نابضة بالحياة.
هذا جميل جد جميل، لكني لم يسعني سوى أن أسأل سؤالين؛ الأول أن هذا الكلام الذي راح يقوله، لا يمكن أن يستغني تحصيله عن دراسة، فلماذا إذن خدعني منذ حين قصير وأوهمني بأنني فيلسوف ما دمت إنسانا؟ والسؤال الثاني هو: ما علاقة هذا الكلام الذي أثبته بعالم الفلسفة؟ إنه دين وفي صميم الدراسات الدينية. أيكون هؤلاء الفلاسفة جماعة بغير عمل فراحوا يتطفلون على كل شجرة يقطفون منها زهرة؟ فالموجة الأولى والموجة الثانية من موجات الفكر الإسلامي، يلخصهما المؤلف بعد تفصيل الكلام فيهما، فيقول: «والخلاصة أنه بعد موت النبي ظهرت موجتان قويتان تهتم الأولى بالكفر والإيمان، والثانية تتجه نحو الإمامة ...»
ولست أدري ما الذي يبرر للفيلسوف أن يحتضن الحديث في الكفر والإيمان والإمامة فيجعلها فلسفة؟! •••
وفي الكتاب جزء ثالث عن الفلسفة الحديثة، وكنت أريد أن أعرض لبعض ما جاء في الجزأين الثاني والثالث من آراء بعد أن أتخلى عن شخصية المهندس المستعارة وأعود إلى نفسي، لكني آثرت أن أختم كلمتي بصيحة أبعثها من أعمق أعماق نفسي إلى كل من يشتغلون بالفلسفة - وأنا واحد منهم - فإما أن تكون لنا مادة محدودة القسمات معروفة الملامح، وإما أن نصارح العالم بأننا فئة من الناس لا خير فيها، تعيش كلا على غيرها؛ حرام أن تضيع الأعمار في كلام يستحيل بطبعه أن يؤدي إلى معرفة صحيحة بالعالم الذي نعيش فيه.
إنني أومن إيمانا قويا بأن كل عبارة يقولها قائل، زاعما أنه يريد بها أن يصف جانبا من جوانب العالم، وكل سؤال يلقيه إنسان على نفسه أو على غيره، يريد الجواب عنه جوابا يفيده شيئا، هو من عمل العالم واختصاصه. إن التفكير المنتج كائنا ما كان ميدانه الذي يتحرك فيه، يتحتم عليه حتما لا مفر منه أن يتبع مناهج العلماء في بحثهم، وأن يتعرض لطرائق العلماء في التحقيق والإثبات. إن أضحوكة الأضاحيك في هذا العالم أن يجلس إنسان على كرسيه ويرسل القول إرسالا في الحديث عن الطبيعة أو عن الإنسان، فإذا ما طولب بالأدلة «المادية المحسوسة» اعتذر عن ذلك بأنه فيلسوف!
للفلسفة مجال واحد ليس لها سواه، وهو تحليل الألفاظ والعبارات تحليلا منطقيا، لتميز ما يمكن قبوله من أصناف القول وما لا يمكن. وإن سقراط ليضرب لنا أروع مثال لما ينبغي أن يصنعه الفيلسوف.
سنقول: ماذا نصنع بهذه الأكداس من الفلسفة، التي تضع لنا مذاهب وآراء في هذا وفي ذاك؟ وسأجيب بما أجاب به «هيوم» غير هياب ولا وجل: ألقوا بها في النار! (تمت والحمد لله.)
Unknown page