وللعود الأبدي قيمة نفسية كبرى؛ فبه تتم سيطرة النفس على الزمان، وتشعر بأكبر قدر من الحرية، على الرغم مما تتسم به الفكرة من تحكم تام للضرورة فيها، فأثقل قيد للنفس هو الزمان الذي انقضى؛ أي الماضي، الذي تحس إزاءه بأنها مغلولة عاجزة: «إن الإرادة لعاجزة عن أن تريد ما مضى. وفي عجزها عن تحطيم الزمان وجشع الزمان أساها الأوحد ...»
21
فإذا أدركت الإرادة سر العود الأبدي، أمكنها أن تحيل الماضي - سجانها الخالد - عبدا خاضعا لها؛ إذ يصبح مجرى الزمان دائرة مقفلة، ويتلو الماضي الحاضر كما تلا الحاضر الماضي. وبهذا الحل يعتقد نيتشه أنه قضى على فكرة الماضي المطلق نهائيا، وقضى بالتالي على سلطته المتحكمة في الإرادة، وهذا هو الخلاص بحق. (5)
والقاعدة الأخلاقية الأساسية التي يتبعها من يؤمن بالعود الأبدي هي «عش بحيث ترغب في الحياة الثانية»، وهي التي استبدلها نيتشه بقاعدة كنت المعروفة، القائلة: «افعل بحيث تصلح قاعدة سلوكك لتكون قانونا عاما يسري على الجميع.» ولكل من القاعدتين نفس الهدف، وهو إشعار الفرد بالمسئولية؛ غير أن كنت يبعث في نفس الفرد الشعور بالمسئولية بأن يجعله يتصور أن سلوكه قد غدا قاعدة عامة للبشر أجمعين، وعندئذ يحذر الخطأ في سلوكه. أما نيتشه، فيحقق هذا الهدف ذاته على نحو مخالف؛ إذ يدعو الفرد إلى أن يسلك على أفضل نحو ممكن، لأنه سيظل يسلك على هذا النحو مرات لا متناهية. والحق أن قاعدة كنت الأخلاقية إنما كانت تهدف إلى إبراز طبيعة كل فعل على أوضح نحو ممكن، وذلك حين يعمم هذا الفعل ويسري على الجميع، بينما لا تتضح طبيعة هذا الفعل إذا نظر إليه في حدود الفرد وحده؛ أي إن هدف كنت هو أن يتصور الفعل من خلال منظار مكبر، يجسم ما فيه من خير أو شر، وهذا هو عين ما يفعله نيتشه؛ غير أنه بدلا من أن يكرر الفعل «عرضيا» بين أشخاص مختلفين، يكرره «طوليا» خلال الزمان في الفرد الواحد مرات لا متناهية. فكلتا الطريقتين في تكرار الفعل ترمي إلى نفس الهدف، وهو أن تزيل عنصر العرضية في الفعل، وهو العنصر الذي يلازمه إذا اقتصر على اللحظة الحاضرة أو الفرد الواحد فحسب.
وعلى ذلك، فأقوى تبرير لفكرة العود الأبدي في نظر نيتشه هو نتائجها الأخلاقية الهامة، وتأكيدها للمسئولية الفردية؛ غير أن النتائج الأخلاقية وحدها لا تكفي لتبرير الفكرة إلا إذا كانت الفكرة ذاتها «صحيحة»، وخاصة لأن نيتشه أصر على أن يجعل لها دلالة كونية، وأكد أنها هي التي تعبر عن الطبيعة الحقيقية للعالم. ومن المحال أن يؤمن المرء بما تدعو إليه فكرة معينة، ويوجه سلوكه على النحو الذي تقضي به، إلا إذا كان مقتنعا من بداية الأمر بصوابها؛ أي إن مصير النظرية بأسرها، وبكل ما لها من نتائج أخلاقية، يتوقف على اختيارنا العقلي لها، وهذا هو ما سنعرض له في نقدنا النهائي.
