وهنا زلزلت الأرض زلزالها، وقال الشيخ: ما لها؟ فقيل: إنها يا مولانا قنبلة ذرية، في لمحة تقضي على الأصل والذرية. قيل: فعجب الشيخ أن كان في الدنيا علم غير علمه.»
فإذا أمعن القارئ فيما ترمز إليه مقالة «بيضة الفيل» - وقد أثبتناها هنا كاملة لنقدم بها نموذجا لسلسلة المقالات التي كتبتها أثناء دراستي في إنجلترا أواسط الأربعينيات - وجدها تنديدا سافرا بجزء كبير من حياتنا العلمية في مصر إذا ما قيست إلى الحياة العلمية كما رأيتها هناك؛ فأولا: لم تكن حياتنا العلمية، أو قل حياتنا الثقافية بصفة عامة، تتصدى لمشكلات الحياة الحية الجادة، بل يشد اهتمامها مسائل افتراضية تؤخذ من بطون الكتب، وثانيا: (وهذه هي النقطة الهامة والخطيرة) كان المنهج الفكري الغالب على المفكرين والباحثين هو المنهج الاستنباطي لا المنهج الاستقرائي، ونقصد بالأول منهجا يقيم الاستدلال على قضايا يفرض فيها الصواب، وكثيرا ما تستقى تلك القضايا مما قاله الأقدمون، وواضح أن النتائج التي تبنى على مقدمات ظنية تكون بدورها نتائج ظنية، ونقصد بالمنهج الاستقرائي منهجا يستقرئ وقائع التجربة كما تشاهدها الحواس مشاهدة علمية، فبالرغم من كونها نتائج احتمالية الصدق لا تبلغ حد اليقين الرياضي (وهذا شأن قوانين العلوم الطبيعية كلها) إلا أنها تجيء نتائج مستقاة من الواقع ومنصبة على الواقع، وليست كنتائج الحالة الأولى تجيء من «كلام» وتنصب على «كلام»، ويحسن بالقارئ أن يعيد قراءة مقالتنا «بيضة الفيل» - وهي الصورة الخيالية الساخرة التي رسمناها لحياتنا في تلك المرحلة من سيرة العقل - ليرى كيف أن حلقة البحث إنما دارت حول افتراض أن الفيلة تبيض، وإذا كانت لتبيض فماذا يكون لون بيضتها؟ وسيرى ثانيا أن العلماء الذين استشهد بهم (وهم علماء وهميون من صنع خيال الكاتب) استخدموا «القياس» منهاجا لاستخراج النتائج. وسيرى ثالثا أنه لانقطاع الصلة بين البحث العلمي المزعوم والواقع الفعلي، أصبح في الإمكان أن يعرض الرأي ونقيضه دون أن يكون هناك ما يحسم بين النقيضين لاختيار أحدهما على أنه الصدق العلمي ورفض الآخر على أنه مؤكد البطلان، وسيرى رابعا - في آخر المقالة - أن شيخ الحلقة الدراسية كان غارقا في أوهام، بينما الدنيا من حوله تعج بعلم جديد.
لقد أدركت في تلك الحقبة من السنين سر النهضة العلمية التي نشأت في أوروبا إبان القرن السادس عشر، فتولد عنها العلم الحديث والحضارة الحديثة بأسرها، وهو نفسه السر الذي لم ينكشف لنا حتى اليوم انكشافا كاملا، فتلكأت بنا النهضة ولبثنا نواصل شيئا من عصورنا الوسطى في عصرنا الحديث، وما ذلك السر العظيم إلا منهج جديد يحل محل منهج قديم، فبدل أن نقيم حلول مشكلاتنا على أقوال نستخرجها من الكتب القديمة، نقيمها على تحليلات دقيقة لعناصر المشكلات المرد حلها؛ لكي نصل إلى الطريقة الفعالة التي تحلها. بعبارة أخرى: بدل الاكتفاء بقراءة الكتب القديمة على أنها مشتملة على الحق كله، يجب أن نضيف إليها قراءة «الطبيعة»؛ أي قراءة الموقف الواقعي الذي يتصدى لدراسته، فمحور النهضة العلمية في أوروبا هو استبدالها بالمنهج القياسي الذي وضع أرسطو تفصيلاته منهجا استقرائيا جديدا كان فرنسيس بيكون أول من وضع له المبادئ والقواعد.
5
كانت أواسط الأربعينيات التي قضيتها في إنجلترا دارسا مرحلة استيقظ فيها الوعي عندي حادا قويا في عدة اتجاهات. لا أقول: إنها نشأت لي من عدم، وإلا فهي اتجاهات أحسست بها قبل ذلك بأعوام، ولكنها كانت على شيء من الفتور والتردد، وأما الآن - وأنا دارس في إنجلترا - فقد وجدت ما استبدل بفتورها قوة وبترددها عزيمة ماضية. وكان أول تلك الاتجاهات - كما أسلفت القول في الفقرة السابقة - قيمة الإنسان من حيث هو إنسان وكفى. فلكل فرد من الناس كرامته، بل كدت أقول: «قداسته». بغض النظر عن أي شيء آخر مما يحيط به سوى أنه إنسان، لا شأن لهذه الكرامة - أو قل القداسة - بدرجة الفقر والغنى، أو بنوع العمل الذي يؤديه، أو بجنسه ذكرا هو أم أنثى، أو بظروفه الأسرية من أي أصل جاء، لا، لا شأن لهذه الأمور كلها بأن يكون لكل فرد من الناس إنسانيته الكاملة.
