مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة الطبعة الأولى
حياة نيتشه
1 - الفكر والحياة
2 - وقائع حياته
3 - نيتشه وفاجنر
فلسفة نيتشه
1 - نيتشه الفيلسوف
2 - انقلاب القيم
3 - المعرفة والحياة
4 - الأخلاق
5 - فلسفة نيتشه الاجتماعية
6 - الدين والعود الأبدي
نصوص مختارة من مؤلفات نيتشه
مدخل إلى مؤلفات نيتشه
1 - أصل المعرفة
2 - إلى دعاة إنكار الذات
3 - [أخلاق السادة وأخلاق العبيد]1
4 - العلاء على الذات
5 - وسيلة السلام الحقيقي
6 - المسجونون
المراجع
مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة الطبعة الأولى
حياة نيتشه
1 - الفكر والحياة
2 - وقائع حياته
3 - نيتشه وفاجنر
فلسفة نيتشه
1 - نيتشه الفيلسوف
2 - انقلاب القيم
3 - المعرفة والحياة
4 - الأخلاق
5 - فلسفة نيتشه الاجتماعية
6 - الدين والعود الأبدي
نصوص مختارة من مؤلفات نيتشه
مدخل إلى مؤلفات نيتشه
1 - أصل المعرفة
2 - إلى دعاة إنكار الذات
3 - [أخلاق السادة وأخلاق العبيد]1
4 - العلاء على الذات
5 - وسيلة السلام الحقيقي
6 - المسجونون
المراجع
نيتشه
نيتشه
تأليف
فؤاد زكريا
مقدمة الطبعة الثانية
عشر سنوات مضت منذ أن ظهر هذا الكتاب في طبعته الأولى، عشر سنوات حاسمة في عمر العالم، وفي عمر الوطن، وفي عمر الفرد. في هذه السنوات العشر ازداد العالم تباعدا عن تفكير نيتشه وعن كثير مما يمثله تفكير نيتشه، وازداد وقع القضايا التي أثارها هذا الفيلسوف المنعزل غرابة على الآذان. وعلى الرغم من أن العالم كان يشهد من آن لآخر فترات انتعشت فيها فلسفة نيتشه بعد موته، فإن الشواهد كلها تدل على أن من الصعب أن تصل تعاليمه مرة أخرى إلى مثل هذا الازدهار، أو أن تثير موجة أخرى من موجات الحماسة الجارفة التي مر بها العالم خلال النصف الأول من القرن العشرين، وأكاد أقول: إن نيتشه الذي ظل «مفكرا حيا» حتى أواسط هذا القرن، يتحول الآن تدريجا، وبحركة بطيئة قد لا يشعر بها الكثيرون، إلى «فيلسوف تاريخي».
على أن هذا التحول في موقع نيتشه من العالم المعاصر، أو في موقف العالم المعاصر منه، لا يدفعني إلى أن أعيد النظر في شيء مما قلته عن نيتشه من قبل. فقد ألفت هذا الكتاب وفي ذهني صورة محددة لنيتشه، عرضت معالمها العامة في مقدمة الطبعة الأولى؛ وهي صورة ما زلت أعتقد اليوم أنها أقرب إلى الصواب. ولو كنت قد نشرت هذا الكتاب لأول مرة في أيامنا هذه، لكان من الجائز أن تجيء بعض فصوله أوسع نطاقا وأكثر إسهابا مما هي عليه، ولكني ما كنت لأغير شيئا من الأفكار الرئيسية الموجودة فيه، أو من الموقف العام الذي اتخذته من هذا المفكر. ومن هنا آثرت أن يعاد طبع الكتاب على ما هو عليه؛ فيما عدا بعض التصويبات المطبعية واللغوية الشكلية. •••
ولكن، ماذا عسى أن تكون مبررات القول بأن العالم يزداد تباعدا عن نيتشه يوما بعد يوم، وأن كل عام يمر يزيد من غرابة وقع كلماته على الآذان؟ إن نيتشه كان قبل كل شيء مفكرا حضاريا، ورسالته في الحياة لم تكن رسالة فيلسوف صاحب مذهب نظري، وإنما كانت أساسا رسالة ناقد للحضارة التي يعيشها. وعلى الرغم من كل ما امتازت به نظرته إلى الحضارة الأوروبية المعاصرة له من عمق ومن قدرة على النفاذ إلى أبعد الأغوار، فإنه كان ابنا لحضارة لم تكتمل؛ فنيتشه نتاج أصيل للقرن التاسع عشر، وما كان في وسعه، وهو يعيش في ذلك القرن، أن يصدر حكما دقيقا شاملا على الحضارة الغربية المعاصرة له، لسبب واضح هو أن تلك الحضارة كانت تمر بفترة انتقال إلى عهد جديد لم تكن عناصره قد اكتملت بعد، بل لم يكن بعضها قد ظهرت بوادره أصلا.
ففي القرن التاسع عشر كان النمط الفكري الشائع - في ميدان الفلسفة الحضارية - هو النمط القلق المضطرب، ولم يكن من المستغرب على الإطلاق أن تظهر نماذج شاذة لمفكرين يدعون إلى الفردية المطلقة، أو إلى الفوضوية، أو إلى القومية الضيقة الأفق؛ إذ إن اضطراب التفكير وعدم استقراره كان أمرا طبيعيا في عصر انتقل فيه العالم الغربي من حياة قديمة إلى حياة جديدة، دون أن يدرك المعالم الكاملة لتلك الحياة الجديدة أو يستكشف أبعادها الحقيقية أو يهتدي بوضوح إلى طريقه خلالها. في ذلك القرن اختفت طبقات كاملة - طبقات النبلاء والأشراف والإقطاعيين الوراثيين - وظهرت طبقات جديدة لم يكن لها من قبل أي صوت مسموع - طبقات العمال وأصحاب الأعمال - وكان هذا التغيير الأساسي مقترنا في البداية باختفاء بعض المعالم الثقافية التي كان يرعاها النبلاء، وظهور معالم أخرى أكثر ملاءمة للطبقات الناشئة التي لا تتميز بعراقة الأصل أو بامتداد جذورها في الماضي البعيد. وكان من الواضح أن تحولا ضخما يطرأ بالفعل على حياة الإنسان الأوروبي، ولكنه بدا للكثيرين عندئذ تحولا إلى الأسوأ، وخيل إليهم أن التاريخ يتدهور وأن القيم تنهار، وأن العصر الجديد لن يكون إلا عصر التفاهة والسطحية والابتذال. كان ذلك إذن «عصر تجربة» بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان، ولم يكن من الممكن أن تثمر البذور التي غرست في القرن التاسع عشر إلا في القرن العشرين، بل إن بعضها لم يؤت ثماره كاملة إلى اليوم. وعلى أية حال فإن الرؤية قد أصبحت الآن واضحة، ومعالم الطريق قد استبانت، والتجارب قد تبلورت، وبدأ يتحقق ما كان في القرن الماضي مجرد «مشروع» مبهم.
ولقد كان نيتشه يفخر دائما بأنه يتحدث للمستقبل، وبأن أفكاره لن تفهم إلا بعد مائة عام. وقد تكون بعض اتجاهاته الفكرية سابقة لأوانها بالفعل؛ غير أن موقفه العقلي العام، ونظرته إلى الحضارة الغربية بوجه خاص، تبدو لنا اليوم متخلفة عن ركب العصر إلى حد بعيد. إن الإنسان الأرقى، أو «ما فوق الإنسان»، كما تصوره نيتشه، لن يظهر بوصفه امتدادا وارتقاء للفرد الأرستقراطي المنعزل، بل إن الشواهد كلها تدل على أنه سيظهر من «المجموع»؛ من أولئك الذين كان نيتشه يعدهم عبيدا لا سادة. والصراع الثقافي والأخلاقي والفني في عصرنا الحالي لا يحمل شيئا من آثار «تنبؤات» نيتشه، وإنما يسلك طرقا لم يكن في مقدوره أن يتنبأ بها على الإطلاق.
ومع كل ذلك، فإن نيتشه سيظل دائما مفكرا يقرأ الناس له ويقرءون عنه بشغف واهتمام. ومهما تباعد تيار العصر عن أفكاره الأصلية، فسيظل الناس يجدون متعة في كتابات ذلك المفكر الذي لا يستطيع أحد أن ينكر إخلاصه حتى للقضايا الخاسرة، والذي نادى الإنسان بأسلوب غنائي رائع، وتغلغلت بصيرته النفاذة في أعماق النفس البشرية، وخاطبنا بصراحة لا تخلو من القسوة، وعالج كثيرا من أمراضنا التقليدية المزمنة بطريقة الصدمات العنيفة المفاجئة. إن نيتشه يمثل نمطا فريدا من المفكرين والكتاب، نجد متعة في الرجوع إليه من آن لآخر، وقد نجد في بعض الأحيان صعوبة في الامتناع عن الانسياق وراءه والاستسلام لتياره الجارف، ولكن من علامات الاتزان العقلي أن نلتزم جانب الحذر إزاءه؛ إذ إنه كان - إلى حد بعيد - مراهقا في عنفه ورومانسيته، ولا بد للعقل الناضج أن يتجاوز دور المراهقة الفكرية.
فؤاد زكريا
القاهرة في 15 مارس 1966م
مقدمة الطبعة الأولى
لي مع تفكير نيتشه
Nietzche
قصة ما كنت أرويها للقارئ إلا لعلمي أنها قصة الكثيرين معه؛ فمنذ ما يزيد عن ثلاث سنوات، قدمت بحثا جامعيا بعنوان: «النزعة الطبيعية عند نيتشه»، عرضت فيه فلسفته عرضا حاولت أن يكون موضوعيا إلى أبعد حد. واليوم، حين أعود بذاكرتي إلى هذا البحث، أتساءل: كيف أمكنني أن أوافق نيتشه على آرائه هذه؟ ذلك لأن صوت نيتشه، الذي بدا لي في ذلك الحين معبرا عن موقف الإنسان في عصرنا الحالي تعبيرا أمينا، أصبح اليوم يبدو لي بعيدا عن هذا الموقف كل البعد. أصبح مجرد صدى خافت، لا يلبث أن يتلاشى رنينه في موجات الزمان. وأخذت أفكر في هذا التغير الذي طرأ على نظرتي إلى نيتشه؛ فهل يعقل أن يناقض الإنسان نفسه في مثل هذه الفترة القصيرة إلى هذا الحد؟ ولكنني سرعان ما اهتديت إلى التبرير، ولم يكن ذلك تبريرا لموقفي من نيتشه، بقدر ما كان تبريرا لموقف نيتشه من عالمنا الحاضر.
فما الذي نأخذه اليوم على نيتشه؟ إننا نأخذ عليه، قبل كل شيء، نزعته إلى اللامعقول، وإلى الفردية المفرطة. والأمران مرتبطان؛ ذلك لأن العقل هو أساس اتفاق الناس وتوحيد اتجاهاتهم، وما إن تستقر عقولنا على فكرة معينة، حتى تقف كلها من الفكرة موقفا واحدا. أما المشاعر والانفعالات، فهي بطبيعتها فردية، تتباين من شخص إلى آخر؛ وعلى ذلك فهي أساس للتفرق والتميز. وهكذا نجد الفلسفات العقلية تصطبغ على الدوام بصبغة العمومية، بينما تصطبغ الفلسفات اللاعقلية - أعني المبنية على المشاعر في مقابل العقل - بصبغة فردية. وبالمثل، فمن المحال أن نجد فيلسوفا ينادي بالفردية المطلقة، ويكون ذا اتجاه عقلي، بينما تغلب النزعة العقلية على من يضعون للإنسانية مثلا عامة مشتركة. فوقع كلمات نيتشه يبدو اليوم غريبا على آذاننا لأن نغمته الأساسية هي التي تدعو إلى اللامعقول، وإلى الفرد المطلق. ومع ذلك، فقد حاولت من قبل أن أستخلص من فيلسوف اللامعقولية هذا نوعا من المذهب المترابط المتماسك الأطراف، وأن أكشف الخيط الجامع بين شعاب فلسفته المتفرقة. وعلى هذا النحو تبينت أنني لم أكن متناقضا مع نفسي؛ فقد التزمت جانب المعقول على الدوام، حتى في بحثي لأعنف الفلاسفة نقدا للعقل.
ولكن، هل ينبغي علينا أن نتخذ من نيتشه موقفا كهذا على الدوام؛ أعني أن نستخلص من فلسفته العناصر المشتركة الموحدة الهدف، ونغفل العناصر الأخرى، المتنافرة المتضاربة؟ الواقع أن لهذا التنافر والتضارب ذاته مغزاه العميق. والمهمة الكبرى بالنسبة إلى دارس نيتشه في عصرنا الحالي ليست هي أن يتساءل: هل كان نيتشه فيلسوفا عقليا، فرديا، متناقضا مع نفسه؟ وإنما أن يتساءل: «لم» كان نيتشه فيلسوفا لا عقليا، فرديا، متناقضا مع نفسه؟ فإذا توصلنا إلى مثل هذا التعليل، فعندئذ تكون المشكلة كلها قد حلت.
والحق أن الحملة على العقل كانت في وقت ما مظهرا من مظاهر التحرر الفكري، بل من مظاهر تكريس الفكر من أجل التقدم بالإنسانية؛ ذلك لأن العقل كان في ذلك الحين مبدأ مضادا للحياة، يحمل على الطبيعة الإنسانية، ويحارب الواقع ويدعو إلى الهروب منه، كان ذلك في الوقت الذي ظن فيه أن للعقل مبادئه الثابتة التي ينبغي أن يخضع لها الواقع، بحيث إنه لو ظهر بينهما تعارض كانت مبادئ العقل هي الصحيحة دائما، وكان علينا أن نفسر الواقع تبعا لما تقضي به هذه المبادئ. في تلك الفترة الكلاسيكية كان ينظر إلى العقل إذن على أنه ملكة رفيعة ذات محتوى فطري، مصدره إلهي مباشر؛ فهو ليس قوة تيسر للمرء سبيل السلوك في هذه الحياة، بل هو قوة تعلو على هذه الحياة وتترفع عنها وترسم لها خطتها مقدما. وهكذا أدرك المفكرون الأحرار، في وقت من الأوقات، أن العقل قوة مضادة للطبيعة، تعوق الإنسان عن ممارسة ملكاته وإطلاق قواه في هذا العالم، وتربطه بعالم آخر فيه من الجمود والأزلية والثبات ما لا تطيقه طبيعة البشر، ولا يعرفه الواقع الإنساني؛ ومن هنا كانت حملتهم على العقل، ودعوتهم إلى اللامعقول.
فمثل هذه الدعوة إلى اللامعقول كانت إذن - في الوقت الذي ظهرت فيه - دعوة حرة ترمي إلى أهداف إنسانية خالصة. وموقفنا بإزاء مثل هذه الدعوات لا ينبغي أن يبنى على تلك الثنائية القاطعة، التي تؤكد أن الدعوة إلى العقل خير وإلى اللامعقول شر. فمثل هذا التقويم المطلق يغفل الظروف الخاصة التي مر بها الفكر الإنساني في مختلف عصوره، ويتجاهل أن دلالة الاتجاه إلى العقل قد تغيرت، ويحكم على التاريخ من خلال منظورنا الحالي وحده. وهكذا يكشف لنا مثل هذا التحليل أن النزعات الرومانتيكية في مظاهرها المختلفة - ومن ضمنها تفكير نيتشه في اتجاهه إلى اللامعقول - قد أدت إلى البشرية، بالنسبة إلى عصرها، خدمات جليلة، وساهمت مساهمة كبرى في السير بها إلى الأمام؛ إذ ساعدت على تقويض صرح العقل بمعناه القديم؛ معنى الأزلية والثبات الأبدي، والعلو على الواقع والحياة.
على أنه إذا كان من الخطأ أن تحمل على هذه النزعات من خلال حكم عام مستمد من ظروف عصرنا نحن، فليس أقل من ذلك خطأ أن نتحمس لها حتى نعممها على عصرنا ذاته. فإذا قلنا إن الاتجاه إلى اللامعقول كان في وقت من الأوقات اتجاها إنسانيا سليما. فليس معنى ذلك أن هذا الحكم ينسحب عليه في عصرنا الحالي؛ ذلك لأن الحملة على العقل بمعناه القديم قد أدت إلى نتيجة كبرى، هي إعطاء معنى جديد له، بحيث لم يعد قوة مضادة للطبيعة أو عالية على الواقع، وإنما أصبح هو ذاته تعبيرا عن الإيقاع المنتظم للطبيعة وللواقع؛ فهو قوة تخدم الحياة وتنظمها. وليس قوة مترفعة تفرض عليه من مصدر عال، وإني لأذهب إلى أن الاتجاهات الرئيسية في العلم والفكر الحديث إنما كانت ، في صورتها الأخيرة، تدعيما لهذا المعنى الجديد للعقل.
وحين يصبح للعقل مثل هذا المعنى، وحين يغدو وسيلة تعين على تقدم الإنسان لا عائقا يقف في وجه هذا التقدم، فعندئذ لا يعود ثمة مبرر للحملة على العقل وللعودة إلى مبدأ اللامعقول مرة أخرى، بل تغدو مثل هذه الحملة مظهرا من مظاهر التأخر الفكري فحسب.
وفي ضوء هذا التحليل ينبغي أن يكون موقفنا من تفكير نيتشه؛ فعلينا أن ندرك أن نزعته اللاعقلية كانت تبدو ضرورية، بالنسبة إلى عصره وإلى الفهم السائد فيه وقبله، للعقل. أما بالنسبة إلى عصرنا الحالي، فلا بد أن نقابل مثل هذه الحملة بالنقد.
ومثل هذا يمكن أن يقال على نزعة نيتشه إلى الفردية؛ ففي عصور التحول الكبرى - ولا جدال أن القرن التاسع عشر كان من هذه العصور - تضيق النفوس الحرة بالمثل السائدة، ولكنها لا تدري إلى أين تسير، فلا تجد أمامها إلا الترفع والانعزال والدعوة إلى الفردية؛ فالاتجاه الفردي، وتمجيد الأرستقراطية والترفع، ليس إلا تعبيرا عن هذا الضيق بالأحوال السائدة. ولا شك في أن هذا التعبير سلبي تماما، فضلا عن أن نيتشه قد بالغ فيه كل المبالغة، ومع ذلك فدلالته الحقيقية هي السخط على كل ما هو شائع، والهرب من الأوضاع الباطلة، والاعتصام في قلاع الفردية والأرستقراطية. وقد يكون لمثل هذا الحل ما يبرره في فترة معينة، ولكن تعميمه على كل الفترات والعصور، والاعتقاد بأنه سيظل هو الحل الأمثل لمشكلة الإنسان الفكرية؛ يعني أننا قد حكمنا على الإنسان بالسلبية إلى الأبد.
ولنستخلص النتيجة الضرورية لكل هذه المقدمات؛ فنيتشه قد سار في الاتجاه إلى اللامعقول، وإلى الفردية، لأن عصره كان يقتضي منه ذلك. وإذن فنيتشه هو ابن العصر، مهما قال عنه أصحاب النزعات الأدبية والشعرية في التفكير، ومهما وصفه كهنة الفلسفة، مثل كارل ياسبرز
K.Jaspers ، بأوصاف الاستثناء المطلق. وإذا كنا نحس في كل صفحة مما كتبه بنفوره من عصره، وبعده عن ظروف الجماعة التي تعيش حوله، وبحثه عن مثله العليا في عصور ماضية بعيدة، فما ذلك إلا لأن الصورة المنفرة التي رسمها عصره في أذهان مفكريه قد أرغمته على أن يهرب منه، ويحلق بتفكيره بعيدا عنه.
وأخيرا، فقد قلت في مستهل هذه المقدمة إن قصتي مع نيتشه هي قصة الكثيرين. ولست أشك في أن المرء، إذا بدأ حياته العقلية بداية سليمة، سيشعر حتما بحاجته إلى مفكر ثائر على الأفكار والمثل السائدة، يدعو إلى تحطيمها بقسوة وعنف، ولا يعرف في ذلك توفيقا أو مهادنة؛ وعندئذ لن يجد المرء خيرا من نيتشه في ثورته، ولن يجد عونا له خيرا من مطرقته التي هدم بها أصنام العصر؛ غير أن فترة الثورة هذه تعقبها - في كل تطور طبيعي سليم - فترة البناء الإنساني الهادئ. وعندئذ لن يجد المرء في نيتشه مرشدا له؛ إذ إن قدرته كلها تنحصر في حملاته ذات النتيجة السلبية وحدها. فإذا سار تطورنا الفكري في طريقه الصحيح، فلا جدال في أننا لن نقنع بما قال به نيتشه طويلا، وسنبحث عن مثل إيجابية أخرى لا يرشدنا تفكيره إليها، ومع ذلك سنظل نذكر دائما صيحة الاحتجاج الأولى التي لا بد أن يبدأ بها كل تطور عقلي سليم.
فؤاد زكريا
حياة نيتشه
الفصل الأول
الفكر والحياة
شيء واحد اتفق عليه كل من كتبوا عن نيتشه، وأكده هو ذاته في كتاباته؛ وأعني به أن فلسفته قد امتزجت بحياته وأصبحت تكون قطعة منها، وأنه يتفلسف بكيانه كله، وبوجوده الكامل، ولا يتفلسف نظريا، أو يفكر في مشاكل تجريدية جامدة فقدت صلتها بالحياة. وهكذا كان نيتشه يمثل نوعا فريدا من الفلاسفة؛ نوعا يجعل حياته في هوية مع فكره، ويقضي على كل حد فاصل بينهما، ولا يثق بأية مشكلة عقلية لا تسري مع الحياة في تيارها، ولا تنبع من أعماق شخصية من يفكر فيها.
ولسنا ندعي أننا سوف نخرج على هذا الإجماع، ونقرر أمرا مخالفا لما شهد به نيتشه ذاته، وأكده كل الباحثين عنه؛ غير أننا نود أن نوضح المعنى الحقيقي لهذا الاتفاق بين حياة الفيلسوف وتفكيره، وأن نستخلص الدلالة الصحيحة لتلك الفلسفة التي تنبع عن الحياة، وتتقلب معها في كل ما يطرأ عليها من تغيرات.
ذلك لأن القول بأن فكر الفيلسوف في هوية مع حياته، وبأن كل الحدود الفاصلة بينهما قد أزيلت، هذا القول لا يوضح الأمور كثيرا؛ فمن الممكن أن تكون حياة الفيلسوف سائرة في مجراها الطبيعي، ويكون تفكيره تابعا لهذه الحياة، مستمدا كله منها، ومما اكتسبه من خبرات فيها، ومن الممكن أيضا أن يكون تفكير الفيلسوف هو الأصل، وتكون حياته كلها دائرة حول محور هذا التفكير؛ في الحالتين تكون حياة الفيلسوف هي وتفكيره شيئا واحدا، ولكن شتان ما بين الموقفين.
إن الشخصية الأولى شخصية ذات تجارب زاخرة، وحياتها مليئة بالخبرات الواقعية التي تزيدها عمقا على الدوام، وتظل هذه التجارب والخبرات منطلقة في طريقها الطبيعي، لا يعوقها شيء، ولا يحول بينها وبين الحركة الدائمة حائل، ومن خلال هذه التجارب الممتلئة المتجددة، ينمو تفكير الفيلسوف، وعليها يتغذى كأي كائن حي. فإذا ما تسنى لك أن تطلع على هذا التفكير مدونا، لما وجدته إلا ثمرة لتجارب الفيلسوف التي تستمد من الحياة التلقائية وتكتسب من الواقع المتجدد.
أما الشخصية الثانية فهي ضحلة التجارب، صلتها بالواقع الحسي هزيلة، وخبرتها بالحياة سطحية؛ غير أن هذا الافتقار إلى التجربة الحية يعوضه عندها تجسيم للمشاكل الفكرية وإضفاء الحياة عليها؛ فالمفكر في هذه الحالة منعزل عن الحياة، زهدا فيها أو عجزا عن مجاراتها، ولكنه إذ فقد صلته بما هو حي واقعي، يخلق حياة جديدة من فكره، وينفخ في مشاكله العقلية من روحه. فإذا بالحياة تنبض في هذه المشاكل. وإذا بها كائنات حية يتعامل معها كما لو كان يتعامل مع الأحياء ذاتهم، وهنا أيضا تكون حياة الفيلسوف وتفكيره شيئا واحدا؛ غير أن الأصل هنا هو الفكر، وما الحياة إلا صفة أضفاها هو على هذا الفكر، وظل تابع له.
وأحسب أن الناس إذا صادفوا مفكرا يوصف تفكيره بأنه قطعة من حياته، وبأنه ساير هذه الحياة ولم ينفصل عنها، كان أول ما يتبادر إلى ذهنهم هو المعنى الأول، وظنوا أنهم إزاء شخصية استمدت فلسفتها من واقع حياتها الزاخر بالتجارب . وهذا بالفعل هو أول ما يطرأ على الأذهان كلما رددت أمامها هذه العبارة العامة، القائلة إن فلسفة نيتشه إنما استمدت من حياته ومن وجوده الشخصي؛ غير أن في هذا سوء فهم ينبغي أن نحذر الوقوع فيه؛ فنيتشه في واقع الأمر فيلسوف من ذلك النمط الآخر، الذي جعل فكره حيا عن طريق إثراء الفكر وبعث روح الحياة فيه، لا عن طريق إثراء الحياة واستخلاص الفكر من حكمة تجاربها. وهو لم يقف أمام الحياة وجها لوجه، بل وقف أمام أفكار ومشاكل أحياها ذهنه، وحلت لديه محل الواقع المباشر الذي نتعامل معه في تجربتنا الحية، وكانت الفكرة الواحدة لديه قادرة على أن تبعث فيه الغضب والثورة أو الراحة والسرور، وكل المشاعر التي لا تبعثها فينا عادة إلا المواقف الواقعية الحية.
وهنا نجد أنفسنا إزاء نتيجة غريبة كل الغرابة؛ ذلك لأن هذا المفكر الذي كان يسخر من كل فيلسوف تجريدي، ويؤكد أن أحط صور الإنسان وأكثرها تشويها هي صورة «الإنسان النظري»؛ هكذا المفكر نظري بدوره، تجريدي هو الآخر، وتفكيره إنما هو وجه من أوجه نشاط عقله الخالص؛ ألم نقل إن تجاربه الحية هزيلة، وإن حياته كلها كانت تدور حول محور الفكر، الذي هو أساسها، وهو الذي يعطيها معناها؟ وماذا يكون الإنسان النظري، إن لم يكن إنسانا تتلون حياته بلون مشاكله العقلية، وتدور كلها حول مركز واحد، هو الفكر المنفصل عن الواقع؟ ...
إن نيتشه قد وجه نقده اللاذع إلى أولئك الذين يتفلسفون بين جدران أربعة، وعلى كرسي وثير ... فأين كان يتفلسف هو؟ ألم يكن أكثر الناس عزلة وتفردا؟ ألم تكن حياته كلها تسير في طريق موحش، يزداد بعدا عن الناس بالتدريج؟ ألم يكن يفخر بانطوائه، وبترفعه؟ ففي أي شيء يفترق إذن عن تلك العقول التي كانت تنحصر بين أربعة جدران، وتحيا في جو مفارق لواقع الناس؟
تلك هي النتيجة الغريبة التي ينتهي إليها تحليلنا السابق. ولكن أكان نيتشه بحق متناقضا مع ذاته إلى هذا الحد الصارخ؟ وهل كان هو الآخر إنسانا نظريا له نفس الصورة المقيتة التي حمل عليها ونفر منها؟ الحق أننا لا نهدف إلى إثبات ذلك، ولا ندعي أن طريقة نيتشه وطريقة كنت
Kant
في التفكير تنتميان إلى نمط واحد، بل إن اختلافهما الأساسي أمر مشاهد لا يحتاج إلى دليل. فكيف نخرج إذن من هذا الموقف المحير، الذي نرى فيه نيتشه من جهة شبيها بالمفكرين النظريين، لترفعه التام على كل ما ينتمي إلى واقع الناس بسبب، ونراه من جهة أخرى مختلفا عن المفكرين النظريين، بما يضفيه على مشاكله من حركة دائمة وانفعال حي؟
إن حل الإشكال إنما يكون في تلك التفرقة التي وضعناها من قبل بين نوعين من التفكير المرتبط بالحياة: نوع يرتبط بالحياة المليئة الزاخرة، التي تتوالى تجاربها لتكسب التفكير عمقا مستمدا من خبرة عينية واقعية، ونوع تنحصر حياته في مشاكله ذاتها، ويجسد هذه المشاكل ليجعل منها عناصر كاملة للحياة.
هذا النوع الأخير هو الذي ينتمي إليه نيتشه، وهو نوع إذا تعمقنا في تحليله وجدناه يحتل موقعا وسطا بين التفكير النظري الخالص، والتفكير العيني الحي؛ فهو نظري لأن العالم الذي يحيا فيه هو عالم العقل، ولكنه أيضا عيني، لأنه لا يتأمل مشاكله بتلك النظرة الهادئة الباردة التي يتأملها بها المفكر النظري الخالص، ولا يشاهد أفكاره كما يشاهد المرء عرضا مسرحيا لا تربطه بما يجري فيه أية صلة عميقة. وإذن، فإن شئت أن تجري مقارنة بين كنت ونيتشه، لكان لزاما عليك أن تنفي عن العلاقة بينهما صفة التضاد الكامل؛ إذ هما معا فيلسوفان يتعاملان مع مشاكل عقلية صرف يستمدان، أولا تفكيرهما من حياة مليئة وتجارب واقعية عميقة. وكل ما في الأمر هو أن أولهما يتأمل مشاكله بعقل محايد، ويشاهدها وهو في موقف المتفرج، أو الحكم الذي يلاحظ عن بعد دون أن يتدخل في الصراع. أما الآخر، فهو طرف أصيل في ذلك الصراع، وهو مندمج فيما يحاول أن يحله من المشاكل على نحو تصبح معه هذه المشاكل هي وحدها قوام حياته. ومن جهة أخرى. فإذا أجرينا مقارنة بين تفكير نيتشه وبين مفكر ينتمي إلى ذلك النمط الآخر، الذي توجه حياته المنطلقة تفكيره وتحل له مشاكله، لوجدنا أن حياة نيتشه لم تكن هي التي تقود تفكيره، بل كان تفكيره هو الذي يقود حياته. وبينما يكون في وسعنا في الحالة الأخرى أن نلقي ضوءا ساطعا على الفكر إذا درسنا الحياة، فإننا في حالة نيتشه نستطيع - على العكس من ذلك - أن نفهم كل تفاصيل الحياة إذا درسنا الفكر.
ومجمل القول إن تلك الهوية القائمة بين الحياة والفكر عند نيتشه، لا تعني أن تفكيره يستمد من حياته، وإنما تعني أن حياته هي التي تستمد من تفكيره.
هذه الحقيقة الأولى، التي حرصنا على إيضاحها في مستهل حديثنا عن حياة نيتشه، ترسم لنا المنهج الذي ينبغي أن نتبعه في دراسة هذه الحياة؛ فالوقائع الخارجية في حياة نيتشه قليلة. وليست لها أهمية خاصة. وأهم وقائع تلك الحياة ترتد في نهاية الأمر إلى مشاكل فكرية. وعلى ذلك فسوف نمر سريعا بتلك الحوادث الخارجية، حتى نفسح المجال لبحث المشاكل الحقيقية التي تحكمت في حياته، وطبعت فلسفته كلها بطابعها الخاص.
الفصل الثاني
وقائع حياته
في أواسط القرن التاسع عشر، وعلى التحديد في 15 أكتوبر من عام 1844، ولد نيتشه في ريكن
Rœcken
وهي بلدة صغيرة قرب ليبتسج. وأهم ما ينبغي أن نذكره عن أسرته أن أجداده لأبيه؛ أعني عائلة نيتشه، كان معظمهم من رجال الدين، وكذلك تنحدر أمه من أسرة إيلر
Œhler
وهي بدورها أسرة شغل كثير من أفرادها مناصب دينية. وهكذا كان الدين يلعب دورا أساسيا في طفولة ذلك الذي أسمى نفسه «عدو المسيح»، والذي كرس جهد حياته ليوجه إلى الروح الدينية أعنف نقد تعرضت له خلال ألفي عام.
ويبدو أن وفاة أبيه وهو في سن الخامسة جعلته يرسم له صورة أسطورية، ويمتدح فيها صفات لا شك أنه لم يلمسها فيه عن كثب؛ إذ لا يعقل أن يكون قد حلل شخصية أبيه وهو دون الخامسة! وعلى أية حال، فقد عاش نيتشه بعد وفاة أبيه في بيئة نسائية خالصة، ولا بد أن هذه البيئة لم تكن تروق له ، إذا حكمنا على الأمر في ضوء حملة نيتشه العنيفة على المرأة فيما بعد.
وفي عام 1858 التحق نيتشه بمدرسة بفورتا
، ثم غادرها إلى جامعة بون
Bonn
بعد ست سنوات، وعندما انتقل أستاذه في اللغويات ريتشل
Ritschl
إلى ليبتسج، تبعه نيتشه إليها. وخلال تلك الفترة بدأ اتجاهه يتبلور في دراسة اللغويات والآداب الكلاسيكية، وأخذ ينصرف عن اللاهوت، بعد أن كان في الأصل ينتوي التخصص فيه. وظل نيتشه في الجامعة أربع سنوات، تخللتها فترة خدمة عسكرية انتهت بحادثة. ومن العجيب أن يختار نيتشه في نفس العام الذي أنهى فيه دراسته الجامعية أستاذا لفقه اللغة في جامعة بازل، بعد توصية من أستاذه ريتشل، الذي وصفه لدى المسئولين هناك بأنه عبقري. وهكذا بدأت مرحلة شاذة في حياة نيتشه، هي مرحلة الأستاذية الجامعية.
وفي هذه الفترة اهتدى نيتشه إلى مصدرين أساسيين من المصادر التي استقى منها تفكيره، ودارت فلسفته حولها، إما بالعرض أو بالنقد؛ وأعني بهما شوبنهور
Schopenhauer ، وفاجنر
Wagner . أما شوبنهور فسوف يتسع المجال لبحث مدى تأثيره في نيتشه خلال بحث الآراء الفلسفية لهذا الأخير، وأما فاجنر، فسوف نفرد له جزءا خاصا من هذا العرض لحياة نيتشه.
وحين نشبت الحرب السبعينية بين ألمانيا وفرنسا، ساهم نيتشه فيها أولا، فلم يفد منها سوى سلسلة من الأمراض التي انتقلت إليه بالعدوى من الجنود المصابين، وظل يقاسي منها طوال حياته. وكان نيتشه في أول الأمر متحمسا لبني وطنه، ولكن حين أدرك أن الألمان هم الذين بدءوا العدوان حمل على هذه الحرب ونتائجها، وعلى نمو روح التعصب القومي للألمان، واحتقارهم للفرنسيين، الذين كان نيتشه دائم الإعجاب بهم.
ولم يكن نيتشه متحمسا حين عاد لمتابعة إلقاء محاضراته في الجامعة؛ ذلك لأن محاضراته لم تلق النجاح الكافي، بل إن أبحاثه الفيلولوجية المختلفة في تلك الفترة لم تصادف اهتماما كبيرا، وكذلك الحال في أول كتاب له، وهو «ميلاد المأساة من روح الموسيقى». وبدأت وطأة الأمراض تشتد عليه؛ مما جعله يتوقف في فترات متقطعة عن العمل بالجامعة.
ويبدو أن نيتشه كان في هذه الفترة يوفي دينا لأساتذته ؛ ففيها كتب عن شوبنهور، وعن فاجنر، وعن بعض معاصريه، في تلك المجموعة التي أطلق عليها اسم «خواطر في غير أوانها»، فضلا عن الكتاب السابق الذي ألفه متأثرا بفاجنر.
على أنه حين بدأ ينقطع عن الجامعة، ويطوف أرجاء إيطاليا وسويسرا، كان قد تجاوز مرحلة التأثر المباشر بشوبنهور وفاجنر، وبدأت فترة من التأليف العقلي النقدي، ظهر فيها تحرره بوضوح، وبدأ فيها يوجه نقده إلى كل مقومات العصر، فظهر له كتاب «أمور إنسانية، إنسانية إلى أقصى حد» في جزأين، بدأ الأول في سنة 1876، وانتهى من الثاني في سنة 1879. وفي العام التالي، وفي جو فينيسيا المتحرر، كتب نيتشه «الفجر»، ثم بدأت فترة من التأليف الخصب، ظهر له فيها «العلم المرح» (1882)، و«هكذا تكلم زرادشت» (1883-1885)، و«بمعزل عن الخير والشر» (1885)، و«أصل نشأة الأخلاق» (1887). وفي خلال كل ذلك، كان يعد مواد كتابه الأكبر الذي كان ينوي فيه تدوين خلاصة فلسفته بطريقة منهجية منظمة، والذي لم تتح له فرصة إتمامه وتنسيقه، فنشر كما تركه ضمن مؤلفاته المختلفة؛ وأعني به كتاب «إرادة القوة» (1884-1888). وحتى العام الأخير من حياته الواعية، ظل نيتشه يؤلف بغزارة، فأخرج رسالتين عن فاجنر، هما قضية فاجنر، ونيتشه ضد فاجنر. وانتهى عهده بالتأليف بكتاب «هو ذا الرجل!
Ecce homo » الذي عرج فيه على شخصيته هو، فتناولها هي وكتاباته بالتحليل، وكأنه لم يشأ أن ينتهي من التأليف دون أن يعرض على الناس رأيه في نفسه.
وعندما وصل تفكيره إلى هذه القمة، وبلغ في نقده أقصى الحدود التي يمكن ذهنه أن يبلغها، لم يقو عقله على المضي في طريقه، فإذا بأعراض الجنون الحقيقية تظهر عليه؛ ففي ديسمبر سنة 1888
1
وصلت منه إلى أصدقائه خطابات بإمضاء «نيتشه - قيصر»، وتلقت كوزيما - زوجة فاجنر - خطابا منه يقول فيه: «أريان، إنني أحبك. ديونيزوس» (وهو اعتراف سنفسره فيما بعد)، وبينما كان يسير في شوارع تورين، شاهد فرسا يضربه صاحبه ضربا أليما، فألقى بنفسه عليه ليحميه، ثم سقط على الأرض صريع الجنون. وقضى نيتشه ما يقرب من اثني عشر عاما في فيمار
Weimar
بعيدا كل البعد عن عالم العقلاء، إلى أن مات في 25 أغسطس سنة 1900.
ومن الظواهر المؤسفة أن جنون نيتشه الأخير قد استغل أسوأ استغلال، فذهب بعض الكتاب إلى أن مؤلفاته كلها تتسم بطابع الجنون، وأن اللوثة العقلية تظهر فيها كلها - بدرجات مختلفة - منذ البداية. وليس هناك أدنى شك في أن حياة نيتشه لو لم تكن قد انتهت على هذا النحو؛ أعني لو كانت قد انتهت مثلا بحادثة وقعت له في عام 1888، لما خطر هذا الاتهام على بال أحد؛ ذلك لأن البحث الموضوعي الدقيق لكتابات نيتشه لا يؤدي إلى أي تأييد لهذا الادعاء الباطل. وكل ما في الأمر هو أن خصائصه النفسية، التي كانت تنعكس بوضوح على كتاباته، كانت ذات طابع فريد؛ ومن من كبار الكتاب أو الفنانين لم يكن له طابع نفسي فريد؟ إن العزلة القاتلة التي عاش فيها نيتشه قد صبغت أسلوبه بصبغة خاصة، وشعوره بالوحدة قد أضفى على كتاباته نوعا من الترفع والتعالي؛ غير أن هذا كله ليس جنونا على الإطلاق، وما هو إلا تعبير عن النمط النفسي الخاص الذي ينتمي إليه نيتشه، وهو نمط مألوف بين العقلاء، بل بين الكثيرين من أعمق العقلاء تفكيرا.
والحق أن المرض بوجه عام كان يؤثر دائما في نيتشه تأثيرا عكسيا؛ أعني أنه كلما اشتدت عليه وطأة المرض، كان يدعو إلى إنسانية سليمة صحيحة، وكانت نغمة الصحة والقوة تزداد وضوحا في كتاباته. قد يكون هذا تعويضا، ولكنه لا يؤثر مطلقا في قوة الدعوة وروعة الهدف ذاته.
بل لقد كان نيتشه يحاول أن يدخل أمراضه، حتى أكثرها ارتباطا بالناحية العضوية، في عداد الظواهر الواعية، ويدرجها ضمن عناصر حياته الشعورية، فلا يرى المرض «سببا» لاتجاهات معينة يتبعها في كتاباته، بل «نتيجة» لهذه الاتجاهات.
2
ومع اعترافنا بمبالغته في هذا الحكم المطلق، فإننا نستطيع أن نجد له مع ذلك مبررا فيما قلناه من قبل، من أن حياة نيتشه كلها كانت تدور حول فكره، وأن مشاكله الفكرية هي عناصر هذه الحياة، وهي أشخاصها، وهي التي كان في وسعها أن تعلو أو تهبط بها؛ فمثل هذا الشخص الذي كانت مشاكله قادرة على أن تثير فيه مختلف الانفعالات التي تثيرها فينا المواقف الحية، لا يستبعد أن تؤدي به هذه المشاكل ذاتها - في بعض الأحيان - إلى المرض أو الصحة، وفي هذه الحالة يكون المرض نتيجة لفكره الواعي، لا سببا في توجيه ذلك الفكر في اتجاه معين. ولنضرب لذلك مثلا: ففي الفترة التي دعاه فيها فاجنر إلى حضور أعياد بايرويت
Bayreuth ،
3
والتي كان نيتشه فيها قد بدأ يفكر بفن فاجنر، كان يشعر دائما بغثيان وصداع أليم، وكثيرا ما كان يعتذر عن الحضور لمرضه. وليس من المستبعد أن تكون هذه الأعراض ذاتها - في مثل هذه القضية النفسية الحساسة الشفافة - «نتيجة» لتقزز عقلي بدأ يشعر به نحو أعمال فاجنر، لا سببا له؛ بل إن في وسع المرء أن يمضي إلى ما هو أبعد من ذلك فيرى في جنونه الأخير تعبيرا آخر عن هذه الظاهرة؛ ذلك لأن الحياة التي تتخذ كل عناصرها من مشاكل فكرية صرف، لا بد أن تعجز عن المضي في طريقها إذا وصلت هذه المشاكل إلى الحد الذي لا يمكنها أن تتجاوزه. والحق أن نيتشه في نهاية فترة تفكيره الواعي كان قد وصل في تفكيره إلى حد لا يستطيع أن يمضي بعده خطوة واحدة؛ فهو قد حلل نفسه وحياته تحليلا عميقا، ولخصها كلها في كتبه الأخيرة. وهو قد وصل في تفكيره إلى النقطة التي لا يكاد المرء يتصور بعدها مزيدا بالنسبة إليه؛ فهو يقف الآن ضد المسيح، وهو يمثل الدعوة الإيجابية إلى الحياة في مقابل الدعوة السلبية إلى التخلي عن الحياة. وحين تصل المشاكل الفكرية - أعني عناصر حياته - إلى نقطة التوتر هذه، يكون الانفجار أمرا محتوما. وهكذا كان الجنون.
وعلى هذا النحو يبدو الجنون «نتيجة» منطقية لتطور لا بد منه.
ولسنا ندعي أن هذا التفسير هو وحده الصحيح، أو أنه يعلل كل الوقائع، ولكنه لا يبدو مستحيلا إذا فهمت حياة نيتشه على النحو الصحيح؛ حياة لا قوام فيها إلا للمشاكل الفكرية، ولا يستطيع أن يرتفع بها شيء أو يهبط بها شيء ما عدا الأفكار.
وفي ضوء هذه الفكرة ذاتها سوف ندرس بشيء من التفصيل ما نعتقد أنه الواقعة الأساسية في حياة نيتشه - وهي بطبيعة الحال واقعة فكرية بدورها - وأعني بها علاقته بفاجنر؛ ففي هذه العلاقة سوف نجد تأييدا آخر لما نذهب إليه من تركز حياة نيتشه حول مشاكله العقلية وحدها؛ إذ إن تقلبات هذه العلاقة، وما نجم عنها من سعادة أو شقاء أحس بهما نيتشه خلال حياته، إنما كانت تخضع لنظرة «عقلية» خاصة عند نيتشه، بحيث لا تبدو تلك الواقعة الرئيسية في حياته إلا على صورة مشكلة فكرية فحسب.
الفصل الثالث
نيتشه وفاجنر
في نوفمبر سنة 1868، وفي خلال إقامة قصيرة لفاجنر في ليبتسج، قيل له إن هناك شابا ألمانيا شديد الإعجاب بموسيقاه، يحفظ مقطوعات عديدة من إنتاجه الأخير (في ذلك الوقت) وهو «أساطين الطرب
Die Meistersinger »، فأبدى فاجنر رغبته في مقابلة هذا الشاب المتحمس له. وفي الثامن من نوفمبر، تقدم ذلك الشاب لمقابلته وصافحه ذاكرا اسمه «فريدرش نيتشه».
وفي تلك الفترة، كان نيتشه في مستهل حياته العقلية، يشق طريقه بعزم فتى في الرابعة والعشرين. أما فاجنر، فكان قد اقترب من نهاية حياته الفنية، وأتم التعبير عن ذاته أو كاد، ولم يعد يعرف الهجوم العنيف ولا الثورة الهوجاء، بل انتهى إلى هدوء ساخر لا يخلو من استسلام، عبرت عنه «أساطين الطرب» أحسن تعبير. كان الأول لم يزل مغمورا، لا يعرفه أحد، وإن يكن شديد الثقة بمستقبله. أما الثاني فكان اسمه على كل لسان، ومجده الماضي يكفيه في مستقبل حياته.
على أن التفاهم سرعان ما ساد بين الرجلين، ولم تكن الموسيقى وحدها هي مصدره، بل جمع بينهما الإعجاب المشترك بفلسفة شوبنهور، وبتفسيره الفني للحياة وللعالم. وهكذا تقابل الرجلان مرة أخرى في تريبشن
Triebschen
في العام التالي، وتكررت مقابلاتهما في ذلك المكان الذي اتخذه فاجنر مهبطا لوحيه. ووجد نيتشه في فاجنر فنانا أحيا آراء شوبنهور النظرية وحققها عمليا، ووقفت لديه الموسيقى مع الفكر جنبا إلى جنب، واجتمع الشعر والنغم في دراماته الموسيقية ، على نحو يذكره بما كان في «التراجيديا» اليونانية من فن متكامل، وهكذا كتب نيتشه إلى صديقه إرفين روده
Erwin Rhode
يقول: «... إن ما أتعلمه وأراه وأسمعه وأعقله هنا شيء يفوق الوصف. ولتصدقني إذا قلت لك إن شوبنهور وجيته، وإسخيلوس وبندار، ما زالوا أحياء.» ومن جهة أخرى أعجب فاجنر وزوجته كوزيما بذلك الشاب المتحمس، ووجداه يفوق في ثقافته وعلمه كل من دخل في دائرة معرفتهما، وأدرك فاجنر أنه في حاجة إلى مثل هذه العقلية الفنية المتحمسة، التي تستطيع أن تأتي بأقوى الدعامات لآرائه الفنية في ميدان الفلسفة والفكر. وهذا بالفعل هو ما حدث في بداية الأمر؛ فقد ألف نيتشه كتابه الأول «ميلاد المأساة من روح الموسيقى»، محاولا فيه أن يهتدي إلى الصلة بين الدراما الفاجنرية والمأساة الإغريقية، ويدعو فيه إلى نهضة متكاملة في الحياة الحديثة، يؤدي فيها فن فاجنر وفلسفة شوبنهور الدور نفسه الذي أداه فن إسخيلوس في حياة اليونان القديمة، ويحلم بعصر تسوده الغريزة المنطلقة، وتخفت فيه أضواء العقل الخالص، الذي أضفى على حياة الإنسان لونا باهتا.
وبقدر ما لقي الكتاب في دائرة فاجنر من ترحيب، فإنه أخفق في لفت أنظار الباحثين خارج هذه الدائرة؛ إذ تجاهله النقاد تجاهلا يكاد يكون تاما، ووصفه القليلون الذين انتبهوا إليه بأنه «سنتور»
1
مشوه لا وحدة فيه ولا ارتباط. وهذا ما كان يحس به نيتشه ذاته، حين صرح في كتاب إلى روده، في سنة 1871، بأنه يخشى «ألا يقرأ علماء اللغة ذلك الكتاب لما فيه من موسيقى، وألا يقرأه الموسيقيون لما فيه من علم لغة، وألا يقرأه الفلاسفة لما فيه من موسيقى وعلم لغة!»
على أن التفاهم بين الرجلين لم يدم طويلا، وما كان له أن يدوم. وكم قيل في تفسير القطيعة بينهما من تعليلات، وتعصب كل باحث لرأيه الخاص، ظانا أنه قد أتى بالتعليل الأوحد. ولكن الواقع أنه لا يستبعد، إذا كنا بصدد شخصية معقدة كشخصية نيتشه، أن يكون لكل من هذه التعليلات نصيب من الصحة.
وأغرب هذه التعليلات هو التعليل النفسي؛ فقد تبين في نهاية الأمر ، وفي الوقت الذي وقف فيه نيتشه على حافة الجنون، أنه كان يحب كوزيما زوجة فاجنر، وتصور أنها هي أريان، وهو ديونيزوس، في الأسطورة اليونانية، وكتب إليها: «أريان، إنني أحبك!» ولم تكن إشارته الرمزية في كتبه السابقة عن أريان وديونيزوس مفهومة من قبل، ولكنه حين أفلت منه زمام عقله الواعي، وكشف عن هذا الحب الصامت القديم، قد أوضح معنى تلك الإشارات على نحو لا يدع مجالا للشك في أن حبه لكوزيما قد لعب دورا هاما في حياته النفسية. فإذا أضفنا إلى ذلك قوة النزعة الذاتية لدى نيتشه، وهي النزعة التي تجعله يحكم على العالم وعلى الآخرين تبعا لشعوره الخاص نحوهم، لوجدنا أنه ليس من المستبعد على الإطلاق أن تكون كراهيته التالية لفاجنر تعبيرا غير مباشر عن حبه لزوجته، أو إحساسا منه - كما صرح في بعض الأحيان - بأن فاجنر لا يستحق هذه المرأة التي لم يصادف بين النساء من تعادلها ذكاء وجرأة. ليس لنا إذن أن نرفض هذا التعليل؛ إذ تنهض به في كتابات نيتشه ذاتها شواهد قاطعة. ولكن ليس لنا في نفس الوقت أن نعده التعليل الوحيد؛ فقد كان لا بد من عوامل أخرى تتضافر مع عامل التطلع الخفي إلى كوزيما، لتؤدي بنيتشه إلى حملته العنيفة على فاجنر، وكان لا بد من مبررات عقلية أخرى، يستطيع أن يصرح بها على الأقل، أو يستطيع أن يبرر بها لعقله الواعي هذا التغير الذي طرأ على شعوره نحو فاجنر. فلنمض إذن في بحثنا ملتمسين تعليلات أخرى لهذه القطيعة.
في الوقت الذي وصل فيه فاجنر إلى قمة المجد، ونجح في بناء مدينة موسيقية كاملة على النحو الذي تخيله طيلة حياته في بايرويت
Bayreuth ، وبدأ يحقق من المشروعات ما كان يبدو قبل ذلك خيالا واهما، كتب نيتشه في الجزء الرابع من كتابه «خواطر في غير أوانها» مقالا لخص فيه كل ما كان يجذبه إلى فاجنر من قبل، هو مقال «رتشارد فاجنر في بايرويت». والحق أن أحدا لم يمدح فاجنر ولم يمجده مثلما فعل نيتشه في هذا المقال . ويبدو أن نيتشه كان ينبه فيه فاجنر إلى ما كان ينتظره منه؛ فقد كان ينتظر تقدما شاملا وإصلاحا عاما في كل أوجه الحياة البشرية، من أخلاق وسياسة وعلاقات اجتماعية؛ إذ إن المسرح صورة مصغرة للمجتمع بمختلف مجالاته، وفيه تقدم لمشكلة الحياة حلول لو أحسن اختيارها لكان أثرها على الإنسانية كلها عظيما. وهكذا تستطيع بايرويت أن تعيد لنا عهده الأولمب، ويستطيع العبقري الذي شادها أن يخاطبنا بلغة شاملة لا توجه إلى جماعة أو شعب معين، بل إلى البشرية كلها. على هذا النحو سار نيتشه في مؤلفه هذا عن فاجنر، ولكن هل كان هذا كله مدحا فحسب؟ الحق أنه، كما قلنا، تعبير عما يتوقعه نيتشه من فاجنر، لا عما قام به فاجنر بالفعل. والدليل على ذلك أنه في نفس الوقت الذي كان فيه فاجنر يحتفل بأعياد بايرويت الأولى، كان نيتشه قد انطفأت حماسته وتبخر إعجابه.
