105

Qiṣṣat al-falsafa al-ḥadītha

قصة الفلسفة الحديثة

Genres

John Stuart Mill ، و«فردريك هاريسون»

Fredrick Harrison .

وكان يسود إنجلترا عندئذ حركة علمية قوية عنيفة تناولت فروع العلم بأسرها، وبخاصة علم النبات ومذهب التطور الذي اشتركت في بحثه الدول الأوروبية كلها منذ بضعة قرون ، ولكنه كان حتى منتصف القرن التاسع عشر حديثا مفككا تنقصه الصياغة والإتمام، حتى نشر «دارون» كتابه «أصل الأنواع» الذي ارتج له عالم الفكر رجة عنيفة، إذ لم يكتف هذا الكتاب بالإشارة المبهمة لمذهب التطور، وبأن الإنسان قد تطور على نحو ما من أجناس أوطأ منه، ولكنه شرح الفكرة شرحا مفصلا تؤيده الأمثلة تأييدا قويا، وأطنب في الطريقة التي يتم بها التطور بواسطة الانتخاب الطبيعي، وبقاء الأجناس القوية الموهوبة في تنازع البقاء، ولم يكد ينقضي بعد نشر الكتاب عشرون عاما، حتى كان التطور حديث العالم أجمع. ثم جاء «سبنسر» فتناول فكرة التطور بالتطبيق على كل مناحي التفكير والدراسة، فكما أن الرياضة سادت الفلسفة في القرن السابع عشر حيث أنجبت للعالم «ديكارت وهوبز وسبينوزا وليبنتر وبسكال»، وكما أن علم النفس ساد الفلسفة في القرن الثامن عشر في «بركلي وهيوم وكانت» فقد كان علم الحياة في القرن التاسع عشر هو النزعة السائدة، تلمسها في «شلنج وشوبنهور وسبنسر ونيتشة وبرجسون». (2) نشأته

ولد في دربي

Derby

سنة 1820م، وقد ورث نزعة إلحادية عن جدته لأبيه، ثم عن أبيه الذي أبى كل الإباء أن يفسر شيئا بما فوق الطبيعة من قوى، والذي قال عنه أحد أصدقائه: إنه لا يدين بدين ولا يؤمن بشيء، وكان يميل إلى العلم وألف كتابا في الهندسة، وكان في الأمور السياسية يعتد بشخصيته اعتدادا متطرفا، فلم يخلع قبعته قط لإنسان كائنة منزلته ما كانت، فانحدرت هذه الشخصية إلى ابنه «هربرت سبنسر».

ومما يلفت النظر أن هذا الرجل الذي كتب له أن يكون أشهر فيلسوف إنجليزي في القرن التاسع عشر ظل بغير تعلم حتى بلغ سن الأربعين، فقد كان في طفولته كسولا أهمل في ذهابه إلى المدرسة، وكان أبوه يغض النظر عن ذلك الإهمال ويتسامح فيه، فلما بلغ عامه الثالث عشر أرسله أبوه إلى «هنتون»