نقد
ترتبط فكرة العود الأبدي ضرورة بالإيمان بالآلية، فلا محل لها إلا في مذهب يؤكد أن الضرورة المطلقة تتحكم في الحوادث، وأن وقوع الحادثة يستتبع وقوع سائر الحوادث منها على نحو آلي تماما. على أن نيتشه لم يكن من أنصار المذهب الآلي، وهو ينقد فكرة العلية ويراها وهما عقليا ننظم به الكون الذي يسوده الاتفاق المحض، على نحو ملائم لأذهاننا فحسب. والحق أن فكرة الاتفاق، واللهو البريء الذي لا هدف وراءه ولا خطة مرسومة توجهه، كانت هي الفكرة التي يفسر بها الكون دائما في فلسفة نيتشه. فكيف جاز له، وهذا رأيه، أن يقول بالعود الأبدي؟ إن القول بأن القوى الكونية متناهية، وبأن الزمان لا نهائي، قد يكون صحيحا، ولكننا حتى لو افترضناه جدلا، فلن نستنتج منه سوى أن من الممكن أن تطرأ على الكون حالة طرأت عليه من قبل. أما أن يسير الكون كله على نفس النحو الذي سار فيه من قبل تماما، فهذا يقتضي تحكم الآلية في مساره، وسيادة العلية الدقيقة في كل تطوراته. وهكذا يكون على المرء أن يختار بين فكرة الاتفاق التي سادت تفكير نيتشه، وبين فكرة العود الأبدي، ويستحيل عليه أن يهتدي إلى وسيلة للتوفيق بينهما.
ولنمض في النقد خطوة أخرى، فنفترض أن العود الأبدي قد تحقق بالفعل؛ أي إن العالم الذي نعيش فيه قد تكرر من قبل، وسيتكرر فيما بعد، بكل تفاصيله، عددا لا متناهيا من المرات؛ فهل يكون له مع ذلك تأثير نفسي أو أخلاقي على الفرد؟ إن العود الأبدي لن يكون له هذا التأثير إلا إذا كان يكون «مركبا» مع الحالة الحاضرة. فليس للتجربة المتكررة قيمة في حياة الفرد إلا إذا تذكرها فيما بعد، واستفاد منها في وقت مشابه. ومعنى ذلك أن العود الأبدي لا يكون له على السلوك الإنساني أي تأثير إلا إذا كان نفس «الأنا» هو الذي يحيا في كلتا الحالتين؛ غير أنه من المحال أن يكون في أية دورة من دورات العود الأبدي ما يذكرني بما حدث لي من دورة سابقة، وما يمكنني أن أستغله في سلوكي الحالي؛ إذ لو كان في تلك الحالة الثانية أي عنصر يذكرني بأن مشكلتي الحالية قد صادفتني من قبل في دورة سابقة، لما كان التماثل بين الدورتين تاما، بل لتميزت الثانية عن الأولى بوجود عنصر التذكر هذا. ومعنى ذلك أن الإصرار على وجود هوية تامة بين دورات العود الأبدي يفقد الفكرة كل تأثير عملي لها على سلوك الفرد. ولنعلم أن «الأنا» الذي يمارس تجربته خلال إحدى هذه الدورات لا يظل موجودا في الدورة التالية، بحيث يستفيد في الثانية من تجارب الأولى، وإنما يبدأ التجربة نفسها من جديد، مثلما حدث في المرة السابقة تماما، ودون أن يتذكر منها شيئا؛ فالفكرة إذن لا تزيد عن أن تكون خيالا شعريا لا تأثير له على السلوك، ما دام ينهار أمام التحليل المنطقي الدقيق. وفي هذه الحالة ينعدم تأثيرها النفسي والأخلاقي على الفرد الذي يخضعها لمثل هذا التحليل، ولا يعود لها من أثر إلا على النفوس التي تطغى قوتها التخيلية على منطقها العقلي؛ ولا جدال في أن نيتشه كان من هذا النوع الأخير. وهكذا تخفق العقيدة الجديدة التي حاول نيتشه أن يدعو البشر إليها في توجيه السلوك الإنساني على النحو الذي أراد، وتنهار كل نتائجها الأخلاقية بانهيار أساسها العقلي.
فإذا تذكرنا مدى تأثير فكرة العود الأبدي في نيتشه، والآمال التي علقها عليها في خلق بشرية جديدة تؤمن بالأرض وتكافح فيها كفاح الأبطال. وإذا أدركنا أن هذا كله يبنى على أسس لا يدعهما العقل، فسوف نجد هنا مثلا آخر يوضح لنا ذلك النمط النفسي الخاص الذي ينتمي إليه نيتشه، بما فيه من افتقار إلى المعقولية، ومن ذاتية متطرفة تسارع بتعميم الأفكار واستخلاص النتائج منها قبل أن تنضج تلك الأفكار أو يثبت الذهن إمكان تحقيقها أصلا.
نصوص مختارة من مؤلفات نيتشه
Unknown page