ذلك لأن نيتشه حين اهتدى إلى ذاته، وعرف الطريق الذي يتعين عليه أن يسلكه، أدرك أن فاجنر عاجز تماما عن أن يقدم إلى البشرية شيئا مما يريده هو. لقد كان نيتشه يريد انقلابا في الأخلاق، وفي الفكر، وفي الفن، وفي كل ما يقدسه الإنسان الحديث من قيم، فأين فاجنر من كل هذا؟ لقد شاهد نيتشه بعض حفلات بايرويت، فلم يجد إلا مسرحا ذا جدران أربعة، وستارا يفتح من الجانبين، وعازفين مختفين، وموسيقى ممتزجة بالشعر؛ وهذه كلها تجديدات فنية لا شك فيها، ولكن أتبدأ من هنا نهضة الإنسان الحديث كما أرادها نيتشه؟! وأين هم رهبان الفكر الذي كان نيتشه يتصور أنهم سيفدون خاشعين إلى محراب الفن؟ أين ذلك الصمت المقدس الذي طالما حلم به، من تلك الجلبة والضوضاء وذلك الغدو والرواح؟ أين بخور معبد الفن من رائحة الخمر والدخان وعطور النساء التي حفل بها مسرح بايرويت؟ لقد انتهى نيتشه من زياراته لبايرويت بنتيجة واحدة، هي أن من المحال أن تشع شمس الإصلاح من ذلك الأولمب الزائف، أو أن تبعث الحضارة الديونيزية من بعد حفل لاه كذلك الذي وضع فيه فاجنر كل آماله! ومنذ هذه اللحظة، يئس تماما من أي إصلاح يأتي عن طريق فاجنر.
وهكذا أصبح الطريق ممهدا للانفصام التام. ولم يبق إلا أن يعلم نيتشه أن فاجنر ليس عاجزا عن بلوغ هدفه الإصلاحي فحسب، بل إنه يسعى إلى هدف مضاد له. وهذا ما أدركه نيتشه أخيرا؛ فقد تقابلا بعد بايرويت عدة مرات، إلى أن كان يوم تريضا فيه معا على الساحل في سورنتو
Sorrento
بإيطاليا، وأخذ فاجنر يشرح له أهم الموضوعات التي تشغل ذهنه في ذلك الحين، وهي الدراما الموسيقى الجديدة «بارسيفال». فإذا بها عمل يقدمه فاجنر إلى الكنيسة راجيا منها المغفرة والصفح في نهاية حياته. وإذا به يقول إنه يجد في فكرتها هذه لذة لا يجدها في أعماله السابقة التي كان بعضها يصطبغ بصبغة الإلحاد. وتبينت الحقيقة لنيتشه بوضوح؛ فها هو ذا فاجنر يتبدى أمامه تائبا مفكرا، يردد آلام المسيح وعذابه، ويركع تحت الصليب، في الوقت الذي أراده فيه ثائرا يمجد الحياة ويقلب القيم. بل إن في الأمر شيئا أخطر من مجرد كون فاجنر مسيحيا؛ إذ إن نيتشه على كل حال يحترم المسيحي المخلص، ولكن الذي آلمه أن يجد فاجنر قد انقلب وتدهور إلى هذا الحد. وعلى أية حال، فقد ظل نيتشه صامتا في ذلك اليوم، وحين انتهى فاجنر من حديثه، خطا نيتشه بعيدا عنه، وانصرف دون أن يجيب، ولم يره بعد ذلك أبدا.
والحق أنه كان من المحال أن يسود التفاهم بين فاجنر وبين ذلك الذي أراد أن يكون «عدو المسيح» وأن ينقد كل ما يمت إلى المسيحية بسبب؛ فالروح الدينية كانت تثيره على الدوام، وما كانت جريرة الأخلاق السائدة، التي كرس نيتشه كتبا بأسرها لنقدها، إلا أنها في أساسها متأثرة بالتعاليم الدينية، وبالمسيحية على وجه الخصوص، وتدعو إلى الضعف والاستسلام. وما كانت حملته على الفلسفات الكبرى إلا لدعوتها إلى مبادئ قريبة من المبادئ الدينية، كمبدأ الفضيلة العقلية الخالصة عند سقراط وأفلاطون. فأين آراء فاجنر المحافظة من هذه الثورة العاتية؟ إن فاجنر الذي عبر عن ولائه وإخلاصه للمسيحية تعبيرا صريحا في بارسيفال، كان في واقع الأمر مسيحيا مخلصا من بداية الأمر؛ فلو حللت أية واحدة من دراماته الموسيقية، لوجدت فيها فكرة التكفير والتوبة تلعب دورا أساسيا، حتى في خاتم النيبلونجن
Niebelungenring
التي خلق فيها فاجنر شخصيته زيجفريت، محطم التقاليد الثائر، حتى في الدراما، يعود فاجنر في النهاية إلى نغمته المعهودة، فينادي بالتوبة والخلاص، ويتوق أخيرا إلى الفناء وإنكار الحياة.
فإذا تركنا أفكار فاجنر جانبا، وانتقلنا إلى موسيقاه، لوجدنا نيتشه يوجه إليها هي الأخرى حملة عنيفة، يمكننا أن نلتمس لها تعليلا واضحا من حالة نيتشه الصحية. ويبدو أن موسيقى فاجنر العميقة كانت تسبب له إجهادا فكريا عنيفا، وكان يحتاج في تتبعها إلى توتر ذهني يستهلك من طاقته العقلية قدرا هو أحوج ما يكون إليه. ومن هنا كان نيتشه في حاجة إلى موسيقى خفيفة راقصة، تجدد نشاطه وتفكيره ولا تستهلكهما. ولقد صرح نيتشه بذلك حين قال: «إن كل ما هو جيد خفيف، وكل ما هو إلهي يسير على أرجل دقيقة حساسة.» وهذا هو ما وجده نيتشه في ألحان بيزيه
Bizet ، الذي كانت أوبراه المشهورة «كارمن» بمثابة كشف عالم جديد بالنسبة إلى نيتشه. فأين تلك الرقة الرفيعة من تعقد فاجنر الذي أدرك أن موسيقاه لا يمكن أن تأخذ طريقها إلى الأذهان مباشرة، فأخذ يخرج الكتب واحدا تلو الآخر لتبريرها وشرحها؟ لقد كان نيتشه ولا شك محبا للحن
Mélodie ، وكان يؤثره على التناغم المعقد الذي سيطر على موسيقى فاجنر. كان يريد في الموسيقى - كما قال - شيئا يمكن تصغيره، وكان يرى الألمان جميعا عاجزين في ميدان اللحن، ولا شك أن أقوال نيتشه في هذا الصدد إنما تخضع لمنطق التبرير فحسب؛ بدليل ما صرح به في كتابه الأخير من أن مواجهته فن فاجنر بموسيقى بيزيه لا ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد. وعلى أية حال، فقد أراد نيتشه بكل هذا النقد شيئين: أولهما أن يتابع في مجال الموسيقى حملته على فاجنر في مجال الفكر؛ إذ كان عدم التوافق في الأفكار هو الأصل، وثانيهما أن يبرر الضعف الطبيعي الذي انتاب أعصابه، والذي جعل هضم موسيقى فاجنر أمرا ثقيلا بالنسبة إليه، ودليل ذلك قوله في كتاب العلم المرح: «إن دوافعي ضد موسيقى فاجنر دوافع عضوية ... فما أشعر به فعلا عندما أستمع إلى تلك الموسيقى هو العجز عن التنفس بسهولة؛ ولذا تثور أقدامي وتغضب؛ إذ إنها في حاجة إلى الإيقاع والرقص والمشية المنتظمة، وكل ما ترمي إليه من الموسيقى هو قبل كل شيء ذلك الطرب الذي ينبعث من انتظام المشي والخطو والقفز والرقص. وفضلا عن ذلك، ألا تحتج معدتي وقلبي ودورتي الدموية وأمعائي بدورها؟ ... ما الذي يريده جسمي حقا من كل موسيقى؟ إنه يريد أن يصبح خفيفا، وكأن كل الوظائف الحيوية فيه تزداد سرعة ونشاطا بفعل إيقاع خفيف جريء منطلق واثق من نفسه.» وهكذا تنعكس حالة نيتشه الصحية على هذا النقد بوضوح، ويبدو إيثاره لإيقاع بيزيه المنتظم على تناغم فاجنر المعقد أمرا هين التفسير بالنسبة إلى من كانت لديه أدنى فكرة عن وظيفة الإيقاع المنتظم في تخفيف التوتر العصبي.
ولعل القارئ قد لاحظ من خلال تطورات تلك العلاقة التي تمثلت فيها أهم وقائع حياة نيتشه، تردد ظهور تلك الصفة التي قلنا من قبل إنها أهم ما يميز حياته؛ وأعني بها تركز هذه الحياة حول المشاكل الفكرية، واتخاذها عناصرها ومقوماتها كلها من هذه المشاكل؛ ذلك لأن الخلاف بينه وبين فاجنر - وهو الخلاف الذي كان له أبلغ الأثر في تطور حياته - إنما كان خلافا حول «أفكار» قبل كل شيء. ولا جدال في أن نيتشه لو وجد لدى فاجنر من الأفكار ما يلائمه، لخفت حملته على موسيقاه إلى حد بعيد.
وتبدو تلك الصفة الأساسية في حياة نيتشه؛ أعني سيطرة الأفكار الخالصة لا الواقع العيني على هذه الحياة سيطرة تامة؛ تبدو تلك الصفة واضحة في حملة على فاجنر خلال أعياد بايرويت. لقد كان يطمع من فاجنر في أن يأتيه بالحقيقة كاملة صريحة. كان يريد منه أن يصبح فيلسوفا ذا دعوة عقلية مثله، وأن يحارب من أجل الأفكار الجديدة حربا مباشرا. ولكم كان نيتشه ساذجا حين تصور أن الفن وسيلة لإثبات فكرة فلسفية بطريق مباشر، وسبيل يكفي وحده لبعث نهضة إنسانية شاملة. إن غاية ما يصل إليه الفنان هو أن يشير من بعيد، ويلمح، ويرمز. وحين ينقلب الفن إلى خطب منبرية ذات مدلول مباشر، فإنه يفقد ماهيته ذاتها، مهما كان نبل الدعوة التي يدعو إليها. وليس معنى ذلك أن على الفن أن ينطوي على ذاته، أو يكتفي بالطابع الشكلي الصرف، ويخضع لهذا الشعار الزائف: «الفن لأجل الفن ...» فلكل فنان صادق رسالة، ولكنه لا يستطيع وحده أن يصلح الناس إصلاحا شاملا، أو أن يبعث نهضة جديدة بفنه فحسب، بل كل ما يمكنه أن يفعله هو أن يتضافر مع غيره في مجهود مشترك، يكون نصيبه منه منحصرا في الحدود التي لا يتعداها التعبير الفني؛ غير أن نيتشه «صدم» حين وجد أن بايرويت لم تكن إلا مسرحا معتادا كسائر المسارح! فما الذي كان ينتظره إذن؟ أكان يريدها منبرا يدعو فيه فاجنر إلى الحياة الجديدة؟ وماذا كان يملك من وسائل لهذه الدعوة؟ ألم يكن التعبير الموسيقي والشعري، في حدود الإمكانيات المسرحية، هي وسيلته الوحيدة من حيث هو فنان؟ وهل يسمح له واقع هذه الحياة بأن ينتقي مستمعين «مختارين» تتأثر نفوسهم بفئة المتكامل فينتشروا في الأرض ليبشروا بالحياة الجديدة؟ لا شك أن مطلب نيتشه هذا كان وهما وخيالا، إن دل على شيء فإنما يدل على أن الفكرة الخالصة التي لا تعترف بحدود الواقع ولا تخضع لمقتضياته تحتل جميع أركان نفسه، ومن خلالها وحدها يقوم العالم ويصدر حكمه على الناس.
فلسفة نيتشه
الفصل الأول
نيتشه الفيلسوف
هل كان نيتشه فيلسوفا بالمعنى المألوف لهذه الكلمة؟ إن الفلاسفة عادة يأتون بمذاهب شاملة، تقدم حلولا متحدة الهدف لمختلف المشاكل التي تواجه العقل البشري. فإذا كنا نعني بالفيلسوف أنه صاحب مذهب، فعندئذ سوف نلقى معارضة شديدة من جانب نيتشه، ومن معظم من كتبوا عنه، في أن يعد فيلسوفا بهذا المعنى؛ ذلك لأن المذهب في هذه الحالة إنما هو تعبير عن نظرة جامدة متحجرة إلى العالم، وفهم ثابت لا يريد أن يتحرك عن الموضع الذي وقف فيه؛ لأن في الحركة عناء للذهن، وفيها مسئولية وخطورة لا تقوى عليها تلك العقول التي تنشد الراحة والهدوء. وهكذا وجه نيتشه حملته إلى أصحاب المذاهب، وكان أخشى ما يخشاه أن يعد واحدا منهم، وسايره في ذلك من كتبوا عنه، فتفنن كل منهم في كشف مواقف متناقضة له، وأكدوا أنهم إنما يعلون بذلك من قدره، وينزهونه عن كل تحجر وجمود.
ومن الرائع حقا أن يدعو مفكر إلى الابتعاد عن الجمود الفكري، وأن يترك المجال متسعا دائما لمزيد من التطور والتجديد الذي يساير الحياة في نموها الدائم. ولكن ما صفة هذه الحياة النامية عند نيتشه؟ لقد بينا أنها كانت فكرية صرف، خلت من التجارب الواقعية المثيرة، وإنما المثير فيها أفكار فحسب. وعلى ذلك. فإذا قلنا إن فلسفة نيتشه تخضع لحياته، فمعنى هذا القول في حقيقة الأمر تحصيل حاصل؛ إذ لن تخضع هذه الفلسفة في نهاية الأمر إلا لمنطقها الداخلي فحسب، ما دام عالم الأفكار لديه متماسكا، لا ينفذ إليه من الخارج ما يؤثر فيه.
ولنتساءل بعد ذلك عن المعنى الحقيقي لهذه «الفلسفة النامية مع الحياة»، أيعني هذا النمو والحركة تناقضها بالضرورة؟ إن الباحثين عادة يجدون في هذا الخضوع للحياة مبررا لتناقض أفكار الفيلسوف. ولكن مهما تقلبت هذه الأفكار وتنوعت، ألن تظل دائما «خاضعة للحياة»؟ ألن تكون هذه صفة مشتركة لكل هذه الأفكار، وهلا تكون هذه هي البادرة الأولى التي يمكننا منها أن نصل إلى خيط واحد ينتظم تفكير الفيلسوف في كل تطوراته؟
الحق إننا لا نستطيع أن نستسيغ تلك الصورة التي يصور بها نيتشه، والتي يتمثل فيها مفكرا لا يخضع لمنطق أو نظام، ويظل تفكيره يلهو بين المتناقضات دون مبالاة، ثم يقال لنا بعد ذلك إن نيتشه في هذه الصورة يسمو على الفلاسفة «التجريديين»! فنحن لا نكاد نتصور أن يتصف مفكر عميق - ولا جدال في أن نيتشه كان عميقا - بمثل هذه الصفات التي يأبى أي إنسان عاقل أن تنسب إليه . وإن أبسط فهم للنفس البشرية ليؤدي بنا إلى القول بضرورة وجود وحدة للشخصية الإنسانية، مهما تباينت الأحوال التي تمر بها. وليس معنى ذلك أن لهذه الشخصية طابعا جامدا؛ فالتطور والنمو حقيقة لا شك فيها، ولكنه لا يمكن أن يتم في فراغ مطلق، وأن يشكل الشخصية تشكيلا كاملا بحيث تتباين طبيعتها تماما تبعا لتقلبات هذا التطور. وإن تحليل التشبيه الذي يقدمه أولئك المفكرون؛ أعني تشبيه النمو العضوي، ليثبت ما نريد نحن أن نبرهن عليه؛ ذلك لأن النمو العضوي ليس إضافة من الخارج. وليس زيادة تطرأ على أصل معين دون أن تؤثر فيه أو تتأثر به، بل إن النمو العضوي هو قبل كل شيء نمو من الداخل، وكل زيادة فيه إنما تتم عن طريق «الأصل» الباطن، الذي يؤثر في كل ما يضاف إليه. وإن مجرد وجود نمو، أو تطور، ليستلزم وجود نوع من الثبات، وإلا لكان كثرة وتغايرا، لا نموا وتطورا. وما كان من طبيعة العقل البشري أن يتخذ مواقف متضادة على النحو الذي ينسبونه إلى نيتشه؛ إذ إن الوحدة هي أبرز صفات الشخصية الإنسانية، والاتساق في المسلك هو أول ما يميزها عن الحيوان، فلا بد إذن من نوع من الثبات حتى يسمو الإنسان على المرتبة الحيوانية، ولكن هذا الثبات لا ينبغي أن يصل إلى حد التحجر، وإلا وقع فيما هو شر من الحيوانية؛ أعني في الجمادية!
وعلى ذلك. فإذا كان المقصود بكلمة «المذهب» هو الجمود المطلق، والتوقف التام عن النمو والحياة، فلا شك أن نيتشه لم يكن من أصحاب المذاهب، ولا جدال عندي في أن هذا هو المعنى الذي كان في ذهن نيتشه حين نقد المذهبية وأصحابها من الفلاسفة، ولكن إذا فهمت كلمة المذهب بمعناها الواسع، من حيث إنها هي اللون الغالب على الشخصية، وهي مظهر وحدتها واتساقها مع ذاتها، فلا شك في أن نيتشه - في الفترة العاقلة من حياته على الأقل - كان ذا مذهب، شأنه شأن أي عاقل آخر! ومهما قرأت له من عبارات تدعوك إلى نبذ النظرة الموحدة إلى العالم، وإلى تغيير المنظور الذي تتأمل من خلاله كل مشكلة، فلتعلم أن هذه الدعوة إلى التجديد وتغيير المنظور هي ذاتها مذهبه، وهي الوحدة الجامعة بين أطراف شخصيته.
ولكن، أيصلح مذهب من المذاهب المعروفة في تاريخ الفلسفة للتعبير عن هذا العنصر المشترك بين مختلف اتجاهات نيتشه في تفكيره؟ علينا إذا شئنا أن نجيب عن هذا السؤال، أن نقارن بين تفكير نيتشه وبين مختلف المذاهب التي قد تقترب منه، لنرى مدى صلاحية كل منها للتعبير عن أطراف هذا التفكير.
الواقعية
الواقعية، بوجه عام، مذهب يرى أن الوجود مستقل عن المعرفة الحالية التي تعرفه بها الذوات المدركة؛ فهو لا يستمد من هذا الإدراك، ولا يعبر عنه تعبيرا شاملا بالفكر؛ لأن فيه شيئا يتجاوز الفكر. فإذا استخلصت من هذا الرأي الذي ينطبق أصلا على مجال المعرفة، نتائجه الأخلاقية، فلا شك أن الأخلاق الواقعية ستكون متعلقة بهذه الأرض، وسوف تتخلى عن كل تطرف مثالي يربط الأخلاق بعالم آخر، بالمعنى اللاهوتي أو المثالي لهذه الكلمة. وتلك هي أبرز صفات الأخلاق عند نيتشه. ولكن إذا كانت الواقعية تقترب من تفكير نيتشه في ميدان الأخلاق، فقد كانت بعيدة عنه كل البعد في ميدان المعرفة. فهو ينقد الواقعيين لاعتقادهم بأن العالم كما يظهر لنا هو العالم الحقيقي، وأن العالم في ذاته لا يختلف عما نراه.
1
وفي نظرية المعرفة عنده - كما سنرى فيما بعد - عناصر مثالية لا تنكر؛ وذلك حين يؤكد أن العالم كما نتصوره هو العالم كما يصلح لوجودنا فحسب، لا كما هو في ذاته. ولا شك أن هذا الرأي في المعرفة يباعد بينه وبين الواقعيين، ويجعل فلسفته تختلف عن مذهبهم اختلافا أساسيا.
الوضعية
يرتبط لفظ الوضعية في نشأته باسم أوجست كونت، ولكنه استخدم بعد ذلك ليعبر عن آراء طائفة خاصة من المفكرين، تأثروا بالتقدم الكبير الذي أحرزه المنطق والرياضة في نصف القرن الماضي، فحاولوا أن يوحدوا بين أسس المنطق والرياضة، ويجعلوا منها دعامة لتحليل فلسفي يقضي على المشاكل الميتافيزيقية من جذورها؛ فالوضعية الحالية؛ أعني الوضعية المنطقية، تشترك مع وضعية أوجست كونت في أنها تستلهم العلم في كل مراحلها، وتتأثر في نقطة بدايتها بالتقدم الذي تحرزه علوم معينة، فتحاول اصطناع مناهجها وتعميمها على التفكير الفلسفي ذاته.
ولقد تأثر نيتشه ذاته بالتقدم العلمي تأثرا كبيرا، بل إن إحدى فترات تفكيره الفلسفي يطلق عليها عادة اسم «الفترة الوضعية».
2
والذي نلاحظه أن إعجابه بالمنهج العلمي التجريبي لم يكن يقتصر على المرحلة الوسطى من مراحل تفكيره، بدليل أنه حاول في الفترة الأخيرة أن يضع لفكرة العود الأبدي - وهي في أصلها فكرة ذات طابع صوفي - أساسا علميا، وكان ينوي أن يكرس عشر سنوات من حياته لدراسة العلم الطبيعي والرياضي، حتى يمكنه أن يبرر الفكرة علميا، ولكن صحته لم تساعده على ذلك. وهو على أية حال لا يكف عن إبداء إعجابه بالمنهج العلمي التجريبي، فيقول: «إنني لأعجب بذلك الشك الذي يجعلني أجيب عنه بقولي؛ فلنجرب ذلك! ولست أريد أن أسمع شيئا عن كل الأمور والمشاكل التي لا تسمح بإجراء التجربة عليها، تلك هي حدود معنى الحقيقة في نظري، وهنا تفقد الشجاعة كل مبرر لها.»
3
وهكذا يعترف نيتشه بمبدأ التحقيق التجريبي
Vérification
الذي أصبح فيما بعد أساسا للوضعية، ولا يرى للشجاعة التي تحاول تعدي نطاق التجربة أي مبرر.
وسوف تتاح لنا في خلال هذا الكتاب فرص مختلفة لإبداء أوجه الشبه بين آراء نيتشه وبين الآراء الوضعية الحديثة في مشاكل عديدة، وخاصة في أصل القيم والنسبية الأخلاقية، ولكن الوضعية السائدة في عصر نيتشه لم تكن لترضيه على الإطلاق؛ فمبدأ «الغيرية» الذي وضعه «كونت» قد تعرض لنقد شديد من جانب نيتشه. ويمكن أن يقال إن تلك الوضعية كانت تحاول أن تعطي صورة علمية للمبادئ الأخلاقية العامة الشائعة، التي كرس نيتشه حياته للحملة عليها. وفضلا عن ذلك، فإن تفكير نيتشه لا يمكن أن تستوعبه كلمة الوضعية؛ إذ إن النزعة الصوفية الواضحة فيه تتجاوز نطاق الوضعية تماما. وإن الجانب الشعري والفني، الذي سيطر على أروع كتب نيتشه؛ أعني كتاب زرادشت، ليبعد تماما عن كل ما هو وضعي؛ فأقصى ما يمكننا أن نقوله هو أن نيتشه قد اعترف للوضعية بالفضل، ولكن في مجالها الخاص الذي تعداه هو في أهم أفكاره ومؤلفاته.
البرجماتية
رأى بعض الباحثين في فلسفة نيتشه استباقا للبرجماتية؛ إذ هما يشتركان في الحملة على العقل الخالص ورده إلى المقتضيات الحيوية للإنسان، ويعبر «مارسيل بول»
M. Boll
عن هذا التقارب فيقول: «في نهاية القرن الماضي، نادى فلاسفة معينون من القارتين بأن العقل خاضع لحاجاتنا النفعية، وبأن عليه أن يخلي مكانه لمشاعرنا الباطنة، ولمثلنا الأخلاقية، أو لعقائدنا الدينية، ولقد كانت ألمانيا - وهي لم تزل عندئذ واقعة تحت تأثير شلنج وشوبنهور - هي البادئة بهذه الحركة، وذلك بظهور فلسفة نيتشه، ثم ظهر بعده مذهب البرجماتية في أمريكا عند بيرس أولا، وعند وليم جيمس من بعده.»
4
والواقع أن الوجه السلبي للبرجماتية؛ وأعني به نقد الأسس الميتافيزيقية القديمة، يكاد في كثير من الأحيان يكون ترديدا مباشرا لآراء سبق ظهورها عند نيتشه؛ فالاتجاه نحو العينية، ونقد فكرة الجوهر القديمة، وإخضاع القيم للوجود، كل هذا يمثل عاملا مشتركا بين الطرفين. بل إن التشابه ليمتد أيضا إلى الوجه الإيجابي في تفكير البرجماتية؛ فنظرية الحقيقة عند نيتشه تحمل شبها واضحا للنظرية البرجماتية. وقد لخص «جان فال» هذه النظرية بقوله: «إن المرء يحكم على الشيء بأنه حقيقي، ويكون في مسلكه سائرا في الاتجاه الصحيح، حينما يقول أو يفعل - بإزاء موقف خارجي ما - شيئا لا يتعارض مع ذلك الموقف، ويكون بينه وبين الموقف صلة معينة. فغياب البطلان والزيف، ووجود علاقة معينة مع الشيء، قوام الحقيقة.»
5
فالحقائق من خلق الإنسان، ومقياس صحة الأفكار هو نفعها أو صلاحيتها للعمل، ومن هنا تغيرت الحقائق بتغير المواقف وما يصلح لكل منها، واختفت الحقيقة الثابتة. فإذا أدركنا مدى تحمس نيتشه في الدفاع عن الحقيقة النسبية، وتأكيده أن الحقيقة هي ما ينفع الحياة، بل هي خطأ وبطلان ثبت نفعه، وبأن الحياة هي أساس الحقيقة ومصدرها الوحيد، فعندئذ يتبين لنا مدى التشابه بين آراء نيتشه وبين المذهب الذي عرف من بعده باسم البرجماتية.
ومع ذلك، فقد تطرف كثير من فلاسفة البرجماتية في النزعة اللاعقلية، إلى حد مهاجمة العلم واتخاذ منهج غير علمي تماما. وفي هذا ما يباعد بينهم وبين نيتشه، الذي ظل على احترامه للعلم - بالصورة التي كانت سائدة في عصره - إلى النهاية. بل لقد كان نقده للنزعة العقلية التجريدية راجعا، في رأيه، إلى تمسكه بالروح العلمية الصحيحة، التي تأبى أن تجعل من المجردات الخالصة أساسا لفهم الواقع الحي المتغير، ولنضف إلى ذلك ما لاحظناه عن بعض المذاهب الأخرى، فالبرجماتية بدورها لا تستنفد كل الميادين التي تناولها تفكير نيتشه، الذي كان أوسع من أن ينحصر في الحدود التي اقتصر عليها هذا المذهب.
الوجودية
يحرص كثير من الفلاسفة الوجوديين على أن ينسبوا تفكير نيتشه إلى مذهبهم، ويعدوه واحدا منهم. ولا شك في أن المرونة الكبيرة التي كانت يتصف بها أسلوب نيتشه، تعين هؤلاء في دعواهم إلى حد بعيد؛ إذ تقبل كتابات نيتشه تفسيرات عدة، وتستطيع كثير من المذاهب - كما رأينا من قبل - أن تجتذبه إلى فلكها الخاص. وربما كانت الوجودية أكثر من غيرها نجاحا في هذا الصدد. ومن هنا، فسوف نتحدث عن العلاقة بين تفكير نيتشه وبين الوجودية بمزيد من الإسهاب لنتبين في آخر الأمر إلى أي مدى يمكن أن يعد نيتشه فيلسوفا وجوديا.
لا شك في أن الارتباط بين حياة نيتشه وبين تفكيره، على النحو الذي عرضناه في الفصل الأول، يقرب بينه وبين كثير من الوجوديين. وإذا كنا قد لاحظنا أن هذا الارتباط إنما يتم عن طريق إثراء الفكر وبعث الحياة فيه، لا عن طريق امتلاء الحياة واستخلاص الفكر منها، فإننا سوف نجد له في ذلك بين الوجوديين نظيرا؛ وأعني به كيركجورد
Kierkegoard ، الذي كانت تجاربه الحية هو الآخر هزيلة شحيحة، وكان ما في هذه التجارب من عنف راجعا إلى أنها هي وحدها - على قلتها - مدار حياته، وإلى أنه قد وجه إليها وركز عليها من باطن ذاته شحنات عاطفية وانفعالية جعلتها تبدو مليئة بحق.
وفي فهم نيتشه للإنسان ما يقربه من الوجودية كثيرا؛ فمن أهم صفات التفكير الوجودي، تأكيده تجدد الوجود الإنساني ؛ فليس للإنسان ماهية ثابتة، بل إن وجوده سابق على ماهيته، أو هو الذي يكون ماهيته؛ فمن خلال وجود الإنسان تتحقق ماهيته. وليست له أية ماهية ثابتة تتحدد مقدما. ويكاد نيتشه يعبر عن هذه الفكرة ذاتها حين يصرح بأن الإنسان في محاولة دائمة لا تعرف الاستقرار؛ فهو لا يرضى بشيء، ولا يقف عند حد. والإنسان، على حد تعبيره، هو الحيوان الذي لم يثبت بعد، وهو الحيوان الذي لم يصنف أو يحدد نوعه؛ «ففي الإنسان شيء أساسي ناقص.» وبرغم ذلك، فإن هذا النقص هو ما يعلي من قدر الإنسان؛ فعدم تحدد ماهيته هو الذي مكنه من أن يجدد وجوده على الدوام. ومن هنا عرف الإنسان في كتاب زرادشت بأنه «خالق ذاته
Selbstschaffender »؛ أي إن هذا النقص الأساسي هو مصدر حريته، وهو الذي يمكنه من تجديد ذاته وخلقها على الدوام. وفي وسعنا أن نفسر فكرة أساسية من أفكار نيتشه؛ أعني فكرة إرادة القوة، على نحو يجعل منها مظهرا من مظاهر هذا المبدأ العام الذي تميزت الوجودية بالتنبيه إليه؛ أعني أن الإنسان كائن يتجاوز ماهيته على الدوام، ولا يقف بها عند حد.
وللإنسان في كل فلسفة وجودية موقف أساسي، يعبر عما تتميز به أهم اللحظات التي تتبدى فيها إنسانيته. في هذا الموقف يتخلى الإنسان عن كل ثبات، ويقف في مفترق الطرق، بين الثبات الذي تركه وتجاوزه، وبين الطرق المتشعبة التي ترتسم لحريته. هذا الموقف الأساسي هو عند كيركجورد، القلق، الذي يراه خير تعبير عن عدم تحدد ماهية الإنسان؛ لأنه الحالة التي تتفتح فيها أمانة آفاق عديدة قبل أن يستقر على واحد منها. وقد حاول بعض الوجوديين أن يجدوا عند نيتشه موقفا مشابها، فأشاروا إلى فكرة «الخطر» عنده، والخطر هو «السير في الطريق»؛ فالإنسان الحقيقي هو الذي يسير في الطريق؛ أي هو الذي يحاول دائما أن يترك حالته السابقة ليتوجه إلى حالة تعلو عليها؛ أما الذي يقف حيث هو، ولا يسير في الطريق، ولا يمارس الشعور بالخطر، فلم تتحقق إنسانيته بعد، وهو الذي يسميه نيتشه «بالإنسان الأخير»، وهنا يكون أوان الكلام عن فكرة أخرى من أفكار نيتشه، يمكن أن تخضع بدورها لهذا التفسير الوجودي؛ أعني فكرة «الإنسان الأرقى» التي يمكن أن تفسر على أنها تعبير عن تلك الدعوة إلى تجاوز الماهية الثابتة، وحشد القوى الخالقة للإنسان حتى يعلو بها على ذاته دواما.
ومن قبيل ذلك التقريب أيضا، تفسير خاص لفكرة العود الأبدي،
6
على نحو يجعل منها تعبيرا عن رغبة النفس في السيطرة على الزمان؛ فحين يعود كل ما مضى عددا لا متناهيا من المرات، يستوي عند النفس الماضي والمستقبل، ويصبح كل ماض قمت به، مستقبلا سأقوم به فيما بعد. وهكذا تتحرر النفس من قيد الماضي بإحالته إلى مستقبل، وتسيطر الإرادة الخالقة على الزمان في كل مظاهره، لا في مستقبله فحسب. وفي هذا الفهم لفكرة العود الأبدي يبدو نيتشه وجوديا أكثر من الوجوديين، الذين اقتصروا على تأكيد سيطرة النفس على المستقبل وتحكمها فيه.
وأخيرا، فأمامنا فكرة أساسية أخرى يمكن أن نتوسل بها في التقريب بين نيتشه وبين الوجوديين؛ تلك هي فكرة «موت الإله» عند نيتشه؛ فهيدجر
Heidegger
يفسر هذه الفكرة، في وجهها السلبي، بأنها لا تنصب على الإله المسيحي، ولا على آلهة الأديان بوجه عام، بل إن المقصود بها هو «عالم ما فوق المحسوس»، وعالم الميتافيزيقا والمثل بوجه عام.
7
فهو في عبارته المشهورة «إن الله قد مات» لا يعبر عن موقفه الشخصي في الإلحاد فحسب، بل يعبر عن اعتقاده بأن العالم الآخر، بكل صوره الفلسفية، قد فقد دعامته وانهار من أساسه؛ فتلك الفكرة إذن مرتبطة بموقفه من الفلسفات التقليدية الارتباط، وهي تمهد تمهيدا مباشرا لرفض الميتافيزيقا القديمة، بحيث لا يتبقى أمام الفكر إلا البحث في القيم، وتنتقل الفلسفة إلى البحث في الذات، وفيما له قيمة بالنسبة إليها، وتلك ولا شك هي ذاتها نقطة بداية كل فلسفة وجودية.
بل لقد فهمت هذه الفكرة على نحو يقرب بين نيتشه وبين الوجودية تقريبا «إيجابيا»، لا سلبيا فحسب، فقيل إنها تعبر - رغم ما يبدو في ظاهرها من نفي لكل حقيقة عليا - عن سعي نيتشه إلى «التعالي»
Transcendance ، وبينما تبحث الأديان عن التعالي فيما يتجاوز الإنسان، ويبحث عنه كيركجورد في شخصية «المصلوب»، فإن نيتشه يريد أن يحقق هذا التعالي ذاته، ولكن عن طريق الإنسان، فلم يكن نيتشه بهدف من فكرة «موت الإله» إلا إلى إفساح الطريق أمام الإنسان، حتى يمكنه أن يحقق كل ما تتسع له جهوده. أما التجاء كيركجورد إلى الدين، فهو أمر يستطيع نيتشه تفسيره؛ فمن الناس من يلجأ إلى الدين لأنه سئم غيره من الناس، ورأى حياته عاجزة، فسعى إلى ما هو أعلى منه. وهو في هذا يقول: «إن العنصر الديني من أخطاء الطبائع العليا التي تعذبها صورة الإنسان المنفرة.» ونيتشه، وإن كان ينفر بدوره من الصورة الحالية للإنسان، فإنه لا يريد أن يكون ذلك النفور من أجل أية حقيقة عليا، بل يريد أن يتجاوز الإنسان ذاته بذاته فحسب. فهو ينظر إلى فكرة الله على أنها تمثل الحد النهائي الذي لا تستطيع قدرة الإنسان الخالقة أن تتعداه؛ فهي إذن عقبة ينبغي إزالتها، وذلك هو معنى كلمته المشهورة «لو كان هناك إله، فكيف كنت أطيق ألا أكون إلها.» ففي رأيه أن بين الله والإنسان في الخلق تعارضا، ولا بد لكي يتسع الطريق أمام قوة الإنسان الخالقة من أن تزاح كل العقبات من طريقه.
في كل هذا رأينا تفكير نيتشه يقترب - إذا فهم على نحو معين - من بعض المبادئ العامة للفلسفة الوجودية. على أن هذا التقارب إذا كان يرتبط بتفسير خاص لتفكير نيتشه الذي يقبل عديدا من التفسيرات. فليس من شك في أنه لن يكون حاسما.
ولعلنا قد لاحظنا أن المبادئ التي يشترك فيها نيتشه مع الفلسفة الوجودية «عامة» إلى أقصى حد؛ فهي أوسع نطاقا من أن تكون صفات مميزة للفلسفة الوجودية على التخصيص؛ ففكرة تجدد الوجود الإنساني وعدم ثبات ماهيته، وما يرتبط بها من دعوة إلى علاء الإنسان بنفسه وتجاوزه لذاته على الدوام، هذه الفكرة ليست على الإطلاق وفقا على فلاسفة الوجودية، بل إنها حظ مشترك بين كل الفلسفات الدينامية التي تدعو إلى الحركة وتنبذ الثبات. ونستطيع أن نقول إن عدم ثبات الماهية الإنسانية هو المقدمة الأولى التي تفترضها مقدما كل فلسفة تعتقد بالتطور، وكل مذهب يؤمن بفاعلية التاريخ. حقا إن المسالك تتشعب بهذه الفلسفات والمذاهب فيما بعد تشعبا كبيرا، غير أنها كلها لا تستطيع أن تخطو خطوة واحدة إلى الأمام لو لم تكن تفترض مقدما قابلية الماهية الإنسانية للتحول والتغير. فتلك إذن فكرة لا تختص بها الفلسفة الوجودية وحدها، بل إن الوجودية ليست إلا مظهرا متأخرا، متميزا بطابع فردي خاص، لهذا الاتجاه العام نحو الحركية والتاريخية في الفلسفة.
ولقد كان لنيتشه من العلم موقف لا شك في أنه يميزه عن مختلف التيارات الوجودية تمييزا أساسيا. فمن الواضح أنه كان يتحمس للعلم ويؤمن به إيمانا عميقا. حقا إن فهمه لمنهج العلم ورسالته كان متأثرا بالحالة العلمية السائدة في عصره، بل بالحدود الضيقة التي أمكنه هو ذاته أن يستوعب فيها علوم عصره، ولكنه على أية حال كان يحمل في نفسه للعلم تقديرا حقيقيا، وتلك صفة لا تجد لها في الفلسفة الوجودية نظيرا؛ فالفيلسوف الوجودي قد يتخذ مظهر العطف على العلم، والتقدير له، ولكنه في واقع الأمر يعمل - عن وعي أو دون قصد - على زعزعة الثقة في العلم، وعلى إثبات قصوره عن استيعاب أهم مجالات الحياة البشرية؛ ذلك لأن الوجودي يؤكد دائما أن للعلم حدودا لا يتعداها، وهذه حقيقة معترف بها من الجميع؛ غير أن الفارق بين المؤمن بالعلم وغير المؤمن به، أن الأول يعترف بهذه الحقيقة ويعبر في الوقت نفسه عن أمله في أن تضيق هذه الحدود رويدا رويدا. أما الثاني فيعترف بها على أنها حقيقة ثابتة؛ إذ إن المجال الذي يحيا فيه هو ذاته هذه الحدود التي يقول إن العلم لا يتعداها. فموقف الوجودي إزاء العلم هو موقف الحارس الذي يدافع عن أرضه الخاصة ضد عدو يخشى أن يسلبه إياها. ومن هنا كنا نرى نقطة البداية الأولى للتفكير الوجودي عامة هي تأكيد قصور العلم ووقوفه عاجزا في ميادين معينة، وفي هذه الميادين ذاتها تبدأ الفلسفة الوجودية نشاطها. ونيتشه في هذا يخالف الوجوديين تماما؛ فقد كان في فترة غير قصيرة من حياته يتحمس للعلم ويؤمن به إيمانا مباشرا، ولم يتخل عن إيمانه هذا في بقية الفترات، ولم يحاول أن يجعل مصير تفكيره مرتبطا بوجود حدود معينة للعلم، بل لم يكن يجعل من إيضاح هذه الحدود هدفا أصليا لتفكيره كما فعل كثير من الوجوديين، وعلى رأسهم كارل ياسبرز
K. Jaspers .
وعلى ذلك، فانتساب نيتشه إلى الوجودية أمر لا يمكن التسليم به من جميع الوجوه. وإذا كان المرء يجد لديه أفكارا تذكره بأفكار وجودية معينة، فإن التقارب بينهما لا يمكن أن يتم إلا من خلال تفسير خاص لآرائه، وقد يكون هذا التفسير متعسفا في كثير من الأحيان. •••
وهكذا تبين لنا أن تفكير نيتشه وإن كان يقترب من بعض المذاهب الفلسفية المعروفة، فإنه أيضا لا يخضع لواحد من هذه المذاهب خضوعا تاما، ولن تستطيع أن تجد بينهما اسما شاملا ينتظم كل نواحي تفكيره، بحيث تندرج تحته فلسفة نيتشه مع غيرها من الفلسفات.
ومع ذلك، فصعوبة الاهتداء إلى مذهب معين ينتسب إليه تفكير نيتشه، لا يعني كما قلنا من قبل أن هذا التفكير يفتقر إلى كل وحدة وتماسك؛ إذ إن وحدة الشخصية لا بد أن تبعث في أعمالها - أيا كان تشعبها - نوعا من الوحدة.
وإن نفس الروح التي سيطرت على بعض الباحثين، فأوهمتهم أنهم يمجدون نيتشه حين يصورون تفكيره بصورة التلقائية الوحشية التي لا تخضع للمنطق ولا تحرص على الاتساق، نفس هذه الروح هي ذاتها التي تحاول؛ إذ ما تبين لها استحالة اتصاف الشخصية الواحدة يمثل هذا التضارب الجنوني، أن تقسم تفكير نيتشه الفلسفي إلى فترات متميزة، لكل منها خصائصه التي تنفرد عن خصائص الفترات الأخرى، وكأنها بذلك تلجأ إلى آخر سهم في جعبتها؛ بحيث تقسم تفكيره إلى مراحل رئيسية منفصلة، بعد أن عجزت عن أن تؤكد الانفصال بين كل لحظات هذا التفكير. فلنختبر إذن هذا الزعم الأخير، ومن خلال نقدنا له سيتضح لنا العنصر المشترك في تفكير نيتشه ، فإن لم يكن من الممكن إخضاع هذا العنصر لواحد من المذاهب السابقة، فسوف يظل في وسعنا مع ذلك أن نضمن لفلسفة نيتشه وحدتها، بل أن نضمن لشخصيته تماسكها واتساقها.
العنصر المشترك بين مراحل تفكيره
الشائع أن يقسم تفكير نيتشه إلى مراحل ثلاث: (1)
مرحلة فنية رومانتيكية، تمتد من 1869 إلى 1876، وهي المرحلة التي كان نيتشه فيها واقعا تحت تأثير شوبنهور وفاجنر، وتنتهي بتخلصه منهما. (2)
مرحلة وضعية نقدية، وتمتد من 1876 إلى 1882، وفيها تميز تفكير نيتشه بالتأثر بالمنهج العلمي، بعد أن تخلص من المؤثرات الرومانتيكية السابقة، وتلك هي المرحلة التي حرص فيها نيتشه على أن يوجه أعنف نقد إلى مقومات الحياة الإنسانية في العصر الحديث. (3)
مرحلة صوفية خالصة، تبدأ من كتاب زرادشت في 1883، وتستمر حتى 1888، وفيها يتميز تفكير نيتشه بالاستقلال التام، ويسير في طريقه الخاص، ويتخذ أسلوبه شكل التدفق الصوفي، لا التحليل النقدي.
فلنحلل إذن العناصر الرئيسية لكل فترة من هذه الفترات، حتى نصل إلى العنصر المشترك بينها.
فالفترة الأولى تتميز، كما قلنا، بتأثره بشوبنهور وفاجنر. أما التأثر بشوبنهور فلم يكن كاملا، إذا شئنا الدقة؛ ذلك لأن فلسفة شوبنهور كانت تدور حول فكرة الألم؛ فالعالم هو في أساسه مصدر للألم، ووسيلة الخلاص إما أخلاقية؛ أعني القداسة والزهد والانصراف عن ممارسة الإرادة بقدر الإمكان، وإما فنية؛ أعني الإغراق في الإنتاج والتأمل الفني الذي ينسي المرء ما في إرادته من قلق واضطراب. ولم يأخذ نيتشه من شوبنهور اتجاهه الأول، فلم يعترف في تلك الفترة بالزهد الأخلاقي وإماتة الإرادة وسيلة للخلاص من الألم، وإنما اعترف بالوسيلة الثانية؛ أعني بالفن الذي أراد عندئذ أن يفسر كل ما في العالم على أساسه. وإذن، فقد كان هناك شيء خفي يمنع نيتشه من الاقتداء بشوبنهور في دعوته إلى كبت إرادة الحياة، وماذا يكون هذا الشيء، إن لم يكن حب الحياة؟
وتزداد هذه الفكرة اتضاحا إذا تأملنا العنصر الرئيسي الآخر من عناصر تفكير نيتشه في ذلك الحين، فقد أدى به إعجابه بفاجنر إلى أن يقوم الحياة القديمة والحديثة تقويما جديدا، ويتأملها من خلال فكرة الأبولونية والديونيزية؛ فقد تنازعت العالم فترات سادتها الروح الأبولونية؛ أعني روح النظام والوضوح والتحدد، وأخرى سادتها الروح الديونيزية؛ أعني روح الاندماج بالطبيعة والخضوع للغريزة التلقائية. وتنازعت كل من هذين الروحين حياة الإغريق القدماء، حتى أتى سقراط، فسجل انتصار الروح الأبولونية، وظل هذا الانتصار سائدا إلى يومنا هذا. ولكن نيتشه يدعو إلى أن تعود الروح الديونيزية مرة أخرى إلى السيطرة، ويأمل في أن يكون فن فاجنر عاملا أساسيا من عوامل هذه العودة الناهضة، وهذا التقسيم إلى ما هو أبولوني وديونيزي يناظر - إلى حد ما - التقسيم الحديث إلى المعقول واللامعقول.
وعلى ذلك، فعند نيتشه في هذه الفترة ميل واضح إلى النزعة اللاعقلية، واتجاه إلى الاندماج المباشر بالطبيعة التلقائية في صورتها الأولى، قبل أن يشوهها العقل الخالص ويبعث فيها الثبات والجمود، وهو اتجاه يتصف كما هو واضح بالإقبال على الحياة في تلقائيتها المباشرة، والحملة على كل ما من شأنه الوقوف في وجه هذه التلقائية.
فلنتأمل إذن موقفه في الفترات التالية، وهل تغير هذا الاتجاه الأساسي نحو إثبات الحياة والاندماج المباشر في الطبيعة اللاعقلية أم ظل يتردد خلالها في صور مختلفة.
في المرحلة الوضعية الثانية، يبدأ نيتشه حملة قوية من النقد، فيحمل على الميتافيزيقا التقليدية، ويراها أقرب إلى الشعر والخيال، وينقد الأخلاق الشائعة، ويدعو إلى قلب كل القيم السائدة، ويحاول في بعض الأحيان - تأثرا منه بالاتجاهات العلمية السائدة في عصره - أن يرد القيم الأخلاقية إلى أصول حيوية عضوية، بل أن يرى الحقيقة ذاتها قيمة متغيرة خاضعة للنفع الحيوي. ولا شك أن النزعة إلى تمجيد الحياة تبدو هنا بوضوح؛ فالحياة هي القوة الدافعة لكل نشاط خلاق في الإنسان، وهي الأصل الأول الذي ترتد إليه كل معرفة وتقويم، وفضلا عن ذلك، فالاتجاه إلى نقد العقل التجريدي الخالص، يتمثل في الحملة القوية على الميتافيزيقا القديمة، وفي الدعوة إلى مراجعة الأسس الأولى للفلسفة.
ومما ينبغي أن ننبه إليه الأذهان، أن الأسلوب العقلي الهادئ الذي تميزت به كتاباته في هذه الفترة، واتخاذه المنهج العلمي مثلا أعلى خلالها ، لم يمنعاه من أن يواصل اتجاهه الناقد للعقل، ومن أن يكون هنا أيضا من أنصار اللامعقول. ومن الغريب حقا أن ينقد فيلسوف النزعة إلى المعقولية، إخلاصا منه للعقل والعلم، ولكننا قد بينا في موضع آخر
8
أن هذين الاتجاهين لا يتعارضان، وبالتالي فإن المعقولية واللامعقولية يمكن أن تجتمعا في مركب واحد، إذا فهمت كلمة العقل في كل حالة فهما خاصا.
أما المرحلة الصوفية الثالثة، فلا شك في أن انتقال نيتشه إليها لم يكن مفاجئا على الإطلاق، بل لقد انتقل إليها ومعه كل ذخيرته النقدية التي تسلح بها في المرحلة السابقة؛ فهو هنا لا يزال يحمل على أصحاب المذاهب الميتافيزيقية الخالصة، وعلى المؤمنين بالعقل التجريدي، وبوجود معايير أخلاقية مطلقة تعلو على مقتضيات الحياة المتغيرة. أما الناحية الصوفية الخلاقة، فهي أولا قد ظهرت في كتاب «زرادشت» وحده، وكانت كل الكتب الأخرى التي ظهرت في هذه المرحلة تحمل نفس الطابع النقدي الذي اتصفت به المرحلة السابقة، وتواصل حملتها في خط مستقيم. وحتى لو تأملنا كتاب زرادشت ذاته، فلن تجد فيه تصوفا من ذلك النوع الزاهد الذي ينكر الحياة ويعزف عنها، بل هو تصوف يظل على تعلقه بالأرض، ويمجد هذه الحياة وهذا العالم، ويتغنى بالطبيعة التلقائية. فزرادشت يقول في المقدمة: «أناشدكم أيها الأصدقاء أن تظلوا مخلصين للأرض، وألا تصدقوا من يحدثكم عن آمال تعلو على الأرض؛ ففي أحاديثهم هذه سموم، سواء أعلموا ذلك أم لم يعلموه.»
ففي هذه الفترة الأخيرة بدورها يظل المبدأ العام الذي يسير عليه نيتشه هو تمجيد الحياة الأرضية، وإضفاء المعنى الإنساني - لا الإلهي أو الميتافيزيقي - على هذا العالم. أما النزعة اللاعقلية، فتفترضها ضمنا فكرة التصوف، وتعبر عنها صراحة دعوته إلى الإنسان الأرقى، الذي تسود حياته «الغرائز»؛ أي القوى الحيوية التلقائية، لا العقل المجرد.
وهكذا نلاحظ في كل هذه الفترات اتجاها عاما واحدا، هو الاتجاه إلى نقد المعقولية التجريدية، وتمجيد الحياة وإعلائها، والتعلق بالطبيعة والحياة الأرضية. في هذا الاتجاه تتمثل وحدة شخصية نيتشه، التي لازمته طوال مراحل تفكيره. وليس معنى ذلك أنه قد تعلق بهذه المبادئ تعلقا متحجرا، بل إنها قد اتخذت - كما لاحظنا - أشكالا متباينة، وعبرت عن نفسها بأساليب مختلفة، مما ينفي عن نيتشه تماما صفة «المذهبية» بمعناها التقليدي الجامد، ولكنها في نفس الوقت تظل كامنة من وراء ما اتخذته من مظاهر مختلفة، فتؤكد بذلك أن الذهن الذي يفكر واحد، وأن لشخصيته عناصرها الأساسية، وتنفي عنه تلك المزاعم التي أراد أن يلصقها به هواة التفكير الشعري الخيالي، مزاعم التناقض الصريح، والجموح الدائم، والانتقال المتواصل بين الأضداد.
الفصل الثاني
انقلاب القيم
إذا شئنا أن نلخص ما يميز العقلية العلمية الحديثة من العقلية الخرافية الغابرة في عبارة واحدة، لقلنا إنه تخلص العقلية العلمية من صفة التشبيه بالإنسان
anthropomorphisme
التي غلبت على العقلية الخرافية؛ ذلك لأن أوضح مظهر من مظاهر التأخر في التفكير البدائي، هو طبع الصور الإنسانية على العالم الخارجي، بحيث يبدو ظواهر ذلك العالم كأن لها معنى إنسانيا، وكأنها قد استهدفت غايات بشرية معينة. وهكذا رأينا العالم، في التفكير الخرافي، يحتشد بالآلهة والقوى الخفية، التي هي وسيلة طبع الصورة الإنسانية على العالم. فظاهرة المطر مثلا تحدث بفعل إله المطر، الذي ينبغي إرضاؤه على نحو إنساني تماما، حتى يجود على الأرض بالغيث. ويظل هذا التشبيه للطبيعة الخارجية بالإنسان يمتد بالتدريج، حتى يتسع لكل الظواهر، فلا يغدو الكون كله إلا مجالا مكبرا لغايات الإنسان وأمانيه.
وقد يبدو للبعض أن هذه النظرة التشبيهية بالإنسان قد انقضت بانقضاء عهد الخرافة الأولى، وحلول عهد التفكير العقلي المنظم، في الفلسفة اليونانية على الأقل. ولكن الحقيقة بخلاف ذلك؛ ذلك لأنه إذا كانت الطريقة البدائية في التفكير، وفي ملء الكون بالآلهة والأشباح والقوى غير المنظورة؛ إذا كانت طريقة التفكير هذه قد اختفت في ذلك الحين، وحل محلها تفسير عقلي للعالم، فقد ظلت مع ذلك قائمة، ولكن في صورة مستترة يدق فهمها. أما هذه الصورة الجديدة، فهي الاعتقاد بالقيم الموضوعية المطلقة.
