وأقول: «المكانة التي تحبها.» و«المنزلة التي تهيئ نفسك لها.» لأني أعلم أن هذه الطائفة من عباقرة الماضي، تختلف عن أرستقراط الأحياء في هذا، في أنها تقبل بينها العامل الجدير دون سواه. إنك لن ترشوهم بثرائك، ولن تلقي باسمك الرعب في نفوسهم، ولن تخدعهم بريائك؛ فلن يسمح بالدخول في تلك الفراديس لمجرم ولا وضيع، سيسأل حارس الباب سؤالا واحدا لمن يريد الدخول: «هل أنت جدير بهذا؟ إذن فدونك الأبواب قد فتحت. هل تريد أن تزامل النبلاء؟ إذن فكن نبيلا تكن زميلا. هل يشوقك أن تحادث الحكماء؟ إذن فاعلم كيف تفهم عنهم تسمع حديثهم. أما إن أبيت شيئا من ذلك فلا دخول. إذا لم ترفع نفسك إلينا فلن نهبط إليك. إن الرجل العظيم من الأحياء قد يتكلف لك الظرف، والفيلسوف من الأحياء قد يكلف نفسه عناء شرح فكرته لك وهو من ذلك في ألم ممض، ولكنا هنا لا نتكلف ولا نفسر، فإذا أردت أن تستمتع بأفكارنا فارفع نفسك إليها، وإذا أردت أن تكون جليسا لنا فشاطرنا المشاعر.»
هذا ما أكلفك بعلمه، وهو كثير، وبعبارة موجزة يجب أن تحب هؤلاء الناس، إذا أردت أن تكون بينهم، ولكي تحبهم فلا بد من أن تتوافر لديك الرغبة الصادقة في أن يعلموك، وأن تعد نفسك للدخول في أفكارهم، ولاحظ أني أشير إليك بالدخول في أفكارهم، ولا أقول لك أن ترى أفكارك منطوقة بلسانهم، فإن لم يكن كاتب الكتاب أحكم منك، فلا حاجة بك إلى قراءته، وإن كان ، فستجد تفكيره يخالف تفكيرك في نواح كثيرة.
نحن مستعدون أن نقول عن الكتاب الذي نقرؤه: «ما أجود هذا الكتاب! هذا هو بالضبط ما أرى من رأي!» ولكني أريد لك أن تنتقي من الكتاب ما تقول عنه: «ما أغرب هذا الذي أقرأ! إني لم أفكر هذه الفكرة قط من قبل، ومع ذلك فإني أراها فكرة صحيحة، وإن لم أرها صحيحة اليوم، فأرجو أن أراها كذلك بعد حين.»
فلا بد لك قبل كل شيء أن تذهب إلى الكاتب لتأخذ عنه معناه، لا أن تجد عنده معناك ... إن كان كاتبا رفيعا، فاعلم علم اليقين أنك لن تستطيع أن تأخذ معناه كله دفعة واحدة، بل لن تستطيع أن تفهم كل ما يريد من معنى مدى زمن طويل، مهما تكن وسائلك إلى فهمه، لا لأن الكاتب لا يقول ما يريد أن يقوله، وفي كلمات قوية، بل لأنه لا يبسط كل معناه إلا على نحو من التخفي، لكي يثق من قارئه أنه يريد معناه! وقد لا أستطيع أن أعلل لك هذا التكتم القاسي من الحكماء، الذي يغريهم بستر أفكارهم العقيمة. إنهم لا يقدمون لك المعنى تقدمة هينة، بل هم يكافئونك به على ما احتملت من العناء؛ فهم يثقون أولا أنك جدير به قبل أن يأذنوا لك بالوصول إليه! وما أشبه هذا بالذهب! وهو من الطبيعة كالقول الحكيم من الحكماء؛ فلست أرى سببا يبرر ألا تتضافر قوى الأرض جميعا، لتحمل ما في جوفها من ذهب، حيث تضعه على قمم الجبال، فيعلم الملوك ويعلم الناس كافة، أن كل ما في الأرض من ذهب قد أودع هنالك، دون أن يحتملوا عناء الحفر وضياع الوقت وانتظار المصادفة، فيجدونه قريبا منهم فيصوغونه فيما يشاءون من النقود. لكن الطبيعة لا تسلك في إعداد أمرها هذا السبيل، إنها تخفي ذهبها عن أعين الناس، فقد تحفر زمنا طويلا ولا تجد شيئا، ولا منصرف لك عن الحفر وعنائه إذا أردت شيئا.
وذلك مثال ما يحدث في حكمة الحكماء، فإذا أقدمت على كتاب جيد، فلا بد أن تسأل نفسك أولا: «هل أنا راغب في العمل كما يعمل العاملون في مناجم الذهب؟ هل أعددت فئوسي وسائر عددي؟ وهل هيأت نفسي للعمل، فشمرت عن ساعدي، واستقام مني جهاز التنفس واعتدل المزاج؟» إن الذهب الذي تنشده هو فكرة المؤلف ومعناه، كلماته صخور ينبغي أن تطحنها طحنا وتذيبها إذابة لتصل إلى ما استتر فيها؟ وفئوسك هي عنايتك وذكاؤك وعلمك، وأتون الانصهار هو نفسك المفكرة ... لا ترج أن تبلغ عند كاتب معنى جديدا بغير تلك الآلات وهذه النار.
في الفلسفة
ثورة في الفلسفة المعاصرة
1
لو كان قارئي ممن لم يدرسوا الفلسفة ولا يدرسونها، فسيهمس لنفسه قائلا: ما الفلسفة أولا؟ وماذا تعني بالفلسفة المعاصرة ثانيا؟ وعلى أي نحو قامت الثورة فيها بحيث خرجت على ما قد جرى به العرف ثالثا؟ سيهمس لنفسه بهذه الأسئلة في ابتسامة أعرفها جيد المعرفة؛ فما أكثرهم أولئك الذين يقررون لك بادئ ذي بدء أن لا علم لهم ولا شبه علم بالفلسفة وبحوثها، ثم يسخرون منها! كأنما يأخذهم العجب: كيف يكون في العالم علم ليست لهم به دراية؟ أو هم يقررون لك بادئ ذي بدء أنهم قد حاولوا قراءتها فلم يفهموا؛ ولذلك هم يسخرون. ولو كان المقروء غير المفهوم فلكا أو طبيعة أو كيمياء، ما عجبوا ولا سخروا، كأنما المفروض ألا تفهم هذه العلوم لغير المختص، وأما الفلسفة فواجبها أن تعرض نفسها لغير دارسيها منقاة مصفاة ممهدة ميسرة!
والحق أن بين العلوم الطبيعية والفلسفة من وشائج الصلة وأوجه الشبه شيئا كثيرا، يهمني منها الآن جانب واحد، وهو أن كليهما يبدأ - في الأعم الأغلب - من المعارف الشائعة في الحياة الجارية، ثم يسير بها نحو التحديد والدقة.
Unknown page