مثل هذا القول يسهل جريانه على الألسنة، وأما أن ينتقل من دنيا الكلام إلى دنيا التنفيذ فذلك من أصعب الصعاب على من لم يتشرب روح الحضارة التي تعلي من قيمة الإنسان، فلما أن رأيت تلك القيمة مجسدة في كل موقف بشري صادفته في تعامل الناس بعضهم مع بعض أثناء دراستي بإنجلترا؛ فقد تنبهت بقوة إلى ركن ناقص في بنائنا الاجتماعي في مصر، حيث كان من المسلمات التي لم يكن يجادل فيها إلا مكابر يعرض نفسه للخطر، وأن يستعلي بعضنا على بعض بناء على أوضاع معينة من منصب أو مال أو تعليم، إلخ.
وكذلك كان من الاتجاهات التي التفت إليها بقوة ووعي إدراكي أن سر تخلفنا العلمي كامن في «المنهج»، فبينما يتميز العالم المتقدم باصطناعه للمنهج التجريبي في كشفه للجديد أولا، وفي معالجته لما يعترض حياته من مشكلات ثانيا، كنا نحن في مصر - وما نزال حتى اليوم إلى حد كبير - نصطنع منهج القرون الوسطى الذي هو الارتكاز على ما ورد في الكتب القديمة في استخراج أحكامنا على الأشخاص والأشياء والمواقف، وفي طريقة معالجتنا لمشكلاتنا أو في معالجة كثير منها، وهو - كما نرى - فرق كبير في المنهج، يؤدي إلى تقدم من تقدم وتخلف من تخلف، وحسبنا أن نعلم بأنه إذا اختلف الرأي في موضوع معين كان الاحتكام - في حالة المنهج التجريبي - إلى دنيا الواقع والتطبيق الفعلي وهناك يتبين الصواب والخطأ، وأما إذا اختلف الرأي - في حالة المنهج العباسي - كان الاحتكام إلى أقوال وردت في كتبه منسوبة إلى قدماء، وفي مثل هذه الحالة لا يتعذر على كل صاحب رأي أن يجد في بطون الكتب قولا يؤيده تجاه خصومه.
وكان مما تضمنته الاتجاهات الجديدة في وجهات النظر اعتقادي اعتقادا لا مكان فيه لذرة من التردد أو الشك في حرية الإنسان، لكنها الحرية المحكومة بالروابط السببية التي لا تنقلها إلى حالة من الفوضى، وأعني بذلك أن يكون الإنسان حرا حرية «إيجابية» تظهر في أفعال منتجة وفي أقوال يقام البرهان العقلي على صوابها؛ إذ لاحظت - منذ ذلك الحين وما أزال ألاحظ حتى اليوم - أن معظم من يرددون بيننا كلمة «الحرية» لا يقصدون بها أكثر من جوانبها «السلبية»، بمعنى أن تكون تحررا من قيود، سواء أكانت قيودا مفروضة على الإنسان من خارج نفسه أم كانت قيودا منبثقة من داخل نفسه.
ولقد بلغ اهتمامي يومئذ بفكرة «الحرية» الإيجابية أن جعلتها موضوعا لرسالتي في الدكتوراه، فموضوع رسالتي هو «الجبر الذاتي » (هذه هي الترجمة العربية للعنوان في الأصل الإنجليزي، ولقد نقلها إلى العربية الأستاذ الدكتور إمام عبد الفتاح إمام)، والمقصود بعبارة «الجبر الذاتي» هو أن الإنسان في «حرية» إرادته مقيد بماضيه هو نفسه على الأقل، كما هو مقيد بعوامل أخرى تشكل له الإطار العام الذي يتحرك «حرا» بين حدوده، ولكنه داخل تلك الحدود نفسها - إذا ما فعل فعلا أو قال قولا - في مستطاعه دائما أن يبدع ما هو جديد غير مسبوق إليه؛ أي إن علوم الدنيا بأسرها لا تستطيع أن تتنبأ على وجه اليقين بما أنا فاعله أو قائله في اللحظة الزمنية القادمة، فهو فعل جديد، أو هو قول جديد، لكنها في كلتا الحالتين جدة تضيف إلى حصيلة البشرية من أفعال أو أقوال، وليست هي مجرد الجدة كالتي نراها - مثلا - في تخليط المجانين أو في «شخبطة» الأطفال إذا ما وجدوا ورقا وأقلاما.
بعبارة أخرى موجزة، أقول: إن حرية الإنسان كما تصورتها هي حرية من خلال الظروف الخارجية بما فيها العوامل التي شكلت حياته الماضية؛ فهذه الظروف والعوامل كلها هي بمثابة علة ضرورية للفعل الذي يؤديه الإنسان الحر أو القول الذي يصدر عنه معبرا به عن نفسه، لكنها علة وإن كانت «ضرورية» لحدوث ما يحدث، إلا أنها علة «غير كافية»؛ لأنها وحدها لا تضمن أن يفعل الإنسان الحر ما يفعله أو أن يقول ما يقوله؛ إذ لا بد أن يضاف إليها جانب آخر من طبيعة الإنسان نفسه، وهو إرادته الحرة.
Unknown page