فلنتأمل مثلا طريقة تفكير أفلاطون، حين يضع مثال الخير فوق قمة المثل، ويؤكد أن الخير ليس أرفع القيم فحسب، بل لا يقتصر على كونه قيمة من القيم، وإنما هو أيضا «خالق الكون»؛ أعني حين يضفي على الخير معنى أنتولوجيا، ويجعل له قواما كونيا، لا معنويا فحسب. في هذا التفكير تتردد الصورة القديمة، التشبيهية بالإنسان، وإن تكن مغلفة بإطار من الجدل المنظم الدقيق، ومصوغة في قالب منطقي محكم؛ ذلك لأنه إذا لم يعد الخير مجرد معنى إنساني، وإنما قوة موجهة للكون، فالنتيجة المباشرة لذلك هي أن الكون قد اصطبغ بصبغة إنسانية. فلتبحث إذن عن معنى إنساني في كل ظاهرة كونية، وسوف تجده حتما؛ إذ إن الكون قد خلق «من وجهة نظر الخير»؛ أعني أن له معنى ملائما للإنسان، وفي وسع الإنسان أن يهتدي إلى ذلك المعنى إذا تعمق في تأمله. وهكذا يتبين لنا أن آثار العقلية الغابرة قد ظلت عالقة في الذهن الإنساني خلال مراحل طويلة من تاريخه، واتخذت صورا ظاهرها رائع حقا، أوضحها تلك الصورة التي تجعل للكون قوة خالقة هي في نفس الوقت قوة خيرة، وهي صورة لم تقف عند حد أفلاطون، بل ظلت ملازمة للإنسانية طويلا في مظاهر مختلفة، ولا تستطيع أن تقول إنها قد تخلصت منها حتى اليوم.
ولكن ما الذي يضيرنا في هذه الصورة الإنسانية التي تطبع على الكون؟ أليست على الأقل تبعث أملا باسما في الإنسان؟ ألا تجعل بينه وبين الكون نوعا من الألفة هو أحوج ما يكون إليه؟ أليست خيرا من شعوره بأن القوى المحيطة به في الكون قوى غريبة عنه، لا تعبأ به ولا تعمل من أجله؟ الحق أننا نسلم بأن الأصل في طبع القيم الإنسانية على العالم هو الرغبة في الشعور بالألفة وسط عالم غريب، وهو شعور قد يبدو مفيدا للإنسان مطمئنا لنفسه؛ ولكن لنتأمل نتائج هذا الشعور بالألفة بين الإنسان وبين العالم عن كثب، لكي نتبين آخر الأمر إن كان قد أفاد الإنسان بالفعل أم ألحق به الضرر.
أول ما نلاحظه أن إضفاء معنى إنساني على الكون هو في واقع الأمر سلاح ذو حدين، فهو يلحق بالإنسان من الضرر بقدر ما يجلب له من النفع؛ ذلك لأنه إذا مرت الأحداث كما يشتهي الإنسان، فسوف يعزو ذلك إلى ما هنالك من تجاوب بين المسار العام للكون وبين رغباته، نظرا إلى أن القوة الموجهة للكون هي في نفس الوقت قوة خيرة. أما إذا حدث ما يسيء إليه أو يجلب له الأذى، فسوف يعجز عن التفسير، ويقف حائرا وقد أحس بالجزع أمام ذلك العالم الذي لم يعد يفهمه. فكيف يفسر أفلاطون - في حدود قوله بالهوية بين الخير وبين القوة الخالقة للعالم - كارثة طبيعية، كزلزال يروح الألوف ضحيته؟ لا شك أن أي تفسير لهذه الظاهرة من خلال القول بخيرية العالم سيكون متعسفا، مهما كانت الوسائل التي تتبع في التوفيق بين هذين الجانبين المتعارضين. وهكذا لا يستطيع المرء أن يفهم كل ظاهرة لا توافق غاياته طالما كان يفهم العالم فهما غائيا. أما إذا لم يكن قد طبع ذلك المعنى الإنساني على الكون، فعندئذ سيكون الأمر هينا؛ إذ إن تفسير مثل هذه الظاهرة هو أنه ليس لها تفسير؛ أي إنها تحدث كما تحدث فحسب، دون أن يكون قد قصد منها موافقة غايات الإنسان أو معاندتها.
وفضلا عن ذلك، فإن من شأن تلك النظرة التي تدعي أن للكون في الأصل معنى إنسانيا، وأننا «نهتدي» إلى ذلك المعنى فحسب، أن تقعد الإنسان عن العمل المتواصل من أجل إخضاع ذلك الكون لحاجاته؛ ذلك لأن الطريق الذي يسير فيه الكون يتفق أصلا وغايات الإنسان، فما عليه إلا أن ينتظر، وسيحدث كل شيء كما ينبغي. وتلك هي فلسفة التواكل التي ترجع في نهاية الأمر إلى هذا الاعتقاد الخرافي بأن مسار الحوادث يستهدف معنى إنسانيا، وأن غايات البشر هي القطب الذي تنجذب إليه كل الظواهر. أما إذا أدركنا أن الكون قد خلا من كل معنى إنساني، فعندئذ يتسع أمامنا المجال لكي نحاول نحن إضفاء ذلك المعنى عليه، لا بطريقة تخيلية تصورية كما فعلها الأقدمون، ولكن بالعمل الدائب الذي يرمي إلى إخضاع الكون وتسخيره لغايات البشر.
وهنا نعود مرة أخرى إلى ما قلناه في مستهل هذا الفصل، من أن الفارق الأساسي بين العقلية الخرافية والعقلية العلمية هو اعتقاد الأولى بأن الكون يسير بالفعل وفق غايات الإنسان. وما نهضت الروح العلمية إلا منذ اللحظة التي نفض فيها العقل عن نفسه هذا الاعتقاد الواهم، ووضع فيها الإنسان لنفسه شعارا جديدا هو: إذ لم يكن العالم يسير وفقا لغاياتي، فلأجعله يسير وفقا لها، بالعمل والجهد، لا بالأسطورة والخيال! في هذه اللحظة وحدها نستطيع أن نقول إن العلم الحقيقي قد بدأ؛ فما العلم إلا محاولة منظمة لتسخير الكون لخدمة الإنسان، وللتحكم في تلك الظواهر التي كانت تبدو من قبل مستقلة تماما عن سيطرته.
وإذا كان التقدم العلمي الحديث قد عبر ضمنيا عن هذه النظرة الجديدة إلى العالم، فإن الفلسفة قد تأخرت في المجاهرة بها، وفي التعبير الواعي عنها. فإذا أدركنا مدى خطورة هذه النظرة الجديدة إلى القيم، وكيف أنها هي التي تميز العقلية المتحضرة من العقلية البدائية بوجه عام، فعندئذ يتضح لنا إلى أي حد كان التنبيه إليها عملا جليل الشأن، وإلى أي مدى يعد ذلك انقلابا حقيقيا في التفكير الإنساني. ونستطيع أن نقول إن أول محاولة فلسفية جدية في هذا الشأن كانت هي محاولة نيتشه؛ فالفضل الأكبر لنيتشه - في رأينا - ليس في السبق إلى هذا المبحث الفلسفي الجديد، مبحث القيم (ولو أن هذا وحده فضل لا يمكن الحط من قيمته)، بقدر ما هو في التصريح بما كانت تنطوي عليه النهضة العلمية الحديثة ضمنا، وفي التعبير عن الفلسفة الكامنة في كل تقدم أحرزه العقل البشري؛ أعني في تأكيده خلو العالم من القيم، التي لا يخلقها إلا الإنسان ذاته، ولا تضفيها على العالم إلا مطالبه وحاجاته.
بمعزل عن التفاؤل والتشاؤم
ومن الناس من يفهم فكرة خلو العالم من كل معنى إنساني فهما متحيزا، فيظن أن معناها هو أن العالم يسير في اتجاه مضاد لغايات الإنسان. أولئك هم المتشائمون، الذين يتوهمون أن العالم إما أن يكون له معنى إنساني، وإما أن يكون له معنى غير إنساني، فينتهي بهم الأمر، حين لا يجدون المعنى الأول، إلى القول بأن في الكون قوة مضادة للإنسان، تعمل على إلحاق الضرر به، ويصورون الحياة في صورة قاتمة، ما دامت الوجهة التي يتخذها العالم مخالفة لتلك التي يريده الإنسان أن يسير فيها. ومن هنا كانت دعوتهم تتجه إلى إنكار الحياة والعزوف عنها، وأقصى غاياتهم أن يحلوا روابطهم بهذا العالم بقدر ما في مكنتهم. ودعاة التشاؤم هؤلاء ليسوا أقل وهما من إخوانهم دعاة التفاؤل، فهم يعتقدون بأنه كان يجب أن يكون للعالم في الأصل معنى إنساني، ولكنه غير موجود، وإنما الذي يوجد معنى يمكن أن يفهم بدوره من خلال مقولات الإنسان؛ أعني أن العالم يتركز هنا أيضا حول الإنسان، وإن يكن ذلك على نحو عكسي لا طردي. والموقف الصحيح، الذي يدعو إليه نيتشه في هذا الصدد، هو أن ينظر إلى القيم على أنها بمعزل تماما عن طبيعة الأشياء؛ فمكانها الحقيقي في ذهن الإنسان الذي خلقها. أما العالم، فليس موافقا أو مخالفا لها، وإنما هو مستقل عنها فحسب. وهكذا نرى القيم لا تؤثر في الواقع الطبيعي أي تأثير، ولا الواقع يؤثر في القيم. وبعبارة أخرى، فلن يزيده الشيء صفة جديدة إذا اكتسب قيمة، وستظل جميع صفاته العقلية في صلة ببقية الأشياء وبالنظام العام للكون كما هي دون أدنى تغيير، وكل تغير يحدث في هذه الحالة إنما يطرأ على الذهن؛ أعني على «المعنى» الذي يضفيه العقل البشري على الشيء. والحق أن كنت
Kant
قد عبر عن هذه الفكرة ذاتها تعبيرا ضمنيا في نقده المشهور للحجة الأنتولوجية في إثبات وجود الله؛ إذ قال إن قرشا في الخيال لا يختلف عن قرش في الواقع على الإطلاق؛ أعني أن واقعية الشيء لا تزيد من قيمته. والنتيجة المباشرة لفكرة كنت هذه هي أن القيمة مستقلة تماما عن التحقق الواقعي. وليست مرتبطة بالبناء الفعلي للعالم، ما دام تحقق القيمة في الوجود لا يرفع مرتبتها فوق ما لم يتحقق بالفعل.
الإنسان خالق القيم
فمن أين أتت القيم إذن؟ إن خالق القيم هو الإنسان. وليس لها خارج الفاعلية الإنسانية أي كيان واقعي؛ فالإنسان هو الذي أضفى على الكون كل ما فيه من معنى، ويظن مع ذلك أنه قد «اهتدى» إلى ذلك المعنى فحسب: «الحق أن الناس قد أعطوا أنفسهم كل خيرهم وشرهم. والحق أنهم لم يتلقوه، ولم يجدوه، ولم يهبط إليهم من السماء!»
1
ولو أدرك الإنسان عن وعي أنه هو خالق هذا البناء الشامخ من القيم، لعمل على تحقيق هذه الغايات التي يريدها لنفسه تحقيقا واقعيا، ولازدادت ثقته بنفسه، وبقدرته المبدعة ... ولكنه في واقع الأمر ينكر ذلك، ويوهم نفسه أنه قد «وجد» هذه القيم فحسب، وأنها هناك، مفروضة على الأشياء بالرغم عنه. فإذا ما أحس بأنها في وجودها مستقلة عنه، فلن يحاول أن يغير منها شيئا، بل سيبقيها على حالها، وسيقبل الأمور على ما هي عليه.
وهكذا يتبين لنا أن إرجاع القيم إلى الإنسان عند نيتشه لا يعبر عن نزعة ذاتية أو صوفية، بل هو في واقع الأمر دعوة صريحة للإنسان كي يمارس فاعليته على أوسع نطاق ممكن. فلن يقف في وجه هذه الفاعلية شيء إذا تبين أن العالم لا يحمل معنى ثابتا، وأن في وسع الإنسان أن يضفي عليه بمجهوده الخاص من المعاني ما يشاء، مثلما أضفى عليه من قبل معناه القديم، دون وعي منه، ثم ثبته وقدسه.
والقوة التي تدفع الإنسان إلى إضفاء قيم معينة على الأشياء، هي الحياة، فكل تقويم إنساني إنما يستهدف نفع الحياة في آخر الأمر. ولن يستطيع المرء أن يستقر في آخر الأمر على معنى معين لكلمة «الحياة» عند نيتشه، وهل يعني بها النفع الحيوي للنوع، أم امتلاء الحياة الفردية، والحق أن لكل من الرأيين أنصاره الذين يمكنهم أن يجدوا لرأيهم شواهد تؤيده من نصوص نيتشه في كلتا الحالتين. وعلى أية حال فليس يعنينا هنا أن تفهم آراء نيتشه في هذا الصدد بمعنى تطوري أو بمعنى وجودي، وحسبنا أنه أرجع القيم إلى الأرض، وإلى الإنسان، وإلى القوة الفعالة في الإنسان؛ أعني الحياة.
وارتباط القيم بالحياة هي أوضح شاهد على نسبيتها؛ ذلك لأن للحياة مطالب متجددة، وهي لا تخضع لصيغ منطقية جامدة حتى يقال إنها تثبت على اتجاه واحد، وإنما هي تلقائية في سيرها، تتخذ لنفسها من القيم ما تشاء حتى يمكنها أن تعلو على ذاتها دواما. والحق أن نيتشه في تأكيده نسبية القيم وارتباطها بالنفع الحيوي، يبرهن على رأيه أحيانا بشواهد تشبه إلى حد بعيد تلك التي ظهرت فيما بعد عند أصحاب الاتجاهات الأنثروبولوجية والاجتماعية بوجه عام. فهو مثلهم يحرص على أن يربط القيم السائدة في كل عصر وبيئة بنوع الظروف التي تسود هذا العصر والبيئة، وكثيرا ما تتخذ لهجته شكل نزعة علمية واضحة، استبق بها بعض الاتجاهات العلمية التالية له. وليس معنى ذلك أنه هو الآخر قد اتبع المنهج العلمي في إثباته نسبية القيم؛ فمن المسلم به أنه لم يدرس مثل هذه الموضوعات أية دراسة تجريبية كتلك التي قامت بها المدارس العلمية التالية، وكل ما يمكن أن يقال عنه هنا إنه قد اهتدى نظريا إلى نتائج تأيدت فيما بعد تأييدا تجريبيا لا سبيل إلى الشك فيه.
والحق أن هذا التأرجح بين الفهم العلمي والفهم الفردي من أخص الصفات التي يتميز بها تفكير نيتشه؛ فهو أحيانا يبني نسبية القيم على أسس بيولوجية واضحة، فيقول: «إن التمييز بين ما هو رفيع وما هو وضيع في جسمنا وفي أعضائه ليس من خصائص الروح العلمية في شيء؛ فنحن نجعل لأحد الأعضاء مكانة رفيعة طالما أننا لا نرى فعله وأثره، أو لا نحس بهما (عن طريق الأنف أو حاسة اللمس)! فالتقزز، لا «القيمة» هو الذي يتحكم في التمييز بين الرفيع والوضيع، وهذه إحدى نقط بداية ما تضعه المذاهب الأخلاقية من تفرقات.» وفي نفس الوقت الذي يصرح فيه بمثل هذه التفسيرات العضوية لما هو رفيع ووضيع في الإنسان، نراه يلجأ إلى بناء القيم على أسس نفسية فردية خالصة، ويجعل من إرادة الفرد مصدرا خالقا لكل المعايير، ولا يعترف بأمر عام يسن قاعدة شاملة، وإنما يؤمن بالأوامر الفردية التي توجهها الذات إلى نفسها فحسب. وليس يكفي لتعليل هذا الازدواج في تفكيره أن ننسب كلا من الفكرتين إلى فترة معينة، فنقول إن الفهم الطبيعي والعضوي كان يسود الفترة الوضعية الثانية، والفهم الفردي كان يسود الفترة الصوفية الأخيرة؛ إذ إن النظرتين كانتا قائمتين معا في الفترة الثالثة مثلا، بل وفي كتاب واحد ينتمي إليها، مثل كتاب إرادة القوة. وفي هذا ما يشهد بأن نيتشه لم يعترف بالحدود الفاصلة بين أنواع التفسير المختلفة، ولم يجد تعارضا بين التعليل الطبيعي أو العضوي، وبين التعليل الفردي أو الصوفي لظاهرة ما، وأيا ما كان حكمنا على هذا التوفيق، فهو على أية حال مظهر من مظاهر اتساع الأفق. وفي وسعنا أن نهتدي إلى سبيل لإدماج التعليلين، العضوي والفردي، أو العلمي والصوفي عند نيتشه، إذا أدركنا أنه ينظر إلى القيم نظرة واقعية تماما. فهي ليست مثلا عليا بعيدة، وإنما هي كامنة في الواقع، وفي الحياة ذاتها؛ ومن هنا كانت نظرته إلى القيم فردية، وبيولوجية في نفس الآن.
فما هو الهدف الذي كان نيتشه يرمي إليه من دعوته إلى انقلاب شامل في القيم
Umwertung aller Werte ؟ نستطيع أن نقول إن دعوته هذه كانت هي الخطوة الأساسية الأولى، التي لا يمكن أن تقوم ثورة عقلية أو علمية بدونها؛ فالقول بنسبية القيم يفتح أمامنا السبيل إلى محاولة تغييرها، ولا يجعل هذا التغيير أمرا مستحيلا، كما كان الحال في النظرة القديمة المطلقة، وأن أي سعي إلى تغيير الأوضاع التي يحيا عليها الناس، سواء في المجال الفكري وفي المجال الاجتماعي، إنما يفترض مقدما إيمانهم بأن المعايير التي يقيسون بها الأمور ليست معايير أزلية ثابتة، فرضت عليهم بقوة لا سلطان لهم عليها، وإنما هي معايير صنعها الإنسان لهدف معين، وفي وسعه أن يبدلها إذا شاء أن يضع لنفسه هدفا آخر.
وهذه الدلالة السلبية لنظرية نيتشه في القيم هي في رأينا أقوى من أية دلالة إيجابية؛ ذلك لأنه حين ينتقل إلى الجانب الإيجابي، وحين يوضح الهدف الذي يرمي إلى تحقيقه من انقلابه في القيم، ينادي بآراء يرفضها اليوم كثير من الناس، ولا يستطيع باحث منصف أن يقبلها على علاتها. ومع ذلك، فإذا كان نيتشه قد أخطأ طريق الإصلاح، فحسبه أنه مهد هذا الطريق من قبل، ووضع الأسس التي لا يكون الإصلاح بدونها ممكنا؛ أعني أنه نبهنا إلى أن معاييرنا إنسانية. فلنرفض معاييره الجديدة إذا شئنا، ولكن لنذكر له دائما هذا الفضل، وهو أنه فتح أمامنا سبل التجديد في فهمنا العقلي للعالم وسلوكنا الفعلي فيه، وذلك حين مجد قدرتنا الإنسانية على الخلق والإبداع، وأزاح كل ما كان يقف أمام فاعلية الإنسان من عقبات.
الفصل الثالث
المعرفة والحياة
إذا كانت فلسفة نيتشه تعترف بنوع من المطلق، فهذا المطلق هو الحياة. وفكرة الحياة عند نيتشه، هي فكرة بلغت حدا بعيدا من العمومية والاتساع، يكاد يعجز معه المرء عن فهم المقصود منها في كثير من الأحيان. ويبدو أن نيتشه ذاته لم يحرص على شرح معناها، أو لم تكن لها في ذهنه صورة محددة واضحة المعالم. وإذا كان أقرب المعاني إلى فهمها هو المعنى البيولوجي، فإن تفكير نيتشه كثيرا ما يبتعد عن هذا المعنى، ويتخذ اتجاها صوفيا لا صلة له بالمعنى العلمي للحياة على الإطلاق. وعلى أية حال، فالفكرة لم يكن يقصد منها إلا أن تكون نواة تتبلور حولها كل خيوط الثورة العاتية التي واجه بها نيتشه عصره. فهو يلخص نقائص العصر - في مختلف المجالات - بكلمة واحدة، هي إنكار الحياة، ويلخص هدف حملته النقدية الهائلة بكلمة واحدة، هي الإقبال على الحياة. أما المقصود بالحياة ذاتها فيفهم ضمنا من خلال هذا النقد خيرا مما يفهم من أي تعريف أو توضيح.
فالحياة عند نيتشه تتحكم في خلق كل القيم؛ فهي أصل القيم العقلية والأخلاقية؛ أعني أنها هي المبدأ الكامن وراء كل معرفة وكل سلوك. ولن نعرض في هذا القسم إلا لتعبير نيتشه عن الحياة من حيث هي أصل القيم العقلية. أما القيم الأخلاقية فموضع بحثها هو القسم التالي.
فكرة الحقيقة
من الأفكار التي لم يحاول فيلسوف قبل نيتشه أن يناقشها، أو يتساءل عن قيمتها، وعن فائدة تمسك الناس بها، فكرة الحقيقة؛ ذلك لأن الحقيقة كانت تعد دائما بمنأى عن كل شك، وعن كل سؤال؛ إنها الهدف الأعلى الذي تتجه إلى تحقيقه المعرفة الإنسانية، وقد نخطئ نحن في اتخاذ الوسائل التي تقربنا إلى ذلك الهدف، ولكن الهدف ذاته يظل منزها رفيعا. وهكذا ارتفعت الحقيقة فوق عالم التغير والصيرورة الذي نعيش فيه، واستقلت عن شروط الحياة المتحكمة فينا، واصطبغت بصبغة أزلية، فكونت عالما قائما بذاته، هو عالم المطلق. وفي هذا العالم تستقر كل الأزليات الأخرى التي عرفها العقل البشري، من مثل أفلاطونية وأشياء في ذاتها، ومبادئ مطلقة، وعلل أولى.
ولكن نيتشه لا يقبل أن يترك فكرة توصف بالأزلية دون أن يتساءل عن علة هذا الوصف، ومدى صحته. وهو لا يكتفي بهذا التساؤل بالنسبة إلى الأزليات الأخرى التي تستقر في عالم الحقيقة، بل يمتد في بحثه إلى المقر الأول لها جميعا؛ ذلك المقر الذي لم يحاول أحد من قبل أن يقترب منه، ولهذا لم يفلح أحد في نقد ما هو مستمد منه نقدا حاسما. أما نيتشه، الذي لا يقف تساؤله عند حد، فإنه يبدأ بأن يهاجم الأصل، مهما كانت قداسته، فتكون مهاجمة الفروع بعد ذلك أمرا هينا.
فهل كان الفلاسفة على صواب، حين أجمعوا على فصل الحقيقة عن الحياة؟ إن الحياة هي الأصل الذي يتحكم في كل فعل أو فكر إنساني، فلا بد أنها تتحكم في الحقيقة بدورها. وفي هذه الحالة؛ أعني حين نخضع الحقيقة لأصل سابق يتحكم فيها، هو الحياة، يكون علينا أن نغير نظرتنا إلى الحقيقة تغييرا شاملا؛ فالشائع أن الحقيقة ثابتة؛ غير أن هذا الثبات إنما يرجع إلى فصلها عن الحياة. فإذا ما أعيد ارتباطها بها، أصبحت متقلبة مع الحياة في تغيرها وصيرورتها. والشائع أن الحقيقة مطلقة؛ أعني أن العوامل التي تتحكم فيها لا يمكن أن تكون عوامل حيوية أو نفعية، بل تقصد الحقيقة لذاتها دائما؛ غير أن ربط الحقيقة بالحياة يؤدي إلى نتيجة تخالف ذلك كل المخالفة؛ فنيتشه يضع أمام أنظارنا دائما هذا الاحتمال، وهو أن تكون الحقيقة ناشئة عن النفع الحيوي ، وهو لا يتصور أن تقوم الحقيقة من أجل الحقيقة ذاتها، فتلك في رأيه ألفاظ فارغة لا تنطوي على معنى أو محتوى. ومن المحال أن تفلت الحقيقة من تأثير الحياة، الذي يمتد إلى كل ما له بالبشر صلة. ولكن، عم تبحث الحياة؟ إنها لا تبحث إلا عن نفعها الخاص؛ أعني عن تلك الشروط التي تعين على استمرارها ونموها المطرد. وعلى ذلك، فالأصل في الحقيقة نفع الحياة، وتقديم الشروط اللازمة لنموها.
1
ولكن هذا معناه أن الحقيقة لن تكون خالصة، ولن يكون هدفها كامنا فيها هي ذاتها، بل في شيء آخر سابق عليها، وأقل منها «نقاء» و«تجريدا». إن الغرض من كل حقائقنا هو استمرار حياتنا ونموها، فهي إذن ليست حقائق أزلية، خالصة، بل هي وسائل لغاية لا تربطها بالعالم العقلي الخالص صلة؛ أعني الغاية الحيوية.
وهنا يسارع نيتشه إلى استخلاص النتيجة الضرورية لهذا التسلسل في التفكير، فيؤكد أن أصل الحقيقة هو البطلان، ما دامت الحقائق تدوم بقدر ما تنفع الحياة. «إن بطلان الحكم ليس في رأينا أمرا يعترض به على الحكم، وهنا يصل وقع لغتنا الجديدة على الآذان إلى أقصى درجات الغرابة. وإنما المشكلة هي: إلى أي حد يكون الحكم عاملا على تقدم الحياة وحفظها، وعلى حفظ النوع، وربما على إنجاب النوع؛ وإنا لنميل أساسا إلى أن نؤكد أن أكثر الأحكام بطلانا (وإليها تنتمي الأحكام التركيبية الأولية) هي أكثرها ضرورة لنا، وأن الإنسان ما كان يمكنه أن يعيش بدون أن يدع الأوهام المنطقية تسود، وبدون أن يقيس الواقع بمقياس ذلك العالم الخيالي البحت، عالم المطلق، والمماثل لذاته، وبدون تزييف كامل للعالم عن طريق العدد. وإنا لنؤكد أن الانصراف عن الأحكام الباطلة معناه الانصراف عن الحياة وإنكارها ...»
2
ولهذه الفكرة معنى مزدوج، فهي أولا تعني أن كل ما ينتج عن النفع الحيوي، بما فيه من عناصر لا عقلية، ولا منطقية، لا بد أن يعد بطلانا. وهي تعني ثانيا أن الحياة لا تعبأ بشيء إلا باستمرارها وتقدمها، وفي سبيل ذلك تستعين بأية وسيلة، حتى لو كانت هذه الوسيلة هي البطلان. ويستند نيتشه في ذلك إلى أن الأخطاء كثيرا ما تكون - من وجهة النظر النفعية - عاملا مفيدا، يجعل للحياة البشرية لونا زاهيا، حتى لو كان ذلك اللون من الخيال المحض. فلنختبر كلا من هذين المعنيين على حدة، لنرى مدى صواب فكرة رد أصل الحقيقة إلى البطلان عند نيتشه.
أما عن المعنى الأول، الذي يرى فيه نيتشه أن تعد نواتج الحياة أخطاء باطلة، فهو في رأينا معنى غير موفق؛ إذ إن نواتج الحياة ليست بالفعل حقائق، ولكنها في نفس الوقت ليست أخطاء باطلة؛ فالحياة - في رأي نيتشه ذاته - قوة تسير في طريقها تلقائيا، دون أن يفرض عليها أي هدف أو غاية خارجية عنها. على أن القول إنها مضادة للعقل وللحقيقة هو قول لا يقل غائية عن القول بأنها قوة عاقلة تستهدف الحقيقة. وعلى ذلك، فالفهم الصحيح للحياة ونواتجها - أعني الفهم الصحيح من وجهة نظر نيتشه ذاتها - هو أن تعد الحياة «بمعزل» عن الحقيقة والبطلان معا. وليس هناك أي مبرر لوصف نواتج الحياة بالبطلان، ما دامت الحياة تسير في طريقها التلقائي غير عامدة أن تتفق مع العقل أو تختلف عنه، وما دامت القوى الحيوية بطبيعتها تنتمي إلى مجال آخر غير المجال الذي ينتمي إليه العقل. وعلى ذلك، فالقول إن البطلان أصل الحقيقة هو - بهذا المعنى - تعبير غير موفق، والأصح أن يقال إن للحقيقة أصلا مستقلا عن مجال الحقيقة تماما؛ أي بمعزل عن الحقيقة والبطلان.
وأما عن المعنى الثاني، القائل إن الخطأ يفيد الحياة، وإن الحقيقة يمكن أن ترتد إلى البطلان، ما دامت تهدف بدورها إلى نفع الحياة، فيتعرض بدوره لانتقادات عديدة. فأول ما نلاحظه عليه أنه لا يمكن أن يعبر عن نظرية شاملة في معنى الحقيقة، وإنما عن نقد لنوع معين من الحقائق؛ ذلك لأننا إذا حاولنا أن نرد الحقيقة إلى البطلان الذي ينفع الحياة، لكان علينا أولا أن نتساءل: كيف عرفنا أن هذا بطلان، وبأي مقياس أمكننا أن نقيسه؟ لا بد أن لدينا مقياسا مطلقا يفرق بين الحقيقة القاطعة والبطلان القاطع، وهو الذي مكننا من أن نعرف الحقيقة النافعة للحياة بأنها بطلان، وفي هذه الحالة لن تكون نظرية نيتشه - كما قلنا - نظرية شاملة عن الحقيقة؛ إذ إنها تتعلق بنوع واحد من الحقائق، هو الحقائق النافعة للحياة، وتعترض ضمنا بوجود نوع آخر من الحقائق الخالصة التي لا تخضع للحياة ولا تزيف بواسطتها؛ أعني ذلك النوع الذي اتخذناه معيارا للحقائق النافعة للحياة، فوجدنا هذه الأخيرة باطلة بالقياس إليه. ومن هنا، نستطيع أن نقول إنه على الرغم من تلك الحملة القوية التي شنها نيتشه على المثاليين، فقد كانت في فلسفته هو الآخر عناصر مثالية، بل إن تفكيره في مشكلة المعرفة والحقيقة يمثل التفكير المثالي أصدق تمثيل؛ ففيه اعتراف ضمني بحقيقة مطلقة تعد الحقائق المرتبطة بالحياة بطلانا بالنسبة إليها، بل فيه وضع لمبدأ مطلق شامل يتحكم في التجربة الإنسانية دون أن تستطيع هذه أن تستوعبه أو تعرف كنهه؛ هو الحياة، التي تغدو عندئذ فكرة قريبة الشبه من سائر مظاهر المطلق عند المثاليين.
وفي هذا الربط بين الحقيقة والحياة عند نيتشه لمحات تقرب من مذهب «البرجماتية» وتستحق منا أن نشير إليها إشارة خاصة. ففلسفة البرجماتية تقضي بدورها على فكرة الحقيقة الخالصة، وتحاول أن تربط الحقيقة بأصول عينية لا تجريدية، وأن تجعل للاعتبارات العملية - لا النظرية الخالصة - أثرها في إقرار الحقائق. فمجرد الربط بين الحقيقة والحياة عند نيتشه، يقربه كثيرا من هذا المذهب؛ إذ تغدو الحقيقة عنده نتيجة تستخلص بعد مجهود حيوي متواصل. وليست مجرد نقطة بداية ثابتة لا يتطرق إليها الشك. وذلك في الحق موضع القوة في نظرية نيتشه والبرجماتيين معا، فمحاولة القضاء على ذلك الطابع التجريدي الذي اصطبغت به الحقيقة في الفلسفات التقليدية، ومحاولة ربطها بالتجربة الإنسانية العينية في سيرها الدائم، يمثل تقدما لا ينكر في فهم هذه المشكلة، وربما كانت فلسفة البرجماتية أكثر اتساقا مع نفسها من نيتشه في هذا الصدد؛ إذ إنها لم تحاول أن تطلق على الحقائق النافعة للحياة اسم البطلان، وإنما أكدت أن المصدر الوحيد للحقيقة هو صلاحيتها للعمل، وأن كل محاولة لوضع تقويم مطلق لهذه الحقائق، من وراء معيار الصلاحية للعمل هذا، هي حتما محاولة مصيرها الإخفاق؛ غير أن مذهب البرجماتية يتعرض مع نظرية نيتشه لنقد أساسي، هو اتخاذها موقفا مثاليا؛ ذلك لأن المبالغة في تقدير فاعلية الإنسان في خلقه للحقيقة تستتبع المثالية حتما. ونحن لا ننكر أن ربط الحقيقة بالتجربة الإنسانية الفعلية في هذا العالم، وتأكيد مساهمة الإرادة الإنسانية فيما يصل إليه الإنسان هو - كما قلنا في السطور القليلة السابقة - تقدم لا شك فيه. ولكن نيتشه - مثله في ذلك مثل فلاسفة البرجماتية من بعده - يبالغ في تقدير أهمية الفاعلية الإنسانية، حتى تغدو تلك الفاعلية «خالقة» للحقيقة. وهنا يتبدى العنصر المثالي في تفكيره بوضوح؛ ذلك لأن الحقيقة تعتمد على الإنسان في «كشفها» أكثر مما تعتمد عليه في خلقها من جديد. وفي الوصول إلى أية حقيقة يتضافر العنصر الإنساني مع العنصر الواقعي، وما كانت المثالية في أساسها إلا محاولة للقضاء على هذا العنصر الأخير، وعلى ذلك، فمن أخطر النتائج التي تتعرض لها الفلسفات التي تبالغ في تقدير أهمية الفاعلية الإنسانية، أنها تنتهي إلى نوع من الذاتية في فهمها للحقيقة، وقد لا تكون هذه ذاتية فردية، بل ذاتية متعلقة بالنوع الإنساني عامة، ولكنها على أية حال تنكر تضافر عنصر الواقع مع عنصر الذهن في كشف الحقيقة. والحق أن للواقع صلابة لا ينبغي أن تغفلها أية نظرية سليمة في طبيعة الحقيقة. وليس معنى هذه الصلابة أن الواقع لا يخضع للفاعلية الإنسانية أصلا، فهو في بعض الأحيان يتشكل تبعا لخطة الذهن الإنساني، ولكن حتى في الأحوال التي يشكل الذهن فيها الواقع، فإن معنى التشكيل ذاته لا يكون هو الخلق من جديد، بل بقاء العنصر الخارجي مع تغيير في شكله. أما في الأحوال الأخرى، فإن الفاعلية الإنسانية تستطيع أن تثبت وجودها حين تتعمق في هذا الواقع وتصل إلى طبيعته الخفية، وتصوغ إيقاعه في قوانين تمكن الذهن الإنساني من التحكم فيه.
ففي كل هذه الأحوال إذن لا نستطيع أن نغفل دور العنصر الواقعي في تكوين الحقيقة، وهو الدور الذي لا يتعارض على الإطلاق مع تأكيد أهمية الفاعلية الإنسانية. أما فلسفة نيتشه والبرجماتية، فتكاد تصل في بعض الأحيان - مبالغة منها في تأكيد فاعلية الإنسان - إلى جعل الحقيقة عملية تتم من جانب واحد، ولا يتضافر فيها عنصرا الذهن والواقع، وإنما تخلقها الإرادة الإنسانية دون أن تواجه مقاومة من أي عنصر خارجي، فتكون النتيجة الضرورية لهذا الرأي هي ظهور النزعة الذاتية، وبالتالي المثالية. وهكذا ترتد الحقيقة مرة أخرى - إذا بولغ في تقدير العنصر الإنساني فيها - إلى أصل يقرب من ذلك الذي أرادت تلك النظرية محاربته في أول الأمر؛ إذ تصبح ذاتية، ذهنية، مثالية.
اللامعقول في المعرفة
فإذا كانت الحقيقة خاضعة للنفع الحيوي، فلا بد أن كل ما نستهدف به بلوغ الحقيقة؛ أعني كل وسائلنا في المعرفة، سوف تخضع للحياة بدورها. وهكذا نصل إلى نظرية لا عقلية في المعرفة، وفي طبيعة مبادئ الفكر الإنساني، وهي النظرية التي لازمت فلسفة نيتشه في كل مراحل تفكيره، حتى في أشدها إعجابا بالمنهج العلمي.
فأصل المعرفة، والمنطق، ليس هو الرغبة في المعرفة خالصة، أو المنطق مجردا، وإنما هو عامل لا عقلي ولا منطقي؛ أعني هو نفع الحياة. أما الرغبة في المعرفة الخالصة، وهي التي تدفعنا في بحثنا العلمي خلال فترتنا الحضارية الحالية، فهي في رأي نيتشه رغبة متأخرة، نشأت بعد تطور ونمو. وليست رغبة كامنة في العقل البشري؛ وإنما الأصل هو البحث عما ينفع الحياة بأي ثمن.
3
فنحن لم نكن لنمتلك العقل لو لم يكن ضروريا لنا، ولم نكن لنمتلكه «على هذا النحو» لو لم يكن ضروريا لنا «على هذا النحو»؛ أعني لو كان في وسعنا أن نحيا على أي نحو آخر.
4
وما زالت لهذه الرغبة في النفع الحيوي آثارها إلى اليوم، تتمثل في الدور الذي تؤديه الأسطورة، وهي خطا نافع للحياة، يضفي عليها صورة زاهية ملائمة للإنسان، على العكس من تلك الصورة القائمة التي تضفيها على العالم تلك الرغبة المتأخرة في المعرفة الخالصة، حيث لا تتحقق في العالم غايات إنسانية، وحيث يسير العالم بلا هدف، وحيث لا يسود إلا الاتفاق المحض.
وكما يسري هذا الأصل اللاعقلي على المعرفة والعقل بوجه عام، فهو يسري على كل مبادئهما. فهذه المبادئ قد اصطبغت في الفلسفات التقليدية بصبغة أزلية ثابتة، ولم يجرؤ أحد على الاقتراب منها أو الشك فيها، ولا غرو فهي كلها مظاهر لتلك «الحقيقة» المطلقة التي كانت تقدمها تلك الفلسفات وتنأى بها عما في عالمنا الأرضي من تغير. ولكن نيتشه يتبع هذه المبادئ واحدا بعد الآخر، ليرفع عنها قناع الأزلية الموهوم، ويردها هي الأخرى إلى أصلها الأول؛ أعني إلى الصيرورة الحيوية.
والمبدأ العقلي الأساسي هو مبدأ الهوية، الذي يؤكد بقاء الشيء على حاله، ومطابقته لذاته دواما. والحق أن هذا التفسير لمبدأ الهوية هو تفسير نيتشه. وليس تفسيرنا الخاص؛ وهو في رأينا تفسير غير دقيق؛ إذ يضاف إليه عنصر زماني لا صلة له بالمبدأ في صيغته المنطقية الخالصة، فيقال إن الشيء «يظل» على ما هو عليه؛ أي يطابق ذاته «دائما»، بينما الأصل في الهوية أنها مجرد ترديد للشيء الواحد دون إقحام أي عنصر زماني ... فمما لا شك فيه أن إضافة العنصر الزماني يقضي على الهوية، ويمهد السبيل للتغير، ولكن ربما كان لنيتشه العذر في فهم المبدأ على هذا النحو؛ إذ إن الفهم المنطقي الخالص للهوية لم يصبح هو السائد إلا في عصر متأخر عن عصر نيتشه، حين أدى البحث الرمزي للمنطق إلى استبعاد كل ما له ارتباطات عينية من مجال الكيانات المنطقية؛ ومن ضمن هذه الارتباطات العينية عنصر الزمان.
ويقول نيتشه باستحالة الهوية مفهومة بهذا المعنى؛ إذ إن الهوية ليست إلا إضفاء لصفة التشابه على ما هو غير متشابه. ومن المحال أن نستطيع إيقاف تيار التحول والصيرورة لحظة واحدة، نهتدي فيها إلى حالة من حالات الهوية. فمبدأ الهوية إذن لا يرتكز على أي أساس في طبيعة الأشياء، وإنما هو وسيلة يصطنعها العقل حتى يستطيع أن يهتدي إلى نقط واضحة خلال تيار الصيرورة الذي لا ينقطع. فإذا كان أول مبادئ العقل وأبسطها تزييفا ، فبديهي أن كل المبادئ المبنية عليها تزييف بدورها.
ومن هنا ينتهي نيتشه إلى القول بأن أصل المنطق لا منطقي. «فمجال اللامنطقي كان في الأصل أوسع بكثير من مجال المنطقي. على أن الكائنات العديدة التي كانت تفكر بطريقة غير تلك التي نفكر نحن بها، قد هلكت، وربما كانت هذه الكائنات أصدق منا! ... فالميل الغالب إلى أن نتعامل مع «القريب» على أنه مماثل، وهو ميل لا منطقي - إذ لا يوجد شيء مماثل في ذاته - هذا الميل هو الذي كون كل أسس المنطقية منذ البداية ...»
5
على أن نقد العقل ومبادئه الأساسية يؤدي مباشرة إلى نقد الميتافيزيقا وكل ما يرتبط بها من أفكار وتصورات؛ ذلك لأن العالم الميتافيزيقي - في الفلسفة التقليدية - قد بني على الإيمان بوجود حقائق عقلية خالصة، تتخذ دعائم للوصول إلى ذلك العالم. فإذا نقدت هذه الدعائم، انهار ذلك العالم من أساسه.
وحملة نيتشه على الميتافيزيقا من أشد الحملات التي تحمس لها طوال حياته الواعية. ويبدو أن الميتافيزيقا كانت تلخص في رأيه كل ما خلفه ماضي العقل الإنساني من أخطاء. فهي وريثة الدين، بل هي مصاحبة له، ومؤيدة لنتائجه؛ إذ تؤدي إلى أن تخلق عالما آخر مستقلا عن عالمنا الأرضي، فتبعدنا عنه، وتصرفنا عن الاهتمام به.
6
وهكذا لا يكاد المرء يجد مفرا من فكرة العالم الآخر التي فرضت على الإنسان بشتى الصور. فإذا لم يقتنع بذلك العالم على الصورة التي ترسمها له الأديان، فسوف يجده في الميتافيزيقا مرة أخرى على صورة أدق وأكثر إقناعا، مغلفا بإطار منطقي دقيق، وموصوفا بأرفع الصفات وأعلاها؛ فهو عالم المثل أو الأفكار أو العقل الخالص، وله ثبات ونقاء لن تجد لهما في عالمنا نظيرا، فمن يستطيع أن يقاوم إغراء الالتجاء إلى مثل ذلك العالم، وإغراق يأسه وعجزه فيه؟
ولا تكتفي الميتافيزيقا التقليدية بخلق ذلك العالم، ومحاولة البرهنة على وجوده، بل إنها تؤكد أنه هو «العالم الحقيقي». أما عالمنا هذا فعالم ظواهر فحسب. وهنا تصل تلك الميتافيزيقا إلى أعلى درجات التطرف؛ إذ إن مجرد التسليم بوجود عالمها الخاص أمر ليس بالهين، وعواقبه على السلوك الإنساني وخيمة، فما بالك بالقول إن ذلك العالم هو الحقيقي، وإن عالمنا عالم ظواهر وخداع؟ الحق أن الفكرة بأسرها يجب أن تجتث من جذورها.
7
فوجود ذلك العالم الميتافيزيقي لا سبيل إلى القطع به، وكل البراهين التي تقدم لإثباته براهين واهية سرعان ما تنهار إذا ما تعرضت للبحث الدقيق. وحتى لو سلمنا بوجود هذا العالم الميتافيزيقي، فلن يكون لنا من سبيل إلى معرفته؛ ذلك لأن الطابع المطلق الذي يضفى عليه، والصفات الأزلية التي تنسب إليه، تجعله يعلو على الأفهام الإنسانية ويتجاوز حدودها. فبين ذهننا وبين ذلك العالم - على افتراض وجوده - حواجز لا يمكن تجاوزها. وهكذا يظل العالم الميتافيزيقي بالنسبة إلى الإنسان كأنه لم يكن، وفي وسعنا أن نلمس في نقد نيتشه للعالم الميتافيزيقي تشابها قويا مع النقد الوضعي المنطقي الحديث، وخاصة حين يؤكد أن معرفتنا بذلك العالم مستحيلة، حتى لو وجد؛ فهو في هذه الفكرة يكاد يقترب من الموقف الوضعي القائل إن القضايا الميتافيزيقية تقدم إلينا دون أن يكون هناك سبيل إلى الاهتداء للشروط التي نتحقق بها منها؛ أعني أنها قضايا لا يمكن اختبار صحتها عمليا، لأن شروط هذا الاختبار مستحيلة التحقق.
وحين ينتقل نيتشه إلى النقد التفصيلي للأفكار الميتافيزيقية الرئيسية، نلمس بينه وبين الموقف الوضعي والتجريبي بوجه عام مزيدا من التشابه، وهو تشابه بلغ من الوضوح، وخاصة في الجانب النقدي من تفكير نيتشه، حدا يؤدي بنا إلى أن نعجب لعدم اهتمام الباحثين بإجراء مثل هذه المقارنة، على الرغم مما تؤدي إليه من نتائج إيجابية مثمرة.
أولى هذه الأفكار فكرة الجوهر؛ فحولها تركزت الميتافيزيقا التقليدية، وعن طريقها أضفت على الكون صفة الثبات وأنكرت عليه التحول والصيرورة. والحق أن الصراع القديم بين الصورتين اللتين رسمهما هرقليطس وبارمنيدس للكون، قد انتهى بانتصار الصورة الثانية، فأصبح الكون كله يعد موجودا ثابتا، وإذا اعترف فيه بالكثرة، فتلك هي كثرة من الجواهر الثابتة أيضا. أما صورة هرقليطس فقد اندثرت، ولم يحاول أحد من الفلاسفة أن يبعثها ويدعو إلى قبولها بنفس الحماسة التي دعا بها إليها مبدعها.
والحق أن هذا التجاهل لفلسفة هرقليطس ينم عن شعور بالخوف من التحول والصيرورة؛ ذلك لأن تصور الكون منقسما إلى «جواهر» و«أشياء» يضفي عليه ثباتا يريح العقل والحواس، ويجعل إدراكه والتعامل معه أمرا هينا. أما لو تصورنا أن التغير الدائم هو الذي يسود، فعندئذ يفر كل شيء من أمامنا، وينجرف في تيار الصيرورة، فلا تستطيع أن تثبت منه جزءا لتتعامل معه أو تسيطر عليه. وعلى ذلك، ففكرة الشيء، التي فيها ينظر إلى مكونات العالم من خلال مقولة الجوهر، هي بدورها فكرة ترجع إلى نفس الأصل الذي يتحكم في طريقتنا في المعرفة؛ أعني إلى النفع الحيوي؛ فبدونها لم يكن في وسع الحياة أن تستمر وتواصل طريقها.
وإذا كان انعكاس فكرة الجوهر على العالم يولد فكرة الشيء، فإن لها انعكاسا آخر على الإنسان، يولد فكرة «الذات»؛ ففي هذه الحالة ينظر إلى الذات على أنها هي الأخرى جوهر ثابت، له كيانه الخاص الذي يقوم من وراء كل مظاهره الجزئية؛ فالذات هي المصدر الأول الذي تنبعث عنه مختلف الأفكار والمشاعر والإحساسات، وهي المركز الباطن في الشخصية الإنسانية، والعلة المنتجة لكل أفعالها. وطبيعي أن ينقد نيتشه فكرة الذات مثلما نقد فكرة الجوهر بوجه عام. فإذا شاء أن يهتدي إلى فيلسوف يتمثل لديه الإيمان بفكرة الذات واضحا، فلن يجد في ذلك خيرا من ديكارت؛ ذلك لأن ديكارت قد لخص الميتافيزيقا التقليدية كلها، وطبقها على الوجود الإنساني الباطن، حين قال: «أنا أفكر، إذن أنا موجود.» فهذا الأنا الذي يستدل على وجوده هو الذات الجوهرية الباطنة، التي هي أصل يرتد إليه كل فكر وشعور، وهي المركز الذي تلتقي عنده كل مظاهر فاعلية النفس الإنسانية، بل هي العلة المسببة لهذه المظاهر. وهنا يسارع نيتشه فيتساءل: هل هناك ما يبرر القول بوجود هذا الجوهر المركزي في النفس الإنسانية، من وراء مظاهره المختلفة؟ إن المبرر الذي يرتكز عليه ديكارت، هو اليقين المباشر للكوجيتو، ولكن نيتشه يسخر من الاعتقاد بوجود يقين مباشر لمثل هذه القضية الفلسفية ؛ إذ إنها في واقع الأمر تنطوي على سلسلة من المعتقدات التي يكاد يكون من المستحيل البرهنة عليها؛ «ففيها اعتقاد بأنني «أنا» الذي يفكر، وبأنه لا بد أن يوجد شيء يفكر، وبأن الفكر نشاط صادر وناتج عن كائن ينظر إليه على أنه علة وسبب، وبأن هناك «أنا»، وبأن معنى كلمة الفكر ثابت، وبأنني «أعرف» ما هو الفكر.»
8
وهكذا يتضح لنا مقدار تعقيد هذه القضية التي ظن ديكارت أنها ذات يقين مباشر؛ فهي في الواقع تتضمن في ذاتها معظم المشاكل الميتافيزيقية وتتركها دون حل؛ ومن هذه المشكلات: من أين أتيت بكلمة التفكير؟ ولم أومن بالعلة والمعلول؟ وعلى أي أساس أتحدث عن «أنا»، وعن «أنا» ينظر إليه على أنه علة، بل على أنه علة للتفكير؟ لا شك أن كل ما يمكن أن يستخلص من قضية ديكارت هذه هو: «ثمت تفكير، إذن فثمت مفكر.» ولكن حتى لو أخذت العبارة بهذا المعنى الذي ينطوي على تناقض أقل، فإنها عندئذ تنطوي على اعتراف بفكرة الجوهر، وتأكيد أنها صحيحة أوليا، وهنا يسارع نيتشه إلى نقد هذا الاعتراف قائلا: «أما الاعتقاد بأنه عندما يفكر في شيء فلا بد من وجود شيء هو الذي يفكر؛ ذلك الاعتقاد الذي جعل ديكارت يقول: «أنا أفكر» حين شعر بتفكير؛ فإنه ليس إلا تعبيرا عن الاستعمال النحوي الذي اعتدنا عليه، والذي يضع لكل فعل فاعلا. وبالاختصار، فهنا نكون إزاء افتراض سابق ذي صبغة منطقية ميتافيزيقية، لا إزاء قضية مباشرة. فاتباع الطريق الذي سلكه ديكارت لا يوصل إلى أي شيء يقيني، وإنما يوصل إلى اعتقاد راسخ شاع طويلا بين الناس.»
9
وفي هذا النقد الذي وجهه نيتشه إلى قضية ديكارت؛ أعني إلى فكرة الذات بوصفها جوهرا قائما بالتفكير، نلمس مثلا آخر من أمثلة الاقتراب بين تفكير نيتشه وبين المذاهب الوضعية الحديثة. فعند «آير
Ayer »، ذلك المتحدث المعروف بلسان الوضعية المنطقية، نجد نقدا مشابها لفكرة ديكارت؛ إذ يؤكد أن كلمة «أنا أفكر» كان يجب أن تحل محلها كلمة «هناك فكرة الآن»، ولو قيل هذا، فليس في وسعنا أن نستنتج منه وجود الأنا، لأن حدوث فكرة في لحظة معينة لا يستدعي أن تكون هناك أفكار أخرى قد حدثت من قبل، وبالأحرى لا يؤدي إلى ربط متسلسل بين الأفكار، وتكوين ذات واحدة جامعة بينها.
10
ولا يقتصر التشابه الذي نشير إليه هاهنا على فكرة الذات المفكرة فحسب، بل إنه يمتد إلى نقد فكرة العلية؛ فالقول بالعلة والمعلول ليس إلا محاولة منا لتنظيم العالم على نحو يجعله معقولا ومقبولا، وما هو إلا بعث لإيقاع منظم وسط عالم خلا من كل نظام وغائية. والقول بالعلية هو تنسيق لتلك الحوادث المتعاقبة التي تجري في نهر التحول الدائم، وهو بعث للمعقولية فيها، والهدف الغائي في هذه الحالة هو بدوره نفع الحياة، ومحاولة السيطرة على الأشياء، أو على الأقل وضع العالم في صورة قريبة من أفهامنا، ملائمة لنا، وفي نقد يشبه كثيرا ذلك النقد الذي بدأ به هيوم، والذي ورثته عن الوضعية المنطقية، يؤكد نيتشه أن مجرى الحوادث المتعاقبة لا يسمح لنا على الإطلاق بأن نقف عند البعض لنسميه عللا، وعند البعض الآخر لنسميه معلولات، ومجرد توالي الحادثتين ليس دليلا على أن في إحداهما القوة التي تولد الأخرى، وهي القوة التي تنطوي عليها فكرة العلية.
وليس لفكرة القوة هذه من مصادر إلا التشبيهات الإنسانية، التي تجعلنا نعتقد بأن بين الحوادث علاقة تشبه علاقة الإرادة الإنسانية بما يصدر عنها من آثار. فكل من لا يفكر، يعتقد أن الإرادة وحدها هي الفاعلة، والإرادة عنده شيء بسيط، مجرد معطى، لا يرد إلى غيره، مفهوم في ذاته، وهو على يقين عندما يفعل شيئا، كأن يسدد ضربة مثلا، أنه هو الذي ضرب، وأنه ضرب لأنه أراد أن يضرب ... فهو لا يعرف شيئا عن آلية الحادث، وعن مئات الأفعال الدقيقة التي لا بد أن تكون قد تمت حتى تحدث تلك الضربة، وعن عجز الإرادة في ذاتها عن أن تقوم بأبسط جزء من هذه الأفعال ... فالإرادة عنده قوة سحرية فعالة، والاعتقاد بالإرادة، بوصفها علة لمعلولات هو الاعتقاد بقوى سحرية فعالة. على أن الإنسان في الأصل كان يؤمن كلما صادف حادثا بأن ثمت كائنا شخصيا ذا إرادة، يؤثر في ذلك الحادث خفية؛ وكانت فكرة الآلية أبعد الأفكار عن ذهنه ... فالقول بأنه لا معلول بلا علة ولكل معلول علة ... هو تعميم لقول آخر أضيق نطاقا هو: «حيثما يقع فعل، تكون هناك إرادة ...»
