104

Qiṣṣat al-falsafa al-ḥadītha

قصة الفلسفة الحديثة

Genres

الذي أشعل فيه الحماسة للإصلاح، والذي بذر فيه - أول من بذر - الفكرة القائلة بأن الظواهر الاجتماعية - كالظواهر الطبيعية - يمكن أن تحد بالقانون والعلم، وأن الفلسفة كلها يجب أن تركز جهودها في إصلاح النوع البشري إصلاحا أخلاقيا وسياسيا.

وقد تصدى «كومت» بالفعل إلى هذا الإصلاح، على أنه كان - كأكثر من تصدوا لإصلاح العالم - عاجزا عن تنظيم داره، فكان يعاني حياة منزلية مليئة بألوان الشقاء الزوجي، ثم أصيب في سنة 1827م بمرض عقلي دفعه إلى محاولة الانتحار في نهر السين، ولكن أراد الله أن يكتب له النجاة والبقاء لكي ينتج لنا فيما بعد ما أنتجه؛ خمسة مجلدات في «الفلسفة الإيجابية» نشرها بين عامي 1832م، 1842م، وأربعة مجلدات في «السياسة الإيجابية» نشرها بين عامي 1851م، 1854م.

حاول «كومت» في هذه المؤلفات أن يبوب العلوم تبعا لتدرج مادتها في البساطة والتعميم، فرتبها على هذا النحو: الرياضة، فالفلك، فالطبيعة، فالكيمياء، فعلم النبات، فعلم الاجتماع. وكل واحد من هذه العلوم يرتكز على نتائج العلوم التي قبله، وإذن فعلم الاجتماع هو - من العلوم كلها - ذروتها العالية، ولا يبرر وجود علم من العلوم الأخرى إلا بمقدار ما يمدنا به من شرح وتوضيح لعلم الاجتماع، وهكذا يرى «كومت» أن العلم بمعنى المعرفة اليقينية يسير على الترتيب السابق من موضوع إلى موضوع، ومن الطبيعي أن تكون ظاهرة الحياة الاجتماعية المعقدة آخر ما يخضع للطريقة العلمية. ويستطيع مؤرخ الفكر أن يلحظ في كل ميدان من ميادين التفكير قانونا ذا مراحل ثلاث.

أوجست كومت.

فقد كان الإنسان أول الأمر ينظر إلى الموضوع من وجهة نظر لاهوتية، وكان يعلل كل مسائله بإرادة إله ما، مثال ذلك ما كان منه حين اعتبر النجوم آلهة أو محفات للآلهة، ثم تقدم حتى أخذ ينظر إلى الموضوع من وجهة نظر ميتافيزيقية حيث يعلل كل شيء بفكرة مجردة مما وراء الطبيعة. مثال ذلك موقفه حين ظن أن النجوم تسير في دوائر؛ لأن الدائرة هي أكمل الأشكال. وأخيرا أخضع الإنسان موضوع بحثه للعلم اليقيني بما يقوم عليه هذا العلم من الملاحظة الدقيقة والفروض والتجارب، وأصبح يعلل الظواهر باطراد قانون العلة والمعلول.

لذلك لم يتردد «كومت» في أن يعلن بأن مرحلة البحث الميتافيزيقي يجب أن تنقضي؛ لأنها عبث صبياني، وبأن الفلسفة شيء لا يختلف عن العلم؛ إذ هي تعاون العلوم كلها، ويجب الاتجاه بها إلى تقويم الحياة الإنسانية وتحسينها.

ولكن حدث في عام 1845م ما غير وجهة نظر الفيلسوف العقلية، وذلك أن اتصلت أسباب الحب بينه وبين مدام «كلوتلد دي فو»

Clotild de Vaux

التي قضي على زوجها أن ينفق حياته في السجن، فأشعل هذا الحب مشاعره، ولون فكره بلون جديد، فأخذ يمجد الشعور ويضعه في منزلة أسمى من العقل باعتباره وسيلة الإصلاح، وانتهى إلى أن العالم لا يمكن تقويمه إلا بدين جديد يغذي نزعة الإيثار الخافتة الضعيفة، بأن يقدس «الإنسانية»، ويتخذ منها موضوعا للعبادة، ولقد قضى «كومت» أيام كهولته في التمهيد لهذا الدين الجديد - دين الإنسانية - فوضع له نظاما دقيقا مفصلا في تكوين القساوسة وإقامة الصلاة وسائر الشعائر، واقترح تقويما جديدا نستبدل فيه بأسماء الآلهة الوثنية وقديسي العصور الوسطى أعلام الرقي البشري.

ولقد صادفت تلك «الحركة اليقينية» دعامة قوية في مجرى الفكر الإنجليزي عندئذ، ذلك الفكر الذي استمد روحه من حياة صناعية وتجارية، فنظر إلى الحقائق الواقعة نظرة احترام وتقديس. فقد اتجهت الفلسفة الباكونية بالتفكير الإنجليزي نحو الوقائع المحسة، فتبعه «هوبز» بمذهبه المادي، و«لوك» بنظريته الإحساسية، و«هيوم» بشكه، و«بنتام » بنفعيته، فكانت كلها جوانب من فلسفة وضعت لتحس الحياة العملية - وقد جاء «بركلي» الإيرلندي نشازا في ذلك النغم الموسيقي المنسجم الذي ضرب على أوتاره مفكرو الإنجليز؛ فهؤلاء جميعا رأوا من قبل ما يراه اليوم «كومت» و«سبنسر» من أن الفلسفة هي تعميم نتائج العلوم كلها. لهذا لقيت الحركة اليقينية من أشياعها في إنجلترا أكثر مما لقيت منهم في مسقط رأسها - فرنسا - كان أشهر أولئك «جون ستيوارت مل»

Unknown page