Hinton ؛ ليراقبه في دراسته عمه الذي عرفت عنه القسوة والعنف، فلما لم يطق «هربرت» شدة عمه أفلت من رقابته ولاذ بالفرار، فقصد إلى دار أبيه في «دربي» سيرا على الأقدام، فقطع في اليوم الأول ثمانية وأربعين ميلا، وفي اليوم الثاني سبعة وأربعين ميلا، وفي الثالث عشرين ميلا، ولم يقم أوده في تلك الأيام الثلاثة إلا قليل من الخبز القفار، ولكنه رغم هذا ما لبث أن أعيد إلى «هنتون» بعد أسابيع قلائل، حيث لبث بها أعواما ثلاثة كانت هي الفترة الوحيدة التي تلقى فيها تعليما منظما طول حياته، وحتى هذه الدراسة القليلة كانت فيما يظهر من الضحولة والارتباك بحيث لم يستطع فيما بعد أن يتذكر أي الموضوعات درسها حينئذ، ويقول: «يجب أن يعلم الناس عني أنني لم أتلق درسا واحدا في اللغة الإنجليزية لا في أيام الطفولة، ولا في عهد الصبا، وأني لم أتعلم قواعد اللغة الشكلية حتى هذه الساعة.» ثم حاول وهو في سن الأربعين أن يقرأ الإلياذة «ولكني بعد قراءة ما يقرب من ستة فصول شعرت بضخامة المجهود الذي يقتضيه المضي في القراءة، وشعرت أنني أفضل أن أدفع مبلغا طائلا من المال على أن أقرأها حتى نهايتها.» هذا ويحدثنا أحد كاتمي سره أنه لم يقرأ كتابا واحدا في العلوم إلى آخره، ولقد لبث حتى سن الثلاثين وهو يجهل الفلسفة جهلا تاما، ثم حاول أن يقرأ «كانت»، ولكنه لم يكد يبدأ في قراءته حتى اصطدم بما يقرره «كانت» عن الزمان والمكان من انهما صورتان للإدراك الحسي، وليسا حقيقتين موضوعيتين، فحكم عليه بأنه مغفل وطرح الكتاب جانبا. ولقد ألف «سبنسر» أول كتبه «التوازن الاجتماعي» دون أن يقرأ في الموضوع شيئا إلا كتابا قديما يكاد يجهله الناس، ثم كتب مؤلفه في «علم النفس»، ولم يقرأ عن الموضوع قبل الكتابة إلا قليلا، وهكذا كان شأنه في كتابه عن «علم الحياة» و«علم وظائف الأعضاء» و«علم الاجتماع» و«الأخلاق».

إذن فمن أين استمد هذه الملايين من الحقائق التي يسوقها لتأييد أقواله؟ لقد اكتسبها بالملاحظة المباشرة التي كان يمتاز بحدتها ويقظتها، فلم يكد يحدد لنفسه موضوع بحثه، ويقرر الفكرة الرئيسية - وهي التطور - التي أراد أن تكون قطبا لرحى تفكيره، حتى أصبح عقله كالمغناطيس يجذب إليه سيلا دافقا من الحقائق التي لها علاقة بموضوعه، ثم يأخذ فكره - وقد كان فكرا لا يضارع في قوة التنظيم - في تبويب المادة المكسوبة، فلا عجب أن جاءت كتبه سائغة لشتى رجال الأعمال، إذ لم يكن يستمد مادته من الكتب، بل من الحياة الواقعة.

لقد اضطر «سبنسر» إلى العمل لكسب عيشه، فاشتغل بحرفة كانت تتجه نحو ما ينزع إليه بطبيعته، إذ كان مساحا فرساما للخطوط الحديدية والجسور فمهندسا، فكانت هذه المهنة العملية مجالا خصبا لملاحظته القوية، وكانت له في كل يوم فكرة جديدة واخترع جديد، ولو أن كثيرا منها كان ينتهي بالفشل، وقد لبث نباتيا في طعامه مدة من الزمن، ولكنه لم يلبث أن رأى صديقا له نباتيا يصاب «بالأنيميا» كما أحس في نفسه بالضعف يدب في قواه جميعا، فأقلع عن ذلك، وهو يشير إلى ذلك بقوله: «لقد رأيتني مضطرا إلى إعادة ما كتبته أيام أن كنت نباتيا؛ إذ كانت تعوزني فيها القوة.» ومما يروى عنه أنه كان يخضع كل شيء للتجربة والتفكير العميق، حتى إنه فكر يوما في الهجرة إلى زيلنده الجديدة، فأعد كشوفا يرصد فيها الأسباب التي تبرر الرحلة، والأسباب التي تقتضي إلغاءها، مقدرا كل سبب بمقدار رقمي، فكان المجموع النهائي 110 درجة تقضي ببقائه و301 درجة في جانب السفر، ولكنه رغم ذلك لم يرحل!

Unknown page