11
ومما لا شك فيه أن نظرية التحول الدائم عند نيتشه كانت دعامة قوية من دعائم نقده للعلية، وقد أعانته كثيرا في تصويره لحوادث العالم بصورة التيار المتواصل الذي لا يسمح بتثبيته وتنظيمه من خلال مقولة العلة والمعلول.
وهكذا يوالي نيتشه نقده للمقولات الميتافيزيقية الرئيسية، ويهدم كل الأفكار المتفرعة عن هذه الأسس، مثل فكرة الشيء في ذاته،
12
الذي يقال في مقابل ما هو ظاهري، وفكرة العلة الأولى؛ أي ما هو علة لذاته، وفكرة الله - وسوف نعرض لهذه الفكرة الأخيرة بالتفصيل فيما بعد - والذي يعنينا هنا أن نيتشه يوجه إلى الميتافيزيقا التقليدية نقدا عنيفا مفصلا، يتناول كل أسسها ومبادئها الرئيسية، حتى يصل به الأمر إلى حد أن يقدم للميتافيزيقا تعريفا ساخرا، هو: إنها «هي العلم الذي يبحث في الأخطاء الأساسية للإنسان، كما لو كانت هي الحقائق الأساسية!»
13
ولم يكن لنقده هذا من هدف إلا القضاء على ما تدعيه تلك الميتافيزيقا لنفسها من ترفع عن هذا العالم وعلو عليه، والحملة على العالم المفارق الذي تخلقه وتضفي عليه من الفضائل ما تأباه على عالمنا الأرضي.
نقد
هكذا يتبين لنا أن الروح التي أملت على نيتشه نقده للميتافيزيقا هي روح واقعية، بل نستطيع أن نسميها روحا علمية، ما دامت كل الفلسفات العلمية الحديثة - على اختلاف اتجاهاتها - تتفق معه فيها. على أن هذه الروح الواقعية أو العلمية قد اتخذت للوصول إلى هدفها وسائل تناقض الغاية التي استهدفتها في أول الأمر.
ذلك لأن نقد المعرفة الإنسانية على النحو الذي قام به نيتشه، ينطوي على عناصر عديدة يمكن أن يقال عنها إنها غير واقعية على الإطلاق؛ فهو حين يؤكد أن العقل يزيف الواقع عن طريق إضفائه صفة الثبات عليه ، وأن الحواس بدورها تساهم في هذا التزييف؛ إذ تحيل تيار التغير الدائم إلى «أشياء» جامدة منفصلة، حين يؤكد ذلك، فهو يفترض بلا شك تجربة غير إنسانية تمكنه من أن يصدر على الأمور مثل هذا الحكم، وافتراض تجربة غير إنسانية هو - بلا شك - أمر مناقض للروح الواقعية.
ولنتأمل جيدا مغزى هذا النقد، لا لأن نيتشه هو الذي يوجهه فحسب، بل لأنه يمثل نغمة تتردد لدى فلاسفة كثيرين ومذاهب عديدة، وحسبنا أن نشير إلى الضجة الكبرى التي أثارها برجسون حين ردد هذه النغمة ذاتها. هؤلاء الفلاسفة ينعون على العقل البشري تجميده وتثبيته للواقع، وعلى الحواس البشرية خشونتها، ويجد هذا الاتجاه قبولا لدى الكثيرين؛ إذ يصور الواقع في صورة دائمة التحول، فيرضى بذلك أصحاب الأمزجة الشعرية في التفكير، ويلائم أنصار النزعة اللاعقلية بوجه عام. ولكن لنقف قليلا عند هذا النقد لوسائل المعرفة البشرية، ولنناقش القائلين به، وعلى رأسهم نيتشه وبرجسون، مناقشة هادئة، لنتبين دلالته الحقيقية، التي تكمن من وراء مظهره الخادع.
إن القول بأن أدوات المعرفة البشرية لا تنقل إلينا الواقع على ما هو عليه، هو بلا شك قول باطل، وكل محاولة فلسفية لرسم صورة للواقع بخلاف تلك الصورة التي تمثله به وسائلنا في المعرفة، هي محاولة لا ينبغي أن يعول عليها؛ ذلك لأننا لا نملك وسائل للمعرفة غير هذه، ولا نعرف طبيعة الواقع إلا عن طريقها؛ فمن أين عرف هؤلاء الناقدون طبيعة الواقع «على ما هو عليه»؟ وما هي الوسائل التي توصلوا بها إليه؟ إن نقدهم ليتخذ صورا مختلفة؛ فهو ينصب أحيانا على العقل الذي يبعث من عنده ثباتا وجمودا لا تعرفه طبيعة الواقع، كما هو الحال عند برجسون، أو على اللغة والمبادئ العقلية التي تصور طبيعة الواقع المتغير تصويرا زائفا، كما هو الحال عند نيتشه، أو على الذهن ومقولاته التي تضفي على معرفتنا صبغة «ظاهرية»، وتخفي عنا حقيقة «الشيء في ذاته»، كما هو الحال عند كنت؛ أقول إن نقدهم يتخذ مثل هذه الصور المختلفة، ولكن الروح الكامنة من وراء الصور كلها واحدة ، بل إن القائلين بها يجمعهم كلهم ميل واحد، لا أكون مغاليا إذا أسميته ميلا مثاليا.
وقد يبدو من الغريب حقا أن تجمع بين نيتشه وكنت، وتجعلهما منتمين إلى طائفة واحدة من الفلاسفة، وقد يبدو من الأغرب أن نقول بوجود ميل إلى المثالية لدى نيتشه، وهو الذي وجه إلى المثالية كل هذا النقد العنيف. ولكن علينا أن نلاحظ أن نيتشه على الرغم من حرصه على توجيه نقده إلى تفرقة كنت بين العالم الظاهري وعالم الشيء في ذاته، قد اعترف بهذه التفرقة ضمنا، حين أكد أن للواقع صورة تخالف الصورة التي ترسمها له وسائل المعرفة الإنسانية. فعند نيتشه - بلا جدال - عالم ظواهر، هو ذلك العالم الذي يتكشف لنا من خلال الحواس، والذي يخضعه العقل لمبادئه وتعبر عنه اللغة بطريقتها الخاصة، وعالم حقيقي، أي عالم الشيء في ذاته، وهو ذلك العالم المتغير المتحول الذي هو في صيرورة دائمة، تخالف كل ما تصوره لنا وسائلنا في المعرفة. وهكذا يتأثر تفكير نيتشه بالثنائية الكنتية تأثرا هو حقا ضمني غير صريح، ولكنه مع ذلك واضح لا ينكر. وإذن، فلا شك في أن عناصر مثالية قد تغلغلت في تفكيره، لأن الفلسفة المثالية كلها لم تتضح معالمها إلا منذ أن فرق كنت بين هذين العالمين، ومنذ أن أكد أن الصورة التي نضفيها على العالم إنما هي صورة خلقتها وسائلنا الخاصة في المعرفة، فهي من تكوين الذهن الإنساني فحسب، وتلك كلها نتائج يوافق عليها نيتشه، بل يعبر عنها صراحة في كتاباته.
ولكم كان الأمر يبدو هينا، لو أن هؤلاء الناقدين - ومن بينهم نيتشه - قد أوضحوا لنا الوسيلة التي عرفوا بها أن العالم في حقيقته عالم تغير دائم وصيرورة لا تنقطع. قد يرد مدافع عنهم بقوله إن تلك هي الصورة التي يرسمها لنا العلم، وعندئذ نجيب نحن قائلين إن العلم يضفي على العالم من القوانين ومن الصيغ الرياضية أو الذهنية ما يفوق كثيرا تلك المقولات التي يقال إن الذهن هو الذي يضفيها عليه، وأنه يبعث في العالم، عن طريق تلك القوانين والصيغ، نظاما أدق من ذلك الذي تبعثه فيه اللغة وألفاظها؛ فالصورة التي يرسمها العلم إذن هي بدورها - لو تمشينا مع منطقهم - صورة يخلقها الذهن الإنساني. وليست هي صورته الحقيقية. وفضلا عن ذلك، فلو اختلفت صورة العالم كما يرسمها العلم عن صورته التي ترسمها الأدوات المعتادة للمعرفة الإنسانية في حالتها اليومية. فليس معنى ذلك أن تنقد الأخيرة على حساب الأولى؛ لأن هذين مجالان مختلفان لا يتعدى أحدهما على الآخر، ولا سبيل إلى المقارنة بينهما. فقطرة الماء التي تبدو لي بحواسي المعتادة قطرة صافية، تبدو لي تحت المجهر مليئة بالكائنات الحية الدقيقة، ولكن هل يعني هذا أن الصورة الثانية هي الصحيحة والأولى باطلة؟ الواقع أننا هنا في مجالات مختلفة فحسب، وكل صورة تصح في سياقها الخاص، الذي هو في الحالة الأولى عالمنا بأحجامه المعتادة، وفي الحالة الثانية العالم الأصغر بأحجامه الدقيقة.
وإذن، فليس للعلم هو المصدر الذي أتوا منه بنقدهم هذا للمعرفة الإنسانية، فلم يبق إذن سوى التفكير العقلي في طبيعة هذا العالم ومدى كشف معرفتنا له. وهنا نرد عليهم قائلين إن مثل هذا النقد ينطوي - من الناحية العقلية الخالصة - على بطلان واضح؛ إذ هو يفترض أن الذهن الإنساني قد تجاوز مجاله الخاص؛ أعني أنه أصبح ذهنا غير إنساني، يحكم على طريقة الإنسان في المعرفة «من الخارج»، ويوضح عيوبها ونقائصها كما لو كان يفكر على نحو مخالف لها، وفي هذا تناقض صارخ. فمثل هذا النقد المثالي - وأقول إنه مثالي لأنه يحاول أن يثبت أن صورة العالم لدينا هي من عمل الذهن الإنساني ووسائله في المعرفة. وليست هي صورته الحقيقية - مثل هذا النقد يفترض تجربة تعلو على الحدود الإنسانية، يمكن بها مقارنة الصورتين، الحقيقية، والظاهرية أو الإنسانية، وإدراك مدى الاختلاف بينهما. وتلك هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن يتم هذا النقد عن طريقها. ولما كانت تلك الوسيلة خارجة عن قدرة الإنسان ومتجاوزة لنطاق تجربته، فالنتيجة الضرورية لذلك هي أن الموقف المثالي بأسره، ويدخل ضمن هذا الموقف نقد نيتشه وبرجسون للعقل، باطل من أساسه.
ولهذا النقد وجه آخر لا ينبغي أن نتركه دون الإشارة إليه؛ ذلك لأن نيتشه يتحدث عن أصل المعرفة، وأصل الحقيقة، فيراهما في النفع الحيوي، ويردهما إلى عوامل خارجة تماما عن نطاق السعي الخالص إلى المعرفة والحقيقة. وفي وسعنا أن نوجه إلى هذا الرأي نفس النقد الذي وجهناه إلى الرأي السابق؛ فمن أين، وعن طريق أية تجربة، عرف أن «أصل» المعرفة هو النفع الحيوي؟ إن هذا الأصل، باعترافه هو ذاته، تاريخي؛ أعني أن المعرفة البشرية كانت في الأزمان السحيقة، بل في عهود التطور الأولى، على النحو الذي يقول به، ثم صارت إلى ما هي عليه الآن. ومثل هذا الرأي لن يجد ما يدعمه إلا إذا استند إلى أساس علمي متين، وهو ما لم يحاول نيتشه أن يقوم به، ولم يكن الاتجاه الذي سار فيه تفكيره يمكنه من القيام به، فعلى أي أساس إذن يقدم نيتشه مثل هذا الفرض؟ إن فكرته تنطوي بلا شك على نفس الخطأ المنهجي؛ فهي تفترض القدرة على تجاوز التجربة الإنسانية في صورتها الحالية، لتعود إلى أصولها الأولى. فإذا كانت الصورة الحالية للمعرفة قد تغلغلت فينا منذ عهود بعيدة، كما يعترف هو ذاته، فلا سبيل لأية تجربة آدمية إلى الخروج عنها، أو الاهتداء إلى أصلها؛ ذلك لأن نيتشه، بوصفه كائنا تسري عليه نفس الحدود التي يتحدد بها سائر البشر، لا بد أن يكون هو الآخر غارقا في تلك الصورة الحالية للمعرفة البشرية، عاجزا عن تجاوزها وعن كشف أصلها، ما دامت تفرض نفسها على الجميع، بحيث تبدو لهم صورة أصلية راسخة في نفوسهم.
وفضلا عن ذلك، فإن من الأخطاء الفلسفية الكبرى أن ينظر إلى الأصل الأول للظاهرة على أنه يؤثر في شكلها الحالي، وخاصة إذا كان هذا الأصل بعيدا سحيقا. ولنفرض مع نيتشه أن أصل المعرفة يرجع إلى عوامل لا عقلية خالصة كالنفع الحيوي، وأن أصل الحقيقة - تبعا لذلك - هو الخطأ، فهل يؤثر ذلك على المعرفة والحقيقة الحالية في شيء؟ إن نيتشه ذاته يعترف بأن هذا الأصل قد «نسي»، ولم يعد العقل البشري يستحضره عن وعي في مرحلته الحالية، وإذن فلا قيمة على الإطلاق لمثل هذا الكشف! ومن الجائز جدا أن يكون لكثير من الظواهر التي تبدو لنا رفيعة، أصل يبدو وضيعا، ومع ذلك فلا ينبغي أن يستغل هذا في الحط من قدر الظاهرة في صورتها الحالية، ما دامت الصورة الأصلية قد اندثرت ونسيت تماما؛ وإنما الواجب أن تقدر هذه الصورة الحالية تبعا لقيمتها الذاتية، وأن يحكم عليها في ضوء ما لها من صفات في شكلها النهائي. وليس معنى ذلك أن البحث في تاريخ الظاهرة أمر لا جدوى منه؛ فنحن لا ننكر على الإطلاق أن من أول أصول المنهج العلمي رد الظواهر إلى أصلها التاريخي ومعرفة طبيعتها الحاضرة من خلال ماضيها؛ غير أن هذا المنهج إذا كان من الممكن استخدامه بنجاح في كشف «طبيعة» الظاهرة. فليس من الروح العلمية في شيء أن يستخدم في تقدير «قيمتها»، ومن الواضح أن نيتشه يستخدم مثل هذا المنهج خلال بحثه عن «قيمة» المعرفة والحقيقة، لا عن طبيعتها فحسب، ويبدو لي أن نيتشه ذاته كان في بعض الأحيان منتبها إلى هذا النقد الذي نوجهه إليه، وإن كان في أحيان أخرى يغفله، فهو يعرض في واحد من كتبه للرأي القائل بأن للفلسفة اليونانية أصولا شرقية، ويرى أن النزاع الذي أثير حول هذا الموضوع نزاع عقيم، فيقول: «الحق أن التساؤل عن أصل الفلسفات وكيفية نشأتها هو أمر لا قيمة له على الإطلاق. وليست هناك إجابة عنه تفضل الأخرى مطلقا؛ إذ إن بداية كل شيء كانت اختلالا يفتقر إلى النظام والتحدد، وكانت فراغا واضطرابا، ولا ينبغي أن نهتم في الأشياء إلا بمراحلها المتقدمة وحدها ... فالطريق المؤدي إلى كشف أصول الأشياء يؤدي دائما إلى البدائية والهمجية.»
14
ولو طبقنا هذه الفكرة ذاتها على المسألة التي نحن بصددها، لقلنا إنه من العقيم أن نحاول رد ظاهرة المعرفة إلى أصول ينظر إليها على أنها وضيعة؛ إذ إن المعول كله على مرحلتها الحالية، والأصل البدائي المضطرب حظ مشترك بين عديد من الظواهر، ولكنه لا ينبغي أن يستغل في الحط من قدرها على الإطلاق.
الفصل الرابع
الأخلاق
لن نكون مبالغين إذا قلنا إن الأثر الأكبر الذي خلفه نيتشه كان في ميدان الأخلاق؛ فنيتشه مفكر أخلاقي قبل أن يكون فيلسوفا ذا آراء في المعرفة أو في طبيعة العالم، وقبل أن يكون ناقدا اجتماعيا أو فنيا أو باحثا فيلولوجيا. وفي ميدان الأخلاق أتى نيتشه بأكثر آرائه جرأة وأصالة، وفيه أيضا تعرض لأقوى الانتقادات والحملات. ولم تكن القوة الدافعة له طوال مراحل تفكيره، وطوال مراحل صراعه مع عصره ونقده له، إلا قوة أخلاقية.
على أن موقف نيتشه من الأخلاق يتخذ منذ بداية الأمر طابعا محيرا؛ فهو من جهة يجعل للأخلاق أهمية كبرى، ويرد إليها ظواهر عديدة لا تنتمي إلى مجالها، وهو من جهة أخرى يوجه أعنف نقد له إلى الأخلاق. أما عن الأمر الأول، فمن الواضح عنده أن كثيرا من الدوافع الإنسانية التي ينظر إليها على أنها نظرية خالصة، ترجع بالفعل إلى أصول أخلاقية. ومن هذا القبيل، دافع المعرفة، فنحن نريد أن نعرف لكي نكتسب مزيدا من القدرة على السلوك في الحياة، ولكي تقوى سيطرتنا على الأشياء، تلك كلها أمور تدخل في باب الفعل العملي لا الفكر النظري؛ فأصل السعي إلى المعرفة إذن أخلاقي، وتفكيرنا ليس إلا وسيلة نتمكن بها من زيادة قدرتنا على «السلوك» في العالم، والسعي إلى بلوغ الحقيقة ليس له من معنى إلا «عدم الرغبة في الخداع، ولا في خداع ذاتي»، وهذا ينتمي إلى مجال الأخلاق. وعلى ذلك، فمجال الأخلاق أوسع المجالات وأشملها، وهو ينطوي في داخله على مجالات أخرى تبدو بعيدة عنه، وتدعي أنها فقدت صلتها به، وأنها نظرية خالصة لا شأن لها بطريقة السلوك العملي، وفي هذا أبلغ دليل على مدى اهتمام نيتشه بالأخلاق، ونظرته إليها على أنها أشمل مظاهر الفاعلية الإنسانية وأعمها. ولكننا في نفس الوقت الذي نلحظ فيه هذا الاهتمام، نلمس في كل كتاباته حملة على الأخلاق، ربما كانت أعنف حملة تعرضت لها طوال تاريخ التفكير الإنساني الواعي فيها. ولا شك في أن التناقض الظاهري لا يمكن أن يحل إلا إذا درسنا المقصود بكلمة الأخلاق في حملاته النقدية، حتى يمكننا أن نحدد أي المعاني يقصدها نيتشه حين ينقد الأخلاق من جهة، وحين يجعلها ظاهرة رئيسية في كل أوجه النشاط الإنساني من جهة أخرى.
اللاأخلاقية عند نيتشه
أول ما ينبغي أن نشير إليه عند بحثنا للنقد الأخلاقي عند نيتشه، هو معنى «اللاأخلاقية» عنده؛ ذلك لأن المعنى الشائع بيننا لهذه الكلمة، هو التحلل من القواعد والمبادئ الأخلاقية؛ أي هو الدعوة إلى نوع من الهمجية والإباحية في علاقات الناس بعضهم ببعض، وعلى هذا النحو تفهم الأذهان السطحية كلمة اللاأخلاقية، التي تتردد كثيرا في نقد نيتشه للأخلاق. على أن نيتشه ذاته يحذرنا من أن نحمل فكرته مثل هذه المعاني العامية؛ إذ إن الناقد الصحيح للأخلاق لا يمكن أن يكون غير أخلاقي
unmoralisch
بمعنى الوقوف من الأخلاق السائدة موقف المخالف العاصي؛ ففي هذا اعتراف ضمني بالقيم التي تعبر عنها تلك الأخلاق، ومحاولة لمخالفتها فحسب؛ أعني أن المرء في هذه الحالة يعترف بما تسميه الأخلاق السائدة خيرا وشرا، ولكنه لا يحرص على أن يقف من هذه القيم نفس موقف سائر الناس، بل يعلن العصيان عليها ويأبى أن يطيعها، ومحال أن يكون هذا - كما قلنا - هو موقف الناقد الأخلاقي، بل هو موقف الانحلاليين والمنحرفين. وإنما يتخذ الناقد الأخلاقي موقفا ذا طبيعة مغايرة تماما؛ فهو لا أخلاقي
immoralisch ، بمعنى أنه لا يعترف أصلا بالقيم الأخلاقية السائدة، ويحاول مراجعتها من جديد. فهو إذن ليس مخالفا ولا عاصيا ولا منحرفا، وإنما هو مستقل عن هذه الأخلاق. وإذا كان لا يعترف بما تسميه خيرا، فهو أيضا لا يقترف ما تسميه شرا، وإنما يتخذ له موقفا يخرج عن نطاق تلك القيم الشائعة، وينظر إليها من الخارج فحسب، وتلك - في رأي نيتشه - هي صفة الناقد الصحيح؛ إذ لا يجب عليه أن يصدر حكمه من خلال أية قيمة أخلاقية سائدة، وإنما ينبغي عليه أن يضع هذه القيم ذاتها موضع الشك، ويتأملها كما لو كان مشاهدا محايدا يختبرها من بداية الأمر ليقرر مدى صلاحيتها، «فلكي يتسنى لنا أن نتأمل أخلاقنا الأوروبية من بعيد، ونقارنها بنظم أخلاقية أخرى، سابقة أو تالية، علينا أن نفعل ما يفعله السائح الذي يريد أن يعرف مدى ارتفاع أبراج مدينة، فهو عندئذ «يغادر» المدينة. فالتفكير في الأحكام الأخلاقية المتحيزة، إن لم يشأ أن يكون حكما متحيزا يصدر على أحكام متحيزة، هذا التفكير يقتضي اتخاذ موقف خارج عن الأخلاق، بمعزل عن الخير والشر.»
1
وإذا كانت الروح الموضوعية هي التي أملت على نيتشه اتخاذ هذا المنهج، وإذا كان يبدأ باتخاذ الشك والتساؤل سبيلا للتعمق في فهم طبيعة الموضوع الذي يعرض له - شأنه شأن كل باحث يتصف بالروح العلمية النزيهة - فإن لنا مع ذلك أن نتساءل عن مدى إمكان تحقق الموضوعية والنزاهة في مثل هذا المجال؛ ذلك لأن الأمر ليس متعلقا بظاهرة طبيعية يمكننا كلنا أن نتأملها تأملا محايدا، وإنما هو متعلق بقيم كامنة تتدخل في أحكامنا دون أن نملك لها دفعا؛ فالموضوعية في هذا المجال شرط عسير التحقق، بل يكاد يكون مستحيلا، ومحاولة خروج الإنسان عن القيم الأخلاقية السائدة في عصره خروجا تاما، هو مثلا أشبه بمحاولته الخروج عن الرمزية اللغوية السائدة، والعودة إلى أساليب الإشارة اليدوية والرسم على الحجر في التعبير؛ فتلك القيم كامنة فينا أكثر مما نشعر، وربما كانت كل محاولة نبذلها للخروج عن نطاقها، تتم من خلالها هي ذاتها. على أننا لا نود أن نستطرد طويلا في هذا الاعتراض الذي يتناول مدى إمكان تحقيق مثل هذا الهدف الذي وضعه نيتشه لنفسه، وحسبنا هنا أن نشير إلى صعوبة المحاولة التي قام بها، وهي الصعوبة التي تفسر لنا ذلك الإحساس الذي يتملك من يقرأ كتاباته؛ أعني الإحساس بأنه يناضل ويصارع خصما قويا عنيدا، وما هذا الخصم إلا تأصل القيم الأخلاقية السائدة في نفسه ونفس كل إنسان.
نقد الأخلاق السائدة
وعلى أية حال، فالمعنى الأول الذي ينبغي أن نفهم به نقد نيتشه الأخلاقي هو كما قلنا معنى الاستقلال عن التقويم الأخلاقي السائد ، ومراجعته من جديد، لا تعمد مخالفته أو الانحراف عنه. وفي هذا المعنى يناضل نيتشه نضالا عنيفا ضد التراث الأخلاقي الذي أخذت به المجتمعات المتحضرة حتى ذلك الحين، والذي كان يبدو راسخا متأصلا فيها، وكأنه مجموعة من المبادئ الأزلية التي لا يجرؤ أحد على مناقشتها.
هذا التراث الأخلاقي يتلخص في المعقولية الفلسفية والزهد الديني، وهما العنصران اللذان تكونت من مزيجهما تلك المبادئ الأساسية التي يسير عليها الإنسان الحاضر. ولا يفرق نيتشه بين هذين العنصرين كثيرا؛ فالإفراط في المعقولية يؤدي إلى خلق عالم من الأفكار المفارقة التي فقدت كل صلة لها بالواقع العيني، وعندئذ تكون القاعدة الأخلاقية للسلوك قريبة كل القرب من القاعدة الدينية الزاهدة. والمثل الواضح لهذا التقارب بين المعقولية المفرطة والزهد الديني فلسفة أفلاطون؛ فقواعده الأخلاقية ترتكز كلها حول إيمانه بمثال الخير، الذي هو أعلى المثل وأكثرها إيغالا في المفارقة والتجرد والبعد عن ملابسة المحسوس، ولهذا كانت لا تفترق عن القواعد الأخلاقية المسيحية إلا افتراقا يسيرا. ولا عبرة هنا بالإهابة بروح الاعتدال والتوازن التي عرفت عن اليونانيين القدماء؛ إذ إن أفلاطون - كما هو معروف - لم يستمد فلسفته من أصول يونانية فحسب، بل أضاف إليها تلك الديانات والنحل التي ترجع في نهاية الأمر إلى أصول شرقية.
فماذا نقول عن كنت؟ إنه يبدو في ظاهره مفكرا لا يحسب حسابا إلا للعقل وحده، ولكن تحليل فلسفته الأخلاقية سرعان ما يكشف لك عن صلته العميقة بنفس الأصل الديني؛ فهو يتحدث عن «الأمر المطلق» الذي لا يناقش في لهجة تذكرك كثيرا بالطابع المطلق الذي تتخذه الأوامر الإلهية في الأخلاق الدينية. وهو يحمل على الغايات والمقاصد الإنسانية ويؤكد أن مجرد خضوع الفعل لواحدة منها يعني بعده عن الأخلاقية، وما أشبه هذا بالنزعة الدينية الزاهدة في حملتها على كل سعي دنيوي إلى النفع البشري! وهو يربط الأخلاق بعالم الأشياء في ذاتها، ويبذل كل جهده لإبعادها عن عالم الظواهر، مؤكدا أن حرية الإرادة بمعناها الصحيح لا تكون إلا في العالم الأول وحده، وما هذه التفرقة بين العالمين، ووصف العالم الذي تحيا فيه تجاربنا الإنسانية المعتادة بأنه هو العالم الأدنى، أو عالم الظواهر؛ ما هذه التفرقة إلا أثر من آثار التفرقة الدينية المعروفة بين عالمين، يحتل عالمنا منهما المرتبة الدنيا.
وإذن فالفلسفة متضافرة مع الدين فيما يراه نيتشه مؤامرة تهدف إلى اقتلاع الحياة من جذورها، وإحلال إرادة «إماتة الحياة» محل إرادة الحياة. ولنلاحظ أن نيتشه حينما يتحدث عن المسيحية، فهو في كثير من الأحيان يعني الأديان بوجه عام. أما حين يكون هدفه هو تعاليم المسيحية على التخصيص، فإن السياق يكفي عندئذ للكشف عن هذا الهدف، ولكن الاستعمال الأول هو الغائب لديه. ومن هنا كان الهدف الأول للاتجاه اللاأخلاقي عند نيتشه، هو الخروج عن هذا التقويم السائد للسلوك الإنساني، وهو التقويم الذي يؤدي في رأيه إلى تجريد الإنسان رويدا رويدا من كل ما يحبب إلى نفسه الحياة، وإلى بعث روح العزوف عن العالم فيه؛ فاللاأخلاقية عند نيتشه هي بهذا المعنى ثورة على أوضاع أخلاقية معينة سائدة في عصره. وسواء كان العصر يتصف بالصفات التي عزاها إليه أم لا يتصف، فعلينا دائما أن نذكر أن النقد الأخلاقي للعصر كان ينصب على مواضع ضعف معينة في ذلك العصر، رأى نيتشه أنها هي التي تميزه، وتصبغ أخلاقه بصبغة زاهدة.
وإذا كانت تلك الأخلاق، في اتجاهها العام، أخلاقا زاهدة لا تفي بمطالب الإنسان الحديث، فإنها في مبادئها التفصيلية تسير في نفس الطريق؛ ففي هذه المبادئ كلها تلمس نوعا من الخداع والتضليل، وتحس إحساسا غامضا بأن ظاهر المبدأ غير باطنه، وبأن ما يدعوك إليه مخالف للنتائج الفعلية الناجمة عنه. وتلك في الحق سمة واضحة في تلك الأخلاق الشائعة؛ إذ إن غايتها النهائية مستحيلة التحقيق؛ فمن المحال أن يتمكن الإنسان بالفعل من إماتة نزعاته الحية إلى هذا الحد، أو أن يسلك كما لو كان عقلا خالصا. وإذن فمن الطبيعي أن تنطوي هذه الأخلاق على خداع ذاتي تسببه تلك الهوة السحيقة بين غايتها وبين ما تستطيعه الطبيعة البشرية، ومن الطبيعي أن ينتقل هذا الخداع الذاتي إلى مبادئها التفصيلية كلها.
فلنتأمل مثلا فكرة الشفقة، إن الأخلاق المسيحية - والدينية بوجه عام - تجعل منها شعورا نبيلا يحتل موقع الصدارة من مشاعرنا الأخلاقية. ولكن هل هي شعور أخلاقي نبيل بحق؟ إن ظاهرها هو التعاطف مع الآخرين، والرغبة في مشاركتهم كل أحاسيسهم، ولكنها تنطوي مع ذلك على نفس الخداع الذاتي الذي لاحظناه في الاتجاه العام لتلك الأخلاق. فما هي في واقع الأمر إلا أنانية مستترة؛ ذلك لأننا كثيرا ما نشفق على الغير لخوفنا من أن يحدث لنا مثل ما حدث لهم، بحيث إننا نرمي من عطفنا عليهم إلى الدفاع عن أنفسنا ضد احتمال وقوع مثل هذا الضرر لنا، أو نحمي أنفسنا من الشعور المؤلم الذي ينتابنا كلما صادفنا مثل هذه الأزمات؛ فالمسألة في الواقع ترتد علينا نحن في نهاية الأمر، ونحن نشفق وفي ذهننا حالتنا نحن، لا حالة الآخرين.
2
وكذلك الحال في فكرة الغيرية، التي ترتبط بالشفقة ارتباطا وثيقا، بل تكون شرطها الضروري. والغيرية ليست عند نيتشه مجرد ظاهرة أخلاقية معتادة، بل هي الأساس الأكبر للأخلاق الشائعة، وهي الصدى الذي خلفته المسيحية في تلك الأخلاق؛ ومن هنا نراها تتكرر بصورة مختلفة عند معظم المفكرين الأخلاقيين، فهي تكون النغمة الأساسية لدى المفكرين الفرنسيين الأحرار، من لاروشفوكو
La Rochefoucauld
وفولتير إلى أوجست كونت، وهي تتردد لدى شوبنهور في ألمانيا وجون استورت مل في إنجلترا.
في كل هذه الحالات يظهر تأثير المسيحية. بل إن المذاهب الاشتراكية ذاتها قد خضعت لهذا التأثير؛ إذ لعبت فيها فكرة الغيرية الدور الأكبر.
3
ولذا يأخذ نيتشه على عاتقه تحليل هذه الفكرة وكشفها على حقيقتها.
فبينما تبدو الغيرية في ظاهرها شعورا ينم عن فيض من الكمال الذاتي ينتقل من الأنا إلى الآخر، فإنها في حقيقتها ليست إلا وسيلة لإفقار الذات وإضعافها؛ فنيتشه يعتقد أننا كثيرا ما نتجه بفاعليتنا إلى الغير حتى نهرب من أنفسنا، ولا نواجهها مواجهة صريحة. فحب الجار ليس في هذه الحالة تعبيرا عن كمال ذاتي فائض، وإنما هو، على حد تعبير نيتشه، «حب سيئ للذات»؛ ذلك لأن مواجهة الإنسان لنفسه ، وبذله كل جهوده لبعث الكمال فيها، هو أمر عسير إلى أبعد حد، وكثيرا ما يحس المرء ميلا قويا إلى الهروب من مواجهة ذاته، والتحول عن سعيه إلى كمالها، فتنحرف طاقته وفاعليته، وتتخذ شكل الغيرية.
بل إننا إذا تأملنا الأمر بمزيد من العمق، لوجدنا أن الغيرية ترتد في نهاية الأمر إلى الأنانية؛ ذلك لأن حدود الأنا أوسع مما يبدو لأول وهلة، وهي تشتمل في داخلها على تلك المشاعر التي تبدو لنا خارجة عنه؛ فالغيرية بهذا المعنى إنما هي وسيلة لإرضاء الذات عن طريق الإفراط في الاهتمام بأحد مكوناتها؛ أعني بعلاقاتها مع الآخرين، ويعبر نيتشه عن هذه الفكرة بقوله «... إن الجندي ليتوق إلى الموت في ساحة القتال من أجل إحراز النصر لوطنه؛ إذ إن في انتصار وطنه انتصارا لأعز أمانيه. وإن الأم لتمنح ابنها ما تحرم منه نفسها، كالنوم، والطعام الجيد، وفي بعض الأحيان صحتها وطاقتها؛ فهل هذه كلها أحوال غير أنانية؟ ... أليس من الواضح أن الإنسان في كل هذه الأحوال يحب شيئا في داخله، وليكن فكرة، أو أمنية، أو وليدا، أكثر من شيء آخر في داخله، وأنه على ذلك يقسم كيانه، ويقدم جزءا منه قربانا للآخر؟»
4
فعلى أي نحو يكون حكمنا اليوم على رأي نيتشه في هذين المبدأين المترابطين، الشفقة والغيرية؟ لنعترف منذ البداية بأن التعبيرات التي استخدمها نيتشه كانت عنيفة إلى حد بعيد؛ فليست الشفقة أو الغيرية دائما ميلا إلى الهروب من الذات، أو مظهرا من مظاهر حبنا السيئ لها. وإن التناقض في آرائه ليبدو هنا جليا، حين يصف الشفقة أحيانا بأنها هروب من الذات بالخروج عنها، وحين يرد كل شعور بالغيرية إلى نوع من الأنانية المستترة. فلو كانت الغيرية تنطوي على أنانية بالفعل، لما جاز لنا أن ننقد شعورا غيريا كالشفقة بأنه يؤدي إلى الخروج عن حدود الذات والفرار منها إلى الغير.
وفضلا عن ذلك، فليس مما يضير الشعور بالشفقة على الإطلاق أن يكون منطويا على نوع من المقارنة الضمنية بين حالتنا وحالة من نشفق عليه؛ ذلك لأن للقدرة على التعاطف في الإنسان حدودا لا يمكنها أن تتعداها. وليس في وسع الإنسان أن يخرج عن ذاته تماما ليشعر بآلام الغير وحدها دون أن يتخلل هذا الشعور أي عنصر ذاتي، وإنما لا بد أن يقارن بين مشاعر الغير ومشاعره على الدوام، حتى يمكنه أن يتصورها على صورة صادقة بقدر الإمكان. فمع اعترافنا بظاهرة التعاطف، فعلينا أيضا أن نعترف بأن الشفافية بين نفوس الأفراد ومشاعرهم ليست كاملة، بحيث يستطيع كل منهم أن يضع نفسه موضع الآخر تماما، وأن يمارس كل مشاعر الآخر كما لو كانت مشاعره هو. وإنما يحتاج إلى إجراء مقارنة مستمرة بين الظروف التي يمر بها الآخر، وبين ما يمكن أن يحدث له هو لو مر بهذه الظروف، حتى يمكنه تصور موقف الآخر على خير وجه ممكن. تلك إذن حدود كامنة في الطبيعة البشرية؛ فهي ليست نقصا في أخلاق الإنسان. وليست عيبا يلام عليه نظام أخلاقي معين، وإنما هي ترجع، في حقيقة الأمر، إلى الطبيعة الأنتولوجية للإنسان؛ أعني إلى أن العلاقة بين وجودي ووجود الآخرين هي علاقة كثرة، ولا يمكن أن تتحول إلى وحدة شفافة إلا في حدود معينة. وعلى ذلك، فليس مما يعيب الشفقة أنها تنطوي على نظرة ضمنية إلى الذات وعلى دفاع خفي عنها، كما اعترض عليها نيتشه؛ إذ إن تلك الأمور تحتمها حدود التعاطف البشري ذاته.
وفي وسعنا أن نلتمس لنيتشه عذرا واحدا في نقده لمبدأ الشفقة في الأخلاق؛ ذلك لأن الدعوات الإصلاحية الكبرى اليوم لا تنادي بالنهوض بالإنسان عن طريق الشفقة عليه، وإنما عن طريق تمكينه هو ذاته من النهوض بنفسه. فنحن اليوم ننقد الصورة القديمة للشفقة، على أساس أنها تتضمن اعترافا بالأمر الواقع وعجزا عن تغييره، ولا تعدو أن تكون محاولة جزئية للتخفيف من الضرر المحتوم بقدر الإمكان. وفي هذا من السلبية ما يجعلنا نثور على مبدأ الشفقة، مفهوما بهذا المعنى، ونتجه إلى إحلال مبدأ الفاعلية الشاملة محله. فنحن نزيد الآخرين عجزا حين نشفق عليهم. بل إننا نعترف في ذلك بعجزنا نحن عن مواجهة الواقع وتغيير الظروف السيئة التي أدت إلى جعل الآخرين في حالة يستحقون معها الشفقة. وصحيح أن من هذه الظروف ما لا يكون هناك سبيل إلى تغييره، ولكن علينا دائما أن نؤكد لأنفسنا إمكان سيطرتنا على هذه الظروف، إن لم يكن في الحاضر ففي المستقبل على الأقل. وهذا النقد للشعور بالشفقة - مفهوما على هذا النحو - هو الذي أدى بلا شك إلى تغيير فلسفة الإصلاح الاجتماعي في العصر الحديث، والتخلي عن فكرة الإحسان - وهي الفكرة التي تنبع مباشرة عن الشعور بالشفقة - واستبدال مبدأ آخر للإصلاح الاجتماعي بها، هو مبدأ كفالة العمل، وكفالة العيش، للجميع.
على هذا النحو إذن يمكننا أن نجد مبررا لنقد فكرة الشفقة، ولكن هل كان هذا هو ما يرمي إليه نيتشه من هذا النقد؟ الواقع أن السعي الاجتماعي الشامل إلى الإصلاح كان أبعد الأفكار عن ذهنه؛ فهو ينقد الشفقة لأنها تبعد المرء عن ذاته. وعلى ذلك فهدفه يتركز في «الفرد» وحده، وغايته هي أن يرد إلى الفرد كل مظاهر فاعليته، التي يعتقد أنها تتبدد إذا خرجت عنه إلى الغير، وسعيه يتجه في نهاية الأمر إلى تكوين أفراد تركزت قواهم في داخلهم فحسب. فليس هدفه إذن هو تكاتف الجميع من أجل القضاء على الأضرار التي تستوجب الشفقة، وإنما هدفه هو أن يهتم كل فرد بذاته فحسب، بحيث تتركز كل مشاعره في باطنه، وتتجه إلى داخله فحسب، ليس أدل على ذلك من طبيعة البديل الذي أراده أن يحل محل الشفقة؛ أعني فيض الأقوياء، الذين تمتلئ نفوسهم إلى الحد الذي تفيض معه على الآخرين دون أن يكون هذا الفيض غاية في ذاتها، ودون أن تعبأ باتجاهه أو بمن سينالهم نفع منه. وعلى ذلك، فالأسس التي ينقد بها نيتشه فكرة الشفقة مخالفة تماما للأسس التي تنطوي عليها الأخلاق الإنسانية كما نفهمها اليوم. وإذا كان الإفراط في الشفقة أمرا يحمل عليه ضميرنا الأخلاقي، فإن ذلك راجع إلى أسباب مغايرة تماما لتلك التي ارتكز عليها نيتشه في نقده لهذا المبدأ الأخلاقي.
والأمر لا يختلف عن ذلك كثيرا في نقد نيتشه لفكرة الغيرية. فهو حين يحمل على الغيرية من حيث هي مؤدية إلى ابتعاده عن ذاته، يرمي في آخر الأمر إلى نفس الهدف الذي أشرنا إليه من قبل، وهو أن تتركز قوى الفرد في داخله فحسب. ولست أدري كيف ظل في عالم اليوم مفكرون على هذا النمط، ينكرون ما حققته الإنسانية من تقدم عن طريق العمل المتآزر، ويدعون إلى تلك المثل العليا الساذجة، التي ربما كان لها في حياة العصور الوسطى مجال، بينما أصبحت في حياتنا الحالية مستحيلة التحقق؛ ذلك لأن الإنسانية لا يمكن أن ترجع إلى الوراء لترى في انعكاف كل فرد على نفسه وتركيزه قواه في داخله خيرها الأقصى، ولا يمكنها أن تنظر إلى العلاقة المثلى بين فرد وفرد على أنها علاقة سيل يفيض من القوي إلى الضعيف، بعد أن كشفت لها تجاربها الطويلة عن استحالة مثل هذا السعي الفردي، حتى في المجال المعنوي الخالص، وأثبتت لها أن تعاون الأنداد لا يقف في وجه الشخصية الفردية أو يحد من قدرتها على الإطلاق.
أما حين يحلل نيتشه فكرة الغيرية تحليلا نظريا ليثبت أنها ترتد إلى الأنانية في آخر الأمر، ما دام الأنا من الاتساع بحيث ينطوي في ذاته على كل تمثلاته للعالم، فإنه في هذه الحالة يتخذ موقفا مثاليا واضحا، ولا خلاف بينه وبين موقفنا المعتاد، وفهمنا الشائع للغيرية، إلا في الألفاظ فحسب؛ أعني أنه ليس في فكرته هذه من جديد سوى تعبيرها اللفظي الخادع فحسب؛ ذلك لأننا في لغتنا المعتادة نستخدم كلمة الغيرية في مقابل الأنانية، وبالتالي نعترف بالغير في مقابل الأنا. أما حين يصبح الأنا شاملا للغير، فمن الطبيعي أن تختفي فكرة الغيرية. وكل ما في الأمر هو أن الأنانية في هذه الحالة لن تعود هي الفكرة التي تعنيها لغتنا المعتادة؛ إذ لن تعود شعورا متعلقا بالأنا منظورا إليه من خلال تضاده مع الغير، بل تصبح منطوية في ذاتها على ما نعنيه نحن عادة بالأنانية والغيرية معا؛ فالخلاف كما نرى راجع إلى التلاعب اللفظي فحسب، وفي مثل هذه النظرة المثالية إلى الأنا، لا تعود فكرة الأنانية منطوية على معناها المعتاد مطلقا، وبالتالي لا يكون في ذلك النقد لفكرة الغيرية جديد، ما دام كل ما يتضمنه هو الخروج بالألفاظ عن معناها المصطلح عليه، والتوسل إلى التجديد بالافتقار إلى التحديد.
أخلاق السادة وأخلاق العبيد
الأخلاق الشائعة إذن، كما يراها نيتشه، هي أخلاق بالية لا تصلح في مبادئها العامة أو تفصيلاتها الخاصة لتوجيه الإنسان نحو المثل العليا السليمة؛ ذلك لأننا نعيش في فترة من فترات التدهور الأخلاقي - بالمعنى الخاص لهذه الكلمة عند نيتشه - يسود فيها نمط أخلاقي معين، يسميه نيتشه باسم «أخلاق العبيد
Sklaven-Moral »، والتقابل بين أخلاق العبيد وأخلاق السادة
Herren-Moral
يناظر الأخلاق المنحلة والسليمة عند نيتشه، فحينما تسود المبادئ الأخلاقية الزاهدة الداعية إلى الهرب من الحياة تكون أخلاق العبيد هي السائدة، فلنتأمل إذن بمزيد من العمق دلالة هذا التقابل الأخلاقي الرئيسي، الذي يقوم نيتشه من خلاله أخلاقنا السائدة، بل يقوم التاريخ الأخلاقي كله.
إن أخلاق السادة تتصف قبل كل شيء بأنها أخلاق للأقوياء؛ ففيها دائما ما يشعرنا بالقوة والوفرة، وبالسمو الناشئ من الإحساس بالامتلاء. والقيمتان الأساسيتان في هذه الأخلاق هما الجيد والرديء
gut und schlecht ، والتقابل بينهما يماثل تماما التقابل بين «رفيع
vornehm
ووضيع
verächtlich »
5
السمة التي تتميز بها هاتان القيمتان المتقابلتان هي أنهما لا تعبآن مطلقا بأن يكون الفعل خيرا بمعنى أنه «طيب»، وإنما يكون مقياس أخلاقية الفعل هنا هو أن يعبر عن روح القوة التي يستشعرها المرء في ذاته، وأن يلائم تلك النفوس الزاخرة التي تشعر بأنها هي مانحة القيم وخالقتها. فإذا ما صدر عنها الخير، فهو لا يصدر عن خوف أو إكراه أو ضغط، وإنما يصدر عن إحساس قوي بالوفرة والامتلاء والقوة الفياضة الباذلة.
على أن الأمور لا يمكن أن تستمر على هذا النحو، بحيث يسود الأقوياء وتتحكم شريعتهم، وإنما يتكتل عليهم الضعفاء، الذين يسيئهم أن يسيطر الأقوياء ويحققوا وحدهم كل ما تتسع له شخصيتهم من ممكنات؛ فينقلبوا عليهم، وسرعان ما تكون الغلبة لهم بحكم كثرتهم العددية. وهكذا تسير الدورة التاريخية للأخلاق؛ كل فترة من أخلاق السادة تعقبها فترة من أخلاق العبيد. وليس يلزم أن يتحقق هذا الانقلاب بالقوة المادية، بل قد يكون ذلك بالانحلال المعنوي فحسب. وعلى أية حال، ففي أخلاق العبيد تثور الأكثرية الضعيفة وتسعى إلى خلق مبادئ تلائم حدودها الضيقة، فتعم روح الشفقة والغيرية والمساواة، وهي الصفات التي يعدها نيتشه مظهرا من مظاهر «ضعف» الفرد وحاجته إلى الاستناد إلى غيره، ويصبح التقابل الأخلاقي الرئيسي هو التقابل بني الخير والشر
gut und böse ، وهنا يظهر الخوف والإلزام والجزاء؛ فالشر هو ما يخيف، والخير هو ما نتقي به ذلك الخوف. ومعنى ذلك أن الإنسان الخير في هذه الأخلاق هو ذلك الحمل الوديع الذي يسلم منه الناس؛ ومن هنا كان تقريب اللغات، في أخلاق العبيد، بين كلمة «طيب
gut » ومغفل أو أبله
dumm ؛ فالطيبة والغفلة هنا صفتان متقاربتان إلى أبعد حد.
6
ولما كانت أخلاق العبيد انقلابا للكثرة العاجزة على الأقلية الرفيعة، فإنها تركز اهتمامها دائما على المجموع السوي الذي لا يعرف التطرف في القوة والسيطرة، وتختفي فيها تماما كل روح فردية؛ فالفرد هنا لا تقاس قيمته إلا من حيث هو وسيلة من أجل الجماعة، والفردية في هذه الحالة خروج عن شريعة المجتمع. والسعي إلى تقوية الذات هو بعينه ما يوصف بأنه شر؛ لأنه لن يتم إلا على حساب الأوساط والضعفاء. وعلى هذا النحو يعلل نيتشه سيادة الديمقراطية في عصرنا الحديث، ويصفها بقوله: «لا راعي، وقطيع واحد! كل يريد نفس الشيء، وكل يماثل الآخر، ومن أحس غير ذلك، يدخل طوعا في زمرة المجانين.»
7
ولسنا نريد أن نسترسل مع نيتشه في وصف خصائص أخلاق السادة وأخلاق العبيد؛ فليس في هذا الجزء من فلسفته ما يحبب المرء إلى الاسترسال فيه! ولكن علينا أن نلاحظ أن نيتشه لم يضع هذا التقابل على أنه هدف يسعى إلى تحقيقه، بل تكون لديه عن طريق استقراء؛ فهو يقول: إنه قد تأمل النظم الأخلاقية في الأمم المختلفة، وخرج منها كلها بتلك النتيجة؛ أعني تناوب أخلاق السادة وأخلاق العبيد في السيادة.
8
ومن هنا نراه يضع للتاريخ الأخلاقي للإنسانية تقسيما جديدا؛ ففي العصر اليوناني والروماني تسود أخلاق السادة، وتكون الغلبة للأقوياء، ثم تنتصر أخلاق العبيد على يد اليهودية والمسيحية، ويقهرون الأرستقراطية الرومانية، ويسود الضعفاء والمتخاذلون؛ فالتقابل الأخلاقي الرئيسي هو ذلك التقابل بين روما وجوديا.
9
وبينما كانت جوديا في نظر روما تعبيرا عن كل ما هو مضاد للطبيعة، فقد كانت روما في نظر جوديا موضوعا للحقد والحسد الذي يتملك الضعفاء إزاء الأقوياء.
10
وفي عصر النهضة الأوروبية تعود أخلاق السادة بالرجوع إلى المثل العليا اليونانية، ولكن تقهرها حركة الإصلاح الديني، وهي حركة شعبية أثارها الضعفاء والعوام. وتعود أخلاق السادة عند نبلاء القرنين السابع عشر والثامن عشر ليقهرهم العبيد مرة أخرى في عهد الثورة الفرنسية. وتظهر أخلاق السادة في الأفق على يد نابليون، ولكن سرعان ما تعود أخلاق العبيد بعده إلى الظهور. على أن كل هذه الفترات، التي تلت ظهور المسيحية، تتميز بأنها في أساسها فترات تسود أخلاق العبيد، وما ظهرت أخلاق السادة فيها إلا عرضا، لتختفي سريعا، تاركة وراءها التيار الأصلي الواهن يسير في ضعف وانحلال.
ولا أظننا في حاجة إلى أن ننقد تقسيم نيتشه هذا للأخلاق نقدا مسهبا. فهذا التقسيم إذا كان نتيجة استقراء تاريخي، فهو بلا شك تقسيم غير موفق؛ إذ إن تناوب السيادة بين الأقوياء والضعفاء لم يتم على الصورة التي رسمها نيتشه على الإطلاق؛ فالقوة تلك العصور التاريخية التي تناولها نيتشه، لم تكن قوة معنوية، بل قوة مادية؛ أعني أن الأقوياء في تلك العصور لم يكونوا هم أصحاب المشاعر الأخلاقية الرفيعة، الذين تفيض نفوسهم بالامتلاء المعنوي والفيض الحيوي، بل كانوا هم المسيطرين على زمام الأمور، عن طريق قوة السلاح أو قوة المال. ولنضرب لفكرتنا هذه مثلا واضحا؛ فنيتشه يعد من فترات أخلاق السادة، العصر اليوناني، وعصر نابليون؛ فمن هم الأقوياء المسيطرون في العصر اليوناني، إن لم يكونوا هم الفئة الأرستقراطية التي تسيطر بقوة السلاح والمال، والتي وصفها لنا أفلاطون في كثير من محاوراته وحلل مثلها ومبادئها، فإذا بها بعيدة كل البعد عن ذلك الترفع المعنوي الذي كان يعنيه نيتشه؟ ومن هو القوي المسيطر في عصر نابليون، إن لم يكن ذلك الفرد المستبد الذي يبني لنفسه مجدا شخصيا عن طريق الإرهاب والتعسف والتضحية بأرواح الأبرياء؟ الحق أن الاستخدام غير الدقيق لكلمة «القوة» يؤدي إلى الخلط بين القوة المعنوية والقوة المادية. وإذا كان نيتشه يقصد المعنى الأول في معظم الأحيان، فلا جدال في أن الأمثلة التي اختارها تعبر عن المعنى الثاني دائما، مما يدل على سيطرة هذا الخلط على تفكيره. وإذا كنا اليوم نعيب على كبار فلاسفة اليونان، مثل أفلاطون وأرسطو، أنهم قد تغاضوا عن مساوئ نظام الرق القائم في عصرهما، ذلك النظام الذي لم يحاول أحد منهما أن يحمل عليه، فماذا يكون موقفنا من نيتشه، الذي يمجد قوة الأقلية الأرستقراطية ويحمل على الأكثرية «الضعيفة»، التي ينبغي في رأيه أن تظل مستعبدة، مع أنه عاش في عصر تكشف فيه للجميع مصدر قوة الأقوياء وضعف الضعفاء، وعرف فيه الكل أن أرستقراطية العصور التي تحدث عنها لم تكن أرستقراطية معنوية أو أخلاقية، بل كانت القوة الغاشمة فيها هي العامل الوحيد لسيطرة الأقوياء وعبودية الضعفاء؟
الحق أن نيتشه لم يكن يتعمق بحث دلالة آرائه طالما بدت له هذه الآراء ملائمة لمزاجه الفكري الخاص. وتلك بلا شك من صفات المفكرين الرومانتكيين الذين تغلب عاطفتهم على عقلهم، ويتحكم هواهم في تكوين آرائهم أو في تشكيلها وإعطائها صبغة واتجاها خاصا. فهو يمجد القوة ويحمل على الضعف، وهذا أمر ليس لنا أن نعيبه عليه، ولكنه حين يهتدي إلى كلمة كهذه تلائم مزاجه الخاص، لا يجشم نفسه عناء البحث عن دلالاتها المختلفة، ومظاهرها المتباينة، بل يسعى وراءها أينما كانت، مع أنها في كثير من الأحيان تؤدي إلى نتيجة مضادة تماما لهدفه. وربما كانت النزعة إلى التعميم السريع والحكم العاطفي من أكبر عيوب تفكير نيتشه التي تتكشف لنا من خلال هذا المثل الذي عرضناه.
