كان الدكتور هاليت الذي أشرف على رسالتي لإجازة الدكتوراه مختصا في فلسفة اسبنيوزا، وإذا علمنا عنه ذلك عرفنا أنه في مسألة الإرادة الإنسانية على نقيض ما ذهبت أنا إليه في رسالتي؛ إذ إن الإنسان في رأي اسبنيوزا جزء من الكون، لا يفعل إلا ما رسم له أن يفعله في الخطة الشاملة للكون كله، فإذا ظن الإنسان أنه إنما فعل كذا وكذا بمحض إرادته الحرة كان ذلك شبيها بالحجر الملقى بقوة دفع معينة، ويمكن حساب سرعته وموضع سقوطه على الأرض، غير أنه لو كان لينطق فربما قال: إنه إنما سقط حيث سقط على الأرض بمحض إرادته، وأنه كان هو الذي اختار طريق مساره ومقدار سرعته.
فهذا الاختلاف البعيد بين نظرة أستاذي التي استقاها من مجال تخصصه، وبين النظرة التي أخذت أتجه إليها خلال البحث العلمي الذي اضطلعت به، ولقد كان هذا الخلاف بين النظريتين مصدر خير لي لا تحد حدوده؛ لأن الأستاذ كلما اجتمعنا لمناقشة فصل من فصول الرسالة كان يجمع قوته الناقدة كلها؛ لينظر بها إلى كل كلمة مما قدمته إليه، وكان علي أن أكون على أقصى درجات الاستعداد من حيث دقة الصياغة ووضوح المعنى وقوة الحجة؛ مما أخرجني بعد إتمام الرسالة وكأني إنسان آخر.
من كل ما أسلفته عن المؤثرات والدراسات التي مارستها وتأثرت بها أثناء إقامتي في إنجلترا، يمكن القول بأنني خرجت بنظرة ذات شعبتين هي التي عدت بها إلى مصر في أواخر 1947م، معتزما أن أتجه بنشاطي كله نحو العمل بما تمليه علي تلك النظرة بشعبيتها، فمن جهة خرجت يملؤني الإيمان بضرورة الأخذ بأهم أركان الثقافة الأوروبية التي كان من نتائجها في حياة الأوروبيين ما رأيته من قيم تعلي من شأن الإنسان الفرد إعلاء يجعل منه كائنا ذا قداسة، ومن جهة أخرى خرجت على إدراك واضح بأن نهوضنا مما نحن فيه من تخلف في ركب الحضارة العصرية مرهون بتغيير المنهج؛ لتكون الكلمة الأولى والأخيرة للتجربة العلمية في كل ما هو متصل بحقائق العالم الذي نعيش فيه، على أن هذا العالم المحيط بنا ليس هو كل شيء، بل يوازيه عالم باطني في ذواتنا قوامه إيمان ووجدان؛ ففي هذا العالم الخاص معياره الخاص كذلك، وعلى ذلك يكون لعلمنا بالعالم المادي ميزان، وللتعبير الصادق عن عالمنا الوجداني ميزان آخر، ولا يجوز الخلط بينهما كما نخلط عادة، كما لا يجوز اعتداء أحدهما على الآخر كما يحدث عند كثيرين.
6
كانت المكتبة العامة لجامعة لندن هي مكاني المختار أثناء إعدادي لرسالة الدكتوراه، فكنت في معظم الحالات أول زائر لها في الصباح وآخر من يغادرها في المساء، ولم أكن أترك مكاني طيلة يومي إلا ساعة للغداء وسويعة للشاي، وكلاهما في مطعم في البناء نفسه، لكن ساعات العمل لم تكن كلها مخصصة للرسالة، بل تتخللها ساعتان أكسر بهما ملل الرتابة بشيء خارج مادة الرسالة، وفي هذه الفترة اليومية قرأت كثيرا وأنجزت كثيرا.