نقد الروح الأخلاقية
من خلال العرض السابق تبدت لنا اللاأخلاقية عند نيتشه على أنها تعبير عن ثورة على الأوضاع الأخلاقية القائمة، ومحاولة لقلب القيم الأخلاقية التي يخضع لها الناس في عصرنا؛ أي إن اللاأخلاقية هي من وحي الأخلاق، ما دام هدفها هو الكشف عن قصور المبادئ الأساسية للسلوك الإنساني في شكلها الحالي، ومحاولة إصلاح أخطاء هذه المبادئ أو استبدال غيرها بها، من أجل إنسانية أفضل.
على أننا لم نبحث بعد الاحتمال الآخر، وهو أن تكون اللاأخلاقية حملة على الأخلاق بوجه عام، لا على أخلاق عصر معين فحسب. وأول ما يتبادر إلى الأذهان بصدد هذا المعنى، أن الحملة على الأخلاق بوجه عام تعني العودة إلى حالة الفوضى والافتقار التام إلى التنظيم، والرجوع إلى شريعة الغاب في معاملة الناس بعضهم لبعض. ولكنا إذا كنا قد لاحظنا بصدد المعنى الأول أن اللاأخلاقية تعني البعد عن نمط أخلاقي معين، وأنها ليست دعوة إلى الفوضى المطلقة، فعلينا أن نكرر هنا ما قلناه بصدد هذا المعنى السابق، وإن يكن الدفاع في هذه الحالة أشق.
وفي وسعنا أن نقول: إن الحملة على الأخلاق بوجه عام ليست موجهة إلى محتوى هذه الأخلاق، إذ إن نقد محتوى الأخلاق بوجه عام هو أمر ينطوي على تناقض بالنسبة إلى مفكر مثل نيتشه يؤمن بالنسبية الأخلاقية؛ أعني باستحالة وجود قاعدة يمكن أن يقال عنها إنها تنتمي إلى الأخلاق في عمومها. فليست هناك إذن مبادئ أخلاقية عامة حتى تنقد، وإنما هناك نظم أخلاقية مختلفة فحسب. فما الذي يمكن أن يرمي إليه نيتشه إذن؟ إنه إذا أراد أن ينقد الأخلاق بوجه عام، فإنه ينقدها من حيث الشكل، ومن حيث الظروف المحيطة بها والممهدة لها فحسب؛ أعني أنه ينقد الحالة الذهنية التي تتملك الإنسان حين يكون أخلاقيا؛ أي حين يخضع سلوكه لمبادئ وقواعد عامة، وينقد النتائج المترتبة على هذا الإخضاع.
ولكنا لم نجب حتى الآن عن السؤال الأهم: ما هي الشواهد التي نستدل منها على احتمال وجود هذا المعنى للاأخلاقية عند نيتشه؟ إن معظم من كتبوا عن نيتشه قد أكدوا المعنى الأول؛ أعني أن اللاأخلاقية هي الخروج عن نظام أخلاقي بعينه، والقلة الباقية كان ترى نيتشه مفكرا انحلاليا يدعو إلى الفوضى المطلقة، وتلك ولا شك فئة لا ينبغي أن يعتد برأيها. على أن في تفكير نيتشه من الآراء ما نعتقد أنه يؤيد القول بأنه كان في كثير من الأحيان يعني باللاأخلاقية خروجا عن الأخلاق في عمومها، لا عن الأخلاق السائدة وحدها: «إن أحدا لم يختبر قيمة ذلك الدواء الأشهر، المسمى بالأخلاق؛ وهذا ينطوي على وضع الأخلاق موضع الشك، حسنا، إن هذا هو بعينه عملنا.»
11
فلنتأمل جيدا نقد نيتشه لفكرة الخير والشر، ولننظر فيما لهذا النقد من دلالة بصدد الرأي الذي نسعى إلى إثباته. إن نيتشه ينقد فكرة الخير والشر على أساس من النسبية؛ أعني أنه يؤكد أن ما نسميه نحن خيرا قد يكون شرا بالنسبة إلى غيرنا، وأن أحكامنا على الظاهرة الواحدة كثيرا ما تتغير، وإذن ففكرة الخير المطلق أو الشر المطلق فكرة واهمة لا مدلول لها. ولكن نقد نيتشه لفكرة الخير والشر لا يقف عند هذا الحد؛ فهو لا يكتفي بالهجوم على فكرة المطلق في هذا الصدد، وبإثبات نسبية هذه الأحكام الأخلاقية التقويمية، وإنما هو يريد أن يقف بمعزل عن الخير والشر
Jenseits von Gut und Eöse . وتلك الفكرة الأخيرة قد احتلت عند نيتشه أهمية كبرى، وخاصة في أنضج فترات حياته؛ أعني الفترة الأخيرة. وليس أدل على ذلك من أنه ألف كتابا كاملا بهذا العنوان. فما هو مغزى هذا الموقف الجديد الذي وقفه نيتشه بمعزل عن الخير والشر؟
ليس الخير والشر لفظين لهما مضمون محدد، بل إن هذا المضمون يتباين ويختلف باختلاف النظم الأخلاقية. فمن يدعو إلى الوقوف بمعزل عن الخير والشر لا يعني إذن أن نتجاوز ما نسميه نحن خيرا أو شرا فحسب، لأن هذا لو كان قصده لكان معنى ذلك أن يدعو إلى ما يسميه غيرنا خيرا أو شرا؛ أعني إلى الالتزام بتقويم أخلاقي آخر.
ذلك لأن الخير والشر قيمتان يمكن أن تتضمنا محتويات متباينة، وقد يكون محتواهما في أخلاق معينة مضادا تماما لمحتواهما في أخلاق أخرى، ولكن هذا المحتوى سيظل مع ذلك يسمى خيرا أو شرا . على أن نيتشه لا يدعو إلى تجاوز خير أو شر معين، بل يستخدم تعبيرا شاملا، هو «بمعزل عن الخير والشر» بوجه عام. ومعنى ذلك أنه يرمي إلى الاستقلال، لا عن مضمون معين لهذه القيم، بل عن مبدأ التقويم من خلالها بوجه عام.
فدعوة نيتشه إلى الوقوف بمعزل عن الخير والشر، لا بد أن تعني استقلالا عن الأخلاق بوجه عام، لا عن أخلاق معينة؛ أي إنها دعوة إلى الكف عن تقدير الأمور من خلال قيمتي الخير والشر، أيا كان مضمونهما، واستبدال وسيلة أخرى لتقدير الأمور بهما؛ أما هذه الوسيلة التي سوف تحل محل القيم القديمة، فهي - كما ينبغي أن نتوقع - الحياة. ولنشرح رأي نيتشه في هذا الصدد بمزيد من الإيضاح، فنضرب له مثلا مألوفا؛ فمن المعروف أن العلم يحاول أن يستبدل بالنظرة الكيفية إلى الأمور، نظرة أخرى كمية؛ أعني أنه بينما تهتدي حواسنا إلى كيوف في كل شيء، فتصفه بأنه أبيض، أو خفيف، أو حلو الطعم ... إلخ، يحاول العلم أن يستبدل بكل هذا نظرة أخرى كمية، ويرجع كل هذا الاختلاف في الكيف إلى الاختلاف في النسب والمقادير فحسب. ولا جدال في أن نظرته هذه أدق وأبسط؛ إذ بينما ينطوي العالم، منظورا إليه من جهة الكيف، على كثرة هائلة وتنوع عظيم، فإنه من ناحية الكم يغدو أكثر تجانسا، وأبسط تركيبا. فعلى أي نحو يعلل العلم تقيدنا بالنظرة الكيفية؟ إنه يعلل ذلك بأن هذه النظرة تضفي على العالم من التنوع والجدة ما يجعله ملائما لمزاجنا وتركيبنا الخاص؛ فالكيف إذن مرتبط بالمنظور الإنساني في صورته الخشنة، صورة الحواس والحياة اليومية. أما إذا استبدل بهذا المنظور آخر أدق، لاختفى عالم الكيف وحل محله عالم الكم.
ومن خلال هذا المثل يمكننا أن نفهم ما يرمي إليه نيتشه من نقده للأخلاق بوجه عام، ومن استقلاله عن تقويماتها. فتأمل الأمور وتقديرها من خلال قيمتي الخير والشر، هما عنده أشبه بالنظر إلى الأشياء من جهة الكيف. والحق أن القيم بوجه عام هي كيوف معنوية نشكل بها الأشياء والأفعال ونضفي على كل منها طابعا خاصا، بحيث تتكون في نهاية الأمر صورة متنوعة ملائمة للحياة. ولكنا إذا نظرنا إلى الأمر بمزيد من الدقة - على نحو ما يفعل العالم في مجاله الخاص - لوجدنا أن هذه الكيوف المعنوية ترتد كلها إلى مبدأ واحد متجانس، يختلف في الدرجة فحسب، هو الحياة. فبدلا من أن نقوم الأفعال من خلال الخير والشر، كما فعلت الأخلاق «بوجه عام»، علينا أن ننظر إليها من خلال مدى تحقيقها للحياة، بحيث يحل محل الخير ذلك الفعل الذي يعلي من الحياة ويزيدها ثراء، ومحل الشر ذلك الفعل الذي ينكر الحياة ويزيدها هزالا. فإذا تأملنا الأمور كلها من خلال مدى تحقق الحياة فيها، فلا شك في أن نظرتنا هذه ستكون أقرب إلى النظرة الكمية في العلم، ما دامت الاختلافات هنا في الدرجة فحسب.
وفي وسعنا أن نمضي في المقارنة إلى ما هو أبعد من ذلك، فنقول إن النظرة «الأخلاقية» إلى العالم هي في رأي نيتشه - شأنها شأن النظرة الكيفية في رأي العلم - مرتبطة بالمنظور الإنساني في صورته الخشنة، ولو تعمقنا الأمور لوجدنا أن ما نسميه خيرا وشرا هو في واقع الأمر تعبير عن صدى إيقاع الحياة في نفوسنا، ولتجاوزنا هذه النظرة الكيفية إلى النظرة الكمية. وفي هذه الحالة يمكننا أن نتأمل السلوك الإنساني كله على نحو أدق وأبسط، وتختفي هذه الحواجز العازلة التي كان كل نظام أخلاقي يضرب بها حوله نطاقا من القيم؛ أعني من الكيوف الأخلاقية، فتتضح العلاقة بين كل هذه النظم، وتسهل المقارنة بينها، عن طريق ردها كلها إلى مبدأ واحد يبدد خداع الكيف ويقضي على تنوعه؛ أعني مبدأ تحقق الحياة في كل منها.
ونستطيع أن نتقدم بعد التحليل السابق خطوة أخرى، فنقول إن المقارنة بين منهج العلم في رد الكيف إلى الكم، ومنهج نيتشه في رد الأخلاق إلى الحياة، هذه المقارنة ليست مجرد مثل يضرب لتقريب فكرة نيتشه إلى الأذهان، بل إن نيتشه قد حاول بالفعل أن يقتدي بالمنهج العلمي في تحليله للأخلاق، فدعا إلى استبدال نظرة مبسطة موحدة بالنظرة المعقدة القديمة؛ أي إن نقد «الأخلاق» على أساس أنها هي تقويم الأمور من خلال الخير والشر، والدعوة إلى إحلال «الحياة» محلها، على أساس أنها فهم كمي مبسط لكل أنواع السلوك، هي نظرية أراد نيتشه أن يقدمها بوصفها حلا علميا للمشكلة الكبرى التي واجهته؛ مشكلة الأخلاق.
وإن أكبر ما يعيبه نيتشه على الأخلاق بوجه عام - ولنستبدل بالتعبير «الأخلاق بوجه عام» كلمة «الأخلاقية
Moralität » - هو أنها تنطوي على تثبيت للسلوك الإنساني على نحو يباعد بينه وبين مصادره الحيوية المباشرة. فما إن يسود تقويم خاص لما هو خير وما هو شر - أيا كان مضمون هذه القيم في مختلف النظم والمذاهب الأخلاقية - فإن تصرفات الإنسان تخضع في هذه الحالة لنوع من الآلية، ناتج عن إطاعة القواعد السائدة وتطبيق القيم المتعارف عليها. وهكذا يصبح كل شيء هينا، ويعتمد الذهن على القاعدة العامة دون أن يجهد ذاته في التفكير، ويصبح السلوك أنماطا متجانسة لا تنوع فيها، وتسود الروح المحافظة، فلا خلق ولا ابتكار ولا تجديد؛ فالأخلاقية إذن تضرب حول الفعل الإنساني نطاقا من التنظيم الدقيق الذي يحول بينه وبين مواجهة الحياة مباشرة، بل يظل يواجه على الدوام ظلا باهتا للحياة. وعلى ذلك فهنا أيضا يثور نيتشه على الأخلاقية، من حيث هي حالة عامة يخضع لها الناس، ويكون هدفه هو العودة إلى التحلل مما هو «عام» والدعوة إلى الخلق والابتكار الفردي، ومواجهة المرء لكل حالة على حدة، وإيثار الشعور «بالخطر» الناتج عن التجديد المستمر، على الشعور «بالأمان» الناتج عن الخضوع لقاعدة ثابتة. ويصل الحال بنيتشه في بعض الأحيان إلى أن يصف الأخلاقية بأنها «غريزة القطيع» في الفرد، وذلك لتحكم الشعور بالطاعة فيها، وتجانس سلوك الجميع في ظل قواعدها العامة.
وإذن فمن الممكن أن نفسر اللاأخلاقية عند نيتشه، في ضوء ما سبق، بأنها خروج عن الأخلاقية عامة، فضلا عن التفسير السابق لها بأنها خروج عن نظام خاص في الأخلاق، وهو النظام الشائع بيننا، والموروث عن التراث الديني الأفلاطوني. والذي ينبغي أن نحذره في كل هذا هو ألا نفهم هذا الخروج عن الأخلاق - سواء كانت أخلاقا عامة أم خاصة - بأنه مخالفة لها، أو دعوة إلى السلوك على نحو مضاد لما تأمر به، وإنما هو استقلال عنها، وتقدير للأشياء على نحو يخالف تقديرها لها، ونقد للحالة الذهنية التي تتملك المرء حين يتبع قواعدها، أكثر مما هو نقد لمضمون هذه القواعد ذاتها.
إرادة القوة
على أننا لم نتناول إلى الآن سوى الجانب السلبي من آراء نيتشه؛ أعني الجانب الذي ينقد به الأخلاق، في عمومها وفي تفصيلاتها، فإلى أين تتجه دعوته الإيجابية إذن؟ إن الإجابة عن هذا السؤال لن تكون إلا باستخلاص النتيجة المنطقية للنقد السابق؛ فنيتشه يدعونا إلى أن نستبدل بالحالة الأخلاقية شيئا آخر، عبرنا عنه تعبيرا عاما بكلمة تحقيق الحياة، وتلك ولا شك هي دعوته الإيجابية، ولكن ما هي وجهة هذه الدعوة؟ لكي نجيب عن هذا السؤال، علينا أن نعرض بإيجاز لفكرتي الإنسان الأرقى وفكرة إرادة القوة.
فعندما يصبح مدى تحقيق الحياة هو المعيار الذي يحل محل قيمتي الخير والشر، فلا شك في أن غاية الإنسان لن تعود هي الوصول إلى حالة معينة تحددها القواعد الأخلاقية المعمول بها، بل هي أن يكتسب مزيدا من العلاء في الحياة على الدوام، وذلك هو ما يعنيه نيتشه بفكرة الإنسان الأرقى
Übermensch ، فكيف فهمت هذه الفكرة عادة؟ لقد فهمت على أنها مظهر من مظاهر تأثر نيتشه بالفلسفة التطورية عند دارون، واعتقد الناس أنه يرمي إلى أن يخرج التطور نوعا إنسانيا أرقى، مثلما تطور الإنسان قبل ذلك عن القرد. ونحن لا ننكر أن نيتشه قد تأثر بالفعل بفلسفة دارون، واكتسب منها أكثر مما اعترف به؛ غير أن فكرة الإنسان الأرقى لا ينبغي أن تفهم إلا في حدود المبدأ العام الذي أشرنا إليه من قبل؛ أعني الاستعاضة عن الأخلاقية بالسعي إلى النهوض بالحياة؛ فالإنسان الأرقى هو تجسد المثل الأخلاقي الأعلى عند نيتشه؛ فليس هو إنسانا «طيبا» يخضع للقيم الأخلاقية المعترف بها، ويحاول تحقيق الخير وتجنب الشر، بل هو إنسان يسعى إلى مزيد من الحيوية في كل شيء . وإذا كان القائلون بالتفسير التطوري لفكرة الإنسان الأرقى عند نيتشه قد وجدوا نصوصا تعينهم على رأيهم، كقوله: «إن كل كائن قد خلق من قبل شيئا يعلو عليه ... إنكم قد سلكتم الطريق من الدودة إلى الإنسان.» فلنذكر أن نيتشه يقول بعد ذلك مباشرة: «ولكن ما زال فيكم من الدودة الكثير. لقد كنتم في وقت ما قرودا، وما زال الإنسان إلى اليوم قردا أكثر من القرد.»
12
وفي هذه العبارة الأخيرة يتضح لنا أن ما يرمي إليه نيتشه من فكرة الإنسان الأرقى يختلف عن مجرد التقدم التطوري؛ إذ إن التطور لا يقول أبدا إن الإنسان لا يزال إلى اليوم قردا أكثر من القرد، أو أن فيه من الدودة الكثير. ولكن ما يعنيه نيتشه بكلمة القرد، أو الحيوانية بوجه عام، هو نزعتها إلى الثبات. فهو يحمل على خضوع الحياة الحيوانية لإيقاع ثابت، وسيرها على وتيرة واحدة، ويؤكد ضمنا أن «الأخلاقية» بما فيها من قواعد تنظيمية يخضع لها المرء آليا، دون أن يشعر بالمخاطرة أو الابتكار، تعني أن الإنسان لم يتقدم عن مستوى الجمود الحيواني كثيرا، فليست فكرة الإنسان الأرقى بهذا المعنى إلا دعوة إلى التقدم الحيوي المطرد، واستبدال تجدد الحياة بتجانس الأخلاقية.
فإذا نظرنا إلى فكرة إرادة القوة،
13
على أنها هي بدورها تعبير عن دعوة نيتشه إلى إحلال تحقيق الحياة محل الأخلاقية، لصادفنا من أول الأمر إشكالا غير هين؛ ذلك لأن قدرا كبيرا من جهد نيتشه قد وجه إلى نقد فكرة «إرادة الحياة» عند شوبنهور، بحيث يبدو أن إرادة القوة وإرادة الحياة في طرفي نقيض؛ ذلك لأن إرادة القوة لا تسعى إلى مجرد الحياة ولا تكتفي بها، بل تسعى إلى القوة أيضا. على أن في وسعنا أن نحل هذا الإشكال إذا قلنا إن القوة عند نيتشه لا تعني أكثر من امتلاء الحياة وتركيزها فحسب. وما كان نقده لشوبنهور راجعا إلى وجود كلمة «الحياة» عند هذا الأخير، بل لأن شوبنهور قد نظر إلى الحياة نظرة سلبية أولا؛ أي إنه لم يتجاوز نطاق «الاكتفاء بالحياة »، لا طلب المزيد منها، ولأنه قد حمل على إرادة الحياة هذه - مع اعترافه بأنها هي المبدأ الكوني الشامل - وعدها مصدر الشرور جميعا. وإذن، فإرادة القوة عند نيتشه ما هي إلا تعبير آخر عن مبدأ تحقق الحياة وامتلائها.
ولسنا في حاجة إلى جهد كبير حتى نستبعد بقية المعاني الباطلة التي ارتبطت بفكرة إرادة القوة هذه. وأكثر هذه المعاني الباطلة شيوعا، ذلك المعنى الذي ذاع خلال الحرب العالمية الأولى، وخلال فترة الحكم النازي في ألمانيا، واتخذ وسيلة لتقوية الروح العسكرية الألمانية؛ وأعني به إعطاء مدلول سياسي لكلمة «القوة»، وتفسير إرادة القوة بأنها دعوة إلى اتخاذ الحرب وسيلة حاسمة لفض الخلافات بين البشر. وإن نيتشه ذاته ليرد على هذه التفسيرات الباطلة حين يقول عن كتاب إرادة القوة: «وددت لو كتبته بالفرنسية، حتى لا يبدو عاملا مؤديا إلى تقوية أي طموح دولي ألماني.» وينفي عن كتابه أية دعوة إلى العدوان فيقول: «إنه كتاب للتفكير فحسب، ينتمي إلى أولئك الذين يجدون في التفكير متعة فحسب.» فتكراره لكلمة «فحسب» مرتين، يدل على شعوره بأنه كان سيجد من الشراح من يسيئون فهم إرادة القوة، بإضفاء مدلول سياسي عليها.
والحق أن مجرد إضفاء مدلول محدد على فكرة إرادة القوة، يؤدي حتما إلى الوقوع في تناقض داخلي؛ إذ إن إرادة شيء معين تكف عن السعي حين تصل إلى هذا الشيء، كما هو الحال في القوة السياسية مثلا، بينما تتصف الإرادة بأنها حركة دائما لا تعرف حدا تقف عنده، فإرادة القوة ينبغي أن تفهم على أنها سعي متواصل إلى مزيد من الامتلاء في الحياة فحسب. ومن أوضح الدلائل على أن إرادة القوة لا يمكن أن يكون لها عند نيتشه مدلول اجتماعي أو سياسي، إنه يتحدث عنها لأول مرة بوضوح في كتاب زرادشت، في فصل عنوانه «العلو على الذات
Von der Selbstüberwindung »
14
فالفكرة إذن متعلقة بالذات الإنسانية، لا بالدولة أو المجتمع.
والحق أن المقصود في نهاية الأمر بإرادة القوة هو أن تحل محل الأخلاقية، فحين يأبى الإنسان أن ينحصر في نطاق نظام من الأوامر والنواهي ، وأن يقيد نفسه بقيم ثابتة، أيا كانت، فعندئذ سيتخذ لنفسه هدفا آخر، هو المزيد من العلاء بحياته، والسعي إلى إثرائها وتركيزها سعيا لا يقف عند حد، وهذا السعي هو إرادة القوة. فللفكرة بهذا المعنى من المرونة والقابلية للتشكل ما يجعلها في نظر نيتشه بديلا صالحا للروح الأخلاقية بوجه عام، وما يجعلها تعبيرا عن رغبته في إحلال التوجيه الحيوي الحركي للسلوك محل التوجيه الأخلاقي السكوني له، واستبدال النظرة الكمية الموحدة إلى الأخلاق بالنظرة الكيفية المتضاربة إليها.
قيمة النقد الأخلاقي
وأخيرا، فليس من العسير أن يفاضل المرء بين قيمة الجانب السلبي والجانب الإيجابي في تفكير نيتشه الأخلاقي. فبينما تنتمي نظرية الإنسان الأرقى أو إرادة القوة إلى نيتشه وحده، نجد أن نقده الأخلاقي قد أصبح يكون جزءا أساسيا من تاريخ الأخلاق؛ فالقيمة الكبرى لتفكير نيتشه في هذا الميدان إنما ترجع إلى قدرته على الهدم أكثر مما ترجع إلى قدرته على البناء.
على أن من الضروري أن نفرق بين وجهي النقد عنده؛ أعني الوجه الذي ينقد فيه الأخلاق الشائعة، وذلك الذي ينقد فيه الأخلاقية بوجه عام. فإذا كان نيتشه قد ارتكب ما يعد من وجهة نظرنا أخطاء، في نقده للأخلاق الشائعة، فقد نبهنا إلى هذه الأخطاء في موضعها بما فيه الكفاية، وما زالت له علينا في هذا الصدد كلمة تقدير ختامية؛ ذلك لأن المرء مهما اختلف مع نيتشه في تفصيلات نقده للأخلاق السائدة، فلا بد أن يتفق معه على أن تلك الأخلاق تستحق النقد. ولا شك في أن أسباب عدم اكتفاء الناس بهذه الأخلاق سوف تختلف باختلافهم؛ غير أن المفكرين الأمناء منهم على الأقل سوف يشعرون بنقص معين فيها. والحق أن العيوب التي أخذها نيتشه على أخلاق عصره هي في عمومها عيوب حقيقة. وليست مجرد انتقادات خلقها خياله. وإذا كان المجتمع الأوروبي اليوم لم يعد يشعر بتلك العيوب بمثل هذا الوضوح، فما ذلك إلا لأن الفترة التي انقضت بعد نيتشه، على قصرها، كانت فترة حافلة بالثورة والتجديد، ثبتت فيها أركان ذلك النقد الأخلاقي حتى غدا جزءا من تراثه الفكري. أما من كان يعيش في عصر نيتشه، فلا شك أنه كان يدرك أهمية الاحتجاج الصارم الذي وجهه إلى مبادئ عصره الأخلاقية. فمن المؤكد أن الأخلاق الفلسفية الموروثة عن المذاهب العقلية التقليدية، كانت توغل في التجريد، وفي اقتلاع الإنسان من التربة التي أنبتته في هذا العالم، وأعانتها الأخلاق الدينية في هذا السبيل، حتى أصبحت الدعوات الأخلاقية تتنافس في خلق إنسان تجريدي يكاد يكون غريبا عنه تماما، ونحن ما زلنا نعاني من مثل هذه الصورة الغريبة التي تصور الأخلاق بها الإنسان في الشرق، بل إنها عندنا لأبعد عن حقيقتنا مما كانت عندهم. فللفيلسوف إذن كل الحق في أن ينقد تلك الأخلاق الشائعة من أساسها، ويحمل على ادعائها السمو بالإنسان، مع أنها في الواقع تبعده عن واقعه الحي، وترسم له مثلا عليا خيالية، ويظل هو حائرا بين هذه المثل البعيدة وبين الواقع الفعلي الذي لا يلمس لها أثرا فيه، وتتولد من حيرته هذه شتى أنواع الانحرافات. ولو اكتفينا من نقد نيتشه للأخلاق الشائعة بحملته على نزعتها التجريدية ودعوته إلى رد اعتبار المحسوس، والاعتراف به عنصرا أساسيا في الطبيعة الإنسانية؛ لو اكتفينا بذلك وحده، لكان فيه ما يبرر رفع نيتشه إلى مصاف كبار المفكرين الأخلاقيين.
أما حين يوجه نيتشه نقده إلى الأخلاقية بوجه عام، فإن محاولته تهدد بالوقوع في التناقض في كل لحظة من لحظاتها؛ ذلك لأن الأخلاقية بمثل هذا المعنى الشامل ليست حالة طارئة، بل هي المظهر الأساسي للنشاط التقويمي في الإنسان. والذي لا شك فيه أن نقد نيتشه للأخلاقية كان بدوره راجعا إلى دوافع أخلاقية؛ فهو حين يحمل على ما تتضمنه الروح الأخلاقية من شعور بالطاعة واكتفاء باتباع القواعد المصطلح عليها دون تجديد، إنما يرمي من ذلك إلى خلق أفراد «أفضل» هم الذين يتحكم «الخطر» في حياتهم، ويخلقون قاعدة سلوكهم في كل حالة، وهؤلاء الأفراد «الأفضل» هم أرفع من غيرهم في سلم الأخلاقية، بمقياس نيتشه الخاص. فمثل هذا التقويم إلى خير وشر ليس أمرا عارضا، بل هو كامن في ذهن الإنسان بوجه عام، حتى في ذهن أولئك الذين ينقدونه. أما في تفصيلات نقده للأخلاقية، حين يحمل على الشعور بإطاعة قواعد سلوكية عامة، فلا شك أن هذا ليس إلا مظهرا من مظاهر تلك الفكرة التي لازمت نيتشه دائما؛ وأعني بها النفور من كل ما هو عام، والارتياح إلى الفردية المطلقة. وحسبنا هنا أن نلاحظ أن القاعدة لم تصبح عامة إلا لأن التجربة الإنسانية الطويلة قد أثبتت صلاحيتها، وأن اتباع القاعدة العامة لا يتنافى على الإطلاق مع إمكان التصرف الفردي في تطبيقاتها الخاصة. أما التخلي عن كل مبدأ عام في السلوك، فقد يصلح لتنظيم حياة فرد منطو على نفسه، لا يتعامل إلا مع أفكاره ولا يمارس أخلاقيته إلا عليها، أما المجتمع الذي يحيا فيه الإنسان حياته الفعلية، فإنه ينهار من أساسه لو أصبح التجديد الدائم في القواعد الأخلاقية التي يسلك الأفراد بمقتضاها غاية في ذاتها.
الفصل الخامس
فلسفة نيتشه الاجتماعية
أصدرنا في مستهل بحثنا هذا حكما عاما على نيتشه، بأنه لم يكن من المفكرين الذين تعكس فلسفتهم تجاربهم العميقة في الحياة، بل من أولئك الذين تقتصر تجاربهم في الحياة على فلسفتهم وعلى مشاكلهم الفكرية فحسب. وهذا الحكم العام لا ينبغي أن يلجأ إليه في تفسير حياة نيتشه وعلاقتها بتفكيره فحسب، بل إنه قد أثر أبلغ الأثر في طبيعة هذا التفكير ذاته. ولا جدال في أن الأثر الأكبر لتلك الصفة التي تميزت بها شخصية نيتشه، يتبدى أوضح ما يكون في فلسفته الاجتماعية؛ ذلك لأن التفكير السليم في المشاكل الاجتماعية التي تشغل الأذهان في عصر ما يقتضي - كأول وأبسط شرط له - أن يكون المفكر مشاركا لمعاصريه في معاناة هذه المشاكل، مساهما معهم في محاولة حلها. وهذا الشرط الأول البسيط لا يتوافر في نيتشه؛ فقد كان العالم الذي يحيا فيه نيتشه، والذي ينفعل به بكل حواسه ومشاعره، عالما خالصا؛ ومن هنا يحس المرء في كل كتاباته الاجتماعية بأن تلك الآراء صادرة عن ذهن لا يعيش مع العالم المعاصر له على الإطلاق ، وإنما يحيا في عالم نظري خالص (برغم كراهيته لهذه الكلمة)، وتتعلق مثله العليا بتلك الأنماط من الحياة التي يصادفها خلال تفكيره العقلي، كالنمط اليوناني في الحياة على الخصوص، ولا يدرك مدى التباين الهائل بين ذلك العالم الفكري الذي لم يتجاوزه ذهنه، وبين العالم الحديث الذي يحيا فيه، وإنما يأتي لمشاكل هذا العالم الأخير بحلول مستمدة كلها من روح العالم الأول.
ولن ندرس هنا إلا نماذج محدودة لفلسفة نيتشه الاجتماعية، وحسبنا من هذه النماذج أن نشير إلى مدى تأييدها لهذا المبدأ العام الذي أوضحناه، وأن نبين الاتجاه العام الذي تتجه إليه حلول نيتشه لمشاكل المجتمع، في ضوء فهمنا العام للعلاقة بين حياة نيتشه وبين المجتمع المحيط به.
نيتشه والاشتراكية
كانت الاشتراكية في عهد نيتشه مذهبا لم يثبت أقدامه بعد. وإن الناقد الحالي لنظرة نيتشه إلى الاشتراكية ليتعرض منذ البداية لاعتراض أساسي، ينبهه إلى الفارق بين الدور الذي تلعبه الدعوات الاشتراكية في عصرنا الحالي، حين أصبحت عاملا رئيسيا في التوجيه السياسي والاقتصادي للعالم، وبين دورها الضئيل في عصر نيتشه. وهكذا يواجه كل نقد لآراء نيتشه في هذا الصدد بسؤال هام هو: ترى هل كان نيتشه يقف من الاشتراكية نفس الموقف، لو كان يعيش في عصرنا الحالي؟ وليس لنا على هذا السؤال من رد سوى أن نقول إن الاعتراضات التي وجهها نيتشه إلى الاشتراكية هي بعينها تلك التي لا يزال خصومها يوجهونها إليها حتى اليوم. وهذا التشابه بين موقف نيتشه وموقف الناقدين المعاصرين للاشتراكية، يحملنا على الاعتقاد بأنه لم يكن ليغير آراءه لو أنه شهد الاشتراكية من خلال المنظور الحالي، بل ربما كانت حملته على هذا المذهب الذي يبغضه تزداد عندئذ حدة، وذلك حين يراه يزداد انتشارا وتوسعا.
ولنتأمل بعض الاعتراضات التي وجهها نيتشه إلى الاشتراكية، لنستخلص منها الروح الكامنة من وراء نقده لها. ولنلاحظ من بداية الأمر أن هذه الاعتراضات تكون سلسلة متصلة متماسكة الحلقات، فهي في آخر الأمر اعتراض رئيسي واحد، والكثرة فيها إنما هي أوجه مختلفة لهذا الاعتراض الواحد. (1)
إن الاشتراكية في رأي نيتشه، تجهد نفسها في إصلاح حال أناس ليسوا في حاجة إلى هذا الإصلاح. وقد يبدو ذلك غريبا، ولكن الطبقات الدنيا هي عنده أقل الطبقات شعورا بما هي فيه من عوز وحاجة. «فالاشتراكيون يخطئون حين يعتقدون أنهم قد وضعوا أنفسهم موضع هذه الطبقات الدنيا، وأحسوا بما هم فيه من آلام؛ ذلك لأن الآلام تزيد بارتفاع المستوى الثقافي. والطبقات الدنيا هي الأقل إحساسا. وعلى ذلك فرفع مستواها يعني زيادة إشعارها بالآلام.»
1
والنتيجة الطبيعية لرأي نيتشه هذا، هي أن الدعوة الإصلاحية في الاشتراكية تناقض نفسها على الدوام؛ فهي كلما رفعت مستوى هذه الطبقات الدنيا، ازدادت مطالبها اتساعا، وكلما عجزت عن تحقيق هذه المطالب تضاعفت آلامها.
فما هو البديل الذي يقدمه نيتشه عن هذا الإصلاح الاشتراكي؟ إن الاشتراكية هي «مطالبة» الطبقات الدنيا بإصلاح حالها، ولكن هذه المطالبة في رأي نيتشه لا تكفل العدالة على الإطلاق؛ إذ إنها ما صدرت إلا عن الحقد والحسد، وعن التطلع إلى ما في أيدي الغير، أما العدالة الحقة في نظره فهي أن يفيض من يملك على من لا يملك؛ فالطريقة الوحيدة التي يمكن أن تقوم بها اشتراكية ترتكز على العدالة، هي أن «تمنح» الطبقة الحاكمة حق المساواة للآخرين. أما أن يطالب الآخرون بالمساواة، كما هو الحال في الاشتراكية المألوفة، اشتراكية «الطبقات المكبوتة»، فما هذا في حقيقة الأمر إلا حقد وطمع. ويقدم نيتشه لفكرته هذه تشبيها عنيفا، فيتساءل: «إذا ما قربت من الحيوان المفترس قطعة دامية من اللحم، ثم أخذت تبعدها عنه حتى يخور في آخر الأمر؛ أتسمي هذا الخوار عدالة؟»
2
وإذن فالطبقات الدنيا إذا تركت لذاتها لما طالبت بشيء. وإذا أصلح حالها تطلعت إلى الآخرين في حقد وحسد، وسعت إلى أن تلتهم منهم ما في أيديهم؛ ومن هنا لا يوافق نيتشه على رفع مستوى هذه الطبقات على نحو يمكنها من المطالبة بإصلاح حالها، وإنما يدعو إلى أن «تمنحها» الطبقة الحاكمة قدرا من المساواة، وتتفضل عليها بما قد تطالب به لو أحست بحاجتها إليه.
ولست أدري على أي نحو تمكن نيتشه من أن يبرر لنفسه رأيه هذا في الطبقات الدنيا، ودعوته إلى تركها وشأنها حتى لا تتطلع إلى ما فوقها؛ ففي هذا الرأي من الأنانية ما لا يكاد الذهن يتصوره. وهو ينطوي في واقع الأمر على خوف كامن من وعي هذه الطبقات، ومما يؤدي إليه هذا الوعي من عواقب على الطبقات «العليا»؛ فهو دعوة إلى إبقاء الأمور على حالتها الراهنة، والاعتراف بتقسيم النصيب، سواء في الميدان الاقتصادي والثقافي والاجتماعي. وما كان ضمير الإنسانية ليقبل على الإطلاق دعوة تحض من يملكون السلطة أو الجاه على أن يحرصوا على ما يملكون، ويدافعوا عنه إلى النهاية ضد من يتطلعون إليه، حتى لو اقتضى الأمر إبقاء هؤلاء الناس في أحط مراتب الحياة.
وليس لنا أن نلتمس لنيتشه عذرا بأنه لم يكن على علم بالحالة السيئة التي كان يجتازها في عصره أولئك الذين يسميهم بالطبقات الدنيا؛ فقد كان على وعي تام بما هم فيه من بؤس؛ ودليل ذلك النص الذي يقول فيه: «أما أننا نؤثر إرضاء غرورنا على كل إرضاء آخر لمشاعرنا (كالاستقرار، وغيره من المزايا)، فهذا ما يتضح - على نحو يبعث على السخرية - من أن الجميع يرغبون في القضاء على الرق (ما لم يكن الأمر راجعا إلى عوامل سياسية) ويجزعون أشد الجزع من أن يروا غيرهم في مكانة الرقيق، بينما ينبغي على كل امرئ أن يوقن بأن حياة الرقيق هي من جميع الأوجه آمن وأهنأ من حياة العامل الحديث، وأن الرق ينطوي على عمل أقل بكثير مما ينطوي عليه حياة العمال.»
3
وإذن فنيتشه يدرك جيدا مدى الشقاء الذي كان يعانيه العامل الحديث في عصره، بدليل أنه حكم على حياته بأنها أكثر بؤسا من حياة الرقيق، ومع ذلك فقد ظل يدعو إلى بقاء «الطبقات الدنيا» على حالها، حتى لا تتنبه إلى بؤسها إذا رفعنا مستواها، وكأن الأمر سوف يقتصر على رفع ضئيل لمستواها بحيث تصبح واعية لما هي فيه من بؤس فحسب، دون أية محاولة للقضاء على هذا البؤس أصلا! ... (2)
وتحقيق الهدف الاشتراكي يؤدي في رأي نيتشه إلى خلق إنسانية خاملة: «فالاشتراكيون يتوقون إلى أن يكفلوا حياة هانئة لأكبر عدد ممكن من الناس. ولو تحقق ذلك بالفعل في مقر دائم للحياة الهانئة؛ أعني في الدولة الفاضلة، لقضى ذلك العيش الهانئ على التربة التي تنبت فيها العقول الكبيرة، والأفراد العظام بوجه عام؛ وأعني بهذه التربة الفاعلية الزائدة. فعندما تتحقق تلك الدولة، تكون الإنسانية قد أصبحت أكثر خمولا من أن تنجب العبقرية.»
4
وحجة نيتشه هذه تتردد لدى الكثيرين غيره من المفكرين؛ فمن الآراء التي نصادفها في الفلسفة الاجتماعية بين آن وآخر، ذلك الرأي القائل إن التقدم لا يتحقق إلا عن طريق الحاجة الدائمة، وإن الإنسانية إذا وصلت إلى حد الاكتفاء فلن تتقدم بعد ذلك خطوة واحدة، بل تغدو خاملة متخمة، وتفتقر إلى كل حوافز النهوض. ونسي مرددو هذه الحجة أن الاكتفاء الذي يقال به هنا إنما هو اكتفاء نسبي فحسب؛ فكلما وصل الإنسان إلى حد الاكتفاء في مجال معين، ظهرت له مطالب جديدة في مجالات أخرى، وكلما ارتفع مستوى حياته تشعبت مقتضيات هذه الحياة، وأصبح ما كان يعد ترفا من قبل، ضرورة من الضروريات. وبهذا يمكننا أن نقول، بوجه عام، إن أي نظام لا يمكنه أن يحقق للناس الاكتفاء التام؛ إذ إن هذا الاكتفاء التام مستحيل التحقيق. وعلى ذلك، فليس مما يعيب نظام الحكم الكامل - إذا تحقق - أن يضمن للناس قدرا كبيرا من الاكتفاء، ولن يؤدي ذلك إلى بث الخمول فيهم، بل سيزيدهم حماسة للعمل؛ لأن مطالبهم تزداد وتتسع دائما بنسبة تعادل - إن لم تتجاوز - نسبة ما يحققه لهم المجتمع من الاكتفاء.
أما عن الشطر الآخر من هذا النقد؛ وأعني به عجز الاشتراكية عن خلق أفراد أقوياء، فهو موضوع بحثنا التالي مباشرة. (3)
من الظواهر التي تباعد بين نيتشه وبين التفكير السياسي السائد في عصره بوجه عام، أن هذا التفكير يتملق مشاعر العامة؛ فالأحزاب السياسية مهما اختلفت اتجاهاتها، تحاول أن تظهر العامة بمظهر القادرين على التحكم في شئونهم بأنفسهم. والنتيجة الوحيدة لذلك، في رأيه، هي أن تبتعد القلة الممتازة عن مسرح السياسة، إرضاء لكبريائها. وعلى ذلك، فالاتجاه إلى تملق العامة هو أمر يعيبه نيتشه على الفلسفة السياسية الحديثة بأسرها، ولكنه يختص الاشتراكية بأعنف حملاته في هذا الصدد. فليست للاشتراكية سوى أهداف جماعية، بينما الهدف الأعلى في نظره هو خلق أفراد عظماء؛ وهؤلاء الأفراد العظماء لا يخلقون بخطة مدبرة مرسومة، بل يظهرون تلقائيا.
وليس لنا أن نطيل في شرح آراء نيتشه التي ينعي فيها على الاشتراكية اتجاهها إلى العامة، وافتقارها إلى كل ما يحفز على خلق الفرد الممتاز؛ فتلك الآراء قد رددت كثيرا من بعده، حتى غدت جزءا لا يتجزأ من التفكير الاجتماعي والسياسي لعدد هائل من الناس. وهي في أساسها تنطوي على الاعتقاد بأن تدخل التنظيم الاجتماعي - ممثلا في الحكومة - يتعارض مع نمو القوي والملكات الفردية؛ فالاشتراكية مذهب يضع في أيدي المجتمع في كليته - أعني في يد الحكومة - ما كان متروكا للأفراد؛ أي إن التنظيم يصبح فيها جماعيا لا فرديا، وتتدخل الدولة في شون الأفراد بالتدريج، وتسيطر على مجالات لم تكن تترك قديما إلا للإدارة الفردية. وهكذا يرى نيتشه، ومن سايره من المفكرين، أن مثل هذا التدخل المتزايد للدولة يقضي على كل أمل في خلق أفراد ممتازين، ويصبغ الكل بصبغة متماثلة متجانسة لا تمايز فيها ولا تنوع.
ولنناقش الأخطاء العديدة التي ينطوي عليها نقد نيتشه هذا؛ فالاشتراكية لا تسير نحو تقوية نفوذ الدولة دائما، بل إن دعاتها الأولين يحلمون بمرحلة تالية تعلو على الدولة، ولا يعود المجتمع الإنساني فيها بحاجة إلى هذا التنظيم المركزي الدقيق، وسواء كان هذا الحلم قابلا للتحقيق أم لم يكن، فلا شك في أن نيتشه لم يكن دقيقا حين أغفل هذا الهدف البعيد للاشتراكية إغفالا تاما.
والقول بأن تدخل الدولة يقضي على ملكات الأفراد، ينطوي ضمنا على الإيمان بالتعارض بينهما، كما لو كانت الدولة هيئة تقوم بالرغم عن الأفراد، ولا تعبر إلا عن نفسها فحسب. ولا شك في أن النظام السياسي للإنسانية بأسرها لم يصل بعد، في مجموعه، إلى المرحلة التي تعد فيها الدولة مجرد تعبير دقيق عن أماني الأفراد؛ غير أن الدعوة الاشتراكية إلى تقوية سلطة الدولة تقترن - بداهة - بفرض أولي آخر، هو أن الدولة إنما تلخص مطالب الأفراد وأمانيهم، ومن الغريب حقا أن نيتشه ذاته قد تنبه إلى هذا التطور، ودعا إليه، حين قال: «إن التفرقة بين الحكومة والشعب، كما لو كانا يمثلان مجالين منفصلين من مجالات القوى، يتعامل أحدهما، وهو الأقوى والأرفع، ويتحد مع الآخر، وهو الأضعف والأحط، هذه التفرقة هي جزء من فهم سياسي موروث، لا يزال يمثل النظرة التاريخية الثابتة للعلاقات بين القوى في معظم الدول تمثيلا صادقا ... وعلى العكس من ذلك ينبغي أن يعلم الناس الآن - وفقا لمبدأ يصدر عن الذهن وحده، ولا يزال عليه أن يشق طريقه في التاريخ - أن الحكومة ليست إلا أداة للشعب. وليست شيئا عاليا، رشيدا، مبجلا، بالقياس إلى شيء أدنى قد اعتاد الضعة والانحطاط.»
5
وإذن فنيتشه نفسه كان يؤمن بذلك المثل السياسي الأعلى؛ وأعني به أن تزول التفرقة بين الحكومة والشعب ولا يغدو أحدهما طرفا أرفع وأقوى من الآخر. ولا جدال في أن النتيجة الضرورية لهذا المثل الأعلى هي أن يزول التعارض بين تدخل الدولة وبين نمو ملكات الفرد، وبالتالي لا تعود الاشتراكية - مفهومة بهذا المعنى - عقبة تحول دون خلق أفراد عظام.
والحق أن الحملة على كل حركة اجتماعية ذات صبغة عامة، بحجة أنها تتعارض مع مبدأ الفردية، هذه الحملة تنم عن قصور ذهني شديد. ومن العجيب حقا أنها لا تزال تتردد حتى يومنا هذا، فلم يكن الأمر مقتصرا على نيتشه وحده، بل ما زلنا نصادف أمثلة متنوعة لتلك الحجة التي يتذرع بها أنصار الفردية المزعومة. ولسنا ندري ما الذي كان يقصده نيتشه - ومعه أنصاره هؤلاء - من كلمة الفرد. أيستطيع أحد بعد كل هذا الشوط الهائل الذي قطعته الإنسانية في مضمار العلاقات الاجتماعية، أن يتصور الفرد على أنه كيان منعزل يمكنه أن ينمو وحده، ويزداد نموه بقدر استقلاله عن المؤثرات المحيطة به؟ الحق أن التجربة الاجتماعية الطويلة التي مرت بها البشرية لا تسمح على الإطلاق بمثل هذا الرجوع إلى الوراء، ولا جدال في أن أنصار الفردية المطلقة إنما يبنون كل آرائهم على أساس خيالي، ولو تعمقوا قليلا في التفكير لأدركوا استحالة ما يطلبون.
ولنسأل نيتشه في هذا الصدد: ألم يكن يرى في الاتصال «التاريخي» بين مختلف الأجيال البشرية عاملا من عوامل تعميق روح الفرد؟ لقد أكد نيتشه مرارا قيمة الروح التاريخية، وطالما نعى على معاصريه افتقارهم إليها، وكان في تفكيره يستلهم الثقافات القديمة في كثير من الميادين، بل إن تفكيره الاجتماعي بأسره، كما سنرى فيما بعد، إنما كان يحلق في سماء العصر اليوناني وحده؛ فنيتشه إذن قد وجد في الاتصال «التاريخي» مع الأجيال البشرية المختلفة غذاء دائما لروحه، ولم يجد فيه حائلا دون نمو ملكاته الفردية، بل كان هو الوسيلة الكبرى لهذا الاتجاه، فلم ينكر إذن على الاتصال الاجتماعي «في العصر الواحد» هذه الصفة؟ الحق أن الأمرين لا يختلفان على الإطلاق، فما دمنا قد اعترفنا بأن اتصال ذهن الفرد بغيره من الأذهان عن طريق العودة إلى الثقافات البشرية الماضية يعمق هذا الذهن ولا يؤدي مطلقا إلى تشتيته أو إضفاء طابع السطحية عليه؛ فعلينا بالمثل أن نعترف بأن اتصال ذهن الفرد بغيره من الأذهان عن طريق التفاهم المتبادل داخل المجتمع الواحد يؤدي إلى نفس النتيجة؛ ذلك لأن الذهن الفردي لا ينمو تلقائيا، وإنما يزداد عمقا كلما ازدادت الأشعة التي تتلاقى فيه. وليس معنى ذلك أن يكون الذهن سلبيا، يتلقى محتواه من الخارج فحسب؛ إذ إنه يؤدي مهمة أساسية، هي تنظيم هذه الأشعة، والقدرة على تكوين مركب متجانس منها. وعلى ذلك. فليس مما يحط من قدر الفرد مطلقا أن تزداد علاقاته الاجتماعية عمقا، وأن يتداخل ذهنه في أذهان الجماعة المحيطة به على الدوام، وما كانت المذاهب الاجتماعية التي نقدها نيتشه - بحجة افتقار الفرد إلى العمق فيها - ما كانت إلا محاولة لإكساب الذهن الفردي مزيدا من العمق عن طريق جعله مركزا تتلاقى فيه أشعة هائلة من كل أطراف المجتمع المحيطة به. (4)
والحجة الأخيرة في نقد نيتشه للاشتراكية تستمد من فكرة التفاوت الطبيعي بين الأفراد؛ فالاشتراكية تبعث بين الناس نوعا من المساواة المصطنعة؛ إذ إن الطبيعة لا تعرف إلا التفاوت في المرتبة
Rangordnung ، وكل محاولة لجعل الناس متساوين هي محاولة مضادة للطبيعة، ويؤكد نيتشه هذه الحجة على نحو يحس معه المرء بأن يراها بديهية لا تناقش، ولكن هل هي بالفعل تحمل هذا الطابع البديهي؟
علينا أولا أن نتساءل عن ماهية هذا التفاوت بين الناس: هل هو طبيعي، أم اجتماعي؛ إذ إن الإجابة على هذا السؤال هي التي تقرر مصير كل اعتراضات نيتشه على الاشتراكية، فهو حين يؤكد أن الطبقات الدنيا هي الأقل إحساسا بسوء حالها، يؤمن ضمنا بأن هذه الطبقات هي الأحط ذهنيا. والذي لا شك فيه أن نيتشه لم يحاول أن يفكر تفكيرا عميقا في هذا السؤال، وهو: هل يناظر التفاوت القائم بين الناس في مجتمعنا تفاوتا آخر في طبائعهم؟ أعني هل كان أقل الناس نصيبا من وسائل العيش والنفوذ في المجتمع، هم دائما أقلهم نصيبا من المواهب الطبيعية؟ الذي لا شك فيه هو أن نيتشه قد أجاب عن هذا السؤال بالإيجاب، وحاول أن يبرر لنفسه وجود تلك الهوية بين النظام الاجتماعي القائم والنظام الطبيعي تبريرات شتى. وهنا نجد ذلك الأثر العميق الذي تركه التفكير الألماني التقليدي في السياسة ينطبع على ذهن نيتشه دون وعي منه، وذلك في إيمانه الضمني بأن التفاوت الاجتماعي القائم هو في الوقت نفسه تفاوت في الطبيعة بين الأفراد، أي بأن ثمت قوة أعلى من الإنسان (يسميها نيتشه بالطبيعة، ويسميها هيجل
Hegel
وفشته
Fichte
الله) هي التي فرضت على المجتمع أوضاعه الحالية.
ذلك لأن نيتشه قد حاول أن يثبت أن مراتب الناس الحالية في المجتمع هي ذاتها مراتبهم الطبيعية؛ فالثروة في رأيه مصدر لعراقة الأصل: «إن الثروة تولد بالضرورة أرستقراطية في الجنس؛ إذ تمكن من اختيار أجمل النساء، ومن جلب خير المربين، وهي تضفي على الرجل صفاء، وتمنحه الوقت الذي يتعهد فيه جسمه بالرعاية، وأهم من ذلك كله، تعفيه من العمل البدني الثقيل .»
6
وهكذا يولد ازدياد نصيب المرء في الثروة - أعني في مظاهر النظام الاجتماعي - ارتفاعا في مرتبته «الطبيعية». ولم يحاول نيتشه أن يتساءل عن الوسائل التي تكتسب بها تلك الثروات في كثير من الأحيان، بل يبدو أنه كان يؤثر أن تكون تلك الثروة مكتسبة بالوراثة، حتى لا يضطر المرء إلى أن يعمل في سبيلها كثيرا. وهكذا يكون المثل الأعلى عند نيتشه هو تلك الطفيليات البشرية التي لا تكد ولا تشقى، والتي تجد كل شيء ميسرا أمامها منذ مولدها، والتي هي في واقع الأمر مصدر كل انحلال وتدهور في المجتمع.
ومن العجيب حقا أن نيتشه كان يؤمن بالوراثة إيمانا عميقا، برغم مراجعته لمعظم الأفكار التقليدية وشكه في أكثرها تأصلا في الأذهان. فإذا ما ووجه بمعترض يسأله: هل يستحق أولئك النبلاء الحاليون، أن يكونوا نبلاء بحق؟ وهل هم جديرون بالمكانة التي يشغلونها مع أن كثيرا منهم إنما احتلوا هذه المكانة بالوراثة فحسب؟! كان جوابه هو أن عراقة النسب مصدر حقيقي للفخر: «فللمرء أن يفخر بحق إذا كانت لديه سلسلة متصلة من الأسلاف الأمجاد تستمر حتى الأب ... ولو انقطعت هذه السلسلة مرة واحدة، ووجد سلف واحد فاسد، لضاعت عراقة النسب. وعلينا أن نسأل ذلك الذي يتحدث عن عراقة نسبه: ألا يوجد ضمن أسلافك رجال أشرار، جشعون، متلافون، فاسدون، قساة؟ فإن أجاب بالسلب عن علم ويقين، فعلينا أن نسعى إلى صداقته.»
7
وإن المرء لتتملكه الدهشة حين يرى تلك العقلية الدقيقة تتردى في مثل هذه الأخطاء والأوهام الخرافية عن الأصل والنسب، وكيف أنهما يؤثران على المرتبة الحالية لأفراد الإنسانية.
والظاهرة التي يجدر بنا ملاحظتها في هذا الصدد، هي مدى تأثر نيتشه بالمثل العليا اليونانية. فنحن اليوم نعيب على أفلاطون وأرسطو تبريرهما للرق من أجل ضمان مستوى رفيع في الحياة للأحرار من اليونانيين، ولكن نيتشه يعود إلى نفس الفكرة، في النص الذي أكد فيه أن الثروة مصدر من مصادر الارتفاع بالمستوى الطبيعي؛ إذ «تعفي المرء من العمل البدني الثقيل.» وهكذا تكون الإنسانية الرفيعة في نظره هي الإنسانية التي لا تعمل، والتي تحيا حياة مترفة خلت من كل مظاهر الجهد والعناء. ولما كان من المحال أن تسير الإنسانية كلها على هذه الوتيرة، فلا بد أن توجد طبقة أخرى توفر للأفراد الممتازين وقتهم وجهدهم؛ أعني أنه لا بد من نظام الرق في صورة من صوره. وبالفعل نجد نيتشه يصرح بهذه النتيجة الضرورية، فيقول: «لا يمكن أن تقوم حضارة رفيعة إلا حيث توجد في المجتمع طبقتان متميزتان؛ طبقة العاملين، وطبقة المترفين الذين يمكنهم أن يعيشوا دون أي عمل، أو بتعبير أقوى: طبقة العمل الإلزامي وطبقة العمل الحر ...»
8
وفي موضع آخر يقول صراحة: «إن كل ارتقاء بالنوع الإنساني كان حتى اليوم من عمل مجتمع أرستقراطي، وسيكون كذلك دائما؛ أعني مجتمعا يؤمن بالتفاوت الكبير في المراتب بين الإنسان والإنسان، وبتباين قيمة كل منهم، ويرى الرق بأي معنى من معانيه ضرورة محتومة.»
9
وهنا ترى لزاما علينا أن نعود فنذكر القارئ بتلك الصفة الفريدة في شخصية نيتشه؛ أعني تركيز حياته حول مجموعة من المشاكل الفردية كانت هي قوام هذه الحياة. فهذا الطابع الفكري الخالص لحياة نيتشه جعله يخلط بين المحتوى الثقافي لذهنه، وبين الواقع الفعلي الذي يحيا فيه؛ ومن هنا كانت النظرة اليونانية هي المسيطرة على تفكيره، وكانت حلوله لمشاكل عصره مستمدة من روح العصر اليوناني، برغم التفاوت الهائل بين طبيعة العصرين، والتقدم الكبير الذي أحرزته الإنسانية في ميدان العلاقات بين الطبقات الاجتماعية منذ ذلك الحين. فنظام الرق اليوناني، الذي أنجب تلك العقول النظرية الكبيرة، هو أصلح النظم في نظر نيتشه، وكما دعا أفلاطون وأرسطو إلى توفير الراحة «للأحرار» من الناس حتى يتفرغوا للمهام العقلية الكبيرة، فكذلك يدعو نيتشه إلى نوع من نظام الرق، حتى يمكن أن توجد طبقة أرستقراطية تنهض على أيديها الحضارة الحديثة. وهكذا نجد نيتشه يتجاهل طبيعة التصور الاجتماعي تجاهلا تاما، ويتنكر للنظرة التاريخية التي كان هو ذاته من أكبر من نبهوا إليها. فتفكيره في هذا الصدد هو أشبه بتفكير أهل الكهف، وهو بالفعل من أسرى الكهف العقلي الذي احتبس فيه ذهنه ، حتى غدت المشاكل الثقافية القديمة فيه حية تسعى في عالمنا هذا، وتفرض نفسها على عصرنا الحديث، برغم تنافرها الصارخ معه.
ولو تعمق نيتشه في الأمر قليلا، لأدرك أن الفئة التي تملك زمام الأمور نتيجة لأوضاع اجتماعية معينة ليست هي بالضرورة أصلح الفئات بطبيعتها، ولأدرك أيضا أن رأيه في التمايز الطبيعي بين الطبقات، ودعوته إلى إبقاء الطبقات الدنيا على حالها، إنما يفترض مقدما أن تأثير الطبيعة في هوية مع تأثير الأوضاع الاجتماعية، وهو فرض مخطئ كل الخطأ. وليس لنا أن نذهب بعيدا؛ فنيتشه ذاته يسخر، في مواضع معينة، من أغنياء عصره، وخاصة أصحاب الأعمال منهم، ويؤكد أنهم ليسوا أصلح الناس على الإطلاق، وذلك إذ يقول: «لقد كانت العلاقة بين الجنود وقوادهم دائما أرفع بكثير من علاقة العمال بصاحب العمل ... فهنا يتحكم قانون الحاجة فحسب؛ أي إن المرء يريد أن يعيش، وعليه أن يبيع نفسه؛ غير أنه يحتقر ذلك الذي يستغل هذه الحاجة ويشتري منه العمل. ومما يسترعي الانتباه أن الخضوع لأشخاص أقوياء، يثيرون الخوف والرعب، أي الخضوع لطغاة وقواد جيوش، لا يكون أليما بقدر الخضوع لأشخاص غير معروفين، لا أهمية لهم، كما هو الحال في كل رجال الصناعة الكبار؛ فالعامل لا يرى في صاحب العمل عادة إلا شخصا تافها يتصف بالخديعة والجشع، ويستغل كل حاجاته؛ شخصا لا يهمه على الإطلاق أن يعرف اسمه أو شكله أو خلقه أو طبعه. ومن الجائز أن كل رجال الصناعة وكبار رجال الأعمال في التجارة يفتقرون تماما - حتى الآن - إلى كل صفات «العنصر الرفيع» وسماته التي بدونها لا تكون للشخصية قيمة؛ ولو كان لهم ذلك السمو الذي تضفيه عراقة الأصل على نظراتهم ومحياهم، فربما لم تكن تقوم لاشتراكية الدهماء قائمة؛ ذلك لأن الدهماء يمكنهم أن يتحملوا كل أنواع العبودية، بشرط أن يثبت من يعلو عليهم أنه أرفع منهم بحق، وأنه «ولد» لكي يأمر، وذلك عن طريق صورته الرفيعة! ... غير أن الافتقار إلى الصورة الرفيعة، والتفاهة الوضيعة التي يتصف بها أصحاب المصانع بأيديهم الحمراء السمينة، تثير في ذهن العمال تلك الفكرة؛ وأعني بها أن الاتفاق والحظ وحدهما هما اللذان رفعا الواحد فوق الآخر، فتكون النتيجة أن يقول العامل لنفسه: حسنا، فلنجرب نحن الاتفاق والحظ، ولنلق نحن بالنرد! وهنا تبدأ الاشتراكية.»
10
وبغض النظر عن كل الأفكار غير العلمية التي ينطوي عليها هذا النص، فحسبنا أن نيتشه يعترف فيه بأن مالكي زمام الأمور في عصرنا هذا ليسوا هم أصلح الناس، ولا يمتازون عن أولئك الذين يخضعون لهم في شيء؛ ففي هذه الفكرة وحدها رد نهائي على كل الافتراضات التي حاول نيتشه أن يثبت بها وجود هوية بين التدرج في الأوضاع الاجتماعية الحالية للناس، وبين تدرجهم الطبيعي. وليس مما يهمنا في قليل أو كثير أن تكون تلك صفة يعيبها على عصرنا، أو أنه يلوم أغنياء العصر لأنهم ليسوا من أصحاب «الصورة الرفيعة»، ولأنهم بتفاوتهم قد جعلوا للاشتراكية مبررا، وإنما الذي يهمنا في كل هذا هو أنه قد اعترف بأن هذه هي طبيعة عصرنا؛ وهذا يستتبع حتما القول بأن تغيير الأوضاع الاجتماعية في مثل هذا العصر ليس مستحيلا. وليس أمرا مجافيا للمنطق، ما دامت الطبقات الدنيا قد تكون أصلح من العليا.
وليس معنى هذا أن نيتشه كان مخطئا كل الخطأ حين قال بفكرة التفاوت الطبيعي، وكل ما في الأمر هو أنه قد أخطأ حين أكد أن الاشتراكية تقضي على هذا التفاوت الطبيعي بين الناس؛ فالفهم الصحيح للأمور يثبت لنا وجود نوع من الاشتراكية هو - بعكس ذلك - المقدمة الأولى للكشف عن التدرج الطبيعي؛ ذلك لأن ترك الأمور تسير تبعا لما تقول به فلسفة الحرية المطلقة، يؤدي إلى القضاء على التدرج الحقيقي، أو الطبيعي، بين الناس، وإلى إحلال تدرج آخر تلعب فيه العلاقات الاجتماعية الدور الأكبر، ولا تتحكم فيه المواهب الطبيعية، بل الأوضاع المصطنعة التي خلقها مجتمع «حر» لا توجهه خطة، وإنما تلعب فيه الوراثة والمصادفات، والخديعة في كثير من الأحيان، الدور الأساسي؛ فالوسيلة المثلى للكشف عن التفاوت الطبيعي بين الناس هي أن تتيح لهم جميعا نقطة بداية متساوية، حتى يتسنى لنا تقدير المواهب الرفيعة فيهم على أساس حقيقي، لا على أساس مصطنع، وحتى تكون الطبقات الرفيعة هي الأرفع بطبيعتها، لا بثروتها أو نفوذها، ولا جدال في أن تحقيق هذا التساوي في نقطة البداية يقتضي نوعا من التوجيه والتخطيط والتنظيم الاجتماعي، هو الذي تسعى الاشتراكية إلى تحقيقه. فكفالة تكافؤ الفرص للجميع، حتى يظهر من هو الأصلح بالفعل فيهم، هو الشرط الأول لكشف التدرج الطبيعي بين الأفراد، وهو في نفس الوقت ما لا يمكن أن يتحقق في ظل مجتمع تسوده فلسفة الحرية المطلقة، بل في شكل من أشكال الاشتراكية. وهكذا يتضح أن الهدف الذي سعى إليه نيتشه ذاته يفترض الاشتراكية مقدما، وتلك بلا شك نتيجة كان يمكنه الوصول إليها لو كان قد فكر في مشاكل عصرنا بروح هذا العصر ذاته، لا بروح مجتمع الرق اليوناني! ...
مشكلة المرأة
يلخص رأي نيتشه في المرأة عادة بكلمته المشهورة: «أذاهب أنت إلى المرأة؟ لا تنس إذن سوطك!» ولكن، ينبغي قبل أن نعرض تفاصيل الحملة القاسية التي وجهها نيتشه إلى المرأة، أن ندرك الظروف التي مر بها في علاقاته مع أهم من قابل في حياته من النساء، فقد تلقي هذه الظروف بعض الضوء على تلك الحملة.
وأول ما ينبغي علينا أن نذكره هو أن علاقات نيتشه النسائية كانت محدودة، وذلك حين بلغ سن النضج. أما في طفولته، فيبدو أن البيئة النسائية الخالصة التي عاش فيها بعد وفاة أبيه، والتي كانت تشمل أمه وأخته وجدته وعمتين عانستين، يبدو أن هذه البيئة لم ترقه كثيرا. وبالفعل لا نجد لدى نيتشه تعلقا كبيرا بأمه - على عكس حاله مع أبيه - كما أن علاقته بشقيقته لم تكن دائما على ما يرام، وخاصة بعد زواجها من أحد المتعصبين ضد الجنس السامي.
وفي وسعنا أن نقول: إن فشل نيتشه في علاقاته النسائية كان من أسباب قسوة حملته على المرأة، ولندع جانبا صلته بملفيدا فون ميزنبج
Malwida von Meysenbug ، التي كانت أكبر منه سنا، وترعاه رعاية فيها من روح الأمومة الشيء الكثير؛ لندع جانبا هذه الصلة المحايدة، ولنتحدث عن علاقات أخرى كانت أعمق أثرا في حياته. فحين عرف نيتشه الآنسة «لو سالومي»
Lou-Salomé
كان يبدو له أنه قد عرف أذكى نساء الأرض، (ومع ذلك، فلنلاحظ أن كثيرا من الصفات التي كان يمتدحها فيها هي من صفات الرجولة؛ إذ يقول عنها: «إن لها نظرة ثاقبة كنظرة النسر، ولها شجاعة الأسد»!) ومن العجيب أن نيتشه قد طلب الزواج منها؛ غير أنها رفضت، وظن هو أنها قد خدعته مع صديقه «باول ري
» الذي تزوجته فيما بعد، فكانت تلك صدمة شديدة له، حتى قيل إنه حاول الانتحار بتناول كمية كبيرة من أقراص منومة كان قد اعتاد تعاطيها. والذي يهمنا في كل هذا أن نيتشه، الذي حمل على المرأة، وعلى الزواج، حملة شديدة، قد طلب هو ذاته الزواج من لو سالومي، حين رأى فيها المرأة الملائمة له.
وأعمق من هذه العلاقة، وأبعد أثرا في حياة نيتشه، علاقته بكوزيما فاجنر؛ ذلك لأن هذه المرأة الذكية الواسعة الاطلاع قد أسرت نيتشه بجرأتها وتحديها للتقاليد منذ اللحظة الأولى، فأعجب بها إعجابا صامتا، بل لقد أحبها بعمق، ولم يكن يجرؤ على أن يصرح بهذا الحب، خاصة وأن مشاعرها نحوه لم تكن متبادلة على الإطلاق، وكان اهتمامها كله مركزا في عبقرية زوجها فحسب. وهكذا ظل نيتشه يكتم حبه الصامت، حتى قيل إن ذلك الشعور كان من أسباب انشقاقه العنيف عن فاجنر، إلى أن جاء اليوم الذي باح فيه بسره القديم، وكان ذلك في اللحظة التي لم يستطع فيها ذهنه أن يحتفظ بأي سر على الإطلاق.
11
والذي يعنينا في هذا أيضا أن أول تصرف قام به نيتشه بعد جنونه هو أن يبوح بحبه لكوزيما فاجنر بطريقته الخاصة، مما يثبت لنا مدى الدور الهائل الذي كان يلعبه هذا الحب في ذهنه وفي تفكيره طوال حياته الواعية.
وعلى أساس هذه التجارب الفاشلة يمكننا أن نفهم دون عناء مدى عنف نيتشه في حملته على المرأة، فهو يؤمن بأن المرأة «بطبيعتها» مخلوق ناقص، وفيها من العيوب الكامنة ما يحتم علينا ألا نعهد إليها بأي عمل جدي ؛ فالمرأة تهتم بالأشخاص لا بالأشياء. وهي إذا اهتمت بالأشياء فإنما تعاملها كما لو كانت أشخاصا، وتنظر إليها نظرة شخصية متحيزة؛ فمن الخطر أن نعهد إليها بالأمور الهامة، كالسياسة مثلا؛ إذ إنها عندئذ لا يمكنها أن تتصرف تصرفا نزيها محايدا. وهكذا يقف نيتشه في وجه حركة تحرير المرأة بكل قوته، بل يرى أن طبيعة المرأة ذاتها عقبة ضد هذا التحرير؛ إذ إنها محافظة بطبيعتها تحترم السلطة السائدة والأفكار التي يقرها المجتمع، ولا يمكنها أن تتحدى هذه السلطة أو تخرج من هذه الأفكار؛ ومن هنا كان تعلقها بالرجل عائقا له عن المضي في طريق تحرره هو ذاته، فضلا عن تحررها الخاص. وهكذا يؤكد نيتشه أن: «الروح الحرة لا تعيش مع المرأة.»
12
وإنما تحلق وحدها، وتسير في طريقها الخاص، وأقصى ما يمكن أن تحتله المرأة من مكانة، هي مكانة الأشياء المملوكة فحسب: «... فأما الرجل الذي يتصف بالعمق في روحه كما في رغباته ... فلا يمكنه أن يفكر في المرأة إلا على الطريقة الشرقية دائما؛ أعني أنه لا بد أن ينظر إلى المرأة على أنها شيء يمتلك، وعلى أنها متاع محجب، وعلى أنها شيء كتب عليه مقدما أن يستعمل في الخدمة المنزلية، وأن يحقق ذاته فيها ...»
13
ولا جدال في ضوء ما ذكرنا أن العامل الشخصي كان له أثر كبير في آراء نيتشه هذه. فتقديره الكبير لشخصيات مثل لو سالومي وكوزيما فاجنر، يثبت أن رأيه الحقيقي في المرأة لم يكن دائما على هذا النحو من العنف، وإنما اتخذ هذا الطابع فيما بعد، حين أخفقت علاقاته بهؤلاء النساء. ويكفي أن ذلك الذي قال: «إن الزيجات التي تتم عن طريق الحب (أعني ما يسمى بزواج الحب) تتولد عن الخطأ أبا وعن الحاجة أما.»
14
يكفي أنه هو ذاته قد سعى إلى زواج مبني على الحب، وأخفق فيه!
وبجانب هذا العمل الشخصي، نلمس هنا أيضا أثر ذلك العامل الذي نبهنا إليه من قبل مرارا؛ وأعني به طغيان معلوماته الثقافية على روابطه الواقعية بالعالم المحيط به؛ فهو يعود دائما بذهنه إلى العصر اليوناني، ويجد مثله الأعلى في نظرة اليونانيين إلى المرأة، بل إنه يبرر الشذوذ الذي عرف عن اليونانيين تبريرا يجعل منه ظاهرة سليمة، فيقول إن ميل الرجال إلى التغزل في الشبان في العصر اليوناني إنما كان نتيجة ضرورية لطغيان روح الرجولة على اليونانيين، ويؤكد أن مهمة المرأة في العصر اليوناني كانت تقتصر على إنجاب أبناء ذوي أجسام قوية كآبائهم، مما أدى إلى حفظ شباب الحضارة اليونانية. «حضارة الرجولة»، أطول مدة ممكنة؛
15
فالخلط بين طبائع العصور يؤدي به إلى أن يقصر مهمة المرأة على إنجاب أبناء أقوياء فحسب، متجاهلا تماما كل التطورات التي مرت بها الإنسانية بين العصرين.
وأخيرا، فإن نفس الخطأ العلمي الذي لاحظناه من قبل، يتردد هنا مرة أخرى؛ فنيتشه يخلط بين الصفات الطبيعية والصفات الاجتماعية، وهو لم يحاول أن يفكر بعمق في علة هذا النقص الذي لاحظه على المرأة، واعتقد أنه صفة طبيعية فيها، ولم يطف بذهنه احتمال كون هذا النقص ناتجا عن عوامل اجتماعية معينة، لا عن ذلك الأصل غير العلمي؛ أعني التركيب الطبيعي. ولنضرب لفكرتنا هذه مثلا بصفة المحافظة، فهذه الصفة هي في حقيقتها نتيجة، لا سبب؛ أعني أنها نتيجة لأوضاع اجتماعية معينة حتمت على المرأة أن تكون محافظة. وليست سببا «طبيعيا» يحط من مكانتها الاجتماعية، ويكفي أن المرأة قد خضعت طويلا، وخلال مئات السنين، لسلطان طاغ من جانب الرجل، فمن الطبيعي أن يؤدي تراكم الضغط عليها عبر الأجيال المتوالية إلى أن يبعث فيها روح المحافظة، والخوف من كل خروج عن السلطة السائدة في المجتمع، حتى ليبدو ذلك بالنسبة إلى النظرة السطحية صفة طبيعية كامنة فيها؛ غير أنه لم يكن ينتظر من ذلك الذهن المدقق - ذهن نيتشه - أن يخدع بمثل هذه الصفة السطحية، ولا يردها إلى أصلها التاريخي والاجتماعي.
القومية والحرب
حاولت الدعاية النازية أن تصور نيتشه بأنه فيلسوف متعصب لقوميته إلى حد الدعوة إلى الحرب لحسم كل نزاع يقع بين وطنه وغيره من البلاد، ولضمان سيادة هذا الوطن وإثبات تفوق الجنس الذي ينتمي إليه على سائر الأجناس البشرية، فهل كانت تلك الدعاية تستند إلى أساس صحيح في تفكير نيتشه؟ لا شك في أنه قد ثبت اليوم نهائيا أن الصورة التي رسمها الألمان في عهد النازية لنيتشه كانت صورة مشوهة إلى حد بعيد، وأنهم حملوا نصوص نيتشه ما لا تحتمل. ولكن ليس معنى ذلك أن نيتشه كان داعية صريحا للسلام، أو أنه لم يحمل على الجنس السامي مطلقا، وكل ما في الأمر هو أنه لم يتفلسف على النحو الذي فهمه به فلاسفة النازية، ولم يدع إلى الحرب أو يحمل على السامية، لنفس الأغراض وعلى نفس الأسس التي قام عليها التفكير الألماني في تلك الفترة المظلمة من تاريخه.
أما عن معنى الوطنية عند نيتشه، فلا شك في أنه لم يكن ألمانيا متعصبا بالمعنى الذي عرف عن فلاسفة الإمبراطورية في عهد بسمارك، وفي الحربين الأخيرتين. فلم يكن نيتشه من أولئك الألمان الذين يزجون مدائحهم إلى العنصر الألماني، ويتغنون بامتياز شعبهم وعلوه على سائر شعوب الأرض، بل إنه كان في كثير من الأحيان يعيب على العنصر الألماني غموضه وصوفيته وافتقاره إلى الوضوح والدقة، ويمجد الثقافة الفرنسية، ويتأثر كثيرا بمفكريها، ويفضلهم عن مواطنيه من الألمان. ولقد كان مثله الأعلى هو أن يتجاوز حدود القومية الضيقة، وكان يفخر بذلك حتى أواخر أيام تفكيره الواعي، فيقول: «إن الأصل الذي أنحدر منه يمكنني من أن أمتد بنظرتي إلى ما وراء كل أفق محلي فحسب، ووطني فحسب. فليس من العسير علي أن أكون «أوروبيا طيبا».»
16
بل إنه كان يحمل على التعصب الوطني بوجه عام، ويراه عقبة في طريق الاختلاط بين الأمم الأوروبية، ثم ينقده قائلا: «ليست مصلحة الكثرة - أي الشعوب - هي التي تملك تلك الروح القومية، كما يقال في كثير من الأحيان، وإنما قبل كل شيء مصالح الأسر الحاكمة المحددة، وكذلك مصالح طبقات تجارية واجتماعية معينة.»
17
وهكذا يرى في التعصب الوطني المتطرف خدعة تضر بمصالح الشعوب، ويدعو إلى نوع من الروح العالمية. ويبدو أن سيطرة الروح اليونانية على تفكيره لم تترك له مجالا لتمجيد الألمان؛ إذ كان يحلم دائما ببعث حضارة إغريقية ديونيزية تغمر العالم بأسره، وتتعدى حدود الوطنية الضيقة.
وأما عن تعصبه للعنصر الآري، فهذا ما لم يقم عليه أي دليل. بل إن زواج شقيقته من أحد هؤلاء المتعصبين وهو برنارد فورستر
Bernhard Forster ، كان صدمة أليمة له، وظلت علاقته به غير ودية إلى النهاية. والحق أن آراء نيتشه الحقيقية لا يمكن أن تعد مناصرة للعنصرية الآرية على الإطلاق، بل إنه ليصرح بأن الأمة الألمانية بلغت حدا عظيما من الاختلاط في أصلها؛ فالعنصر الألماني ليس نقيا على الإطلاق، وإنما تداخلت فيه عناصر عديدة، وذلك أمر ينتمي إلى الطبيعة الحقة للألمان.
18
وإذا كان نيتشه قد حمل على اليهود كثيرا في كتاباته، فلم يكن ذلك لأنهم من الجنس السامي، ذي الصفات المضادة للجنس الآري الذي ينتمي إليه الألمان، وإنما كان ذلك لأسباب مختلفة عن ذلك كل الاختلاف، فحملة نيتشه على اليهود راجعة إلى أسباب تاريخية قديمة، ولا صلة لها باليهود المعاصرين له على الإطلاق؛ فاليهودية هي أصل المسيحية، بل إنه كثيرا ما يدمج العقيدتين في تيار واحد، ويراهما مسئولتين عن روح الضعف والتخاذل التي هي عنده من صفات المتدينين بوجه عام، فحملة نيتشه على اليهودية إنما هي امتداد لحملته على المسيحية، وعلى أصل من الأصول الرئيسية للمسيحية فحسب، ومعنى ذلك أنها حملة خلت تماما من كل إشارة إلى التعصب العنصري، ما دامت تسري أيضا على المسيحيين بأسرهم، ومنهم الألمان بوجه عام. أما إذا كان الأمر متعلقا باليهود المعاصرين، فإن نيتشه يعبر في كثير من الأحيان عن عطفه عليهم، ويدافع عن قضيتهم، ويشيد بفضلهم على أوروبا.
19
فماذا كان موقف نيتشه من مشكلة الحرب؟ وهل كان يدعو - كما قال النازيون - إلى حل كل مشاكل العالم بالحرب وحدها؟ الحق أننا لا نستطيع أن نعفي نيتشه تماما من تهمة تمجيد الحرب، وكل ما يمكننا أن نقوله في هذا الصدد هو أن رأي نيتشه لم يكن واضحا كل الوضوح، وأن نصوصه كانت تعبر عن مواقف متناقضة من هذه المشكلة، وأنه حين كان يناصر الحرب، كان في واقع الأمر يناصر صفات أخلاقية معينة يعتقد أن الحرب وحدها هي التي تنميها في البشر، وأن السلم الطويل يقضي عليها؛ ولا يناصر الحرب لذاتها.
أما أن آراءه في مشكلة الحرب لم تكن واضحة كل الوضوح، فهذا ما يتضح من تضارب مدلولات النصوص التي تحدث فيها عن الحرب. فهو أحيانا يحمل على الروح العسكرية المتطرفة، وعلى فكرة السلم المسلح، ويرى أن التسلح يفترض مقدما عدم الثقة بالجار، ونسبة الشر إليه، وهذه كلها مقدمات الحرب. ووسيلة السلم عنده هي تحطيم الأسلحة، بواسطة شعب قوي يكون متفوقا على كل الأمم في تسلحه، يحطم أسلحته بإرادته، فينتزع بذلك بذور الخوف والكراهية.
20
ولكنه بينما يرسم مثل هذه الخطة للسلم، ويراها ممكنة التحقيق، فإنه يؤكد في موضع قريب أن الحرب محتومة، وأن تحقيق السلم محال، وإذا افترضنا تحققه، فلن يكون ذلك إلا على حساب تقدم الإنسانية؛ «فمن الخيال والهوس المغرور أن نظل ننتظر من الإنسانية الكثير ... إذا ما كفت عن شر الحروب. فلسنا نعرف حتى الآن وسيلة أخرى يمكن بها إيقاظ نشاط الجندية الخشن في الشعوب التي اعتادت الخمول، وتنمية تلك الكراهية اللاشخصية العميقة، وذلك الإصرار على القتل عن يقين كامل، وذلك الاندفاع الجماعي المنظم إلى تحطيم الخصم، وتلك الكبرياء التي تجعل المرء لا يأبه بالخسائر الكبيرة، ولا يعبأ بما يلحقه منها في حياته، أو بما يلحق أصدقاءه، وتلك الهزة الغامضة العنيفة للنفوس؛ لسنا نعرف حتى الآن وسيلة لتحقيق هذا كله بطريقة مؤكدة مثلما تفعل كل حرب كبرى.»
21
وهو يبدي إعجابه بما يطرأ على أوروبا من تقدم في الميدان العسكري، ويرى في ذلك بشيرا بانتهاء عهد الهدوء والمسالمة، ومظهرا من مظاهر الرجولة، والاعتناء بالجسم، ودليلا على أن الأبدان القوية قد عادت لتحتل مكانتها.
22
وهكذا يتخذ نيتشه دائما من الحرب مواقف متناقضة، فيحمل عليها حينا، ثم يدعو إليها حينا آخر، أو يجمع بين الموقفين في وقت واحد فيقول: «من مساوئ الحرب أنها تجعل الظافر أبله والمهزوم حقودا. ومن محاسنها أنها تثير هذه المشاعر ذاتها في نفس الطرفين بقسوة، وتجعل هذه المشاعر أقرب إلى الطبيعة.»
23
ومن الواضح في كل هذا أن نيتشه يمجد في الحرب صفات الرجولة والخشونة التي يعتقد أن الحرب وحدها هي التي تثيرها. وإذا كان يحمل على السلم، فإنما يحمل عليه لما يظنه مؤديا إليه من هدوء وخمول. وهكذا وقع نيتشه في ذلك الخطأ الذي ظل يتردد طويلا، إلى أن نبذته الإنسانية نهائيا في وقتنا هذا؛ وأعني به الاعتقاد بأن الحرب هي المجال الوحيد لإثارة الهمم، وللقضاء على روح الخمول التي تنتاب البشر إذا ظلت حياتهم تسير على وتيرة واحدة؛ وكأن التنافس السلمي ليس فيه ما يثير حماسة البشر، ولا يسوده إلا الهدوء الممل! وكأن الرجولة والبطولة لا تتبدى إلا في تلك المجازر الحيوانية التي تولدها الحروب! على أننا نستطيع أن نلتمس لنيتشه بعض العذر في أخطائه هذه؛ إذ لم تكن الحروب في ذلك الحين قد بلغت من العنف والقسوة ما يجعلها تهدد بالقضاء التام على الإنسانية، وعلى كل فضائل الإنسان، وضمنها البطولة والرجولة، وكانت لا تزال فيها سمة من الطابع الشخصي، بحيث إن المنتصر فيها قد يكون هو الأصلح جسميا بالفعل، بينما لم تعد الحروب الحديثة مقياسا للصلاحية البدنية على الإطلاق، أو تدريبا على الخشونة وقوة التحمل، وإنما تخلق جيلا مشوها محطما هو أبعد ما يكون عن تلك الصفات التي تغنى بها نيتشه.
والذي لا شك فيه أن نيتشه لو كان قد شهد حروبنا العالمية الحديثة، وأدرك مدى الخطر الذي تهدد به الإنسانية، لتغيرت فلسفته في الحرب تغيرا تاما، ولدعا إلى السلام بكل قواه؛ ذلك لأنه قبل كل شيء يحرص على أن يظل الإنسان مسيطرا على الطبيعة، متحكما فيها بفضائله وقواه التي لا تقف عند حد. وإذا كانت الحروب في شكلها الحالي تهدد بالقضاء على سيطرة الإنسان على القوى الطبيعية، فتجعل هذه القوى تنقلب عليه وتعمل فيه الفناء، فلا جدال في أن أحدا من المفكرين - وبخاصة نيتشه - لن يجرؤ على أن يسوق مثل هذه الحجج للدفاع عن حرب تتصف بمثل هذا الطابع المدمر.
الفصل السادس
الدين والعود الأبدي
لم يكن نيتشه يعترف بعقيدة من العقائد الشائعة، لا صراحة ولا ضمنا. وكل محاولة لكشف نوع من التأثر الخفي بالدين في تفكيره، كتلك التي قام بها ياسبرز في كتابه عن «نيتشه والمسيحية» هي محاولة باطلة من أساسها. وليس لنا أن نتقيد بما يقوله البعض من وجود روح دينية كامنة لدى نيتشه، مبعثها ذلك الأصل الديني القديم الذي ترجع إليه أسرته من طرفيها. فكل تأثير لهذا الأصل كان تأثيرا سلبيا، بمعنى أنه مكنه من أن يتعمق فهم الروح الدينية ليوجه إليها أعنف النقد فيما بعد. فآراؤه في هذا المجال صريحة كل الصراحة، ومن أكبر الأخطاء أن نشبه نقده الديني بنقد آخر مبعثه الرغبة في العلو بالعقيدة الشائعة وتنقيتها من الشوائب، مثل نقد كيركجورد؛ فالإيمان هو القوة المحركة للذهن الناقد في حالة كيركجورد، أما في حالة نيتشه فلا مجال للتوفيق بين ذهنه وبين الروح الدينية على الإطلاق.
ونقد نيتشه ينصب أولا على فكرة العقيدة بوجه عام؛ فالروح الدينية في رأيه تفتقر إلى كل فهم للقوانين الطبيعية، وما هي إلا امتداد للتفسير البدائي، الذي كان يفهم كل شيء من خلال السحر والخرافة؛ فلا شيء في نظر هذه الروح يحدث «طبيعيا»،
1
وإنما تتحكم إرادة واعية في كل الحوادث، وتصبغها بصبغة الخير والشر، وكلما عجزت عن فهم ظاهرة ما، أرجعتها إلى فعل هذه الإرادة الواعية. وكما كانت العقلية البدائية تملأ الكون بالقوى الخفية التي تتسبب في خلق الحوادث بطريقة إرادية، فكذلك تفسر العقلية الدينية حوادث الكون تفسيرا مماثلا، سواء تعددت في نظرها تلك القوى الخفية أم توحدت. وإذا حدث ما يناقض فعل القوى الخيرة التي تتحكم في الكون نسب ذلك إلى قوى أخرى، هي «الشيطان»، وأغفل كل تعليل طبيعي للبشر. وهنا يسارع نيتشه فيؤكد «أن قطرة من الدم تزيد أو تنقص في المخ قد تسبب لحياتنا من الشقاء والألم ما يجعلنا نقاسي أكثر مما قاسى بروميثيوس من عقابه؛ غير أن أخطر ما في الأمر هو ألا ندرك أن تلك القطرة هي السبب، بل نعزو ذلك إلى الشيطان، أو الخطيئة.»
2
وهكذا يفهم نيتشه العقلية الدينية على أنها نقيض العقلية العلمية؛ فالأولى تفسر كل شيء «طبيعيا»؛ أي على نحو مستمد من منطق الحوادث ذاتها، لا من تشبيه حوادث الطبيعة بما يجري داخل الذات الإنسانية الواعية.
وبجانب ذلك التعليل الموضوعي لطبيعة العقلية الدينية، نصادف عند نيتشه تعليلا نفسيا لها؛ فالمتدين يؤمن بالوحي؛ أعني بأن ثمت أفكارا تهبط إليه من مصدر يعلو عليه، بحيث لا يكون ذهنه إلا أداة تتلقى هذه الأفكار سلبيا فحسب، ويرى نيتشه أن تلك هي المشكلة النفسية الكبرى في الدين، «فكيف يتسنى للمرء أن ينظر إلى آرائه هو عن الأشياء، على أنها وحي؟ تلك هي مشكلة أصل الأديان.»
3
ففي كل حالة سادت فيها عقيدة ما، كان يوجد رجل يؤمن بالوحي، بحيث إنه عندما كون فرضا شاملا عن العالم، لم يستطع أن يتصور أن يكون كل هذا النظام والجمال الكوني من صنع ذهنه هو، فينسبه إلى قوة عليا؛ إلى الوحي. ولا شك أن المرء، بجانب ذلك، يضفي على رأيه مزيدا من القوة إذا عزاه إلى الوحي، ويجعله بمنأى عن النقد والشك؛ أعني يجعله مقدسا، «حقا إن مكانة المرء ستهبط عندئذ، فيصبح مجرد أداة، ولكن رأيه سينتصر في آخر الأمر، حين يغدو فكرة إلهية.»
4
ففي الدين إذن يحط المرء من قدر ذاته عامدا، حتى يضمن لرأيه الانتصار؛ ومن هنا يستنتج نيتشه أن الدين «قد حط من قدر تصور الإنسان، فنتيجته النهائية هي أن كل ما هو خير، وعظيم، وحقيقي، هو فوق الإنسان، وما وهب له إلا تفضلا.»
5
والظاهرة النفسية الكامنة من وراء هذا النمط الديني الخاص، هي ظاهرة «تبدل الشخصية
alteration de la personnalité ».
6
فنفسية رجل الدين من ذلك النوع الذي يرجع مشاعره الخاصة إلى قوى خارجية، ويراها غريبة عنه، كالمريض عندما يشعر بثقل أحد أطرافه، فيظن أن شخصا آخر قد ارتكز عليه. وعلى ذلك ففي الدين يخاف المرء من ذاته ويهرب منها، ولكنه من جهة أخرى يحس بلذة الانتصار حين ينسب أفكاره المباغتة المفاجئة إلى الألوهية، ويرتفع بها فوق مستوى الشك.
ومن الطبيعي أن ينقد نيتشه الأفكار الدينية الرئيسية نقدا عنيفا، ما دامت الروح الدينية أصلا ظاهرة منحرفة في رأيه، وما دام يدعو إلى استبدال نظرة طبيعية بالنظرة الدينية «غير العلمية». فإذا كان يعيب على العقيدة أنها تحط من قدر الإنسان، إذ تنسب نواتج الذهن الإنساني إلى مصادر أخرى تعلو على هذا الذهن، فلا شك في أن مهمته، كما يحددها بوضوح، هي أن يعيد إلى الإنسان ثقته بنفسه، ويرد إليه حقه المسلوب، وهنا يجد نيتشه لزاما عليه أن يحمل على فكرة الألوهية بوجه عام؛ فالألوهية في نظره عقبة تحول دون تأكيد الإنسان لذاته، وطالما أن فوق البشر آلهة يؤمنون بها، فسوف يكون هذا الإيمان على حساب تقدير البشر لأنفسهم وثقتهم بها. وعلى ذلك فهو يدعو إلى إزاحة هذه العقبة من أجل رفع شأن الإنسان، الذي يصبح عندئذ أعلى الكائنات شأنا، وصحيح أن تلك المهمة الهائلة تقابل بالجزع من جانب الإنسان، ولكن عليه أن يستجمع في نفسه من الشجاعة ما يمكنه من القيام بتلك الخطوة الحاسمة، التي يصبح بعدها السيد الأوحد للعالم.
والحق أن نقد نيتشه لفكرة الألوهية لا يعد مجالا للشك في أنه قد تخلى تماما عن هذه الفكرة، ولم يعد لها في ذهنه أي دور تؤديه. ويتخذ نقده في كثير من الأحيان طابع السخرية، فيقول مثلا: «إن وجود الله ذاته كان يغدو مستحيلا لو لم يكن يوجد أناس حكماء؛ هذا ما قاله لوثر، وله الحق فيما قال. ولكن، إن وجود الله كان يغدو أكثر استحالة لو لم يكن يوجد أناس بلهاء، هذا ما لم يقله صاحبنا لوثر!»
7
وفي أحيان أخرى يتخذ هذا النقد طابع الثورة الساخطة، فيتساءل: «أيكون إلها خيرا ذلك الذي يعلم كل شيء، ويقدر على كل شيء، ولا يعبأ مع ذلك بأن تكون مقاصده مفهومة لمخلوقاته ... ألا يكون إلها شريرا ذلك الذي يملك الحقيقة، ويرى ذلك العذاب الأليم الذي تعانيه البشرية من أجل الوصول إليها؟»
8
على أنه يؤكد بعد ذلك أن كل هذه الأنواع من النقد ليست حاسمة. «فمن قبل كان المرء يسعى إلى أن يبرهن على أنه ليس ثمت إله، واليوم يبين المرء كيف أمكن أن «ينشأ» الاعتقاد بوجود إله، وإلى أي شيء ترتد أهمية هذا الاعتقاد وقوة تأثيره. وفي هذه الحالة يكون البرهان الآخر على أنه ليس ثمت إله؛ يكون هذا البرهان سطحيا؛ ذلك لأنه عندما كان المرء من قبل يفند البراهين القديمة على وجود الله، كان يظل هناك شك دائم في احتمال كشف براهين أفضل من تلك التي فندت.»
9
فالتفنيد التاريخي إذن هو التفنيد الحاسم. وإذا استطاع الفيلسوف أن يثبت أن هذه الفكرة قد «نشأت»؛ أعني أن لها أصلا تاريخيا أو نفسيا معينا، وأنها قد ظهرت لكي تفي بمقتضيات إنسانية خاصة في ظروف معينة، فعندئذ يكون في نفس الوقت قد قضى على ما تنطوي عليه الفكرة من ثبات وأزلية، وفي هذا قضاء على الفكرة ذاتها.
ولقد أوضحنا من قبل أمثلة للأحوال النفسية المنحرفة التي تؤدي - في رأي نيتشه - إلى ظهور الروح الدينية والآلهة، وكلها ترمي إلى هدف واحد، هو أن تثبت أن الفكرة قد «نشأت»، وأن نشأتها راجعة إلى ظروف معينة. وهو من جهة أخرى يبحث في نشأة الفكرة من الوجهة التاريخية، فيقارن بين تصور الله في مختلف الأديان، وينتهي إلى وجود اختلاف أساسي بين هذه التصورات مما يقضي عليها كلها معا. وهو يحمل بوجه خاص على تصور الألوهية في المسيحية واليهودية؛ فهذا التصور مرتبط برغبة الإنسان في معاقبة نفسه، ومرتبط بشعوره بالذنب؛ وهذه الرغبة والشعور هي التي تتجسم في فكرة الله ذاتها، فتصوره على نحو مضاد للإنسان تماما، وتنسب إليه من الأوامر ما يقف في وجه الطبيعة البشرية ويعوق سيرها التلقائي. ويؤكد نيتشه أن الارتباط بين الأمرين؛ أعني بين تصور الألوهية وبين الحملة على الطبيعة البشرية، ليس ضروريا. فهناك شعوب تصورت آلهتها على نحو مخالف تماما لفكرة الشعور بالذنب هذه؛ فعند اليونان مثلا يؤله الإنسان ما هو إنساني - وربما ما هو حيواني - فيه، وتختفي تماما فكرة الخطيئة والذنب، ولا يدأب على لوم نفسه والحط من قدرها، كما هو الحال في المسيحية.
10
والحق أن نظرة نيتشه إلى المسيحية كانت تتأثر دائما بعاملين رئيسيين: أولهما نقده للروح الدينية بوجه عام، وهو النقد الذي امتد ضرورة إلى المسيحية بوصفها الصورة الرئيسية لتلك الروح الدينية في المجتمع المحيط به. وأما العامل الثاني، فهو تعلقه بكل ما هو يوناني، حتى يكاد المرء يحس في كتاباته تمجيدا للعقائد اليونانية ذاتها! وعلى أية حال، فقد كان نمط الحياة اليونانية في رأيه أرفع بكثير من نمط الحياة المسيحية؛ ذلك لأن العقائد اليونانية لم تكن تقف في وجه نمو القوى الطبيعية للإنسان، بينما كانت العقائد المسيحية واليهودية عنده عقبة كبرى تحول دون نمو هذه القوى.
ومن العجيب حقا أن نيتشه يذكر، ضمن أسباب حملته على المسيحية، أنها تعتمد على المشاعر أكثر مما تعتمد على العقل؛ أي إنها كانت رد فعل على النزعات الفلسفية العقلية السابقة عليها، والتي سادت العصر اليوناني؛ فالفضائل المسيحية ليست انتصارا للعقل على المشاعر، كما قال الفلاسفة الإغريق، بل إنها كلها تنبع من مشاعر أو انفعالات معينة، مثل «حب» الله، و«خشية» الله، و«الإيمان» بالله، و«الأمل» في الله.
11
ومرد العجب في هذا إلى ما يعرفه الجميع عن نيتشه من تعلق بالنزعة إلى اللامعقول، ومن نقد للاتجاهات العقلية الخالصة، وإيثار للمشاعر على العقل في كل تفسيراته، ولكن تعلقه بكل ما هو يوناني هو الذي يجعله يأخذ على المبادئ المسيحية (المضادة للمبادئ اليونانية) صفات كانت أخص ما يميز فلسفته هو ذاته.
وهو يحمل بوجه خاص على فكرة الخطيئة في المسيحية؛ فالإنسان والطبيعة أبرياء، والخطيئة وهم ناشئ عن انحراف نفسي، ورغبة شاذة في معاقبة الذات وتأنيبها، والحس هو المجال الطبيعي لممارسة القوى الإنسانية. وليس فيه ما يحط من قدر الإنسان في شيء.
والذي لا شك فيه هو أن نقد المسيحية كان عند نيتشه مقدمة عقلية أساسية لا يفهم تفكيره بدونها، بل كان هو الهدف الرئيسي الذي تتجه إليه فلسفته بأسرها.
12
ولسنا نود أن نطيل الحديث في علاقته الخاصة بشخصية المسيح، فقد كان في كثير من الأحيان يحمل على تلك الشخصية حملة شديدة، ينتهي فيها إلى أن المسيح لم يسر في الطريق الذي اتخذه لنفسه إلا لأنه قد أساء فهم دوافعه النفسية، وذلك هو ما أدى به إلى الشعور بالحاجة إلى الخلاص، ولو أحسن فهم تلك الدوافع، وتخلص من أخطائه الذهنية والنفسية، لما كان مسيحا على الإطلاق.
13
على أن نيتشه يخفف في بعض الأحيان من حدة لهجته، ويبدو مدافعا عن المسيحية في صورتها الأصلية كما أتى بها يسوع المسيح، مؤكدا أن النظام الذي سارت عليه الكنيسة فيما بعد، بما فيه من قساوسة، ولاهوت، وطقوس، هو ما كان يحاربه يسوع بوجه خاص،
14
وهو الذي صبغ المسيحية بالصبغة الحالية التي كانت هدفا لحملاته، وينسب كل هذه التغييرات إلى أصول أخرى تالية، من أهمها القديس بولس.
وسواء كان الأمر متعلقا بطبيعة المسيحية الأولى، أم بالمسيحية التالية، فإن عقل الإنسان الحديث، في رأي نيتشه، لم يعد يتحمل مثل هذه التعاليم. «فلم تعد أذهاننا هي التي تدين المسيحية الآن، بل ذوقنا»!
15
وهو يرى في المسيحية أفكارا لا يكاد العقل الحديث يتصورها إذا تأملها بشيء من الموضوعية فيقول: «عندما نستمع في صباح الأحد إلى دقات الأجراس القديمة، فعندئذ نتساءل: أهذا ممكن! إن ذلك كله من أجل يهودي صلب منذ ألفي عام، كان يقول إنه ابن الله، وهو زعم يفتقر إلى البرهان؛ فلا جدال في أن العقيدة المسيحية هي بالنسبة إلى عصرنا أثر قديم نابع من الماضي السحيق. وربما كان إيماننا بهذا الزعم، في الوقت الذي نحرص فيه على الإتيان ببراهين دقيقة لكل رأي آخر، هو أقدم ما في هذا التراث. فلنتصور إلها ينجب أطفالا من زوجة فانية ... وخطايا ترجع إلى إله، ويحاسب عليها نفس الإله، وخوفا من عالم آخر يكون الموت هو المدخل إليه ... لكم يبدو لنا كل ذلك مخيفا، وكأنه شبح بعث من الماضي السحيق، أيصدق أحد أن شيئا كهذا لا يزال يصدق؟»
16
ولعلنا قد أوضحنا الآن تلك الحقيقة التي لا سبيل إلى الشك فيها، وهي أن العقائد، في كل صورها الشائعة، لا تلائم تفكير نيتشه على الإطلاق؛ غير أنه لم يقف عند حد الإنكار السلبي للعقائد دائما، بل أتى في الفترة الأخيرة من تفكيره الفلسفي، بما يمكننا أن نسميه عقيدته الخاصة؛ أعني فكرة العود الأبدي. ولسنا نود أن نحكم على هذه الفكرة مقدما، بل يكفينا أن نشير إلى أنها تفي بكل الشروط التي افتقرت إليها العقائد الشائعة في رأي نيتشه؛ فهي عبادة للأرض، وللإنسان في هذا العالم؛ وأهم من هذا كله أنها ترتكز على التصور اليوناني للعالم، وترجع في كثير من تفصيلاتها إلى تعاليم فلاسفة اليونان.
فكرة العود الأبدي
17
لفكرة العود الأبدي تاريخ طويل في الفلسفة، بل قبل الفلسفة، فأصولها ترجع إلى عهد الأديان القديمة التي قامت بها على أساس أسطوري لا يمت إلى العلم أو المنطق العقلي بصلة. واحتلت الفكرة أهمية كبيرة في الفلسفة اليونانية، فقد ظهرت لها بوادر في فلسفة أنكسمندر، حين قال بعدد لا متناه من العوالم، وإن كنا لا ندري إن كانت هذه العوالم تتعاقب أو تتواجد معا، غير أن مما يعزز الرأي القائل بأنها تتعاقب، اعتقاد أنكسمندر بالفناء الكوني؛ ومن هنا يمكن القول إنه قد عرف نوعا من التعاقب بين أحوال مختلفة للعالم، يقرب مما تقول به نظرية العود الأبدي، وإن لم نكن على ثقة من أن كل عالم ستتكرر فيه بدقة نفس حوادث العالم السابق كما تقول النظرية.
وازدادت الفكرة وضوحا عند هرقليطس؛ فالنار في رأيه، وهي عنصر الكون الأساسي، تلتهم العالم بين فترة وأخرى، فيعود العالم بعد ذلك عودا مماثلا لصورته السابقة، وذلك خلال «دورات معينة من الزمان».
كذلك قال أنبادقليس بتتابع أبدي لعوالم متتالية تكون ثم تفسد، وشهد له أفلاطون وأرسطو بأنه رأى العالم في حالة تغير دائم، يتم خلاله تبادل السيطرة بين قوتي الحب والكراهية، بحيث يكمل الكون دورته كلما عاد أحد هذين العنصرين إلى السيطرة الكاملة.
وإذا كنا في كل هذه الآراء لم نصادف بعد عودا أبديا تتماثل فيه كل التفاصيل الدقيقة للعالم، فلا شك في أن الفكرة قد ظهرت بحذافيرها لأول مرة لدى الفيثاغوريين. فهناك شواهد تقطع بأنهم رأوا الزمان يعود كما سار من قبل، فتتكرر كل حوادث العالم مثلما تتكرر فصول السنة بعد أن تتم دورتها.
ومن العجيب أن نيتشه، وهو دارس متعمق لتاريخ الفلسفة، وبخاصة فلسفة اليونان، قد نسب إلى نفسه أنه كان أول القائلين بهذه الفكرة؛ أعني أول من نادى بالعود الأبدي، فهل كان نيتشه كاذبا في هذا الزعم الذي صرح به في كتابه «هو ذا الرجل»؟ إنه كان يعلم ولا شك أن من المفكرين اليونانيين من قالوا بالعود الأبدي، وقد صرح في رسالته عن «نفع التاريخ ومضاره للحياة»
18
أن الفيثاغوريين قالوا بفكرة العود الأبدي. فكيف نوفق بين هذين الأمرين؟ في وسعنا أن نجد لهذه الظاهرة الغريبة تعليلات مختلفة، تبنى كلها على استبعاد فكرة الكذب أو الافتقار إلى الأمانة العلمية عن نيتشه: (1)
ففي هذه الظاهرة دليل آخر على مدى تأثره بالتفكير اليوناني، إلى حد أن أصبحت مبادئ هذا التفكير في هوية مع مبادئ تفكيره هو، حتى استحال عليه في آخر الأمر أن يميز بين ما يأتي هو به، وما يتلقاه عن اليونان من أفكار، ومرة أخرى يظهر تداخل المحتوى الفكري لذهن نيتشه في حياته، حتى يبدو التراث العقلي الذي استوعبه إنتاجا خاصا لذهنه، يفخر به ويعده أعظم ما «أبدعه» عقله! (2)
وقد يكون لتوسع نيتشه في بحث الفكرة أثره في اعتقاده بأنه هو أول من كشفها، فقد كشف عن نتائج هامة للقول بالعود الأيدي، واحتلت الفكرة من فلسفته الأخيرة موقع الصدارة، بينما اقتصرت الفلسفات اليونانية التي قالت بها على وجوه محدودة منها، ولم تستخلص منها أية نتيجة أخلاقية ذات شأن، أو تجعل منها نقطة بداية لعقيدة جديدة؛ فالعود الأبدي لم يكن عند فلاسفة اليونان إلا نظرية ميتافيزيقية فحسب، ولم يحاول أحد منهم أن يستخلص دلالته العميقة، أو يجعل منه مركزا لفهم شامل للعالم، من الناحيتين الأخلاقية والدينية في آن واحد. (3)
كذلك كان لطريقة ظهور هذه الفكرة عند نيتشه أثرها الكبير في اعتقاده بأنه أول من قال بها، فقد عرفها من قبل فكرة معتادة من الأفكار التي يحفل بها تاريخ الفلسفة، ولم تترك لديه عندئذ اهتماما كبيرا، ولكنه اهتدى إليها فجأة في وقت متأخر، وقد اكتسبت صفات جديدة كل الجدة. وفي هذا الشكل الجديد لم يكن من الغريب أن يقول إنه أول من توصل إليها؛ فقد هبطت عليه الفكرة في لحظة مباغتة، فطغت على كل ما في ذهنه، وكل ذلك خلال نزهة جبلية له في إيطاليا، على بعد ستة آلاف قدم «من الناس والزمان»، في أغسطس عام 1881؛ أي في المرحلة الناضجة من مراحل فلسفته، «في ذلك اليوم كنت أجتاز الغابة على طول بحيرة سلفابلانا، وبالقرب من كتلة صخرية هائلة برزت على شكل هرمي، وعلى مقربة من سورلي، وقفت، وهناك خطرت لي الفكرة»؛ فالصورة التي يرسمها نيتشه لظهور فكرة العود الأبدي لديه لا تدع مجالا للشك في أن دلالة الفكرة عنده كانت تختلف تماما عن ذلك الصدى الذي تركته في نفسه دراساته لمظاهرها السابقة عند اليونانيين.