فكان من أهم ما أنجزته: الجزءان الثالث والرابع من «قصة الأدب في العالم»، الذي اتفقت مع الأستاذ أحمد أمين منذ سنة 1940م على القيام به، وكما أسلفت القول في الفصل الأول من هذا الكتاب كان الجزءان الأول والثاني قد صدر أولهما وأنا في القاهرة، وتركت مخطوط الثاني قبل سفري، وها أنا ذا قد بلغت بالثالث والرابع تاريخ الأدب حتى نهاية القرن التاسع عشر.
كان نصيب الأستاذ أحمد أمين من العمل - فوق المراجعة الشاملة - كتابة الفصل الخاص بالأدب العربي من كل جزء، وكان الدكتور عبد الوهاب عزام هو الذي تولى كتابة الفصل الخاص بالأدب الفارسي في الأجزاء الثلاثة الأولى، وتولى الدكتور يحيى الخشاب كتابة هذا الفصل من الجزء الرابع، وأما بقية الفصول فهي بقلمي.
وكانت خطة العمل - كما ذكرت في موضع سابق - هي اختيار كتاب جيد لكل مرحلة من تاريخ الأدب في أقطاره الهامة؛ ليتخذ عمودا يستند إليه، مع إضافة هنا وحذف هناك كلما اقتضت الحاجة مثل تلك الإضافة وهذا الحذف، وإلى هنا قد يقال - وكثيرا ما قيل - ما أهونه من عمل! فحسبك أن تجيد الإنجليزية قراءة وفهما، لتمثل ما تقرؤه في الكتاب المختار، ثم تعيد المادة المقروءة في لغة عربية، وكان الله يحب المحسنين ... لكن قائل هذا يفوته جانب هام، وهو الأمثلة التي اختيرت للترجمة شعرا ونثرا، فما كل قصيدة وما كل أسطر من النثر الفني في لغته الأصلية يصلح أن يترجم إلى العربية مع الحفاظ على الرونق الخاص الذي يجعل الكتابة أدبا، نعم إن أي كتاب مختار للاعتماد عليه كان معدا بالأمثلة شعرا ونثرا، لكن نسبة لم تكن بالقليلة من تلك الأمثلة كان صالحا للترجمة، وعندئذ كان علي أن أنقب في دواوين الشعراء وفي نصوص الأدباء؛ لأقع على نماذج لا تفسدها الترجمة إلا بالحد الأدنى؛ وذلك لأن كل ترجمة للأدب من لغته الأصلية إلى لغة أخرى تفقده شيئا من جماله. ولك بعد هذا التوضيح لطبيعة العمل الذي أنجزته في «قصة الأدب في العالم» أن تقدر بنفسك كم عانيت في جمع عشرات من النماذج الأدبية وترجمتها على طول أربعة أجزاء.
وكنت قبل مغادرتي لإنجلترا عائدا إلى مصر، قد أعددت شطرا كبيرا من أدب القرن العشرين؛ ليكون الجزء الخامس، لكنني لأمر ما ضاقت نفسي على مدى سبعة أعوام من عمل لم أكن فيه إلا تابعا لتابع، كنت أشعر أنني بمثابة ظل للظل إذا أمكن أن يكون للظل نفسه ظل، لكنني رجل من هؤلاء الناس الذين يرتبطون بالعهود، ولقد تعهدت أن أؤدي هذا العمل فأديته، أتممت منه الأجزاء الأربعة التي بدأت منذ بدايات الأدب هنا وهناك من مراكز الحضارات، وبلغت بها آخر القرن التاسع عشر، ثم أعددت - كما ذكرت - معظم مادة القرن العشرين لتكون جزءا خامسا، لكنني عند ذلك الحد لم أستطع مغالبة نفسي الساخطة، فأبيت للجزء الخامس أن يشهد النور، ولا بد أن يكون مخطوطة «مدشوتا» إلى الآن في أكداس المخلفات الورقية عندي، والتي لم أعد أعرف لها أولا من آخر.
7
Unknown page