ومنذ ذلك الحين توجت فكرة العود الأبدي فلسفته، واحتلت المكانة الرئيسية فيها، وأخذ يربط بينها وبين نظرياته في الأخلاق ونقده الديني، واستلهمها كثيرا من قصائده الغنائية في كتابه «زرادشت». بل إن الثعبان الذي كان يصاحب زرادشت أينما حل، كان يرمز إلى الأبدية في دورانها والتفافها وعودها إلى حيث بدأت (بينما كان النسر يرمز إلى الفكرة الرئيسية الأخرى، فكرة إرادة القوة) ... «سأعود مع هذه الشمس، وهذه الأرض، وهذا النسر، وهذا الثعبان؛ لا إلى حياة جديدة، أو حياة أفضل، أو حياة تقرب من هذه، سأعود أبدا إلى نفس هذه الحياة، في كل صغيرة وكبيرة منها، لكي أدعو مرة أخرى إلى العود الأبدي لكل الأشياء.»
19
ولقد كان في ذهن نيتشه مشروع ضخم يرمي إلى أن يكرس عشر سنوات من حياته لدراسة العلوم الطبيعية، لا لشيء إلا ليثبت فكرة العود الأبدي إثباتا علميا متينا؛ غير أن اعتلال صحته لم يمكنه من تحقيق ذلك المشروع . ومع ذلك فقد عمل جاهدا على أن يجد لفكرته هذه دعامة علمية، فلا تعود مجرد فرض ميتافيزيقي كما كانت عند اليونان.
وأولى القواعد العلمية التي ترتكز عليها فكرة العود الأبدي في رأي نيتشه، هي القول بأن مدى القوة الكونية متناه ومحدود. ومعنى ذلك أن عدد مواقع هذه القوة وتغيراتها وتركيباتها محدود بدوره، وإن يكن هائلا. ففكرة استمرار التحول إلا ما لا نهاية تنطوي في ذاتها على تناقض، إذ تفترض وجود قوة تتزايد إلى ما لا نهاية. ولكن من أين لها هذا التزايد؟ ومن أين تتغذى بهذا القدر الهائل؟ إن تصور العالم على أنه قوة محدودة هو الذي يميز الروح العلمية من الروح الدينية في رأي نيتشه؛ فنحن نعتقد اليوم أن القوة هي هي دائما، وأنها لا ينبغي أن تكون لا متناهية بالضرورة. هي حقا فعالة فعلا أبديا، ولكن طاقتها محدودة، فلا تستطيع أن تستمر في خلق حالات جديدة إلى ما لا نهاية له.
فإذا كان الشرط العلمي الأول لتحقق العود الأبدي هو أن تكون القوى الكونية متناهية، فالشرط الثاني هو أن يكون الزمان لا متناهيا؛ أي أن تظل هذه القوة تمارس فعلها بلا انقطاع. فإذا توافرت اللانهائية للزمان، فلا بد أن تستنفد الإمكانيات التي تتاح لهذه القوة المحدودة، وبهذا تأتي حالة تماثل تماما حالة أخرى تكررت من قبل، وعندئذ تتلو عنها كل الحوادث كما وقعت من قبل تماما، ويكون الكون قد أتم دورة من دوراته، وتظل هذه الدورات تتكرر إلى الأبد خلال الزمن اللامتناهي، كل منها مماثلة للأخرى في كل صغيرة وكبيرة.
ولنا أن نعد فكرة العود الأبدي من النتائج الرئيسية للمذهب الآلي، بل هي نتيجته الفلسفية الكبرى، كما يقول ريي
Rey ،
20
فالعالم في رأي ذلك المذهب آلة عمياء، من شأنها أن تمر بنفس الحالات مرات لا متناهية. بل إن تعريف الآلة هو أنها ما يؤدي وظيفته بشكل دوري منتظم، بحيث يعود دائما إلى نفس الحالات التي مر بها دون أي تغير.
والواقع أن لفكرة العود الأبدي، من وجهة نظر المذهب الآلي، مزايا عديدة؛ فهي تفوق في بساطتها كل نظام يصور العالم على أنه يسير في خط واحد نحو غاية معلومة؛ أي إن له بداية ونهاية. وفيها قدر كبير من الاستقرار والثبات؛ فهي تضمن سيادة القانون العلمي، ولا تجعله عرضة للتحول والتغير، كما أنها لا تهيب بأي مبدأ يخرج عن الطبيعة ذاتها، ويدفع العالم إلى البداية أو النهاية، فمبدأ الاقتصاد في الفكر هو الذي يجعل المذهب الآلي يفضل فكرة العود الأبدي على كل فكرة تصور العالم الطبيعي تصويرا غائيا.
وإذا كنا قد تحدثنا عن الأساس العلمي لفكرة العود الأبدي، فليس لنا أن نغفل الأوجه الفلسفية والأخلاقية التي كانت، بالنسبة إلى نيتشه، من الدعامات الأساسية للفكرة.
أما عن الوجه الفلسفي لفكرة العود الأبدي، فقد رأى نيتشه فيها خير وسيلة للتوفيق بين التفسيرين القديمين للعالم على أساس التحول من جهة، وعلى أساس الوجود الثابت من جهة أخرى.
والحق أن جهود الميتافيزيقا قد تركزت، منذ نشب الصراع الفكري القديم بين هرقليطس والإيليين، فناصر الأول فكرة التحول الدائم، وناصر الآخرون فكرة الوجود الثابت؛ نقول: إن جهود الميتافيزيقا قد تركزت منذ ذلك الحين في بحث مشكلة الوجود والصيرورة، فلم تكن الفلسفة اليونانية بأسرها - من جهة نظر معينة - إلا سردا لتاريخ محاولات الجمع أو التوفيق بين ثبات الوجود من جهة والصيرورة والتغير من جهة أخرى؛ فالثبات والتحول هما أوسع التعبيرات عن الثنائية الأساسية التي تتنازع ماهية الإنسان والكون، وما كان لكل فلسفة جديدة من هدف سوى أن تأتي برأي جديد في العلاقة بين هاتين الفكرتين.
والجديد الذي أتى به نيتشه في نظريته عن العود الأبدي، هو أنه أكسب التحول صفة الوجود، بحيث لم يعد يقول بتحول دائم يسري دون أن تكون له أية هوية مع ذاته، بل أصبح التغير يرجع إلى ذاته على الدوام. فهو تحول خالد تصطبغ كل مراحله بصبغة الأبدية؛ فلكل مرحلة من مراحل التغير الدائم ثبات أزلي، وإن كان مخالفا لذلك الثبات الذي قال به أنصار الوجود المطلق. وهكذا جمع نيتشه في فكرة العود الأبدي بين نزعتين متعارضتين: الحاجة إلى المتناهي والمتحدد عينيا، والحاجة إلى اللامتناهي، وإلى العلو؛ ذلك لأن الفكرة تتضمن محتوى متناهيا، وظواهر محددة في صورها وأشكالها، هي ظواهر هذا العالم العيني الذي نعيش فيه، ثم تكسبها صفة التكرار الأبدي إلى ما لا نهاية، فتجعل لها نوعا من الحدود والأبدية، وتعلو بها على مجال الفناء، مع أنها هي ذاتها صورة فانية؛ ومن هنا كان قول نيتشه: «إن عودة كل شيء هي أكبر تقريب ممكن لعالم الصيرورة من عالم الوجود.»
وأما عن النتائج الأخلاقية والنفسية لفكرة العود الأبدي، فإنها في واقع الأمر أهم ما كان يبرر هذه الفكرة في نظر نيتشه: (1)
فنيتشه يؤكد أن كل مدنية حاربت هذا العالم الأرضي أو ركزت آمالها على عالم آخر أعلى منه مآلها إلى الزوال. فلزام علينا اليوم أن نتعلق بالعالم الذي نحيا فيه، وأن نوجه أفكارنا نحو هذه الحياة. وإذا كانت النزعة إلى التقديس ضرورية بالنسبة إلى البشر، فإن فلسفة نيتشه تحاول أن ترضي هذه النزعة بدورها، حين تمجد هذا العالم الذي نعيش فيه، وتضفي عليه صفة الأبدية والخلود.
فالعود الأبدي هو إذن خير تعبير عن خلود هذه الحياة، وخلود كل لحظة من لحظاتها. فهو قمة الإيجاب
Bejahung
في نظرتنا للحياة، بينما كانت دعوات الخلود السابقة ترتبط دائما بالنزعة الزاهدة إلى إنكار الحياة. (2)
ولكن قد يعترض المرء قائلا إن هذا الخلود لا يطمئن الفرد كل الاطمئنان، ما دام المدى بين هذه الحياة والحياة التي تليها عظيم البعد، وما دامت حياة الفرد لن تعود إلى الظهور إلا بعد دورة كاملة من دورات الكون. ولكن نيتشه يؤكد أن الفترة الواقعة بين خمود الوعي وعودة ظهوره لا تقاس بزمن، بل هي كوميض البرق، ما دام الوعي الذي يحس بالزمن ويقيسه مختفيا خلالها. ومعنى ذلك أن الميلاد الجديد، بالنسبة إلينا، يتلو الممات مباشرة، دون أن تفصلهما أية ثغرة.
وإذن ففكرة العود الأبدي تخلص الإنسان من خشية الموت، الذي هو أخطر ما يتهدد الإنسان خلال حياته، بل إن من شأن العود الأبدي أن ينفي الموت أصلا؛ فكل موت نسبي، وعقب كل موت حياة، بل إن الموت لا يعود إلا مرحلة معينة من مراحل حياة أبدية تتكرر على الدوام. وليس للخلود هنا درجات أو مراتب، وإنما تدوم نفس الحياة للجميع. (3)
والفضيلة الجديدة التي تدعو إليها فكرة العود الأبدي هي «حب المصير
amor foti »؛ ففيها قبول للحياة، لا عن استسلام وإنما عن حب لكل أحوالها وتقلباتها، وإقبال على كل ما في الحياة من آلام ومتاعب؛ إذ إنها خالدة بدورها. وفي هذه الصفة خير معيار للتفرقة بين نفوس الأبطال ونفوس الخائرين؛ فسوف تبعث نظرية نيتشه هذه فيمن يحتقر الحياة وينصرف عنها يأسا قاتلا؛ لأن تلك الحياة - ومعها احتقاره لها - هي التي ستعود أبدا. أما من يتمسك بالحياة ويقبل عليها فسوف يزداد بها تعلقا؛ إذ إن الحياة بكل عناصرها المحببة إلى نفسه ستتكرر دواما. وبهذا يرد نيتشه على النقد القائل إن فكرة العود الأبدي تبعث اليأس في النفوس، والاستسلام العاجز؛ إذ إن هذا الشعور لن ينتاب إلا ضعاف النفوس فحسب. فمن يخشى الحياة ستبلغ خشيته لها أقصى مداها. أما من ينظر إليها نظرة إيجابية فسوف يبلغ حبه لها غايته. (4)
وللعود الأبدي قيمة نفسية كبرى؛ فبه تتم سيطرة النفس على الزمان، وتشعر بأكبر قدر من الحرية، على الرغم مما تتسم به الفكرة من تحكم تام للضرورة فيها، فأثقل قيد للنفس هو الزمان الذي انقضى؛ أي الماضي، الذي تحس إزاءه بأنها مغلولة عاجزة: «إن الإرادة لعاجزة عن أن تريد ما مضى. وفي عجزها عن تحطيم الزمان وجشع الزمان أساها الأوحد ...»
21
فإذا أدركت الإرادة سر العود الأبدي، أمكنها أن تحيل الماضي - سجانها الخالد - عبدا خاضعا لها؛ إذ يصبح مجرى الزمان دائرة مقفلة، ويتلو الماضي الحاضر كما تلا الحاضر الماضي. وبهذا الحل يعتقد نيتشه أنه قضى على فكرة الماضي المطلق نهائيا، وقضى بالتالي على سلطته المتحكمة في الإرادة، وهذا هو الخلاص بحق. (5)
والقاعدة الأخلاقية الأساسية التي يتبعها من يؤمن بالعود الأبدي هي «عش بحيث ترغب في الحياة الثانية»، وهي التي استبدلها نيتشه بقاعدة كنت المعروفة، القائلة: «افعل بحيث تصلح قاعدة سلوكك لتكون قانونا عاما يسري على الجميع.» ولكل من القاعدتين نفس الهدف، وهو إشعار الفرد بالمسئولية؛ غير أن كنت يبعث في نفس الفرد الشعور بالمسئولية بأن يجعله يتصور أن سلوكه قد غدا قاعدة عامة للبشر أجمعين، وعندئذ يحذر الخطأ في سلوكه. أما نيتشه، فيحقق هذا الهدف ذاته على نحو مخالف؛ إذ يدعو الفرد إلى أن يسلك على أفضل نحو ممكن، لأنه سيظل يسلك على هذا النحو مرات لا متناهية. والحق أن قاعدة كنت الأخلاقية إنما كانت تهدف إلى إبراز طبيعة كل فعل على أوضح نحو ممكن، وذلك حين يعمم هذا الفعل ويسري على الجميع، بينما لا تتضح طبيعة هذا الفعل إذا نظر إليه في حدود الفرد وحده؛ أي إن هدف كنت هو أن يتصور الفعل من خلال منظار مكبر، يجسم ما فيه من خير أو شر، وهذا هو عين ما يفعله نيتشه؛ غير أنه بدلا من أن يكرر الفعل «عرضيا» بين أشخاص مختلفين، يكرره «طوليا» خلال الزمان في الفرد الواحد مرات لا متناهية. فكلتا الطريقتين في تكرار الفعل ترمي إلى نفس الهدف، وهو أن تزيل عنصر العرضية في الفعل، وهو العنصر الذي يلازمه إذا اقتصر على اللحظة الحاضرة أو الفرد الواحد فحسب.
وعلى ذلك، فأقوى تبرير لفكرة العود الأبدي في نظر نيتشه هو نتائجها الأخلاقية الهامة، وتأكيدها للمسئولية الفردية؛ غير أن النتائج الأخلاقية وحدها لا تكفي لتبرير الفكرة إلا إذا كانت الفكرة ذاتها «صحيحة»، وخاصة لأن نيتشه أصر على أن يجعل لها دلالة كونية، وأكد أنها هي التي تعبر عن الطبيعة الحقيقية للعالم. ومن المحال أن يؤمن المرء بما تدعو إليه فكرة معينة، ويوجه سلوكه على النحو الذي تقضي به، إلا إذا كان مقتنعا من بداية الأمر بصوابها؛ أي إن مصير النظرية بأسرها، وبكل ما لها من نتائج أخلاقية، يتوقف على اختيارنا العقلي لها، وهذا هو ما سنعرض له في نقدنا النهائي.
نقد
ترتبط فكرة العود الأبدي ضرورة بالإيمان بالآلية، فلا محل لها إلا في مذهب يؤكد أن الضرورة المطلقة تتحكم في الحوادث، وأن وقوع الحادثة يستتبع وقوع سائر الحوادث منها على نحو آلي تماما. على أن نيتشه لم يكن من أنصار المذهب الآلي، وهو ينقد فكرة العلية ويراها وهما عقليا ننظم به الكون الذي يسوده الاتفاق المحض، على نحو ملائم لأذهاننا فحسب. والحق أن فكرة الاتفاق، واللهو البريء الذي لا هدف وراءه ولا خطة مرسومة توجهه، كانت هي الفكرة التي يفسر بها الكون دائما في فلسفة نيتشه. فكيف جاز له، وهذا رأيه، أن يقول بالعود الأبدي؟ إن القول بأن القوى الكونية متناهية، وبأن الزمان لا نهائي، قد يكون صحيحا، ولكننا حتى لو افترضناه جدلا، فلن نستنتج منه سوى أن من الممكن أن تطرأ على الكون حالة طرأت عليه من قبل. أما أن يسير الكون كله على نفس النحو الذي سار فيه من قبل تماما، فهذا يقتضي تحكم الآلية في مساره، وسيادة العلية الدقيقة في كل تطوراته. وهكذا يكون على المرء أن يختار بين فكرة الاتفاق التي سادت تفكير نيتشه، وبين فكرة العود الأبدي، ويستحيل عليه أن يهتدي إلى وسيلة للتوفيق بينهما.
ولنمض في النقد خطوة أخرى، فنفترض أن العود الأبدي قد تحقق بالفعل؛ أي إن العالم الذي نعيش فيه قد تكرر من قبل، وسيتكرر فيما بعد، بكل تفاصيله، عددا لا متناهيا من المرات؛ فهل يكون له مع ذلك تأثير نفسي أو أخلاقي على الفرد؟ إن العود الأبدي لن يكون له هذا التأثير إلا إذا كان يكون «مركبا» مع الحالة الحاضرة. فليس للتجربة المتكررة قيمة في حياة الفرد إلا إذا تذكرها فيما بعد، واستفاد منها في وقت مشابه. ومعنى ذلك أن العود الأبدي لا يكون له على السلوك الإنساني أي تأثير إلا إذا كان نفس «الأنا» هو الذي يحيا في كلتا الحالتين؛ غير أنه من المحال أن يكون في أية دورة من دورات العود الأبدي ما يذكرني بما حدث لي من دورة سابقة، وما يمكنني أن أستغله في سلوكي الحالي؛ إذ لو كان في تلك الحالة الثانية أي عنصر يذكرني بأن مشكلتي الحالية قد صادفتني من قبل في دورة سابقة، لما كان التماثل بين الدورتين تاما، بل لتميزت الثانية عن الأولى بوجود عنصر التذكر هذا. ومعنى ذلك أن الإصرار على وجود هوية تامة بين دورات العود الأبدي يفقد الفكرة كل تأثير عملي لها على سلوك الفرد. ولنعلم أن «الأنا» الذي يمارس تجربته خلال إحدى هذه الدورات لا يظل موجودا في الدورة التالية، بحيث يستفيد في الثانية من تجارب الأولى، وإنما يبدأ التجربة نفسها من جديد، مثلما حدث في المرة السابقة تماما، ودون أن يتذكر منها شيئا؛ فالفكرة إذن لا تزيد عن أن تكون خيالا شعريا لا تأثير له على السلوك، ما دام ينهار أمام التحليل المنطقي الدقيق. وفي هذه الحالة ينعدم تأثيرها النفسي والأخلاقي على الفرد الذي يخضعها لمثل هذا التحليل، ولا يعود لها من أثر إلا على النفوس التي تطغى قوتها التخيلية على منطقها العقلي؛ ولا جدال في أن نيتشه كان من هذا النوع الأخير. وهكذا تخفق العقيدة الجديدة التي حاول نيتشه أن يدعو البشر إليها في توجيه السلوك الإنساني على النحو الذي أراد، وتنهار كل نتائجها الأخلاقية بانهيار أساسها العقلي.
فإذا تذكرنا مدى تأثير فكرة العود الأبدي في نيتشه، والآمال التي علقها عليها في خلق بشرية جديدة تؤمن بالأرض وتكافح فيها كفاح الأبطال. وإذا أدركنا أن هذا كله يبنى على أسس لا يدعهما العقل، فسوف نجد هنا مثلا آخر يوضح لنا ذلك النمط النفسي الخاص الذي ينتمي إليه نيتشه، بما فيه من افتقار إلى المعقولية، ومن ذاتية متطرفة تسارع بتعميم الأفكار واستخلاص النتائج منها قبل أن تنضج تلك الأفكار أو يثبت الذهن إمكان تحقيقها أصلا.
نصوص مختارة من مؤلفات نيتشه
مدخل إلى مؤلفات نيتشه
أسلوب الكتابة في مؤلفاته
دون الجزء الأكبر من مؤلفات نيتشه على هيئة فقرات منفصلة
aphorismes
تنطوي كل منها على فكرة كاملة. ومع ذلك؛ ففي الكتب الأخيرة لنيتشه نلمس اتجاها تدريجيا إلى التنظيم والتبويب. ومنذ كتاب «بمعزل عن الخير والشر» تزداد الفقرات طولا، ويصبح الارتباط والتدرج بينها أوضح، ويكاد الكتاب كله يكون وحدة متماسكة. وهذا يؤدي بنا إلى استخلاص هذه النتيجة الضرورية، وهي أن حياة نيتشه العقلية لو كانت قد امتدت قليلا، لأخرج لنا كتبا مترابطة منظمة، لا تختلف عن كتب الفلاسفة الآخرين في شيء. ومما يؤيد ذلك أن كتاب «إرادة القوة» الذي لم يكمله نيتشه، وتركه ضمن مؤلفاته المخلفة، كان قد وضعت له خطة منظمة تهدف إلى أن تجعل منه كتابا فلسفيا متماسكا، يعالج الموضوعات الرئيسية التي اهتم بها نيتشه طوال حياته.
ولكن لم آثر نيتشه أن يؤلف على طريقة الفقرات المنفصلة هذه؟ إنه يذكر أنها خير طريقة تلائم مفكرا تلقائيا مثله؛ ذلك لأن أصحاب المذاهب الجامعة ينسقون أفكارهم وينمقونها قبل أن يدونوها، حتى تتلاءم كلها وتدخل في إطار مذهبهم. أما هو فلم يكن يضع حدودا معينة لتفكيره، بل يترك الفكرة تظهر تلقائيا دون أن يعوقها عائق، ويدونها كما خطرت لذهنه. وعلى ذلك، فطريقة الكتابة في فقرات هي في رأي نيتشه تعبير عن أمانته الفكرية وإخلاصه العقلي، الذي يأبى عليه إلا أن يترك ذهنه منطلقا، ولو جر عليه ذلك بعض التناقض فيما بين أفكاره المنفصلة.
على أن من نقاد نيتشه من يأتي بتعليل آخر؛ فلم يكن في وسع نيتشه أن يكتب على نحو مخالف؛ إذ إن أعصابه المتوترة وحسه المرهف يجعلانه عاجزا عن الكتابة في أسلوب مطول متماسك، فمثل هذا الأسلوب يقتضي من الصبر والأناة ما لا طاقة لأعصاب نيتشه عليه. فهذا التعليل إذن يهيب بفكرة المرض عنده، ويرد إليها أسلوبه التلقائي في الكتابة.
ونحن نرى أن المزاج الشعري والأدبي عند نيتشه هو - قبل غيره - علة التجائه إلى هذا الأسلوب؛ فأصحاب الأذهان المنطقية الصارمة لا يكتبون إلا أسلوبا متماسكا متسلسلا. وأوضح مثل لذلك «كنت»؛ إذ كان التماسك أوضح ما يميز طريقته في التفكير، بل كان يرد كل تصنيفاته - في سائر مجالات التفكير - إلى مقولات الذهن الرئيسية، ويفتعل ذلك التصنيف ويتكلفه في كثير من الأحيان. أما أصحاب العقليات الأدبية، فكتاباتهم أشبه بالقصائد التي تعبر كل منها عن إحساس معين لدى الشاعر، دون أن يربط بين كل قصيدة وأخرى رباط منطقي متسلسل. والمسألة لا تتعلق في كل الأحوال بالأمانة العقلية، كما يقول نيتشه؛ فقد يكون في وسعنا أن ننظر إلى الأمر من الزاوية المقابلة، فنقول إن الأمانة العقلية ذاتها تقتضي من المرء أن يتروى قبل أن يدون أفكاره، وألا يتركها تنطلق تلقائيا، بل يحمله إحساسه بالمسئولية على أن يقلب الفكرة من كل الأوجه، ليرى إن كانت متسقة مع سائر أفكاره أم لا، وليعدلها هي أو يعدل أفكاره الأخرى قبل أن يدونها. وليس معنى قولنا هذا أننا نصف أسلوب نيتشه بالافتقار إلى الأمانة العقلية، ولكن كل ما نرمي إليه هو أن نثبت هذه الحقيقة؛ وهي أن من الممكن أن ينظر إلى هذه المسألة من زاوية أخرى تنتهي إلى نتيجة مخالفة لوجهة نظر نيتشه، والأصح ألا نقحم موضوع الأمانة العقلية في هذا الخلاف أصلا، بل نراه خلافا بين الطريقة الأدبية والطريقة المنطقية في التفكير والتعبير؛ فقد يعيب الذهن الأدبي على الذهن المنطقي أنه يتكلف الأفكار ويبعث فيه ترابطا مصطنعا من أجل هدف بيته مقدما، ويرى في ذلك افتقارا إلى الأمانة العقلية، وقد يعيب الذهن المنطقي على الذهن الأدبي أنه يفتقر إلى الشعور بالمسئولية حين يترك أفكاره تنطلق دون أن يجشم نفسه عناء الربط بينها في وحدة متماسكة، ويرى - بدوره - في ذلك افتقارا إلى الأمانة العقلية؛ غير أن كليهما يخطئ حين يفرض معياره الخاص على الآخر، وعلينا أن ندرك أن الاختلاف يرجع إلى أنماط مختلفة في التفكير والتعبير فحسب.
قائمة المؤلفات
الطبعة التي رجعنا إليها في هذا البحث هي طبعة
Alfred-Kröner
في ليبتسج عام 1912، وتسمى بطبعة الجيب
Taschen-Ausgabe .
وفيها تقع مؤلفات نيتشه في أحد عشر مجلدا، كل منها يشتمل على مؤلفاته المنشورة ومؤلفاته المخلفة في فترة معينة.
وقائمة المؤلفات في هذه الطبعة كما يلي: (1) ميلاد المأساة من روح الموسيقى
Die Geburd der Tragödie aus dem Geiste der Musik (في المجلد الأول) (2) خواطر في غير أوانها
Unzeitgemässe Betrachtungen (في المجلد الثاني) (3) أمور إنسانية، إنسانية إلى أقصى حد (الجزء الأول)
Menschliches, Allzumenschiches I (في المجلد الثالث) (4) أمور إنسانية، إنسانية إلى أقصى حد (الجزء الثاني) (في المجلد الرابع) (5) الفجر
Morgenröte (في المجلد الخامس) (6) العلم المرح
Die fröhliche Wissenschchaft (في المجلد السادس) (7) هكذا تكلم زرادشت
Also sprach Zarathustra (في المجلد السابع) (8) بمعزل عن الخير والشر
Jenseits von Gut und Böse (في المجلد الثامن) (9) أصل نشأة الأخلاق
Zur Genealogie der Moral (في المجلد الثامن) (10) إرادة القوة
Der Wille zur Macht (في جزأين، بالمجلد التاسع والعاشر) (11) أفول الأصنام
Götzendämmerung (في المجلد العاشر) (12) عدو المسيح
Der Antichrist (في المجلد العاشر) (13) قضية فاجنر
Der Fall Wagner (في المجلد الحادي عشر) (14) نيتشه ضد فاجنر
Nietzsche contra Wagner (في المجلد الحادي عشر) (15) هو ذا الرجل
Ecco homo (في المجلد الحادي عشر)
ولما كانت إشارات الصفحات تختلف من طبعة إلى أخرى، فقد آثرنا أن نشير إلى النصوص المختارة التي انتقيناها من مؤلفات نيتشه تبعا لأرقام الفقرات - وهي واحدة في كل الطبعات والترجمات - لا تبعا لأرقام الصفحات.
الفصل الأول
أصل المعرفة
العلم المرح، الفقرة 110
لم يتولد عن العقل خلال الأزمان الهائلة الماضية سوى الأخطاء، ومن هذه الأخطاء ما ثبت نفعه وقدرته على حفظ النوع؛ إذ استطاع من اهتدى إليه أو تلقاه بالميراث، أن يحرز في نضاله من أجل ذاته ومن أجل ذريته مزيدا من النجاح؛ ومن قبيل هذه المعتقدات الباطلة، التي ظلت تتوارث حتى كادت في نهاية الأمر أن تعد كامنة في ماهية النوع الإنساني، الاعتقاد بأن ثمت أشياء ثابتة، وبأن ثمت أشياء متماثلة، وبأن ثمت أشياء، وجواهر، وأجساما، وبأن الشيء يكون على النحو الذي يتبدى عليه، وبأن لنا إرادة حرة، وبأن ما هو خير بالنسبة إلي هو خير في ذاته ولذاته.
ولم يظهر من ينكر مثل هذه المعتقدات أو يشك فيها إلا في وقت متأخر جدا؛ أعني أن الحقيقة لم تظهر إلا متأخرة جدا، بوصفها أضعف صور المعرفة وأقلها أثرا. وعندئذ، وضح للمرء أنه لا يستطيع أن يحياها؛ إذ إن الكائن العضوي فينا قد تلاءم مع ضدها، وكل الوظائف العليا لهذا الكائن العضوي، كالإدراك الحسي وسائر أنواع الإدراك بوجه عام، إنما مورست من خلال هذه الأخطاء الأساسية القديمة التي سرت فيها. بل إن هذه المبادئ قد غدت هي ذاتها المعايير التي يقاس بها ما هو «حقيقي» وما هو «غير حقيقي» في المعرفة؛ حتى تغلغلت في أعمق مجالات المنطق الخالص.
وعلى ذلك «فقوة» المعرفة لا تكون في مدى حقيقتها، بل في قدمها، ومدى تغلغلها فينا، وطبيعتها بوصفها شرطا من شروط الحياة. وحيثما بدت الحياة والمعرفة في تعارض، لم ينشب أي صراع جدي، فهنا يعد الإنكار والشك ضربا من الجنون. أما أولئك المفكرون الذين شذوا عن هذه القاعدة، كالإيليين، الذين أكدوا برغم ذلك ما في الأخطاء الطبيعية من أضداد، وثبتوها، فقد اعتقدوا أن من الممكن أيضا أن «نحيا» هذا التضاد؛ ومن هنا ابتدعوا شخصية الحكيم، بوصفه ذلك الذي يتصف بالثبات، واللاشخصية، وشمول الأفق، ويكون واحدا وكلا في الآن نفسه، وتتوافر لديه قدرة خاصة على هذه المعرفة المعكوسة. وهكذا كانوا يعتقدون أن معرفتهم هي في الوقت نفسه «مبدأ الحياة». على أنه كان يتعين عليهم، لكي يتسنى لهم أن يؤكدوا كل ذلك، أن «يخدعوا» أنفسهم في موقفهم الخاص؛ أعني أنه كان يتعين عليهم أن ينسبوا إلى أنفسهم اللاشخصية والثبات الذي لا يعرف تحولا، وأن يسيئوا فهم ماهية العارف، وينكروا أهمية الغرائز في المعرفة، وبالإجمال، أن يتصوروا العقل على أنه فاعلية كاملة الحرية، نابعة عن ذاتها فحسب. ونسوا أنهم ما وصلوا إلى مبادئهم هذه إلا بمناقضة ما هو شائع، أو بدافع الرغبة في السكينة، الاستحواذ أو السيطرة. على أن التطور الأعماق الذي سارت فيه نزعات الشك الأمينة قد جعل وجود مثل هؤلاء الناس محالا في نهاية الأمر، فقد تبين أن حياتهم وأحكامهم تعتمد بدورها على الغرائز المتأصلة والأخطاء الأساسية القديمة التي تكمن في كل كائن مدرك. ولقد كانت مثل هذه النزعة الأعمق، التي تتصف بالأمانة والشك، تظهر حيثما يبدو مبدآن متعارضان قابلين للانطباق على الحياة، ما دام كل منهما يتفق والأخطاء الأساسية؛ أعني أنها كانت تظهر حيثما أمكن أن يثار الجدال حول وجود قدر أعظم أو أقل من النفع للحياة، وكذلك حيثما تبين أن ثمت قضايا جديدة، هي حقا غير نافعة للحياة، ولكنها على الأقل ليست ضارة بها؛ أعني أنها كانت من إنتاج ميل غريزي إلى اللهو العقلي، وفيها من البراءة والطرافة ما في سائر مظاهر اللهو. وبالتدريج امتلأ الذهن الإنساني بمثل هذه الأحكام والمعتقدات، وثار في هذا الخليط فوران، وصراع، ونزوع إلى القوة، ولم يكن النفع واللذة هما وحدهما اللذان تدخلا في هذا الصراع من أجل «الحقائق»، بل تدخلت فيه كل أنواع الغرائز، وأصبح الصراع العقلي انشغالا، وحماسة، ورسالة، وواجبا، وكرامة، وانتهى الأمر بالمعرفة وبالسعي وراء الحقيقة إلى أن يصبح حاجة ضمن سائر الحاجات. ومنذ ذلك الحين لم يعد الإيمان والاقتناع وحدهما «قوة». بل غدا البحث، والإنكار، والريبة، والتناقض، «قوة» بدورها، وانتظمت في خدمة المعرفة كل الغرائز «الشريرة»، واستغلتها هذه لصالحها، واكتسبت تلك الغرائز مكانة النزعات المشروعة، المبجلة، المفيدة، وأصبح لها أخيرا مظهر «الخير»، وبراءته.
وهكذا أصبحت المعرفة قطعة من الحياة ذاتها، ولما كانت هي ذاتها حياة، فقد غدت قوة دائمة النمو حتى انتهى الأمر إلى تصادم المعارف وتلك الأخطاء الأساسية القديمة، ما دامت كل منهما حياة، وكل منهما قوة، وكل منهما تتمثل في الإنسان عينه؛ فالمفكر هو الآن ذلك الكائن الذي يتصارع فيه لأول مرة ذلك الميل إلى الحقيقة مع تلك الأخطاء التي تحفظ الحياة، بعد أن «اتضح» أن الميل إلى الحقيقة هو ذاته ميل حافظ للحياة. والحق أن كل أمر آخر ليغدو، بالقياس إلى أهمية هذا الصراع، غير ذي بال، فهنا يثار السؤال الأخير عن شرط الحياة، وهنا تبذل المحاولة الأولى للإجابة عن هذا السؤال عن طريق التجربة. فإلى أي حد تحتمل الحقيقة أن تتمثل؟ ذلك هو السؤال، وتلك هي التجربة.
URSPRUNG DER ERKENNTNISS
Die fröhliche Wissenschaft. † 110
Der Intellekt hat ungehueure Zeitstrecken hindurch Nichts als Irrthümer erzeugt; einige davon ergaben sich als nützlich und arterhaltend: wer auf sie stiess oder sie verebt bekam, kampfte seinen Kampf für sich und seinen Nachwuchs mit grosserem Glücke. Solche irrthümliche Glaubenssätze, die immer weiter ererbt und endlich fast zum menschlichen Art und Grundlbestand wurden, sind zum beispeil diese: dass es dauernde Dinge gebe, dass es gleiche Dinge gebe, dass es Dinge, Stoffe, Körper gebe, dass ein Ding sei, als was es erscheine, dass unser Wollen frei sei, dass was für mich gut ist, auch an und für.
sich gut sei. Sehr spät erst traten die Leugner und Anzweifler solcher Sätze auf-Sehr spat erst trat die Wahrheit auf, als die Unkraftrigste Form der Erkenntriss. Es schien, dass man mit ihr nicht zu leben vermöge, unser Organismus war auf ihren Gegensatz eingerichter; alle seine höheren Funktionen, die Wahrnehmungen der Sinne und jede Art von Empfindung überhaupt, arbeiteten mit jenen uralt einverleibten Grundirrethümern. Mehrnoch: jene Sätze wurden selbst innderhalb der Erkenntniss zu den Normen, nach denen man “wahr” und “unwahr” bemass- bis hinein in die entlegensten Gegenden der reinen Logik.
Also: die
Kraft
der Erkenntnisse liegt nicht in ihrem Grade von Wahrheit, sondern in ihrem Alter, ihrer Einverleibtheit, ihrem Charakter als Lebensbedingung. Wo Leben und Erkennen in Widerspruch zu kommen schienen, ist nie ernstlich gekämpft worden; da galt Leugnung und Zweifel als Tollheit. Jene Ausnahme Denker, wie die Eleaten, welche trotzdem die Gegensätze der natürlichen Irrthümer aufstellten und festhielten, glaubten daran, dass es möglich sei, dieses Gegentheil auch zu
leben : sie erfanden den Weisen als den Menschen der Unveränderlichkeit, Unpersönlichkeit, Universlaität der Anschauung, als Eins und Alles zugleich, mit einem eigenen Vermögen für jene umgekehrte Erkenntniss; sie waren des Glaubens, dass ihre Erkenntniss zugleich das Princip des
Lebens
sei. Um dies alles aber behaupten zu können, mussten sie sich über ihren eigenen Zustand
täuschen : sie mussten sich Unpersönlichkeit und Dauer ohne Wechsel andichten, das Wesen des Erkennenden verkennen, die Gewalt der Triebe im Erkennen leugnen und überhaupt die Vernunft als völlig freie, sich selbst entsprungene Aktivität fassen; sie hielten sich die Augen dafür zu, dass auch sie im Widersprechen gegen das Gültige, oder im Verlangen nach Ruhe oder Alleinbesitz oder Herrschaft zu ihren Sätzen gekommen waren. Die feinere Entwicklung der Redlichkeit und der Skepsis machte endlich auch diese Menschen unmöglich; auch ihre Leben und Urtheilen ergab sich als abhängig von den uralten Trieben und Grundirrthümern alles Emfinden Daseins-Jene feinere Redlichkeit und Skepsis hatte überall dort ihre Enstehung, wo zwei entgegengesetzte Sätze auf das Leben
anwendbar
erschienen, weil sich beide mit den Grundirrthümern vertrugen, wo also über den höheren oder geringeren Grad des Nutzens für das Leben gestritten warden könnte; ebenfalls dort, wo neue Sätze sich dem Leben zwar nicht nützlich, aber wenigstens auch nicht schädlich zeigten, als Ausserungen eines intellektuellen Spieltriebes, und unschuldig und glücklich gleich allem Spiele, Allmählich füllte sich das menschliche Gehiren mit solchen Urtheilen und Uberzeugungen, es enstand in diesem Knäuel, Gährung, Kamfp und Machtgelüst. Nützlichkeit und Lust nicht nur, sondern jede Art von Trieben nahm Partei in dem kampfe um die “Wahrheiten”; der intellektuelle kampf wurde Beschäfrigung, Reiz, Beruf, Pflicht, Würde- das Erkennen und das Streben nach dem Wahren ordnete sich endlich als Bedürfniss in die anderen Bedürfnisse ein. Von da an war nicht aur der Glaube und die Uberzeugung, sonderen auch die Prüfung, die Leugnung, das Misstrauen, der Widerspruch eine
Macht , alle “bösen” instinkte waren der Erkenntniss untergeordnet und in ihren Dienst gestellt und bekamen den Glanz des Erlaubten, Geehrten, Nützlichen und zuletzt das Auge und die Unschuld den
Guten . Die Erkenntniss wurde also zu einem Stück Leben selber und als Leben zu einer immerfort wachsenden Macht; bis endlich die Erkenntnisse und jene uralten Grundirrthümer anf einander stiessen, beide als Leben, beide als Macht, beide in demselben Menschen. Der Denker: das ist jetzt das Wesen, in dem der Trieb zur Wahrheit und jene lebenerhaltenden Irrthümer ihren ersten Kampf kämpfen, nachdem auch der Trieb zur Wahrheit sich als eine lebenerhaltende Macht
bewiesen
hat. Im Verhaltniss zu der Wichtigkeit dieses Kampfes ist alles Andere gleichgültig: die letzte Frage um die Bedingung des Lebens ist hier gestellt, und der erste Versuch wird hier gemacht, mit dem Experiment auf diese Frage zu antworten. Inwieweit verträgt die Wahrheit die Einverleibung?-das iste die Frage, das ist das Experiment.
الفصل الثاني
إلى دعاة إنكار الذات
العلم المرح، الفقرة 21
لا تعد فضائل الشخص خيرا بالنسبة إلى ما تعود به من نتائج على صاحبها ذاته، بل بالنسبة إلى ما ينتظر من نتائجها علينا وعلى المجتمع. والحق أن الإنسان في امتداحه الفضائل، كان دائما أبعد ما يكون عن «إنكار الذات» وعن «الغيرية». ولو لم يكن الأمر كذلك، لأدرك أن الفضائل (كالنشاط والطاعة ، والعفة ، والتقوى، والعدالة) هي في أغلب الأحيان «ضارة» بأصحابها؛ إذ هي ميول تسيطر عليهم بشيء غير قليل من العنف والشدة.
ولا يستطيع العقل أن يحقق التوازن بينها وبين سائر الميول. فحين تكون لديك فضيلة ما، فضيلة حقة، كاملة (لا مجرد نزوع سطحي إلى الفضيلة!) تكون أنت ضحيتها! ومع ذلك يمتدح الجار فضيلتك لهذا السبب عينه! إن المرء ليمتدح النشيط، برغم أنه يضر في نشاطه هذا بقوة إبصار عينيه، أو بأصالة روحه وصفائها، وإن المرء ليمجد الشاب الذي «استهلك نفسه في العمل»، ويتحسر عليه؛ إذ يحكم على الأمر قائلا: إن خسارة خير الأفراد من أجل المجتمع بأكمله إنما هي تضحية طفيفة! والمؤلم في الأمر أنها تضحية ضرورية! ولكن الأكثر من ذلك إيلاما أن يفكر الفرد على نحو مخالف، وينظر إلى بقاء ذاته، وإنمائها على أنها أمر يفوق في الأهمية عمله من أجل خدمة المجتمع!» وهكذا يتحسر الناس على هذا الشاب لا حزنا عليه هو ذاته، وإنما لأن المجتمع قد فقد بهذا الموت أداة طيعة تفرط في ذاتها؛ أعني أنه فقد ما يسمى «بالرجل المجد». وربما فكر البعض في أنه قد يكون أنفع للمجتمع لو عمل ذلك الشاب على أن يكون أقل تفريطا في ذاته، وأكثر حرصا على بقائه، ولكنهم مع موافقتهم على أن هذا قد يكون فيه نفع للمجتمع، يؤكدون أن هناك نفعا آخر هو خير وأبقى؛ وأعني به حدوث «تضحية»، والشعور بأن فكرة «الفداء» قد تكررت ودعمت مرة أخرى بصورة بادية للعيان.
وعلى ذلك فعندما تمتدح الفضائل يكون ما يمتدح فيها في واقع الأمر صفتها من حيث هي أداة، وذلك الاندفاع الأعمى الذي يسود كل فضيلة، والذي لا يجعلها تقتصر على حدود نفع الفرد وحده؛ أي بالاختصار، تلك الصفة الهوجاء في الفضيلة، التي يتحول بها الفرد إلى أداة في يد الكل فحسب. فامتداح الفضائل هو امتداح لشيء ضار بالفرد، هو امتداح لميول تسلب الإنسان أنبل حب لذاته، وقدرته على أن يرعى نفسه على أكمل نحو.
ولا جدال في أن المرء يلجأ من أجل تلقين العادات الفاضلة ونشرها إلى إيراد سلسلة من النتائج التي تنجم عن الفضيلة، على نحو تبدو معه الفضيلة ونفع الفرد متفقين. والحق أن هذا الاتفاق بينهما موجود بالفعل! فالنشاط المندفع الطبع مثلا، وهو الفضيلة التي تتميز بها الأداة، ينظر إليه على أنه هو سبيل الثراء والمجد، وهو خير ترياق من الملل والآلام؛ غير أن المرء يتجاهل عن عمد ما فيه من خطر، بل من خطورة عظمى؛ فالتربية تمضي دائما على هذا النحو؛ هي تسعى عن طريق سلسلة من الترغيبات والمنافع، إلى أن تبث في الفرد طريقة في التفكير والسلوك، من شأنها إذا أصبحت عادة وغريزة وانفعالا متأصلا أن تسيطر عليه وتتحكم فيه «على نحو مضاد لنفعه النهائي»، وعلى نحو نافع للمجموع. ولكم رأيت النشاط المندفع الطيع يجلب ثراء ومجدا بحق، ولكنه في نفس الوقت يسلب أعضاء الجسم ذلك الحس المرهف الذي يمكنها به أن تستمتع بهذا الثراء وهذا المجد، كما رأيت ذلك العلاج الشافي من الملل ومن الآلام يحيل الحواس صماء والروح محصنة ضد التأثر بأي عامل جديد. (فأنشط العصور - أعني عصرنا الحالي - لا يفعل شيئا بنشاطه وماله الموفور، سوى أن يكتسب على الدوام مزيدا من المال، ويبذل مزيدا من النشاط؛ ذلك لأن الإنفاق يحتاج إلى ذكاء يزيد عما يحتاج إليه الاكتساب! ولكننا على أية حال سيكون لنا «أحفاد» من بعدنا!) فإذا ما بلغت التربية هدفها، فإن كل فضيلة للفرد تغدو نفعا للجماعة، وضررا للفرد، إذا نظر إليها من حيث الهدف الفردي الأسمى، وربما كان في ذلك فساد للروح والحس، أو هلاك سابق لأوانه، وعلينا أن نتأمل، من وجهة النظر هذه، فضائل الطاعة والعفة والتقوى والعدالة. فامتداح من ينكر ذاته، ويضحي بها، ويتصف بالفضيلة؛ أعني امتداح ذلك الذي لا يبذل كل طاقته وذهنه من أجل الإبقاء على «ذاته»، وإنمائها، والعلاء بها، وإنهاضها، وبسط سلطانها، وإنما يحيا، إزاء ذاته، حياة كلها ضعة وغفلة، وربما كان فيها عدم اكتراث أو سخرية؛ هذا الامتداح لا يظهر أبدا بدافع إنكار الذات ! إذ إن «الجار» لا يمتدح إنكار الذات إلا لأنه سيجني منها غنما! ولو كان الجار يفكر على نحو فيه إنكار للذات، لرفض هذا التشتيت للطاقة، وذلك الضرر الذي يحل من أجله «هو»، ولعمل على الحيلولة دون ظهور مثل هذه الميول، ولأظهر - قبل كل هذا - إنكاره لذاته، بالامتناع عن تسمية هذا «خيرا»، وهنا نصل إلى التناقض الأساسي الذي تتصف به تلك الأخلاق التي تلقى اليوم أعظم تمجيد؛ «فدوافع» تلك الأخلاق مضادة «لمبادئها».
وتلك الأخلاق تفند ما تريد أن تبرر به نفسها؛ تفنده بمعيارها الخاص لما هو أخلاقي! والقضية القائلة «عليك أن تنكر ذاتك وتضحي بها» ينبغي عليها، إذا شاءت ألا تتعارض مع أخلاقيتها، ألا تصدر إلا عن كائن ينصرف في دعوته هذه عن نفعه الخاص، وربما وجد في تلك التضحية التي يدعو الفرد إلى القيام بها هلاكا له هو ذاته. ولكن ما إن يدعو الجار (أو المجتمع) إلى الغيرية «بدافع المنفعة»، حتى يكون قد اتبع المبدأ المضاد، القائل «عليك أن تسعى إلى المنفعة، حتى على حساب الآخرين.» وبهذا يدعو إلى الأمر «عليك أن ...» والنهي «عليك ألا ...» في آن واحد!
AN DIE LEHRER DER SELBSTLOSIGKEIT
Die fröhliche Wissenschaft. † 21
Man nennt die Tugenden eines Menschen
gut , nicht in Hinsicht auf die Wirkungen, welche sie für ihn selber haben, sondern in Hinsicht auf die Wirkungen, welche wir von ihnen für uns und die Gesellschaft voranssetzen:
Man ist von jeher im Lobe der Tugenden sehr wenig “selbstlos”, sehr wenig “unegoistisch” gewesen! Sonst nämlich hätte man sehen müssen, dass die Tugenden (wie Fleiss, Gehorsam, Keuschheit, Pietät, Gerechtigkeit) ihren Inhabern meistens
schädlich
sind, als Triebe, welche allzu heftig und begehrlich in ihenn walten und von der Vernunft sich durchaus nicht im Gleichgewicht zu den anderen Trieben halten lassen wollen. Wenn du eine Tugend hast, eine wirkliche, ganze Tugend (und nicht nur ein Triebchen von einer Tugend!)-so bist du ihr Opfer!
Aber der Nachbar lobt eben deshalb deine Tugend! Man lobt den Fleissigen, ob er gleich die Sehkraft seiner Augen oder die Ursprünglichkeit und Firsche seines Geistes mit diesem Fleisse schädigt: man ehrt und bedauert den Jüngling, welcher sich “zu Schanden gearbeitet hat”. Weil man urtheilt: Für das ganze Grosse der Gesellschaft ist auch der Verlust des besten Einzelnen nur ein kleines Opfer!
Schlimm, dass dies Opfer noth thut! Viel schlimmer freilich, wenn der Einzelne anders denken und seine Erhaltung und Entwicklung wichtiger nehmen sollte, als seine Arbeit im Dienste der Gesellschaft! Und so beauert man diesen Jüngling, nicht um seiner selber willen, sondern weil ein ergebenes und gegen sich rücksichtsloses
Werkzeug -ein sogenannter “braver Mensch”-durch diesen Tod der Gesellschaft verloren gegangen ist. Vielleicht erwägt man noch, ob es im Interesse der Gesllshaft nützlicher gewesen sein würde, wenn er minder rücksichtslos gegen sich gearbeiter und sich länger erhalten hätte-ja man gesteht sich wohl einen Vortheil davon zu, schlägt aber jenen andern Vortheil, dass ein
Opfer
gebracht ist und die Gesinnung des Opferthiers sich wieder enimal
augenscheinlich
bestättigt hat, für höher und nachhaltiger an. Es ist also enimal die Werkzeug-Natur in den Tugenden, die eigentlich gelobt wird, wenn die Tugenden gelobt warden, und sodann der blinde in jeder Tugend waltende Trieb, welcher durch den Gesammt-Vortheil des Individuums sich nicht in Schranken halten lässt, Kurtz: die Unvenunft in der Tugend, vemöge deren das Einzelwesen sich zur Funktion des Ganzen umwandeln lässt. Das Lob der Tugenden ist das Lob von etwas
und die Kraft zur höchsten Obhut über sich selber nehmen-Freilich: zur Erziehung und zur Einverleibung tugendhafter Gewöhnheiten kehrt man eine Reihe von Wirkungen der Tugend heraus, welche Tugend und Privat-Vortheil als verschwister erscheinen lassen-und es giebt in der That eine solche Geschwisterschaft! Der blind wüthende Fleiss zum Beispiel, diese typische Tugend eines Werkzeugs, wird dargestellt als der Weg zu Reichthum und Ehre und als das heilsamste Gift gegen die Langweile und die Leidenschaften: aber man verschweigt seine Gefahr, seien höchste Gefahrlichkeit. Die Erziehung verfähurt durchweg so: sie sucht den Einzelnen durch eine Reihe von Reizen und Vortheilen zu einer Denk-und Handlungsweise zu bestimmen, welche, wenn sie Gewohnheit, Trieb und Leidenschaft geworden ist,
wider seinen leizten Vortheil , aber “zum allgemeinen Besten” in ihm und über ihun herrscht. Wie oft sehe ich es, dass der blind wüthende Fleiss zwar Reichthümer und Ehre schafft, aber zugleich den Organen die Feinheit nimmt, vermöge deren es einen Genuss an Reichthum und Ehren geben konnte, ebenso, dass jenes Hauptmittel gegen die Langweile und die Leidenschaften zugleich die Sinne stumpf und den Geist widerspänstig gegen neue Reize macht. (Das fleissigste aller Zeitalter-unser Zeitalter-weiss aus seinem vielen Fleisse und Gelde Nichts zu machen, als immer wieder mehr Geld und immer wieder mehr Fleiss: es gehört eben mehr Genie dazu, Auszugeben, als zu erwerben!-Nun, wir warden unsre “Enkel” haben!) Gelingt die Erziehung, so ist jede Tugend des Einzelnen eind öffentliche Nützlichkeit und ein privater Nachteil im Sinne des höchsten privaten Zieles-wahrscheinlich irgend eine geistig-sinnliche Verkümmerung oder gar der frühzeitige Untergrang: man erwäge der Reihe nach von diesem Gesichtspunkte aus die Tugend des Gehorsams, der Keuschheit, der Pietät, der Gerechtigkeit. Das Lob des Selbstolosen, Aufopfenden Tugendhaften- also Desjenigen, der nicht seine ganze Kraft und Vernunft auf
seine
Erhaltung, Entwickllung, Erhebung, Förderung, Macht-Erweiterung verwendet, sondern in Bezug auf sich bescheiden und gdeankenlos, vielleicht sogar gleichgültid oder ironsiche lebt-dieses Lob ist jedenfalls nicht aus dem Geiste der Selbstlosigkeit entsprungen! Der “Nächste” lobt die Selbstlosigkeit, weil er durch sie
Vortheile hat ! Dächte der Nächste selber “selbstlos”, so würde er jenen Abbruch an Kraft, jene Schädigung zu
seinen
Gunsten abweisen, der Enststehung solcher Neigungen entgegenarbeiten und vor Allem seine Selbstlosigkeit eben dadurch bekunden, dass er dieselbe
nicht gut
nennte!-Hiermit ist der Grundwiderspruch jener Moral angedeutet, welche gerade jetzt sehr in Ehren steht; die
Motive
zu dieser Moral stehen im Geogensatz zu ihrem
! Das, womit sich diese Moral beweisen will, widerlegt, sie aus ihrem Kriterium des Moralischen! Der Satz “du sollst dir selber entsagen und dich zum Opfer bringen” dürfte, um seiner eignen Moral nicht zuwiderzugehen, nur von einen Wesen dekretirt warden, welches damit selber seinem Vortheil entsagte und vielleeicht in der verlangten Aufopferung der Einzelnen seinen eigenen Untergang herbeiführte. Sobald aber der Nächste (oder die Gesellshaft) den Altruismus
um des Nutzens willen
anempfiehlt, wird der grade entgegengesetzte Satz, “du sollst den Vortheil, auch auf Unkosten alles anderen, suchen” zur Anwendung gebracht, also in Einem Athem ein “Du sollst” und “Du sollst nicht” gepredigt!
الفصل الثالث
[أخلاق السادة وأخلاق العبيد]1
بمعزل عن الخير والشر، الفقرة 260
خلال جولتي بين عديد من النظم الأخلاقية، العميقة منها والسطحية، التي سادت الأرض حتى اليوم، أو لا تزال تسود اليوم؛ اهتديت إلى سمات معينة تتردد سويا بانتظام ويرتبط بعضها ببعض، إلى أن تبدى لي في نهاية الأمر نوعان أساسيان، وظهر هذا التقابل الرئيسي؛ فثمت أخلاق للسادة وأخلاق للعبيد؛ وإني لأذهب إلى أنه في كل الحضارات العليا والمختلطة، تظهر محاولات للتوفيق بين هذين النوعين من الأخلاق. وأكثر من ذلك ظهورا، تداخلهما والخلط بينهما، وربما ارتبطا أوثق الارتباط في الشخص الواحد، وفي النفس الواحدة؛ فالتمييز بين القيم الأخلاقية إما أن ينشأ عن نوع من السادة، الذين يجدون لذة في التميز عن المسودين، أو تنشأ عن المسودين، عن العبيد والتابعين من مختلف الأنواع؛ ففي الحالة الأولى، عندما يكون السادة هم الذين يحددون معنى تصور «الخير »، تكون الأحوال السامية المترفعة للنفس هي التي تعد فضلا، وهي التي تحدد التفاوت في المراتب، ويبتعد الرجل الرفيع عن أولئك الذين تتمثل لديهم صفات مضادة لأحوال النفس السامية هذه، ويحتقرهم. ولنلاحظ هنا، بناء على ما قلناه، أن التقابل بين الحسن والرديء يعادل في هذا النوع الأول من الأخلاق، التقابل بين الرفيع والحقير.
أما التقابل الآخر بين الخير والشر فله أصل آخر، فهنا يحتقر الجبان، والقلق، والمتصاغر، وذلك الذي لا يخرج تفكيره عن حدود المنفعة الضيقة، وكذلك يحتقر المرتاب بنظرته المقيدة، وذلك الذي يحقر من شأن ذاته، وذلك النوع من الناس، الذي يقبل أن يعامله الغير معاملة الكلاب، والمنافق المستجدي، وقبل هؤلاء جميعا، الكاذب؛ ذلك لأن من المعتقدات الأساسية لكل الأرستقراطيين، أن عامة الناس كاذبون. ولقد كان النبلاء في اليونان القديمة يسمون أنفسهم «نحن أهل الصدق». ومن الجلي أن التقويمات الأخلاقية كانت في مبدأ الأمر تطلق على «الأشخاص»، ولم تطلق على أنواع السلوك وترد إليها إلا فيما بعد؛ ومن هنا كان من الأخطاء الكبيرة أن يتخذ مؤرخو الأخلاق نقطة بدايتهم من أسئلة مثل: «لم يحمد الفعل الشفوق؟» فالنوع الرفيع من الناس يشعر بأنه «هو» الذي يحدد القيمة؛ ومن هنا لم يكن في حاجة إلى أن يسمى بالخير، وإنما يصدر حكمه على هذا النحو: «إن ما هو ضار بي هو ضار في ذاته»؛ أي إنه يعرف أنه هو الذي يضفي على الأشياء ما لها من شرف، فهو «خالق القيم». وهو يمجد كل ما يجده في ذاته؛ فمثل هذه الأخلاق إنما هي تمجيد للذات، وفي أساس هذه الأخلاق يقوم شعور فياض بالامتلاء، وبالقوة، وسعادة التوسع الرفيع، والإحساس بالثراء القادر على البذل والعطاء؛ فالرجل الرفيع يساعد التعس بدوره، ولكن لا يكون ذلك بدافع الشفقة، وإنما بفعل اندفاع تولده القوة الفائضة. والرجل الرفيع يمجد القوي في ذاته، كما يمجد ذلك الذي يمارس قوته على ذاته؛ فيعرف متى يتكلم ومتى يصمت، ويشعر باللذة حين يعامل نفسه بقسوة وصرامة، ويمجد كل ما هو قاس وصارم، وفي الأساطير الإسكندنافية القديمة يقول البطل: «لقد وضع فوتان في صدري قلبا قاسيا.» تلك هي الكلمة التي عبرت عنها نفس «فيكنج»
2
فخور، بل إن مثل هذا الرجل يشعر بالفخر لأنه لم يخلق ليكون شفوقا؛ ومن هنا يضيف البطل في الأسطورة السابقة قوله: «من لم يكن له منذ حداثته قلب قاس، فلن يكون له مثل ذلك القلب أبدا»؛ فالنبلاء والشجعان الذين يفكرون على هذا النحو، هم أبعد الناس عن ذلك النوع الآخر من الأخلاق، الذي يرى في الشفقة أو العمل من أجل الغير أو «النزاهة» دليلا على الأخلاقية؛ ذلك لأن إيمان المرء بذاته، وفخره بذاته، والعداء والسخرية المريرة من كل «إنكار للذات»؛ كل هذا ينتمي إلى الأخلاق الرفيعة بنفس اليقين الذي ينتمي به إليها احتقارها وتجنبها للشفقة و«القلب العطوف». والأقوياء هم الذين يعرفون كيف يمجدون، فذلك فنهم ومجال إبداعهم. ومما تتميز به هذه الأخلاق عما عداها، تبجيلها العميق للقديم وللتقاليد المتوارثة (ومثل هذا التبجيل المزدوج هو أصل القانون بأسره)، والإيمان بالسلف والتحيز له، وعدم الثقة بالخلف. فإذا كنت تجد أنصار «الآراء الحديثة» يؤمنون بالتقدم وبالمستقبل إيمانا شبه غريزي، ويقللون على الدوام من شأن القدماء، فإن هذا في الحق يكفي للكشف عن الأصل غير الرفيع الذي صدرت عنه هذه «الآراء»، ويكون وقع أخلاق السادة أغرب وأبغض ما يكون إلى الذوق الحالي، في مبدئها الصارم، القائل إن المرء لا يدين بواجب إلا لنظرائه، وإن عليه إزاء ذوي المرتبة المنحطة وكل ما هو غريب عنه أن يسلك كما يرغب و«كما يشاء هواه»؛ أعني «بمعزل عن الخير والشر» دائما. وعلى هذا الأساس وحده يكون للشفقة وما شاكلها من المشاعر مجال؛ فالقدرة على الشعور العميق بعرفان الجميل، وبالرغبة في الانتقام، والالتزام بهذا الشعور (وكلا الأمرين لا يكون إلا في حدود النظراء وحدهم) والتشبث بالثأر، ودقة فهم معنى الصداقة، والشعور بضرورة وجود أعداء (لكي يكون فيهم منفذ لأحاسيس الغيرة، والمقاتلة، والصلف؛ وقبل هذا كله، لكي يستطيع المرء أن يكون «صديقا» بالمعنى الصحيح)؛ كل هذه علائم تتميز بها الأخلاق الرفيعة، التي هي، كما قلت من قبل، مختلفة عن أخلاق «الآراء الحديثة»، والتي يصعب تبعا لذلك، استيعابها اليوم، ويصعب التنقيب عنها وكشفها. والأمر بخلاف ذلك في النوع الثاني من الأخلاق، أعني «أخلاق العبيد».
فإذا تصورنا أن المغلوبين على أمرهم، والمظلومين، والمعذبين، والمقيدين، وغير الواثقين من أنفسهم، والذين يحسون بالعناء من أنفسهم؛ إذا تصورنا أن هؤلاء قد وضعوا نظاما أخلاقيا، فعلى أي نحو يكون العنصر المشترك بين تقويماتهم الأخلاقية؟ الأغلب أنهم سوف يعبرون عن تحد متشاءم لموقف الإنسان بوجه عام، وربما حملوا على الإنسان ذاته في حملتهم على موقفه. فنظرة العبيد لا ترضى بفضائل الأقوياء، بل نلمس فيها نوعا من الشك وعدم الثقة، والعمق في العداء لكل ما تبجله أخلاق الأقوياء وتعده «خيرا»؛ وربما أقنع المرء نفسه بأن سعادة هؤلاء الأخيرين ليست سعادة حقيقية بدورها. وعلى العكس من ذلك، يلقى ضوء ساطع على كل الصفات التي تصلح لتخفيف أعباء الحياة عن عاتق المعذبين، فتمجد الشفقة، واليد المعينة المنقذة، والقلب الرءوف، والصبر، والجد، والتواضع، والتزلف؛ ذلك لأن هذه هي أكثر الصفات مجلبة للنفع، وتكاد تكون هي الوسيلة الوحيدة للتخفيف من وطأة الحياة؛ فأخلاق العبيد هي في أساسها أخلاق منفعة، وفي ظلها يظهر التقابل المشهور بين ما هو «خير» وما هو «شر»؛ فتحت الشر تندرج القوة والخطورة، وكل ما هو مخيف، عميق، قوي، لا يقبل الازدراء.
وفي أخلاق العبيد يثير «الشرير» الخوف. أما في أخلاق السادة؛ فالشخص المحمود هو الذي يثير الخوف ويرغب فيه، بينما يظهر «الرديء» في صورة الشخص المحتقر. ويبلغ التقابل قمته عندما يحدث، نتيجة لأخلاق العبيد هذه، أن ينظر إلى «الخير» في هذه الأخلاق نظرة فيها لون من الاستخفاف - وقد يكون ذلك اللون باهتا، صادرا عن نية حسنة - إذ إن الخير في طريقة تفكير العبيد هذه هو بالضرورة ذلك الشخص «المأمون الجانب»؛ ففيه طيبة، وغفلة، وربما قدر من البله؛ أي إنه هو «المغفل». وحيثما تسود أخلاق العبيد تميل اللغة إلى التقريب بين كلمتي «طيب» و«أبله». وفارق أساسي أخير ، هو أن الرغبة في الحرية، والغريزة التي تجد في الشعور بالحرية سعادة ولذة، تنتمي إلى أخلاق العبيد بنفس الضرورة التي يكون بها التفنن في التبجيل والإخلاص والتحمس لهما علامة ضرورية من علائم طريقة التفكير والتقويم الأرستقراطية؛ ومن هنا كان في وسع المرء أن يفهم بسهولة لم كان من الضروري أن يكون للحب من حيث هو «انفعال» - ذلك شيء يتخصص فيه الأوروبيون - أصل رفيع؛ فمن المعروف أن ابتداعه يرجع إلى شعراء جنوب فرنسا الفرسان، أولئك الأمجاد المبدعين ذوي «الحسام الضاحك»، الذين تدين لهم أوروبا بالكثير، وربما بنفسها.
HERREN-UND SKLAVEN-MORAL
Jenseits von Gut und Böse. † 260
Bei einer Wanderung durch die vielen feineren und groberen Moralen, welche bisher auf Erden geherrscht haben oder noch herrschen, fand ich gewisse Züge regelmässig mit einander wiederkehrend und anceinander geknüpft: bis sich mir endlich zwei grundtypen verriethen, und ein Grundunterschied heraussprang. Es giebt Herren-moral und Sklaven-Moral: ich füge sofort hinzu, dass in allen höheren udn gemischteren Culturen auch Versuche der Vermittlungs beider Moralen zum Vorschein kommen, noch ofter des Durcheinander derselben und gegenseitige Missverstehen, ja bisweilen ihr hartes Nebeneinander-sogar im selben Menschen, innerhalb Einer Seele. Die moralischen Werthunterscheidungen sind entweder unter einer herrschenden Art entstanden, welche sich ihres Unterschieds gegen die beherrschte mit Wohlgefühl bewusst wurde-oder unter den Beherrschten, den Sklaven und Abhängigen jeden Grades. Im ersten Falle, wenn die Herrschenden es sind, die den Begriff “gut” bestimmen, sind es die erhabenen stolzen Zustände der Seele, welche als das Auzeichnende und die Rangordnung Bestimmende empfunden weredn.
Der vornehme Mensch trennt die Wesen von sich ab, an denen das Gegentheil solcher gehobener stolzer Zustände zum Ausdruck kommt: er verachtet sie. Man bemerke sofort, dass in dieser ersten Art Moral der Gegensatz “gut” und “schlecht” so viel bedeutet wie “vornehm” und “verächtlich”; der Gegensatz “gut” und “böse” ist andrer Herkunft. Verachtet wird der Feige, der Angstliche, der Kleinliche, der an die enge Nützlichkeit Denkende; ebenso der Misstrauische mit seinem unfreien Blicke, der Sich-Erniedrigende, die Hunde-Art von Mench, welche sich mis-shandeln lässt, der bettelnde Schmeichler, vor Allem der Lügner: es ist ien Grundglaube aller Aristokraten, dass das gemeine Volk Lügnerisch ist. “Wir Wahrhaftigen”-so nannten sich im alten Griechenland die Adeligen. Es liegt auf der Hand, dass die moralischen Wertbezeichnungen überall zuerst auf
Menschen
und erst abgeleitet und spät auf
Handlungen
gelegt worden sind: Weshalb es ein arger Fehlgriff ist, wenn Moral-Historiker von Fragen den Ausgang nehmen wie “Warum ist die mitleidige Handlung gelobt worden?” Die vornehme Art Mensch fühlt sich als werthbestimmend, sie hat nicht nöthig, sich gutheissen zu lassen, sie urtheilt “was mir schädlich ist, das ist an sich schädlich”, sie weiss sich als da, was überhaupt erst Ehre den Dingen verleiht, sie ist
werthschaffend . Alles, was sie an sich kennt, ehrt sie: eine solche Moral ist Selbstverherrlichung. Im Vordergrunde steht das Gefühl der Fülle, der Macht, die überstromen will, das Glück der höhen Spannung, das Bewusstein eines Reichtums, der schenken und abgeben möchte: auch der vornehme Mensch hilft dem Unglücklichen, aber nicht older fast nicht aus Mitleid, sondern mehr aus einem Drang, der der Uberfluss von Macht erzeugt. Der vornehme Mensch ehrt in sich den Mächtigen, auch den, welcher Macht über sich selbst hat, der zu reden und zu schweigen versteht, der mit Lust Strenge und Härte gegen sich übt und Ehrerbietung vor allem Strengen und Harten hat. “Ein hartes Herz legte Wotan mir in die Brust” heisst es in einer alter skandinavischen Saga: so ist es aus der Seele eines stolzen Wikingers heraus mit Recht gedichtet. Eine solche Art Mensch ist eben stolz darauf,
nicht
zum Mitleiden gemacht zu sein: Weshalb der Held der Saga warnend hinzufügt “wer jung schon kein hartes Herz hat, dem wird es niemals hart”. Vornehme und Tapfere, welche so denken, sind am entferntesten von jener Moral, welche gerade im Mitleiden order im Handeln für Andere oder im an sich selbst, der Stolz auf sich selbst, eine Grundfeindshaft und Ironie gegen “Selbstlosigkeit” gehort eben so bestimmt zur vornehmen Moral wie eineleichte Geringschätzung und Vorsicht vor den Mitgefühlen und dem “warmen Herzen”. Die Mächtigen sind es, welche zu ehren
verstehen , es ist ihre kunst, ihr Reich der Erfindung. Die tiefe Ehrfurcht vor dem Alter und vor dem Herkommen-das ganze Recht steht auf dieser doppelten Ehrfurcht-der glaube und das Vorurtheil zu Gunsten der Vorfahren und zu Ungunsten der Kommenden ist typisch in der Moral der Mächtigen; und wenn umgekehrt die Menschen der “modernen Ideen” beinahe instinktiv an den “Fortschritt” und die “Zukunft” glauben und der Achtung vor dem Alter immer mehr ermangeln, so verräth sich damit genugsam shon die unvornehme-Herkunft dieser “Ideen”. Am moisten ist aber eine Moral der Herrschenden dem gegenwärtigen Geschmake fremd und peinlich in der Strenge ihres Grundsatzes, dass man nur gegen Seinesgleichen Pflichten habe; dass man gegen die Wesen niedrigeren Ranges, gegen alles Fremde nach Gutdünken oder “wie es das Herz will” handeln dürfe und dergleichen gehören, Die Fähigkeit und Pflcit zu langer Dankbarkeit und langer Rache-beides nur innerhalb Seinesgleichen-die Feinehit in der Wiedervegltung, das Begriffs-Raffinement in der Freundschaft, eine gewisse Notwendigkeit, Feinde zu haben (gleichsam als Abzugsgräben für die Affekte Neid, Streitsucht, Ubermuth-im Grunde, um gut
freund
sein zu können): alles das sind typische Merkmale der vornehmen Moral, welche, wie angedeutet, nicth die Moral der “modernen Ideen” ist und deshalb heute schwer nachzufühen, auch schwer auszugraben und aufzudecken ist-Es steht anders mit dem zweiten Typus der Moral, der Sklaven-Moral.
Gesetzt, dass die Vergewaltigten, Gedrückten, Leidenden, Unfreien, ihrer selbst Ungewissen und Müden moralisiren: was wird das Gleichartige ihrer moralischen Werthschätzungen sein? Wahrscheinlich wird ein pessimisticher Argwohn gegen die ganze Lage des Menschen zum Ausdruck kommen, vielleicht eine Verurtheilung des Menschen mitsammt seiner Lage. Der Blick des Sklaven ist abgünstig für die Tugenden des Mächtigen: er hat Skepsis und Misstrauen, er hat
Feinheit
des Misstrauens gegen alles “Gute”, was dort geehrt wird-er möchte sich überreden, dass das Glück selbst dort nicht ächt sei. Umgekehrt werdn die Eigenschaften hervorgezogen und mit Licht übergossen, welche dazu dienen, Leidenden das Dasein zu erleichtern: hier kommt das Mitleiden, die gefällige hülfbereite Hand, das warme herz, die Geduld, der Fleiss, die Demuth, die Freundlichkeit zu Ehren-denn das sind hier die nützlichsten Eigenschaften und beinahe die einzigen Mittel, den Druck des Daseins auszuhalten. Die Skalven-Moral ist wesentlich Nützlichkeits- Moral. Hier ist der Herd für die Entsthung jene berühmten Gegensatzes “gut” und “böse”: in’s Böse wird die Macht und Gefährlichkeit hinein empfunden, eine gewisse Furch- tbarkeit, Feinheit und Stärke, welche die Verachtung nicht aufkommen last.
Nach der Sklaven-Moral erregt also der “Böse”, Furcht, nach der Herren-Moral ist es gerade der “Gute” der Furcht erregt und erregen will, während der “schlechte” Mensch als der verächtliche empfunden wird. Der Gegensatz kommt auf seine Spitze, wenn sich, gemäss der Sklavenmoral-Consequenz, zuletzt nun auch an den “Guten” diser Moral ein Hauch von Geringschätzung hängt-sie mag leicht und wohlwollend sein, weil der Gute innerhalb der Sklaven-Denkweise jedenfalls der
ungefährilche
Mensch sein muss: er ist gutmüthig, leicht zu betrügen, ein bischen dumm vielleicht, un bonhomme. Uberall, wo die Sklaven-Moral zum übergewicht kommt, zeigt die Sprache eine Neigung, die Worte “gut” und “dumm” einander anzunähern-Ein letzter Grundunterschied: das Verlangen nach Freiheit, der Instinkt für das Glück und die Feinheiten des Freiheits-Gefühls gehört ebenso nothwenig zur Sklaven-Moral und-Moralität, als die Kunst und Schwärrnerei in der Ehrfurcht, in der Hingebung das regelmässige Symptom einer aristokratischen Denk-und Wethungsweise ist-Hieraus lässt sich ohne Weiteres verstehn, warum die Liebe als Passion-es ist unsre europäische Spezialität-schlechterdings vornehmer Abkunft sein muss: bekanntlich gehört ihre Erfindung den provençalischen Ritter-Dichtern zu-jenen prachtvollen erfinderischen Menschen des “gai saber”, denen Europa so vieles und beinahe sich selbst verdankt.
الفصل الرابع
العلاء على الذات
هكذا تكلم زرادشت
أتسمونها «إرادة الحقيقة»، تلك القوة التي تدفعكم، يا أعظم الحكماء، وتبعث فيكم الحماسة؟
إنها الرغبة في جعل كل موجود قابلا للتفكير فيه؛ هذا هو الاسم الذي أطلقه على إرادتكم!
إنكم تريدون أن «تجعلوا» كل موجود قابلا للتفكير فيه: إذ إنكم تشكون - ولكم الحق في ريبتكم هذه - في أنه قابل للتفكير فيه أصلا.
ولكن عليه أن يخضع وينحني لكم - هذا هو ما تبتغيه إرادتكم.
عليه أن يلين، ويخضع للروح، وكأنه مرآة وانعكاس لها.
تلك هي إرادتكم، يا أعظم الحكماء؛ فهي إرادة القوة، حتى عندما تتحدثون عن الخير والشر، وعن تقدير القيم.
إنكم لتريدون خلق العالم الذي يمكنكم أن تسجدوا له؛ ذلك هو أملكم الأخير، وتلك هي نشوتكم القصوى.
أما غير الحكماء؛ أي العامة، فهم أشبه بالنهر، الذي يسبح عليه قارب، وفي القارب تجلس تقويماتكم، وقد ازدانت وتنكرت.
لقد فرضتم إرادتكم وقيمكم على نهر الصيرورة؛ ولقد استبان لي ما ظنه العامة خيرا وشرا، فإذا هو إرادة قوة كامنة منذ القدم.
إنكم أنتم، يا أعظم الحكماء، الذين أجلستم هؤلاء الضيوف في القارب، وأضفيتم عليهم زينتهم وأسماءهم الجليلة، أنتم وإرادتكم المتحكمة فيكم.
والآن، يظل النهر يدفع قاربكم إلى الأمام؛ فهو «مضطر» إلى ذلك. ولا أهمية للأمواج التي تزيد وهي تنكسر على القارب، وتصطدم به في عنف. فليس في النهر يكمن الخطر. وليس في نهاية خيركم وشركم، يا أعظم الحكماء ، وإنما في تلك الإرادة ذاتها - إرادة القوة، إرادة الحياة الخالقة التي لا تنفد.
ولكن، لكي تفهموا كلمتي عن الخير والشر، فإني قائل لكم كلمتي هذه أيضا عن الحياة وعن طبيعة الأحياء أجمعين.
لقد تعقبت الأحياء، وسرت في أكبر الطرق وأصغرها، لأصل إلى معرفة طبيعتهم.
وبرغم أن في الأحياء قد ظل مغلقا، فقد التقطت نظرتهم بمرآتي ذات المائة وجه، حتى تتحدث إلي عينهم - وقد تحدثت إلي بالفعل.
إنني كلما وجدت حيا، سمعت أيضا حديث الطاعة، فكل ما هو حي مطيع.
وهذه كلمتها الثانية، إن من لا يعرف كيف يطيع ذاته، يأمره غيره - تلك هي شيمة الأحياء.
وهاك ثالث ما سمعت: إن الأمر لأشق من الطاعة. ليس ذلك لأن الآمر يضع على عاتقه حمل كل المطيعين، ولأن هذا الحمل يكاد يحطمه فحسب.
وإنما بدا لي كل أمر مغامرة ومخاطرة، وكلما كان الحي آمرا، كان في ذلك مخاطرا بنفسه.
أجل، حتى عندما يأمر ذاته، فعليه هنا أيضا أن يتحمل عاقبة أمره، وعليه أن يكون قاضيا، ومنتقما، وضحية لقانونه الخاص.
ولقد سألت نفسي: كيف يحدث ذلك؟ وما الذي يدفع الحي إلى أن يطيع ويأمر، ويكون طيعا حتى عندما يأمر؟
فلتنصتوا الآن إلى كلمتي، يا أعظم الحكماء! ولتختبروني بدقة، لتروا ما إذا كنت قد تغلغلت في الحياة حتى قلبها، وحتى أعمق أعماق هذا القلب!
حيثما وجدت حيا، وجدت إرادة قوة، بل لقد وجدت في إرادة العبودية ذاتها رغبة للمرء في أن يكون سيدا.
فاستسلام الضعيف للقوي أمر تحضه عليه إرادته، التي تريد أن تتحكم فيمن هم أضعف منه؛ فهذه هي اللذة التي لا يمكنها أن تزهد فيها.
وكما يستسلم الأصغر للأكبر، حتى يشعر باللذة وبالقوة إزاء من هو أصغر منه، كذلك يستسلم الأكبر بدوره، ويبذل حياته من أجل القوة.
ذلك هو استسلام الأكبر، الذي هو مغامرة، ومخاطرة، ومقامرة على الموت.
وحيثما تجد تضحية وتفانيا ونظرات حب، فهناك أيضا تكون إرادة السيطرة. إن الأضعف يتسلل بطرق ملتوية إلى مكمن القوى، حتى يصل إلى قلبه، وهناك يسلبه القوة .
وهذا هو السر الذي أسرت به الحياة إلي. لقد قالت: «تأمل، إنني ذلك الذي ينبغي عليه أن يعلو على ذاته دواما.
حقا إنكم تسمونها إرادة إنجاب، أو غريزة الوصول إلى الغايات، وإلى الأعلى، والأبعد، والأعقد؛ غير أن هذا كله شيء واحد، وسر واحد.
إنني لأوثر الهلاك على التخلي عن هذا الشيء الواحد. والحق أنه حيثما يكون الهلاك وسقوط الأوراق، فهناك تضحي الحياة بذاتها - من أجل القوة!
ولكن لم كان يتعين علي أن أكون صراعا، وصيرورة، وغاية، ونقيض الغاية؟ وا أسفاه! إن من يعرف إرادتي، يعرف جيدا تلك الطرق الملتوية التي ينبغي عليها أن تسير فيها!
إن ما أخلقه، وأحبه كل الحب، ينبغي علي أن أعاديه، وأعادي حبي؛ فهكذا تشاء إرادتي.
وحتى أنت، أيها العارف، لست إلا طريقا وموطئا لأقدام إرادتي؛ والحق أن إرادة القوة في تسير بدورها في أعقاب إرادة الحقيقة فيك!
إن ذلك الذي أذاع كلمة إرادة الحياة قد جانبه الصواب؛ فليس ثمت إرادة كهذه!
ذلك لأن ما لا يحيا، لا يريد. أما ذلك الذي يحيا، فكيف تتجه إرادته إلى الحياة؟
حقا إن الإرادة لا تكون إلا حيث تكون الحياة؛ غير أن هذه ليست إرادة حياة، ولكن، اعلم مني أنها إرادة القوة. «إن الحي ليقدر أشياء عديدة فوق تقديره للحياة ذاتها؛ غير أن ما يعبر عن نفسه خلال هذا التقدير ذاته هو إرادة القوة!»
هذا ما قالت لي الحياة ذات مرة؛ ومن هنا أمكنني، يا أعظم الحكماء، أن أحل لكم لغز قلوبكم.
إنني لأقول لكم إنه ليس ثمت خير أو شر دائم! بل إن على كل منهما أن يعلو دواما على ذاته.
إنكم لتمارسون قوتكم، يا مقدري القيم، بما تصدرونه من قيم ومن أقوال عن الخير والشر؛ ذلك هو حبكم الخفي، وذلك هو النور، والرجفة، والفيض الذي يغمر نفوسكم.
غير أن قيمكم تولد قوة أعظم، وعلاء جديدا على الذات يكسر البيضة وقشرتها.
والحق أن من كان عليه أن يكون خالقا في مجال الخير والشر، عليه أولا أن يكون محطما وهادما للقيم.
ومن هنا فالشر الأكبر ينتمي إلى الخير الأكبر؛ أعني إلى الخير الخالق.
فلنقصر حديثنا على هذه الأمور، يا أعظم الحكماء، حتى لو أساء هذا إلينا؛ ذلك لأن السكوت أسوأ، والحقائق التي لا نجهر بها تغدو سامة. فليتحطم إذن كل ما تحطمه حقائقنا! فأمامنا صروح عديدة نشيدها!
هكذا تكلم زرادشت.
VON DER SELBSTUBERWINDUNG
Also sprach Zarathustra “Wille zur Wahrheit” heist ihr’s, ihr WEisesten, was euch treibt und brünstig macht!
Wille zur Denkbarkeit alles Seienden; also heisse ich euren Willen!
Alles Seiende wollt ihr erst denkbar
machen : denn ihr zweifelt mit gutern Misstrauen, ob es schon denkbar ist.
Aber es soll sich euch fügen und biegen! So Will’s euer Wille. Glatt soll es warden und dern Geiste untertan, als sein Speigel und Widerbild.
Das ist euer ganzer Wille, ihr Weisesten, als ein Wille zur Macht; und auch wenn ihr vom Guten und Bösen redet und von den Wertschätzungen.
Schaffen wollt ihr noch die Welt, von der ihr knien könnt: so ist es eure letzte Höffnung und Trunkenheit.
Die Unweisen freilich, das Volk-die sind gleich dem Flusse, auf dern ein Nachen weiter schwimmt: und im Nachen sitzen feierlicb und vermummt die Wertschätzungen.
Euren Willen und eure Werte setztet ihr auf den Fluss des Werdens; einen alten Willen zur Macht verrät mir, was vom Volke als Gut und Böse geglaubt wird.
Ihr wart es, ihr Weisesten, die solche Gäste in diesen Nachen setzten und ihnen Prunk und stolze Namen gaben-ihr und euer herrschender Wille!
Weiter trägt nun der Fluss euren Nachen: er
muss
ihn tragen. Wenig tut’s ob die gebrochene Welle schäumt und zornig dem Kiele widerspricht!
Nicht der Fluss ist eure Gefahr und das Ende eures Guten und Bösen, ihr Weisesten: sondern jener Wille selber, der Wille zur Macht- der unerschöpfte zeugende Lebens-Wille.
Aber damit ihr mein Wort versteht vom Guten und Bösen; dazu will ich euch noch mein Wort vom Leben sagen und von der Art alles Lebendigen.
Dem Lebendigen ging ich nach, ich ging die grössten und kleinsten Wege, dass ich seine Art erkenne.
Mit hundertfachem Spiegel fing ich noch seinen Blick auf, wenn ihm der Mund geschlossen war: dass sein Auge mir rede. Und sein Auge redete mir.
Aber, wo ich nur Lebendiges fand, da hörte ich auch die Rede vom Gehorsame. Alles Lebendige ist ein Gehorchendes.
Und dies ist das Zweite: Dem wird befohlen, der sich nicht selber gehorchen kann. So ist es des Lebendigen Art.
Dies aber ist das Dritte, was ich hörte: dass Befehlen schwerer ist, als Gehorchen. Und nicht nur, dass der Befehlende die Last aller Geohorchenden trägt, und dass leicht ihn diese Last zerdrückt:
Ein Versuch und Wagnis erschien mir in allem Befehlen; und stets, wenn es befiehlt, wagt das Lebendige sich selber dran.
Ja noch, wenn es sich selber befichlt: auch da noch muss es sein Befehlen büssen. Seinem eigenen Gesetze muss es Richter und Rächer und Opfer werden.
Wie geschieht dies doch! So fragte ich mich. Was überredet das Lebendige, dass es gehorcht und befichlt und befehlend noch gehorsam übt?
Hort mir nun mein Wort, ihr Weisesten! Prüft es ernstlich, ob ich dem Leben selber ins Herz Kroch, und bis in die Wurzeln seines Herzens!
Wo ich Lebendiges fand, da fand ich Willen zur Macht; und noch im Willen des Dienenden fand ich den Willen, Herr zu sein.
Dass dem Stärkeren diene das Schwächere, dazu überredet es sein.
Wille, der über noch Schwächeres Herr sein will: dieser Lust allein mag es nicht entraten.
Und wie das Kleinere sich dem Grösseren hingibt, dass es Lust und Macht am Kleinsten habe: also gibt sich auch das Grösste noch hin und setzt um der Macht willen-das Leben dran.
Das ist die Hingebung des Grössten, dass es Wagnis ist und Gefahr, und um den Tod ein Würfelspielen.
Und wo Opferung und Dienste und Liebesblicke sind: auch da ist Wille, Herr zu sein. Auf Schleichwegen schleicht sich da der Schwächere in die Burg und bis ins Herz dem Mächtigeren-und stiehlt da Macht.
Und dies Geheimnis redete das Leben selber zu mir: Siehe, sprach es,
ich bin das, was sich immer selber überwinden, muss .
Freilich, ihr heisst es Wille zur Zeugung oder Trieb zum Zwecke, zum Höheren, Ferneren, Vielfacheren: aber all dies ist Eins und Ein Geheimnis.
Lieber noch gehe ich unter, als dass ich disem Einen absagte; und wahrlich, wo es Untergang gibt und Blätterfallen, siche, da opfert sich Leben-um Macht!
Dass ich Kampf sein muss und Werden und Zweck und der Zwecke Widerspruch: ach, wer meinen Willen errät, errät wohl auch, auf welchen
krummen
Wegen er gehen muss!
Was ich auch schaffe und wie ich’s auch liebe-bald muss ich Gegner ihm sein und meiner Liebe: so will es mein Wille.
Und auch du, Erkennender, bist nur ein Pfad und Fusstapfen meines Willens; wahrlich, mein Wille zur Macht wandelt auch auf den Füssen deines Willens zur Wahrheit!
Der traf freilich die Wahrheit nicht, der das Wort nach ihr schoss vom “Willen zum Dasein”: diesen Willen-gibt es nicht!
Denn: was nicht ist, dass kann nicht wollen; was aber im Dasein ist, wie könnte das noch zum Dasein wollen!
Nur, wo Leben ist, da ist auch Wille: aber nicht Wille zum Leben, sondern-so lehre ich’s dich-Wille zur Macht! “Vieles ist dem Lebenden höher geschätzt, als Leben selber; doch aus dem Schätzen selber heraus redet-der Wille zur Macht!”.
Also Lehrte mich einst das Leben: und daraus löse ich euch, ihr Weiseseten, noch das Rätsel eures Herzens.
Wahrlich, ich sage euch: Gutes und Böses, das unvergänglich ware-das gibt es nicht! Aus sich selber muss es sich immer wieder überwinden.
Mit euren Werten und Worten von Gut und Böse übt ihr Gewalt, ihr Wertschätzenden; und dies ist eure verorgene Liebe und eurer Seele Glänzen, Zittern und Uberwallen.
Aber eine stärkere Gewalt wächst aus euren Werten und eine neue Uberwindung: an der zerbricht Ei und Eierschale.
Und wer ein Schöpfer sein muss in Guten und Bösen: wahrlich, der muss ein Vernichter erst sein und Werthe zerbrechen.
Also gehört das höchste Böse zur höchsten Güte: diese aber ist die schöpferische.
Reden wir nur davon, ihr Weisesten, ob es gleich schlimm ist. Schweigen ist schlimmer; alle verschwiegenen Wahrheiten warden giftig.
Und mag doch alles zerbrechen, was an unseren Wahrheiten zerbrechen-kann! Manches Haus gibt es noch zu bauen!
Also Sprach Zarathustra.
الفصل الخامس
وسيلة السلام الحقيقي
أشياء إنسانية، إنسانية إلى أقصى حد
القسم الثاني: الهائم وظله، فقرة 284
لا تعترف أية حكومة حالية بأنها تبقي على جيشها لكي ترضي شهوات العدوان كلما تملكتها، وإنما تتذرع دائما بحجة الدفاع. وإنها لتهيب من أجل ذلك بالأخلاق التي تحض على الدفاع عن النفس، وتتخذ منها معبرا عن وجهة نظرها؛ غير أن معنى ذلك هو أن يحتكر المرء لنفسه الأخلاقية، وينسب إلى جاره اللاأخلاقية؛ إذ ينبغي أن ينظر إليه على أنه تواق إلى العدوان والغزو، إن كان من الضروري أن يفكر وطننا في وسيلة للدفاع عن نفسه. أما ذلك الذي ينكر على نفسه شهوة العدوان، تماما مثلما يفعل وطننا، ويؤكد من جانبه أنه لا يبقى على الجيش إلا لأغراض دفاعية، ويلجأ إلى نفس التبرير الذي استخدمنا جيشنا من أجله، فإنا نحمل عليه، ونقول عنه إنه دعي ومجرم وكاذب، يريد أن «ينقض» على ضحية بريئة عزلاء دون أن يصادف منها أية مقاومة. وعلى هذا النحو تقف كل الدول بعضها بإزاء البعض في وقتنا الحالي؛ فهي تفترض مقدما سوء النية في جارها وحسن النية في ذاتها؛ غير أن هذا الافتراض ذاته أمر «غير إنساني»، لا يقل ضررا عن الحرب ذاتها، إن لم يفقها في ذلك، بل إنه هو في أساسه المقدمة الأولى للحرب، وعلتها الأصلية؛ إذ إنه، كما قلنا، يؤدي إلى تبادل الاتهام باللاأخلاقية مع الجار، وبالتالي يبدو أنه يحض على سوء المقصد وسوء التصرف.
فعلى المرء أن يحمل على فكرة الجيش بوصفه وسيلة للدفاع، بنفس القوة التي يحمل بها على شهوة العدوان، وربما جاء يوم عظيم، يهتف فيه شعب امتاز على غيره في الحرب والظفر ، وفي التمرس على النظام العسكري والخبرة فيه، وتحمل في هذا أكبر التضحيات؛ يهتف هذا الشعب بملء حريته قائلا: «فلنحطم حسامنا!» ويقوم بتحطيم أداته الحربية حتى أعمق جذورها. فتحول المرء إلى المسالمة في الوقت الذي يكون فيه أقدر من غيره على القتال، هذا التحول إذا صدر عن سمو في الإدراك والفهم، كان هو وسيلة السلام «الحقيقي»، الذي ينبغي أن يرتكز على سلامة القصد، بينما يرتكز السلم المسلح المزعوم، الذي يسود اليوم كل البلاد، على سوء القصد، ما دام المرء لا يثق بذاته ولا بجاره، ولا يلقي بأسلحته، مدفوعا بشعور يمتزج فيه البغض مع الخوف.
إن الفناء لأفضل من البغض والخوف، وإن الفناء لأفضل ثلاثا من أن يجعل المرء غيره يبغضه ويخافه - هذا هو الشعار الأعلى الذي ينبغي أن يتخذه كل مجتمع سياسي على حدة! - ومن الجلي أن ممثلي شعوبنا الأحرار يفتقرون إلى فهم طبيعة الناس في الوقت المناسب، وإلا لأدركوا أن جهودهم تضيع عبثا، عندما يدعون إلى خفض تدريجي للأسلحة العسكرية. وعلى العكس من ذلك، فإن هذه الحاجة عندما تبلغ القمة، نكون قد اقتربنا كل الاقتراب من ذلك النوع من الإله الذي نحن في حاجة إليه. فشجرة المجد الحربي لا تجتث إلا دفعة واحدة، وبضربة كالبرق الخاطف. على أن البرق لا يأتي، كما تعلمون، إلا من السحب، ومن الأعالي.
DAS MITTEL, ZUM WIRKLICHEN FRIEDEN
Menschliches, allzumenschliches
2e. Abth.: Der Wanderer und sein Schatten. † 284
Keine Regierung giebt jetzt zu, dass sie das Heer unterhalte, um gelegentliche Eroberungsgelüste zu befriedigen; sondern der Vertheidigung soll es dienen. Jene Moral, welche die Nothwehr billigt, wird als ihre Fürsprecherin angerufen. Das heisst aber: sich die Moralität und dem Nachbar die Immoralität vorbehalten, weil er angriffs-und eroberunges-lustig gedacht warden muss, wenn unser Staat nothwendig an die Mittel der Nothwehr denken soll; überdies erklärt man ihn, der genau ebenso wie unser Staat die Angriffslust leugnet und auch seinerseits das Heer vorgeblich nur aus Nothwehrgründen unterhält, durch unsere Erklärung, weshalb wire ein Heer brauchen, für einen Heuchler und listiger Verbrecher, welcher gar zu gern ein harmloses und ungeschicktes Opfer ohne allen Kampft
überfallen
möchte. So stehen nun alle Staaten jetzt gege einander: sie setzen die schlechte Gesinnung des Nachbars und die gute Gesinnung bei sich voraus. Diese Voraussetzung ist aber eine
inhumanität , so schlimm und schlimmer als der Krieg: ja, im Grunde ist sie schon die Aufforderung und Ursache zu Kriegen, weil sie, wie gesagt, dem Nachbar die Immoralität
unterschiebt
und dadurch die feindselige Gesinnung und That zu provociren scheint.
Der Lehre von dem Heer als einem Mittel der Northwehr muss man ebenso gründlich abschwören als den Eroberungsgelüsten. Und es komm vielleicht ein grosser Tag, an welchem ein Volk, durch Kriege und Siege, durch die höchste Ausbildung der militärischeng Ordnung und Intelligenz ausgezeichnet und gewöhnt, diesen Dingen die schweresten Opfer zu bringen, freiwillig ausruft: “
wir zerbrechen das schwert ”-und sein gesammtes Heerwesen bis in seine letzten Fundamente zertrümmert.
Sich wehrlos machen, während man der Wehrhafleste war , aus einer Höhe der Empfindung heraus-das ist das Mittel zum
wirklichen
Frieden, welcher immer auf einem Frieden der Gesinnung ruhen muss: während der sogennante bewaffnete Friede, wie er jetzt in allen Ländern einhergeht, der Unfriede der Gesinnung ist, der sich und dem Nachbar nicht traut und halbt aus Hass, halb aus furcht die Waffen nicht ablegt.
Lieber zu Grunde gehn als hassen und fürchten, und
zweimal lieber zu Grunde gehn als sich hassen und furchten machen -dies muss einmal auch die oberste Maxime jeder einzelnen staatlichen Gesellschaft warden!-Unseren liberalen Volkvertretern fehlt es, wie bekannt, an Zeit zum Nachdenken über die Natur des Menschen; sonst würden sie wissen, dass sie umsonst arbeiten, wenn sie für eine “allmähliche Herabminderung der Militärlast” arbeiten. Vielmehr: erst wenn diese Art Noth am grössten ist, wird auch die Art Gott am nächsten sein, die hier allein helfen kann. Der Kriegsglorien-Baum Kann nur mit Einem Male, durch einen Blitzchlag zerstört warden: der Blitz aber kommt, ihr wisst es ja, aus der Wolke und aus der Höhe.
الفصل السادس
المسجونون
الهائم وظله، الفقرة 84
ذات صباح خرج المسجونون إلى فناء العمل، ولم يكن الحارس موجودا، فمنهم من استمر في عمله، جريا على عادته، ومنهم من وقف خاملا، ونظر حوله بعناد. وهنا تقدم أحدهم وصاح: «لتعملوا كما تشاءون أو لا تعملوا على الإطلاق؛ فالأمران سيان. إن ضرباتكم الخفية قد تكشفت، وقد استمع إليها سجانكم أخيرا، وسوف يصدر عليكم حكما رهيبا في اليوم التالي. إنكم لتعرفونه، في جبروته وبطشه، ولكن لتنتبهوا الآن إلى ما أقوله لكم، فقد أخطأتم فهمي حتى اليوم؛ فلست كما أبدو لكم، وإنما أنا أكثر من ذلك بكثير، فأنا ابن حارس السجن، ولي عليه تأثير كبير. وإني لقادر على أن أخلصكم، وأريد أن أخلصكم، ولكنني بالطبع لن أخلص منكم سوى أولئك الذين يؤمنون بأنني ابن حارس السجن. أما الآخرون، فليجنوا ثمرة عدم إيمانهم.»
وبعد قليل من الصمت، قال مسجون قديم: «ولكن ماذا يفيدك أن نؤمن بك أو لا نؤمن؟ لو كنت ابنه حقا، ولو كنت قادرا على أن تفعل ما تقول، فلتقل له في حقنا كلمة طيبة، فهذا حقا أخلق بك وأجدر؛ ولتدع مسألة الإيمان وعدم الإيمان جانبا!» وفي تلك اللحظة صاح شاب: «بل إنني لا أومن به، فهو قد تشبث بشيء في رأسه فحسب. وإنني لأراهن على أننا سنظل هنا أياما ثمانية على حالنا هذا، دون أن يعلم حارس السجن شيئا.» وهنا قال آخر المسجونين، وهو الذي لم تطأ قدمه ساحة العمل إلا في تلك اللحظة: «ولو كان قد علم شيئا في وقت ما، فإنه لم يعد يعلمه الآن؛ فقد مات حارس السجن فجأة.» فهتف الكثيرون معا: «مرحى! مرحى! يا سيدنا الابن! يا سيدنا الابن! كيف حال ميراثك! ربما كنا الآن مسجونين لديك أنت؟» فقال المخاطب بلهجة ذليلة: «لقد قلت لكم من قبل، إنني سوف أطلق سراح كل من يؤمن بي، ويؤمن بأن أبي ما زال حيا.» ولم يضحك المسجونون، وإنما هزوا أكتافهم، وتركوه حيث هو.
DIE GEFANGENEN
Der Wanderer und sein Schatten. † 84
Eines Morgens traten die Gefangenen in den Arbeitshof: der Warter fehlte. Die Einen von ihnen giengen, wie es ihre Art war, sofort an die Arbeit, Andere standen müssig und blockten trotzig umher. Da trat Einer vor und sagte laut: “Arbeitet so viel ihr wollt oder thut Nichts: es ist Alles gleich. Eure geheimen Anschläge sind an’s Licht gekommen, der Gefängnisswärter hat euch neulich belauscht und will in den nächsten Tagen ein fürchterliches Gericht über euch ergehen lassen. Ihr kennt ihn, er ist hart und nachträgerischen Sinnes. Nun aber merkt auf: ihr habt mich bisher verkannt: ich bin nicht, was ich scheine, sondern viel mehr: ich bin der Sohn des Gerfängnisswärters und gelte Alles üei ihm. Ich kann euch retten, ich will euch retten; aber, wohlgemerkt, nur Diejenigen von euch, welche mir
glauben , dass ich der Sohn des Gefängniswärters bin; die Ubrigen mögen die Früchte ihres Unglaubens ernten”. “Nun, sagte nach einigem Schweigen ein älterer Gefangener, was kann dir daran gelegen sein, ob wir es dir glauben oder nicht glauben? Bist du wirklich der Sohn und vermagst du Das, was du sagst, so lege ein gutes Wort für uns Alle ein: es wäre wirklich recht gutmüthig von dir. Das Gerede von Glauben und Unglauben aber lass bei Seite”. “Und, rief ein jüngere Mann daz-wischen, ich glaub’es ihm auch nicht: er hat sich nur Etwas in den Kopf gesetzt. Ich wette, in acht Tagen befinden wir uns gararde noch so hier wie heute, und der Gefänisswärter weiss
Nichts ”. “Und wenn er Etwas gewusst hat, so weiss er’s nicht mehr”, sagte der Letzte der Gefangenen, der jetzt erst in den Hof hinabkam, “der Gefängnis-swärter ist eben plötzlcih gestorben”,-“Holla, schrieen Mehrere durcheinander, holla! Herr Sohn, Herr Sohn, wie steht es mit der Erbschaft? Sind wir vielleicht jetzt
deine
Gefangeene?”-“Ich habe es euch gesagt, entgegnete der Angeredete mild, iche werde Jeden freilassen, der an mich glaubt, so gewiss als mein Vater noch lebt.”-Die Gefangenen lachten nicht, zuckten aber mit den Achseln und liessen ihn stehen.
المراجع
مؤلفات أجنبية (1)
Charles Andler: Nietzsche, sa vie et sa pensée. Paris, éditions Bossard. 6 tomes. 1920-1931. (T. I) les précurseurs de Nietzche. (T. II) La jeunesse de Nietzche. (T. III) Le pessimisme esthétique de Nietzche. (T. IV) La maturité de Nietzche. (T. V) Nietzsche et le tranformisme intellectualiste. (T. VI) La dernière philosophie de Nietzche. (2)
W. Baranger: Nietzsche. Paris. Bordas. 1946. (3)
H. Barth: Wahrheit und Ideologie. Zurich, Manesse, 1945. (4)
R. Berthelot: Un romantisme utilitaire. T. I. Paris, Alcan, 1911. (5)
E. Bertram: Nietzsche, Versuch einer Mythologie. Berlin, Bondi, 1920. (Traduction francaise: Nietzsche, essai de mythologie.
(6)
G. Bianquis: Nietzsche en France. Paris, Alcan, 1929. (7)
C. Brinton. Nietzsche. Harvard Univ, Press. 1941. (8)
F. Challaye: Nietzsche. Paris, Mellottée, 1950. (9)
L. Chestov: Dostoiewski et Nietzsche. Paris, Schiffum, 1926. (10)
G. Dwelshauvers: La philosophie de Nietzsche. Paris, Société française d’imprimerie, 1909. (11)
M. Doisy: Nietzsche, homme et surhomme. Bruxelles, La Boétie, 1946. (12)
E. Forster-Nietzsche: Das Leben F. Nietzches. Leipzig, Naumann. 5 Be. 1896-1914. (13)
A. Fouillée: Nietzsche et l’immoralisme. Paris, Alcan, 1902. (14)
H. Gallwitz: F. Nietzsche. Dresden, K. Reissner, 1898. (15)
J. de Gaultier: Nietzsche et la réforme philosophique. Paris, Mercure de France, 1904. (16)
D. Halévy: Nietzsche. Paris, Grasset, 1945. (17)
M. Heidegger: Holzwege. Frankfurt a. M. 1950 (Artikel: Nietzsches Wort: Gott ist tot). (18)
K. Jaspers: Nietzsche, Einführung in das Verständmiss seines
(Traduction française: Nietzsche, introduction à sa philosophie. Paris, Gallmiard, 1950). (19)
K. Jaspers: Nietzsche und das Christenum. Seifert Hamel. 1946. (Traduction française: Nietzsche et le christianisme. Paris 1949). (20)
W. Kaufmann: Nietzsche, Philosopher, Psychologist, Antichrist.
(21)
A. H. Knight: Some Aspects of the Life and Work of Nietzsche. Cambridge 1933. (22)
Lévy. (23)
H. Lefebvre: Nietzsche. Paris, éditions sociales internationales, 1939. (24)
T. Maulnier: Nietzsche. Paris, Gallimard, 1943. (25)
R. Meyer: Nietzsche, sein Leben und seine Werke. München, Oscar Beck, 1913. (26)
G. A. Morgan: What Nietzsche Means. Harvard Univ. Press. 1943. (27)
M.A. Mugge: Nietzsche, his Life and Work. London, Fischer Unwin, 1909. (28)
A. Rey: Le retour éternal et la philosophie de la physique.
(29)
H. A. Reigburn: Nietzsche, the Story of a Human Philsopher London, Macmillan, 1948. (30)
R. Richter: F. Nietzsche, sein Leben und sein Werk. Leipzig, Dürrsche Buchhandlung, 1903. (31)
G. Simmel: Schopenhauer und Nietzsche. Leipzig, Duncker und Humboldt, 1907. (32)
Société française d’études nietzschéennes:
Nietzsche, Etudes et témoignages du Cinquantenaire. Paris, 1950. (33)
G. Thibon: Nietzsche et le décline de l’ésprit. Paris, Lardanchet, 1948. (34)
A. Vaihinger: Nietzsche als Philosoph. Langensalze, Beyer, 5e Auflage, 1930. (35)
L. Vialle: Détresses de Nietzsche. Paris, Alcan, 1932. (36)
S. Zweig: Le combat avec le démon. (Trad. fran.) Paris, Stock, 1948.
مؤلفات عربية (37)
الدكتور عبد الرحمن بدوي، نيتشه، طبعة ثانية، القاهرة 1945. (38)
بولس سلامة: الصراع في الوجود، القاهرة 1954.
Unknown page